واقع الأمة المعاصر وفقه النصرة في فترة الغثائية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
واقع الأمة المعاصر وفقه النصرة في فترة الغثائية

مقدمة

غزة تقطر دما.jpg

بات العدوان على الإسلام والكيد لأهله من أبرز سمات الواقع المعاصر، ولهذا العدوان صور متعددة ومظاهر متنوعة، ما بين احتلال للأراضي كما هو في فلسطين وأفغانستان والعراق، وطعن في المقدسات كإهانة القرآن الكريم ورمي النبي صلى الله عليه وسلم بالنقائص، وتفريق لكلمة المسلمين بإذكاء نار الطائفية بينهم وتقسيم لحكوماتهم إلى محاور معتدلة ومتشددة، ألوان من العدوان والكيد لا يعلم مداها إلا الله تعالى {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46].

ولاشك أن هذا الواقع الأليم الذي تعيشه الأمة الإسلامية عرض لمرض خطير دب في جميع أوصالها وهو داء الوهن، فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها) قال: قلنا يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ؟ قال (أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن) قال: قلنا وما الوهن؟ قال (حب الحياة وكراهية الموت)(1).


العدوان على غزة

ومن أحدث حلقات العدوان والكيد للإسلام وأهله ما يحدث لإخواننا في قطاع غزة في فلسطين، منذ فوز حركة المقاومة الإسلامية الساحق في الانتخابات التشريعية الماضية، وما تلا ذلك من حصار الحكومة المتمخضة من تلك الانتخابات والتآمر على وزرائها ونوابها من قبل الاحتلال الإسرائيلي ومن يدور في فلكه من أعداء المشروع الإسلامي في فلسطين وعلى المستوى الإقليمي والدولي، وكذلك عقوبة الشعب الفلسطيني ومنعه من الطعام والشراب والدواء وسائر مقومات الحياة، لا لذنب ارتكبه ولا لجرم اقترفه، إلا التصويت لمشروع المقاومة وتأييد رموزها الإسلامية والوطنية المخلصة.


فقه النصرة

لا يشك مسلم واع ولا إنسان عاقل في وجوب نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف، والناس في قديم الزمان وقريبه مفطورون على كراهة الظلم وبغض الظالمين.

لكن ما هي البواعث الحقيقية التي تدفع الناس إلى نصرة المظلوم، وما طبيعة هذه النصرة، وما هي أفضل أساليبها؟؟؟

هذه أسئلة ملحة يجب الإجابة عليها بأجوبة كافية وشافية، تهدي كل من يريد نصرة المظلومين ويسعى لاسترداد حقوقهم المسلوبة.

فيما يلي نحاول أن نضع بين يدي القارئ الكريم نبذة يسيرة من فقه النصرة في ضوء الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة الإسلامية المطهرة، والله ولي التوفيق.


أولا: حكم النصرة

نصرة المظلوم فريضة دينية وضرورة حياتية.

فأما كونها فريضة دينية فلدلالة القرآن والسنة.

الأدلة من القرآن الكريم:

هناك آيات كثيرة في كتاب الله تعالى تدل على وجوب نصرة المظلوم، ومنها قوله تعالى {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72]، وقوله تعالى {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} [النساء: 75]، وقوله تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].

الأدلة من السنة:

وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب نصرة المظلوم والوقوف معه لدفع الظلم عنه واسترداد حقوقه، فعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) قالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال (تأخذ فوق يديه)(2)، وقوله صلى الله عليه وسلم (انصر أخاك) أمر والأمر المطلق يقتضي الوجوب , وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المسلم أخو المسلم ولا يسلمه، ومن كانفي حاجة مسلم كان الله في خاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)(3)، قال ابن حجر رحمه الله تعالى (قوله (لا يسلمه) أي لا يتركه مع من يؤذيه بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم)(4)، فالنصرة إذن حق أساسي من حقوق الأخوة ومقتضياتها العملية.


ثانيا: أهل النصرة

كل مسلم مظلوم في دينه أو في دنياه، أو معتدى عليه في نفسه أو في أهله أو ماله، فهو أهل للنصرة، قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [الأنفال: 72].

