ناصر والمخابرات الأمريكية.. واللعب بصور الحكام

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ناصر والمخابرات الأمريكية .. واللعب بصور الحكام


نكات المصريين أوجعت ناصر وترغت كبريائه .. فطالب المصريين بالكف عنها


ناصر والمخابرات الأمريكية.. واللعب بصور الحكام.jpg

ياسر بكر

(25 سبتمبر 2014)

مقدمة

قبل الدخول في الصورة الذهنية لجمال عبد الناصر، وما بُنى عليها من هياكل التضليل الإعلامى الضخمة التي طمست الجزء الأكبر من تاريخ مصر في العصر الحديث والتي مازلت تُخضع الجماهير قسراً للتضليل، قبل هذا تجدر الإشارة إلى أمرين هامين هما:

أولاً: أن انقلاب 23 يوليو 1952 لم يكن سوى إبداعا أمريكا خالصا في إطار نظرية C. I.A: "أفضلية تغيير اللاعب بدلاً من تغيير قاعدة اللعبة"، وقد بدأ تجريب تلك النظرية مع جنرالات أمريكا اللاتينية والكولونيل حسني الزعيم في سوريا.

ذكر مايلز كوبلاند؛ مندوب المخابرات المركزية في مصر في كتابه بعنوان "لعبة الأمم" عن علاقته مع تنظيم الضباط الأحرار ومع جمال عبد الناصر خاصة: "لم يكن انقلاب 23 يوليو لينجح لولا أن هناك تنسيقاً بين أمريكا وإنجلترا على ألا تتدخل الأخيرة في الأحداث".

لكن الذي لم يذكره كوبلاند أن أحد دوافع الانقلاب هو تصفية الحسابات القديمة مع الملك فاروق عقابا له على إرساله الجيش المصرى إلى فلسطين عام 1948، بما يعوق الحماية الأمريكية للكيان الصهيونى الذي أخذ الأمريكان على عاتقهم مهمة حمايته منذ اللحظة الأولى لإعلانه والاعتراف به في الأمم المتحدة.

كما لم يذكر كوبلاند رغبة الأمريكان في إجهاض ثورة مصر الحقيقية، ومنع وصول حكومات راديكالية أو إسلامية إلى حكم مصر، ووراثة الأمريكان لمستعمرات البريطانيين والفرنسيين ومنع المد الشيوعى من الوصول إلى المنطقة.

الأهم من ذلك، والذي لم يذكره كوبلاند هو أنه في حال فشل الانقلاب، كانت طائرات من سلاح الجو المصرى جاهزة للإقلاع لتهريب قادته إلى سوريا باتفاق أمريكي مع أديب الشيشكلي.

ثانيا: أن تنظيم "الضباط الأحرار" ما هو إلا تنظيم "الحرس الحديدي" بعد تغيير اللافتة، وتغيير قائده؛ بعد أن بدأ القصر يغلق ملف الحرس الحديدي مع النصف الثانى من عام 1950، وذلك بعد أن افتضح أمره لدرجة أن إرنست بيفن وزير الخارجية في حزب العمال البريطانى استدعى السفير المصري في لندن عبد الفتاح عمرو، وطلب إليه أن يبلغ الملك بأنه: "لا يليق بالجالس على عرش البلاد أن تكون لديه فرقة لقتل خصومه وإرهابهم يُسخر فيها بعض ضباط حرسه وجيشه".

وزاد الأمر سوءاُ دخول ضباط "الحرس الحديدي" في مشاكل مع بعضهم، وبخاصة مجموعة مصطفى كمال صدقي لأسباب شخصية تناولها الناس في أحاديثهم، بل أصبحت موضوعاً لتحقيقات رسمية بعد إقدام مصطفى كمال صدقي على قتل خادمة ناهد رشاد بإلقائها من الدور السابع حتى لا تكون شاهدة على علاقة آثمة!

وحالت الظروف جميعها دون استمرار "الحرس الحديدي" باسمه القديم، وتغيرت قيادته، بعد أن تردت أمور د. يوسف رشاد المطعون في شرفه، وطلاقه من ناهد رشاد، بعد فضائح عديدة، ووجدت ناهد رشاد عند الملك فاروق المطلق أيضا بعضاً من السلوى؛ جعلها تحلم بتاج ملكة مصر، بعد أن توعدت يوسف رشاد بالزواج من سيده، لكن في دنيا البشر من يضع البدايات، لا يستطيع أن يحكم النهايات، فقد أتت الرياح بما لا تشتهى سفن ناهد؛ فقد أفاقت على صدمة زلزلت كيانها بخطوبة الملك لناريمان.

