نظرات في التربية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
نظــرات في التربيــة


موقع ويكيبيديا الإخوان المسلمين (إخوان ويكي)

لحضرة المربي الفاضل الأستاذ عبد العزيز عطية

أستاذ الإمام حسن البنا وناظر مدرسة المعلمين الأولية بالإسكندرية

ومسئول مكتب إداري الإخوان المسلمون بالإسكندرية فى فترة الخمسينات ثم عضو مكتب الإرشاد

من مجلة الشهاب فبراير 1948

مقدمة

لقد بينا في النظرة السابقة أن للأبوين في الطفل أثراً عظيماً في أحواله الأولى وهو لم يعد أن يكون إنساناً في بطن الأم أو في المهد. ونريد أن نفصل حال الطفل وما يتعرض إليه بعد ذلك سواء من الأبوين أو الخدم والرفقاء أو المربي.

ونظرا لأن كل ذلك مرتبط شديد الارتباط بطبيعة الطفل فإننا ملزمون أن نمهد لذلك بشيء عن هذه الطبيعة العجيبة التي خلق عليها الإنسان لنعلم مبلغ تأثره بما يحيط به.

ولنستطيع أن نوجه ظروفه ونجابه مشاكله ونحن على بينة من أمره بشأن الطبيب الذي يتصدى لعلاج حالة مرضية فإنه إن لم يهتد إلى بواعث المرض وأسبابه ونشأته فلا يستطيع أن يصف من العقاقير ما يقاوم به المرض فيشفي العلة ويصح الجسم.

يولد الطفل مزوداً من الخالق المصور بمقومات لحياته وهي استعدادات كثيرة من غرائز وميول ووجدانات، وقد اختلف العلماء من قديم الزمان في طبيعة الطفل فقال قوم

(1) إنه يولد خيِّراً بطبعه ولكنه يتعلم الشر ويتحول إليه بالمؤثرات المحيطة به،

وقال آخرون

(2) إنه يولد شريراً بطبعه ولكن التربية والتهذيب تحوله إلى الخير،

وقال غيرهم

(3) إنه يولد وفيه استعداد للخير والشر معاً ولكن الذي يغلب الخير عليه تزويده بما يوجهه للخير من تقويم وتهذيب فيقوي الخير على الشر في حين أن إذا لم يعن بتوجيهه إلى الخير وأن تتاح له الفرص التي تمكن لبذور الشر من نفسه فتنمو وتزدهر فيصير شريراً .

ولقد ذهب سقراط إلى أن الإنسان خير بطبعه وهو يرى أن النفس الإنسانية وعاء لأصوات الكمالات وذهب جالينوس إلى أن الناس منهم من هو خير بالطبع ومنهم من هو شرير بالطبع ومنهم من هو متوسط بين هذين، ثم يقول إن أهل الخير من الناس لا ينتقلون إلى الشر لأن من طبعهم الخير وهم قليلون وأن أهل الشر كثيرون وليس ينتقل هؤلاء إلى الخير؛

وأن الطبقة المستعدة إلى الخير والشر معاً هم الذين يجدي فيهم الإصلاح إذا صاحبوا الأخيار فيصيرون أخياراً بالتعليم والقدوة الحسنة أو يصيرون إلى الشر إذا مهدت لهم سبله بمخالطة أهل الشر وإتباع سبله وتعلم فنونه.

أما أرسطو فقد بين في كتابيه (الأخلاق) و (المقولات) أن الشرير قد ينتقل بالتأديب إلى الخير ولكنه لا يطلق هذا الانتقال إطلاقاً بل يقول إن ضروب الإصلاح قد تؤثر في ضروب الناس فمنهم من يقبل التأديب ويتجه إلى الفضائل بسرعة ومنهم من يقبله ولكنه يبطئ في التحلي بالفضائل

ويرى فلوطين Phlotinus (وهو مصري من أسرة رومانية عاش في القرن الثالث قبل الميلاد وكان متأثراً بفلسفة أفلاطون) أن الفطرة شر ولكن النفس الشريرة قد تتصل بالعالم العقلي فتصلح وتصفى وله طريقة شديدة في ذلك مبنية على التقشف وحرمان النفس من مشتهيات الطعام والشراب واللباس والاجتماع بالناس لتصفو من أدرانها. ولقد كان هذا المذهب طريق إبي العلاء الذي اعتزل الناس للبعد عن شرهم.