ويشترك في أصل هذا الحكم البر والفاجر، فالفسق سواء كان بمعصية أو بدعة ليس مانعا من النصرة كما يتوهم بعض الدعاة وطلبة العلم، قال تعالى {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] ومعلوم في الشريعة الإسلامية أن قتال المسلم فسوق، وفي الآية أمر بقتال الطائفة الباغية وهو صورة من صور النصرة وخاصة إذا كان المنصور هو الظالم.

ويلحق بالمسلم في وجوب النصرة أهل الذمة والمعاهدين في دار الإسلام، قال ابن قدامة رحمه الله (وعلى الإمام حفظ أهل الذمة ومنع من يقصدهم بأذى من المسلمين والكفار واستنقاذ من أسر منهم بعد استنقاذ أسارى المسلمين واسترجاع ما أخذ منهم لأنهم بذلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم)(5).

ومن أهل النصرة أيضا كل مستضعف في الأرض أيا كان دينه أو جنسه أو لغته لقوله صلى الله عليه وسلم (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي بها حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)(6)، والرسول صلى الله عليه وسلم يشير هنا إلى حلف الفضول الذي كان على أساس نصرة المظلوم.


ثالثا: أنواع النصرة

للنصرة في الإسلام صور متعددة وأنواع مختلفة، وفي يلي بعض تلك الصور والأنواع:

1- النصرة الفكرية

قد يكون للظلم الواقع على الإنسان بعض الجوانب الفكرية والنظرية التي تغطي فظاعة الجريمة وتبرر تصرفات الظالم، وفي مثل هذه الحالة يحتاج المظلوم إلى النصرة الفكرية في مقابل ما حل به من ظلم فكري.

وتكون النصرة الفكرية حينئذ أولا ببيان وجه الظلم الشرعي وذلك بالتأصيل الدقيق للحقوق المغتصبة، والرد القوي على الدعاوي والشبهات التي يتذرع بها الظالم , ثم بيان الطرق الحكمية لرد الحقوق إلى أهلها، وما يجب في حق الظالم من عقوبة أو تعزير، فالنصرة الفكرية في مثل القضية الفلسطينية يجب أن تبدأ ببيان حق المسلمين الشرعي والتاريخي في فلسطين، والرد على الخرافات اليهودية والدعاوي الصهيونية المنسوجة حول القضية، ويلي ذلك تقديم خارطة طريق إسلامية عملية وواضحة لتحرير فلسطين ودحر الاحتلال.

2- النصرة الإغاثية

وتكون بتوفير ما يحتاج إليه المعتدى عليه من طعام أو شراب أو دواء وغير ذلك من ضرورات الحياة. وهي أشهر أنواع النصرة وأكثرها ممارسة في الواقع العملي، ويرجع ذلك في نظري إلى سببين وهما، الأول كثرة الحروب والمعارك التي يحتاج الناس أثنائها وبعدها إلى إغاثة عاجلة، والسبب الثاني سهولة الممارسة وقلة التبعات والمخاطر، فالعمليات الإغاثية مسموحة بها في كل الشرائع والقوانين وفي أصعب الظروف وأحلكها.

وقد كانت الصحابيات رضي الله عنهن يمارسن هذا النوع المهم من أنواع النصرة، فعن حفصة بنت عمرو مولاة أنس بن سيرين قالت: سمعت حفصة بنت سيرين تقول: سمعت أم عطية تقول: (كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نداوي الجرحى وندفن الموتى)(7).

3- النصرة الإعلامية

ونعني بها الإعلام بالظلم الواقع والتشهير بجرائم الظالمين، بالصوت والصورة، أو بالقلم والريشة، أو بالنثر والقافية , وبكل وسيلة إعلامية متوفرة.

