والآن أتكلم

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
والآن أتكلم
خالد محيي الدين

إهداء

إلى زوحتي..

فقد تقاسمت معي وبرضا وصبر كل مصاعب الحياة تلك التي فرضها الآخرون علينا وتلك التي نفرضها على أنفسنا وفاء لحق الوطن والشعب

شكر وتقدير

كتابة المذكرات هي أساسا عمل صاحبها ولكنه بمفرد يكون غير قادر أن يحيط بكل ما يريد صحيح أنني ملأت شرائط التسجيل بكل ما أعرف من معلومات وأحداث وآراء ولكن أن يكون بجانبك صديق يمتلك كفاءة المعرفة التاريخية والسياسية أن يكون بجانبك رجل مثل الدكتور رفعت السعيد يوجه لك الأسئلة لترد على كل ما غاب في ثنايا العقل وتاه مع طيات الزمن يذكرك بالأحداث وترابطها وتشابكها والأسماء والأمكنة لتتمكن من استنفار الذاكرة ثم يعيد معك القراءة مرة واثنتين ليضيف معك كل ما نسيته.

له أقدم أساس شكري الأول والأخير لجهوده الفكرية والسياسية والعملية لإتمام هذا العمل لأنه بدون جهده ما خرجت هذه المذكرات بهذه الصورة كما أشكر بعض الأخوة من الضباط الأحرار الذين أفادوني مما سجلوه وكتبوه بناء على طلبي كرافد هام لهذه المذكرات وأخص بالذكر الأخ توفيق عبده إسماعيل ضابط الفرسان وعضو مجلس الشعب والأخ أحمد المصري ضابط الفرسان الذي قدم لي معلومات وافية ومكتوبة عن حركة الفرسان في 1954.

كذلك فقد استعنت بكل ما كتبه زملائي في حركة الضباط الأحرار من ذكريات ومذكرات ودراسات فبرغم اختلاف بعض الرؤى وتفسير بعض الوقائع إلا أن ما كتبوه كان هاما ومفيدا لي سواء بما قدم من معلومات أو بما حفز الذاكرة كي تنشط فتقدم كل ما لديها.. وإليهم جميعا أخلص الشكر وعميق الامتنان.

خالد محيي الدين


ليست مقدمة

المذكرات أو الذكريات أو اليوميات هي بذاتها تقدم للحدث وللمتحدث أو هي بالدقة محاولة تقديم رؤية الكاتب لحدث ما ومن هنا فإن تقديم التقديم هو لزوم ما لا يلزم.

لكنني وقبل أن أصطحب القارئ عبر رحلة بأكملها امتلك بعضا من الملاحظات أعتقد أنه من الضروري أن أفضي إليه بها حتى يمكننا أن نمتلك عبر هذه الرحلة تفاهما أعمق وفهما أفضل. إلى متى ستظل صامتا؟

بل هذا السؤال يلاحقني مباشر في أحيان عديدة، ومغلفا في أحيان أخرى.

بل لعله طاردني في حالات كثيرة بلهجة استنكارية توشك أن تتهمني بالتقصير ليس في حق شخصي وإنما في حق ذلك الحدث المهيب الذي لم يزل ممتلكا لمهابة لا يتجاسر عليها إلا المنكر للحقيقة والمتنكر لها هذا الحدث الذي هز مصر ليلة 23 يوليو 1952 لينطلق بها عبر مسيرة متعرجة استحقت من الكثيرين إعجابا وإشادة ومن البعض تأييدا مغلفا بالتحفظ ومن الأقلية استنكارا أو رفضا لكن أحدا من هؤلاء جميعا لم ينكر أن الحدث مهيب وهام وأثر في مصر وكل البلدان العربية وهز أعماق أفريقيا وأثار اهتمام آسيا بل وجذب أنظار العالم أجمع.

فمتى امتلكت مصر حدثا مثل يوليو؟

متى كان لها ذلك التغيير الممتد إلى مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية تغيير جذري وشامل ومؤثر سواء اتفقنا أو اختلفنا معه؟

متى كان لها حدث انتقل بها لتصبح طرفا عربيا وأفريقيا وآسيويا بل وعالميا فاعلا؟

متى كان لها حدث جعلها تمتلك القدرة على الزهو بمصريتها وعروبتها وأفريقيتها وإسلاميتها زهوا زهوا لا ينبع من كبرياء وإنما من فعل وأداء وتأثير؟

متى كان لها حدث كهذا حتى يمتلك من تلاصقوا معه وشاركوا في صياغته وصناعته ترف الصمت عما يمتلكون من معرفة به وبمكوناته؟

وظل هذا السؤال يلاحقني حتى من أقرب المقربين إلى وظللت أعدهم وأعد نفسي بيوم أو في بعضها من ديني ليوليو ولرجالها ولمصر وشعبها.

كنت أعرف أنه يتحتم علي أن أوفي بعض هذا الدين بأن أكتب ما أعرف تقديما للحقيقة واستكمالا لها وما كان لمثلي أن يتنكر ليوليو أو ينكره أو يتناساه فلم يكن يوليو حدثا عارضا ولا حلما باردا قفز إلينا نحن ورجاله في لحظة مواتية بل كان أملا عاش في قلوبنا الشابة نسجناه معا في حرص واتقان وما أجمل أن تمتلك حلما جميلا.

وما أصعب أن يكون الحلم ملكا لوطنك وشعبك ساعتها سيكون الحرص مضاعفا بل سيصبح عبئا فالخطأ لن يطالبك أنت وأصدقاؤك وأسرتك فحسب بل سيطال كل مصر وكل مصري. وما كن لي أن أتخلى عن حلم كهذا دون أن أدون كل ما أعرفه عنه ليس من أجل الماضي ولا من أجل تصحيح ما قيل وهو كثير ولا حتى من أجل استكماله وليس من أجل إعطاء كل من رجال يوليو ما يستحق من تقدير جزاء ما قدم لمصر وإنما وأساسا من أجل الغد.

فمصر في مستقبل حركتها لابد لها أن تمتلك زادا من الخبرة بالإيجابيات وكيف تصنع والعثرات وكيف تقع بنا وعلينا وهكذا ظل الوفاء بهذا الدين القديم يلاحقني وما أهملته أبدا فقد كنت أتخيل أن بالإمكان أن أتيح لنفسي فسحة كافية من الوقت أخلو فيها من هموم الحياة والسياسة والعمل في الحزب وفي حركة السلام وفي مجلس الشعب لأجلس وأكتب.

ويمضي الوقت لتلتف هذه الواجبات أو الهموم بعضها ببعض وتخلق دوامة لا يمكن الفكاك منها. دو وأخيرا ..

أدركت أنه ما من فسحة كافية أو واسعة من الوقت فقط هناك مساحات متناثرة لابد من محاولة اصطيادها الواحدة تلو الأخرى.

وهكذا حاولت..

ولكن ماذا أكتب؟ وعن ماذا؟

وماذا يتوقع القارئ مني؟

وكيف يمكن لإنسان أن يرى كل وقائع سنوات عديدة حافلة في كتاب مهما تكاثرت صفحاته؟ وهل يوردها جميعا أم يتخير البعض؟ فإن اختار فهل يختار ما يتعلق به، أو ما كان هو علا علاقة وثيقة بمعطياته أم تكون أهمية الحدث هي الفيصل؟

وإذا جلست لأكتب تزاحمت أمامي أشياء كثيرة مختلطة ذكريات وأحداث وملاحظات ووقائع حلوة وأخرى مريرة، وأحداث موحية وأخرى باهتة، البعض شخصي بحت والآخر شخصي متشابك مع الغير، وكثير متعلق بالحدث وبموضوع الحديث وتوقفت وتوقف معي القلم في حيرة ماذا أختار من بين هذا الزحام وأنا أحاول أن أكتب تاريخ حدث هام كيوليو؟

أخيرا..

وإذا اقتربت من علم التاريخ بحثا عن الأسلوب الأمثل عثرت على التعريف الأول لهذا العلم المبهر التعريف الأول بمعنى أنه المحاولة الإنسانية الأولى لتحديد المغزى العلمي للكتابة التاريخية والمضمون الفكري لها.

هكذا عرف الإغريق القدماء علم التاريخ:« إنه علم البحث عن الأحداث الجديرة بالمعرفة التي وقعت في الماضي» الجديرة بالمعرفة هذا هو أول الخيط ولكنه يا له من خيط معقد.

فالحدث قد يختلف اثنان حول مدى كونه جديرا بالمعرفة والأمر لا يتعلق بالمذاق الشخصي أو المعيار الفردي فحسب بل لعله يمتلك أبعادا سياسية واجتماعية فما هو جدير بالمعرفة لجماعة قد لا يكون مثيرا لاهتمام جماعة أخرى.

لكن التعريف الإغريقي العتيد منحنى قدرة كبيرة على الاختيار وأصبح القلم قادرا على الانتقاء بحثا عما هو «جدير بالمعرفة» و «الجدير بالمعرفة» فيما كتبت يتلمس ما هو خاص وما هو عام وما هو ثمرة لتفاعلهما معا بحثا عن الحقيقة الأكثر دقة في كل ما يتعلق بعلاقتي بيوليو.

وبطبيعة الحال كان من الجدير بالمعرفة في اعتقادي أن يتعرف القارئ على الكاتب من هن؟ ولماذا وكيف اقترب من عملية المشاركة في صناعة يوليو وأثر التكوين الخاص والأول في تخليق عملية الاقتراب هذه؟

وليست هي المرة الأولى التي يكتب فيها عن يوليو.

عشرات الأشخاص سبقوني وآخرون كثيرون سيحاولون بعدي.

فيوليو حدث ليس عاديا ولابد له من أن يفحص من كل جوانبه وأن يعاد فحصه منكل هذه الجوانب ويوليو يستحق أكثر..

أليس هو الدرس الأكثر تأثيرا في تاريخ هذه الأمة؟

فلنفحصه ولنعاود فحصه بحثا عن الحقيقة الحقيقية.

الحقيقة الحقيقية

أية عبارة هذه التي خطها القلم؟

وهل ثمة حقيقة غير حقيقية.؟

توقفت طويلا خلال كتابتي للصفحات التالية أمام هذا السؤال المحير.

فالحقيقة هي بالضرورة كلمة معقدة.

وعندما أقرر أنني أذكر حقيقة حدث ما فإنني في الواقع أقرر أنني أذكر رؤيتي أنا لهذا الحدث وكم من آخرين يمتلك كل منهم رؤية أخرى.

فهل هناك أكثر من حقيقة؟

لابد أن هذا السؤال يثور في ذهن القارئ العادي والمتخصص إذ يقف أمام عشرات من الكتب عن يوليو كل منها يروي ذات الواقعة وذات الحدث بصيغة مخالفة للآخر.

ولا يعني ذلك أن الجميع مخطئون وواحد فقط هو الصواب لكنه يعني أن الحدث الواحد يمتلك أكثر الواحد يمتلك أكثر من بعد وأكثر من زاوية وتختلف رؤية كل كاتب باختلاف الموقع والزمان والمكان إزاء الحدث.

وهنا يكون مدى وكم الحقيقة في الرواية منسوبا في واقع الأمر إلى مواقع الكاتب من الحدث ومدى اقترابه منه زمانا ومكانا ومنسوبا بالطبع إلى مدى تحريه الدقة أو رغبته في تحري الدقة.

وفي علم التاريخ ما دمنا نحاول أن نكتب عن حدث تاريخي تكون الحقيقة الكاملة أو الحقيقة الحقيقية هي تلك التي تحاول الاقتراب من مختلف زوايا الحدث وتجاوز ما هو شخصي إزاءه وإعطاؤه بعده الجماعي والاجتماعي إن كان ذلك ضروريا.

وهذا ما حاولت أن أفعل.

ولست بهذا أنقص من جهد أحد ولا أدعي أن ما كتبت هو الحقيقة المصفاة أو حتى هو الأقرب إليها وإنما فقط أقرر أنني بذلك كل ما امتلكت من جهد لأنفي عن الكتابة أية نوازع شخصية محاولا أن أنصف الحدث والحقيقة دون التفات لإنصاف نفسي فالأمر قد تجاوز أشخاصنا جميعا ليصبح منسوبا لمصر وشعبها ومن ثم فإننا جميعا ومهما فعلنا أو ادعينا تتضاءل أدورانا تنسب أو تقاس إلى مصر وإلى المصريين.

والحقيقة أن الكتابة لم تكن سهلة. لكنها لم تكن مستحيلة فأنا لم أبدأ من فراغ فليس من المعقول أن أجلس بعد كل هذه السنوات لأحاصر الوقائع صغيرها وكبيرها حتى أقتنصها وليس من المعقول أن تحتفظ الذاكرة بكل هذه الوقائع والأحداث.


لكن ثمة سرا صغيرا سأفضي به للقارئ قبل أن نبدأ رحلتنا معا.


عندما كانت أحداث مارس 1954 وما كان خلالها وبعدها وعندما أثمر ذلك بالنسبة لي قرارا بالنفي إلى خارج الوطن.


هناك في المنفى البعيد أحسست بأن أول واجب لي هو أن أسجل الوقائع وأن أحفظها وأحتفظ بها والغريب أنني وبالفطرة ودون بحث أكاديمي عن معنى ومغزى الكتابة التاريخية قد تصرفت وفق التعريف الإغريقي دون أن أسمع عنه وفي كراسة ذات غلاف أزرق سجلت كل ما أعتقدت أنه جدير بالمعرفة من أحداث متعلقة بتنظيم الضباط الأحرار» وليلة 23 يوليو، وجلسات مجلس قيادة الثورة، اختلافاتنا واجتهاداتنا واتفاقاتنا ومواقف كل منا باختصار دونت في الكراسة الزرقاء كل ما اعتقد أنه ضروري لتنشيط الذاكرة عندما يحين وقت تدوين المذكرات..

وظلت الكراسة الزرقاء عبئا ثقيلا بقدر ما كانت مدعاة للراحة النفسية فقد أراحني كثيرا أنني ضمنت هذا الغلاف كل ما هو هام وكل ما هو ضروري من معلومات وملاحظات أراحني لأنني أحسست أن ذاكرتي ليست مكلفة باستعادة ذلك كله ومحاولة التحفظ عليه لكنه منحني الكثير من القلق خوفا على هذه الكراسة.

ومضت أيام بل وسنوات كان الاحتفاظ فيها بهذه الكراسة عبئا ثقيلا على من يحوزها وكان من الضروري أن تغيب طويلا عن ناظري بل وعن أرض الوطن بحثا عن مأمن آمن.

وبرغم ذلك كان قلق ثقيل الوطأة يهبط على من آونة لأخرى.. ماذا لو ضاعت؟ ماذا لو وقعت في يد من لا أريد أن تقع في يده ماذا لو..؟

وأشعر بقلبي وهو معلق بهذه الكراسة وإذ أصبح ممكنا عادت كراستي إلى وهدأت مخاوفي بعض الشيء وأصبح من الممكن أن أستعد للكتابة.

لكن هذه الكراسة لم تكن سوى رؤوس موضوعات وتطلب الأمر جهدا كبيرا لاستكمال بنيان الحدث والذكريات وتطلب مطالعة لما كتبه زملاء أعزاء زاملتهم في أحلى أيام شبابنا وفي أجمل ما نملك من ذكريات كما تطلب الاستعانة بذاكرة العديد من هؤلاء الزملاء ولم يبخلوا علي بشيء ومن الطبيعي أن يقع بعض الاختلاف أو الخلاف بين ما كتبت وبين ما كتب الآخرون.

ومن البداية أقرر أنني لا أنسب إلى ما كتبت أنه الصحيح أو حتى أنه الأقرب إلى الصحة وأن الآخرين يبتعدون عن الحقيقة بقدر ما يبتعدون عما كتبت فقط أقرر أنني حاولت جهدي أن أقترب من الحقيقة فإن وقع خلاف بين محاولتي وبين ما ذكره الآخرون فالأمر متروك للتاريخ كي يبحث ويدقق ويصل اليوم أو غدا إلى ما هو صحيح.

فأنا أحاول فقط أن أضيف إلى حصيلة يوليو جهدا متواضعا لعله يسهم في إتاحة الفرصة أمام القارئ والباحث لاستكمال تعرفه على يوليو حدثا وأشخاصا وتداعيات.

وقبل أن أبدأ لابد لي أن أسجل عرفاني للعديدين الذين أتاحوا لي أن أقترب من رحلتي معك عزيز القارئ .

الذين منحوني وقتهم وذكرياتهم من رفاق السلاح القدامى شركاء الزمن القديم الجميل في خلايا الضباط الأحرار وفي سلاح الفرسان وفي ليلة 23 يوليو وما بعدها.

فإلى هؤلاء جميعا أقدم امتناني مؤملا أن يجدوا فيما كتبت ثمرة تستحق ما قدموا من جهد.

أخيرا أعود لأقرر وأكرر أنني أكتب وعيني على مصر وعلى شعبها وعلى المستقبل ولا أمتلك أي قدر أو قدرة على التحاكم مع بعض من اختلفت معهم في الماضي فما اختلفنا لهوى شخصي فقط اختلفت الرؤى واختلف تصورنا لما فيه الخير لمصر.

لست أكتب من أجل الماضي لنتحاكم حوله أو عنه أو لنحاكمه فقط أدون ما أعتقد أنه تاريخ صحيح لحدث هو أهم أحداث تاريخنا الحديث أدون بحثا عن دروس لما هو آت من أيام. فمصر تستحق منا أكثر مما قدمنا.

ويستحق شعبنا أن نقدم له الحقيقة أو نعتقد بإخلاص أنه الحقيقة كي يستفيد من دروس الماضي تطلعا للمستقبل.

نعم هذه هي بالدقة العبارة التي أحاطت بي في كل سطر وكل كلمة في هذه المذكرات أن نستفيد من دروس الماضي تطلعا للمستقبل..»

والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

القاهرة في 17 أغسطس 1992

خالد محيي الدين..


الفصل الأول:البدايات

• مع الدراويش في التكية.

• بين التكية والتختبوش.

• من التكية إلى أحمد سعيد.

• من أجل عيون «إبراهيم خيري»

• مشاغب في الكلية الحربية.


ككل إنسان عندما أخلو إلى نفسي أجدها أحيان كثيرة تعود بي إلى أعماق الذاكرة لتفترش مساحة حلوة من أجمل ذكريات الطفولة.

بيت شرقي ساحر، فسقية في منتصف الحديقة الواسعة المليئة بالأشجار والورود والتمر حنة لم يكن بيتا عاديا إنه تكية السادة النقشبندية هنا قبر الجد الأكبر لأمي الشيخ الخليفة «محمد عاشق» هنا أيضا مسجده ودراويش الطريقة النقشبندية يشغلون الدور الأول من التكية وأنا ووالدتي وجدي الشيخ عثمان خالد، شيخ الطريقة وناظر الوقف نشغل الدور الثاني.

باسم جدي لأمي سميت، وفي رحاب التكية عشت طفولتي ألهو في حديقتها البدعة وأستمتع بعبق حياة دينية سمحة وهادئة المسجد يعلو فيه الأذان كل يوم خمس مرات ودراويش التكية ونحن معهم نصلي أنا أذهب إلى المدرس وجدي يشف على شئون الدائرة في الغرفة المسماة بالديوان والدراويش يحيون حياة تعبد تثير الاهتمام بل لعلها هي التي ألهمتني وحتى الآن هذا الإحساس الرفيع بالتدين السمح المتفاني في حب البشر.

ذهني أفندي أيوب أفندي عثمان أفندي.. أسماء لا يمكنها أن تبتعد عن ذاكرتي كذلك صورتهم في جلاليب بيضاء وطاقية وحياة تستمتع بثلاثة أشياء جميلة تعبد وقراءة وخدمة الناس.

يقرأون كثيرا ويتعبدون في أناة وبلا تشدد وبقية النهار يعبدون الله بخدمة الناس فكان عثمان أفدني الهادئ الأبيض الشعر يقضي وقته يعلم سكان الحي القراءة والكتابة وآخرون يقدمون خدماتهم المجانية بلا انقطاع للناس واحد يصلح له ساعاتهم مجانا وآخر يصلح مختل الآلات وثالث يخيط الثياب والكل لا يتقاضى أجرا سوى الإحساس بالرضاء الديني بالتقرب إلى الله عبر خدمة عباده.

باب التكية مفتوح لا يغلق إلا في المساء وهل يليق بدراويش الطريقة النقشبندية أن يغلقوا بابهم في وجه إنسان؟

وفي رحاب هذا العبق الديني الرائع قضيت أجمل أيام طفولتي.

أبي كان مقيما في كفر شكر يشرف على زراعة الأراضي لثلاثة أيام في الأسبوع تقريبا ثم يأتي ليقيم معنا وعندما تنتهي أشهر الدراسة أنطلق إلى كفر شكر لأقيم بجوار التختبوش( ) في بيت العائلة هنا تبدو الحياة مختلفة فالجد محيي الدين تاجر ومزارع شاطر تاجر في القطن على زمان الحرب الأهلية الأمريكية وكسب كثيرا وفي كفر شكر اشترى مئات الأفدنة، ولما عادت أسعار القطن إلى الانخفاض تحول إلى زراعة الفاكهة ويرتبط اسم محيي الدين بكفر شكر فهو الذي أدخل فيها زراعة العنب والمانجو والبرتقال.

وبرغم تميز الأسرة ببعض الثراء فإن «التختبوش» الذي كان في قلب كفر شكر قد أتاح لي خلال أشهر الصيف اندماجا شبه كامل مع أبناء الفلاحين كنا نلعب الكرة الشراب معا بحماسة قادر على إزاحة أية فوارق طبقية..

وينتهي الصيف لأعود سريعا إلى دراويش التكية، لأنعم معهم بحالة من السلام النفسي يصعب تكرارها كانوا متدينين في هدوء وبلا تعصب والإسلام عندهم محبة للناس وتفان في خدمتهم بلا مقابل وتناول للحياة في تعفف بلا شره، وبلا ترفع.

كل سكان التكية كانوا يصلون معا في الجامع فإن تغيب أحد استحى الدراويش من دعوته للصلاة فقط كانوا يسألون عن صحته ...«ولعل المانع خير» فيسرع الغائب إلى المسجد مع أول أذان. حتى الأذان كان هادئا وديعا وكأنه دعوة حانية إلى لقاء حميم.

هذه العلاقة الحانية مع الذين ظلت تتملكني حتى الآن ولم يزل طيف عثمان أفندي يمنحني الكثير من السكينة عندما أتذكره وهو يعطي للناس كل وقته كي يعلمنهم القراءة والكتابة ويبدو طوال وقته معهم سعيدا وممتنا لأنهم يقدمون له صنيعا إذ يتيحون له الفرصة كي يتقرب أكثر إلى صحيح الدين. وكثيرا ما يحلق في خيالي: ماذا لو كنت قد واصلت رحلتي مع الطريقة النقشبندية؟ فعندما توفي جدي عثمان خالد، وكنت أيامها ضابطا بالجيش عرضوا علي مشيخة الطريقة من بعده لكن عبق الدراويش كان قد اجتذبني نحو التعبد في طريق أكثر رحابة خدمة الوطن والشعب ككل، واعتذرت عن تولي المشيخة وتولاها ابن خالتي.

وفي التكية حيث الهدوء والسكينة النفسية لم يكن ثمة مجال للاقتراب من السياسة حتى تفجرت مظاهرات 1931 كنت في التاسعة عندما شاهدت صخب المتظاهرين وتصادمهم مع البوليس والتقطت أذناي المندهشة هتافاتهم الصاخبة لكن هذا الصخب لم يهز هدوء التكية ولو بأقل قدر حتى كان يوم تصاعد فيه الصخب داخل التكية ذاتها أبي الذي يأتي لعدة أيام كل أسبوع كان ساخطا على مظاهرات المعادين لصدقي أما خالد العائد لتوه من فرنسا حيث حصل على ماجستير في الاقتصاد فكان معاديا لصدقي منددا بدكتاتوريته متشددا في المطالبة بالدستور.

وبدأت أتابع نقاشا صاخبا مرتفع الصوت بين مزارع ثرى يشعر بالامتنان لصدقي الذي أنقذ المزارعين من ديون تراكمت بحيث استحال سدادها وقرر تسوية عادلة ومريحة لهذه الديون فأنقذ بذلك أراضيهم المرتهنة من الضياع وبين شاب متحمس يتمسك بالدستور ويعتبر انتهاكه معصية لا يغفرها أي صلاح.

لم أكن أعي أكثر النقاش لكنها كانت اللمسات السياسية الأولى التي ظلت متبقية في ذاكرتي ولعلها أثارت لدي هواجس وأسئلة غامضة لم تجد إجابة لها إلا بعد سنوات عديدة.

لكن أبي امتنع عن الحديث في السياسة بعد ذهاب صدقي وظل خالي يتحدث دون مقاطعة أو معارضة عن الدستور والديمقراطية وأنا أستمع في انبهار ولعل كلماته وحججه وإلحاحه على ضرورة الديمقراطية قد تركت في تكويني آثارا بقيت حتى الآن.

ومن المدرسة الابتدائية إلى الإبراهيمية الثانوية لعامين وبعدها أصر والدي على أن نترك التكية إلى بيت جديد في شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليا) قرب شارع أحمد سعيد وكان طبيعيا أن أنتقل إلى مدرسة جديدة وهي مدرسة فؤاد الأول وكان واحدة من أكثر المدارس إسهاما في التحركات الطلابية والمظاهرات واندمجت بالطبع وربما رغم أنفي في المناخ السياسي المتفجر عام 1935.

والغريب أنني فيها قد علمت أن أنور السادات كان معي في ذات المدرسة لكنني لم أتعرف عليه فقد كان يسبقني بعدة سنوات كذلك كان زكريا محيي الدين معي في المدرسة لكنه كان في السنة الخامسة أي التوجيهية.

وفي مدرسة فؤاد الأول بدأت في الانغماس في المناخ السياسي العام وشاركت في العديد من المظاهرات ويأتي عام 1936 مصحوبا بالصخب والجدل حول معاهدة 1936وأندمج أنا أكثر فأكثر في المناخ السياسي والمناقشات السياسية مع الطلبة وتسيطر المشاعر الوطنية على الفتى القادم من تكية النقشبندية لتمتزج في تآخي وانسجام تام مع المشاعر الدينية المتدفقة في اعتدال والممتزجة بمحبة الناس كجزء لا ينفصم عن محبة الله.

ومن مدرسة فؤاد الأول إلى فاروق الأول بالعباسية وكانت المشاعر الوطنية تتراكم بصورة واضحة كنا جميعا كذلك مصر كلها كانت في حالة عصبية فالمعاهدة وقعت والإنجليز ما زالو موجدين وهتلر وموسوليني يطرحان أفكارهما التي تجد رواجا لدى البعض وفي أحيان كثيرة يختلط العداء الإنجليزي والاحتلال بالإعجاب بهتلر الذي يملأ قلب الإنجليز رعبا.

ويبدأ إعجابي بأحمد حسين ومصر الفتاة كلماتهم الساخنة في مجلة «الصرخة» كانت تحرك مشاعري بالعداء للاحتلال وبمحبة الوطن.

ثم خطوت أول خطوة باتجاه السياسة في حياتي كان معي في المدرسة طالب اسمه «النشار» وكان قريبا لأحمد حسين ولا يكف مطلقا عن مهاجمته كتبت رسالة لأحمد حسين لأبلغه فيه بهذا الهجوم وأرسل لي ردا يشكرني فيه لكن توجه إلى أسرة زميلي وتسببت رسالتي في مشكلة عائلية.

وفي عام 1938 أحصل على شهادة الثقافة (الصف الرابع الثانوي) وفي هذا العام تحديدا وكانت النية تتجه من فترة إلى توسيع الجيش المصري وزيادة عدده، ورفع مستواه التسليحي والتدريبي استعدادا لاحتمالات نشوب الحرب العالمية الثانية أعلن عن قبول دفعة في الكلية الحربية من الحاصلين على الثقافة العامة بحجة أنهم سوف يستكملون دراسة التوجيهية في الكلية الحربية ويحصلون على توجيهية عسكرية تماثل شهادة إتمام الدراسة الثانوية وفعلا درسنا في الكلية الحربية كيمياء وطبيعة وكل علوم التوجيهية وامتحنا فيها وحصلت على التوجيهية العسكرية ثم أكملت في الكلية الحربية.

والحقيقة أن قصة قبول دفعة الثقافة العام وهو الأمر الذي تكرر مرة واحدة بعد ذلك في عهد حكومة الوفد عام 1942 كانت من أجل عيون إبراهيم خيري وهو واحد من أطهار الملك وكان لدية ابن متعثر في التوجيهية ويريد أن يلحقه بالكلية الحربية فكان له ما أراد واغتنمت أنا الفرصة ودخلت الكلية الحربية.

وحتى الآن كثيرا ما أستعيد هذه الأيام وأسأل نفسي لماذا أقحمت نفسي في هذا الطريق فلم أكن طالبا متعثرا وكان أبي يغرني ويلح علي بأن أحصل على التوجيهية ليرسلني إلى أمريكا لأدرس الزراعة الحديثة وأستمر حتى أحصل على الدكتوراه لكني كنت أندفع باتجاه آخر كانت الروح الوطنية تلهب مشاعرنا نحن الشباب في هذه الفترة وكنا نشعر أن مصر بحاجة إلى جيش حقيقي قادر على حمايتها جيش وطني يعمل من أجل الوطن وليس من أجل قوى أخرى وهكذا تعلقت بفكرة الانضمام إلى الكلية الحربية وبعد معارضة شديدة من أبي وإصرار حاسم مني دخلت الكلية الحربية.

نوفمبر 1938 وبضعة أشهر فوق السادسة عشرة من عمري وقفت في أول طابور بالكلية الحربية الضبط والربط ينبعان هنا ليس من اضطراب الطالب لاتباع الأوامر والتعليمات فثمة شيء ينمو في أعماق الفتى القادم من تكية السادة النقشبندية فالمشاعر الدينية المتدفقة تستضيف إلى جوارها إحساسا مصريا عميقا بحب الوطن وبضرورة أن يكون له جيش وطني بحق قادر على الدفاع عن سيادته بحق.

وأتقبل برضاء تام كل صعوبات الأيام الأولى في الكلية تلك الصعوبات التي تستهدف وعن عمد تطويع القادمين من الحياة المدنية الملكية كما كنا نسميها لتحويلهم إلى عسكريين مشبعين بروح الانضباط.

أستعيد الآن أسماء عديدة تلاقيت معها بالكلية الحربية، مجدي حسنين ولطفي واكد وصلاح هدايت وكانوا دفعتي ثروت عكاشة حسن إبراهيم وكان امباشي وكذلك صلاح سالم أيضا كان امباشي وكمال الدين حسين كان شاويش عبد اللطيف بغدادي كان في نهائي وكان هو وحسن إبراهيم في الطيران يحضران معنا الدراسة في الكلية ثم يذهبان ليتدربا على الطيران.

واستكمل الأسماء زكريا محي الدين كان مدرسا لي في نهائي يوسف صديق وكان مدرسا أيضا وكان أحمد عبد العزيز يدرس لنا «تاريخ عسكري» وكان وطنيا دافق الوطنية وأثر فينا تأثيرا كبيرا.

ولابد أن نتوقف لبعض الوقت لنتساءل: كيف أتى هؤلاء جميعا في هذه الفترة بالذات؟ ولماذا أسهموا جميعا في حركة الضباط الأحرار فيما بعد والإجابة سهلة ففي 1936 وبعد توقيع المعاهدة اتجهت النية لزيادة عدد الجيش ومن ثم زيادة عدد الضباط ولعل الإنجليز أدركوا احتمال الاحتياج إلى قوات مصرية في صدامهم المرتقب مع هتلر فقرروا زيادة الجيش وزيادة تسليحه وتحويله إلى جيش حقيقي.

وقبل 1936كانت الكلية الحربية لا تقبل إلا عددا محددا من الضباط كلهم أبناء الفئات العليا المصرية وكانت الدراسة بها شكلية تخرج ضابطا ليس مطلوبا منهم أيه واجبات قتالية أو عسكرية حقيقية.

وفي الفترة من 19361938 تدفق إلى الكلية الحربية كثيرون من أبناء الطبقة الوسطى وربما الفئات الدنيا منها (صغار موظفين- متوسطي وصغار ملاك- تجار متوسطين.. وهكذا) وأصبحت البرامج أكثر جدية وسرعان ما ذخرت الكلية أساتذة وطلابا بموجة وطنية عالية.

كانت الحرب العالمية الثانية تطل على الجميع لتروعهم وبدأنا في مناقشاتنا الليلية نتحدث عن مشكلة السويد وهولندا وهتلر والإنجليز ثم اشتعلت الحرب وبدأت خريطة العالم تعلن في ساحة الكلية وعليها أسهم بتحرك القوات ولابد لذلك كله أن يخلق مجالا لتراكم النقاش والمشاعر والأفكار.

وكنت أسهم في النقاش، وكانت المشاعر الوطنية تتدفق في رفق لعله كان بعض ما تعلمته من أساتذتي الأول: دراويش النقشبندية.

وفي المكتبة كنت أقرأ كثيرا حول المشكلات الاستراتيجية وقضايا المنطقة وانعكاساتها العسكرية وحرب الدبابات واستهوتني المعارف العسكرية ولعل من يطالع بطاقة الاستعارة من المكتبة الخاصة بالطالب خالد محيي الدين يتخيل أنه منغمس كليا في الشئون والمعارف العسكرية.

لكن المناقشات الخافتة الصوت كانت تجري بيننا والمستشارون العسكريون الإنجليز بالكلية كانوا يحركون مشاعرنا المرهفة وبوجودهم كنا نستشعر حالة هي أقرب إلى الهوان.

وذات يوم همس طالب من دفعتي هو مجدي حسنين في أذني: «شايف اليافطة دي؟

كانت لافتة من الورق مثبتة على باب المستشار البريطاني مكتوب عليها بالإنجليزية المستشار العسكري البريطاني، تهامسنا طويلا وبدأت مشاعرنا تتقد ضد لافتة من الورق مكتوب عليها بالإنجليزية وفي سرية تامة أعددنا لافتة أخرى مكتوبة باللغة العربية وفي المساء تسللنا معا لننزع اللافتة الإنجليزية ونثبت مكانها اللافتة العربية.

عدت إلى سريري ولم أستطع النوم إلا قليلا شيء ما يغلي في داخلي ضد الوجود الإنجليزي في الكلية بعض الخوف يتسلل إلي ماذا لو اكتشفونا؟ وظللت طوال الليل أخمن ماذا سيحدث في طابور الصباح؟

وفي الصباح لم يحدث شيء.

كأن شيئا لم يحدث فقد شاءت إدارة الكلية ألا تضخم هذا العمل وألا تجعل من هذه المشاغبة حديثا مسموحا به بين طلاب الكلية.

ومر الحادث بسلام.

عامان إلا قليلا في الكلية الحربية.

من نوفمبر 1938 حتى سبتمبر 1940

في السنة الأولى حصلت على التوجيهية العسكرية التي مكنتني فيما بعد من الالتحاق بكلية التجارة وفي الثانية أكملت دراستي العسكرية.

وتخرجت برتبة الملازم ثاني وأنا في الثامنة عشرة من عمري لأعمل في الآلاي الأول دبابات «سلاح الفرسان»ولم تمض سوى عدة أسابيع حتى صدمت صدمة شديدة حركت في كل ما تراكم في نفسي من مشاعر وطنية.

الفصل الثاني: ملازم ثان

• وأخذ الإنجليز دباباتنا.

• في 4 فبراير بكي الضباط غيظا.

• أستاذي في الوطنية» العبارة التي أغضبت جمال عبد الناصر.

عثمان فوزي وبداية جديدة.


كنت كما قلت في الثامنة عشرة من عمري وأخذت أزهو بلباسي العسكري المميز لسلاح الفرسان وكانت عبارة الآلاي الأول دبابات» تثير الزهو في نفسي وتثير بنفس القدر الإعجاب لدى الآخرين كان مرتبي اثنى عشر جنيها وهو مرتب ضخم بالمقارنة بأسعار ذلك الزمان، خاصة وأن زملائي في الدارسة كانوا لا يزالون طلابا في الجامعة..

واثنا عشر جنيها لملازم ثان لم تكن قليلة حتى بالنسبة للضباط المتزوجين ومن ثم فإن المشاكل الاجتماعية لم تكن تشغلنا ولم تتداخل كثيرا في مشاعرنا أو تكويننا الفكري.

عدة أسابيع فقط مضت على وأنا أمتلك هذا القدر الكافي من الزهور بعبارة ملازم ثان في الآلاي الأول دبابات فذات صباح ذهبت إلى الآلاي لأجد عددا من الضباط الإنجليز يفحصون الدبابات سألت عما يجري فكانت الإجابة حادة كسكين قاتل الإنجليز سيأخذون دبابتنا كان الجيش الإنجليزي قد تلقى هزائم ساحقة في دنكرك على يد الألمان وفقد الكثير من سلاحه ووجدونا فريسة سهلة فأخذوا دباباتنا كان بالألاي أربع كتائب دبابات فأخذوا دبابات كتائب وتركوا كتيبة واحدة.

إحساسنا بالمرارة لا يمكن أن يوصف وقدر المهانة لا يمكن تحديد حجمه فكيف نكون جيشا بال أسلحة؟ وكيف يأخذ المحتلون سلاحنا وتحولت عبارة «الآلاي الأول دبابات» إلى كلمة ذات طعمك مرير في فمي.

ولأول مرة أشعر من موقعي كضابط في جيش مصر أنني أكره الاحتلال وأنني ضد الاحتلال صحيح أن الوطنية كانت لم تزل إحساسا عاطفيا لكنه بدأ في التدفق متواكبا مع أحداث عديدة صاحبت الحرب العالمية الثانية التي بدأت أحداثها وتداعيات معاركها تجتذب انتباهنا كمصريين وكعسكريين وأخذت جلساتنا في «ميسات» الضباط تصطخب بمناقشات ممتدة حول الأوضاع العالمية والمحلية وبدأنا نتطرق لموضوعات جديدة تماما علينأن فمن الحديث عن هتلر وموسوليني إلى الفاشية ومن الحديث عن صمود الجيوش السوفيتية إلى الشيوعية.. ومن معاداة الفاشية إلى الديمقراطية وهكذا.

وزاد من عمق هذه المشاعر أنني قد اصطدمت بوجود ضباط انجليز في الجيش المصري كانوا مترفعين ويحصلون على مرتبات عالية جدا بالنسبة لنا بما أشعرنا أننا في وطننا وفي جيشنا ضباط من الدرجة الثانية.

حتى نظرة المواطنين العاديين إلينا كانت تمتلك قدرا من الإحساس بذلك فإذا كان الإنجليز يدعون أنهم هو الذين يدافعون عن مصر وكانوا هم الذين يخوضون المعارك الفعلية وإذا كانوا قد أخذوا منا سلاحنا وحتى الدبابات المعطلة أصلحوها وأخذوها وإذا كانا نحن نخدم فقط وراء خطوط القتال فإننا وبرغم معاناة طويلة وحقيقة في حراسة المنشآت وفي خدمات عسكرية عديدة، كنا في نظر العديدين نقوم بواجبات من الدرجة الثانية بينما الإنجليز يقومون بالدور الأساسي.

وبدأ ذلك كله يؤثر فينا ويثير مشاعرنا ضد الإنجليز وبدأت قضية الموقف من الاحتلال الإنجليزي تشكل عنصرا هاما في تفكيري في ذلك الحين.

ثم كان 4 فبراير 1942...

وابتداء أقرر أنني لم أكن أحب الملك لكنني كذلك لا أدعي أنني كنت في ذلك الحين أكرهه كنت أعتبره رمز الوطن وقائد الجيش لكن لم أكن مثل عديد الضباط الذين كانوا يتعلقون بجلالة الملك المفدى ويعتبرونه المثال والقدوة والرمز للوطن والوطنية.