وبرغبة الأنثى في الانتقام أصبحت عين ضباط الانقلاب داخل القصر، والتدخل لصالحهم في الوقت المناسب؛ فقامت باستبدال المنشورات التي ضبطها البوليس السياسى في وحدات الجيش بيوميات تسيير الأعمال في تلك الوحدات، واستمرت في أداء هذا الدور بتخدير الملك حتى في ليلة 23 يوليو، وإيهامه أن كل شئ على ما يرام، وأنه ليست ثمة داع للقلق.

من هو ناصر؟

نشأ عبد الناصر طفلاً يتيماً لأمه في حارة اليهود بحى الخرنفش، وهى حارة منعزلة بطبيعتها وطبيعة ساكنيها. ذكر الدكتور على شلش في كتابه "تاريخ اليهود والماسونية في مصر"؛ الصادر عن دار الكتب والوثائق القومية؛ في ص: 163 "أن سيدة يهودية تدعى مدام يعقوب فرج شمويل، كان عبد الناصر يدين لها بالفضل؛ لأنها هي التي رعته في طفولته بعد وفاة أمه، وكانت تعامله كأحد أبنائها.

نشأ ناصر طفلاً منطويا، وتبلورت صفة الصمت والكتمان والتخفي لديه، وتأصلت في شخصيته بانضمامه إلى العديد من التنظيمات السرية في آن واحد؛ فهو قائد تنظيم الإخوان المسلمين داخل الجيش الذي اتخذ لنفسه اسما حركيا (البكباشى عبده)، وعضو جماعة "الإخوان المسلمين" الذي اتخذ لنفسه اسماً حركيا (عبد القادر زغلول)، وهو عضو "حدتو" الذي اتخذ لنفسه اسما حركيا (موريس)، حتى أصبح لغزا.

ويقول فريا ستارك في كتابه بعنوان "غبار على أقدام الأسد"؛ الصادر في لندن سنة 1961:

"ويشاع أنه: أي ناصر، كان على علاقة بالمخابرات البريطانية، وجماعة إخوان الحرية وهى المسئولة عن العمليات البريطانية لمواجهة دعاية المحور في الشرق الأوسط".

ويذكر البروفيسر فاتكيوتس في كتابه بعنوان "عبد الناصر وجيله":

"لقد سجلت تقارير البوليس السياسي بقاء عبد الناصر في "مصر الفتاة" حتى عام 1938، عندما كانت تقوم بالتحقيقات حول محاولة اغتيال النحاس باسا زعيم الوفد، والتي قام بها عضو "مصر الفتاة" عز الدين عبد القادر في 28 نوفمبر 1937، وتضمنه التقرير المحفوظ في المحكمة العليا برقم 143 - لسنة 1938 عن جمال عبد الناصر المقيم في 2 خميس عدس بالخرنفش".

الغريب في الأمر أن مصر الفتاة كانت تنظيماً وطنيا وإسلاميا معاديا لبريطانيا والإخوان المسلمين والشيوعيين، ومع ذلك احتفظ ناصر بخطوط اتصال بهم جميعا في آن واحد، وهو ما يؤكد أنه لم ينضم في واقع الأمر لأيهم بل كان انضماماً صوريا بهدف اختراقهم لحساب طرف آخر لم يكشف عنه إلا بعد الانقلاب!

كل هذا أضفى هالات من الغموض على شخصية عبد الناصر. فإذا ما أضفنا إليها العلاقة الغامضة بإسرائيل؛ بات الأمر مريبا. فحينما كان ناصر رئيس أركان حرب الكتيبة السادسة مشاة ضمن القوات المٌحاصَرة في بلدة عراق المنشية بقطاع الفالوجا، كان يتحدث عبر خطوط الجبهة مع اليهود المٌحاصِرين للفالوجا، ويتلقى هدايا البرتقال والشيكولاتة من إيجال يادين الذي كان رئيساً لأركان حرب جنوب فلسطين، ويصبح الأمر واضحا عندما نضع في الاعتبار أن الكتيبة السادسة مشاة بقيادة عبد الناصر هي التي أطلقت النيران على العقيد البطل أحمد عبد العزيز!