ويرى روسو Rousseau أن الفطرة الإنسانية خير وقد بنى على اعتقاده هذا عملاً رائعاً كان له أحسن الأثر في توجيه التربية من بعده لا في فرنسا فحسب بل في العالم الذي اتصل بفلسفته فإنه لما رأى أن الحزبين الذين تسود آراؤهما فرنسا في القرن الثامن عشر وأن البلاد يربى أبناؤها ويعاملون بناء على هذه الآراء حمل حملته الشديدة ووجه طعناته القوية إلى هذين الحزبين وأنظمتهما التي أسست على مقاومة الشر في الإنسان بصارم العقاب وشديد الجزاء حتى خرجت العقوبة عن حد الزجر إلى التعذيب والإرهاق دون هوادة ولا رحمة.

ولقد حارب روسو هذا المذهب في التربية وأثار شعور الناس وكرههم في تلك النظم أشد الكراهية وبنى معاملته للأطفال على ما خلق فيهم من ميول ووجدانات حسنة ووجههم إلى جمال الطبيعة الساحر وقادهم إلى الخير بهذا التوجيه فظهر بذلك الأسلوب الهادئ الجميل فظاعة الأسلوب السائد في فرنسا وقتئذ حتى تأجحت بذلك نار الثورة الفرنسية التي كان لها أكبر الأثر في توجيه سياسة العالم الأوربي، وسنعود لبحث طريقة روسو ومن اتبعه يوم نتعرض إلى طرائق التربية.

ويرى الفيلسوف الألماني كانت Kant أن الطفل منذ الولادة إلى سنة محدودة لا ينسب إلى فطرة الخير أو الشر لأنه لا يعقل ما يفعل ومعنى ذلك أنه بعد أن تتكون لديه قدرة التفكير يتجه إلى الخير أو الشر وهذا مذهب القائلين بأن الطفل يولد وعقله صفحة بيضاء قابلة لكل ما يكتب عليها وهو يربط الخير والشر بالعمل لا بأصل الخلقة،

القرآن الكريم هو الفصل

ولقد جاء القرآن الكريم بعقيدة كانت الفاصل بين هذه الأحكام القديمة والحديثة لأنها حكم الله وقوله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هي أن للإنسان استعداداً للخير والشر معاً فاتفق مع بعض الفلاسفة واختلف معه آخرون يقول الله سبحانه: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) ويقول: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) ويقول: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)

ويقول الرسول:

" كُلُّ مولود يولدُ على الفِطْرَةِ فأبواهُ يهوِّداَنِه أو ينصِّرانِه أو يمجسانه " فالإنسان مخلوق معد لميراث العالم بما فيه من خير وشر وهو سر عجيب لا يعرف أحد هو معد للخير أم هو معد للشر ثم إن المؤثرات التي تؤثر عليه لا يعرف أيها يصل إلى أعماقه وأيها لا يتجاوز شغافه ثم لا يعرف الناس تحولاته في مدى سنه متى يقف عن الغي ومتى يرجع إلى الصواب والشاعر العربي يقول:
والذي حــــارت البريــــة فيــــــه
حيوان مستحدث من جماد

ويقول غيره:

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله
وعرى أفراس الصبا ورواحله

ولولا أن الإنسان صالح للخير وللشر معاً لما كان للرسالات مع من خلقوا للشر نصيب في الإصلاح وبذا يكون التكليف عندهم بما لا يطاق والله يقول: (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) ويقول: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) هذا مع ما نرى من أناس كثيرين أوسعهم الشر إعناتاً ثم صاروا إلى الخير بعد ذلك ونقول إن استعدادي الخير والشر مخلوقان في بني الإنسان غاية ما يكون أن أحد الاستعدادين قد يكون أقوى من الآخر قليلاً أو كثيراً.