وكان حادث 4 فبراير إهانة مريرة لمصر وللملك وللجيش فاختلطت هذه المسائل معا ولم يكن من السهل الفصل بينها.

الإنجليز حاصروا قصر عابدين بالدبابات وربما كانت ذات الدبابات التي أخذوها منا وعندما تصدى لهم ضباط الحرس الملكي أحمد صالح حسني قبوا عليه ودخلوا بالقوة وهناك أملي اللورد كيلرن إرادة بريطانيا على الملك وأمر بدعوة النحاس باشا لتشكيل وزارة وفدية وبطبيعة الحال يمتلك الوفديون وغيرهم تفسيرات قد تبدو الآن مقنعة لدى البعض فبعض المقربين من القصر الملكي من السياسيين كانوا على علاقة بالمحور والوضع العسكري في جبهة الصحراء الغربية كان سيئا وقد شاهد الناس في فترة لاحقة دخانا كثيفا يتصاعد من مقر المندوب السامي البريطاني كان الإنجليز يحرقون أوراقهم استعدادا للهرب عند اقتراب الألمان ووضعت خطط عديدة لإعاقة تقدمهم بإغراق أجزاء من الدلتا.

كل هذا صحيح.

وصحيح أيضا أن التواطؤ مع الفاشية كان خطأ فادحا وإضرارا شديدا بمصالح الوطن لكن ذلك كله كان يمكن التحدث به في أروقة السياسيين أو بعد هدوء العواصف والعواطف والدخول في تحليلات لأحداث وقعت في الماضي أما ساعتها فقد كان الأمر جد مختلف كانت مشاعري غاضبة بصورة لم أعتد عليهأن وأحسست بمهانة شديدة كمصري وكعسكري.

ولم يكن هذا إحساسي وحدي ربما كنا جميعا كذلك.

محمد نجيب أكد أكثر من مرة أن حادث 4 فبراير كان نقطة تحول في حياته.

عبد الناصر أكدها كثيرا وقبل الثورة تحدث طويلا في رسائله من السودان إلى أحد أصدقاءه في حادث 4 فبراير وتأثيره المباشر على تفكيره وتكوينه وقد نشرت هذه الرسائل في المصور بعد الثورة بعدة سنوات.

وأنا كذلك أقرر كان حادث 4 فبراير نقطة تحول في حياتي.

كان الإحساس قبل 4 فبراير ينمو في أعماقي كنت أستشعر أكثر فأكثر اهتماما بهموم الوطن وانشغالا بها أما بعد 4 فبراير فقد تحول الإحساس الوطني إلى غضب دافق وإلى إحساس بضرورة أن أفعل شيئا ما ولكن أي شيء؟

هذا هو السؤال الذي ظل يقلقني ويدفعني إلى القراءة لكنها كانت قراءة غير منتظمة ولم تستطع أن تقدم لي إجابة تريح ما يعصف بداخلي من مشاعر.

وفي أعقاب الحادث مباشرة أبلغني أحد زملائي بأن هناك اجتماعا في نادي الضباط، ورأيت هناك عثمان فوزي وعديدا ممن أعرفهم وآخرين من ضباط كبار وصغار لم أرهم من قبل.

كان اللقاء عاصفا وغاضبا وحزينا ضباط يبكون مرارة وغيظا وقهرا وآخرون يصرخون بأعلى صوت من فرط الإحساس بالمهانة حوالي 300 أو 400 ضابط يتداولون بحدة فيما يجب أن نفعل يحركهم حسن وطني دافق ويقيدهم الانضباط العسكري طرحت فكرة تنظيم مسيرة إلى قصر عابدين لنعلن للملك رفضنا لما حدث لكن البعض ذكر أو تذكر أن الانضباط يمنع خروج الضباط في مظاهرة أو مسيرة أذكر أن أحمد عبد العزيز وكان ضابطا محترما فقد تعلمنا على يديه في الكلية الحربية دروسا في الوطنية وقف ليعلن أن ضباط الحرس الملكي أحمد صالح حسني قد أضاع فرصة تاريخية لأنه كان يتحتم عليه أن يضرب الضباط الإنجليزي بالرصاص فإن قتلوه كان شهيدا قادرا على أن يقدم لمصر رمزا لرفض الاحتلال ومقاومته وقال ضابط آخر إن ضباط الحرس الملكي طلب إذنا من الملك بضرب النار لكن الملك رفض وأصدر تعليمات مشددة بعدم استخدام القوة.

وربما كان هذا الاجتماع العاصف والذي كان الأول من نوعه تعبيرا عن روح وطنية دافقة معادية للاحتلال اجتاحت الجيش المصري ومهدت بالطبع لانخراط العديد من الضباط في خضم العمل السياسي بحثا عن مخرج لمص وللمصريين في مواجهتهم مع الاحتلال وربما كان هذا الاجتماع أيضا تفسيرا كافيا لافتقاد الوفد لأي نفوذ حقيقي في صفوف الجيش.

وحادث آخر ترك أثرا خطيرا في نفس أعتقل الضابطان أنور السادات وحسن عزت وكان السادات قد رحل إلى ميس المدفعية وبقي حسن عزت في ميس الفرسان بألماظة تحت التحفظ.

جلست طويلا في إعجاب وشغف إلى هذا الضابط المعتقل والمتقد حماسا ووطنية كان يتحدث عن مصر بمحبة دافقة تثير الحمية في أي إنسان كان يحكي عن مصر كوطن عظيم وبإمكانه أن يكون قوة عظمى ويتحدث عن إنجازات محمد علي في الصناعة والزراعة والتعليم ويؤكد أن مصر يمكنها أن تنهض لتضارع كل الدول المتقدمة وكان يلح على واجبنا كشباب وكضباط في فعل شيء من أجل مصر وأن التاريخ سوف يحاسبنا يوما ماذا فعلتهم من أجل وطنكم؟ كانت كلماته ملتهبة ومؤثرة وصادقة.

وكنت اجلس إليه لألتهم هذه الكلمات التي هزتني بصورة حادة ومعها اقتنعت بضرورة أن اعمل من موقعي كضابط على عمل سياسي من أجل مصر ومن أجل تحريرها من سيطرة الاستعمار.

ولقد كان تأثري بكلمات كحسن عزت الدافقة الوطنية كبيرا إلى درجة أنني رتبت معه وسيلة لتهريبه من الميس في حالة استدعائه للمحاكمة ولما كان باب الغرفة المتحفظ عليه فيها في ميس الفرسان يغلق عليه من الخارج فقد قمنا بفك أكرة الباب بحيث يمكنه فتح الباب ومن الداخل كذلك كنت أتعاطف معه أنا وعدد من الضباط إلى درجة أنن كنا نصطحبه إلى خارج القشلاق لنسهر سويا ونعود مساء وأشد أنه لم يخدعنا ولم يحول الهرب منا.

ومرة أخرى أكرر أن تأثري بحسن عزت كان حقيقيا فإليه أرجع الفضل في إقناعي بضرورة الاشتغال بالسياسة دفاعا عن مصالح الوطن ولهذا فعندما طلب مني بعد الثورة أن أكتب مقدمة لكتابه قبلت بترحاب وقلت في كلمتي صراحة أن حسن عزت أستاذي في الوطنية وقد أغضبت هذه العبارة جمال عبد الناصر غضبا شديدا وقال لي: كيف تقول عن حسن عزت أنه أستاذك في الوطنية وهو مشكوك في مواقفه منا فقلت له: هذه مسألة أخرى قد تختلف معه الآن وقد يختلف معنا لكنه فعلا أول من أقنعني بضرورة العمل السياسي وعاد عبد الناصر ليقول غاضبا: لا يليق بعضو مجلس قيادة الثورة أن يعطي هذا التعظيم لواحد مختلف معنا وعدت لأقول: أنا أقرر حقيقة وأنا لا أنسى فضله علي رغم اختلافنا معا الآن وإذ أذكر حسن عزت ولقاءاتي به في ميس الفرسان تتهادى ذكريات أخرى فات مرة طلب مني أن أنقل رسالة إلى ضابط آخر هو عبد اللطيف بغدادي والتقينا معا أكثر من مرة في مناقشات تلمست المسألة الوطنية ودورنا فيها وعن طريق بغدادي تعرفت بوجيه أباظة وانتظمت لقاءاتنا فيما يشبه محاولة للتجمع لكنها ما لبثت أن توقفت بعد إبعاد حسن عزت من القوات المسلحة.

ولابد لي قبل أن أنتقل إلى فصل آخر أن أتحدث عن زميل عزيز كان له تأثير كبير على في مطلع الأربعينيات وهو ضابط الفرسان عثمان فوزي.

وهو ضابط مثقف واسع الاطلاع وكان بحكم إتقانه لعدة لغات منها الإنجليزية والفرنسية والتركية قادرا على ملاحقة الأحداث المتسارعة في عالم الحرب العالمية الثانية وكان شغفه بالقراءة قادرا على نقل عدوى القراءة إلى بعد فترة من تعارفنا تزوج من سيدة أجنبية مثقفة هي الأخرى وشغوفة بالقراءة السيدة ديدار عدس، وكان لهذا الزواج أثره في التقاء عثمان فوزي بالتيار الماركسي الذي كان يسرع بالانتشار في مصر في هذه الفترة.

وفي أيام تعارفنا الأول لم يكن عثمان فوزي قد أصبح ماركسيا بعد لكنه كان يطالع بنهم بحثا عن الإجابات للأسئلة التي تشغل بالنا جميعا كان يقرأ عن الرأسمالية والفاشية والإشتراكية وكل الألغاز الأخرى التي كانت قد تسللت بالفعل إلى عقولنا وأخذت تلح عليها بمزيد من القراءة والتعرف على مكنون هذه الكلمات التي كانت تترد كثيرا في هذه الفترة دون أن نتمكن من التعرف عليها تعرفا صحيحا وعلميا.

وإلى عثمان فوزي يرجع الفضل في الاتجاه بقراءاتي المتشعبة وغير المنظمة إلى قراءة منظمة تتطلع إلى البحث عن إجابات محددة كما أنه قد شجعني على قراءة بعض الكتب الإنجليزية حيث كانت المكتبة العربية فقيرة في ذلك الحين في هذه الموضوعات بالذات.

وحول عثمان فوزي تلاقت مجموعة من ضباط الفرسان يمكن القول بأنها مجموعة تبحث عن طريق جديد لمصر عبر القراءة والتعرف على مختلف النظريات السياسية كان عثمان فوزي هو محور هذه المجموعة ومعه عدد من ضباط الفرسان منهم أحمد مراد، وعبد المجيد كريم وعدنان الصلح وهو ابن عمة عثمان فوزي وأنا وضباط آخر لا أذكر اسمه الآن، كنا مجموعة مشحونة بالعاطفة الوطنية وبحب مصر وبضرورة عمل شيء كي تستقل مصر وتصبح بلدا عظيما.

كل ذلك دون أي تعمق يقودنا نحو توجه سياسي معين وبعدها بقليل أصبح عثمان فوزي ماركسيا.

وهكذا.. .وفي البدايات الأولى تشابكت في داخلي ثلاثة مؤثرات نبعت من ثلاثة أشخاص لم أزل أشعر نحو كل منهم بإحساس عميق بالاحترام والامتنان الذي لا ينسى ولا يتلاشى بمضي الزمن:

عثمان أفندي: درويش الطريقة النقشبندية الذي كان يتفانى في محبة الله عن طريق محبة الناس وخدمتهم.

وحسن عزت: الذي كان يتفجر محبة لمصر وإحساسا بعظمتها وحقها في الاستقلال، وفي أن تصبح دولة عظمى.

وعثمان فوزي: الذي عودني على القراءة المنظمة ذات الأهداف المحددة ويمكن القول بأنه أكسب قراءاتي الطابع العلمي والمنهجي.

وبهؤلاء الثلاثة وفي صحبتهم دوما كنت أسير باحثا عن طريق لي يقودني إلى ساحة أخدم فيها الوطن والشعب وهناك شخص رابع تزاملنا معا وعرفت فيه الطهارة والنقاء والرغبة في العلم والاطلاع على كل جيد هو ثروت عكاشة وقد جمعتنا صداقة حميمة وشغفا للبحث على طريق لإنقاذ مصر، وكان لحبه للعلم والثقافة بمختلف جوانبها أثره الكبير على تكويني ومعرفتي.

ولا شك أن هذا البحث المضني كان باديا على وعلى عدد كبير من الضباط وحلق فوقنا جميعا سؤال كبير: ماذا نفعل؟

كنا نشعر بمأساة الوطن وكانت جراحه تدمي قلوبنا وكنا جاهزين كي نفعل شيئا ولكن أي شيء وفي أي اتجاه؟

وهذا السؤال كان يؤرقني ولابد أنه كان يؤرق عددا كبيرا من الضباط وانطلق كل منا يبحث عن طرق وفي غمار هذا البحث وفي عام 1944 جاءني الضابط عبد المنعم عبد الرؤوف وقال: تعال سأعرفك بضابط يجب أن تتعرف عليه والتقيت لأول مرة بجمال عبد الناصر.


الفصل الثالث: أنا وعبد الناصر والإخوان

• لقاء جزيرة الشاي.

• مع الإخوان.. ولكن

• أقسمنا على المصحف والمسدس.

• ثم انسحبنا بهدوء...


كنا في نهاية عام 1944 وكانت الحيرة تغلفنا جميعا بحثا عن طرق لنا ولمصر وذات يوم مر علي عبد المنعم عبد الرؤوف وعرض علي أن نلتقي بضابط آخر يحمل ذات الهموم ويبحث عن إجابات لذات الأسئلة، وأخذني لأقابل جمال عبد الناصر.

وكان لقائي الأول معه..

لكن عبد المنعم عبد الرؤوف ما لبث أن طلب مني أن يعرفني بضابط آخر .. وأخذني إلى جزيرة الشاي في حديثة الحيوان حيث قابلت الصاغ محمود لبيب الذي عرفت فيما بعد أنه مسئول الجناح العسكري في الإخوان المسلمين .

ذهب في لقائي لأول ومعي عثمان فوزي، وبدأ محمود لبيب يتكلم في تؤدة ويتطرق إلى موضوع الدين دون تعجل كان يعرف أن محركنا الأساسي هو القضية الوطنية فظل يتحدث عن هذا الموضوع ولكن بنكهة إسلامية وكنت ألح في استخرجا إجابات محددة عن أسئلة شغلت بالي طويلا الوطن وكيف سنحرره وبأية وسيلة؟ وما هو الموقف من المفاوضات؟ وكان يجيب هو في حذر وذكاء لم يكن يريد أن يخسرني بإلقاء الإجابات التقليدية للإخوان كان يقول: مصر سيحررها رجالها وشباب القوات المسلحة هم قوتها الضاربة وكلام من هذا القبيل.

اشتم عثمان فوزي رائحة الإخوان من الحديث وقال لي ونحن عائدان من مقابلتنا:

هذه جماعة خطرة وضارة لكنني كنت سعيدا بالمقابلة وقلت إن الوطن بحاجة إلى تضحية والاتجاه الإسلامي يمكنه أن يبث في الشباب روح التضحية.

صمم عثمان فوزي على موقفه وانسحب ولم يحضر مرة أخرى، وواصلت أنا مقابلاتي مع محمود لبيب وفي مرة تالية حضر اللقاء جمال عبد الناصر فعبد المنعم عبد الرؤوف قابلني بجمال كل منا على انفراد بمحمود لبيب.

وبدأت علاقة من نوع غريب مع جماعة الإخوان وتكونت مجموعة عسكرية تضم العديد من الضباط ولم نعد نلتقي في أماكن عامة وإنما بدأن نعقد اجتماعات منتظمة في البيوت فكنا نجتمع في بيت مجدي حسنين وأحيانا في بيت الضابط أحمد مظهر( وهو نفس أحمد مظهر الفنان) وفي هذه اللقاءات الإخوانية كان يحضر معنا جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين وحسين حموده وحسين الشافعي وسعد توفيق وصلاح خليفة وعبد اللطيف بغدادي وحسن إبراهيم كانت علاقة الإخوان بهذه المجموعة من الضباط تتسم بالحساسية ففجأة وجد الإخوان أنفسهم أمام كنز من الضباط المستعيد لعمل أي شيء من أجل الوطن.


لكن هؤلاء الضباط لم يكونوا على ذات الدرجة من الولاء للجماعة فمثلا صلاح خليفة حسن حمودة كانا من الإخوان قلبا وقالبا أما الآخرون فكانوا مجرد عناصر تبحث عن طريق لسنا ضد الإخوان بل نحن معهم لكننا لسنا معهم بالكامل فعبد الناصر مثلا كان يعتقد أن الإخوان يريدون استغلالنا كضباط لنكون أداة في أيديهم ونعطيهم مكانة سياسية بوجود نفوذ لهم في الجيش لكنهم لن يقدموا شيئا للقضية الوطنية وكان جمال يلح في الاجتماعات: إذا كان لديكم نصف مليون عضو وأربعة آلاف شعبة فلماذا لا نبدأ بعمليات ضرب ضد الاحتلال، ومظاهرات وتحركات جماهيرية؟

وكنت أنا دوما عنصرا مثيرا للقلق في الاجتماعات كان عثمان فوزي يلاحقني بالكتب ويدعوني إلى الاهتمام بالقضايا الاجتماعية وفيما يبدو أنه كان قد أصبح على علاقة فعلية بالحركة الشيوعية لأنه في ذلك الحين أحضر لي كتابا ذا غلاف أخضر مطبوعا بالعربية لروجيه جارودي هو «الاقتصاد محرك التاريخ» وبنهم قرأت الكتاب لأكتشف أن إجابات عديدة بدأت تتلاحق ولأربط بين مصر وبين المصريين بين تحرير الوطن وبين تحرير المواطن وبدأت مشكلات الوطن الاجتماعية تشغل جزءا هاما من تفكيري وبدأت ألح على محمود لبيب في اجتماعاتنا: ما هو برنامج الجماعة؟ فيجيب الشرعية كنت أقول: كلنا مسلمون ولكنا نؤمن بالشريعة لكن تحديدا ماذا سنفعل لتحرير الوطن، هل سنخوض كفاحا مسلحا أم نقبل بالتفاوض؟ وماذا سنقدم للشعب في مختلف المجالات في التعليم والإسكان والزراعة وغيرها من القضايا الاجتماعية وكان محمود لبيب يزوغ من الإجابة وأنا أطارده وانتهى الأمر بأن أحضر لنا الأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان.

وللحقيقة كان حسن البنا يمتلك مقدرة فذة على الإقناع وعلى التسلل إلى نفوس مستمعيه وكان قوي الحجة واسع الاطلاع وفي اللقاء الأول معه بدأنا نحن بالحديث وطرحنا أنا وعبد الناصر آراءنا وعندما تكلم البنا أفهمنا بهدوء وذكاء أن الجماعة تعاملنا معاملة خاصة ولا تتطلب منا نفس الولاء الكامل الذي تتطلبه من العضو العادي وقال: نحن الإخوان كبهو واسع الأرجاء يمكن لأي مسلم أن يدخله من أي مدخل لينهل منه ما يشاء فالذي يريد التصوف يجد لدينا تصوفا ومن يريد أن يتفقه في دينه فنحن جاهزون ومن يريد رياضة وكشافة يجدها لدينا ومن يريد نضالا وكفاحا مسلحا يجدهما وأنتم أتيتم إلينا بهدف القضية الوطنية فأهلا وسهلا.

تناقشنا معه وكان رحب الصدر ألححت في ضرورة إعلان برنامج قلت: لن نستطيع أن نكس الشعب بدون برنامج واضح يقدم حلولا عملية لمشاكل الناس وأجاب: لو وضعت برنامجا لأرضيت البعض وأغضبت البعض سأكسب ناسا وأخسر آخرين وأنا لا أريد ذلك.

وتتالت مقابلاتنا مع حسن البنا وقد كان يمتلك حججا كثيرة لكنها لم تكن كافية ولا مقنعة بالنسبة لأكثرنا وظل عبد الناصر مستريبا في أن الجماعة تريد أن تستخدمنا كمجموعة ضباط لتحقق أهدافها الخاصة وظللت أنا والي قراءة ما يزودني به عثمان فوزي من كتب وأزداد إلحاحا في مناقشاتي على ضرورة وضع برنامج للجماعة يحدد أهدافها الوطنية وموقفها من مطالب الفئات المختلفة وبدأت ف هذه المناقشات أنحو منحى يساريا وأصبحت نشازا في مجموعة من المفترض أنها تابعة للإخوان المسلمين.

وأخيرا حاول حسن البنا أن يشدنا إلى الجماعة برباط وثيق وتقرر ضمن أنا وجمال عبد الناصر إلى الجهاز السري للجماعة ربما لأننا الأكثر فعالية وتأثيرا في المجموعة ومن ثم فإن كسبنا بشكل نهائي يعني كسب المجموعة بأكملها وربما لأننا كنا نتحدث كثيرا عن الوطن والقضية الوطنية ومن ثم فقد تصور حسن البنا أن ضمنا للجهاز السري حيث التدريب على السلاح والعمل المسلح يمكنه أن يرضي اندفاعنا الوطني ويكفل ارتباطا وثيقا بالجماعة.

المهم اتصل بنا صلاح خليفة وأخذنا أنا وجمال عبد الناصر إلى بيت قديم في حي الدرب الأحمر باتجاه السيدة زينب وهناك قابلنا عبد الرحمن السندي المسئول الأول للجهاز السري للإخوان في ذلك الحين وأدخلونا إلى غرفة مظلمة تماما و استمعنا إلى صوت أعتقد أنه صوت صالح عشماوي ووضعنا في يدنا على مصحف ومسدس، ورددنا خلف هذا الصوت يمين الطاعة للمرشد العام في المنشط والمكره (الخير والشر) وأعلنا بيعتنا التامة الكاملة والشاملة له على كتاب الله وسنة رسوله.

وبرغم هذه الطقوس المفترض فيها أن تهز المشاعر فإنها لم تترك إلا أثرا محدودا سواء في نفس عبد الناصر أو نفسي.

وعلى أية حال بدأنا بعدها عملنا في الجهاز السري أخذونا للتدريب في منطقة قريبة من حلوان وطبعا كنا نحن ضباط نفهم في السلاح أكثر ممن يدربوننا وكان عبد الناصر يبدو ممتعضا من ذلك وبدأنا نستشعر حالة من الاغتراب عن الجماعة.

وأتى عام 1946 ليجد مصر في مد وطني عارم، وتحركت جماهير شعبية واسعة تحت شعارات اللجنة الوطنية للطلبة والعمال وإذ التهبت المظاهرات وتساقط الشهداء وتزايد الصدام مع الحكم قررت الحكومة الاستعانة بالجيش في مواجهة المظاهرات.

وتقرر إرسالي ضمن قوة من الفرسان إلى المنصورة لمواجهة المظاهرات بها وكان معي من الضباط ثروت عكاشة وعسكرت قوتنا في منزل عائلة نور بشاعر البحر قرب سينما رويال وبقينا هناك حوالي شهر ونصف الشهر هناك جرى نقاش طويل بيني وبين ثروت عكاش: كيف نضرب المواطنين الذين يتظاهرون طلبا للاستقلال؟ وكيف نعتبر أنفسنا وطنيين إذا سمحنا للحكومة أن تستغلنا في سحق الحركة الوطنية المعادية للاحتلال وتعاهدنا ألا نسمح باستخدام الجيش ضد الشعب.

لكن المظاهرات ازدادا اشتعالا في المنصور بصورة كبيرة وعندما سقط أحد الطلاب شهيدا برصاص مباشرة من ضباط بوليس التهبت البلدة وعجز البوليس عن السيطرة على المظاهرات وطلب الحكمدار منا أن ننزل لنفرق المظاهرات.

كان قائد القوة الضابط عبد الخالق كامل وكان برتبة بكباشي وهو ابن لضابط مصري وأم سودانية وذهبت إليه وأنا وثروت عكاشة وقلنا له: لا يجوز أن تنزل قواتنا إلا إذا قدم لنا حكمدار البوليس طلبا كتابيا يعلن فيه أنه عاجز عن حفظ الأمن بالبلدة إقرار منع بعجزه وفشله وقلنا للبكباشي عبد الخالق كامل: إذا كنت تريدنا أن ننزل إلى البلدة فلا بد أن ينسحب البوليس نهائيا ونحن على استعداد للتفاهم مع الأهالي. ورفض حكمدار البوليس ذلك أيضا. وهكذا تخلصنا من مأزق حقيقي وضع واجباتنا العسكرية كضباط ف مواجهة واجباتنا الوطنية ولم تشارك قوتنا في أي عملية قمع للمظاهرات وظللنا هناك لمدة شهر ونصف الشهر دون أي عمل ثم عدنا إلى القاهرة.

وأعود مرة أخرى إلى علاقتنا بجماعة الإخوان كانت الأحداث السياسية تتسارع وكشفت جماعة الإخوان عن وجهها السياسي وتصرفت كجماعة سياسية وتخلت عن دعاوي النقاء الديني ولما كانت بحاجة إلى صحيفة يومية وورق صحف في ظل أزمة شديدة في الورق تقاربت من إسماعيل صدقي وحصلت في مقابل تقاربها هذا على ما أرادت من دعم.

كذلك وقفت الجماعة ضد اللجنة الوطنية للطلبة والعمال وحاولت أن تشكل جماعة أخرى بالتعاون مع إسماعيل صدقي وبدنا نحس أنهم مثل أي سياسيين آخرين يفضلون مصلحتهم ومصلحة جماعتهم على ما ينادون به من مبادئ وعلى مصلحة الوطن وتحادثت طويلا مع جمال عبد الناصر حول علاقتنا بالجماعة وأفضى جمال لي بمخاوفه من أن الجماعة تستخدمنا كضباط لمصالحها الذاتية وليس لمصلحة الوطن وأفضيت له بمشاعري واتفقنا أننا قد تورطنا أكثر مما يجب مع هذه الجماعة وأنه يجب أن ننسحب منها.

لكنه لا يمكن أن ونقول إننا في يوم كذا انسحبنا من الجماعة فقط أصبحت الشكوك تملؤنا وأصبحنا على غير وفاق وغير متحمسين وبدأن نتباعد أنا وجمال وربما بدأت الجماعة هي أيضا تستشعر أننا لا نمتلك الولاء الكافي فبدأت تتباعد عنا.

وتدريجيا يأتي عام 1947 ليجد علاقتنا جمال وأنا وقد أصبحت باهتة تماما مع جماعة الإخوان ولكنني كنت لم أزل على علاقتي الحميمة بعثمان فوزي وكان لم يزل يزودني من حين لآخر بكتب لأقرأها وباليقين كان عثمان فوزي قد أصبح عضوا ف جماعة أسكرا.

وفي يناير أو فبراير 1947 قابلني صديقي هو أحمد فؤاد وكان وكيل نيابة وكنا أعضاء معا في نادي القاهرة النهري حيث كنت أمارس رياضة التجديف قابلني أحمد فؤاد وقال أريد أن نجلس معا لنتحادث فجلسنا وتحادثنا ومنذ اللحظة الأولى أحسست أن لعثمان فوزي علاقة بهذا اللقاء.


الفصل الرابع: من الإخوان إلى أيسكرا

• المرور في أيسكرا دون إقامة.

• الثالوث الغريب: عبد الناصر – عبد الرؤوف- يوسف رشاد.

• وقال الطالب ياسر عرفات: أنت تتكلم كالتقدميين.

• مقابلة عبد الناصر وعبد الهادي وبداية العمل الجاد.


في أوائل 1947 يناير أو فبراير لا أذكر تحديدا التقيت بأحمد فؤاد ولست أعتقد أن الأمر تم بالمصادفة فقد كان أحمد يبحث عني والحقيقة أننا كنا صديقين قدامى، فقد تزاملنا في المدرسة الناصرية الابتدائية وتلاقينا كثيرا في نادي القاهرة النهري وكثيرا ما تشاركنا التجديف معا وعندما رآني قال دون مقدمات: هل تمانع في أن نجلس سويا كنت أعرف أنه وكيل نيابة وأنه شيوعي ولم أمانع في أن نجلس سويا كنت أعرف أنه وكيل نيابة وأنه شيوعي ولم أمانع في مقابلته وفي المقابلة حضر علي الشلقاني المحامي وتحدثنا مباشرة ودون لف أو دوران وعرضا علي الدخول في منظمة أيسكرا الشيوعية هذا الطلب المباشر أوحى إلي أن عثمان فوزي قد أعطاهما معلومات عني وأن هذه المعلومات قد منحتهما القدرة على هذه المفاتحة المباشرة.

ولم أمانع..

كنت لم أزل أبحث عن طريق لي يقودني كي أضع نفسي في خدمة مصر كي أهبها ما أستطيع من أجل حريتها واستقلالها وتقدمها.

وتحدد لي موعد..

وبطبيعة الحال لست أذكر التفاصيل لكنني حضرت اجتماعا لخلية شيوعية في منزل في حي السكاكيني أظن أنه في شارع الشيخ قمر.

مجموعة من الشباب ليس فيهم أي عسكريين وفيما أذكر كان أحدهم موظفا في شركة سكك حديد الدلتا وكان المسئول واسمه الصحن شابا لم يستطيع أن يكتسب لا ثقتي ولا رغبتي في مواصلة الالتقاء معه كانت الماركية مشوشة في رأسه بصورة غير عادية ولا شك أنه كان حديث العهد بها وأنها اختلطت في ذهنه بأشياء عديدة منها الإلحاد مثلا وأشياء من هذا القبيل.

ولعل «أيسكرا »لم تكن موفقة إذ نظمتني وأنا ضابط فرسان في خلية مسئولها باشكاتب في سلاح الفرسان وفي الشئون الإدارية، وهكذا تكاتفت أشياء عدة لتمنع مسيرتي مع أيسكرا من التواصل والشيء الغريب أنني وبعد أن انقطعت عن أيسكرا عاود أحمد فؤاد الاتصال بي فلما حكيت له عن تجربتي غير الموفقة مع الصحن قال: لقد تركنا سريعا ولم يبق معنا طويلا وتلقيت واحدا من أهم دروس حياتي في التعامل مع اليساريين وهو أن التطرف الشديد والحماس المبالغ فيه والتشنج ليست دليلا على قدرة المناضل اليساري على الاستمرار في المعركة بل لعلها إيحاء بالعكس وكان الصحن نموذجا لهذا كله.

ولكن هذا التلامس المتعجل مع أيسكرا لم يمض بلا أثر ففي الاجتماعات القليلة التي حضرتها مع الخلية تعلمت ولأول مرة في حياتي ما يمكن تسميته القراءة المنهجية والمدققة كنت أتسلم منهم أحد الكتب الماركسية ويطلب مني قراءة متأنية ثم تلخيصه ثم عرضه ومناقشته في الخلية وهكذا تحول الفهم المتعجل للاشتراكية إلى فهم أكثر تدقيقا أو ما يمكن تسميته بالإدراك الواعي للاشتراكية وقد أثر في هذا الأسلوب في الدراسة تأثيرا كبيرا ومن خلاله انطلقت إلى فهم رحب للاشتراكية ولم أزل وحتى الآن أذكر سعادتي وأنا أستشعر استيعابي الواعي لأول كتاب تسلمته خلال عضويتي في الخلية وهو الإشتراكية أين ولماذا وكيف؟ وكيف قمت بحوارات ممتعة حول هذا الكتاب وغيره في اجتماعات الخلية.

قلت تكاتفت أشياء عدة لتمنع مسيرتي مع أيسكرا من الاستمرار فبعد ثلاثة أو أربعة أشهر من العلاقة غير الموفقة وبينما استشعر التردد إزاء استمرارها فوجئت بقرار نقلي إلى سلاح الحدود وأبلغت أحمد فؤاد وسألني متى يمكنك أن تعود قلت: بعد حوالي خمس سنوات، وهنا أخذ أحمد فؤاد في الإلحاح بضرورة أن أجد طريقة لعودتي عاجلا من الحدود.

كان أحمد فؤاد متفائلا أو لعله كان منبهرا بالتقدم المتسارع الذي كانت تحققه الحركة الشيوعية في ذلك الحين والذي وصفه لي خلال إلحاحه علي بضرورة السعي لإلغاء النقل قائلا: نحن ننمو ونتوسع بمتواليات هندسية ولن تمض عدة سنوات حتى نكون قريبين من الاستيلاء على السلطة ومن ثم فهناك ضرورة ملحة لأن تكون هنا.

وطبعا كانت عملية نقلي لسلاح الحدود أحد العوامل التي أدت إلى تباعدي بهدوء عن اجتماعات الخلية ومن ثم تباعدي عن منظمة «أيسكرا » نفس التباعد الهادئ والممتد إلى أمد أي غير المباغث الذي لحق بي أو لحقت به بعد انضمامي إلى الجهاز السري لجماعة الإخوان.

ولم تكن هذه هي كل أسباب التباعد كان هناك أيضا قرار تقسيم فلسطين وموافقة الشيوعيين عليه وكنت ضد قرار التقسيم وكنت أعتقد أن فيه اعتداء على حقوق الشعب الفلسطيني ولست أذكر كنت أرفض قبول الشيوعيين للقرار لكنني كنت أستشعر الظلم الواقع على الفلسطينيين وضرورة تقديم العون والمساعدة لهم، ومن ثم فقد كنت ضمن التيار العام الذي ساد الوطن والجيش معا بضرورة التدخل المسلم لمساندة الفلسطينيين ولعلي في ذلك الحين لم أناقش أو أتعمق في فهم ما إذا كان الجيش المصري مستعدا لمثل هذه الحرب أم لا بل اكتفيت كغيري بالتعبير عن مشاعر التضامن مع الفلسطينيين وضرورة التدخل لمساندتهم.

وهكذا أضيف سببا جديدا لينسج مساحة التباعد وبيني وبين أيسكرا ولعل هذه العوامل التي أسرعت ودون تأن لتلاحق علاقتي بالشيوعيين هي التي دفعتني إلى عدم مفاتحة زميل البحث الدائب عن طريق لنا ولمصر جمال عبد الناصر في مشاركتي في الانضمام لأيسكرا ربما لهذا السبب وربما لأنني كنت قد عدت للاتصال بعبد الناصر بعد فترة انقطاع طويلة وكانت المناسبة أننا دعيا كضباط لحضور مباراة في الملاكمة بين الجيش المصري والجيس البريطاني في قشلاق قصر النيل وهناك التقيت بعبد الناصر وطلب إلي أن أزوره دون انتظار لاتصال من عبد المنعم عبد الرؤوف أو غيره، وبالفعل بدأت أزوره من حين لآخر لنتداول في ذات الموضوع الذي يلاحقنا جمعا: ماذا يجب أن نفعل وكيف ومتى ومع من.؟

وأصبحت العلاقة مع جمال متصلة ولما علم بنقلي إلى سلاح الحدود فوجئت به يزورني هو وعبد المنعم عبد الرؤوف وفاجأني مفاجأة لم تزل تحيرني حتى الآن..

قال جمال وعبد المنعم عبد الرؤوف أنهما يستطيعان تدبير عملية إلغاء نقلي لسلاح الحدود وإعادتي إلى الفرسان وبأسرع ما يمكن.

وعندما أبديت دهشتي قالا إن النقل سيلغى بواسطة القصر الملكي وتحديدا بواسطة يوسف رشاد وقد كان يوسف رشاد هو يد الملك التي يحركها وسط ضباط الجيش.

وأبديت المزيد من الدهشة وشرح لي جمال الأمر بهدوئه المعتاد، وقال: لقد تلقيت رسالة من يوسف رشاد يقول فيها إنه على استعداد للتعامل معنا وفهمت أن الرسالة جاءت عن طريق عبد المنعم عبد الرؤوف وبهذه المناسبة أقرر أن عبد الناصر لم يلتق أبدا بيوسف رشاد وإن كان قد تعامل معه عن طريق آخرين منهم عبد المنعم والسادات ومصطفى كمال صدقي وواصل جمال حديثه قائلا: لم أبد اعتراضا وقلت إننا على استعداد للتعامل أيضا فقال يوسف رشاد: بإمكانكم أن ترشحوا لنا ضباطا يمكن الاعتماد عليهم لنقلهم إلى أماكن مهمة فقد نحتاج إليهم في المستقبل وقال جمال: وبما أنك منقول إلى الحدود فقد قدمنا أمسك بأمل أن يعيدوك إلى الفرسان لتكون معنا ونحن بهذا لن نخسر شيئا فأنت كنت مبعدا فعلا فإن رجعت كان خيرأن وإن لم ترجع فأنت فعلا مبعد إلى الحدود..

وقد ناقشت الأمر طويلا مع جمال وعبد الرؤوف ولم أصدق أن بالإمكان نقلي من الحدود وتصورت أن الأمر مجرد خدعة للتعرف على اسم ضابط أو أكثر من الضباط الوطنيين.

ولم تزل هذه الواقعة تحيرني حتى الآن.. وتحيرني معها ظاهرة عبد المنعم عبد الرؤوف فقد كان وثيق الصلة بالإخوان ووثيق الصلة بعبد الناصر حتى بعد أن تركنا معا جماعة الإخوان ووثيق الصلة بعزيز المصري ثم هو همزة الوصل مع القصر الملكي وتحديدا مع يوسف رشاد.

ولكن وحتى لا أكون متجنيا فإنني ومع اعتقادي بأن عبد الرؤوف هو الذي نقل الرسائل بين عبد الناصر ويوسف رشاد فإن هناك احتمالا أن يكون صاحب العلاقة المباشرة مع يوسف رشاد هو الضابط مصطفى كمال صدقي الذي كان يؤسس في ذلك الحين مجموعة «الحرس الحديدي» والتي كانت على علاقة وثيقة بيوسف رشاد.

المهم هو أن المعجزة قد تحققت وعلى غير المألوف وغير المتوقع لم أبق في سلاح الحدود سوى شهرين أو ثلاثة وتقرر نقلي من جديد إلى الفرسان وكان الضابط الذي حضر للتسليم مني في الحدود قبل العودة للفرسان لطفي واكد، وبقينا سويا لمدة أسبوع للتسلم وطرحت عليه ما يمر بأسي من أفكار ففوجئت به يقول إنه مسلم اشتراكي فأعجبني الكلام وبعد أن بدأنا تأسيس الضباط الأحرار علمت من عبد الناصر أنه عضو معنا وقد لعب لطفي واكد دورا هاما في الثورة وتشاء الصدف أننا أسسنا سويا حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي في عام 1976.

وعدت من الحدود مندهشا لألتقي بعبد الناصر الذي طلب مني أن أكف عن أي نشاط سياسي أو أي اتصالات غير عادية بالضباط لفترة طويلة وقال: لقد عرفوا اسمك ولابد أنهم سيراقبونك ويتتبعون حركاتك لأننا نحن الذين رشحناك وإن كنا قلنا لهم ونحن نقدم لهم اسمك إنك مجرد ضابط جدع ويمكن الاعتماد عليك..

وأذكر أنني وبعد فترة كنت عائدا من مهمة في الصعيد بالقطار مع أحد الضباط ذوي العلاقة بالقصر الملكي وهو الملازم سيد جاد وخلال الرحلة أفرط هذا الضابط في شرب الخمر حتى سكر بعض الشيء وقال لي إن يوسف رشاد يعتقد أنك ضابط يساري لكنه لا يملك شيئا ضدك.