وبغض النظر عن ترتيب الإعلام بين السلطات في الأهمية فإن للنصرة الإعلامية آثارا ملموسة في إحقاق الحق وإزهاق الباطل لا يجحدها إلا جاهل أو مكابر، وقد كان للشعراء حضور بارز في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لقصائدهم وقع أشد على الأعداء من الرماح والسيوف، وكانت الملائكة تثبتهم وتؤيد هم كما تثبت وتؤيد حملة الرماح والسيوف، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان رضي الله عنه (إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله)(8)، وفي الحديث بشارة لكل مذيع أو صحفي أو شاعر أو أديب أو رسام أو منشد أو مخرج سنمائي وغيرهم من أهل الفن والإعلام بتأييد من روح القدس وأمين الوحي جبريل عليه السلام ما نافحوا عن الله ورسوله وذبوا وعن المسلمين، فالعبرة هنا – كما يقول الأصوليون – بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

4- النصرة السياسية

وهي التدابير الكفيلة بنصرة المظلوم مما يقوم بها ولاة الأمور وأهل الحل والعقد من المسلمين، من إدانة الظلم وملاحقة الظالمين وسن القوانين الصارمة لرعاية الحقوق، ثم تسخير جميع أجهزة الدولة في تحقيق ذلك، وإذا تأملنا في أحكام النصرة الشرعية نجد بأن المسؤولية العظمى تقع على كواهل ولاة الأمور وأهل الحل والعقد من المسلمين، وبالأخص ما يتعلق منها بالعلاقات الدولية في السلم والحرب، وبالجوانب القضائية وبعض الجوانب الاقتصادية، قال تعالى {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]، قال الصباح بن سوادة الكندي سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) الآية ثم قال (ألا إنها ليست على الوالي وحده، ولكنها على الوالي والمولى عليه، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم، وبما للوالي عليكم منه؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتي هي أحسن ما استطاع، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكره بها ولا المخالف سرها علانيتها)(9).

وما نراه من تباين أو تفاوت بين المواقف الرسمية والمواقف الشعبية من مشكلات الأمة الإسلامية يعد عاملا من عوامل الضعف وسببا من أسباب الفشل، قال تعال {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

5- النصرة العسكرية

وتكون بقتال الظالمين المعتدين على حقوق الناس والمنتهكين لأعراضهم، أو بإعانة المعتدى عليهم ومدهم بما يدفعون به الظلم، قال تعالى {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} [النساء: 75].

ويتأكد وجوب النصرة العسكرية وتنتقل من درجة الفرضية الكفائية التي هي الأصل في الجهاد إلي درجة الفرضية العينية إذا هاجم العدو بلدا مسلما وعجز ذلك البلد عن رد العدوان لقلة عددهم وعتادهم، وهذه من الحالات التي تصبح فيها الجهاد واجبا عينيا ويسقط فيها كثير من شروط الوجوب المتعلقة بالجاهزية والسن والجنس، قال القرطبي رحمه الله تعالى (فإذا كان ذلك - غلبة العدو على قطر من الأقطار المسلمة وعجزوا عن دفعها - وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا وثقالا كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه، ومن لا أب له، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم)(10). وكل معاهدة إقليمية أو دولية يمنع المسلمين من نصرة إخوانهم المسلمين في جميع أقطار العالم فهي لاغية غير ملزمة قال صلى الله عليه وسلم (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مئة شرط) قال المناوي رحمه الله تعالى (أي كشرط نصر نحو ظالم وباغ وشن غارة على المسلمين ونحوها من الشروط الباطلة...)(11).

6- النصرة بالدعاء

الدعاء لفلسطين.jpg

وهي من أهم أنواع النصرة وأنفعها للمنصور وأفتكها بالمنصور عليه، وهي مع ذلك ذات طبيعة إيمانية لا يمارسها إلا أهل الإيمان بالله عكس الأنواع الأخرى من النصرة، ويدل عليها قوله تعالى {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 9-12]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى هذه الوسيلة الناجعة لنصرة المظلومين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي يدعو في القنوت (اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطئتك على مضر، اللهم سنين كسني يوسف)(12)، ومع ذلك فإن بعض الجهلة وضعاف الإيمان من المسلمين يهونون من شأن الدعاء والله المستعان.

وما ينبغي التذكير به هنا أن الدعاء لنصرة المسلمين يشترط فيه شرطان أساسيان:

أوله: أن يكون خالصا من الشرك: بأن يكون موجها إلى الله وحده لا شريك له قال تعالى {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] وقال صلى الله عليه وسلم (وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)(13)، فمهما اشتدت وادلهمت الخطوب فلا يجوز التوجه إلى غير الله تعالى ولا يستغاث بنبي مرسل ولا بملك مقرب ولا بعبد صالح فكلهم لا يستطيع كشف الضر عن الناس ولا تحويله عنهم قال تعالى {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} [الإسراء: 56].