وعززت تلك الهالات من الغموض وظلال الريبة، ولكن النتائج أشد دلالة على هذه الريبة. فقد دخل عبد الناصر العديد من الحروب انتهت جميعها بالهزيمة أو الانسحاب دون تحقيق هدف، بل كان ضررها أبلغ. كان عبد الناصر يدرك قدراته جيداً، ويعرف أنه لا يستطيع تحقيق انتصار، لكنه كان مدفوعا إلى سياسة "المهرجان".

وسياسة المهرجان تعني لعب دور لصالح الدول الكبرى؛ لتدفع له الدول الكبرى مقابل التدخل في اليمن والجزائر والكونغو دعماً للمصالح الأمريكية، ودخلت مصر في الحلقة المفرغة التي شار إليها كوبلاند: "كان استمرار المهرجان ضرورياً للحصول على الدعم، كما أصبح الحصول على الدعم ضرورياً لتمويل المهرجان".

انتهى المهرجان بكارثة 1967، فقد كانت نفقات المهرجان أكثر من عائداته بكثير، وكان على ناصر أن يختار بين أمرين كلاهما مر. كان الأمريكان قبل قطع المعونة يقدمون معونة للشعب المصري تمثل 80 % من رغيف الخبز الذي يأكله

يقول كوبلاند:

"في البلدان التي تبدو حالتها ميئوس منها من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، ليس أمام القائد المحلي سوى أن يهتف بسقوط الاستعمار، وتهتف له الغوغاء بينما بلدهم يسير نحو الدمار، أو أن يقبل المعونة، ويرضى بدور العميل للاستعمار بدون أدنى شك".

عاش ناصر الأزمة بأبعادها بعد أن ذاق طعم الهزيمة وعرف آخر خدمة الغز، بينما كان للشعب المصرى رأي آخر لخصه في نكتة مفادها أن: "الشعب لم ينهزم، إنما تعرض قادته الذين خدعوه وضللوه لحالة اعتداء جنسى".

كانت النكات توجع ناصر وتمرغ كبريائه المزعوم في أوحال الهزيمة؛ لدرجة أنه في أول خطاب له بمجلس الشعب بعد الهزيمة طالب الشعب بأن يكف عن النكات بزعم استغلالها من قبل أعداء الوطن! ولخصها الرئيس الأمريكى جونسون في لقائه بالسفراء العرب، عندما قال مخاطباً كلبه: "جاري المشاغب يا كلبي يزعج جيرانه فأعطوه علقة، والآن يريدنى أن أتدخل وأنقذه".

صورة ثقافة ناصر المبالغات حولها

لم يكن عبد الناصر هو المثقف الموسوعي الذي حاول "دراويش الناصرية" تسويق صورته في إطار "أسطورة الزعيم"، وإكسابها طابعا خلابا يجتذب الجماهير ويكتسب تأييدها. فقد ثبت للباحثين بما لا يدع مجال للشك ما حدث من تزوير لكارت الاطلاع الخاص بـ"ناصر" في الكلية الحربية.

ويؤكد البروفيسور فاتكيوتس أن:

"ذكر أحد مدرسي عبد الناصر وهو السيد نجيب إبراهيم أن جمال قرأ سلسلة العبقريات للكاتب عباس محمود العقاد، مثل سيرة عمر بن الخطاب وسيرة سعد زغلول ورواية توفيق الحكيم (عودة الروح)، والسيرة الذاتية لطه حسين (الأيام)، وقرأ أيضا حياة فولتير، وروسو، ونابليون، والإسكندر، جاريبالدى، وغاندى، وهانيبال".

لكن شمس بدران في مذكراته (غير المنشورة حتى الآن) يذكر أن عبد الناصر قرأ كتاب: "الذئب الأغبر مصطفى كمال أتاتورك" من تأليف الكابتن هـ. س. أرمسترونج، وكان يحفظ بعض فقراته عن ظهر قلب وكان يعتبرها النمط الأمثل لأسلوب الحكم!