المهم عدت من الحدود وإلى الإسكندرية توجهت إلى بيت خالتي لأخطب سميرة ابنتها وبعد قليل تزوجنا وكان هذا الزواج واحدا من أهم العوامل التي دفعتني لمواصلة طريقي نحو الهدف الذي أنشد أن أقدم شيئا لوطني فقد كانت زوجتي مصرية ومخلصة بكل ما تحمل هذه الكلمات من معنى لم تكن تقف في طريقي على الإطلاق وكانت تعتبر أن محبتها لي وإخلاصها كزوجة يحتمان عليها ألا تعرقل مسيرتي نحو هدفي الذي رسمته لنفسي لأكون دوما في خدمة الوطن وكم مرة على وعليها لحظات صعبة وفترات مليئة بالخطر ومع ذلك لم تشعرني في أي لحظة بأنها غير راضية عما أفعل أو حتى خائفة مما أفعل إن توفيق من الله ليهيئ لي مسيرتي نحو هدفي.

وبعد عودتي من الحدود كانت الأمور قد بدأت في التبلور في ذهني على الأقل كنا في نهايات عام 1947 وبدايات عام 1948 وكانت مصر تعيش فترة غليان شديدة، إضرابات عديدة منها الأخطر والأكثر إثارة وهو إضراب ضباط البوليس وإضراب الممرضين والمعلمين إلخ، والقضية الوطنية لم تحل صحيح أن الإنجليز قد رحلوا من المدن تحت ضغط الحركة الوطنية المظاهرات الصاخبة التي قادتها اللجنة الوطنية للطلبة والعمال إلا أنهم يزالوا في مدن القناة بل لم يزالوا بنفوذهم وسيطرتهم في القاهرة وفي مجلس الوزراء وفي القصر الملكي وحتى عرض قضية مصر في مجلس الأمن لم يحقق سوى المزيد من الصلف الإنجليزي والتشدد إزاء المطالب الوطنية مما زاد من التهاب مشاعرنا الوطنية والقضية الفلسطينية تتفجر هي الأخرى لتثير معها مشاعري ومشاعر المصريين جميعا.

وأحسست أنني مقبل لا محالة على مواجهة صعبة وقلت لنفسي إذا فصلوني من الجيش لأي سبب أعيش أنا وزوجتي ولأول مرة في حياتي بدأت أشعر بمسئولية رب الأسرة الذي يتعين عليه أن يضع مستقبلها في حساباته وبدأت أفكر في الالتحاق بكلية التجارة لأحصل على البكالوريوس كضمان لمستقبل ضابط مؤهل في أية لحظة للتصادم الذي قد يقود إلى مخاطر لعل أقلها هو الفصل من الخدمة العسكرية.

وكان الضابط صلاح هدايت دفعتي في الكلية الحربية تساوره نفس الرغبة فقد كان يطمح الالتحاق بكلية العلوم لتطوير معارفه العسكرية كضباط مدفعية وكان والده أحمد بك هدايت سكرتيرا عاما لجامعة فؤاد الأول سابقا (جامعة القاهرة حاليا) فأكد لنا أن التوجيهية العسكرية يمكن معادلتها بالتوجيهية العادية، وبالفعل تقدمنا إلى مجلس الجامعة بطلبنا مرفقا به شهادات من الكلية الحربية بالعلوم التي درسناها في التوجيهية العسكرية وتمت الموافقة على طلبنا.

لكن المشكلة الأصعب هي كيف ننتظم في الدارسة؟ صلاح هدايت وجد واسطة ما ونجح في الانتقال إلى إدارة التدريب الجامعي حيث يعمل عدد من ضباط الجيش في تدريب الطلاب الجامعيين على الخدمة العسكرية كضباط احتياط أثناء الدراسة كبديل للتجنيد بعد التخرج.

ونجحت أنا أيضا في الانتقال من الفرسان إلى التدريب الجامعي وكانت المسألة صعبة للغاية لكنني كنت على صداقة في نادي التجديف بشخص اسمه عمر شيرين وكان زوج عمته حيدر باشا وزير الحربية آنذاك وعمر شرين هذا كان زميلي في فريق التجديف وكان زميلي في القارب في بطولة التجديف ونجح فعلا في ترتيب نقلي.

وهكذا كنت موجودا وبشكل دائم في مبنى الجامعة كان طابور التدرب لمدة ساعتين فقط من 7 إلى 9 صباحا وطوال اليوم أتفرغ للدراسة، أخلع السترة العسكرية وأدخل كطالب عادي إلى المدرج وقد ساعدتني فترة الدارسة هذه من أكتوبر 1947 وحتى 1951 على الاندماج مع الطلاب ومتابعة مناقشاتهم الصاخبة دون أن أشارك فيها بالطبع فأنا في نهاية الأمر ضابط في القوات المسلحة كذلك أفادتني دراستي في كلية التجارة في توسيع معارفي فقد درست الاقتصاد والمحاسبة وإدارة الأعمال دراسة منهجية وفي عام 1951 حصلت على البكالوريوس شعبة محاسبة وهكذا.

ومع تصاعد الأحداث الفلسطينية بدأنا أيضا في تدريب عدد من المتطوعين العرب بناء على طلب من جامعة الدول العربية وكان عدد هؤلاء المتطوعين حوالي 3000 متطوع من مختلف البلدان العربية.

وفي هذه المرحلة التقيت بياسر عرفات كان يحضر طوابير التدريب وكان عرفات الطالب آنذاك بكلية الهندسة نموذجا للجندي الجاد الملتزم الراغب في لتعرف وبأسرع ما يمكن على مختلف الفنون العسكرية فتقاربنا من بعضنا البعض وأذكر أنني أركبته معي في السيارة لأوصله إلى مكان ما وتحدثنا معا في مختلف الشئون وفجأة قال لي: تعرف يا حضرة الضابط أنت تتكلم مثل التقدميين وسألته في دهشة إزاي؟ فقال: نحن نتناقش مع الطلاب ونعرف اتجاهاتهم من أسلوبهم في الكلام ولهذا يمكنني أن أعرف من طرقة مناقشتك أنك تقدمي.

واستوعبت الدرس وعرفت كيف يمكن أن أدير حوارا دون أن أكشف عن اتجاهي. وذات يوم جاءني ثروت عكاشة ليبلغني رسالة خطيرة من جمال عبد الناصر كنا تحديدا في يونيو 1949 وكنت منهمكا في امتحانات السنة الثانية بكلية التجارة وكانت الرسالة خطيرة فعلا فقد ضبط لدي الجهاز السري للإخوان كتاب من كتب الجيش الممنوع تداولها للأفراد المدنيين والتي يقتصر توزيعها على ضباط الجيش وهو كتاب عن كيفية استخدام القنابل اليدوية.. وفي أعلى الصفحة الأولى للكتاب وجد اسم «اليوزباشي جمال عبد الناصر«اليوزباشي جمال عبد الناصر»

وأثارت هذه الواقعة مخاوف الحكم من أن يكون للإخوان امتدادا داخل القوات المسلحة وبالفعل ولفرط اهتمام الحكم بهذا الموضوع تولى التحقيق فيه إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء بنفسه وهكذا استدعي جمال عبد الناصر ومعه الفريق عثمان المهدي رئيس أركان حرب الجيش لمقابلة رئيس الوزراء وسأله عبد الهادي: هل هذا الكتاب لك؟ فقال نعم وسأله: هل لك علاقة بالإخوان، فقال كنت أعرف ضابطا منهم اسمه أنور الصيحي وقال عبد الهادي: ولمن سلمت هذا الكتاب؟ فقال عبد الناصر: استعاره مني أنور الصيحي وسأله عبد الهادي: وأين هو؟ فقال جمال استشهد في حرب فلسطين وهنا ثار عبد الهادي ودق المكتب بيده غاضبا وصاح: أنت يا أفندي بتضحك عليا أنتو عايزين تخربوا البلد أنتو فاهمين أيه البلد دي لا تحتمل إن واحد جريجي ببنطلون مزيت تحصل له أي حاجة وإلا كان الأجانب يبهدلونا انتم لا تعرفون مدى الخطورة في أن ضابط جيش يشتغل مع الإخوان ووسط هذه الثورة تذكر جمال أن في جيب بنطلونه ورقة خطيرة أعتقد أنها كانت الأصل الخطي لبيان سياسي وفي أثناء هذه الثورة أيضا دق التليفون أنشغل عبد الهادي بالمكالمة واستأذن جمال في الذهاب إلى دورة المياه ليتخلص من الورطة التي في جيبه ويعود ليجد عبد الهادي وقد هدأ قليلا وإن كان قد واصل تهديده وقال في النهاية: أن سيادة الفريق عثمان المهدي قال عنك كلام كويس ولولا هذا أنا كنت وديتك في داهية ومن الآن فصاعد أنت ضابط جيش وبس لا علاقة لك بأحد.

واعتبر عبد الناصر أن هذه المقابلة بمثابة إنذار وقرر أن نبدأ عملا جادا حتى لا نؤخذ على غرة دون أن نكون مستعدين أو حتى دون أن نفعل شيئا جادا من أجل الوطن.

ومن هنا طلب ثروت عكاشة مني أن أسرع بزيارة عبد الناصر لكنني اعتذرت لأنني مشغول بالامتحانات وقلت سوف أزوره فو الانتهاء من الامتحان.

وبالفعل توجهت إليه لنبدأ عملا جادا

وتشكل الخلية الأولى للضباط الأحرار لكنننا لم نكن وحدنا.


الفصل الخامس: لم نكن وحدنا

• الضابط الأحرار الخلية الأولى.

جمال منصور وزملاؤه.

• الحرس الحديدي والملك.

عزيز المصري نقطة إشعاع.

• حاولت أن أكون إرهابيا وفشلت.

• عندما التقى عبد الناصر بالرفيق بدر.


انتهيت من الامتحان وسريعا اتصلت بجمال عبد الناصر وفي بيته عقد الاجتماع الأول للخلية الأولى لتنظيم «الضباط الأحرار» جمال .. وعبد المنعم عبد الرؤوف وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم وأنا وبدأ جمال بالحديث وقال: أنا معايا عبد الحكيم عامر وأنتم طبعا عارفين لكنه لم يستطع الحضور اليوم وتحدث طويلا عن مغزى مقابلته مع إبراهيم عبد الهادي وكيف أنه أصبح من المحتم علينا أن فعل شيئا وأن ننظم أنفسنا وقال: كل واحد منا يشتغل ويحاول يكون مجموعة في سلاحه وهكذا يمكن أن نصبح قوة منظمة وقادرة على فعل شيء.

أنها الخلية الأولى واجتماعها الأول في النصف الثاني من عام 1949 أقرر هذا وأكرره لأن الكثيرين حاولوا تقديم روايات مختلفة فالمرحوم أنور السادات قال برواية أخرى ..وآخرين أيضا.

ولست أريد أن أنفي عن هؤلاء أنهم كانوا يعملون في الجيش معنا أو حتى قبلنا فلقد تمكن بعضهم من إقامة مجموعات منظمة في الجيش قبل الضباط الأحرار» ولكنها كانت شيئا غير «الضباط الأحرار»

ومن هذه المجموعات كانت مجموعة جمال منصور وكانت تضم عددا من الضباط منهم مصطفى نصير سعد عبد الحفيظ عبد الفتاح أبو الفضل عبد الحميد كفافي وآخرين وقد أصدرت هذه المجموعة عدة منشورات وانتهى الأمر بالقبض على عدد منهم وبدأت في الجيش حملة واسعة لجمع تبرعات لأسر الضباط منهم مصطفى نصير سعد عبد الحفيظ عبد الفتاح أبو الفضل عبد الحميد كفافي وآخرين، وقد أصدرت هذه المجموعة عدة منشورات وانتهى الأمر بالقبض على عدد منهم وبدأت في الجيش حملة واسعة لجمع تبرعات لأسر الضباط المعتقلين وكانت حملة التضامن هذه أحد العوامل المشجعة والمعبرة عن وجود حالة ثورية ووطنية في صفوف الضباط ولعل واقعة جمع التبرعات للضباط المقبوض عليهم هي التي أوحت إلى عبد الناصر بعد انتصار الثورة بصرف مرتب كل ضابط يلقي القبض عليه حتى لا يتيح الفرصة لأي تحرك متعاطف معه.

وكانت هناك أيضا مجموعة «الحرس الحديدي» بزعامة مصطفى كمال صدقي وقد ضمت عددا من الضباط منهم حسن فهمي عبد المجيد وخالد فوزي وسيد جاد.

وحتى لا يساء فهم الأمور أود أن أوضح أن الملك كان في منتصف الأربعينات لم يزل محبوبا من قطاعات من الجيش وكان البعض منهم يعتبر أو ولاءه للمك هو جزء من ولائه لمصر وأنه يكمل عداءه للاستعمار ولعملاء الاستعمار ومن هنا فقد قام يوسف رشاد بإقامة علاقة مع بعض الضباط ومنهم مصطفى كمال صدقي ومجموعته المسماة الحرس الحديدي» وكان القصر يحرك هذه المجموعة لارتكاب أعمال إرهابية ضد خصومة السياسيين بحجة أنهم عملاء للاستعمار وفعلا قام الحرس الحديدي بأكثر من محاولة لاغتيال النحاس باشا.

وكثيرا ما كان الملك يقدم نفسه لقطاع من الضباط بأنه وطني ويريد تطهيرا لبلاد من عملاء الاستعمار وهكذا فإن مجموعة أخرى من الجيش هي مجموعة أنور السادات وكانت تضم في أكثرها عناصر مدنية مثل حسين توفيق وسعد كامل وإبراهيم كامل وغيرهم قامت باغتيال أمين عثمان احتجاجا على قوله: «إن العلاقات بين مصر وبريطانيا هي علاقة زواج كاثوليكي»

وقد أكد أنور السادات في مذكراته أنه كان على علاقة بيوسف رشاد وأن رشاد هو الذي أعاده إلى الخدمة في الجيش بعد فصله منه.

والحقيقة أنه كانت هناك تجمعات عديدة في الجيش.. فقد لاحظنا مثلا في عام 1947 توزيع عدد من المنشورات تحمل اسم «الجمعية العسكرية لاتحاد رجال البوليس والجيش» وكان شعار هذه الجمعية يحمل طابعا رومانسيا وهو السعادة للجميع وكانت المنشورات تحمل في بدايتها إرشادات وتحذيرات: «الكتمان سر النجاح» و «اقرأ سرا أنت وزملاؤك» و «ويل للخائن» وهناك كذلك الفريق عزيز المصري وكان شخصية مهيبة ومحترمة في صفوف الضباط وكان يمثل نقطة إشعاع للعمل الوطني في الجيش لكنه لم يكن يؤمن بالعمل الجماعي المنظم الذي يستهدف تحقيق تحرك جماهيري لتغيير الأوضاع بل كان يركز أساسا على «الاغتيال الفردي»

وخلال محاولاتي المستمرة للبحث عن طريق كان من الطبيعي أن ألتقى بعزيز المصري وقد رتب المقابلة أحد أقاربي وهو الأستاذ كمال يعقوب، وعندما جلست إلى عزيز المصري، أحسست أنني أقترب من رجل يعشق الوطنية ويتنفسها ويعيش من أجلها وكان حماسه دافقا وأفقه واسعا ولكنه كان متمترسا دون أية رغبة في التزحزح عن فكرة الاغتيالات الفردية وقد كان ضابطا لفترة من الوقت في الجيش التركي وأطلع على تجربة الحركة الوطنية البلغارية، وأثرت فيه تأثيرا حاسما وظل يردد أمامي ولمرات عديدة ودون ملل: نحن لن نستطيع أن نواجه الإنجليز ولا أن نهزمهم فهم أكثر قوة وأحسن تسليحا لكننا نستطيع أن نقتل الخونة واحدا واحدأن فإن فعلنا ذلك خوف الناس من التعامل مع الإنجليز أو حتى الاقتراب منهم ولقد فعل البلغار ذلك قتلوا الخونة واحدة بعد الآخر فلم يجرؤ أحد على التعامل مع الأتراك.

وظل عزيز المصري نقطة ارتكاز هامة يتطلع إليها كل ضابط وطني يريد أن يفعل شيئا من أجل مصر ولكنه توقف عند حدود الإرهاب الفردي وتشبث به ولا شك أنه قد أثر بأفكاره هذه هي الكثيرين ومنهم عبد الناصر وأنا وكثيرون غيرنا.

ولعله من السهل الآن الحديث مطولا عن خطر اللجوء للإرهاب الفردي لكن أعوام 1945و 1946و 1947 شهدت عديدا من هذه المحاولات لعل مبعثها هو ما أشار إليه عزيز المصري من صعوبة المواجهة المباشرة أو حتى غير المباشرة مع الاحتلال ومن ثم فقد تصور البعض أن بالإمكان ضرب الاحتلال من خلال ضرب أعوانه وإرهابهم، أو أن بالإمكان تفجير المشاعر الوطنية في الجماهير عن طريق سلسلة من الأعمال الإرهابية ضد الخونة وعملاء الاستعمار.

قلت أنني قد تأثرت لفترة بفكرة الاغتيالات وبالفعل في عام 1946 حاولت ربما في تردد أن أسهم في محاولة لاغتيال أحد المرشحين لعضوية مجلس الشيوخ لأنه حاول الاستعانة بالإنجليز ضد الحكومة المصرية وقد حضر إلى حسن عزت بحكم علاقة الصداقة القديمة وروي لي قصة هذا الرجل وكيف أنه رشح نفسه في انتخابات مجلس الشيوخ عن دائرة بولاق ولما زار اللورد ستنجست مصر توجه إليه هذا المرشح واشتكى له من أن الحكومة تحاربه في الانتخابات وطلب تدخله لوقف الحكومة المصرية عند حدها.

واعتبرنا الرجل خائنا وأخذ حسن عزت يلح علي في ضرورة التخلص منه ليكون عبرة لكل الخونة ولست أخفي أنني احتقرت الرجل واحتقرت فعلته لكن الوازع الديني الكامن دوما في أعماقي كان ينفرني من فكرة سفك دم إنسان مهما اختلفت معه وظل حسن عزت يلح علي حتى قبلت وكان دوري في العملية يقتصر على أن أشتري سيارة وأن أقودها بينما يقوم هو بعملية الاغتيال ثم يركب السيارة لأسرع بها هاربا.

اشتريت السيارة وذهبت أنا وحسن عزت وانتظرت في السيارة مترقبا وصول الرجل كان نوازع عديدة تعتصرني: وازعي الديني وأحاسيس الوطنية الدافقة، والفهم المشوش وغير المستقر لفكرة النضال الوطني، واستمرت هذه الصراعات تعتصرني بينما الوقت يتحرك بطيئا بل لعله لم يكن يتحرك أصلا ولكن الرجل لم يحضر وفشلت المحاولة.

ولعلها المرة الوحيدة التي سعد فيها سعادة غامرة لأنني فشلت في تحقيق هدفي، والحقيقة أن عوامل الصراع النفسي العاصف التي حاصرتني وأنا قابع في السيارة في انتظار الهدف قد حصنتني فيما بعد إزاء فكرة الاغتيالات وقررت أن أرفضها رفضا مطلقا.

ولقد وقع عبد الناصر هو أيضا في ذات الخطأ في المحاولة الشهيرة لاغتيال حسين سري عامر،وقد فشلت هذه المحاولة أيضا والحقيقة أن جمال قد قام بهذه العملية دون التشاور معها في تنظيم الضباط الأحرار ولهذا وبعد أن فشلت العملية أثار صلاح سالم هذا الموضوع في أول اجتماع عقدناه بعد المحاولة الفاشلة وقد وجه صلاح سالم نقدا لاذعا لجمال عبد الناصر بسبب قيامه بهذه العملية دون استئذان من التنظيم أو حتى دون إخطاره وقال صلاح لنفرض أنكم قبض عليكم كنتم ستورطون التنظيم بأكمله في عملية كهذه وكنت ستجهضون كل ما نريد أن نفعل وقد تقبل عبد الناصر النقد وتعهد بعدم تكرار مثل هذا العمل.

وما دمنا نتحدث عن التكوينات المنظمة داخل الجيش فلابد أن نشير إلى أن منظمة حدتو (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) كانت قد نجحت هي أيضا في إقامة تنظيم متكامل داخل القوات المسلحة وكان أحمد فؤاد قد أصبح مسئولا عن هذا التنظيم.

وأذكر أنني التقيت في عام 1950 بأحمد فؤاد وكان قد أصبح قاضيا وبادرني بسؤال مباشر كعادته: مش حنشوفك؟ وبدأت معه نقاشا مطولا حول تجربتي غير الناجحة مع أيسكرا ومع الشخص الذي أوصلني به وهو الصحن وقلت: لقد أثار الصحن مسائل متعلقة بالدين وأنا أريد أن أبدا أية علاقة جديدة أن أعرف تحديدا وعلى وجه الدقة ما هو موقفكم من الدين.

وتحدث أحمد فؤاد حديثا طويلا عن احترامهم العميق للدين وقال: نحن نحترم الدين ولا يمكن أن نمسه والذي قال لك عكس ذلك أحمق ولابد أن تعرف أن هذا الرجل قد بادر بالفرار لدى أول ضربة بوليسية لكنه كان حريصا على أن يؤكد لي أيضا أنهم ضد استخدام الدين ستارا لحركات سياسية أو لتحقيق أهداف سياسية ووافقته على ذلك.

وبعد أن استرحت من هذه الزاوية صارحته بأنني أسهم في قيادة تنظيم الضباط الأحرار، واهتم أحمد فؤاد بهذا الخبر اهتماما كبيرا وطلب إلى أن أرتب له مقابلة مع جمال عبد الناصر كقائد لهذا التنظيم.

وبالفعل دعوت عبد الناصر إلى بيتي وعندما حضر كان فؤاد موجودا وبدأ أحمد فؤاد في الحديث تكلم كيرا عن الحاجة إلى عمل جماهيري لتصحيح الأوضاع وتجاوب معه جمال عبد بشكل ملحوظ وعندما انتهت المقابلة سألني جمال عن الرجل فقلت إنه مسئول في منظمة حدتو ، وأبدى إعجابه الشديد به وقال: راجل كويس وكلامه كويس ومعقول، ثم سألني فجأة: هل رتبت هذا اللقاء عن عمد؟ فقلت: نعم ولم يبد عبد الناصر أية حساسية من التعامل مع الشيوعيين فقد كنا أنا وهو نعتقد بأن الاتجاه الاشتراكي هو بالضرورة اتجاه قريب منا ومن حركتنا.

لكنني أقمت علاقة منفردة ومن نوع خاص مع أحمد فؤاد فقد بدأ يمدني بعديد من الكتب وكذلك النشرات الحزبية واعتبرني على علاقة بحدتو ولكن بصورة فردية، وذلك لأنني كنت عضوا ف قيادة الضباط الأحرار وهذا وضع حساس سواء من ناحية الأمن أو من الناحية السياسية والحقيقة أنني كنت معجبا إعجابا خاصا بأحمد فؤاد وربما لو أن أحدا غيره قد عاود الاتصال بي بعد تجربتي الأولى غير الناجحة لما استجبت له كما أنني قد فضلت هذه العلاقة الفردية لأنني وجدت أنه من غير الملائم أن أكون أحد قادة تنظيم الضباط الأحرار بينما أتلقى أوامر أو تعليمات تنظيمية من جماعة أخرى أو تنظيم آخر.

وقد ظلت علاقتي الفردية هذه الفترة من الوقت وأثمرت علاقة منظمة بين حدتو وتنظيم الضباط الأحرار فقد عرض أحمد فؤاد فكرة انضمام ضباط حدتو لتنظيمنا ووافق عبد الناصر لكنه اشترط كعادته أن ينضم الأعضاء فرادى أي كأفراد وليس كمجموعة منظمة ولكي أكون واضحا فإن هذا الشرط كان شرطا دائما عند عبد الناصر فعندما عرضت عليه فكرة التوحيد مع مجموعة جمال منصور رفض مسألة التوحيد وأصر على أن ينضم أعضاء المجموعة فرادى إلى التنظيم وقبل جمال منصور ذلك كذلك قبل أحمد فؤاد أو بالدقة قبلت حدتو .

وبدأ تنظيم « الضباط الأحرار» يفتح أبوابه للشيوعيين من أعضاء حدتو ، وانضم إلنا عدد لا بأس به منهم ولن أستطيع أن أورد كل الأسماء ولا حتى أكثرها فقط سأورد بعضا منها فقد انضم إلينا محمود المناسترلي ود. محمود القويسني وصلاح السحرتي وجمال علام وأمال المرصفي وأحمد قدري وغيرهم أما عثمان فوزي فقد كان أحد مؤسسي مجموعة الضباط الأحرار في سلاح الفرسان واندمج هؤلاء الضباط في مجموعات التنظيم وأسهموا إسهاما كبيرا في عملنا وخاصة في توزيع المنشورات بالبريد كذلك أسهمت حدتو فيما بعد في طباعة منشورات الضباط الأحرار كما أسهم ضباطها إسهاما نشيطا وفاعلا معنا ليلة 23 يوليو.

واستمرت علاقتي مع أحمد فؤاد وكان عبد الناصر يلقى معنا لتناقش طويلا في التطورات السياسية وموقفنا منها وازداد إعجاب جمال بأحمد فؤاد لكنه لم يفكر أبدا في الانضمام لحدتو ليس بسبب أية حساسية سياسية وإنما لأنه لم يكن يرد لمنظمته أن تخضع لأي تأثير من خارجها.

وأذكر أنني وجمال توجهنا يوما لزيارة أحمد فؤاد في بيته ووجدنا عنده شخص قدمه لنا قائلا:

الرفيق بدر» وقد تحدث حديثا سياسيا مبهرا سواء بالنسبة لي أو بالنسبة لجمال.

كانت هناك أحداث سياسية خطيرة (1951) سواء في مصر أو في سوريا حيث وقع انقلاب عسكري جديد وكانت الصورة مرتبكة أمامنا لكن بدر تحدث ممتلكا لرؤية صافية تماما واستطاع أن يفسر لنا الأحداث تفسيرا مقنعا وملهما في آن واحد.

انحنيت على أحمد فؤاد هامسا: مين ده؟ وأجاب همسا: السكرتير العام.

وعندما نزلت من بيت أحمد فؤاد كان عبد الناصر لم يزل منبهرا بهذه الشخصية الغامضة والواسعة الأفق وبينما نهبط السلم سألني: مين الرفيق بدر ده؟

قلت: السكرتير العام للحركة الديمقراطية للتحرير الوطني...

فقال: بيشتغل أيه؟

قلت: السكرتير العام...

وكرر السؤال لأكرر الإجابة أخيرا سألني بحدة: يعني كان بيشتغل أيه قبل ما يبقى سكرتير عام؟ وتذكرت أن عثمان فوزي قد حدثني طويلا عن الرفيق بدر، وكيف أنه كان قائدا لفرع منظمة «حدتو » وسط ميكانيكي الطيران وكيف أنه وهو الميكانيكي استطاع أن يكون نفسه فكريا وسياسيا ليصبح سياسيا وقائدا يستحق الإعجاب.

قلت في بساطة: ميكانيكي.

وصاح عبد الناصر: ميكانيكي .. يعمي أنت ممكن تبقى عضو في الحزب ده وتتلقى أوامر من ميكانيكي..

فقلت: المسألة مش مسألة أوامر وإنما هي مسألة اقتناع بفكرة.

لكن مسألة «الميكانيكي» هذه ظلت عالقة في ذهن عبد الناصر وظل يرددها دوما وأحيانا في تهكم وأحيان في استنكار وحتى بعد الثورة وفي اجتماعات مجلس قيادة الثورة مقال مرة مشيرا إلى: ده زعيمه ميكانيكي.


الفصل السادس: من الخلية الأولى إلى المنشور الأول

وفلسطين هي الجرح.

• من خلية إلى تنظيم.

• المنشور الأول .. الخطوة الحاسمة.

• رحلة آلة الرونيو..

• وأصبح جمال صديقا للرفيق..


ولم أزل حتى الآن وكلما عدت بالذاكرة إلى جلستنا الأول في بيت عبد الناصر بكوبري القبة وإلى ما تلاها من جلسات لم أزل أتذكر جيدا كيف كانت حرب فلسطين هي الجرح الحقيقي في قلب كل منا.

عبد الناصر كان في الفالوجا حوصر وصمد وفي خنادقها تفتحت مواهبه العسكرية والقيادية وبرز كضابط شجاع ووطني قادر على الصمود والتضحية وعلى امتلاك رؤية استراتيجية صافية فقد كان يرى ضرورة إيجاد سبيل للانسحاب من الفالوجا حتى لا تصبح القوات المصرية المحاصرة ورقة فيد المفاوض الإسرائيلي.

وزكريا محيي الدين وصلاح سالم كانا هناك أيضا في الفالوجا ذهبا مع قافلة تحمل طعاما وذخيرة للقوات المحاصرة وبقيا هناك.

عبد المنعم عبد الرؤوف وحسن فهمي عبد المجيد وكمال الدين حسين تطوعوا للحرب في فلسطين قبل دخول القوات المصرية وسافروا مع كتيبة الجامعة العربية تحت قيادة أحمد عبد العزيز وكان الجيش قد وضع تقليدا جديدا وهو أن الضابط الذي يريد أن يتطوع في حرب فلسطين يمكنه الحصول على إجازة مفتوحة وفور عودته يلتحق مرة أخرى بالقوات المسلحة.

وأنا كنت في إدارة التدريب الجامعي وفي مناخ الحماس الدافق اتصلنا عن طريق قائدنا بالجامعة العربية التي تفاهمت مع قيادة الجيش وتم الاتفاق على إقامة مركز تدريب للمتطوعين العرب في هايكستب وقد دربنا الكثيرين حوالي ثلاث أو أربعة آلاف كانت هناك كتيبتان من السعوديين أي ألف فرد تقريبا وحوالي كتيبة من السودانيين وفلسطينيين من النازحين تحت ضغط الإرهاب الصهيوني دربناهم وأعيدوا للقتال في فلسطين كما كان هناك عدد من التونسيين.

وأعددنا برنامج تدريب سريعا يستغرق حوالي شهر وقد شاركني في هذه المهمة عدد من الضباط الوطنين.

وكنت أواصل عملي أيضا في إدارة التدريب الجامعي وكل صباح كنت ألتقي بالمظاهرات الطلابية الدافقة الحماس والمستمرة بلا انقطاع تهتف من الأعماق فلسطين بايعناك وبالأرواح نفديك و أين السلاح يا عزام؟ ( وكان عبد الرحمن عزام باشا أمينا للجامعة العربية) و «أين حيفا يا عزام» وأعترف أن هذه المظاهرات الطلابية المشحونة بالوطنية والحماس قد سيطرة على مشاعري ولعلها كانت أحد الأسباب التي باعدت وبحسم بيني وبين أيسكرا عندما أيد الشيوعيون قرار التقسيم وسرى الحماس الدافق إلى قلبي لأرغه في عملية تدريب متواصلة وشاقة للمتطوعين العرب الذين كانوا يتدربون هم أيضا في حماس مثير للدهشة وللحمية الوطنية أيضا. هذا الحماس الذي جرفنا جميعا معه في تيار هادر ما لبث أن تحول إلى سخط وكنا نحن الضباط الشبان الأكثر سخطا في المجتمع فالجرح أصابنا نحن، ونحن الذين واجهنا المحنة القاسية وسهام العدو أصابت كرامتنا كأشخاص وكمؤسسة فكيف لمجموعة من المتطوعين كنا نسميهم العصابات الصهيونية أن تهزم جيوش سبع دول هي بالضرورة أكثر عددا وأكثر تسليحا؟ كيف؟ ولماذا؟

هذا هو السؤال الدامي والملح الذي اقتادنا كمجموعة من الضباط للبحث عن إجابة.

كنا ومنذ البداية نعرف أن الجيش ليس لدية ذخيرة كافية الوحدات لم يكن لديها سوى ذخيرة تكفي ليوم أو يومين على الأكثر لكن المسئولين عن البلد وعن الجيش وعن المأساة أكدوا أن ليدنا كميات كبيرة من الذخيرة في المخازن ثم همسوا في ادعاء ساذج ودهاء بان الإنجليز سوف يقدمون لنا ما نريد من سلاح وذخيرة.

ولم يحدث ولم يقتصر الأمر على نقص الذخيرة ولا حتى على قصة الأسلحة الفاسدة التي استخدمت في اعتقادي كستار لإخفاء فساد نظام بأكمله فالجيش كان خاوي في أعماقه ونقص الذخيرة أدى بالوحدات إلى القيام بعمليات ضرب نار للتدريب مرة واحدة في العام، وهو بكل المعايير غير كاف على الإطلاق.

فوق هذا كان التدريب القتالي مفتقدا ولعله كان هناك تعمد لافتقاده ولعلك عزيز القارئ تدهش إذ تعلم أن الجيش المصري قد ألقى به إلى أتون الحرب الفلسطينية ليس فقط بلا سلاح كاف ولا ذخيرة كافية وليس فقط بسلاح فاسد وإنما أيضا وهذا هو المثير للدهشة والريبة معا دون أن يقوم بأية مناورة للتدريب العملي طوال سنتين أو ثلاث سنوات سابقة على حرب 1948.

وهكذا ألقى بالجيش إلى أتون حرب لم يكن مستعدا لها.

وفي الحرب البرية حيث يكون العدو محصنا في تحصينات ثابتة ومجهزة مسبقا كتلك التي كانت تحيط بالمستعمرات الإسرائيلية فإن الجندي والضابط معا يجب أن يكونا في أعلى درجات التدريب كي يمكنهما اقتحام هذه المواقع الحصينة.

لقد ذهب الجنود والضباط إلى الحرب مشحونين بشحنات من الحماس الدافق والوطنية والرغبة الحقيقية في التضحية ولكنهم فوجئوا بالعدو وهو متمترس في دشم محصنة وأمام مثل هذه الدشم أنت بحاجة إلى قوة نيران عالية ثم قدرة على المناورة ثم الهجوم لكن رجالنا افتقدوا قوة النيران والأسلحة الثقيلة فهاجموا الدشم بالمدرعات الخفيفة وكانوا فريسة سهلة للإسرائيليين.

أنها مسألة بسيطة لا تحتاج إلى عبقرية عسكرية ويعرفها أي طالب مبتدئ في الكلية الحربية وهي أن قوة النيران العالية ضرورية لاقتحام الموقع الحصينة وكل طالب في الكلية الحربية يعرف أن نابليون هزم في معركة «وترللو» لأن الإنجليز استدرجوا فرسانه إلى الهجوم على مواقع المشاة المحصنة.

وحتى هذه المعلومات الأولية لم تطبق في هذه الحرب البائسة التي خرجنا منها جميعا ونحن في حالة ثورة عارمة.

لكن الناس تختلف عن بعضها البعض.

فالبعض عاد من حرب فلسطين محبطا ومهزوما في أعماقه والبعض عاد مشحونا بغضب عارم، ورغبة في الانتقام لمصر التي أهينت وللجيش الذي غرر به وامتهنت كرامته.

وفي جلستنا الأولى تحدثنا طويلا عن الأسباب: حكومات الأقلية الخاضعة للملك والخاضعة للإنجليز ضعيفة لا تقاوم ولا ترفض طلبا لا للملك ولا للإنجليز ومن ثم خضعت وأرسلت جيشنا ليهزم هزيمة دامية جارحة لكرامة كل مصري وكل عربي.

حكومات كهذه لا يمكنها أن تقدم شيئا للوطن أو للشعب ولا يمكنها أن تكون قادرة على تحقيق مصر التي نحلم بها.

ولابد إذن من ديمقراطية حقيقية ولابد من حزب يمثل أغلبية هذا الشعب ويعمل لصالحه ويستمد من تمثيله للشعب ومن التصاقه بمصالحه القدرة على مواجهة الملك وعلى مواجهة السراي.

والملك كان قد سقط تماما وكمل رصيده الذي معه منذ 1936 وحتى 1942 وكل ولاء الضباط له كل ذلك انتهى تماما على عتبات الأرض الفلسطينية وتهاوى تحت طلقات المدافع هناك.

عند هذه الحدود توقفنا نحن أعضاء الخلية الأولى.

عندما كنا نتحدث عن الديمقراطية لم نكن نقصد شكلا محددا وعندما تحدثنا عن حزب للأغلبية لم نكن نقصد حزبا بذاته وكنا نتحدث عن النهوض بمصر وعن جيش قوي وعن تحقيق مطالب الشعب دون أن تتسلل إلى نقاشاتنا أية تفاصيل ودون أن نشغل أنفسنا في البحث عن أي منهما.

كنا ندرك أن أمامنا مسئولية ما للإسهام في تحقيق ذلك لكننا لم نسأل أنفسنا ما هي هذه المسؤولية وماذا يجب علينا أن نفعل تحديدا؟

لكننا أحسسنا أننا بحاجة إلى قوة ما أو بالدقة أحسسنا أننا نمتلك نوايا حسنة وأحلاما طيبة للوطن والشعب والجيش ولكننا بحاجة إلى الاستقواء بفريق منظم من الضباط يمكنه أن يفعل شيئا ما لهذا الوطن.

أقول هذا وألح عليه لأنني قرأت كتابات للبعض يحاولون فيها تقديمنا وكأننا كنا نمتلك الحكمة كل الحكمة وأننا أو أي منا قد وضع خطة معلومة الأهداف تمتد من خريف 1949 حيث عهدنا الجلسة الأول للخلية الأولى وحتى ليلة 23 يوليو حيث استولينا على السلطة وهو ما لم يحدث مطلقا.

وفي الجلسة الأولى، ومنذ أن احتوتنا غرفة الصالون في بيت عبد الناصر بكوبري القبة تولي جمال القيادة دون عناء دون عناء ودون قرار منه أو منا...

كان الأعلى رتبة هو بكباشي وكنا أقل منه ربتبة، أنا كنتب يوزباشي وكمال الدين حسين كان يوزباشي ولكن أقدم مني، صحيح أن عبد المنعم عبد الرؤوف كان أقدم من جمال لكن جمال كان صاحب الفكرة وصاحب الدعوة وكان دوما ومنذ دخلنا معا الإخوان المسلمين هو الرافض لفكرة احتوائنا داخل الجماعة والمدرك لأهمية وجود تنظيم مستقل لنا وكان فكر عبد الناصر مرتبا في هذه الجلسة الأولى وسألني في البداية: طبعا عرفت حكاية إبراهيم عبد الهادي فقلت: أيوه ومن هذه الحكاية بدا الحديث والحقيقة يميل إلى الشك والتوجس من الآخرين فكيف يهتم رئيس الوزراء وهو بطبيعته يميل إلى الشك والتوجس من الآخرين فكيف يهتم رئيس الوزراء بموضوع كهذا والجميع يعرفون أن كتب الجيش متاحة ومتداولة لابد أنهم يرتبون شيئا لنا.

ومن هذا الشك والتوجس اللذين لازماه دوما بدأ عبد الناصر خطوته الأولى في حديثه معنا ثم سأل: إذا كنا قد هزمنا أمام مجموعات متطوعين من الإسرائيليين فكيف سنواجه الإنجليز؟ وكيف سنحرر الوطن؟ ومن هذه النقطة انطلق إلى فكرة أن مصر بحاجة إلى قوة منظمة في الجيش تكون قادرة على الدفاع عنها وعن استقلالها.

لم يكن أي منا بحاجة إلى إقناع كنا مقتنعين أصلأن بل متلهفين على عمل أي شيء، واتفقنا وأحاول أن أستعيد هذه اللحظات لأتذكر أننا وافقنا ببساطة أو بالدقة اتفقنا ببساطة لم تكن ثمة طقوس كتلك التي مارسناها في الإخوان فنحن نعرف بعضنا البعض، ونثق في بعضنا البعض. اتفقنا على أن نلتقي في اجتماعات متقاربة واتفقنا على أن يعمل كل منا في سلاحه لتجمع عدد من الضباط.

وكنا نحن الخمسة موزعين على أسلحة مختلفة: جمال.. مشاة عبد المنعم عبد الرؤوف مشاة كمال الدين حسين مدفعية حسن إبراهيم طيران وأنا فرسان.