ثانيه: أن يكون سليما من الاعتداء: وهو تجاوز المشروع في الدعاء سواء كان في المضمون والمعنى أو في الشكل والمبنى، وقد ورد النهي في الاعتداء في الدعاء في القرآن والسنة، قال تعالى {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وعن عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بني سل الله الجنة وعذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (سيكون قوم يعتدون في الدعاء)(14)، ومهما امتلأت القلوب غضبا وغيظا فلا يجوز الخروج عن حدود الشرع ونطاق الحكمة حينما ندعوا لإخواننا المظلومين أو حينما ندعوا على من ظلمنا من الكفار والمشركين، ولنا في أدعية القرآن والسنة أسوة حسنة. رابعا: معالم النصرة الحقيقية.

هناك معالم أساسية وصفات ضرورية يجب توفرها في النصرة الحقيقية، ومن هذه المعالم والصفات:

1- الإخلاص

وهو أن يكون الباعث على النصرة قصد وجه الله تعالى، ومنع الظلم بأنواعه، وتحقيق العدل على جميع الناس، وإعانة الفقراء والمحتاجين على لوازم الحياة الكريمة، فلا ينتصر لعرق أو حزب أو طائفة، أو ينصر أحدا لطلب مال أو شرف أو جاه، فكل ذلك من خصال الجاهلية وطباع البهيمية السافلة، قال تعالى في قصة ذي القرنين {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} [الكهف: 94، 95]، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضبا، ويقاتل حمية؟ فرفع إليه رأسه إلا أنه كان قائما فقال: (من قال لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل)(15).

ولا بأس بسؤال ما يتقوى به على نصرة المظلوم من مال وغيره لقوله تعالى {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96]، ويجوز كذلك أخذ الأجرة على أعمال النصرة لمن كان متفرغا لها لقوله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].

2- الواقعية

ونقصد بها فعل الممكن من النصرة أيا كان نوعها، والأخذ بالمتوفر والمتاح من أنواعها ووسائلها، مع التطلع للمزيد مما يرجى حصوله من جميع ذلك، وهي درجة متوسطة بين العجز والكسل، فالناس أمام المصائب والمشاكل التي تحل بالمسلمين على ثلاثة أقسام:

الأول: من يفعل الممكن: وهم أهل الإيمان والطاعة وهم محمودون في الشرع والعقل، ف {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا} [البقرة: 286] وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون)(16) ، ومن فعل من التكاليف ما استطاع إيمانا واحتسابا نال الأجر من الله وبرأت ذمته، قال تعالى {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} [النساء: 84]، ولا يخلوا جهدهم مهما قل من نتيجة قريبة أو بعيدة إن شاء الله قال تعالى {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7]، وهذه الآية نزلت في الذين كانوا يردون السائل ويتركون الصدفة لقلة ما بأيديهم(17).

الثاني: من يترك الممكن، وهم أهل النفاق وهم مذمومون في الشرع والعقل، قال {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167].

الثالث: من يطلب المستحيل أو المتعسر: وهم أهل العجلة والحماس الزائد، ممن يحقر ما بذله أهل الإيمان والطاعة من جهود لرفع المصائب أو دفعها، وليس بأحسن حالا من أهل الكسل لما يتركه من الممكن وما يفوته من المستحيل.

والمسلم الواعي هو من لا يألو جهده في نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف ونجدة المكلوم، ولا يتيه بين الأماني والأحلام، ولا يثاقل إلى الأرض ولا يخلد إليها، فراحته في رضى الله تعالى وفي ما يسعد البشر.

3-الشمولية

فكل أنواع النصرة نافعة ومطلوبة، ولجميع الناس في النصرة سهم ونصيب.