وهي قراءات عادية لا تصنع مثقفاً من طراز فريد قادر على قيادة شعب يتطلع إلى التغيير في ظل أول حاكم مصري منذ ألاف السنين. فلم يكن ناصر يجيد سوى العمل السرى فقط، ولا شئ آخر!

العمل السري

كان عبد الناصر يستند في أسلوبه في الحكم إلى حشود الجماهير غير المنظمة سياسياً (الغوغاء)، وسيطرة الجيش على الدولة والمجتمع وإقصاء الجماعات الأخرى.

يقول كوبلاند:

"كان رأى ناصر عن القيادة أو النخبة الطبيعية قد وصل إلى حكومتنا ليس عن طريق ميد بل عبر قناة (هيكل - ليكلاند). وقال عبد الناصر للسفير الأمريكى كافرى: "إن إعطاء المصريين حريتهم بسرعة هو أشبه بترك أطفالاً يلعبون في الشارع تحت رحمة الظروف".

وقد بدا ذلك واضحاً في تشييد الصروح الضخمة لهياكل الديمقراطية الزائفة؛ فعندما أعلن ناصر قيام الاتحاد الاشتراكى في يناير 1963؛ شكل أمانته العامة من أهل الثقة (9 ضباط و3 مدنيين)، لكن ذلك لم يدخل الأمان إلى نفسه؛ فبدأ إنشاء التنظيم الطليعى في يونيو 1963، وكان الهدف منه تكوين الجهاز السياسى للتنظيم أو نواته الصلبة، وكانت الفكرة تتشابه مع تنظيم رابطة الشيوعيين اليوغوسلاف.

وقد أرسل ناصر صلاح الدسوقى لدراستها في يوغوسلافيا، وكان أهم عمل من أعمال التنظيم الطليعى كتابة التقارير السرية عن اتجاهات الرأى العام. ولما علم المشير عامر بـ"التنظيم الطليعي"؛ أمر شمس بدران بتشكيل تنظيم طليعى موازي في القوات المسلحة.

حكم ناصر الدولة بالخوف، ولم يعد هناك ما يُخيفه سوى الخوف ذاته؛ كان عبد الناصر قليل الثقة في لجان الاتحاد الاشتراكي التي كان يراها "لجان في الهواء، ليس لها أية فاعلية، كما اعترف أنه لا يثق في لجان رعاية الشباب".

وقد اقترح شعراوى جمعة في جلسة الثلاثاء 5 يناير 1965 الأخذ بنظام "الكادر السياسي"، وهي فكرة قائمة على استمرار الاتحاد الاشتراكي كتنظيم قائم يعمل علانية، وتشكيل كيان سياسي داخل الاتحاد الاشتراكي في هيئة لجان سرية في الأمانات الفرعية وفق خطة تجنيد يكون فيها عمل الكادر السياسى سريا.

الصورة الذهنية لناصر

لم يكن عبد الناصر ذو ماض عسكري عريق، ولم تكن قدمه قد ترسخت في رتبة البكباشي التي حصل عليها في 24 يناير 1954، قبل موعد استحقاقها ضمن إنعام ملكي بمناسبة سبوع ولي العهد (اختفت أغلب الأوراق من ملف ناصر)، ولم يكن أيضا من أسرة عريقة يمكن الارتكان على تاريخها؛ فكانت الصورة الذهنية التي تم تقديمه بها للجماهير في المنشية في 26 أكتوبر 1954، والتي تمت صياغتها في أقبية CIA هي صورة البطل الشعبى الذي لا يخشى الموت، وفى لحظات الاستحواذ على عقول الجماهير تحت وطأة التأثيرات الانفعالية، قام بتمرير رسالته: "لقد علمتكم الكرامة.. وزرعت فيكم العزة".

وبممارسة معالجة نقدية لمضمون الكلمات؛ للوقوف على حقيقة الموقف يتبين مدى الهراء. فمتى وأين حدث ذلك من جانب ذلك الفتى الغر (36 سنة) لشعب ضارب في عمق التاريخ بحضارة عمرها سبعة آلاف سنة؟! وما معنى الكرامة لطفل نشأ عائلاً في بيت سيدة يهودية كانت صديقة لأمه وقد تربى عائلاً في بيت عمه خليل وتربى من أموال الهبات التي كان يمنحها باشا قرية الأخماس بالبحيرة لوالده البوسطجى الفقير؟

وأين كانت كرامته عندما اصطحبه ابراهيم عبد المجيد باشا (وزير المواصلات ونائب أبنوب) في سيارته ليتوسط له في دخول الكلية الحربية، وأمره أن يركب بجوار السائق؟ فلو كان للكرامة أثر في نفسه لضحى بحلمه في دخول الحربية، وما ارتضى الدنية بالركوب بجوار السائق.