كنا خمسة وأكد عبد الناصر أن عبد الحكيم عامر معنا وإن لم يحضر وقال إنه لا يخفي عنه شيئا

وطبعا تحدثنا عن أهمية الحيطة وتداولنا في بعض الإجراءات الأمنية البسيطة، والحقيقة أن جهاز أمن الجيش كان بسيطا ومن ثم فقد قمنا بنشاطنا بكم الحيطة يتلاءم مع بساطة أجهزة الأمن في الجيش.

وتقابلت مباشرة مع ثروت عكاشة وكان معي في الفرسان لكنه كان منتدبا لإدارة التدريب الحربي وأنا كنت أيضا بعيدا عن الفرسان في إدارة التدريب الجامعي وقد وافق ثروت على الانضمام لنا على الفور وأحسست أن جمال كان قد أبلغه باجتماعنا وبعدها اتصلت بعثمان فوزي وكان في الخيالة وهي تابعة لسلاح الفرسان.

وعثمان شيوعي قديم، وهو أول من أطلعني على الأدبيات الماركسية وقد ناقشني طويلا وسأل عن برنامج تنظيم الضباط الأحرار قلت: ببساطة البرنامج هو تحرير مصر وقال: إن هذا لا يكفي ولابد من تحديده ولكنني أكدت أو الوقت غير مناسب للحديث التفصيلي عن مطالب اجتماعية أو أي شيء من هذا القبيل، وأن الهدف هو إقامة تنظيم وطني في القوات المسلحة وعندما نصبح قوة يمكننا أن نقدم لمصر ولشعبها الحماية الكافية وأبدى عثمان مخاوفه وتحفظاته من احتمال وجود رغبة لدى البعض في حكم البلاد حكما عسكريا وأكدت له أن هذا لا يخطر ببالنا وبرغم تحفظاته فقد وافق على العمل معنا وقد كان اتصالي بعثمان فوزي بداية للتوسع الحقيقي فقد قام على الفور بتجنيد ثلاث ضباط من سلاح الفرسان: فاروق توفيق عفت عبد الحليم وعثمان الكتبي ولابد من الإشارة هنا إلى أن عثمان فوزي قد تصرف بذكاء وأمانة في آن واحد، فلم يحاول أن يدخل إلى التنظيم أي من الضباط الشيوعيين بل أتى بضباط وطنيين عاديين.

وهكذا أصبحنا ستة ضباط من سلاح الفرسان.

ثم اتصلت بجمال منصور وهو أيضا من الفرسان وكان قد نقل معي إلى إدارة التدريب الجامعي وبدأنا نقاشا مستفيضا عن أوضاع الوطن وكنت أعرف قصة مجموعته القديمة فقال: أنا أتصل بالمجموعة ونتفق على الانضمام إليكم ونعمل تنظيما واحدا وترددت إزاء فكرة توحيد المجموعتين معا وكنت أعرف أن جمال عبد الناصر هو أيضا ضد هذه الفكرة وفعلا قابلت جمال وعرضت عليه الأمر فرفض وقال: من يريد أن ينضم إلينا ينضم كفرد، وإلا ستأتي إلينا المجموعات الأخرى كالحرس الحديدي ويطلبون الوحدة معنا وتبدأ خلافات داخلية ومشكلات وننتهي إلى الفشل.

على أية حال استطعت أن أقنع جمال منصور بأن ينضم مع من يشاء إلينا ولكن على أساس فردي وفعلا انضم جمال منصور إلى مجموعتي وانضم معه نصير وكفافي من مجموعته القديمة. ثم أمكن ضم أمال المرصفي كذلك قمت بضم سامي ترك وكان معي أنا وثروت عكاشة في المنصورة عندما ذهبنا سنة 1946 لمواجهة المظاهرات وعن طريق سامي ترك تعرفت باثنين من أهم الضباط الذين لعبوا دورا كبيرا في بناء التنظيم في سلاح الفرسان وفي ليلة 23 يوليو وهما توفيق عبده إسماعيل وأحمد إبراهيم حمودة، والحقيقة أن علاقتي بتوفيق وحمودة كانت نقطة تحول حاسمة في بنائنا التنظيمي في سلاح الفرسان، وبهما أيضا أمكننا السيطرة على الآلاي الأول مدرع في سلاح الفرسان.

وهكذا أصبحنا قوة لا بأس بها في وقت قياس ولعل هذه السرعة توضح أن الجيش وضباطه كانوا جاهزين لعمل شيء ما في سبيل الوطن وأن مجرد تقديم الفكرة كان كافيا لتحقيق تجمع جيد حولها.

وطوال اليوم كنا نتحدث مع الضباط ونجمع عنهم معلومات، ونختار أفضلهم لمفاتحتهم بهدوء وعبر نقاش هادئ عن الأوضاع وكيفية إصلاح الأحوال.. ومع كل تجاوب من الضابط نواصل الحديث حتى نتأكد تماما من إخلاصه وبعدها نفاتحه والحقيقة أنني كنت منذ البداية قد استجمعت خبرة لا بأس بها في كيفية التجنيد، وكيفية إجراء حوار استكشافي هادئ وممتد يمكنني من التعرف على طبيعة الضابط الذي أحاوره وهل هو صالح للمفاتحة أم لا وقد استجمعت خبرتي هذه من خلال أحاديث طويلة من حسن عزت عندما كان محبوسا عندنا في القشلاق ومن علاقتي المحدودة «بأيسكرا » .. وعلى العموم فقد كنت أهتم أولا بالمسلك الشخصي للضابط هل يقرأ أم لا؟ هل يهتم بقضايا الوطن أم لا؟ وكيف يقضى وقت فراغه؟ البعض كان يقضي هذا الوقت في الرياضة أو القراءة أو الدراسة وهؤلاء هم أول من اهتم بهم والآخرون كانوا يقضون سهراتهم في الكباريهات وما إلى ذلك وكنت أتجنبهم وأنصح المجموعات التابعة لي بتجنبهم ولكن أهم مؤشر كنت أستند إليه في تجنيد الضباط هو إخلاصهم وأداؤهم الجيد في عملهم.

وبرغم هذه الاحتياطات فلا بد أن الكثيرين كانوا يلاحظون أسلوبي في الكلام، وعلاقاتي بالضباط وكما اكتشفني من قبل الطالب ياسر عرفات عندما قال: أنت تتحدث كالتقدميين أتضح لي بعد الثورة بفترة أن بعض الضباط كانوا قد اكتشفوني أيضا وإن لم يكونوا من الضباط الأحرار لكنهم لم يشوا بي.

فمثلا ضابط الفرسان حسني عيد كان رجلا وطنيا وشجاعا لكنني لم أفاتحه، وبعد الثورة قال يل إنه وزملاء عديدون في السلاح كانوا يحسون من تصرفاتي أنني ربما أكون مشتركا في شيء ما وأنني أعمل شيئا ما وعندما وزع أول منشور للضباط الأحرار قالوا إنني بالقطع منهم.

والمهم أنني وفي فترة وجيزة بدأنا في إقامة تنظيم جديد في سلاح الفرسان ولم يكن لدينا في السلاح لجنة قيادية وإنما كنت أتصل بالضباط بشكل فردي: جمال منصور ومعه مجموعته وهو مسئول عنها عثمان فوزي وهو يتصل بمجموعته ومجموعة توفيق عبده إسماعيل وأحمد حمودة وسامي ترك ثم مجموعة اليساريين من الفرسان: محمود المناسترلي ورفاقه.

وكانت اجتماعتنا في الخلية الأولى التي أصبحت تسمى لجنة القيادة تتم أسبوعيا أو كل أسبوعين وكان كل منا يتحدث دون إفصاح عن الأسماء عن الاتصالات التي قام بها ومن تم تجنيده من الضباط وأحيانا كننت أحكي لجمال بشكل منفرد عن اتصالاتي وعن الضباط الذين قمنا بتجنيدهم في السلاح.

وبعد عدة اجتماعات كان لدينا تنظيم..

أنا معي في الفرسان مجموعة لا بأس بها...

وكمال الدين حسين في المدفعية وحسن إبراهيم في الطيران. الوحيد الذي لم يضم أحدا إلى التنظيم هو عبد المنعم عبد الرؤوف فقد كان معنا لكنه كان مع الإخوان المسلمين بأكثر مما هو معنا وكان مجهوده الأساسي مكرسا لهم وليس لنا وربما ظل معنا بأمل أن يعيدنا إلى حظيرة الإخوان أو أن يبقى كرأس حربة داخلنا لصالح الإخوان.

وبدأت مجموعة جمال منصور تثير نقاشات حامية حول ضرورة عمل شيء عاجل وسريع كانوا متحمسين ومتعجلين وكنا هادئين وراغبين في فسحة من الوقت نجمع فيها أكبر عدد من الضباط الوطنيين.

وتحت إلحاح مجموعة جمال منصور كفافي نصير قررنا إصدار أول منشور لنا واستطاع جمال منصور أن يدبر لنا علاقة مع موظفي بالسكة الحديد اسمه شوق عزيز أبدى استعداده لكتابة المنشورات على الاستنسل وقررنا شراء آلة رونيو وكان ثمنها 80 جنيها قررنا أن نجمعه فيما بيننا وأتذكر أنني دفعت خمسة جنيهات وجمعنا من ضباط الفرسان حوالي 35 جنيها وتبرع جمال عبد الناصر والآخرون والمهم أمكن تدبير المبلغ واشترينا الماكينة ولكن شراءها لم يكن سهلا فلا بد من إثبات شخصية المشتري واقترح جمال منصور أن يشتريها صديقه شوقي عزيز باسمه ووافقنا.

كنا في خريف 1950 عندما قررنا أن نصدر منشورنا الأول وتحملت مسئولية إصداره أمام مجموعة القيادة كتب جمال منصور المسودة الأولى للمنشور وكان عنوانه نداء وتحذير وكان قضية الأسلحة الفاسدة تشغل كل الأذهان بعد أن تفجرت أخبارها على صفات الصحف وكان المنشور يحذر ضباط الجيش من أن ساقوا إلى حرب أخرى دون استعداد ودون سلاح أو بأسلحة فاسدة وحذر المنشور الملك من التدخل لمنع استمرار التحقيق العادل في قضية الأسلحة الفاسدة وإلا فإن عرشه سوف يصبح مهددا طالعت الصيغة المقترحة وأبديت بعض الملاحظات عليها وبعد تعديلها أخذتها إلى جمال عبد الناصر الذي وافق عليها بتعديلات بسيطة وكان جمال منصور قد اقترح أن نوقع المنشور باسم الضباط الأحرار ووافق علي الاسم كذلك وافق جمال عبد الناصر..

وأخير دق شوقي عزيز أول كلمات المنشور الأولى على الآلة الكاتبة وعندما دق عبارة التوقيع الضباط الأحرار كان يكتب دون أن يعرف بداية صفحة جديدة من تاريخ مصر الحديث.

كانت الماكينة تعمل بكفاءة وكانت التنظيم هي أيضا تعمل بكفاءة كفافي ومال منصور اشتريا طوابع البريد والأظرف وثروت عكاشة أحضر عناوين منازل رئاسات الجيش ونحن أحضرنا عناوين ضباط الفرسان والآخرون أحضروا عناوين ضباط أسلحتهم وكتبنا العناوين على الآلة الكاتبة وأضفنا إليها عناوين بعض السياسيين وعدد من الصحفيين ثم قصصنا شرائط الورق الصغيرة التي تحمل العناوين كل عنوان على حدة وألصقناه على ظرف وقمت أنا وجمال منصور بوضع المنشور في الأظرف ثم بتوزيعها على العديد من صناديق البريد في القاهرة.

.. يوم أو يومان وتفجرت الحيوية والمناقشات الدافقة في الأسلحة والميسات كان للمنشور فعل السحر وسط الضباط الكثيرون بدأوا يتدفقون حماس ويسألون عن الضباط الأحرار وكانت المناقشات حول المنشور بداية لحملة تجنيد وسط الجيش والأهم من هذا أنها حددت لنا وبوضوح مواقف العديد من الضباط..

كل ما طبعناه كان خمسمائة أو ستمائة ورقة فيما أذكر لكنها سطرت بداية جديدة لعملنا ونشاطنا بل وأدت إلى إحالة الفريق حيدر والفريق عثمان المهدي إلى المعاش.

وعندما طبعنا المنشور الأول كان عددنا كقد وصل إلى حوالي أربعين أو خمسين ضابطا منهم حوالي 13أو 14 تحت مسئوليتي في سلاح الفرسان لكن المنشور الأول دفع بنا خطوة كبيرة إلا الأمام وحققنا نفوذا واسعا وعضوية أوسع.

ومع ها النجاح الباهر قررنا أن نصدر المنشور الثاني، وأيضا كتبه جمال منصور وأخذته أنا إلى جمال عبد الناصر ووافق عليه وكتبه شوقي عزيز وطبعناه لكن الأمن كان يتربص بنا وصدرت التعليمات لأجهزة البريد باحتجاز أية رسائل تكمل عناوين مكتوبة بالآلة الكاتبة وموجهة إلى ضباط بالجيش وبالفعل تم احتجاز معظم الرسائل لم يصل منها إلا عدد محدود.

وقد علمنا على الفور بذلك ثروت عكاشة تلقى هذه المعلومات من صهره أحمد أبو الفتح رئيس تحرير المصري وأبلغها لي كنا نغلي غضبا وأحسسنا بروح عاتية من التحدي كان قد تبقى لدينا حوالي خمسين نسخة من المنشور وزعناها على الضباط الذين قاموا بدورهم بتوزيعها في الميسات وف دورات المياه في القشلاقات وفي المكاتب الإدارية فأحدثت دويا هي الأخرى.

لكن الأمر تطلب منا أن نعيد حساباتنا وقررنا أن ننقل الرونيو من عند شوقي عزيز.

وهنا أود أن أتوقف قليلا لأتحدث عن رحلة آلة الرونيو هذه.

فلقد تحدث الكثيرون عن هذه الآلة وجرت مساجلات عديدة حول من الذي احتضنها وأخفاها في بيته متحملا مخاطر جسيمة والحقيقة أن القليلين هم الذين عرفوا تفاصيل هذه الرحلة والبعض علم بجزء منها وقرر أن ما يعرفه هو كل الحقيقة بينما هو مجرد جزء منها.

فمن بيت شوقي عزيز انتقلت الماكينة إلى بيت جديد.. حسن إبراهيم رشح لنا بيت ضابط طيران هو عبد الرحمن عنان وكان أعزب ومنضبطا وحياته منظمة تنظيما دقيقا وتقديراته الأمنية عالية ومن هنا كان الاختيار جيدا وملائما.

ثم واصلت الآلة رحلتها.

بعد فترة اقترح جمال عبد الناصر أن ننقل الماكينة إلى بيت حمدي عبيد وكان أيضا أعزب ولكن لم يكن معروفا كسياسي أو حتى مهتما بالسياسة بل كان ضابط مرحا خفيف الدم أو كما يسمونه ابن نكته ومن هنا رأى جمال وكان على صواب أن بيته لا يثير أية شبهات.

وبعد أن تصاعدت حدة الموقف وتزايد الخطر انتقل الرونيو مرة أخرى لتتسلمه منظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو ) ليعمل عندما وتطبع عليه منشوراتنا حتى قيام الثورة.

وقبلها بفترة كان شوقي عزيز قد توقف عن الكتابة على الآلة الكاتبة وتطوع أحمد فؤاد ليكتب لنا المنشورات قال إنه سيكتبها على الآلة الكاتبة الموجودة في مبنى النيابة العامة ولكن عرفت فيما بعد أنه كان يكتبها في الجهاز الفني لمنظمة حدتو .

والحقيقة أن علاقة أحمد فؤاد بنا كانت قد توثقت إلى حد كبير وقد أعجب به عبد الناصر إعجابا شديدا وبهر إلى حد كبير بمعلوماته الواسعة وتحليلاته السياسية المتقنة وباختصار كان عبد الناصر أمام مثقف واسع الاطلاع حلو الحديث يقدم إليها تحليلات سياسية جيدة ويشغل منصبا مرموقا فهو قاض وليس كالرفيق بدر ميكانيكيا..

كان بدر (سيد سليمان رفاعي ) يتمتع بكل ميزات أحمد فؤاد بل ويتفوق عليه فهو في نهاية الأمر السكرتير العام لمنظمة حدتو التي يعمل أحمد فؤاد واحدا من كوادرها لكن أحمد فؤاد قاض وسيد سليمان رفاعي ميكانيكي.

وأختار عبد الناصر أن يمنح إعجابه للقاضي أحمد فؤاد.

وهكذا توثقت العلاقة بحدتو عن طريق علاقة وثيقة ومستديمة بيني أنا وعبد الناصر وبين أحمد فؤاد وكثيرا ما كان عبد الناصر يلتقي منفردا بأحمد فؤاد ويجري معه مناقشات طويلة حول الموقف السياسي المحلي والدولي لكنه أبدا لم يفكر في الانضمام إلى حدتو . وعن طريق هذه العلاقة احتضنت منظمة حدتو باهتمام بالغ كل الاحتياجات الفنية للضباط الأحرار سواء الكتابة على الآلة الكاتبة أو الطباعة أو توزيع المنشورات.

فبعد مصادرة الأمن للمنشور الثاني والثالث تطلب الأمر كتابة العناوين على الأظرف بخط اليد والكتابة بخط اليد مسألة خطرة لأنها دليل تأخذ به المحاكم وخبير الخطوط قادر على مضاهاة الخطوط وتحديد كاتبها وفقا للعينات المقدمة إليه وكان من الطبيعي أن نحذر من كتابة العناوين بخطنا فإن أية شبهة تحيط بنا يمكن أن توقعنا في أيدي جهات الأمن.

وتحدثت مع أحمد فؤاد في هذه المشكلة وبعد عدة أيام أبلغني أن الضباط اليساريين أعضاء حدتو الذين انضموا إلى الضباط الأحرار يعرضون تطوعهم للقيام بهذه المهمة الخطيرة وهي كتابة العناوين على الأظرف بخط أيديهم وأذكر من المتطوعين محمود المناسترلي وصلاح السحرتي وأحمد قدري وجمال علام والأخير كان من سلاح الصيانة وقد تولى هؤلاء أيضا توزيع الأظرف على صناديق البريد.

وهكذا أمكن للمنشورات أن تنظم وأن تتواصل وأن تصل إلى جموع الضباط.

وفي هذه الأثناء تواصلت اجتماعات مجموعة القيادة كنا نجتمع ليقدم كل من تقريرا عن نشاطه وعن التجنيد الجديد دون إفصاح عن الأسماء.

وكنا نجري مناقشات في الوضع السياسي وعندما جرت الانتخابات في مطلع عام 1950 توقعنا أن يفوز الوفد لكننا أصبنا بإحباط بعد فوزه فقد كنا نتصور أنه سيقف في مواجهة الملك والاحتلال فإذا به يتحاشى الاصطدام بالقصر الملكي وعلل البعض ذلك بأنها سياسة جديدة صاحبها فؤاد باشا سراج الدين تقوم على أساس أن الوفد قد ظل لفترة طويلة بعيدا عن الحكم بما أضر بأنصاره ومصالحهم ضررا بالغا ولهذا انتهج الوفد سياسة تحاشي الاصطدام بالملك.

وكانت هناك أحداث خطيرة وفضائح مثل كورنر القطن وفضيحة الأسلحة الفاسدة التي فجرها إحسان عبد القدوس على صفحات روز اليوسف.

كانت المناقشات تدور حول هذه الأحداث وتستقر بنا عند يقين بعدم إمكانية الثقة في هذه القوى السياسية وعدم قدرتها على تقديم حل حقيقي لمشكلات الوطن ومشكلات الشعب وأحسسنا أن ثمة شيء منوطا بنا أن نفعله نحن نحن وليس غيرنا.


الفصل السابع: عبد الناصر والشيوعيون من التعاون إلى الصدام

- وتطوع الشيوعيون لكتابة العناوين

- رحلة الرونيو إلى حدتو

- طبعت حدتو برنامج الضباط الأحرار فغضب عبد الناصر

- ورفضت أن أعطي عبد الناصر أسماء الضباط الشيوعيين فغضب أيضا.

- قصة العلاقة بين موريس و ملكونيان.


تحدثا من قبل عن المأزق الذي وقعنا فيه بمصادر البوليس لمنشورنا الثاني والحقيقة أن هذه الضربة قد أوجعتني شخصيا أنا ومجموعة الفرسان فقد كان بعض زملائنا في الفرسان جمال منصور كفافي نصير يلحون في ضرورة علم شيء سريع يثير حماس الضباط واقترحوا إصدار منشورات وكان عبد الناصر مترددا ولعل أسباب عبد الناصر للتردد كانت متعددة.

فلعله لم يكن يريد أن يستفز الأمن ضدنا ونحن لم نزل مجموعة صغيرة لم يكتمل استعداها بعد. ولعله كان يتحسب من أن صياغة المنشورات ستكون بالضرورة ذات طابع إثاري وقد تجبر الجماعة على تحديد مواقف لم يكن عبد الناصر يريد الالتزام بها علنا تحوطا لاحتمالات المستقبل ولقد أتضح ذلك بشكل جلي عند صياغة برنامج الحركة الذي أسميناه «أهداف الضباط الأحرار» وهو ما سنتحدث عنه يما بعد ولقد ظل عبد الناصر مترددا تجاه مسألة إصدار منشورات لكنه وإزاء إلحاح وافق بشرط أن تكون عملية إصدار المنشور مسئولية مجموعة الفرسان.

ولهذا فعندما صادر الأمن المنشورين الثاني والثالث أحسست أنا ومجموعة الفرسان بقدر ما من المسئولية إزاء ضرورة الاستمرار.

ولقد كنا نعرف أنهم يتربصون بنا وأن كتابة العناوين على الأظرف بخطوطنا مخاطرة حقيقية خاصة وأن البعض منا تحيطه الشكوك وأنا شخصيا كنت أشعر ببعض الخطر ألم يقدم عبد الناصر اسمي ليوسف رشاد طالبا نقلي من الحدود قائلا إنني ضابط جدع ويمكن الاعتماد عليه ألم يقل لي أحد ضباط الحرس الحديدي إن القصر الملكي يعرف أنني يساري وأنهم ف القصر لا يرتاحون لي.

وفي ظل هذا الارتباك تقدم أحمد فؤاد بالحل..

بدأ فقال: نحن نتولى كتابة العناوين ثم أضاف يمكنني أن أقدم لك عددا من ضباط الفرسان ليقوموا بهذه المهمة وقدم لي أربعة أسماء: محمود الماسترلي - صلاح السحرتيأحمد قدري – ضابط مهندس جمال علام (الصيانة) ولأنني كنت أتعامل مع عبد الناصر بأمانة شديدة فقد أبلغته أن عددا من الضباط اليساريين يريدون الانضمام إلى مجموعة الفرسان فوافق على الفور فقلت له بصراحة أنهم شيوعيون فقال ما يهمش مادام بيدخلوا كأفراد مفيش مشكلة.

وبدأت المنشورات تنتظم من جديد ووضعنا خطة جديدة كان هؤلاء الضباط الأربعة يكتبون العناوين على الأظرف ويوزعون أربعين أو خمسين منشورا فقط على صناديق البريد يوميا وكانوا يحاولون تغيير أسلوب كتابة العنوان ومكان لصق طابع البريد، وأحيانا يكتبون العنوان باليد اليسرى بهدف تضليل رجال الأمن الذين كانوا يتابعون بحرص الرسائل ذات الخطوط المتشابهة كذلك حرصنا على طي المنشور بحيث تكون الكتابة إلى الداخل حتى لا يمكن التعرف على أن المظروف يحتوي على أوراق مكتوبة بالآلة الكاتبة.

وهكذا استطاعت هذه المجموعة أن تدفع عملنا في توزيع المنشورات خطوة هامة إلى الأمام.

وفي هذه الأثناء كان أحمد فؤاد كما قلت يقوم بكتابة المنشورات على الآلة الكتابة وكان كثيرا من يشترك مع أنا وعبد الناصر في إعداد صيغة المنشور ثم يتسلمه ليكتبه.

وبعد حريق القاهرة انتقل الرونيو إلى حدتو وهكذا اكتملت الدائرة: حدتو تسهم معنا في صياغة المنشور عن طريق أحمد فؤاد ثم يكتب عندها على الآلة الكاتبة ثم تقوم بطباعته وتقوم مجموعة من ضباطها بإرسال الجزء الأكبر منه بالبريد بينما تسلم لنا كمية لتقوم المجموعات بتوزيعها باليد على عدد من الضباط الموثوق فيهم أو توزيعها على ميسات الضباط وفي المكاتب وعلى رئاسات الجيش وهكذا...

وطوال هذه الفترة كان التعاون والانسجام واضحا بين عبد الناصر وأحمد فؤاد وكانت المنشورات يتوالى إصدارها وكان عجز الأمن عن إيقافها أو القبض على مصدريها يمثل عنصر حماس واسعا داخل القوات المسلحة وقد بدأ أحمد فؤاد في محاولة نقل بعض الأساليب اليسارية في العمل الحزبي إلى حركة «الضباط الأحرار» فاقترح على عبد الناصر أن نقوم بإعداد سلسلة من محاضرات التثقيف لمجموعات الضباط الأعضاء في الحركة ولم يعترض عبد الناصر لكنه طلب التأجيل حتى يشتد عود الحركة.

ومن الضروري أن نشير إلى أن علاقة حدتو بالضباط الأحرار قد تركت أثرا ملحوظا على شعاراتنا والأهداف المعلنة في منشوراتنا ولأن الاتجاه الوطني السائد في صفوفنا كان في جوهره معاد للاستعمار ومتمسك بالاستقلال الحقيقي ولأن حدتو كانت في تعاملها معنا تركز على هذا الجانب أيضا فلم تبرز مشاكل ما خلال هذا العمل المشترك.

ومن الضروري أن نشير إلى أن علاقة حدتو بالضباط الأحرار قد تركت أثرا ملحوظا على شعاراتنا والأهداف المعلنة في منشوراتنا ولأن الاتجاه الوطني السائد في صفوفنا كان في جوهره معاد للاستعمار ومتمسك بالاستقلال الحقيقي ولأن حدتو كانت في تعاملها معنا تركز على هذا الجانب أيضا فلم تبرز مشاكل ما خلال هذا العمل المشترك.

والآن وأنا أكتب هذه الأسطر تتألق أمامي على المكتب نسخة من أحد منشوراتنا فلم لا نقرأ معا بضعة أسطر منه:

توالت مؤامرات الاستعمار الإنجلو أمريكي في الفترة الأخيرة في مصر لمحاولة القضاء على الحركة الوطنية وصرف أنظار الشعب عن الكفاح المسلح ضد الاستعمار في القنال إلى المشاكل الداخلية في القاهرة فبعد أن أعلنت حكومة الوفد قطع المفاوات وإلغاء المعاهدة ورفض حلف الشرق الأوسط الرباعي الاستعماري وتكوين الكتائب الوطنية وبعد أن اشتدت جذوة الوطنية في البلاد حتى كادت مصر أن تصل إلى حقوقها كاملة دبر الاستعمار وأذنابه انقلاب 26 يناير الماضي حريق القاهرة وجاءت حكومة علي ماهر وبدأت المفاوضات من جديد وكان الاستعمار والخونة المصريون يؤملون كثيرا في علي ماهر وفي تسليمه تسليما كاملا بمطالبهم بقبول الحلف الرباعي وحل البرلمان واعتقال آلاف الوطنيين واستعمال الأحكام العرفية للتنكيل تنكيلا واسعا بالشعب ولكن خاب رجاؤهم ولم يجبهم علي ماهر إلى كل مطالبهم فكان لابد من انقلاب جديد لتحقيق الأهداف الاستعمارية لابد من انقلاب جديد وتحويل الحركة إلى الداخل والقيام بحركة تطهير واسعة بحجة تقوية الصفوف قبل مجابهة الاستعمار وهكذا وصل الهلالي إلى الحكم وأعلن بصراحة أن مهمة وزارته الرئيسية هي التطهير والقضاء على الفساد وقد تناسى أن الفساد الأكبر مصدره الاستعمار وأنه لا يمكن القضاء على الفساد الداخلي إلا إذا قضي على أسبابه ومصدره»

وأتأمل الصياغات أجد أنها وطنية صرفة لكنها ذات مسحة متشددة واليسار وحده هو الذي كان يستخدم مثل هذه العبارات المحكمة ووحده الذي كان يهاجم أمريكا ويستخدم تعبير الاستعمار الأنجلو أمريكي كما أن القوى الوطنية ذات الاتجاه التقدمي كانت هي المهتمة بإدانة الأحلاف العسكرية.

أنها بعض من آثار التعاون المستمر والتأثير المتبادل بين حركة الضباط الأحرار وحدتو ويمكننا أن نلمح هذا الأثر أيضا عندما نطالع معا بضعة أسطر أخرى من منشور آخر صدر بتاريخ 12 مارس 1952.

أيها الضباط:

إن حريتكم رهينة بحرية الشعب فكافحوا من أجل الحرية في كل مكان وأعلموا أن الخونة من قادة الجيش هم الذين يعتمد عليهم الاستعمار واستديروا لأعداء الوطن وأجبروهم على احترام حريتنا وكرامتنا ووطنيتنا التي استباحوها للدفاع عن مصالحهم.

يسقط الاستعمار

يسقط التحالف مع الاستعمار

يسقط الدفاع المشترك

تسقط الأحلاف العسكرية.

مرة أخرى الآثار واضحة ولعل الكلمات والصياغات واضحة الدلالة بما يكفي ويزيد.

ومع تواصل صدور المنشورات بدأت بعض الشائعات تحاول التهوين من أمرهأن ونقول إنها تصدر عن مدنيين من خارج الجيش وأنه لا وجود لشيء اسمه الضباط الأحرار.

ولهذا وبعد المنشور الخامس بدأنا نفكر في حيلة لإقناع الضباط بأن هذه المنشورات تصدر عن زملاء لهم ومن بين صفوفهم.

اهتدينا إلى حل لهذه المشكلة

فكان المنشور من صفحة واحدة وعلى الصفحة الأخرى أصدرنا مجلة أسميت صوت الأحرار وكانت تحتوي على أخبار من الجيش أخبار لا يمكن أن يتعرف عليها إلا الضباط وكنا ننشر الخبر ونعلق عليه.

فمثلا كنا نقول: في اجتماع كذا للضباط فلان كذا وكذا وقد أحدثت هذه النشرة دويا جديدا في صفوف الضباط ولم يعد هناك من شك في وجود تنظيم عميق الجذور متعدد المرتكزات ف صفوف القوات المسلحة وأحدث ذلك أثرا إيجابيا وسط الضباط ومنحهم المزيد من الثقة فينا وفي قدراتنا.

وبدأنا نتقن فن التخاطب مع جماهير الضباط ففي عيد الفطر وزعنا على الضباط مظاريف معايدة صغيرة بكل منها ورقة صغيرة مطبوعة على الرونيو مكتوب عليها بالآلة الكاتبة:

أيها الأخ الكريم:

كل عام وأنت بخير ونتمنى أن يأتي العام القادم ويكون الوطن قد تحرر من الاستعمار والأحلاف العسكرية الاستعمارية ونتمنى أن تتحقق للشعب حريته وتلغى الأحكام العرفية وتعاد الحياة الدستورية للبلاد

الضباط الأحرار.

ونعود من جديد إلى عملية التشابك كالمعقدة والطويلة الأمد بين حركة الضباط الأحرار وحدتو

وقد أثمر هذا التشابك فيما أثمر برنامج الحركة هذه الوثيقة الهامة التي أسميت أهداف الضباط الأحرار.

والحقيقة أن صيف 1951 قد شهد ركودا في عملية إصدار المنشورات فأحمد فؤاد سافر إلى لبنان والعديد من الضباط كانوا في أجازات وأنا سافرت إلى الإسكندرية مع معسكر التدريب الجامعي.

وفي الإسكندرية حيث انفردت طويلا بنفسي متباعدا عن دوامة الحياة اليومية بدأت تختمر في ذهني فكرة إصدار برنامج لحركتنا.

كان أحمد فؤاد قد ألح طويلا على هذه المسألة وأكد على أهميتها في تحديد هوية الحركة وخلق رباط فكري بين أعضائها وكان عبد الناصر لا يرى ضرورة لذلك وكنت لا أجد مررا للإلحاح على هذه المسألة لكنني وفي جلسات التفكير المنفردة بالإسكندرية استشعرت أهمية إصدار مثل هذه الوثيقة. وفي أوائل سبتمبر كان أحمد فؤاد قد عاد من لبنان وأنا من الإسكندرية والتقينا وجلسنا معا وشرحت له وجهة نظري في أهمية إعداد وثيقة برنامجية وبالطبع وافق بسعادة فقد كان يلح على ذلك منذ أمد وأعددنا الوثيقة معا..

كتبتها بخطي رغم ما في ذلك من مخاطرة وقمت بعرضها على لجنة القيادة وفي هذه الجلسة بدأت وبشك مباشر ف عرض الاقتراحات وبصوت مفعم بالحماس المتوتر بدأت في تلاوة المشروع المقترح:

«أهداف الضباط الأحرار»

أولا: القضاء على الاستعمار الأجنبي وأعوانه الخونة في وداي النيل

(أ)- إن حقيقة الاستعمار هي الاستغلال الاقتصادي الذي قوم به دول أجنبية لموارد وأفراد شعب أخر وذلك عن طريق الشركات ورؤوس الأموال الأجنبية التي تنهب موارد المواد الأولية، وتستغل شعوب البلاد المستعمرة وقد يكون مصحوبا باحتلال عسكري كمصر وقد لا يكون مصحوبا باحتلال عسكر كإيران التي تنهب الشركات الأجنبية بترولها لصالحها وحدها. ومصر تخضع للاستعمار البريطاني أساسا ولكنها تخضع أيضا لاستعمار دول أخرى تنهب مواردها بأبخس الأثمان، كالاستعمار الفرنسي ممثلا في شركة قناة السويس والاستعمار البلجيكي ممثلا في شركات الترام وهيلوبوليس والاستعمار الأمريكي ممثلا في شركات الكوكاكولا والبيبسي كولا والحرير الصناعي وغيرها.

(ب) - لماذا نحارب الاستعمار؟

1- لأنه سبب نكبة هذا البلد وتأخره في كل المظاهر اقتصاديا وماليا وفي التعليم والصحة والجيش.

2- لأنه منع تقدمنا الصناعي وحطم صناعتنا التي كانت قائمة حتى لا تنافس صناعاته وحول مصر إلى بلد زراعي محض لا زال يستعمل حتى الآن الزراعة المتأخرة التي كان يستعملها الفراعنة.

3- لأنه حطم الجيش المصري ومنع تقدمه وبعد أن كان لنا جيش تعداده مائتي ألف جندي أيام محمد علي وأسطول حربي هو الثالث في البحر الأبيض ومصانع حربية ضخمة أصبحنا لا نملك شيئا ولا أمل لنا في بناء جيش قوي إلا بعد القضاء على الاستعمار.

4- لأن الاستعمار الأجنبي يريد أن يجرنا معه إلى حرب عالمية ثالثة يحارب فيها لمصلحته الاقتصادية بجنود مصريين يضحون بأرواحهم في سبيله وخاصة بعد أن فقد مستعمراته الكبيرة كالهند وبورما وغيرها التي كانت تمده بالرجال..


(ج) – كيف يحكمنا الاستعمار

الاستعمار لا يحكمنا حما مباشرا بواسطة موظفين وحكام إنجليز كما يفعل مع البلاد المتأخرة جدا في وسط أفريقيا وإنما يحكمنا عن طرق الخونة من المصريين حكما غير مباشر هؤلاء الخونة هو الذين ترتبط مصالحهم بمصالحه عن طريق الرشوة والخدمات الخاصة والتعيين في مجالس إدارات الشركات والمكافآت الضخمة والألقاب والنياشين الأجنبية وهم يتمثلون في رجال القصر ورجال الأحزاب المختلفة التي تتوالى على الحكم وفي الصحافة المرتشية التي تدافع بطريقة ظاهرة أو ملتوية عن الاستعمار ولابد من القضاء على هؤلاء الخونة ليتم تطهير البلاد.

(د)- كيف نحار الاستعمار وأعوانه؟

1- برفض الارتباط بأية صلة كانت مع أية دولة من الدول الاستعمارية كالدفاع المشترك أو غيره من المؤامرات المماثلة له.

2- بالتمسك بالحياد في أي حرب مستقبلية ويجب أن نلعب القوات المسلحة جورا رئيسيا في هذه الدعوة وعلى ذلك يجب أن يعاد تنظيم الجيش وتسليحه بحيث يكون قادرا على خدمة أهداف البلاد ويجب أن يعلم الجيش أنه جزء من الشعب وأنه لن تقوم له قائمة إلا في بلد متحرر مستقل قوي.


3- بإطلاق الحريات العامة جميعها للشعب حتى يستطيع أن يلعب دورا فعالا في الحرب ضد الاستعمار.

4- العمل على المساعدة في تكوين جبهة وطنية من جميع الأفراد والهيئات الوطنية المخلصة التي تكافح ضد الاستعمار ومحاربة الهيئات غير الوطنية.


ثانيا: تكوين جيش وطني قوي يقوم على الأسس التالية:

1- قيادة جديدة يفسح لها المجال للشباب الوطني الكفء من الضباط.

2- إعادة تنظيم وتدريب القوات المسلحة على أسس سليمة.


3- إعداد ضباط الصف إعدادا كاملا وإفساح مجال الترقية لرتبة ضابط لمن يظهر كفاءة منهم في العمل.

4- ضمان مستوى معيشة مناسب لصف الضباط والجنود.


5- نشر الوعي الوطني بين الضباط والجنود.

ليس لمصر أهداف عدوانية ولكننا يجب أن نكون قادرين على دفع أي نوع من العدوان سواء كان سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا.

واستمع الزملاء في لجنة القيادة إلى تلاوتي المتحمسة لهذه العبارات دون أن يبدو عليهم اهتماما كافيا بها ولا حماسا ولا انفعالا بالكلمات وكان واضحا تماما أنهم ليسوا متحمسين لإصدار مثل هذه الوثيقة وكان جمال أقلهم حماسا فقد قال إن البرنامج جيد لكن إعلان الارتباط به يضعنا في مركز حرج ويلفت الأنظار إلينا ويحشد القوى المعادية ضدنا.

كان عبد الناصر يتمتع بالقدرة على النظر إلى المستقبل وقال بصراحة: عندما سنقوم بحركتنا فإن مثل هذه الوثيقة قد تدفع الإنجليز إلى التدخل ضدنا على أساس أنه تقف ضد مصالحهم وكذلك الأمريكان وقد توقف عبد الناصر طويلا أمام بعض العبارات التي تترجم التوجهات الوطنية بصياغات يسارية لكنه في الحقيقة لا هو ولا بقية الزملاء توقفوا طويلا أمام هذه العبارات أو الصياغات ويمكن القول بأنهم لم يدركوا أهميتها أو لم يريدوا أن يعطوها أهمية كبيرة لكن أكثر العبارات التي لفتت نظر جمال عبد لناصر ودفعته إلى الاعتراض عليها هي عبارة الاستعمار الأمريكي وقال: الشعب لا يعرف سوى الاستعمار البريطاني فلماذا ندفعه إلى اللخبطة نتحدث عن الأمريكان ولما تحدثت عن أن الاستعمار البريطاني يتهاوى وأن الخطر الحقيقي هو الاستعمار الأمريكي، قال: لكن هذا التعبير لا يستعمله إلا الشيوعيين فقلت: إن الكثير من الحركات الوطنية التحررية في العالم أصبحت تستخدم هذا التعبير.

وباستثناء هذا النقاش المحدود فإن أحدا لم يعلق طويلا على الصياغات.