وأن أحدهما يقوى بالعمل ويشتد بالعلاج والمؤثرات الخارجية، ومهمة المربي أن يقوم على تقوية جانب الخير ما استطاع بانفاذ ما أمر الله به الناس من أنواع البر وصنوف الخير وأن يحول بين الشر وبين الطغيان على النفس بإبعاد مؤثراته عن الطفل وبملازمته للخير وأهله ثم بتصفية الجو العام حول الناس كبارا كانوا أو صغارا حتى لا يجتذب الإثم ببهرجة قلوب الناس

ولا يستثير قوى الشر فيهم في غفلة قوى الخير ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضاً واجباً على القادرين من أفراد الأمة يقول الله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والرسول يقول: " حُفت الجنةُ بالمكارِه وحُفَّت النارُ بالشهوات "

وإذا كان قصدنا من هذه الأبحاث في موضوعنا " نظرات في التربية " أن تكون رجلاً مسلماً نافعاً لنفسه ووطنه يعين على نوائب الدهر ويحمل الكل فإننا ملزمون أن نتابع البحث في تكوينه ونشأته وطبيعته والمؤثرات عليه ببيان إجمالي لما فيه من الغرائز والميول والعادات والوجدانات ليفيد منها على عجل إلى ما نريد من طرائق تربيته إذ ليس القصد أن نتوسع فيما اختصت به الكتب العلمية أو المجلات الفنية.

ولكننا في بحثنا مضطرون إلى مصابيحهم أن نقتبس منها لننير للمطلع سبيل الهداية وليستطيع أن يجرب أو يستهدي إلى ما يريد وسنحاول أن نتجنب المصطلحات المعقدة أو الأبحاث العميقة فليس ذلك من قصدنا.

الغريزة

يعرف العلماء النفسيون الغريزة بتعاريف مختلفة بعضها تفصيلي وبعضها إجمالي وتكاد تتفق في معناها وإن اختلفت في الإجمال والتفصيل فمنهم من عرفها بأنها " القوة الفطرية التي تحصل بسببها أفعال من الإنسان والحيوان قهرية لغاية خاصة " ومنهم من يقول: " إنها ميل فطري يحمل الحيوان على عمل من الأعمال لغاية خاصة عند ظهور مؤثر "

ويعرفها العلام مكدوجل بأنها:

" حالة نفسية فطرية جسيمة تحمل صاحبها على إدراك شيء أو أشياء من نوع خاص مع التفات إليها فتنفعل انفعالاً وجدانياً يحدث عن هذا الإدراك فيقوم بعمل نحو هذا الشيء المدرك أو على الأقل يميل إليه " .

وقد وضح مكدوجل في تعريفه المطول مظاهر الشعور لكل عمل وهي: الإدراك، الوجدان، النزوع أو التنفيذ. أما العمل المنعكس فحركة عضوية غير مركبة تحدث بسبب تأثير يقع على عضو من الأعضاء دون شعور ولا إدراك ولا انفعال وجداني.

والغريزة تتركب من عدة أعمال منعكسة كما يقول بذلك العالم هربارت سبنسر Herbart Spancer وغيره من العلماء وإن خالفه في ذلك غيرهم محتجين عليهم بحجج شتى، والذي يعنينا إنما هو عمل الغريزة في واقع الأمر، والمعروف أن الغرائز هي التي تبقي النوع وتحفظه وجوده وتخدمه وأنها تورث من الآباء والأجداد سواء منها الأصلي أو المكتسب الذي أخذ طريق الغريزة على مدى الزمن.

وتتأثر أعمال الغرائز في الإنسان والحيوان بتكوينه الجسمي والبيئة التي يعيش فيها وبقوة النمو في الجسم وبالسن وبما يرثه من غرائز أسلافه ولهذا كانت أعمال الغرائز ملائمة لحياة أصحابها وعاملة على حفظ أنواعهم وأنها تبدو وتخفي بحسب حاجة الجسم إليها وحاجة النوع الإنساني للانتفاع بها فغريزة الطعام والخوف والسرور والحركة والمقاتلة والغريزة الجنسية لكل منها وقتها الذي تظهر فيه ثم تتكون عنها عادات نافعة للحياة الإنسانية.