لكنها الصورة التي صنعها لينبارجر وحرص عبد الناصر عليها منذ الوهلة الأولى؛ فبدت صورته مهيبة. وساعده على ذلك سمات جسمانية تمثلت في قامته الفارعة، وعرض منكبيه، وقلة الكلام؛ وهى سمة اكتسبها من العمل السري، جهوري الصوت إذا تحدث، فلا مانع من استغلال تلك السمة في خطابات عنترية بكلمات جوفاء تنتزع التصفيق وتجتذب التأييد وتدفع بالجماهير بما لا يحقق مصالحها على المدى البعيد؛ ولا مانع من النوم في أحضان الأمريكان ومطارحتهم الغرام سراً، والمجاهرة بعداوتهم جهراً. "ويشربوا من البحر، وإذا معجبهمش البحر الأبيض، يشربوا من البحر الأحمر".

كان ناصر ينفذ بنود "قانون الغرام الأمريكى"، فلا مانع من شتم الأمريكان ومهاجمتهم في العلن من آن لآخر؛ حتى تظل المصالح الأمريكية محمية، والروابط الخفية قائمة وفاعلة.

وأحاط ناصر نفسه بجيوش من مؤلفى الأغاني والملحنين والمطربين. وقد بلغت حصيلة الأغاني التي تتغنى به في أرشيف الإذاعة المصرية 1142 أغنية من أول أغنية "يا جمال يا مثال الوطنية" التي خرجت غداة يوم حادث المنشية إلى أغنية "الوداع يا جمال يا حبيب الملايين" يوم موته؛ والذى ارتجل كلماتها ولحنها الشاعر عبد الرحمن عرنوس الأستاذ بمعهد الفنون المصرية، والتى غناها مجموعة من شباب المهاجرين البورسعديين الذين كونوا فرقة أطلقوا عليها اسم "شباب البحر".

ولأن الإذاعة لم تعد كافية في حشد الجماهير، ولداعي ازدياد الحاجة إلى المؤثرات البصرية في ترسيخ الصورة والتلاعب بالوعى فضل عبد الناصر بعد دراسات عدة أكدت "قدرة التليفزيون على تعميق الإيحاء"، فضل التوجه للتلفزيون.

وكان المصريون قبل ذلك لا يعرفون شكل الحاكم إلا من بعض الصور التي تنشر في الصحف، ولا يسمعون صوته إلا أحيانا عبر المذياع، فكان إنشاء التليفزيون في عام 1960 الذي نقل لهم الزعيم بالصوت والصورة ليصبح وجوداً حياً في منازلهم يعيش بينهم، وتفنن خبراء التليفزيون عبر خداع الصورة من جعل عبد الناصر شخصية أقرب إلى الأسطورة وإظهاره في صورة الزعيم القادر على تحقيق المستحيل، وإثارة حماس الجماهير وحناجرها بإشارة من يده.

طبيعة الانقلابات

من طبيعة الانقلابات المدعومة والمصنوعة أن تركب حركة جماهيرية موجودة بالفعل لإجهاض الثورات الحقيقية، وأن تتخذ لنفسها لافتات ضخمة من شعارات إقليمية وطنية تخفى حقيقتها.

ولم يكن ضباط الانقلاب لديهم أدنى معرفة بذلك؛ فقد قفز الضباط إلى السلطة، ولم يكن لديهم أية خبرة بالحكم أو ممارسته أو أي فكر ثوري ينير لهم الطريق، وهو ما جاء تقرير جيمس إيكل برجر خبير وزارة الخارجية الأمريكية بالأنظمة العسكرية في الدول النامية، والذي ذكر فيه أن ضباط الانقلاب ليس لديهم أية دراية بطبائع الأمور، وأنهم أشبه بأفراد عصابة روبن هود المرحة!