وتحدثت بحماس عن أهمية وجود برنامج يحشد حولنا الضباط ويعطي الثقة لأعضائنا بأننا حركة ذات أهداف يمكن للجميع أن يتوحدوا حولها لكن الآخرين ظلوا لا يبدون حماسا.

وهنا اكتشفت أن عبد الناصر كعادته حلا مرضيا وقال: إذا كنت تريد مخاطبة الأعضاء عندنا فلا بأس نمرر عليهم هذه الورقة ثم تعود إليك لتحتف بها ولكن لا داعي لطبعها وتوزيعها. وتقبلت هذه الحل الوسط...

وأصبحت هذه النسخة الوحيدة المكتوبة بخطي من أهداف الضباط الأحرار أحد الأشياء اللصيقة بي وبزوجتي فهي تسلم إلى مجموعات الضباط ليقرأوها ثم تعاد إلي لأحتف بها معي أو تحتفظ بها زوجتي كنت أنام وهي تحت رأسي لم تفارقني أنا أو زوجتي قط حتى قامت الثورة وتسلمها جمال عبد الناصر واختفت ولم يمكنني العثور عليها بعد ذلك.

ولكن من حسن الحظ أن حدتو كانت تحتفظ لديها بنسخة منقولة من هذه الوثيقة وهي النسخة التي أعيد نشرها بعد الثورة لتحدث أول تصادم حقيقي بين عبد الناصر وحدتو والآن لنخطو معا بضع خطوات إلى الأمام لنستبق سياق الحدث الحديث ونأتي إلى موعد التصادم بين عبد الناصر والشيوعيين.

فقد قبل عبد الناصر التعاون معهم قبل الثورة بهدوء وبدون حساسية ولكن عندما نجحت الثورة وتحولنا إلى حكام تغير الأمر ..

ولابد أن أتحدث في هذه النقطة بوضوح كامل فأنا أقدم شهادتي للتاريخ ومن السهل أن ألقي اللوم على طرف وحدا واستريح لكن ضميري لن يستريح ولا مفر من أن أتحدث بكامل الصراحة والصدق..

لقد أخطأ الشيوعيون منذ البداية.

أخطأت حدتو تحديا لقد غرها أنها شاركت في صناعة هذا الحدث التاريخي لكنها نسيت الفارق الهام بين التعامل مع مجموعة قليلة العدد من الضباط يعملون سرا وين التعامل مع ضباط يحكمون الوطن ويطمحون إلى تعزيز حكمهم هذا.

كما كانت حدتو متعجلة وربما تحت ضغط الحركة الشيوعية العالمية التي كانت تدين حركتنا وتتهمها بأنها صنيعة للأمريكيين وتصمها بأنها مجرد تعبر عملي عن الصراع الخفي والملتهب بني الاستعمارين الأمريكي والبريطاني وكانت من ثم تتهم حدتو وتدينها لأنها كانت تؤيدنا بل وكانت مشاركة وضالعة معنا ربما تحت هذا الضغط وتحت ضغط المنظمات الشيوعية الأخرى التي كانت تتهمنا بأننا حركة فاشية وتتهم حدتو بالعمالة كانت حدتو تضغط من أجل مواقف مبدئية وواضحة وإعلان نوايا صريح وواضح من حركة الجيش وكان هذا صعبا بل ومرفوضا من قبل مجلس قيادة الثورة فالحركة عندما حكمت كانت راغبة في الاستقرار وفي حماية هذا الاستقرار.

وأخذ الأمريكان يتقربون من الحركة وأذكر أن عبد المنعم أمين (وهو الذي قاد قوات المدفعية التي شاركت في الثورة وانضم بعدها إلى مجلس قيادة الثورة قد دعانا إلى العشاء في بيته وحضر كافري السفير الأمريكي والمستشار السياسي للسفارة الأمريكية وأحسست أن هذه الجلسة كانت تمهيدا لعلاقة حسنة مع الأمريكان.

وطبعا أنا كيساري كنت أشعر برفض داخلي لذلك لكن الزملاء كانوا واقعيين فالاتحاد السوفيتي ضدنا ويهاجمها ومعركتنا الداخلية صعبة وشرسة وأمريكا قوة عظمى وهي تقترب منا ولا تبادرنا بالعداء بل تبدي ما يشير إلى احتمال تقديم مساعدات لنا.

لكن مثل هذه المقابلات والتصرفات أحدثت حالة من القلق ورد الفعل لدى حدتو وبدأوا يضغطون بطريقة غير متوازنة علي وعلى يوسف صديق بهدف دفعنا للتصادم مع الحركة والمطالبة بمواقف حاسمة لكن الحسم لم يكن ممكنا فأغلبية مجلس الثورة كانت تمضي وتتحسس طريقها للحث عن استقرار للحكم دون تصادم مبكر مع قوة كبرى كأمريكا.

وباختصار كان اليسار في ذلك الوقت يفتقد القدرة على التعامل المتوازن مع سلطة له علاقة قديمة بها لكنها أصبحت علاقة غير متكافئة ولم يعمل على الاحتفاظ بنقطة ارتكازه داخل السلطة وتنمية دورها بل أسرع بالتصادم بما أفقده علاقته بالسلطة نهائيا بل وأوقعه في مواجهة مريرة معها.

ومن الناحية الأخرى فإن عبد الناصر وللحقيقة قد تغير سريعا وما إن وصلنا إلى الحكم حتى بدأ يستشعر حساسية فائقة من أصدقاء الأمس في الماضي لم يكن يمتلك هذه الحساسية كان يرحب التعامل مع الشيوعيين وكان يعتمد عليهم ويثق في كفاءتهم ورؤيتهم الشاملة لكنه وبعد نجاح الثورة بدأ يستشعر حساسية فائقة ولعل هذه الحساسية قد عجلت بالصدام.

أذكر بعد الثورة أن بادرني بالسؤال: ما هم اسم الرفيق بدر الحقيقي؟

كان عبد الناصر لم يزل غير قادر على نسيان هذا الميكانيكي ذي الحديث المبهر.. لم أكن أعرف حتى ذلك الحين أن بدر هو سيد سليمان رفاعي وحتى لو كنت أعرف لما قلت له.

وامتعض عبد الناصر من إجابتي: لا أعرف ثم جاء في يوم تالي وبادرني قائلا: تذكر أن عددا من الضباط الشيوعيين في الفرسان قد انضم إلينا قلت: نعم قال: من هم؟

ورفضت أن أعطيه الأسماء وغضب عبد الناصر وسألني: أين ولاؤك هل للثورة أم للآخرين؟ وأجبت إجابة قاطعة: المسألة ليست مسألة ولاء لكنها مسألة ضمير وشرف وأنا لا ولن أشيء بإنسان وثق بي وأعطاني بعض أسراره.

وإذا شعرت حدتو بأن حركة الضباط لا ترفع ذات الشعارات الحاسمة ضد الاستعمار الأنجلو أمريكي وضد الأحلاف العسكرية تلك الشعارات التي كانت ترفعها من قبل والتي تحدثت عنها وثيقة أهداف الضباط الأحرار قررت أن تخطو خطوة لإحراج النظام الجديد بأن تنشر هذه الوثيقة..

وزارني أحمد فؤاد ليسألني: ما رأيك في أن نطبع أهداف الضباط الأحرار؟؟

وقلت: إن الوقت غير مناسب فقال: لابد من طبعها لكي يتراجع أحد عنها..

ولم أوافقه على رأيه لكننا فوجئنا بها مطبوعة.

وغضب عبد الناصر غضبا شديدا وشعر كأن «حدتو » قد أصبحت عبئا على حركته وعلى توجهاته الجديدة وسألني أين الورقة الخاصة بأهداف الضباط الأحرار فقدمتها له فهز رأسه قائلا: إذن هم الذين فعلوها.

وبعدها بقليل كان الأمن يهاجم مقر الأجهزة الفنية لمنظمة حدتو ليصادر أجهزة الطباعة من بينها جهازنا الرونيو الجيب الذي زاملنا لأمد طويل استقر الآن في يد الأمن والذين عملوا عليه وطبعوا لنا منشوراتنا استقروا في السجن.

ولعل راوية سمعنها فيما بعد تلخص مجمل العلاقة بين الضباط الأحرا ومنظمة حدتو :

كانت حدتو تطبع منشوراتنا كما قلت، وكان عبد الناصر لفرط حرصه بتسلمها بنفسه من مسئول اتصال خاص..

وفي الموعد المحدد وفي المساء كانت سيارة صغيرة تقف على كورنيش النيل بالروضة قبل قصر المناسترلي وأمام عجلة القيادة شاب أسمر طويل يرتدي ملابس مدنية اسمه موريس وكان موريس هذا هو عبد الناصر ولعل هذا هو سر الادعاء الخطاء بأن جمال كان عضوا في حدتو وأن اسمه الحركي كان موريس.

ووقف الاتفاق كان شاب أرمني بعيد عن كل الشبهات يمتلك محلا لإصلاح الراديو في شارع الروضة اسمه ملكون ملكوينان وهو واحد من كوادر حدتو الموثوق بهم يقترب من السيارة ليسلم موريس لفافة.

لم يكن ملكون يعرف من هو موريس ولا ماذا في اللفافات التي سلمها مرارا له.

وبعد قيام الثورة شاهد ملكون صورة موريس تملأ الصحف وأيقن أنه أسهم إسهاما تاريخيا في نجاح الثورة " لكن زهوة هذا لم يدم طويلا فما لبث البوليس أن قبض عليه مع زملائه المسئولين عن طبع المنشورات وحكم عليه بالسجن خمس سنوات قضاها كاملة..

وبعد هذه الواقعة بدأ عبد الناصر يلح على في أن أقطع علاقتي بأحمد فؤاد لكنني لم أجد مبررا لذلك.

إنها دورة الأحداث.

ولعل الآن وأنا مستريح الضمير أجيب عن سؤال لابد أن يلاحقك عزيز القارئ مع هذه الأسطر من المسئول عن هذا التصادم المبكر بين أصدقاء الأمس؟

وأجيب الطرفان عبد الناصر والشيوعيون معا كلاهما مسئول وربما تحمل الشيوعيون القسط الأكبر من المسئولية.


الفصل الثامن: الخلاف على الزعامة

  • وصنعنا التيتل
  • عندما هتف ضباط من الأحرار يحيا حيدر باشا.
  • حيدر مقابل النحاس.


كانت مصر في مطلع الخمسينيات تتفجر عضبا ضد الاحتلال وضد الملك وضد ما أحاط بالنظام كله من فساد وظلم اجتماعي.

وكان الوفد بعد أو وصل إلى الحكم يحاول أن يلعب لعبة مزدوجة وأن يرضي الشعب ولو قليلا دون أن يتصادم مع الملك ولو بأقل قدر.

وكان الأمر صعبا فقد عجزت حكومة الوفد عن إرضاء الجماهير فواصلت الأسعار ارتفاعها وترددت قصص فاضحة لحالات من الفساد المتفاقم شارك فيها أقطاب وفديون مثل قصة كورنر القطن وغيرها والإنجليز يتعنتون والملك يزداد عربدة وتحديا لكل القيم الأخلاقية وحكومة الوفد حائرة تحاول تارة إرضاء الملك فيغضب عليها الناس وتحاول تارة أخرى إرضاء الناس فيغضب عليها الملك.

وأخذت الصحف تهاجم القصر الملكي بشدة، وطلب القصر تعديل قانون الصحافة فأوعز النحاس باشا لإسطفان باسيلي وهو نائب وفدي أن يتقدم بمشروع قانون جديد يفرض قيودا قاسية على الصحافة وثارت ثائرة الجماهير وتى الوفديين لم يستطيعوا إلا إدانة القانون وتصدت جريدة المصري لقيادة حملة واسعة ضده أسهم فيه العديد من النواب الوفديين وعلى رأسهم عزيز فهمي وانتهى الأمر بأن رفضت الهيئة البرلمانية لحزب الوفد مشروع القانون موجهة بذلك ضربة قاصمة لسياسة التهادن مع القصر.

وهاج الملك وقرر إقالة حكومة النحاس باشا.

وفي هذه الأثناء كانت المفاوضات المصرية الإنجليزية تتعثر دون أمل في الوصول إلى حل، وكانت صيحات وطنية عديدة ترتفع للمطالبة بإلغاء معاهدة 1936 وأضرب عدد من الصحفيين عن الطعام مطالبين بإلغاء المعاهدة ووجهت دعوة لصيام عام لمدة يوم للمناداة بذات المطلب.

وفيم كان الملك يفكر في إقامة النحاس باشا مستندا إلى قصص فساد كثيرة وجه الوفد ضربة غير متوقعة وقرر إلغاء معاهدة 1936.

ووقف النحاس أمام مجلس النواب قائلا: من أجل مصر وقعت معاهدة 1936 ومن أجل مصر أطلبكم اليوم بإلغائها.»

وبدأت على الفور عمليات فدائية ضد قوات الاحتلال في منطقة القناة وتفجر الغضب الشعبي بصورة لم يسبق لها مثيل.

كانت مصر تغلي ونحن نغلي معها وتساقط الشهداء وعجزت قوات البوليس عن مواجهة قات الاحتلال.

وتساءل الناس وكانوا على حق تماما: أين الجيش؟

والحقيقة أننا بدأنا نشعر بحرج شديد وكنا قد طالبنا بإحالة عدد من الضابط إلى الاستيداع ليتمكنوا من السفر على القناة ورفض طلبنا.

ومع تصاعد الأحداث تصاعد الحرج وقررنا أن يتوجه عدد من الضباط بشكل جماعي إلى رئاسة أركان حرب بكوبري القبة مطالبين بالسماح لهم بالسفر إلى القناة والوقوف مع الشعب في موجهة الاحتلال.

لكن رشاد مهنا (وهو ضابط مدفعية أصبح فيما بعد عضوا بمجلس الوصاية على العرش) وكان على صلة بالضباط الأحرار اعترض على ذلك قائلا: إن حركة كهذه قد تؤدي إلى كشف العديد من الضباط وقد تؤدي إلى اعتقالهم وإلى إجهاض حركتنا وبالفعل صرفنا النظر عن ذلك لكن عددا من الضباط الأحرار بدأ في السفر إلى منطقة القناة للإسهام في المعارك أذكر منهم: كمال رفعت وحسن التهامي ولطفي واكد، ثم تقدم صلاح هدايت باقتراح بتصنيع لغم يمكن أن ننسف به إحدى السفن في قناة السويس لسد مجرى القناة وبالفعل قام صلاح هدايت بتصنيع اللغم ونقل اللغم بالطائرة إلى العريش وفيما أذكر أن الذي نقله هو حسن إبراهيم وسافر صلاح مع لغمه إلى العريش ثم نقل إلى القنطرة لكن عقبات ما حالت دون تنفيذ الفكرة ودفن اللغم وكنا قد أعطيناه اسما كوديا هو التيتل) في الرمال وظل مكانه حتى قامت الثورة.

وفي هذه الأثناء أيضا بدأنا في تجميع كميات كبيرة من الذخيرة والأسلحة وكان هذا سهلا للغاية ففي عمليات التدريب على ضرب النار كان من السهل أن يقرر ضابط أن رجاله ضربوا 100000 طلقة بينما هم استهلكوا فقط 20000 وهكذا تجمعت لدينا كميات هامة أعطينا قسما منها للإخوان المسلمين وقسما آخر تسلمه أحمد فؤاد ليوصله إلى حدتو وقد أبدى عبد الناصر دهشته عندما أبلغته بذلك وقال: أنا أعرف أن الشيوعيين بتوع كلام وسياسة ومش بتوع عمل مسلح ... ولكنني أبلغته أن لهم مجموعة في القناة اسمها «الأنصار» ووافق على تسليمهم الذخيرة والسلاح.

وفي هذه الأثناء وقعت بعض المشكلات في صفوف القوات المسلحة.

كان الملك قد اضطر تحت ضغط الرأي العام إلى إبعاد حيدر وعثمان المهدي لتهاونهما في موضوع الأسلحة الفاسدة وبرغم كل ما فعله حيدر فقد كان محبوبا من الضباط لأن عهده كان عهد الترقيات السريعة للضباط، والترقية هي أهم ما يهم الضابط.

وحل موعد الترقيات لعام 50/ 1951 وأصدر حسين فريد رئيس هيئة أركان حرب الجيش حركة ترقيات في فبراير 1951 متجاوزا فيها العديد من الضباط بحجة أنهم لم يؤدوا امتحانات الترقية في حين أن هذا الامتحان لم يكن إلزاميا ولكن حسين فريد استعجل في إصدار حركة الترقيات في فبراير بينما كان موعد الامتحانات في مايو .

وثار الضباط وربما كان هذا هو ما يريده الملك آملا في أن يضغط الجيش لإعادة حيدر باشا رجله المخلص إلى الجيش.

وفي الاحتفال بعيدي ميلاد الملك في 11فبراير الذي أقيم بنادي الضباط حضر حيدر الاحتفال وفوجئ الجميع بضابط يهتف عاليا بحياة حيدر، وإذا بالقاعة تدوي بالهتاف بصورة مثير للدهشة أدهشت حتى حيدر نفسه.

وكان الضابط الذي بدأ بالهتاف من الأحرار وهو صلاح أبو سعدة ، وقد لعب ليلة الثورة دورا هاما.

وأصبح من الضروري أن نصدر منشورا نوضح فيه موقف الضباط الأحرار من حيدر باشا ومن الهتاف له ونحمل القصر الملك وحسين فريد مسئولية الوصول بالأمور إلى هذا الحد كتبنا المنشور أنا وجمال عبد الناصر وتوجهنا لطباعته ولكننا فوجئنا بأن آلة الرونيو معطلة بسبب تسرب بعضا المياه إليها وفشلت محاولتنا في إصلاحها.

وبقي الحادث بلا تعليقا من جانبنا.

ونجح الملك في إعادة حيدر باشا إلى الجيش وتسترسل ذاكرتي مع حيدر قليلا لتتداعى ذكريات هامة.

فقد زار حيدر رفح حيث كان صلاح سالم واجتمع بصلاح لمدة طويلة وطلب منه أن يصارحه بشكاوي الضباط حتى يمكن حلها وكان صلاح مشتهرا بين الضباط بأنه تصادمي وسليط اللسان وتوقع حيدر أن يكون صلاح على علاقة ما بالضباط الأحرار وقرر مد جسر للعلاقة معه.

وناقشنا الأمر وقررنا أن يواصل صلاح سالم علاقته بحيدر باشا وظلت هذه العلاقة متصلة حتى قيام الثورة والحقيقة أن هذه العلاقة قد تركت أثرها على صلاح سالم إلى درجة أنه قد صمم بعد الثورة على عدم محاكمة حيدر باشا.

وأسترسل لأتذكر واقعة أخرى فبعد الثورة طلب بعض أعضاء مجلس الثورة محاكمة النحاس باش وعدد من السياسيين القدامى واعترضت أنا بشدة وكان هناك طلب آخر بمحاكمة حيدر واعترض صلاح سالم بشدة وكانت لصلاح مقدرة فائقة على النقاش والجدل والإقناع وتمسك برأيه وتمسكت برأيي وهنا مال صلاح سالم علي وقال: وافق على عدم محاكمة حيدر وأنا أساعدك في عدم محاكمة النحاس باشا.

ووافقت وانبرى صلاح سالم بمقدرته الفائقة على النقاش رافضا فكرة محاكمة النحاس باشا.

وتقرر عدم تقديم الاثنين للمحاكمة.

وهكذا أفلت النحاس باشا مقابل إفلات حيدر من المحاكمة.

ونعود إلى أوائل عام 1951 لنجد أن التنظيم قد اتسع بصورة لم نكن نتوقعها الأمر الذي دفع بجمال إلى المطالبة بتوسيع لجنة القيادة فقد زادت الأعباء واتسع النشاط وأصبحنا بحاجة إلى متابعة نشاط مجموعات متعددة في مناطق وأسلحة مختلفة واقترح أن ينضم إلينا عبد الحكيم عامر صديقه القديم والذي أبلغنا منذ الاجتماع الأول للخلية الأولى أنه معنا وأنه لا يخفي عنه شيئا.

وكان عبد الحكيم عامر في هذه الفترة أركان حرب فرقة مشاة وكان هذا الموقع مغريا لأهميته في أي تحرك كذلك فقد كنا نعرفه ونعرف فيه إخلاصه وذكاءه ودهاءه في آن واحد.

وفي فترة اتصالنا بالإخوان المسلمين كان عبد الحكيم أكثرنا كرها للإخوان وكان يقول إنهم رجعيون ومسئولون عن إفشال الحركة الجماهيرية في 21 فبراير 1946. ووافقنا على ضم عبد الحكيم.

وبعدها بأسبوعين أو أكثر قليلا نقل كمال الدين حسين إلى العريش واقترح جمال ضم صلاح سالم إلى لجنة القيادة ليواصل العمل بين ضباط المدفعية ولو أنه كان في ذلك الحين يعمل بالكلية الحربية وقبلنا ضمه.

وفي نفس الوقت طلب حسن إبراهيم ضم عبد اللطيف بغدادي إلى القيادة خاصة وأنه أقدم منه وله نفوذ سياسي واسع داخل سلاح الطيران وهو من أوائل الضباط الذين لعبوا دورا سياسيا ووطنيا في صفوف الطيران ووافقنا أيضا.

وبهذا أصبحت لجنة القيادة مكونة من :

جمال عبد الناصرعبد الحكيم عامرحسن إبراهيمعبد المنعم عبد الرؤوف- صلاح سالمعبد اللطيف بغدادي- كمال الدين حسينخالد محيي الدين.

لكن العلاقات بدأت تتعثر مع عبد المنعم عبد الرؤوف فقد أخذ يلح علينا بضرورة الالتحاق بجماعة الإخوان المسلمين وكانت حجته في ذلك أن حركتنا بحاجة إلى قوة دفع من جماعة سياسية قوية تساندها وتحمي ضباطها في حالة وقوع أية علميات قبض أو فضل من الخدمة أو ما إلى ذلك.

ورفضنا طلبة بالإجماع فبدأت علاقته بنا في التعثر وانقطع تقريبا عن حضور اجتماعات لجنة القيادة وساعد على ذلك أنه نقل إلى غزة.

ثم طالب جمال ضم أنور السادات للحركة لما له من خبرة سابقة في الأنشطة السياسية ربما نحتاج إليها وفعلا تم ضمه إلى الحركة وإلى لجنة القيادة.

والغريب في الأمر أن جمال أسر لي بعد فترة وجيزة أنه يشك في السادات وأنه كسول ولا يقدم للحركة شيئا فسألته لماذا ضممته إذن؟ فأجاب لأنه مصدر مهم للمعلومات فهو على علاقة بيوسف رشاد وبمستر سمسون السكرتير بالسفارة البريطانية وكان سمسون هذا ممثل المخابرات البريطانية في مصر في زمن الحرب العالمية الثانية وكان أنور يعرفه منذ حادثة القبض عليه وهو وحسن عزت عام 1942 وسألت عبد الناصر: ألا تخشى من السادات؟

فقال: ربنا يستر بس لازم نبقى صاحيين.

ومع اتساع نشاطنا كنا من الضروري أن نعيد تنظيم أنفسنا وشكلنا لجان مناطق القاهرة رفح الإسكندرية كل لجنة تمثل فيها الأسلحة المختلفة وفي نفس الوقت كانت هناك لجنة قيادية في كل سلاح.

أي كان هناك محوران للقيادة: لجنة للمنطقة ولجنة للسلاح.

وفي هذه الأثناء خلال زيارة لإدارة الجيش قابلت حسين الشافعي وكان يعمل بهأن وكنت قد تعرفت عليه أثناء عملنا مع الإخوان المسلمين وفتح حسين معي موضوع منشورات الضباط الأحرار وأبدى إعجابه الشديد بها وبشجاعة الذين يصدرونها ولم أقل له شيئا خاصة أنه كان من الضباط الذين يهتمون كثيرا بالانضباط العسكري وكان هو أعلى رتبة مني (كنت يوزباشي بينما كان بكباشي) وطلبت من جمال أن يفاتحه هو أو ثروت عكاشة خاصة وأن ثروت كان صديقا لحسين الشافعي وكان جارا له في السكن.

وقبل حسين الشافعي الانضمام إلينأن وأبلغه جمال أنني مسئول مجموعة سلاح الفرسان ولكنني حرصت طوال علاقتي به على منحه إحساسا بأنه ذو مكانة خاصة.

وهكذا تكونت قيادة سلاح الفرسان من: حسين الشافعي ثروت عكاشة، عثمان فوزي، وخالد محيي الدين.

ثم اختير حسين الشافعي ليثمل سلاح الفرسان في لجنة منطقة القاهرة التي كانت تضم جمال عبد الناصر زكريا محيي الدين وكان عبد الناصر قد ضمه إلى الحركة قبل حوالي ثلاثة أشهر) الطحاوي مجدي حسنين أمين شاكر على مطاوع حسين الشافعي وخالد محيي الدين.

وفي بعض الأحيان كان حسن إبراهيم يحضر اجتماعات هذه اللجنة.

ثم انضم رشاد مهنا إلى لجنة القاهرة بعد إلغاء معاهدة 1936 وكان رشاد قد اتصل بعبد الناصر الذي أحس أنه يمتلك تطلعات قيادية فلم يخبره بوجود «لجنة القيادة» واكتفى بضمه إلى لجنة القاهرة ولعل رشاد تصور لفترة أن هذه اللجنة هي قيادة الحركة. وكان رشاد شخصية ذات احترام واسع في الجيش وله علاقات واسعة ومن ثم فقد كان هو وعبد الناصر كل منهما يتطلع إلى الآخر في حر بالغ وكان لرشاد نفوذ في سلاح المدفعية ولهذا كان عبد الناصر حريصا على ضمه إلينا والتعاون معه دون أن يطلعه على مجمل نشاطنا.

نعود الآن إلى الجيش الذي كان يغلي بطبيعته مع غليان الشعب لنجد أن الملك قد واصل تصرفاته الحمقاء في أثارة الضباط ضده فقد عين أحد رجاله في الجيش اللواء حسين سري عامر مدير السلاح الحدود بدلا من اللواء محمد نجيب الذي نقل إلى المشاة وكان نجيب شخصية محترمة ومحبوبة ومثقفة فهو حاصل على ليسانس الحقوق وعلى ماجستير وخريج كلية أركان حرب.

كانت ثقافة نجيب وأخلاقه الطبيبة وتاريخه المجيد في حرب فلسطين تجعل منه موضع آمال الضباط الأحرار الذين كانوا يتطلعون إلى توثيق علاقتهم بأحد أصحاب الرتب الكبيرة فالضباط دوما يهتمون بالرتب العالية وكان عبد الحكيم عامر على علاقة بنجيب فزاره هو وعبد الناصر ليجداه في حالة سخط بسبب نقله المفاجئ إلى المشاة وأبلغهما أنه يعتزم الاستقالة من الجيش وأقنعاه بأن هذه الاستقالة سوف تبعث السرور في قلب الملك وطلبا منه الاستمرار وأن يحاول رد الصفعة إلى الملك بترشيح نفسه لرئاسة نادي الضباط وهكذا وعلى خلاف ما يزعم البعض بدأت علاقتنا بنجيب وعرف بوجودنا منذ فترة مبكرة.

والحقيقة أن صاحب فكرة ترشيح نجيب لرئاسة مجلس إدارة نادي الضباط كان رشاد مهنا وقد عرضا علينا أثناء اجتماع لجنة القاهرة بمنزل مجدي حسنين ورحبنا بهذا أشد ترحيب وبناء على ذلك توجه عبد الناصر وعامر لمقابلته.

لقد كان الضباط يستعدون لانتخابات مجلس إدارة ناديهم وكانت هذه الانتخابات تجري في العادة بشك روتيني ولا تثير اهتماما يذكر لكننا رأينا أن نجعل منها أداة لتحريك أوسع دائرة ممكنة من الضباط ولفت أنظارهم إلى وجودنا وتأثيرنا وتلقين الضباط درسا في أهمية الوحدة فيما بينهم وأهمية العمل الجماعي.

وخاض الضباط الأحرار معركة انتخابات النادي بقائمة تضم بعض الضباط الأحرار وعددا آخر من الضباط العاديين وعلى رأسها اللواء محمد نجيب .

وفاز نجيب وفازت قائمتنا ووقف نجيب في مواجهة الملك كرمز لرفض الجيش للأوضاع السائدة وللفساد الذي يعم البلاد.

وأثناء المعركة الانتخابية أثيرت مسألة تمثيل سلاح الحدود في مجلس إدارة النادي الذي كان بالضرورة يضم ممثلين للأسلحة وطالب حسين سري عامر بضرورة تمثيل سلاح الحدود ورفضنا وعرض الأمر على الجمعية العمومية ولعب الضباط الأحرار دورا كبيرا في إقناع الجمعية العمومية برفض تمثيل سلاح الحدود.

وثار حسين سري عامر فقد شعر بأن الضباط الأحرار وراء هزيمته وكتب مقالا هاجم فيه الضباط الأحرار هجوما بذيئا بالشتائم وهدد بأنه سيتخلص منهم في ساعة واحدة ويدخلهم جميعا السجون.

والحقيقة أن الضباط الأحرار قد أكدوا وجودهم القيادي في صفوف الجيش عبر انتخابات نادي الضباط وخرجوا من هذه المعركة وهم الأكثر جماهيرية والأكثر احترامأن والأكثر مهابة في الجيش.

فجاء مقال حسين سري عامر بمثابة طعنة تحاول التهوين من شأننا الأمر الذي أثار عبد الناصر بصورة كبيرة.

وقرر عبد الناصر أن يريد على حسين سري عامر بقوة ليحفظ للأحرار مكانتهم ومهابتهم ومن خلف ظهر لجنة القيادة اتفق هو وحسن إبراهيم وحسن التهامي وكمال رفعت على اغتيال حسين سري عامر وأطلقوا عليه الرصاص وفشلت المحاولة. وزادت هذه المحاولة من إصرار حسين سري عامر على تحدي الضباط الأحرار فضغط على الملك حتى أصدر قرارا بتعيين ممثل لسلاح الحدود في مجلس إدارة النادي دون أن يكون له حق التصويت وذلك حتى تجتمع الجمعية العمومية غير العادية في يونيو 1952 لمناقشة الأمر من جديد وإذ رفض طلبه أصدر قرارا بحل مجلس إدارة النادي.

وبدأنا نشعر بمخاطر تحديات المكشوف للملك وعقدت لجنة القيادة اجتماعا لوضع خطة لجمع معلومات عن احتمال وقوع حملة اعتقالات للضباط وكيفية مواجهة ذلك لكن هذا الاجتماع شهد انفجارا لم نكن نتوقعه.

كان جمال قد بدأ يكرس بالأمر الواقع رئاسته للضباط الأحرار وعندما قام بمحاولة اغتيال حسين سري عامر دون التشاور معنا ثار صلاح سالم وكذلك بغدادي.

والحقيقة أن صلاح سالم كان غير راض عن الوضع المميز لعبد الناصر في الحركة وكان يتساءل لماذا جمال وليس غيره، وانتهز فرصة قيام عبد الناصر بمحاولة الاغتيال دون عرض الأمر على لجنة القيادة ليفجر الموضوع بصورة عنيفة وتفجر الاجتماع في مواجهة غاضبة كان أطرافها جمال وصلاح وبغدادي.

وخرج صلاح من الاجتماع ليقابل ثروت عكاشة ليشكوا له من أن جمال يفرض رئاسته على لجنة القيادة وأنه يظن نفسه كل شيء ويحاول أن يعطي لنفسه قدرا أكبر منا جميعا وأنه لهذا لن يحضر الجلسات وثار صلاح واحدة من ثوراته المعروفة وشتم جمال أمام ثروت بل وأبلغ ثروت بأسماء لجنة القيادة وقال إن أكثرهم يتبعون عبد الناصر فيما يقول وأبلغه في نهاية الأمر أنه يستقيل من اللجنة إذا لم يحصل على وضع مساو لوضع جمال بحيث يكون له أن يعرف كل أسماء الضباط الأحرار مثل جمال عبد الناصر.

وحكي لي ثروت كل ما قاله صلاح سالم فأخذته إلى جمال وحكينا له ما حدث وطلبنا منه إيجاد تسوية مقبولة حفاظا على التنظيم واصطحبت جمال معي إلى بيت صلاح سالم وكان حظر التجول مفروضا منذ حريق القاهرة وكنا نتحرك بالزي الرسمي ليمكننا المرور أثناء خطر التجول.

وحتى الفجر استمرت المناقشات التي انتهت بصلح ظاهري بين عبد الناصر وصلاح. لكننا تحدثنا عن كل أسماء القيادة ما عدا شخص واحد جمال سالم والحقيقة أن جمال لم يكن معنا بل قفز إلينا كما قال البعض منا من النافذة.

ففي أحد الاجتماعات بعد حريق القاهرة جاء بغدادي ومعه جمال سالم فوجئنا جميعا بذلك فلم يحدث هنا من قبل وجمال سالم لم تكن له أية علاقة بنا وربما فعلها بغدادي في حالة تحد لعبد الناصر أو لتقوية مركزة في القيادة المهم أنه فعلها ووضعنا جميعا أمام الأمر الواقع.

وأمام المفاجأة لم يعترض أحد منا واستمر جمال سالم حاضرا في الاجتماع لكنه حاول الحديث في اجتماع تال كان منعقدا في منزل صلاح سالم فقاطعه عبد الناصر قائلا إنه ليس عضوا في اللجنة وأن لهذه اللجنة نظاما يجب احترامه.

وتراجع جمال سالم معلنا استعداده للانسحاب

لكن جمال عبد الناصر كان يسعى لمصالحة صلاح سالم وكان يعلم أن إخراج جمال سالم (شقيقة) سوف يعني القطيعة ولهذا قال عبد الناصر بهدوء: لا داعي لخروجك ولتبقى معنا وأصبح جمال سالم عضوا في لجنة القيادة.

وبرغم الصلح بين عبد الناصر وصلاح سالم فإن عبد الناصر كان ساخطا في أعماقه على صلاح والحقيقة أن هذه الواقعة قد كشفت لي بعض خفايا شخصية عبد الناصر فقد استطاع منذ الوهلة الأولى السيطرة على نفسه وحاول استرضاء صلاح سالم لكنه كان في الحقيقة لا يغفر له ما فعل ولا ما قال.

ومنذ ذلك الحين بدأ عبد الناصر يتحدث عن نفسه كثيرا وعن دوره في تأسيس الحركة ولما كنت في هذه الفترة أقرب أعضاء لجنة القيادة إلى عبد الناصر فيها عرض على خطة لحل لجنة القيادة للتخلص من العناصر غير المرغوب فيها.

ولما أبديت دهشتي وسألته كيف قال لا ندعوها للاجتماع ونبدأ أنا وأنت في مواصلة اجتماعاتنا بالضباط دون أن نشعر أعضاء لجنة القيادة الآخرين بذلك وبذلك تحل اللجنة حلا واقعيا دون أن يشعر أحد.

وأبديت ترددي إزاء هذه الفكرة لكن عبد الناصر ألح عليها.

غير أننا فوجئنا بعد قليل بعودة بغدادي وجمال سالم من العريش وهما مصمما على تصفية الجو تصفية نهائية بانتخاب رئيس للجنة القيادة وإعداد لائحة داخلية تنظيم عمل اللجنة.

وعقدت لجنة القيادة اجتماعا بمنزل كمال الدين حسين بمنشية البكري لنجري انتخابات الرئيس جميعا منحنا صوتنا لجمال عبد الناصر إلا أنور السادات كان غائبا وفوض عبد الحكيم عامر في الإدلاء بصوته وطلب منه التصويت لحسن إبراهيم قائلا: إذا كنا نشكو من سيطرة جمال عبد الناصر فلننتخب شخصا لا يستطيع السيطرة علينا ويمكننا أن نتحكم فيه وطلب منه التصويت باسمه لحسن إبراهيم.

والغريب أن حسن إبراهيم نفسه كان قد منح صوته لجمال عبد الناصر.

وبدت الأمور وكأنها تسير سيرا حسنا وكأن الخلافات قد صفيت لكن الحقيقة أن عبد الناصر ظل غير مرتاح لجمال سالم وصلاح سالم وبغدادي والسادات.

أو هذا على الأقل ما أحسست به من مناقشاتي المنفردة معه.


الفصل التاسع: أكثر من موعد للحركة.

- اخترقت القاهرة فاستعاد الجيش مهابته.

- اتصلنا بالنحاس باشا فتهرب

- وضعنا خطة للاغتيالات وتراجعنا.

- عندما طلب الإنجليز من جماعة الإخوان اغتيال فاروق.

- موعدنا الثاني من أغسطس.


وكما تحدى الملك الجيش بحماقة واصل أيضا تحديه للشعب وفجأة وفي أتون الصراع الملتهب مع الاستعمار قرر الملك تعيين ثلاثة من الأكثر صلة بالإنجليز والأكثر رفضا من جانب الشعب في مناصب رفيعة بالقصر الملكي.

حافظ عفيفي المشتهر بصداقته الوطيدة بالإنجليز وعدائه للدستور، والحريات، عين رئيسا للديوان ولابد لي هنا أن أشير إلى أن عفيفي برغم كل ما فعله لم يقدم للمحاكمة وليس يمسه أحد بسوء بعد الثورة)

وعبد الفتاح عمرو : الذي اشتهر عنه أنه فتى الإنجليز المدلل، الذي ظل لزمن سفيرا لمصر لدى الحكومة البريطانية عين مستشارا سياسيا للشئون الخارجية في القصر الملكي.

والياس أندراوس عين مستشارا للشئون الاقتصادية.

ومن جديد انفجرت مظاهرات الغضب ضد القصر الملكي وبدأت المظاهرات تهتف بسقوط الملك لكن حكومة الوفد وقفت عاجزة.

وفي نفس الوقت كان هناك مخططا استعماري لمحاصرة حكومة الوفد ولعبت صحف دار أخبار اليوم الدور الأساسي في تنفيذه فهي تركز على مظاهر الفساد المتفشية في الحكومة وفي نفس الوقت تتهم الحكومة بالضعف والعجز إزاء الإنجليز بل وتتهمها باعتقال الفدائيين وعرقلة نشاطهم.

وكان الإنجليز يواصلون عملياتهم ضد المواطنين وضد البوليس المصري بهدف إذلال حكومة الوفد وإظهار ضعفها وعجزها فمثلا عملية كفر أحمد عبده لم يكن لها أي مبرر من الناحية العسكرية لكن الإنجليز فعلوها لضرب معنويات الناس وإضعاف ثقتهم في حكومة الوفد. وتوالت الأحداث ووقع الصدام غير المتكافئ بين الجيش الإنجليزي وبعض قوات البوليس المصري التي صمدت في بسالة منقطعة النظير، وقدمت شهداء كثيرين ألهبوا المشاعر المصرية التي كانت ملتهبة أصلا.

ووقعت أحداث حريق القاهرة المأساوية واشتعلت الحرائق في كل مكان بينما الملك وكبار المسئولين مشغولون بالاحتفال بميلاد ولي العهد في قصر عابدين.

وألحت حكومة الوفد على إنزال الجيش إلى الشوارع لإنقاذ القاهرة من الدمار، وأصدر حيدر باشا أمرا بإعلان حالة الطوارئ في قوات المنطقة المركزية وفعلا استعدت قوات الجيش للتحرك لكن حيدر ماطل في إنزالها إلى الشوارع مستهدفا تحقيق أكبر إيذاء ممكن لحكومة الوفد.

وفقط في الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر صدرت الأوامر لقوات الجيش بالتحرك وأعلنت حكومة الوفد الأحكام العرفية ليطاح بها في ذات الليلة وليأتي علي ماهر لتحقيق هدف وحيد وهو إلقاء دش بارد على المشاعر الجماهيرية الملتهبة وليطفئ نيران الكفاح المسلح في منطقة القناة.