وقد أرشد القرآن الكريم المسلمين إلى أهم صور الجهاد وأفضل أنواع النصرة، قال الله تعالى {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] قال السعدي رحمه الله تعالى (يقول الله تعالى لعباده المؤمنين مهيجا لهم على النفير في سبيل الله {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً} في العسر واليسر، والمنشط والمكره، والحر والبرد، في جميع الأحوال {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} أي ابذلوا في ذلك واستفرغوا وسعكم في المال والنفس...)(18)، فالجهاد في سبيل الله ونصرة المظلومين بمعناهما الشامل مما يجب أن يساهم فيهما كل مسلم ملتزم وكل إنسان محترم صغيرا كان أو صغيرا، رئيسا أو مرؤوسا، ذكرا أو أنثى وهلم جرا.

ولقد رأينا هذه الشمولية في النصرة في أحداث غزة الأخيرة والحمد لله، إذ هب الجميع لنصرة إخواننا في غزة حيث تداعت الدول الإسلامية والعربية إلى عقد القمم لتبني المواقف المناسبة لحجم المأساة، وسبق ذلك نفرة العلماء الربانيين وصيحاتهم المدوية على المنابر وعبر القنوات الفضائية، أما الشعوب المغلوبة على أمرها فلم تزل متمسكة بأضعف الإيمان وأقل الواجب بتنظيم المسيرات والمظاهرات، وقد شاركهم فيها أحرار العالم في مشارق الأرض ومغاربها، وجاهد أهل اليسار من الأمة بل والفقراء بأموالهم، وهرع الأطباء والممرضين لعلاج المرضى والجرحى، ولم يتخلف في هذه الهبة إلا الكفار وإخوانهم من المنافقين، وأعاد التاريخ نفسه مرة أخرى فعرفنا المنافقين في لحن القول وسمعنا من بعض الساسة والصحفيين والكتاب تصريحات مخجلة ومخذلة كمقولة من قص علينا القرآن شأنهم في زمن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حيث يقول عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156].

4-الاستمرار

من جوامع الكلم النبوي (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلت)(19) وقالت العرب وصدقت (القليل الدائم خير من الكثير المنقطع)، فالأعمال الصالحة والخصال الحسنة لا تظهر آثارها ولا تبدو نتائجها حتى تستمر وتثبت عليها أصحابها، ومن هنا نرى ضرورة مؤسسة الأعمال التي يقوم بها المنتصرون لقضايا الأمة بين الحين والآخر، وذلك بتصنيف جهود النصرة وتأطيرها في أشكال منظمة ومرخص لها، فتكون مؤسسات للنصرة الإعلامية وأخرى للنصرة السياسية وثالثة للنصرة القانونية وهكذا في تنوع وتكامل تتوزع فيه الأدوار وتتوفر فيه الفرص، وتتوارث الأجيال المسئولية جيلا بعد جيل حتى يأتي الله بالفتح ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

ولنا عبرة في مهارة أعدائنا في التخطيط لأعمالهم والدقة في تنفيذها والأمانة في توريثها عبر الأجيال، انظر كيف بدأت الحركة الصهيونية وكيف تطورت وأصبحت قوة تهابها الدول العظمى تخطب ودها وتخشى بطشها، وليس خلفها إلا شرذمة قليلة من الشياطين.

صلى الله وسلم على بينا محمد وآله وصحبه.

(1) أخرجه أحمد في المسند برقم (22450) وأبو داود في السنن برقم (4297).

(2) أخرجه البخاري يرقم (2312)

(3) أخرجه البخاري برقم (2310) ومسلم برقم (2580)

(4) فتح الباري (5 / 97)

(5) انظر: الكافي في فقه ابن حنبل (4 / 364)

(6) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم (12859)

(7) أخرجه الطبراني قي المعجم الكبير برقم (163)

(8) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2490)

(9) تفسير القرآن العظيم (3 / 227)

(10) الجامع لأحكام القرآن (8 / 151)

(11) فتح القدير (6 / 262)

(12) أخرجه البخاري برقم (2747).

(13) أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (6303) أخرجه الترمذي في السنن برقم (2516).

(14) رواه ابن ماجة في السنن برقم (3864)

(15) أخرجه البخاري قي صحيحه برقم (123) ومسلم في صحيحه برقم (1904)

(16) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6100).

(17) انظر تفسير القرآن العظيم (4 / 542)

(18) تيسر الكريم المنان 338

(19) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6100) ومسلم في صحيحه برقم (783).