ولم يكن أمام ضباط الانقلاب من خيار سوى السطو على المشروع السياسى والاجتماعى لحزب الوفد من احترام للدستور وإعادة الحياة النيابية والعودة إلى ثكناتهم لأداء المهمة المقدسة في حماية الحدود، وهو ما ذهب كله أدراج الرياح بعد أزمة مارس 1954.

ورغم اعترافهم أن القضية الفلسطينية لا تعنيهم، فقد رفعوا شعار العداء لإسرائيل، رغم أن الاتصالات من أجل التسوية لم تنقطع بينهم وبين الصهاينة من شهر أغسطس 1952 وحتى توقيع اتفاق كامب ديفيد، وقد اعترف ناصر بوجود إسرائيل في مؤتمر باندونج الذي أقر بالموافقة على قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين. وهذا موجود في وثائق المؤتمر عام 1955.

وبعد هزيمة ناصر في 67 بدأ يجري اتصالات باليسار الصهيونى من حزب المابام، وجماعة ناحوم جولدمان رئيس المؤتمر الصهيونى العالمى، وبمجموعة مجلة "نيو أوت لوك" التي يرأسها سمحا فلابان، وكان يتولى تلك الاتصالات أحمد حمروش وبعض الشيوعيين اليهود المصريين مثل هنرى كورييل ويوسف حزان.

إن أسطورة الصراع العربى الاسرائيلى التي بنى عليها الانقلاب كذبته كان استمراراً لإدارة الوفد للصراع؛ فقد أغلق قناة السويس في وجه الملاحة والتجارة الإسرائيلية بعد عقد الهدنة المصرية الإسرائيلية في رودس، وفى عهد حكومة الوفد الأخيرة شددت إجراءات تفتيش السفن المحايدة بعد أن تبين استخدام إسرائيل لها في شحن السلع، وشددت إجراءات الرقابة على إرسال البترول إلى إسرائيل عبر قناة السويس، وشددت الحصار على إسرائيل من البحر الأحمر.

ففى يناير 1950 تم الاتفاق بين حكومة الوفد والسعودية على أن تنزل قوات مصرية في جزر تيران وصنافير اللتين تتحكمان في خليج العقبة، ونصبت المدافع المصرية في رأس نصراني؛ مما أدى إلى عزل إسرائيل وعجزها عن إقامة علاقات اقتصادية مع الدول الإفريقية الواقعة على ساحل البحر الأحمر.

وقد انتهى هذا الحصار نتيجة لحرب 1956 التي هُزم فيها النظام الناصري، واضطر فيها لمنح الكيان الصهيونى ممراً بديلاً عن قناة السويس عبر المياه الإقليمية المصرية في خليج العقبة وتحت رعاية قوات الأمم المتحدة!

كانت حكومة الوفد ترفع شعار "الوحدة العربية"، وتتخذ من الجامعة العربية إطارا لها. لكن "فكرة القومية" لم تكن متضحة بما فيه الكفاية، وكانت الآراء مختلفة حولها، ولم يكن شعار القومية العربية سوى جزء من خديعة الأمريكان، فلم يكن ناصر يعرف شيئاً عن العروبة أو القومية العربية، وإنما تمت صياغة الشعار بمعرفة الأمريكان، وهو ما يلخصه كوبلاند بقوله: "ولابد من إدراك حقيقة مهمة جدا، وهى أن فكرة القومية العربية ليست إلا جزء من أسطورة ناصر؛ إلا أن كون مفهوم مصر "رائدة العرب" قد غدت جزء مهماً من الأسطورة!

ونأتى إلى ادعاء البطولة في "كسر احتكار السلاح" التي نسبت إلى عبد الناصر عقب عقد صفقة الأسلحة الروسية التي أطلق عليها الأسلحة التشيكية، وهي الصفقة التي أحيطت بهالات من البطولة، هذه الفكرة كانت فكرة الوفد اللتي كانت تنفذها آخر حكومة له قبل الانقلاب، وأرسل النحاس في ذلك الإطار لجنة إلى أوروبا في سبتمبر وأكتوبر 1951 برياسة مصطفى نصرت وزير الحربية الوفدى، غير أن الظروف لم تسمح بإتمامها في إطار حماية أمن إسرائيل وضمان تفوقها العسكرى.