والحقيقة أن حكومة الوفد قد أخطأت خطأ فادحا إذ ترددت إزاء الإنجليز فلو أنها أعلنت مثلا قطع العلاقات الدبلوماسية مع إنجلترا لكان ذلك ردا كافيا ومرضيا للجماهير الشعبي لكن الوفد ظل يحاول المناور بين الإنجليز والقصر والشعب في آن واحد فخسر الجميع معا وفي آن واحد.

ونزل الجيش إلى الشارع ولعلها كانت الغلطة الأكبر التي وقع فيها الملك فالجيش استعاد ثقته بنفسه وبدلا من المهانة التي كان يتعرض لها لأنه لا يفعل شيئا ضد قوات الاحتلال بينما الشباب والطلاب ورجال البوليس يواجهونها ببسالة منقطعة النظير، بدلا من هذه المهانة بدأ الجيش يتقدم كحام للوطن وبصفته القوة الوحيدة القادرة على فرض النظام وحماية الممتلكات.

وقد أثار نزول الجيش إلى الشارع عديدا من التساؤلات وسط الضباط الأحرار فما هو دورنا تحديدا؟ هل نحن نحمي النظام الملكي أم نحمي مصر؟ وإذا كان الجيش في الشارع فهل نستطيع تحريكه في الاتجاه الصحيح؟

وحددت لجنة القيادة أهدافنا في ضرورة فعل شيء لحماية الدستور والديمقراطية ولضمان استمرار البرلمان الوفدي في أداء مهامه التشريعية

وفي هذه الأثناء كنت أعمل في إدارة التدريب الجامعي بقشلاق قصر النيل وكان معي ضابط اسمه محمد النحاس وهو ابن أخ مصطفى النحاس وكان ضابطا محترما وعلى خلق ورتبنا الأمر بحيث يفاتحه جمال منصور وكان معنا في التدريب الجامعي) ويحمله رسالة إلى عمه مضمونها إن ضباط الجيش مستعدين للوقوف معك إذا وعدت في حال عودتك للحكم باستمرار المعركة ضد الإنجليز وإن الضباط يتمسكون بالدستور والبرلمان.

وحمل محمد النحاس الرسالة وأبلغ الرد إلى جمال منصور وكان الرد وفق ما رواه جمال منصور وقتها: إن الباشا قال إنه لا يستطيع أن يدخل لعبة الضباط ولا يريد ذلك كما أنه لا يريد أن يخسر أوراقه مع الأمريكان.

وبدأن نتابع الأحداث بقلق وتوتر ولم تكن مصادفة أن نشطت عملية إصدار المنشورات في هذه الأيام فأصدرنا منشورا ندين فيه سياسة علي ماهر الرامية لتصفية الكفاح المسلح وطالبنا بإلغاء الأحكام العرفية.

واستقال علي ماهر بعد شهر وكلف نجيب الهلالي بتشكيل الوزارة ونزل الخبر علينا كالصاعقة فنجب الهلالي سيشن حملة على الوفد ومن ثم على البرلمان الوفدي، ويعني هذا استبعاد إمكانية عودة الكفاح المسلح في منطقة القناة.

وقبل صدور خطاب تشكيل وزارة الهلالي زارني في بيتي جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين دون موعد سابق وجلس عبد الناصر متوترا وقبل أن يلتقط أنفاسه قال لي: الهلالي سيشكل الوزارة قلت: أعرف فقال: لابد من التحرك فورا.

وكانت توقعات عبد الناصر، أن الهلالي سوف يعطل الدستور ويحل البرلمان وأنه سيحرف المعركة الوطنية إلى معركة ضد فساد الحكم وسوف يؤجل المواجهة مع الإنجليز ومن ثم فلابد أن نتحرك فورا بعمل انقلاب وكنا في شهر فبراير 1952 أي فور استقالة وزارة علي ماهر .

فقلت لجمال قبل أن نقرر أي شيء لابد من استطلاع رأي الضباط وذهب جمال إلى ضباط مجموعة المدفعية مؤكدا أن قيامنا بعمل انقلاب الآن بهدف حماية الدستور وعودة البرلمان هو أكبر خدمة نقدمها للوطن ولكن ضباط المدفعية أكدوا أن عددهم غير كاف للتحرك.

أما أنا فقد جمعت قيادة مجموعة الفرسان وعرضت الأمر عليهم ووجدت أنهم غير متحمسين لعمل انقلاب يؤدي إلى عودة الوفد للحكم فقد كانت الأقاويل تترد عن أن الوفد هو الذي أحرق البلد بسياسته الضعيفة بينما كان الضباط قد استعادا ثقتهم في أنفسهم فهم الذين أنقذوا البلد وإذا كان الجيش قد تحرك ليلة حريق القاهرة في 26 يناير لصالح الملك فلماذا لا يتحرك لصالح نفسه؟

وهكذا نامت محاولة انقلاب فبراير إلى حين.

قلت إن هذه الأشهر كانت حافلة بالمنشورات وقد لاحقنا الأحداث واحدا إثر الآخر بمنشورات حماسية..

وعندما ألف الهلالي وزارته أصدرنا منشورا قلنا فيه:

توالت مؤامرات الاستعمار الأنجلو أمريكي في الفترة الأخيرة في مصر لمحاولة القضاء على الحركة الوطنية وصرف أنظار الشعب عن الكفاح المسلح ضد الاستعمار في القنال إلى المشاكل الداخلية في القاهرة فبعد أن أعلنت حكومة الوفد قطع المفاوضات وإلغاء المعاهدة وفض حلف الشرق الأوسط الرباعي الاستعماري وتكوين الكتائب الوطنية وبعد أن اشتدت جذوة الوطنية في البلاد حتى كادت مصر أن تصل إلى حقوقها كاملة دبر الاستعمار وأذنابه انقلاب 26 يناير الماضي حريق القاهرة وجاءت حكومة علي ماهر وفي تسليمه تسليما كاملا بمطالبهم بقبول الحلف الرباعي وحل البرلمان واعتقال آلاف الوطنيين واستعمال الأحكام العرفية للتنكيل تنكيلا واسعا بالشعب ولكن خاب رجاؤهم ولم يجبهم علي ماهر إلى كل مطالبهم فكان لابد من انقلاب جديد لتحقيق الأهداف الاستعمارية لابد من انقلاب جديد وتحويل الحركة إلى الداخل والقيام بحركة تطهير واسعة بحجة تقوية الصفوف قبل مجابهة الاستعمار وهكذا وصل الهلالي إلى الحكم وأعلن بصراحة أن مهمة وزارته الرئيسية هي التطهير والقضاء على الفساد وقد تناسى أن الفساد الأكبر مصدره الاستعمار .

وأنه لا يمكن القضاء على الفساد الداخلي إلا إذا قضي على أسبابه ومصدره.

إن من أهداف الضباط الأحرار الكفاح ضد الفساد بكل مظاهره وضد الرشوة وضد المحسوبية وضد استغلال النفوذ لكننا لا يجب أن نتجه إلى ذلك إلا بعد القضاء على الاستعمار وإن أي اتجاه غير ذلك هو خيانة وطنية.

والحقيقة أن الاستعمار كان يؤمل في أن يتمكن الهلالي من القيام ببعض الإصلاحات الداخلية في مواجهة الفساد وتحسين الأوضاع بهدف إعطاء دفعة للنظام ككل وتمكينه من مواصلة الحياة لكن الهلالي فشل فشلا ذريعا.

وفي هذه الأثناء كانت منشوراتنا تتوالى بصورة لافتة للنظر وكان الجميع يعملون بوجود الضباط الأحرار وإزاء فشل الحكم في إصلاح نفسه من داخله تطلع الإنجليز والأمريكيون في اعتقادي إلى محاولة الاتصال بالضباط الأحرار وإقامة علاقة ما معهم فهم إزاء حكم يتداعى ومن الناحية الأخرى هناك تنظيم قائم ونشيط في القوات المسلحة ويمكنه أن يصل إلى السلطة فلم لا يتصلون به ليضمنوا حماية مصالحهم، أو حتى قدرا منها؟

والحقيقة أن أحداث ما بعد حريق القاهرة وهذه الأشهر القليلة الفاصلة بين نهاية يناير وأوائل يوليو 1952 قد شهدت نشاطا مكثفا للضباط الأحرار وانضم إلينا عدد كبير من الضباط في هذه الفترة بحيث أصبحنا تنظيما قويا فعلا يمكنه أن يثير اهتمام القوى الخارجية المهتمة باستمرار نفوذها في مصر وحماية مصالحها فيها.

ولابد لي من الوقوف ولو قليلا عند تطور توجهاتنا السياسية ولابد لي من الإشارة إلى أن وجود جمال سالم معنا في لجنة القيادة قد أضاف عنصرا جديدا فجمال سالم بطبيعته كان معجبا بأمريكا وقد قضى في أمريكا فترة للعلاج على نفقه الدولة بعد إصابته في حادث سقوط طائرة وعاد من أمريكا معجبا ومبشرا بنظام الحياة فيها وبدأ جمال سالم ينتقد الإشارة في منشوراتنا إلى الاستعمار الأنجلو أمريكي وطالب باستبعاد الأمريكي والاكتفاء بمهاجمة الإنجليز فلا فائدة لنا في مناصبة الأمريكان العداء، وسانده عبد الناصر في ذلك ثم طالب بأن نرفض في منشوراتنا الشيوعية باعتبارها خطرا يهدد مصر أيضا ورفضت ذلك بشدة وبصعوبة أقنعتهم بأن نستمر كما نحن لكنني بدأت ألاحظ متغيرات هامة في فكر عبد الناصر فقد بدأ في أحاديثه معنا ينتقد الشيوعية ويقول إن نظريتها القائلة بأن العوامل الاقتصادية هي المحرك الأساسي للأحداث السياسية هي نظرية خاطئة وأن الصراع السياسي في جوهره هو صراع على السلطة.

ولتأذن لي عزيز القارئ بأن أخطو بك عدة خطوات عبر الأحداث التاريخية لأكمل لك صورة العلاقة مع الأمريكان.

فعندما تحركنا تحركا فعليا من أجل الإعداد للانقلاب كانت تساورني أنا وعديد من ضباط الفرسان مخاوف حقيقية من إمكانية تدخل الوقوات الإنجليزية ضدنأن وكنا نناقش هذا الأمر بجدية وكان ثروت عكاشة هو أكثر من توقف عند هذا الموضوع طالبا التأني في فعل أي شيء خوفا من أن نتحرك فتؤدي حركتنا إلى عودة الإنجليز لاحتلال كامل البلاد من جديد لكن عبد الناصر كان يتلقى هذه المخاوف بهدوء غريب.

وعندما اجتمعنا لإنجاز خطط التحرك الفعلي كنا في منزل حسن إبراهيم وتحدثت طويلا عن مخاوف ثروت عكاشة من تدخل الإنجليز وكان عبد الناصر هادئا وعلق على كلامي بكلمة واحدة هي: طيب ثم قال: إذا كان ثروت قلقان بلاش يشتغل ثم التفت إلى بغدادي وسأله: إيه أخبار علي صبري وأجاب بغدادي إنه مدير مخابرات الطيران وهو معنا وقد أخذ بعثة في أمريكا وهو على علاقة حسنة بالأمريكان وأنه من خلال علاقته بالملحق الجوي في السفارة الأمريكية سمع منه تلميحات بأنه في حالة تحرك الجيش فأنهم سيطلبون من الإنجليز عدم التدخل إذا كانت الحرة غير شيوعية ولا تهدد مصالحهم.

وانتهز بغدادي الفرصة ليعود إلى المطالبة بعدم مهاجمة الأمريكان ذلك أنه لا داعي لإثارة عداء الأمريكان وعندما حاولت الرد عليه قال عبد الناصر معلهش بلاش حكاية الأمريكان دي حتى تنجح حركتنا وبعدها نقول ما نريد ونفعل ما نريد.

ثم ألقى عبد الناصر في الاجتماع بقنبلة جديدة.

فقال إن حسن عشماوي من قادة الإخوان عاود الاتصال به وأبلغه أن الإنجليز يريدون التخلص من الملك فقد أصبح مكشوفا ومكروها من الشعب ولم يعد قادرا على ضمان مصالحهم وأنهم يرون أن الشعب لن يقبل باستمرار هذا الملك المنحل والضعيف ثم قال إن عشماوي أكد له أن الإنجليز طلبوا من الإخوان اغتيال الملك لكن الإخوان رفضوا خوفا من عواقب ذلك ضدهم.

لقد كان حقا يوم المفاجآت بالنسبة لي.

لكن مسيرتنا تواصلت وفي كل يوم كنا نقترب من نقطة التصادم ففي أوائل أبريل 1952 وزع مصطفى كمال صدقي وعبد القادر طه منشورا هاجما فيه الملك فاروق وشبهاه بأنه مثل الخديوي توفيق الخائن وشبها حريق القاهرة بمذبحة الإسكندرية أيام الثورة العرابية وكان مصطفى كمال صدقي معروفا لدى الملك فقد كان لفترة من الوقت محسوبا العرابية وكان مصطفى كال صدقي معروفا لدى الملك فقد كان لفترة من الوقت محسوبا من رجاله وقرر الملك قتل عبد القادر طه واغتاله شخص يدعى علي حسنين.

وأصدرنا في 18 أبريل منشورا نتهم فيه حسين سري عامر صراحة بأنه مسئول عن اغتيال عبد القادر طه ، واتهمنا مرتضى المراغي وزير الداخلية بالتستر على الجريمة.

وفي هذه الأثناء حاول الوفد أن يمد يده داخل الجيش فقد قبض على ضابط وفدي هو حسن علام وهو يطبع منشورات لحساب الوفد في مدرسة المعادي للأسلحة والمهمات وكان رد الحكم صاعقا فقد حددت إقامة كل من فؤاد سراج الدين وعبد الفتاح حسن.

أما نحن فقد بدأت علينا ضغوط عديدة كي نفعل شيئا في الحقيقة أن خيطا ما بدأ يتسلل إلى نفوسنا جميعا ليقنعنا بضرورة أن نفعل شيئا مباشرا وحاسما وإلا فإن الملك سوف يوجه لنا ضربة قاصمة.

وفي مايو عقدنا اجتماعا في بيت عبد الحكيم عامر بالعباسية وكان بغدادي متغيبا عن الاجتماعات منذ مدة احتجاجا على أننا لا نفعل شيئا لكنه حضر هذا الاجتماع قائلا:

لقد أتيت لأنكم قررتم عمل شيء.

وفي هذا الاجتماع وضعنا خطا فاصلا في العلاقة مع عبد المنعم عبد الرؤوف فقد عاود الإلحاح على ضرورة الارتباط بالإخوان ولما رفضنا قال: بالعربي أنا مرتبط بالإخوان ولن أتركهم وقررنا إبعاده.

وفي هذا اليوم سرى بيننا تصميم على تحديد موعد نهائي لتحركنا واتفقنا على نوفمبر 1952.

إنه الموعد الأول.

وكان السر في اختيار نوفمبر هو شائعات تواترت إلينا مفادها أن النواب الوفديين ينوون اقتحام البرلمان وعقد جلساتهم عنوة وإعمالا لأحكام الدستور معيدين بذلك تجربة سابقة في العشرينات.

وتبدى الأمر بشكل مبهر أمام عيني فها نحن نستعد للتحرك ليس وحدنا كضباط جيش وإنما ف إطار حركة جماهيرية معادية للملك ومدافعة عن الدستور واستقر في وجداني أن هذا هو أفضل الحلول.

وللحقيقة كان عبد الناصر وعامر هما صاحبا هذا الاقتراح.

لكن الملك كان يدفع الأمور للتصادم بصورة خالية من أي ذكاء فعندما عقدت الجمعية العمومية الطارئة لنادي الضباط كان الضباط مشحونين تماما ضد الملك وبناء على اقتراح الضابط جمال علام (عضو حدتو ، وعضو الضباط الأحرار) وقف المجتمعون خمس دقائق حدادا على الشهيد عبد القادر طه وكان ذلك تحديا صارخا للملك ثم واصل الضباط التحدي فصدر قرار بالإجماع برفض تمثيل سلاح الحدود في مجلس إدارة النادي.

وهكذا وجه الضباط صفعتين للملك في وقت واحد.

واستقال الهلالي وجاءت حكومة حسين سري وتوقع الناس تكرار ما حدث في 1949 حيث أجرى سري انتخابات انتهت بمجيء حكومة للوفد.

لكن وفي مساء 17 يوليو اتصل بي حسن إبراهيم تليفونيا قائلا: تعالى فورأن وفهمت أن هناك اجتماعا طارئا للجنة القيادة وبالفعل كانت اللجنة مجتمعة فيما عدا السادات وصلاح سالم وفوجئت بخبر حل مجلس إدارة نادي الضباط وأن محمد نجيب معرض للاعتقال والطرد من الخدمة وساد صمت مرير وحزين قطعه صوت عبد الحكيم عامر قائلا: لقد وجه لنا الملك صفعة شديدة وما لم نرد عليه بصفعة مماثلة فإن تنظيمنا سيفقد ثقة الضباط ولن يقبل أحد الانضمام إلينا خاصة وأن أخبار تسربت إلينا بأن هناك قرارا باعتقال أي ضابط يعارض قرار حل النادي.

خيل إلينا أن الخيارات أمامنا محدود: فإما أن نفعل شيئا وفورا يكون ردا كافيا على صفعة الملك لنا وإما أن نتقهقر بما يعني من احتمال ذبول حركتنا واحتمال اعتقالنا.

وتقدم عبد الناصر باقتراح مؤداه أن نقوم بسلسلة اغتيالات تستهدف هز أركان النظام واقترح أن نغتال حسين سري عامر وحسين فريد وحيدر باشا وحسن حشمت (قائد القوة المدرعة الذي كان رأس الرمح في الهجوم علينا في مجلس إدارة النادي وأحد قادة الجيش المشهورين بولائهم للسراي)

واتفقنا أن يجهز كل منا مجموعة للبدء في التنفيذ واتفقنا على أن نجتمع في الغد بمنزلي 21 شارع فوزي المطيعي بمصر الجديدة.

طوال الليل لم أنم الشكوك والقلق يحيطان بي من كل جانب فماذا نفعل إزاء المخاطرة المحدقة وهل الاغتيالات وسفك الدماء هي الرد الوحيد أم أنها ستكون بداية لدورة العنف المتبادل الذي قد يؤدي إلى اعتقالات وإرهاب تزيد من ضعفنا؟

وفي اليوم التالي اجتمعنا في بيتي وجاء جمال سالم باقتراح أن نغتال الملك ورفضنا جميعا لصعوبة التنفيذ فحتى لو نجحنا فإن الأمير محمد علي سيتولى الحكم بصفته وصيا على الملك الطفل وسوف يبدأ في شهر حملة إرهاب ضدنا.

وتحدثت أنا وقلت أنني فكرت طوال الليل في موضوع الاغتيالات ووجدت فيها عيوبا كثيرة منها أننا نفتح باب العنف المتبادل ومنها احتمال اعتقال عدد كبير منا سواء أثناء التنفيذ أو بعده ومع الإرهاب سوف تضعف حركتنا وتعجز عن تحقيق مهامها الأساسية.

ويبد أنني لم أكن وحدي الذي قضيت الليل مسهدا فالجميع كانوا قد فكروا في ذات الشيء وتحدث جمال عبد الناصر قائلا: الآن أنا اقتنعت بعدم جدوى الاغتيالات وأنا لدي مشروع آخر هو أن نسيطر على القوات المسلحة، ومن خلال السيطرة على القوات المسلحة نملي شروطنا.

وأحب هنا أن أحدد أن الفكرة كانت السيطرة على القوات المسلحة وليس السيطرة على السلطة ففكرة استيلائنا على السلطة لم تكن واردة بعد.

وحدد عبد الناصر الهدف بالسيطرة على المنطقة العسكرية وبعدها نقدم طلباتنا ووافقنا على الخطة وتقرر أن يقوم كل منا بدراسة الوضع في سلاحه والوحدات التي يمكن تحريكها إلى خارج القشلاقات والوحدات التي لا يمكن السيطرة عليها على أن نجتمع بعد يومين بمنزل حسن إبراهيم.

واتفقت مع جمال علي أن نلتقي في الغد مع حسين الشافعي وثروت عكاشة في منزلي وكان الغد يوم جمعة وحضر جمال وشرح لنا فكرة السيطرة على القوات المسلحة وأفهمنا أنه بالنسبة للماشة فإنه يضن فقط إمكانية تحرك الكتيبة 13 بواسطة أحمد شوقي وصلاح نصر وقال إن الوضع في المدفعية لا بأس به وقال إنه يطلب من سلاح الفرسان توفير بعض الوحدات المتحركة لاحتلال بعض النقط.

وتركنا عبد الناصر لنبدأ في دراسة خريطة الفرسان.. واكتشفنا أن لدينا وحدات كافية يمكن تحريكها تحت سيطرتنا فهناك الآلاي الأول سيارات مدرعة (حسين الشافعي) والآلاي الأول مدرع (توفيق عبده إسماعيل) والكتيبة الميكانيكية (خالد محيي الدين) وكنت قد طلبت نقلي من إدارة التدريب الجامعي في فبراير بعد أن حصلت على بكالوريوس التجارة وبعد أن أصبح من الضروري وجودي في صفوف الفرسان ونقلت فعلا لأتولى قائد ثاني الكتيبة الميكانيكية وهي كتيبة في عربات نصف مجنزرة محملة بالمشاة وكان هناك أيضا آلاي الخيالة (عثمان فوزي) وفي الاحتياطي المباشر الآلاي الثاني سيارات مدرعة وكان كفافي يعمل به لكننا لم نتمكن من العثور عليه لأنه كان في إجازة وكان معه أيضا أمال المرصفي وهو ضابط يساري شجاع لم نستطع أيضا الاتصال به وإن كان من حسن الحظ أنه كان نوبتجيا ليلة الحركة فأخرجه ثروت عكاشة.

وكان بإمكاننا أيضا السيطرة على مركز تدريب الفرسان فقد كان لنا به ضباط عديدو مثل بهاء الحيني وإبراهيم عطية ومحمود التهامي وكذلك كان يمكن السيطرة على أساس الفرسان حيث كان لنا ضابطا منهم حسن إبراهيم حسانين ومصطفى حمزة وكذلك مدرسة الفرسان فقد كان لنا بها حلمي إبراهيم لكن قوات مدرسة الفرسان كانت محدودة وليس بها سوى عدة دبابات سينتورين وكان يمكن منعها من الخروج.

ولم يتبق سوى الآلاي الثاني المدرع وكان لنا به رؤوف أسعد واتفقنا معه على أن يمنع خروج قوات هذا الآلاي بأي وسيلة.

والحقيقة أن هذا البحث الدقيق قد كشف لنا أننا نمتلك قوة حقيقية في سلاح الفرسان وأننا قادرون على السيطرة على السلاح بشكل شبه كامل، وبدأنا في إعداد كشف بالضباط الذين يتعين اعتقالهم ومنعهم دخول القشلاقات وبهذا أعددنا كل شيء.

وعقدنا اجتماع لجنة القيادة بعد يومين وقدم كل منا تقريره وبعد مناقشات مطولة حددن موعدا مبدئيا للحركة يوم 2أو 3 أغسطس.

وكان هذا هو الموعد الثاني.

أما لماذا اخترنا هذا الموعد فلأننا كنا نخشى من أية تداعيات أو فشل وبالتالي يكون الضباط والجنود قد قبضوا مرتباتهم وتركوهم لأسرهم كذلك اخترنا هذا الموعد لتكون بقية الكتيبة الأولى مدافع ماكينة قد وصلت من العريش، وكانت طلائع هذه الكتيبة قد وصلت بالفعل إلى الهايكستب تحت قيادة القائمقام يوسف صديق (البكباشي في ذلك الوقت) وهذه الكتيبة تتميز بأنها تمتلك قوة نيران كبيرة فقد كان لديها 48 مدفعا رشاشا في كفاءة عالية يطلق حوالي 1000 طلقة في الدقيقة.

وفي الاجتماع أحضر جمال عبد الناصر يوسف صديق معه كان يوسف يريد أن يطمئن على وجود قوات كافية وكان لدى ضباط المشاة شكوك في أن ضابط الفرسان المهتمين بمظهرهم يمكن أن يتحركوا في عمل ثوري كهذا.

وكان يوسف صديق شخصا محترما وقد عمل مدرسا في الكلية الحربية لمدة طويلة وتتلمذ على يديه العديد من الضباط ولم أكن أعرف حتى ذلك الحين أنه شيوعي وأنه عضو في حدتو وأعتقد أن عبد الناصر لم يكن يعرف ذلك فبعد الثورة دهش عبد الناصر عندما عرف أن يوسف صديق شيوعي، وانتابته حالة شك عميق في أن حدتو تحتفظ سرا بتنظيم لها في الجيش.

وعلى موعد الثاني أو الثالث من أغسطس انتهى اجتماعنا وبدأنا جميعا في تحرك واسع بين الضباط استعدادا للعمل الذي عشنا من أجله طويلا وعملنا من أجله كثيرا ولم تبلغ الضباط بالموعد ولكن طلبنا منهم تحسين علاقاتهم بالجنود وبزملائهم الضباط وتحديد إمكانيات وسبل السيطرة على الوحدات وطلبنا من كل منهم أن يترك أرقام تليفوناته وأماكن وجوده حتى يمكن الاتصال به في أية لحظة.

أنها اللمسات الأخيرة للاستعداد للعمل الحاسم.


الفصل العاشر: اللمسات الأخيرة

- خبران .. عجلا بتحركنا.

- الموعد ليلة 22 يوليو.

- ثم تأجل الموعد.

- عبد الناصر أبلغ الإخوان والشيوعيين.


وهكذا توالت الأحداث سريعا دون أن تعطينا أية فرصة لالتقاط الأنفاس ولنحاول معا أن نتابع التواريخ وأن ندققها ذلك أن البعض من الزملاء الذين كتبوا مذكراتهم قد أوردوا بعض التواريخ بشكل غير دقيق.

لندقق معا:

16يوليو: قرار حل نادي الضباط وما تبعه من تهديد باعتقال الضباط المخالفين.

17 يوليو: اجتماع لجنة القيادة واتخاذ قرار بشن حملة اغتيالات واسعة.

18 يوليو: اجتماع لجنة القيادة وإلغاء فكرة الاغتيالات واتخاذ قرار بالسيطرة على القوات المسلحة يوم 2 أو 3 أغسطس لإملاء شروطنا.

19 يوليو: اجتماع قيادات المجموعة للإعداد للتحرك وحصر القوات وتحديد الإمكانات. ويمضي يوم 19 يوليو ونحن نحسب كل حساباتنا على أوائل شهر أغسطس ولكن حدثت واقعتان غيرتا من مجريات الأمور وقررنا البدء فورا ف التنفيذ.

كان محمد نجيب قد استدعى لمقابلة الوزير محمد هاشم (وهو صهر حسين سري رئيس الوزراء) وفي هذه المقابلة سأل هاشم عن أسباب تذمر الضباط وموقفهم العدائي من النظام وتحدث نجيب عن الحكم غير الديمقراطي وغير المعبر عن إرادة الشعب وعن الخضوع لإرادة الاحتلال وخلال الحديث فاجأه هاشم بسؤال لم يكن يتوقعه هل يكون تعينك وزيرا للحربية كافيا لإزالة أسباب التذمر وخلق حالة من الرضاء لدى الضباط؟ فوجئ نجيب بالسؤال لكنه وبلا تردد رفض المنصب وقال إنه يفضل أن يبقى في موقعه بالجيش وأنه سبق أن عرض عليه منصب وكيل وزارة الحربية ورفضه والحقيقة أن نجيب قد أدرك بوعي أن الهدف هو استقطابه بعيدا عن حركة الضباط الشبان بهدف إجهاض هذه الحركة.

وبينما استمر النقاش بين الوزير محمد هاشم واللواء محمد نجيب أفلت هاشم عبارة بحيث تبدو وكأنها زلة لسان أو آتية من غير قصد فقال إن السراي لديها قائمة بأسماء 12 ضابطا هم المسئولون عن تحريك وقيادة الضباط الأحرار.

لم يبد نجيب اهتماما بالأمر وقال إن موجة التذمر عامة وأن الكثيرين متذمرون بحيث لا يمكن حصرهم لكن نجب لم ينم طال الليل، وكان يتعجل عودة النهار ليبلغنا بهذا الخبر.

وفي الصباح كان جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر يطرقان باب بيت نجيب ولكن ليجدا هناك اثنين من الصحفيين من أخبار اليوم هما محمد حسنين هيكل رئيس تحرير آخر ساعة وجلال ندا أما كيف أمسكت أخبار اليوم بخيط محمد نجيب فقد عرفنا فيما بعد أن مصطفى أمين كان جالسا مع محمد هاشم أثناء مكالمته التليفونية مع نجيب ليدعوه إلى مقابلته فتوقع بحسه الصحفي أن يكون نجيب مفتاحا لبعض الأخبار فأرسل له هيكل الذي اصطحب معه جلال ندا وكان ضابطا بالجيش وأصيب وخرج من الخدمة وعمل كصحفي في أخبار اليوم.

فوجئ هيكل بوافدين جديدين وتحركت شهيته الصحفية ليطلب إلى نجيب أن يقدم إليه زائريه لكن نجيب كان منشغلا بشيء واحد أن يبلغ جمال قصة قائمة الضباط الاثنى عشر، وانفرد نجيب بجمال ليهمس في أذنه بالخبر الصاعق.

وقبل أن أستطرد أود أن أسجل أننا بعد الثورة حولنا كثيرا البحث عن قائمة الاثنى عشر ضابطا فلم نجدها وقيل إنها كانت مسجلة في مفكرة صغيرة لدى حسين فريد وقيلت أشياء أخرى لكننا وعلى أية حال لم نعثر على القائمة ولم نعرف على وجه اليقين إن كانت هذه القصة حقيقة أم كانت غير صحيحة وأن هاشم قد أوردها لتخويف نجيب والضباط لكن الشيء المؤكد أن هذه الرواية قد حفزتنا إلى شيئين غيرا مسار الحركة ومسار مصر كلها.

ففور سماع هذا الخبر دعيت لجنة القيادة إلى اجتماع لتقرير التحرك الفوري.

كما تقرر أن العملية التي سنقوم بها هي عملية انقلاب أي استيلاء على السلطة وليس مجرد سيطرة على المنطقة العسكرية لإملاء مطالبنا.

وعقد الاجتماع يوم 20 يوليو.

وحكي جمال ما قاله له نجيب عن قصة قائمة الاثنى عشر ضابطا ثم حكي حكاية أخرى وهي ان ثروت عكاشة أبلغه أن أحمد أبو الفتح اتصل به من الإسكندرية ليبلغه تليفونيا أن حكومة حسين سري ستقصى عن الحكم وأن الهلالي سوف يشكل وزارة جديدة وسيكون وزير الحربية فيها حسين سري عامر العدو اللدود لحركتنا وأفهمه بصورة ملتوية بضرورة عمل شيء قبل ان يقبضوا علينا.

تطابقت الروايتان وعززت كل منهما الأخرى فتولى حسين سري عامر وزارة الحربية يعني الهجوم المباشر علينا وفورا...

وقررنا أن نتحرك فورا خلال 48 ساعة وتحددت ليلة 22 يوليو موعدا للعملية وأسرعنا إلى ضباطنا لنبلغهم بالاستعداد للتحرك ليلة 22 يوليو وكم دهشت إذ تفجرت مشاعرهم بحماس دافق وروح لا تهاب المخاطر.

ولكن يأتي يوم 21 يوليو ليبلغنا عبد الناصر أنه يرى التأجيل ليلة أخرى انتظارا لحشد قوات أكبر.

أحسست بما انتاب الضباط من فتور عندما ألغتهم بالتأجيل وقررت في دخيلة نفسي أن يوكن هذا هو آخر تأجيل.

وتحددت ليلة 23 يوليو كموعد نهائي.

وفي السعة الثاني بعد ظهر 22 يوليو عقدت لجنة القيادة اجتماعها الأخير في بيتي التقينا: جمال عبد الناصر حسن إبراهيم عبد الحكيم عامر كمال الدين حسين عبد اللطيف بغدادي وخالد محيي الدين.

وتغيب جمال سالم صلاح سالم أنور السادات وحضر معنا زكريا محيي الدين وحسين الشافعي وعبد المنعم أمين وإبراهيم الطحاوي وكان حضروهم مبررا ومنطقيا وإن كان جمال قد دعاهم للحضور بمبادرة منه فزكريا شارك في إعداد خطة التحرك ومن الطبيعي أن يحضر ليشرحها لنا والطحاوي كان سيقود تحرك سلاح خدمة الجيش والشافعي سيقود تحرك الفرسان صحيح أنني كنت مسئول مجموعة الفرسان لكن الشافعي كانت رتبته أعلى فقد كان بكباشي وعبد المنعم سيقود تحرك المدفعية.

وعندما تحدثنا عن خطة التحرك التفت بغدادي إلى زكريا محيي الدين وقال له: اقرأ الخطة. وعرض زكريا محي الدين الخطة.

وكانت الخطة بسيطة للغاية ويمكن القول إنها اكتسبت عناصر نجاحها ببساطتها وكانت تنقسم إلى مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: السيطرة على القوات المسلحة وتحريك بعض القوات إلى مبنى القيادة في كوبري القبة وأن يتم اقتحامه والاستيلاء عليه على أن يتم في نفس الوقت اعتقال بعض كبار ضباط الجيش والطيران وقادة الأسلحة المختلفة حتى نضمن عدم تحريك أية قوات عسكرية للتصدي لنا.

وحددت الخطة في مرحلتها الأولى مهام الأسلحة المختلفة:

فالفرسان: تحملوا مسئولية إغلاق المنطقة عند شارع الخليفة المأمون بجوار محطة البنزين وإغلاق المنطقة عند المستشفى العسكري وعند باب ستة بالعباسية وباب العباسية.

والمدفعية: كانت مهمتها عزل منطقتي ألماظه والهايكستب والطرق المؤدية لمبنى القيادة بكوبري القبة والطرق المؤدية لوحدات الجيش المختلفة.

وتقرر أن يعاون المدفعية في هذه المهمة وحدات من الفرسان بدبابات وعربات مصفحة وتحدد المسئولون عن تحريك القوات في المرحلة الأولى كما يلي:

• الفرسان: حسين الشافعيخالد محيي الدينثروت عكاشة.

• المدفعية: كمال الدين حسينعبد المنعم أمين.


• الطيران: حسن إبراهيمعبد اللطيف بغدادي.

وكانت مهمة الطيران تالية لتحركنا في المرحلة الأولى وكلفت مجموعة من المدرعات بالسيطرة على مطارات ألماظة مصر الجديدة غرب القاهرة وتحددت مهمة الطيران أن بعد ذلك في طلعات استكشاف للتأكد من عدم تحرك قوات بريطانية من قاعدة القناة، وطلعات استكشاف فوق القاهرة والإسكندرية ومنع الملك فاروق من الهرب سواء عن طريق الجو أو البحر.

أما المرحلة الثانية: فكانت تتمثل في إنزال قوات إلى الشوارع للسيطرة على عدد من المواقع المدنية: الإذاعة – التليفونات- قصر عابدين .. إلخ.

أما المرحلة الثالثة: فهي التحرك لعزل الملك.

وكانت الخطة منطقية فأنت لا تنزل إلى الشارع إلا بعد التأكد من السيطرة الكاملة على القوات المسلحة ولا تقوم بمواجهة فعلية مع رأس النظام إلا إذا تأكدت من تجاوب الجماهير معك عبر نزولك إلى الشارع.

تحدث حسين الشافعي في الاجتماع وأعلن أن سلاح الفرسان جاهز وأن ليدنا 32 ضابطا جاهزين لتحريك قواتهم وأننا نسيطر على 48 دبابة و48 سيارة مدرعة وعلى الكتيبة الميكانيكية وآلاي الخيالة وتحدثت أن لأقرر أن قوات الفرسان كفيلة بإنجاح الحركة دونما حاجة لانتظار وحدات مشاة أو انتظار وصول بقية كتيبة يوسف صديق .

وتحدت عبد الناصر عن المدفعية والمشاة وقال إنه مسئول عن تدبير وحدات منها مع بعضنا تليفونيا وأن تعد كل مجموعة نفسها للتحرك واتفقنا أن تكون كلمة السر نصر.


وانصرف الزملاء الأربعة: زكريا والطحاوي وعبد المنعم أمين وحسين الشافعي وتركونا لتواصل لجنة القيادة آخر اجتماع لها.

وأول ما فعله جمال عبد الناصر أنه عاتب بغدادي بشدة لأنه طلب من زكريا محيي الدين أن يقرأ خطة التحرك وقال جمال: لقد وضعت الخطة وساعدني زكريا في ذلك فلماذا يقرأها هو.

أتذكر هذه الواقعة البسيطة لأوضح أن جمال كان حساسا للغاية حتى في الأوقات الصعبة إزاء مكانته كمسئول عن الحركة.

وحتى في واقعة كهذه كان بإمكانها إذا فشلت الحركة أن تضيف مسئولية خطيرة واتهاما كبيرا إلى من قرأ الخطة ومع ذلك كان جمال حريصا على ألا يترك أية فرصة للشك لدى أي من الضباط المشاركين في الحركة حول زعامته ودوره.

اعتذر بغدادي وانتهى الأمر.

والتفت جمال ليسألني أين سأكون في المساء وقبل ساعة الصفر قلت: سأذهب أنا وحسين الشافعي إلى بيت ثروت قال: قد أمر عليكم وأضاف ثروت عاطفي خلية يخلي باله.

ربما كان جمال يلمح إلى تكرار ثورت لمخاوفه من تدخل الإنجليز لكن الحقيقية أن ثروت كان رجلا شجاعا وكانت مخاوفه مبنية على حقائق واقعية ولكن عندما قررنا التحرك نسى كل مخاوفه وكان حاسما وتصرف بشجاعة تستحق الإعجاب وعندما أتى اللواء حشمت إلى القشلاق قبل تحركنا أصبح كل شيء مهددا لولا أن ثروت اندفع نحوه حاملا مدفعا رشاشا وألقى القبض عليه.

أنها ليست مسألة سهلة أن يقوم ضابط برتبة صاغ داخل القشلاق بالقبض على لواء.

لكن ثروت فعلها وبعدها اكتشف أن مدفعه الرشاش كان خاليا من الطلقات.

كان الحماس يملؤنا جميعا إلى درجة أن مشاعر الحزن قد انتابت الضباط عندما أبلغتهم في اليوم السابق (21 يوليو) بتأجيل التحرك 24 ساعة بل إن بعض الضباط قد هدد بأنه سوف يتحرك منفصلا إذا لم نتحرك نحن.

وأعود بذاكرتي إلى هذه اللحظات الصعبة وأسأل نفسي: هل كنت خائفا؟

وتأتي الإجابة سريعة: وبلا تردد: ولا قطرة واحدة من خوف، ولو للحظة واحدة الحماس لفنا جميعا ونسينا مخاوفنا من احتمالات تدخل الإنجليز وبدأنا في استعداد متعجل لإنجاز كل شيء. كذلك حسين الشافعي وثروت عكاشة كان كل منهما ثابتا دون أي اهتزاز وتحركا ببساطة وكأن الأمر عادي.

وأذكر لحسين الشافعي وكان أعلى رتبة منا جميعا في الفرسان أنه كان أحد أهم عوامل نجاحنا باحترام الضباط له ومقدرته القيادية الفائقة وأذكر كيف كان راسخ اليقين والوجدان هادئا تماما قادرا على أن يصدر القرار الحازم في هدوء وثبات.