والغرائز الإنسانية قابلة للتحول قابلة للخمود قابلة للقوة وهذه الصفات تجعلها في خدمة الحياة وخدمة الإنسانية العاملة المفكرة الرحيمة وهذه خاصية الإنسان. وتتكون منها عادات شتى يكون عملها مهذباً على خلاف عمل الغرائز البحت.

والعمل الغريزي يصدر بدون تفكير وروية ولو أنه يحصل بعد مروره بثلاث المراتب السابق بيانها: الإدراك والوجدان والنزوع. أما العمل الإرادي فهو عمل غريزي أول أمره هذب وقوم ووجه إلى جهة الخير أو جهة أخرى بحسب كثرة التجارب والمزاولة والتربية فتحكم العقل فيه أولاً ثم بكثرة المران أصبح آلياً لا يحتاج إلى تفكير.

ولهذا تعلم الصناعات ويعاني المتعلم فيها محاولات كثيرة وجهداً متصلاً ثم تصير بعد ذلك آلية فإدارة آلة النسيج وحذف الوشيجة (المكوك) وعملية قذف قذائف المدفع أو البندقية وقيادة السيارات والدرجات وغير ذلك من الأعمال كلها تعوداً تبنى على عدة غرائز كالحركة وحب الاستطلاع وغيرهما.

الميل

ومن الغرائز تتكون الميول فغريزة الاجتماع مثلاً يتكون عنها الميل إلى العطاء والتضحية من أجل الضعيف والدفاع عنه، وغريزة الجمع يتكون عنها الميل إلى تكوين متحف خاص بطوابع البريد أو التحف الثمينة أو النفائس الغريبة ويتكون عن ذلك ذوق فني خاص.

وغريزة السرور تسوق إلى الميل إلى الموسيقى أو التصوير أو اقتناء الطيور المغردة وآلات الموسيقى الغريبة وهكذا. وهذه الميول لها أوقات تظهر فيها يعرفها المربي على مر زمن التربية فإن لم يرعها المربي بعنايته خمدت وضاعت فائدتها المرجاة منها فيما لو تعهدها بالإنماء والتقويم والتهذيب؛

إذ الإنسان يسمو في مدرجة الكمال كلما هذبت العواطف والميول ورقى بها المربون إلى أوج كمالاتها أزهى الرقي الأدبي وعنها تكون الحضارات وبها يكون الإنسان الكامل.

ويجب على المربي أن يعرف أن للميول أنواعاً ثلاثة ليستخدم كل نوع منها في تربية ناحية خاصة في الطفل وكلها ضرورية للوصول به إلى غاية التربية، وهي تقوم على مظاهر الشعور الثلاثة: الإدراك، الوجدان، النزوع.

فالأول الميل الإدراكي ومظهره الاندفاع الدائم نحو حقائق الأشياء ومعرفة أصولها وعدم الاكتفاء بمظاهرها ومنافعها وهذا النوع ينبني على غريزة حب الاستطلاع، والطفل الذي به هذا الاستعداد قوي فعال يكون مخترعاً أو مهندساً ماهراً.

والثاني الميل الوجداني وهو الاندفاع إلى ما يشبع وجدانه وعاطفته الجمالية كالشغف بالموسيقى والتصوير وكل ما يثير الوجدان ويشع الرغائب العاطفية وقد يكون منشأ هذا الميل غريزة السرور وغريزة المحاكاة ويحتاج المربي إلى تقوية هذا النوع لترقيق عواطف الإنسان وإبعاد الخمول عنه وإبعاده من الحزن واستنهاض نشاطه وإرهاف إحساسه ليحس الجمال في أنواع المخلوقات.

والثالث الميل النزوعي أو العملي. وهو ينبني على غريزة الحركة وحب الاطلاع والحل والتركيب وغيرها. ويحتاج المربي لتقوية هذا الميل لإتقان الصناعات المحتاجة إلى كثرة الحركة والسعي وكذلك لإتقان الحركات العسكرية وحمل الأسلحة وإجادة استعمالها وإجادة الحركات الرياضية وهكذا.

وفي النظرة التالية إن شاء الله نتمم البحث في أقسام الغرائز وتهذيبها وبيان الانتفاع بها وواجب المربي في ذلك إذ الغرائز والميول مناظر التربية الأولى والله المستعان.