وإذا وقفنا على حقيقة الأمر نجد أن تلك الصفقة تأتى في سياق الخداع، فالذى سهلها هم الأمريكان، والذى صاغ بيان إعلانها هم عملاء CIA في القاهرة، ولم تكن في حقيتها سوى أسلحة متواضعة الإمكانيات ولا تصلح إلا لتسليح قوات البوليس!

خلاصة القول أن الناصرية لم يكن لها مشروعها الوطني، وانتهت إلى كارثة، حقق ناصر الكثير من الإنجازات، لكنه أسرف في إعطاء الأمانى للشعب، وعجز عن تحقيقها، وعجز عن تحقيق الهدف الذي يُقام من أجله أي نظام؛ وهو حماية حدود الوطن! تسلم جمال عبد الناصر مصر وهى محتلة بالإنجليز

وجاهد حتى حصل على جلائهم منها بعد تقديم تنازلات في معاهدة 1954؛ ولما جاءت الفرصة استرد جميع التنازلات. لكنه قبل أن يموت تركها محتلة إسرائيلياً بعد هزيمة 1967. وبعد الهزيمة، وفى أول اجتماع لمجلس الوزراء أعترف ناصر بسقوط النظام، وأكد أنه: "ليس معنى أن الشعب تمسك بنا أن النظام لم يسقط".

هل كان ناصر وطنياً؟

بعد هزيمة 67 كان الوجع يلف مصر بصوت الآهات، وكان الطلبة يتغنون بصوت مبحوح مذبوح: "أشعارا تمجد، وتماين.. حتى الخاين، وان شا الله يخربها مداين.. عبد الجبار". ولم يكن عبد الجبار هذا سوى الاسم الرمزي لعبد الناصر، وكانت أول مرة يتهمه الشعب بالخيانة، كان الجميع يتفهم أنها كلمات تحت تأثير انفعالاتنا في ظل أنين الوجع ولعق الجرح النازف من الأحشاء.

وبعد موت ناصر بكاه الشعب بحرقة، ثم عاد ليمسح دموعه ويتندر على ممارسته في سخرية من خلال النكات الجارحة والتى تحمل في طياتها أحيانا بذاءة. وصدرت جريدة الأخبار وعلى صدر صفحتها الأولى مربع يحمل صورة ناصر وإلى جوارها عنوان: "جمال عبد الناصر مؤسس مصر الثورة".

كتب توفيق الحكيم مقالاً بجريدة الأهرام يدعو إلى اكتتاب شعبى لإقامة تمثال لناصر على قاعدة ميدان التحرير، وكانت المفاجأة رسالة من مبعوث مصري بالخارج يقول للحكيم: "ليس مكان التمثال الطبيعى قاعدة ميدان التحرير، ولكن على قاعدة في دولة إسرائيل، ودعى صاحب الرسالة الحكيم أن يقارن بين خريطة مصر عندما تولاها ناصر وخريطة مصر يوم رحيله، واختتم رسالته قائلا: ماذا نكتب على قاعدة التمثال؟!". لم يستطع الحكيم جمع جنيه واحد لأجل التمثال، وفشل المشروع.

أساء الكثيرون إلى ناصر؛ فاتهمه البعض بأنه ابن لسيدة يهودية، واتهمه البعض بالعمالة لإسرائيل وأنه تم تجنيده أثناء حصار الفالوجة، وكلها اتهامات تنطوى على قدر من السفه والجهل. فوالدة ناصر هي السيدة فهيمة محمد حماد من كريمات الأسر الصعيدية التي كانت تقطن الإسكندرية وتعمل في تجارة الفحم

وناصر كان ولا يزال - رغم الاتهامات التي طالت ذمته المالية ولم يتم حسمها بمعرفة جهة قضائية - ضابطاُ وطنياً ومصرياً شريفاً حتى النخاع أراد أن يستغل ظهور الأمريكان على المسرح الدولى كقوة لتحقيق مصلحة بلاده، ونظراً لفارق الخبرة والقدرات والإمكانيات تلاعبوا به؛ فمنوه تارة، ووعدوه أخرى، وخوفوه ثالثة، وقضوا عليه أخيراً بهزيمة 1967، وتركوه يموت!

المصدر