وفي الساعة الأخيرة من عملية الاستعداد الختامي ذهبت لحسين الشافعي لأبلغه بأن كتيبتي ليست بها ذخيرة كافية فقد كانت تحت الإنشاء ولم يكن مع كل عسكري سوى خمسين طلقة.

ووعدني حسين الشافعي بأن تصلني ذخيرة كافية قبل تحرك قواتي وقد أنجز وعده.

وفي هذه الأثناء كان جمال عبد الناصر منشغلا بعدد من القضايا فقد اتصل بالإخوان ليبلغهم بالحركة وليطلب مساعدتهم في حالة تحرك الإنجليز ضدنا وقبل التحرك أبلغني عبد الناصر أن الإخوان باستعدادنا للتحرك فسألته هل ردهم إيجابي؟ فهز رأسه بالموافقة وكلنه أضاف: إنهم متعبين جدا وعلينا أن نعيد الحسابات بالنسبة لهم ففهمت من كلامه أنهم واجهوه بمطالب كثيرة ولكن الظروف الحرجة أملت على عبد الناصر عدم مجابهتهم كما أرسل شقيقاه عز العرب وشوفي لمقابلة أحمد حمروش وكان أحد المسئولين عن قسم الضباط في منظمة حدتو ليطالبنا منه السفر إلى القاهرة لمقابلة جمال.

وحضر حمروش ليقابل جمال عصر يوم 22 يوليو، وأبلغه جمال بأن الضباط الأحرار سيتحركون الليلة وطلب منه الاتصال بالضباط الأحرار في الإسكندرية بهدف تأمين المنطقة هناك وكنا نستشعر خطرا من وجود الملك هناك ومعه قوات من الحرس الملكي وخشينا من أن يجمع حوله قوات أخرى ليستقوي بها كما فعل الخديوي توفيق إبان الثورة العرابية.

ولابد أن نتساءل لماذا اختار عبد الناصر حمروش بالذات؟ ولعل الإجابة الأكثر منطقية هي أن عبد الناصر قد أراد أن يبلغ حدتو بموعد الحركة كما أبلغ الإخوان ليضمن إمكانية مساندتها له.

وبالفعل أسرع حمروش إلى أحمد فؤاد وأسرع الاثنان لمقابلتي ثم توجه حمروش ليبلغ النبأ إلى الرفيق بدر سكرتير عام حدتو .

وهكذا أتم عبد الناصر تحصين الحركة سياسيا.

أصبح المسرح الآن مستعدا.

وتهيأ الإعداد للحدث الكبير.

الضباط يمتلكون حماسا دافقا للقضية التي يتحركون من أجلها كانت المخاطر جسيمة فإذا شلت حركتنا فإن رد فعل النظام سيكون عنيفا وقاسيا لكن أحدا منا لم يتوقف ولو لحظة واحدة ليفكر في هذه المخاطر.

كنا كضباط قريبين جدا من بعضنا البعض نعرف بعضنا جيدا نعيش معا في القشلاق نخدم معا في بلاد بعيدة عن سكننا نقيم معا أكثر مما نقيم مع أسرنا ولهذا كان من السهل علينا أن نفرز كم سيكون في لحظة الجد معنا ومن سيتردد ومن سيكون ضدنا.

ويكفي أن يصدر القومندان أمرا بالتحرك حتى يتحرك الضباط الأقل رتبة ومعهم الجنود. ثمة مثل عسكري في صيغة سؤال غريب وإجابة أكثر غرابة:

والدك أقرب إليك أم قومندانك؟ وأجيب قومنداني ليه؟ لأن والدي أعيش معاه أما قومنداني فأنا أموت معاه»

هذا المثل يقدم لك عزيزي القارئ صورة عن العلاقة الحميمة التي كانت تربطنا نحن الضباط ببعضنا البعض الأمر الذي هيأ لنا قدرا من الطمأنينة في الساعات الأخيرة والتي كان من المفترض أن تكون مشحونة بالتوتر والترقب.

لم أزل أعود بذاكرتي إلى هذه الساعات لقد مضت هادئة كغيرها ربما أكثر هدوءا من غيرها كل شيء تم إعداده ولم يبق سوى أن يتحرك الزمن عدة ساعات لنبدأ.

عند الظهيرة توجهت للبيت وتناولت الغداء وبلا مقدمات أبلغت سميرة زوجتي بالأمر وكانت تعرف علاقتي بالضباط الأحرار وتحمل معها برنامج الجماعة وتتحمل المخاطرة دون أن تسأل عن أية تفاصيل ودون أن تحاول إشعاري بقدر القلق الذي يغمرها كلما تجمعت لجنة القيادة في البيت أو شاهدتني وأنا أسرع خارجا عقب مكالمة تليفونية تدعوني لاجتماع.

كانت تعرف أن المخاطر جسيمة لكنها تقبلت الوضع لأنني تقبلته ولأنها كانت لا تريد أن تقف ولو بأقل قدر علقة أمام ما أنوي فعله وما أعتقد أنه في صالح الوطن.

وكانت ابنتي سميحة مريضة وكانت تحتاج إلى رعاية خاصة وإلى التردد على الطبيب ولم أكن أمتلك من الوقت ما يكفي لذلك وتحملت زوجتي أيضا عبء هذه المسئولية ولكن منذ 20 يوليو كانت تلاحظ شرودي وانعدام شهيتي للأكل حتى كوب الشاي الثقيل الذي أحبه في العصر لم أعد أهتم به كانت تلاحظ ذلك كله دون أن تضغط على أو تسألني وبعد الغداء وبلا مقدمات قلت لسميرة: أنا سأخرج في الساعة الثامنة وإذا لم أعد في الصباح يكون شيئا خطيرا قد حدث فإما سأموت أو سأعود منتصرا.

كانت تعرف ما أنا مقبل عليه وتقبلت عبارتي الثقيلة بل وغير الحصيفة في هدوء وقالت: إن شاء الله حترجع بالسلامة والحقيقة أنني كنت قد قررت بيني وبين نفسي ألا أستسلم في حالة فشلنا كان الإعدام مصيرا واضحا ولهذا قررت ألا استسلم وأن أقاتل حتى النهاية.

خرجت من بيت ثروت عكاشة حيث تناولت عشاءنا بهدوء.

ونزلن في التاسعة والنصف ثروت توجه إلى قواته واتجهت أنا إلى الكتيبة الميكانيكية ولأنها كانت كتيبة تحت الإنشاء فقد كان الضابط النوبتجي باشجاويش وكنت أنا ضابط عظيم المنطقة.

ناديت الباشجاويش آمرا بإعداد الكتيبة للطوارئ وتجهيز كل شيء للتحرك في تماما لساعة الثانية عشرة وكان حاضرا معي الملازم وجيه رشدي وهو ضابط مشاة نقل حديثا إلى الفرسان للعمل مع الكتيبة الميكانيكية (وهي مشاة المدرعات) وكان من الضباط الأحرار وكان عبد الحكيم عامر قد أبلغني باسمه، وهو ضابط ممتاز وبدأ وجيه رشدي التفتيش على الجنود والتأكد من الأسلحة والذخيرة وكانت مهمته أن يأخذ ثلث القوة ليسد بها الطريق والكوبري الذي يفصل المستشفى العسكري عن منطقة كوبري القبة والحدائق ومن هذه المنطقة عبر محمد نجيب وأنور السادات بعد حضروهما لأن هذه المنطقة كانت تمثل نقطة حاكمة في المنطقة العسكرية.

وقبل أن أتحرك بقليل أتاني عثمان فوزي مسرعا وقال لي إن اللواء حشمت قائد اللواء المدرع قد حضر إلى السلاح وأنه من الضروري أن أتحرك دون انتظار لساعة الصفر.

كانت العساكر قد تم إيقاظهم في الساعة العاشرة والنصف وجهزت اللواري والأسلحة والذخيرة وفيما أشعر بحيرة بسبب نقص الذخيرة كان حسين الشافعي يحقق وعده لي ففي الساعة الحادية عشرة تقريبا حضر الضابط ممدوح إسماعيل ومعه الذخيرة المطلوبة وقال بالإنجليزية حتى لا يفهم الجنود اللواء حشمت تم القبض عليه..

وشعرت بارتياح وأحسست أن ثمة توفيقا من الله يحل بنا وبحركتنا.

وأصدرت الأمر .. تحرك..

وما أن سمعت صوت الموتورات حتى انتظمت معه دقات قلبي وكأنها تتحرك معه ومعها دقات قلوب أربعمائة جندي هم قوتي التي أتحرك بها.

ومن بعيد أتى صوت طلقات رصاص.

كان يوسف صديق قد تحرك مبكرا وأقتحم مقر قيادة الجيش في كوبري القبة وألقى القبض على قيادات الجيش المجتمعة هناك.

وتحركت القوة ومعه وجيه رشدي وانفصلنا عن بعضنا في شارع الخليفة المأمون كل منا اتجاهه ووصلت القوة التي أرأسها إلى مدخل مصر الجديدة أمام محطة بنزين موبيل أويل بمحازات خط المترو لتسد الطريق القادم من مصر الجديدة الذي يمر أمام نادي سبورتنج بوحدات الكتيبة الميكانيكية وعربتين مصفحتين من الآلاي الأول سيارات مصفحة وفصيلة خيالة.

وبعد وصولنا بحوالي نصف ساعة واستقرار الوضع وانقطاع المواصلات وعزل المنطقة العسكرية عن مصر الجديدة قلت للجنود: أنتم عارفين أحنا بنعمل إيه؟

فأجابوا: إحنا طوارئ يا أفندم قلت: لا .. هي حركة عسكرية ضد قيادة الجيش ومن أجل الوطن والشعب.

وتقبل الجنود كلماتي بارتياح فلقد عملنا نحن الضباط الأحرار ولأمد طويل على كسب احترام وحب جنودنا ولهذا أحس جنودي جميعا أنني بالقطع أقودهم من أجل شيء جيد ومفيد. وبدأت أحداث الليلة العظيمة.


الفصل الحادي عشر: وانتصرت «نصر»

- كيف تسرب موعد تحركنا إلى القصر الملكي.

- أخطأ يوسف صديق فأنقذنا وأنقذ الحركة.

- عندما تصور أحمد حلمي أن الانقلاب «شيوعي»

- شهادتي حول وقائع ثلاث:

- السادات ودوره

- نجيب ودوره.

- عبد الناصر وعامر ولماذا تجولا بملابس مدنية.


بماذا يمكن أن نصف هذا الشيء الذي حدث فأخرج يوسف صديق مبكرا ساعة ونصف الساعة قبل الموعد ودفعني إلى القشلاق ساعتين قبل الموعد لأتحرك بقواتي مبكرا وقبل ساعة الصفر أيضا؟

هل هو توفيق من الله الذي لم يتخل عنا طوال تحركنا المثابر منذ الأيام الأولى.؟

أم هو الاندفاع عشقا كالمحب الولهان يسارع إلى موعد لقاء محبوبته قبل أوانه بأمد طويل مستعجلا لقياها مؤملا في أن تسرع عقارب الساعة؟.

لعله الاثنين معا...

توفيق الله ورعايته لنا واندفاعنا في حب الوطن والشعب.

وهكذا أمكننا أن نتوقى الخطر الداهم الذي أوشك أن يطيح بنا وبحركتنا بعد أن تسربت للقصر الملكي أخبار اعتزامنا التحرك.

ولكن كيف كان ذلك؟

في الفصل السابق حددت أسماء كل من عرفوا ساعة الصفر: لجنة القيادة ومعها الضباط الأربعة زكريا والشافعي وعبد المنعم أمين والطحاوي والمؤكد أن أحد من هؤلاء لم يتسرب منه شيء وإلا لكان الإعدام نصيبنا جميعا ولما انتظرونا حتى المساء أو حتى قبضوا علينا ونحن مجتمعون ف غرفة الصالون في منزلي.

ثم سرب عبد الناصر الخبر بطريقة محسوبة تماما باتجاهين سياسيين:

إلى الإخوان المسلمين عن طرق حسن عشماوي ..

وإلى حدتو عن طريق حمروش الذي أبلغ أحمد فؤاد والرفيق بدر (سيد سليمان رفاعي ).. وإلى هنا والخبر مؤمن تماما ولم تتسرب عبر هاتين القناتين أية معلومات.

ثم ذهب الضباط أحمد أنور ليبلغ شيخا من كلية الشريعة اسمه الشيخ محمد الأودن وكان يتبرك به ونال بركته وأبلغه بتحركنا لكن السر أيضا ظل مصانا وظلت نصر وهي مفتاح تحرك القوات في مأمن من الخصوم.

مرة أخرى كيف تسرب الخبر؟

الحقيقة أنه تسرب من مصدرين وليس من مصدرين وليس من مصدر واحد:

أحد الضباط الأحرار وهو الملازم أول حسن محمود صالح ذهب مسرعا إلى زملائه في سلاح المدفعية ليبلغهم أنه ذهب في المساء إلى بيته ليرتدي زيه العسكري فشكت والدته في الأمر وأنت تعلم أنه ليس لديه خدمة في هذا اليوم وأنه على علاقة بحركة ما فأسرع بإبلاغ أخيه اللواء جوي متقاعد صالح محمود صالح بشكوكها ليقوم بدوره بالاتصال بحيدر باشا في الإسكندرية ليبلغه باعتقاده أن بعض الضباط ينوون عمل شيء ما الليلة.

عرف ضباط المدفعية بهذا النبأ الصاعق في الساعة السابعة مساء ولم يكن هناك أي مجال لتغيير أي خطط فقد سبق أن تقرر عدم الاتصال التليفوني بأي شخص وكان الجميع قد تفرقوا استعدادا لتحريك قواتهم وكل ما فعلوه هو أنهم أعادوا الضابط حسن صالح إلى بيته لعله يطمئن والدته ولعل هذه الطمأنينة تنتقل عبرها إلى أخيه ومنه إلى حيدر باشا.

لكن الشك الذي دخل إلى قلب حيدر باشا لم يكن هناك من سبيل لانتزاعه خاصة وأن معلومة أخرى من مصدر آخر قد عززت الشك لديه حتى أوشك أن يصبح يقينا..

فالضابط ممدوح شوقي وهو ابن خالة ثروت عكاشة) وكان معنا حاول أن يكسب في ها لوقت الحرج ضابطا آخر وهو اليوزباشي فؤاد كرارة فأبلغه بأن الجيش سيتحرك الليلة وأسرع كرارة ليبلغ اللواء أحمد طلعت حكمدار بوليس العاصمة الذي سارع بدوره بإبلاغ القصر. وهكذا بدأت ماكينتان في الدوران..

كل منهما يريد أن توقف الأخرى وأن تش فعاليتها ومن ثم تسيطر على القوات المسلحة ومن خلالها على مجمل الوطن ومستقبله.

نصر خطتنا التي كانت محمولة في قلوب رجال قرروا أن يهبوها حياتهم..

و «الملك»ورجاله وكبار ضباطه يتحركون هم أيضا.

اللواء حسين فريد استدعى إلى قصر عابدين على الفور وكلف باستدعاء قيادات الجيش وتكليفهم بالتوجه إلى مواقعهم لفرض سيطرتهم عليها.

ويعقد اجتماع لأركان حرب الجيش في قيادة الأركان بكوبري القبة وقد وجهت الدعوة على قيادات الأسلحة والمناطق لحضور مؤتمر في الساعة العاشرة ولم يدع اللواء محمد نجيب إلى هذا المؤتمر بما يعزز الاعتقاد بأن السراي كانت تعتقد أن اللواء محمد نجيب يقف خلف عملية التمرد الجارية لكن الدعوة وجهت إلى أخيه اللواء علي نجيب قائد قسم القاهرة وعرف محمد نجيب من شقيقه بموعد المؤتمر والهدف من انعقاده.

كانت عدم دعوة محمد نجيب إلى المؤتمر مفيدة جدا لنا.. ألم أقل إن توفيق الله كان يحيط بنا بل ويلاحقنا فقد تناسب ذلك مع خطتنا التي ترمي إلى إبقائه في منزله دون أية شبهة تخيط به إلى أن ننجح ثم نستدعيه لتولي القيادة.

كما كانت عدم دعوته فرصة لبقائه بالمنزل كي يمتلك حرية الاتصال والإبلاغ عن المعلومات التي حصل عليها من شقيقه علي نجيب.

وبالفعل نجح محمد نجيب في الاتصال بعبد الحكيم عامر ليبلغه بما حصل عليه من معلومات وكان نجيب صاحب فكرة الإسراع باعتقال القادة المجتمعين بكوبري القبة أثناء خروجهم لشل سيطرتهم وإفشال أية خطة للتحرك المعاكس.

كان الوقت متأخر لتغيير أية خطط وكان إيقاف التحرك غير وارد على الإطلاق مهما كانت الأخطار بل إن إيقاف التحرك سيجلب أخطارا مؤكدة بمحاكمتنا جميعا أما استمرار التحرك فهو الفرصة الوحيدة لتحقيق الانتصار.

ولكن كيف يمكن اللحاق بهؤلاء القادة العسكريين الذين التقوا في العاشرة مساء بكوبري القبة والذين لابد أنهم سيتلقون تعليمات عاجلة بالإسراع إلى معسكراتهم للسيطرة عليها قبل تحرك رجالنا؟

أسرع عبد الحكيم عامر إلى جمال وخرجا معا بملابسهما المدنية في سيارة جمال الصغيرة بأمل أن يلتقطا أي خيط من قوانا ليدفعاه إلى الإسراع نحو كوبري القبة واعتقال الضباط الكبار قبل إفسادهم لخطتنا.

ونحن الذين دفعنا عشقنا لمحبوبتنا مصر إلى الذهاب للقياها مبكرين عن الموعد بساعتين أو أكثر كنا نستعد كي ندير موترات سياراتنا ومدرعاتنا عندما بدأت قيادات الجيش في دخول المعسكرات لتقع في أيدينا ونعتقلها.

لو أننا تأخرنا نصف ساعة أو أقل، أو بالدقة لو أننا لم نذهب مبكرين لكانوا سبقونا وسيطروا على القوات وسقطنا نحن في مصيدة الاعتقال.

إنه توفيق الله سبحانه وتعالى..

دارت موتورات السيارات المدرعة لقواتي وكانت تضم 400 جندي بسلاحهم وذخيرتهم التي استكملتها بفضل معونة حسين الشافعي أما بقية القوات التابعة لي وهي حوالي 600 جندي آخرين غير مسلحين لأن كتيبتي كانت تحت التشكيل فقد تركتهم في القشلاق واستفدنا منهم ف خدمات معاونة.

دارت موتورات السيارات المدرعة وتعالى هديرها وهي تنطلق ومن بعيد أتى صوت طلقات الرصاص.

كانت هذه الطلقات مثارا لحيرتي فهل هي طلقاتنا التي تؤكد تمكننا من فعل شيء ما أم هي موجهة ضدنا لتوقف مسيرتنا؟ لكن الذي أثار حيرتي أكثر هو أن ساعة الصفر لم تكن قد حانت بعد فلماذا هذا الرصاص؟

ولم يكن ثمة مجال لأي تردد، دارت موتورات السيارات المدرعة وتوكلت على الله.

قمت بتقسيم القوة إلى مجموعتين: مجموعة تحت قيادتي وقمت بواسطتها بإغلاق الطريق المؤدي إلى شارع الخليفة المأمون من عند محطة البنزين ومجموعة أخرى وجهتها تحت قيادة الملازم وجيه رشدي ليغلق المنطقة أمام مدخل المستشفى العسكري عند مسجد جمال عبد الناصر الآن) وبعض قواتي توجهت تحت قيادة ضباط آخرين من الفرسان لتغلق المنطقة عند باب ستة بالعباسية وكان لدي جنود فائضين فأعطيتهم لضباط آخرين فقد كانت هناك كتائب أخرى من الفرسان لديها ضباط أحرار بلا جنود.

وقبل الثانية عشر بوقت كاف كنا قد أحكمنا إغلاق هذه المنطقة تماما ومنعنا العديد من الضباط الكبار الذين تم استدعاؤهم على عجل من المرور إلى قواتهم وهكذا بدأت الخطة نصر تتوقف على خطة القصر الملكي ولعل الفضل الأول في نجاحنا يرجع إلى تحركنا في الحادية عشرة وليس كما قررنا من قبل أي في الثانية عشرة هذا الخطأ الذي قد يؤدي في أية عملية عسكرية أخرى إلى كارثة حقيقية أنقذنا ومنحنا فرصة النجاح، ولعله كان إلهاما من الله لا حيلة فيه ساعة كاملة كسبناها وكانت كافية تماما لإفشال تحرك الخصوم وتساقطهم في أيدينا.

حوالي العاشرة والنصف أعلن يوسف صديق الطوارئ في قوات مقدمة كتيبة مدافع ماكينة وكان قائدا ثانيا لها وكان معه الضابطان عبد المجيد شديد ومحمد السقا وقبل ساعة الصفر وقف في قوته خطيبا لم يخف شيئا فقد ألقى خطابا ناريا مؤكدا أنهم وأولادهم سوف يفخرون بما ينجزون هذه الليلة.

كانت هذه الكتيبة معسكرة في الهايكستب أبعد معسكرات ضواحي القاهرة، ولم نكن نعلم شيئا عما يجري في قيادة الجيش.

تحرك طابور الكتيبة التي تملك قوة نيران شديدة ومدافع رشاشة ثقيلة عالية الكفاءة وفي مقدمته سيارة جيب بها القائمقام (البكباشي في ذلك الوقت) يوسف صديق ولدى خروجه المبكر فوجئ بالقرب من أبواب المعسكر باللواء عبد الرحمن مكي قائد فريق المشاة الثانية فقام باعتقاله وعند مدخل المعسكر كان هناك الأميرالاي عبد الرؤوف عابدين يسرع بعربته إلى الهايكستب فاعتقله أيضا وسار موكب غريب جدا: سيارة جيب بها بكباشي ثم سيارة أخرى ترفع ببريق اللواء وبداخلها سجينان: لواء وأميرالاي ثم طابور سيارات مدافع ماكينة.

كان الموكب يسرع نحو هدفه وفيما هو يهز شوارع مصر الجديدة مقتربا من كوبري القبة مبكرا بحوالي ساعة قرر يوسف صديق أن يوقف القوة قليلا حتى تقرب ساعة الصفر.

وفي هذه الأثناء اقترب شخصان يرتديان ملابس مدنية ويركبان سيارة صغيرة من هذا الطابور الغريب والمريب سيارة اللواء التي تحمل البيرق أثارت مخاوفهما ودهشتهما معا وتقدم عبد الحكيم عامر بصورة لافتة للنظر محاولا أن يتعرف أية قوات هذه وأي بريق هذا وإلى أين يتجه؟

وتحت قيادة من؟ ولحساب من تتحرك؟ وارتاب الجنود في هذين الشخصين وقاما بالقبض عليهما وثارت ضوضاء وتوقفت السيارة الجيب وخرج يوسف صديق ليسأل عما جرى فوجد أمامه جمال عبد الناصر مقبوضا عليه هو وعبد الحكيم عامر أمر على الفور بإطلاق سراحهما كانت كلمات جمال عبد الناصر أسرع مما يجب وعرف يوسف صديق ما حدث، واتفقوا في سرعة قياسية على احتلال مبنى قيادة الجيش والقبض على ما فيه.

كانت الخطة الأصلية أن يذهب يوسف صديق بقواته إلى مبنى قيادة الجيش دون اقتحامه فقط يحاصره من الخارج والآن تقرر اقتحام المبنى.

وأسرع جمال وعبد الحكيم إلى منزليهما ليلبسا ملابسهما العسكرية وأسرع يوسف صديق ليوزع قواته لتصبح في وضع الاقتحام فصيلة تقطع الطريق عند مستشفى الجيش وفصيلة أخرى تقطع الطرق عند كوبري السيوفي أمام سلاح خدمة الجيش وبقية الجنود للاقتحام وفي هذه الأثناء وصلت فصيلة سيارات مصفحة بقيادة فاروق عزت الأنصاري لتحتشد عند مدخل قيادة الجيش لمساعدة قوات يوسف صديق في عملية الاقتحام وقدمت عونا إيجابيا في إنجاز هذه المهمة التاريخية وعند نزول القوات من سياراتهم فوجئ يوسف صديق أمامه بالأميرالاي أحمد سيف اليزل خليفة فاعتقله وترك سائقه حارسا على ثلاثة من أكبر ضباط الجيش وأمره بإطلاق النار عليهم لدى أي محاولة منهم للهرب.

واقتحم بقواته وقوات فاروق الأنصاري مبنى قيادة الجيش.

وفي هذه الأثناء كانت قواتنا الأخرى تعتقل كبار القادة الذين أسرعوا إلى معسكراتهم بأوامر من حسين فريد للسيطرة عليها.

كمال الدين حسين وأبو الفضل الجيزاوي في المدفعية اعتقلا اللواء حافظ بكري قائد المدفعية والبكباشي عبد الفتاح كاظم أركان حرب سلاح المدفعية.

وكما قلت ثروت عكاشة قبض على اللواء حشمت قائد سلاح الفرسان.

وسيطرت أنا بقواتي على قلب المنطقة العسكرية والمدفعية سيطرت على ألماظة ومجموعة أخرى من المدفعية تحركت تحت قيادة اليوزباشية فتح الله رفعت وكمال لطفي وأحمد شهيب للتعرض لمحاولة قام بها صاغ اسمه معز حاول تحريك قوات البوليس الحربي ضدنا وقد اعتقل الصاغ معتز وأحبطت حركته، وتمت السيطرة على مقر البوليس الحربي كما تحركت قوات مشاة بقيادة شمي بدران من أساس المشاة للسيطرة على مقر قسم القاهرة الذي يقوده اللواء علي نجيب وقام مجدي حسنين في سلاح خدمة الجيش بإرسال سيارات بنزين للوحدات المتحركة والأهم من هذا أنه أوقف أية إمدادات لأية قوات معادية.

وهكذا تأتي الساعة الثانية بعد منتصف الليل لتجد كل المنطقة العسكرية من ألماظة إلى الهايكستب إلى العباسية تحت سيطرتنا ولتجدنا أيضا وقد اعتقلنا العديد من قيادات الجيش من بكباشي فما فوق.

أما أنا فكنت لم أزل مسيطرا على الموقع الحاكم في شارع الخليفة المأمون وهناك تساقط في يدي عديد من قيادات الجيش الذين تركوا منازلهم مسرعين بناء على أوامر من حسين فريد بهدف الوصول إلى قواتهم للسيطرة عليها لكنني منعتهم وأعدتهم من حيث أتوا.

كان بعض الضباط الكبار يحضرون سيرا على أقدامهم فسياراتهم لم تكن قادرة على التحرك بينما لديهم تعليمات من حسين فريد الذهاب فورا إلى معسكراتهم كانوا يأتون سيرا على الأقدام يحاولون المرور من الحصار المضروب بواسطة قواتي لكننا كنا نمنعهم ونطلب منهم العودة إلى بيوتهم ما زلت أذكر واحدا منهم اندفع نحوي قائلا: يا حضرة الضباط من فضلك عربية توصلني للسلاح لأن هناك تمرد فقلت باسما: آسف أصل أحنا التمرد وطلبت منه أن يعود إلى بيته فعاد.

لم نكن نريد اعتقال عديد من الضباط فقط كنا نعتقل من يتصدى لنا والقيادات الأساسية وهكذا ففي بعض الأحيان وعندما أجد سيارة جيب لا ضرورة ملحة لها كنت أرسلها بالضباط الكبير إلى بيته وبذا نأمن شره حتى نؤمن حركتنا تماما.

وبعد وصولي إلى موقعي بفترة وجيزة تقدم طابور مدفعية نحوي كانت قوات مدفعية مضادة للدبابات بأعداد كبيرة بقيادة الصاغ ربيع عبد الغني ولم أكن أعرفه في ذلك الحين.

لا شك أن هذه القوات أكبر حجما وتمتلك كثافة نيران أكبر من قواتي ذلك أن تسليحها قوي وبدأت استشعر خطرا حقيقيأن فماذا لو أنها قوات معادية؟ أحسست بمشاعر غريبة فأنا ثابت عند قراري بأنني لن أستسلم أبدا إذن لو كانت قوات معادية فهي معركة صحيح أنها لن تكون معركة متكافئة ولكن لابد من خوضها فلا سيبل آخر، ولثان بدأت أتخيل نتائج معركة شرسة كهذا وسط مبان سكنية ومواطنين آمنين ولثوان بدأت استعد لإصدار أمر بفتح النار إن كان ذلك ضروريأن توجهت إلى قائد الطابور المتقدم سائلا بحزم: كلمة السر وأنت كلمة نصر كأحلى كلمة سمعتها في حياتي، أحسست أن حلمنا يتحقق وأنه لا مبرر لإراقة دماء حتى الآن على الأقل.

سمعت كلمة «نصر» وقلت في نشوة تقدم وفتحت قواتي الطريق أمام قوات المدفعية لتتقدم وتحتل مواقعها عند قيادة الجيش.

ونعود إلى يوسف صديق على أبواب مقر قيادة الجيش فقد اقتحم بقواته الدور الأرضي وقام بتفتيشه ولم يكن به أحد وأرادوا الصعود للطابق الثاني فاعترض طريقهم جندي برتبة جاويش وحاول منعهم من الصعود حذره يوسف صديق فلم يستمع لتحذيره فأخرج مسدسه ,أطلق طلقه على ساقه وصعد هو وجنوده حاول أن يفتح باب مكتب رئيس الأركان لكن الباب كان مغلقا وكان البعض من الدخل يحاول منعهم من فتح الباب أمر يوسف صديق جنوده بإطلاق رصاصهم على الباب واقتحموا الغرفة ليجدوا اللواء حسين فريد رئيس أركان حرب الجيش واللواء حمدي هيبة وضابط آخر يرفع منديلا أبيض.

كان حسين فريد رابط الجأش وشجاعا وقال يوسف صديق مازحا: لقد طلبت أن أقابلك يا سيادة اللواء منذ مدة، ولم نتقابل وآسف أن نلتقي في هذه المناسبة، ثم طلب إليهم التحرك وسلمهم لليوزباشي عبد المجيد شديد الذي اصطحبهم هم والمعتقلين الآخرين الذين تركهم يوسف صديق مع سائقه إلى معسكر الاعتقال المعد حسب الخطة في مقر الكلية الحربية.

ووقع في هذه اللحظة حادث مثير للاهتمام فقد وصل إلى المبنى خمسون جنديا تحت قيادة ضابط وكل منهما يحمل مائة طلقة كانت رئاسة الجيش قد استدعتهم لتعزيز الحراسة على المبنى فـأخر وصولهم لعدة دقائق وسبقهم يوسف صديق .

دخل الضباط ليجد يوسف صديق مسيطرا بقواته على المبنى طلب إليه يوسف صديق بطريقته المباشرة والآمرة في آن واحدا أن ينضم إلى الثورة وانضم الضابط بجنوده الخمسين إلينا. وجلس يوسف صديق على مقعد رئيس أركان حرب الجيش وبدأ يصدر أوامره من هناك ولعل جلسته هذه كانت تعني الكثير صحيح أنها لم تكن تعني أننا قد انتصرنا فعلا وإنما كانت تعني على الأقل أن أخطر مركز للسلطة قد سقط في أيدينا وأنه لم يعد في القاهرة مركز آخر يستطيع أن يعطي أوامر مضادة لحركتنا.

وبهذا المعيار يمكن القول أن يوسف صديق قد حقق عملا تاريخيا هاما وأنه قد أسهم بشكل مباشر في إنجاح حركتنا وقد كانت شجاعته الحاسمة والآسرة في آن واحد عاملا من عوامل نجاحنا.

وفي السادسة صباحا طارت طائراتنا معلنة ليس فقط سيطرتنا على المطارات وسلاح الطيران، وإنما سيطرتنا على سماء مصر.

وارتفعت معنوياتنا إلى عنان السماء ربما أعلى من طائراتنا هناك. فجأة تذكرت زوجت وكيف أنني تركتها كل هذا الوقت نهبا للقلق أسرعت إلى محطة البنزين وأدرت قرص التليفون وعندا سمعت صوتها قتل: مبروك كانت تقول في ذات اللحظة ذات الكلمة «مبروك» فقد سمعت البيان من الإذاعة.

بعد فترة تركت مكاني وتم تغيير القوات بقوات غيرها.

لقد سيطرنا تماما على القوات المسلحة وأصبح الجيش تحت أيدينا.

ولم يمض وقت طويل حتى جاءت قرارات تأييد ومساندة من قوات رفح والعريش والإسكندرية والبحرية.

الجيش معنا.

ومع الاستيلاء على الإذاعة وإذاعة البيان الأول للثورة بدأت البشائر توحي بأن الجيش معنا.. ولم تزل في الذاكرة بعض ملامح تفصيلية للصورة عندما عدت إلى سلاح الفرسان في السماء قابلني البكباشي لطفي منصور، وكان قائد الكتيبة الميكانيكية التي كنت أنا قائدا ثانيا لها وكان خال ضابط الأحرار أحمد حموده، وعاتبني: مش كنت تقول لي يعني معقول أنا أقف ضدكم؟

قلت: نحن لم نحب أن نضعك في وضع حرج.

وعبد الواحد عمار قائد كتيبة اللواء السابع فاتحناه ليلة الثورة، وقال: أنا رجل عسكري ومن الصعب على القيام بعمل كهذا لكن إذا نجحت حركتكم فأنا سأنضم إليكم بقواتي.

وهناك عديد من الضباط انضموا إلينا ليلة الثورة أي فاتحناهم قبل التحرك مباشرة وقبلوا وتحملوا المخاطر معنا وشاركونا العمل والبعض وجدونا منهمكين في الإعداد للتحرك في سلاح الفرسان فسألوا: بتعملوا أيه يا أولاد؟ قلنا: نستعد لعمل انقلاب فقالوا: معاكم..

وهكذا فقد كانت الإمكانيات الثورية تمتلك دائرة واسعة ومتزايدة الاتساع بأكثر مما توقعنا وبأكثر مما طالت أيدينا خلال فترة التحضير وتكمن كفاءتنا وقدرتنا الأساسية في أننا في هذه اللحظات الحاسمة كنا واسعي الأفق مفتوحي الصدر لكل من يريد أن ينضم إلينا.

وثمة واقعة طريفة وقعت ليلة الثورة أيضا كان أحمد حلمي ضابط البوليس السياسي الشهير عائدا إلى بيته ومر عند كوبري القبة فوجد وضعا غير طبيعي فنزل من سيارته وبدأ يستطلع الأمر أنها عقلية ضابط المباحث التي لم تفارقه لكنه اعتقل بواسطة جنودنا وعندما سئل قال: أنا ضابط بالبوليس السياسي ولكن ومن سوء حظه أنه كان قد وقع في قبض الضابط كمال الحناوي وكان أحمد حلمي قد سبق له القبض على كمال الحناوي في قضية شيوعية وما أن رأى أحمد حلمي أن كمال الحناوي بين قوات الانقلاب حتى تخيل أنه انقلاب شيوعي وأحس أنه قد قضي عليه فقد اشتهر عنه عداؤه الشديد للشيوعية وتعقبه لرجالها واقتادوه إلى المعتقل حيث قضى ليلة عصيبة حتى أفرج عنه في اليوم التالي.

وتبقى بعد ذلك شهادتي بالنسبة لمسائل ثلاث أثارت جدلا كثيرا عند كل من مسجل شهادته حول يوليو:

الأولى: واقعة أن أنور السادات أتى من رفح متأخرا ثم ذهب للسينما وهناك تشاجر مع أحد الأفراد وذهب إلى قسم البوليس عمل محضرا بالخناقة وعاد إلى البيت في الواحدة والنصف بعد منتصف الليل ليجد ورقة من عبد الناصر تبلغه بضرورة الحضور قد بدأت الحركة.

ويحاول البعض إلقاء بعض الظلال والشكوك على دور السادات في الحركة وقال البعض أن السادات أراد أن يثبت بمحضر بوليس أنه لا علاقة له بالحركة . .وتحليلات أخرى كثيرة. وفي البداية أقرر أنور السادات كان على علاقة بيوسف رشاد رجل الملك المخلص لكن أنور السادات لم يفش سرنا له، ولو فعل ذلك لكان مصيرنا جميعا هو الإعدام فقد كان السادات يعرف كل أعضاء لجنة القيادة ولو أبلغ عنا لكنا وجه مصر قد تغير تماما لكنه لم يفعل.

أما أنه قد حرص على تسجيل ورقة مشاجرته في محضر البوليس فلعل هذا مرتبط بخبره سابقة للسادات فقد حوكم أكثر من مرة وفصل من الجيش، ولعله أراد تحصين موقفه بعض الشيء إن فشلت الحركة، ولا بأس في ذلك خاصة وأنه فعلا لم يتخلف كثيرا وأسرع ليسهم مع الآخرين فيما يفعلون ثم تلا بيان الحركة في الإذاعة.

والمسألة الثانية: هي أن جمال وعبد الحكيم كانا وحتى لحظة القبض عليهما بواسطة قوات يوسف صديق يرتديان الملابس المدنية ويحاول البعض أن يستنتج من هذا أنهما كانا يريدان التخلص من المسئولية في حالة فشل الحركة والقبض عليهما.

وردى على ذلك أنه بالنسبة لأي من أعضاء لجنة القيادة لم يكن هناك أي مجال التخلص من المسئولية في حالة الفشل، وخاصة بالنسبة لشخص كجمال عبد الناصر الذي تورط أمام أعداد كبيرة من الضباط بصفته المسئول الأول عن الحركة أما ارتداء الملابس المدينة فيمكن أن فهمه وفهم مبرراته فعبد الناصر وعامر لم يكن لديهم قوات ليتحركا بها ورغبة منهما في التحرك بحرية ولضمان الاتصال بأية قوات وإبلاغها بضرورة مهاجمة مبنى قيادة الجيش فقد كان من الطبيعي أن يرتديا ملابس مدنية فالتحرك بملابس عسكرية كان مستحيلا في ليلة كهذه خاصة وأنهما يعلمان جيدا أننا أصدرنا تعليمات بمنع تحرك الضابط من رتبة بكباش فما فوق.

أما لمسألة الثلاثة: التي يستشعر ضميري ضرورة أن أدلي بشهادتي فيها فهي دور محمد نجيب وقد حاول البعض أن يقلل من دور محمد نجيب وأن يدعي أنه ظل في بيته حتى انتصرت الحركة فأتى لينتزعها الحقيقة غير ذلك.

لقد رغب نجيب في أن يشاركنا التحرك منذ اللحظة الأولى، وعندما علم أننا وضعنا خطة التحرك طالب بالمشاركة ف تنفيذها لكننا كنا نريد أن نبعده عن أي مشاركة فعلية عن عمد لنضمن سلامته حتى يمكنه في لحظة انتصارنا أن يتولى القيادة.

هو إذن كان يرد ويصمم أن يشاركنا المسئولية والمخاطرة ولم يبخل بشيء لكننا وعن عمد قررنا أن ندخره بعيدا عن المخاطرة وكنا على حق في ذلك ثم إنه كان الوجه الذي قدم للعالم وللشعب المصري كقائد للحركة العسكرية التي استولت على الحكم في البلاد وتحمل المسئولية العسكرية والسياسية أمام الجميع وأي تراجع أو نكسة ليوليو في أيامها الأول أو ساعاتها الأولى كان سيضع على عاتق نجيب المسئولية الأولى التي لا مجال للتخلص منها خاصة وأن صحف يوم 24 يوليو قد صدرت بعناوين كبيرة تقول: محمد نجيب يقوم بحركة عسكرية.

إنها شهادتي للتاريخ في الوقائع الثلاث أقدمها مستندا إلى الحقائق المجردة عن الهوى وأقررها بضمير مرتاح تماما لأنه لا يجد مبررا للتلاعب بأحداث التاريخ في محاولة لتصفية حسابات سياسية..

وكان صباح 23 يوليو قد أشرق ليجدنا نحن أعضاء لجنة القيادة في وضع غريب، فلسنا ضباطا عاديين كما كنا .. كما أننا لن نصبح حكاما بعد.


الفصل الثاني عشر: لم نعد ضباطا.. ولسنا حكاما بعد.

- أمي .. لم تكن تحب عبد الناصر.

- وألح جمال سالم على إعدام الملك.

- استقالة جمال .. ثم رجع عن استقالته..

- وبكيت لأول مرة.

- وبدأت لعبة... الحكم.


كم هي المسافة بين لحظة تحركي مع قواتي خارج من القشلاق حتى تلك اللحظة التي أذيع فيها بياننا الأول بالراديو وطائراتنا تحلق في السماء.

هل يمكن حسابها بالساعات أم بالدقائق؟

أعتقد لا..

هل يمكن القول إنها وهلة أو لحظة في عمر التاريخ امتدت فيها يدنا لتقلب صفحة ولتبدأ صفحة جديدة؟

جرب معي.. أن تقلب صفحة في هذا الكتاب الآن كم من الزمن تستغرق؟. لا شيء تقريبا لكنها تقدم إليك شيئا جديدا فما بالك وأنت تقدم شيئا جديدا لوطنك وشعبك شيئا ظللت تحلم به سنين طويلة حلما ظللت تنسجه خيطا خيطا وتتأنى في نسجه إلى حد الملل.

وأحاول الآن أن استعيد وقفتي هناك متحكا في مفترق الطرق الحاكم لكل من يريد الاتجاه نحو قلب المنطقة العسكرة أو نحو مبنى هيئة أركان حرب.

وان نسيم الليل نعشا قليلة هي اللحظات التي استطاع التفكير ف أسرتي أن ينتزعني فيها من بين براثن الزمن الممتد طويلا ومديدا وكأنه يرفض أن يتحرك.

كان طيف زوجتي ابني، ابنتي المريضة يغلق محاولاتي أن أتناسى كل شيء إلا إنجاح حركتنا وان من الصعب أن أبتعد عن هذا الطيف لكنه كان من المستحيل أن أنغمس فيه فلو فعلت لكان من الصعب أن أبتعد عن هذا الطيف لكنه كان من المستحيل أن أنغمس فيه فلو فعلت لكان من الصعب أن أتصدى كل قوة قادمة سائلا بحزم عن كلمة السر فمع كل سؤال كان هناك احتمال ألا ينطق القادم الجديد بكلمة نصر وساعتها سيكون على أن أتخذ القرار الصعب أن نتحارب معا.

كان هناك أيضا أمي وأبي..

أمي كانت تعرف أن ابنها منغمس في شيء ما..

كانت الشمس لا تأتي بيتنا في مصر الجديدة إلا نادرا ولهذا كنت أصطحب أسرتي إلى بيت أمي في المنيل كل شتاء حيث الشمس وفيرة وكان قلبها يحدثها أننا نفعل شيئا ضباط كثيرون يأتون نغلق باب غرفة الصالون نتهامس نصمت عندما يدق الباب معلنا أن الشاي جاهز ولم يكن قلبها مرتاحا لما يجري لكنها أبدا لم تعترض فقط لم تكن تبدي حبا لهذا الضابط الطويل المتجهم دائما الصامت لدى دخوله وخروجه.. جمال عبد الناصر..

كان ثمة شيء يحدثها أن هذا الرجل يرتب شيئا ما مع ابنها وكانت تخاف منه ومن هذا الشيء.

ثم أتت حركتنا وهي في منتصف رحلتها بالبحر إلى تركيا تناقل الركاب نبأ الانقلاب الذي سمعوه بالراديو أبدتا هلعا في البداية ثم بدأت تلح على التفاصيل: هل نجحوا؟ كيف؟ ومن هم؟

كان ثمة إحساس يغمرها أنني هناك مع هؤلاء الذين فعلوها استعادت كل هفواتنا الصغيرة التي يمكن أن يتجمع منها خيط يوحي بأننا كنا نرتب لشيء ما.

والركاب المحيطون بها ارستقراطيون لم يستطيعوا أخفاء عدائهم للحركة هاجمونا بشدو انتقدوا بشدة حنينها لأن تعرف هل نجحت الحركة وارتياحها لدى سماعها أنباء النجاح.

كانت واثقة في أعماقها أنني ضمن هذا الفريق ولم تهمها نظرات الغضب الاستفزازية من المحيطين بها من الارستقراطيين.

أما أبي فقد أيقظوه من النوم وهو في كفر شكر صاحي يا أمين بيه الجيش عمل انقلاب.

انتفض فزعا وصاح: خالد إيه أخباره؟ سألوه: هل خالد بيه معاهم؟

عاد الأب إلى حرصه فلعل شيئا سيئا يقع فهل يفشي هكذا سر ابنه فلا شك أن الأم قد همست في أذنه بملاحظاتها.

لكن الغريب أن أحدا منهما لم يقف في طريقي ولم يعترض على ما أفعل تماما كما فعلت زوجتي.

في السادسة صباحا كان انتصارنا الأول قد تأكد قطاعات الجيش المختلفة كانت تعلن ولاءها للحركة كمال رفعت وأمال المرصفي كانا يواصلان اعتقال قيادات الجيش وفق الكشوف المعدة مسبقا التعليمات صدرت إلى كل الضباط من رتبة بكباشي فما فوق أن يلزموا منازلهم لحين صدور أوامر لهم.

كل شيء في الجيش أصبح تحت سيطرتنا وآن لي أن أستريح قليلا ولكن هل أستريح قبل أن يستريح جنودي؟ عدت بهم إلى القشلاق بعد أن حلت محلهم قوات جديدة.

وعدت إلى البيت لأنام قليلا.

وأعود بعد الظهر إلى مبنى أركان حرب حيث كان نجيب جالسا في موقع القائد وأعلنت انضمامها إلى الحركة كذلك قوات العريش وقوات السويس لكن الخبر الأكثر أهمية كان السيطرة على قوات الجيش بالإسكندرية وإعلانها الانضمام للحركة «ففاروق» كان هناك ولعل جزء من حساباته كان الاعتماد على قوات الإسكندرية في مقاومتنا.

لكن مصر كانت ناضجة تماما للتحرك وكذلك الجيش فلم يكن بإمكان أحد أن يقف مع فاروق.

الجماهير في الشارع تهتف للحركة وبدأت برقيات التأييد في الوصول: برقية من هيئة التدريس في جامعة الإسكندرية وبرقيات من عديد من النقابات وازددنا شعورا بالثقة.

الضابط طيار مصطفى صادق عم الملكة ناريمان اتصل بنجيب يسأل عن طلباتنا وتقدمنا بأول طلب عزل قائد الجيش وتعيين قاد جديد منا وأسرع الملك المنهار بإصدار مرسوم بترقية محمد نجيب إلى رتبة فريق وتعيينه قائدا للجيش وعاد مصطفى صادق ليسأل: ماذا تريدون أيضا طلبنا إقالة وزارة الهلالي وتشكيل وزارة برئاسة علي ماهر فوافق على الفور ثم طالبنا بإبعاد حاشية الملك كريم ثابت أندراوس، محمد حسن، وبولي، وكان الرد بالموافقة ما عدا بولي. وأصبح واضحا لنا تماما أن الملك مستسلم ومنهار وأنه يفقد أي سند داخلي أو خارجي واتضح أن حساباتنا بشأن التدخل الأجنبي كانت صائبة، فلا الإنجليز ولا الأمريكان كانوا راغبين في التورط في مساندة ملك يكرهه الناس جميعا.

وطوال يوم 23 ونهار 24 يوليو كان التأييد الشعبي يتعاظم بصورة لم نكن نتوقعها ولم يكن يتوقعها أحد وفي مساء 24 يوليو اجتمعنا في لقاء سريع.

ها نحن نجتمع كحكام لكننا في واقع الأمر لم نصبح حكاما بعد ليس فقط لأن القرارات كانت لم تزل تصدر باسم الملك وإنما أيضا لأننا لم نكن نعرف وعلى وجه التحديد كيف سنمارس الحكم؟

وسيطر علينا سؤال كبير: كيف نتصرف إزاء الملك؟ وسيطرت أيضا إجابة حاسمة صنعها إصرارنا القديم على ضرورة الخلاص منه ومن فساده وزادها يقينا هذا الحماس الدافق المؤيد لنا في كل مكان ومنحها الشجاعة الكافية هذا الانهيار الذي اتسمت به تصرفات الملك واستعداده للموافقة على أي شيء.

فلنتخلص من هذا الملك ولنخلص البلد منه ومن فساده كانت هذه هي الإجابة الحاسمة التي صدرت بالإجماع.

وقررنا أن يسافر إلى الإسكندرية لتنفيذ هذه العملية: زكريا محيي الدين حسين الشافعي، عبد المنعم أمين، يوسف صديق ، وجمال سالم (الذي اتى من العريش يوم 24يوليو).

وتحركت إلى الإسكندرية قوات كبيرة بالقطار والسيارات لتعزيز الموقف هناك ولإثبات إصرارنا على مطالبنا.

كما تم إيفاد البكباشي عبد الرؤوف نافع من الضباط الأحرار إلى الإسكندرية لضمان تأييد البحرية فقد كانت له صداقات عديدة في البحرية.

أما أنا فقد عدت إلى الفرسان لم أطلب منصبا طلبت فقط أن أبقى مع رجالي وزملائي وتقرر أن أعمل كضابط مخابرات سلاح الفرسان، وكان مفهوما منذ البداية أنني لن أعمل كضابط مخابرات تقليدي وإنما سأمارس نشاطا سياسيا في السلاح من خلال تفرغي لهذا الموقع وان ها طبيعيا فقد كان حسين الشافعي أعلى رتبة مني ولم يكن بالإمكان أن أتولى في الفرسان موقعا أعلى منه أو أدنى منه بينما أنا عضو في لجنة القيادة التي أصبحت بشكل أو بآخر تمثل سلطة السيادة في مصر.

واختير الضابط عبد الفتاح علي أحمد ليعمل كمساعد لي.

قضيت طوال يوم 25 يوليو متنقلا بين السلاح وبين قيادة الجيش وفي المساء عدت إلى البيت لأمر هام لكن اتصل بي مساعدي ليبلغني أن جمال عبد الناصر يطلب مني التوجه إلى القيادة.

توجهت إلى القيادة مسرعا (الآن أصبح لدي سيارة جيب وكان كل ما طرأ على وضعي من تغيير) هناك كان جمال سالم متحمسا كعادته كان قد عاد من الإسكندرية بالطائرة فقد اختلف مع زملائه الذين سافروا معه لإنجاز مهمة إبعاد الملك فجمال سالم بشخصيته المتفجرة ما لبث أن أشتعل حماسا عندما رأى التأييد الجارف للحركة في الإسكندرية ووسط القوات المسلحة هناك وطالب بإعدام الملك فورا وعندما رفض زملائه المسافرون معه هذا الاقتراح أتى إلى القاهرة ليطرح الأمر علينا وبدون تردد أعلنت رفضي لقتل الملك وقلت إن القتل سيفتح الطريق إلى العنف ولقد نجحنا في إنجاز حركتنا بلا دماء فكيف نصبغها بالدم بعد نجاحها وقلت إن الملك لم يعد يساوي شيئا فلنتركه يرحل.

وكان جمال عبد الناصر أيضا ضد إعدام الملك وتجمعت أصوات كافية لإحباط اقتراح جمال سالم وعاد في نفس الليلة إلى الإسكندرية ليجري تنفيذ القرار السابق... عزل الملك عن العرش وإبعاده إلى خارج البلاد.

وفي تمام الساعة السابعة صباحا من يوم 26 يوليو كانت قواتنا تحاصر قصري المنتزه ورأس التين بهدف إظهار القوة والضغط على الملك وكانت هذه القوات تحت القيادة الفعلية لزملائنا أما نحن الذين يقينا في القاهرة فقد كانت مهمتنا ضمان استمرار السيطرة على القوات المسلحة.

طارت طائراتنا فوق الإسكندرية لتروع الملك ولتستكشف البحر خوفا من أن يهرب الملك على ظهر يخته المحروس أو أية سفينة أخرى قبل أن يتنازل عن العرش، فيضعنا في مأزق دستوري. وبعد أن تمت السيطرة على الكاملة على المدينة وعلى قواتها المسلحة وإتمام الحصار على قصري المنتزه ورأس التين بدأت الخطوة التنفيذية لطلب تنازل الملك عن العرش.

وكنا قد استدعينا سليمان حافظ وكيل مجلس الدولة وكان قريبا من الحزب الوطني، وصديقا لمحمد نجيب لكني لا أتذكر من الذي اقترح اسمه علينا فمنذ اللحظة الأولى التي أصبحنا فيها مؤهلين لإصداره من قرارات ولعل هذا كان موقفا حكيما منا فكم كان من السهل علينا أن نصدر ما نريد من قرارات حتى ولو بدت في أعين رجال القانون غير دقيقة أو غير قانونية.

وقدم لنا سليمان حافظ صيغة التنازل عن العرش المطلوب من الملك أن يوقع عليها قبل الثانية عشرة ظهرا وأن يتعهد بمغادرة البلاد قبل السادسة مساء مصطحبا معه حاجياته الشخصية وأفراد عائلته وكان د. عبد الرازق السنهوري باشا رئيس مجلس الدولة هو الذي أعد هذه الصياغة. والحقيقة أننا أعددنا وثيقتين وليس وثيقة واحدة: إنذارا وصيغة وثيقة التنازل أما الإنذار فكان عنيفا وحادا:

من الفريق أركان حرب محمد نجيب ..

باسم ضباط الجيش ورجاله إلى جلالة الملك فاروق الأول.

إنه نظرا لما لاقته البلاد في العهد الأخير من فوضى شاملة عمت جميع المرافق نتيجة لسوء تصرفكم وعبثكم بالدستور وامتهانكم لإرادة الشعب حتى أصبح كل فرد لا يطمئن علي حياته أو ماله أو كرامته وقد ساءت سمعة مصر بين شعوب العالم لتماديكم في هذا المسلك حتى أصبح الخونة والمرتشون ينعمون في ظلكم بالحماية والثراء الفاحش..»

ويمضي الإنذار منددا بتدخل الملك تحقيقات قضية الأسلحة الفاسدة. مما أفسد الحقائق وزعزع الثقة في العدالة وساعد الخونة على ترسم هذه الخطى فأثري من أثري وفجر من فجر، وكيف لا والناس على دين ملوكهم.

لذلك فقد فوضني الجيش الممثل لقوى الشعب أن أطلب من جلالتكم التنازل عن العرش لسمو ولي عهدكم الأمير أحمد فؤاد على أن يتم ذلك في موعد غايته الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم السبت الموافق 26 يوليو 52 والرابع من ذي القعدة 1371 هجرية ومغادرة البلاد قبل الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه والجيش يحمل جلالتكم ما يترتب على عدم النزول على رغبة الشعب من نتائج.

توقيع: فريق أركان محمد نجيب .

أما وثيقة التنازل عن العرش فقد أعدها السنهوري باشا في صيغة أمر ملكي يستند في عباراته إلى الدستور وكانت الصياغة موجزة ومحكمة:

أمر ملكي رقم 65 لسنة 1952

نحن فاروق الأول

ملك مصر والسودان.

لما كنا نطلب الخير دائما لأمتنا ونرتجي سعادتها ورقيها ولما كنا نرغب رغبة أكيدة في تجنيب البلاد المصاعب التي تواجهها في هذه الظروف الدقيقة ونزولا على إرادة الشعب قررنا النزول عن العرش لولى عهدنا الأمير أحمد فؤاد وأصدرنا أمرنا بهذا إلى حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس الوزراء لعمل اللازم.

صدر بقصر رأس التين في 4 ذي القعدة 1371هـ - 26 يوليو 52

وذهب ممثلو الحركة إلى علي ماهر وكان بالإسكندرية وطلبوا إليه أن يحمل الوثيقة إلى الملك وأن يطلب إليه التوقيع على وثيقة التنازل.

صعق علي ماهر وامتقع وجهه وأصبح شديد الاصفرار ورفض أن ينقل إلى الملك الوثيقتين ووعد بأن ينقل طلب التنازل إلى الملك شفويا وبعدها يقوم شخص آخر بالحصول على توقيع الملك على التنازل ويبدو أن علي ماهر قد فوجئ بهذا الأمر مفاجأة تامة، شلت قدرته على التصرف وهو السياسي المحنك.

ذهب علي ماهر إلى قصر رأس التين وعاد وبعدها توجه سليمان حافظ يحمل الإنذار بيد ووثيقة التنازل باليد الأخرى.

قرأ الملك ويده ترتعش وثيقة التنازل وقال: أنا أريد إضافة كلمة واحد فالوثيقة تقول: نزولا على إرادة الشعب واقترح أن أضيف كلمة وإرادتنا لكن سليمان حافظ وكان جافا بطبعه نصحه بأن يوقع على الوثيقة كما هي ودون أي تعديل وألمح إلى وجود وثيقة أخرى أشد لهجة فقال فاروق: أفهم من هذا أن هناك وثيقة أخرى فهل يمكن أن أطلع عليها؟ لكن سليمان حافظ قال إنه شخصيا لم يطلع عليها وأنها ليست معه.

أخيار أمسك الملك القلم بيد شديدة الارتعاش ليوقع على وثيقة تنازله عن العرش كانت يده تهتز بما هو أكثر من الارتعاش فجاء توقيعه مهتزا واعتذر سليمان حافظ طالبا من الملك أن يوقع بشك أكثر ثباتا تماسك فاروق ووقع ثانية توقيعا أكثر ثباتا.

وهكذا وربما في حدث تاريخي لم يسبق له مثيل فإن وثيقة تنازل فاروق عن العرش تحمل توقيعين وليس توقيعا واحدا.

كنت في هذه الأثناء انتقل بين القشلاق ومقر القيادة وعلمت أن الملك قد وقع على وثيقة التنازل وطلب إلى جمال عبد الناصر أن أسافر إلى الإسكندرية قبل السادسة لأحضر عملية رحيل الملك لكنني اعتذرت فقد كان المرض يشتد على ابنتي وكان موعدنا مع طبيبها في السادسة والنصف.

أسرعت إلى البيت تناولت طعامي هادئا ولم أقل لزوجتي أي شيء نزلنا قبل السادسة بقليل وركبت سيارتي التي اشتريتها فور مرض ابنتي أي قبل حركتنا بأيام فقد كنا في حاجة إلى الذهاب للطبيب كثيرا ولا مفر من شراء سيارة واشتريت سيارة صغيرة وقديمة بمائة وخمسين جنيها نعم مائة وخمسون جنيها.

ركبنا السيارة وعندما اقتربت الساعة من السادسة قلت لزوجتي: سأسمعك خبرا وفتحت راديو السيارة وبدأ المذيع يهدي إلى مصر كلها نبأ تنازل الملك عن العرش.

انسابت الدموع من عيني وفيما كانت زوجتي تتفجر فرحا فوجئت بدموعي وسألتني في دهشة: هل كنت تعرف الخبر؟ قلت: نعم فقالت: لماذا الدموع إذن؟ وكانت الإجابة صعبة للغاية هل أحكي لها قصة الحلم إلي عشنا على أمل أن يتحقق أم أحكي لها قصة كفاح طويلة خاضع شعب مصر حتى تحقق له هذا الحلم أم أتحدث عن طموحات المستقبل والعبء الثقيل الذي ينتظرني؟

ولم أجب فقط قلت لها: أصل أنا فرحان قوي.

وكنت قبل الدخول في مرحلة الإعداد النهائي لحركتنا قد استأجرت شقة في الإسكندرية لنقضي أجازة الصيف فيها وكان صاحب الشقة قد طلب أن أذهب يوم 28 يوليو لأستلم الشقة واصطحبت أسرتي إلى الإسكندرية وقضيت يوما واحدا معهم وعدت مسرعا إلى القاهرة لأجد الدنيا مقلوبة رأسا على عقب كنت قد سمعت وأنا في طريق عودتي نبأ تشكيل مجلس الوصاية وفيما أنا متجه لمقابلة جمال عبد الناصر كان الجميع يسألونني: أنت كنت فين إحنا قلبنا الدنيا عليك (ولم نكن قد تعلمنا بعد أصول لعبة كبار المسئولين حيث يتعين أن يبلغ كل منا بمكان وجوده حتى يمكن الاتصال به في أية لحظة)

سألني جمال نفس السؤال: أنت كنت فين؟ وقال نفس العبارة: أحنا قلبنا الدنيا عليك وبدأ جمال يحكي لي قصة أولا خلاف حقيقي بين رجال الثورة، وقصة أول تلويح له بالاستقالة.

القصة بدأت عندما دخل الضباط إلى دهاليز الحكم المعقدة وتعقيدات المشاكل الدستورية والفقهية فقد اتضح أن الدستور لا يتضمن أي نص يفيد إمكانية تنازل الملك عن العرش فقد أورد الدستور حالتين فقط أوردهما حصرا هما المرض والوفاة..

ووقع الجميع في المأزق فقد كان من الضروري أن يدعي مجلس النواب ليصادق على قرار التنازل وعلى تشكيل مجلس الوصاية على العرض واقترح البعض دعوة مجلس النواب لإنجاز هذه المهمة ثم يحل على الفور ذلك أن استمراره سوف يعني عودة حكومة الوفد فورا.

لكن وحيد رأفت أفهم الضباط أن دعوة مجلس النواب ثم حله سيعني وفق أحكام الدستور ضرورة إجراء انتخابات نيابية في ظروف ستين يوما.

ولكن رأي وحيد رأفت بمفرده أمام مستشاري مجلس الدولة أن التنازل مثل الوفاة والمرض لأن الدستور ملكي لا يمكن أن يأتي فيه التنازل ولذلك كان لابد من تطبيق حالة التنازل مثلها مثل المرض والوفاة أي دعوة مجلس النواب لإقرار الوصاية أما باقي المستشارين فقد كان رأسهم أنها حالة جديدة تستدعي وضعا جديا يمكن فيه اعتبار مجلس الوزراء هو السلطة التشريعية وهو الذي يعين مجلس الوصاية نيابة عن مجلس النواب.

وأسقط في يد البعض.

عبد الناصر قال إنه يوافق على دعوة مجلس النواب ثم حله ودعوة الناخبين لانتخاب مجلس جديد وفق أحكام الدستور خلال ستين يومأن ولكن ضباط المدفعية والطيران وقفوا ضد هذه الفكرة بشدة وقالوا بصراحة أنهم قاموا بالحركة ولن يسلموها للآخرين جاهزة.

حاول عبد الناصر أن يفهمهم أننا التزمنا أمام أنفسنا وأمام ضباط الجيش وأمام الشعب باحترام الدستور واحترام الحياة النيابية لكنهم تكاتفوا ضده ووجد عبد الناصر نفسه وحيدا في مواجهة ما يشبه الإجماع

وكان يعرف أنني سأقف معه بالقطع ولهذا قلب الدنيا بحثا عني.

وعندما وجد عبد الناصر نفسه وحيدا أعلن أنه سيستقيل وترك الاجتماع إلى بيته وأسرعوا خلفه وعاد عبد الناصر لكنه عاد متنازلا عن فكرته.

وسألت عبد الناصر في دهشة ولماذا تراجعت عن وجهة نظرك فهي وجهة النظر الصحيحة؟ قال أصل الحقيقة وجدت أن المسألة لا تستحق أن ننقسم بشأنها ومن ضروري نعمل انتخابات بعد شهرين ممكن بعد ثلاثة أو أربعة وقال: لاحظ أن أحنا عندنا مشاكل فرشاد مهنا بدأ يرجع المدفعية ويكتلها وراءه وعبد المنعم أمين مدفعية أيضا لسه جديد معانا ومش فأنا قلت أتراجع حتى نعيد الإمساك بالخيوط في أيدينا.

وأراد عبد الناصر أن يتخلص من نفوذ رشاد مهنا في المدفعية وفي الجيش عموما فقرر أن يعينه في مجلس الوصاية على العرش وكان بذلك يرضي غرورا مشحونا ومتأججا عند رشاد مهنا لكنهم اكتشفوا أن الدستور يشترط أن يكون عضو مجلس الوصاية وزيرا فعين وزيرا ثم عينه مجلس الوزراء في مجلس الوصاية

وهكذا بدأت حسابات السلطة تتدخل فيما بيننا..

تلك الحسابات التي كان جمال عبد الناصر أول من مارسها وأكثر من أتقنها.


الفصل الثالث عشر: من «لجنة القيادة إلى مجلس القيادة»

  • وضبطنا نجيب ونحن مجتمعون..
  • كيف تشكل مجلس القيادة...


وكان لابد أن نجتمع معا لنقرر خطواتنا المقبلة.

في الماضي كنا نجتمع في منازلنا ولم يعد هذا ملائما ولكن كيف نجتمع؟ وأين وبأية صفة؟

رتب جمال عبد الناصر الأمر أخلى غرفة في مقر قيادة الجيش وأوقف عليها حراسا من الضباط الأحرار واجتمعنا.

قليلون هم الذين كانوا يعرفون أسماء لجنة القيادة وكثيرون هم الذين كانوا يتطلعون إلى الجلوس الآن في مجلس القيادة البعض عن حق بسبب ما أداه للحركة وأما ما أداه ليلة الحركة والبعض تعبيرا عن تطلع ذاتي ومن ثم كان اجتماعنا يشكل حرجا شديدا لنا إزاء الآخرين.

وأول مظاهر هذا الحرج كان العلاقة بالقائد الجديد للجيش والذي برز أمام الجميع كقائد للحركة: الفريق محمد نجيب (وبالمناسبة تنازل الفريق نجيب عن رتبته الجديدة واكتفى برتبة اللواء) فكيف ستكون العلاقة معه؟ وهل سنجتمع لنتخذ قرارات ثم نبلغها له وهل سيقبل منا ذلك؟ المهم عند اجتماعنا الأول فاجأنا جمال عبد الناصر بحركة رومانسية غير متوقعة أعلن فها استقالته من قيادة الجنة قال: لقد نجحت الحركة وسيطرنا على الجيش وطردنا الملك ولهذا فإنني أقدم استقالتي كي تنتخبوا قائدا جديدا.

وكان طبيعيا أن نعيد انتخابه... وبالإجماع.

وبدأت تواجهنا مشاكل عديدة لعلها لم تكن في حسباننا عندما أطلقنا العنان لقواتنا قبل منتصف ليلة 23 يوليو.

هل ستبقى لجنة القيادة كما هي؟ أم نوسعها ..؟ وبمن؟

وبينما كنا مجتمعين فتح الباب ودخل محمد نجيب كان يبحث عن صلاح سالم فوجدنا معنا كان الموقف بالغ الحرج للجميع طلبنا منه أن يجلس معنا وواصلنا ثم عقدنا جلسة مغلقة حضرناها نحن التسعة أعضاء لجنة القيادة وطرح جمال فكرة ضم بعض الضباط إلى اللجنة.

كان هناك محمد نجيب ووجوده معنا ضروري واقترح جمال ضم يوسف صديق فهو الذي لعب دورا هاما ليلة الثورة أبدى شجاعة فائقة (وأود هنا أن أقرر أن يوسف صديق قد ضم إلى مجلس القيادة بسبب دوره الشخصي وليس لأسباب سياسية أو بسبب كونه شيوعيا بل لعل جمال لم يكن يعرف حتى ذلك الحين أن يوسف صديق شيوعي) وكان جمال يقول: مش معقول الراجل عمل هذا العمل المجيد وكل يوم يشوفنا ندخل غرفة ونقفل علينا ولا ندعوه، وكان هناك أيضا زكريا محيي الدين وقد لعب دورا هاما هو الآخر وهناك أيضا حسين الشافعي فقد كان صاحب دور هام في تحريك سلاح الفرسان وكان وجوده خارج القيادة سبب حرجا شديدا لي سواء من الناحية الشخصية أو على المستوى العسكري ذلك أنه كان أعلى رتبة مني وكان هناك أيضا عبد المنعم أمين وثروت عكاشة وبدوره البارز في التنظيم منذ قيامه وآخرون كانوا يتطلعون إلى مقع في القيادة بسبب ما أدوه من دور ليلة الثورة ولم يكن واضحا ف ذهن الكثيرين أن ثمة قيادة قديمة قامت بتشكيل التنظيم والتخطيط للحركة كانوا ينظرون إلى أدوار البعض ليلة الثورة وحسب ومن هؤلاء الذين لعبوا دورا بارزا ليلة الثورة:

إبراهيم الطحاوي ومجدي حسنين وآخرين غيرهما ومن ثم طرحت أسماؤهم أيضا.

وبلغ بنا الحرج مبلغه فنحن زملاء وأصدقاء كذلك كان هناك الكثيرون الذين قاموا بدور شجاع ليلة الثورة ولا يمكن ضمهم جميعا.

وان وضع ثروت عكاشه يشكل حرجا بالغا لنا ولي شخصيا فقد شاركنا منذ الأيام الأولى وأسهم في بناء التنظيم بحماس وفعالية ولعب دورا بارزا ليلة الثورة وقال جمال أنا سأعالج الأمر معه وبالفعل ناقشه جمال بطريقة ملتوية مؤكدا أنه يستحق أن يكون في القيادة وأنه واثق من إخلاصه للثورة وأن هذا الإخلاص يدفعه بالطبع إلى عدم التمسك بالمناصب..

وهكذا ظل جمال يحاوره حتى انتزع منه كلمة اعتذار عن قبول موقع في القيادة واكتفى جمال بالكلمة وتمسك بها بينما ندم عليها ثروت فيما بعد.

وأخيرا توصلنا إلى تشكيل جديد لمجلس القيادة راعينا فيه دور بعض الضباط البارزين في الحركة ودورهم المقبل في أسلحتهم وراعينا أيضا تمثيل الأسلحة المهمة.

وتكون مجلس القيادة من 14 عضوا:

الأعضاء التسعة للجنة القيادة القديمة: جمال عبد الناصر، عبد الحكيم عامر، صلاح سالم، جمال سالم ، أنور السادات، كمال الدين حسين، حسن إبراهيم، عبد اللطيف بغدادي، خالد محيي الدين، وخمسة أعضاء جدد: محمد نجيب ، يوسف صديق ، عبد المنعم أمين، زكريا محيي الدين ، حسين الشافعي، أما الباقون فقد تقرر استبعادهم واتفقنا أن نغلق هذا الملف نهائيا وألا نفتحه ثانيا بمعنى ألا نفكر أو نسمح ببحث موضوع توسيع مجلس القيادة.

لكن تشكيل مجلس القيادة لم يكن نهاية لما يواجهنا بل لعله كان مجرد بداية.

اتفقنا على أن يعمل عبد الحكيم عامر وصلاح سالم مديرين لمكتب القائد العام وطلب مني أن أعمل أيضا معه ولكنني رفضت كنت أطمح إلى موقع يبقيني وسط ضباط الفرسان ولا يعزلني عنهم وكان ذلك صعبا في ظروف العمل العسكري المعتاد وكان ثروت عكاشة هو صاحب الفكرة التي وجدت فيها حلا سعيدا: أن أكون ضابط مخابرات سلاح الفرسان وأن أتحول بهذه المهمة من طبيعتها المخابراتية التقليدية إلى طابع سياسي وكان مكتبي ملتقى لضباط الفرسان يطرحون فيه رؤيتهم وهمومهم ومشاكلهم بل وخلافاتهم مع قيادة الثورة.

وبدأ بعض الضباط الأحرار يشعرون بمسئوليتهم إزاء ما يجري وإزاء ما نتخذ من قرارات بل وصل الأمر بكفافي وجمال منصور إلى المطالبة بعقد اجتماعات دورية للضباط الأحرار لمحاسبة القيادة وتوجيهها وفي جلسات كهذه كانت المناقشات تتطرق إلى موضوعات حساسة وربما تجاوزت الحدود المفترضة الأمر الذي سبب لي حرجا شديدا مع زملائي في مجلس القيادة وكان بداية لحساسيات تفاقمت فيما عبد بالمناسبة لم يشترك جمال منصور وكفافي ونصير في ليلة الثورة فقد كانوا في أجازة ولم أستدعهم للاشتراك معنا وكان صاحب فكرة عدم استدعائهم جمال عبد الناصر الذي أكد أنهم سوف يثيرون كثيرا من الأسئلة والاستفسارات عن الاستعدادات والترتيبات ومدى ملاءمتها وكفايتها إلخ وقال إن الوضع لا يحتمل مثل هذه الأسئلة وهذا الجدل من أناس يريدون أن يكون كل شيء مثاليا قبل التحرك وكان حسين الشافعي حاضرا المناقشة ووافق على ذلك وهكذا تركتهم في الإجازة ولم أستدعهم للمشاركة.

والحقيقة أنني وبسبب تكويني الشخصي كنت راغبا في الاستمرار مع الضباط وطبعا كنت أحمل شكاواهم وطلباتهم وحتى طلبات أقاربهم وطلبات بعض أبناء كفر شكر لمحاولة إيجاد حلول لها في الوزارات المختلفة وغضب عبد الناصر وكان يعاتبني مؤكدا أوضعي كعضو في مجلس القيادة لا يسمح لي بذلك لكنني كنت أتعتقد أنه لا قيمة لوضعي هذا إذا لم أوظفه لحل مشكلات زملائي الضباط وخاصة الذين خاضوا معي الأيام الأولى لحركتنا.

ومنذ البداية كانت هناك حساسية بدأت تتفاقم فيما بعد فمحمد نجيب لم يكن في لجنة القيادة قبل الثورة ( وإن كنت لا أزار أقرر أن الرجل قد قدم لنا اسمه ومستقبله وتضامن معنا وتحمل المسئولية عن عمل لم يعرف تفاصيله ولم يبال بما قد يترب عليه من نتائج خطيرة) لكن الحساسية تبقى خاصة عندما يحاول نجيب أن يلعب دور الرئيس.


وبدأت الحساسية تتزايد عندما كتب أنور السادات مقالا في الأخبار عن (سر الضباط التسعة) وبدأ الحديث عن قدامى القيادة الوافدين إليها وكان الأكثر حساسية هو نجيب خاصة عندما كتب مصطفى أمين عن القائد الخفي لحركة الضباط ملمحا إلى عبد الناصر.

وكان هناك أيضا رشاد مهنا وكان يتطلع منذ أن انضم إلينا قبل الثورة إلى دور قيادي وكان يمتلك ثقلا هاما في المدفعية ورأى عبد الناصر إبعاده عن طريق إغرائه بمنصب رفيه هو عضو مجلس الوصاية).

وكانت مسألة مجلس الوصاية هذه مسألة بالغة التعقيد دستوريا كما قلت من قبل فوفق القواعد الدستورية لم يكن أمامنا إلا دعوة البرلمان الوفدي، أو إجراء انتخابات لبرلمان جديد خلال شهرين.

والمثير للدهشة أن أكثر من حذرنا من دعوة البرلمان الوفدي أو إجراء انتخابات جديدة كان د. عبد الرازق السنهوري باشا رئيس مجلس الدولة وسليمان حافظ وكيل مجلس الدولة وكم كان علي ماهر رئيس الوزراء ضد دعوة البرلمان وضد إجراء انتخابات جديدة.

وأجهد الفقهاء الدستوريين أنفسهم لإيجاد مخرج لم أكن أنا راضيا عنه فقد كنت راغبا في دعوة البرلمان للاجتماع.

وأستعيد هذه واستشعر لا معقولية موقفي هذا فكيف يمكن للضباط أن يتخلوا بمثل هذه السهولة عن الحكم لحكومة وفدية خاصة وأن سمعة حكومة الوفد الأخيرة لم تكن فوق مستوى الشبهات لكنه حماس الشباب ربما أو ربما التمسك بالموقف المبدئي في مواجهة تيار واقعي ينتسب إلى حقائق الحياة.

المهم وصل الفقهاء الدستوريون إلى حل وهو أن يعلن أن الانتخابات ستجرى في فبراير وأن مجلس الوزراء بصفته ممثلا للسلطة التنفيذية وللسلطة التشريعية في غيبة البرلمان يعين مجلس الوصاية المؤقت.

واتضح أن عضوية مجلس الوصاية يشترط لها أن يكون العضو أميرا من الأسرة المالكة أو وزيرا وتشكل مجلس الوصاية من الأمير عبد المنعم وبهي الدين بركات أما رشاد مهنا فقد عين وزيرا للمواصلات لأربع وعشرين ساعة ثم عين عضوا في مجلس الوصاية.

وكم كان رشاد ممتنا لقد جاء ليشكرنا والدموع تملأ عينيه لكن امتنانه هذا لم يدم طويلا فقد بدأ يستشعر أننا قد قذفنا به إلى أعلى منصب لا قيمة فعليه له وحاول أن يواجهنا بأن مجلس الوصاية يمتلك سلطة السيادة المخولة للملك، وعارض الكثير من مواقفنا لكنه في واقع الأمر كان يحارب معركة خاسرة.

كذلك واجهتنا مشكلة السيطرة على القوات المسلحة.

وقررنا كسبيل لتأمين القوات المسلحة إحالة عدد من الضباط إلى المعاش أو نقلهم الأول والحاسمة لضمان نجاحنا هي تأمين القوات المسلحة وبدأت حركة تغيير ونقل شاملة في المواقع القيادية في الجيش.

وقد تابعت هذه العملية في سلاح الفرسان والحقيقة أننا حاولنا أن نكون موضوعيين قدر الإمكان ولكن كانت تحكمنا قضية أساسية فإذا كان حسين الشافعي قد أصبح قائدا لسلاح الفرسان فلابد أن تبعد كل الرتب الأعلى منه على السلاح وبطبيعة الحال كان هناك ضباط ممتازون مثل عبد المنعم صالح الذي كان قائدا للآلاي المدرع الذي شارك به حسين الشافعي في ليلة الثورة والحقيقة أن عبد المنعم صالح كان ضابطا وطنيا ممتازا وكان يشعر بأننا سنفعل شيء ما وربما أغمض عينيه عنا عمدا ولكنه كان من الضروري أن يترك سلاح الفرسان فعين فيما بعد قائدا للحرس الجمهوري كما نقل بعض الضباط إلى قيادة الجيش والبعض الآخر إلى العمليات وضابط آخرون نقلوا إلى خفر السواحل، والجيش المرابط والبعض نقل إلى وظائف مدنية والبعض الآخر أحيل إلى المعاش بعد ترقيته إلى رتبة أعلى.

وعلى أية حال تم تأمين سلاح الفرسان تماما بأقل قدر ممكن من الجراح فقد راعينا أن نريح الناس قدر الإمكان.

أما في الأسلحة الأخرى فقد علمت فيما بعد أن الكثيرين قد أضيروا وربما كانت هناك عوامل شخصية في عمليات الأبعاد أو الاستبعاد.

ومن الطبيعي أن يترتب على عملية تأمين القوات المسلحة التي أدت إلى استبعاد العديد من القيادات حركة ترقيات واسعة لم تشهد لها القوات المسلحة مثيلا.

لكنني أود أن أتوقف هنا لأوضح مسألة هامة فقد كان عبد الناصر يرغب في تطهير الجيش من الخصوم لكنه لم يكن يرغب في إعطاء أي مساحة جديد لأصدقاء وتحديدا للضباط الأحرار.

ذلك أن عبد الناصر ومنذ البداية بدأ يستشعر حساسية خاصة إزاء الضباط الأحرار الذين يتدخلون في كل شيء ويتحدثون بصفتهم أصحاب الحركة وصناعها وربما كان عبد الناصر يخشى من هؤلاء الضباط أكثر من غيرهم فقد تدربوا بشكل أو بآخر على العمل السري المنظم وعلى القيام بانقلاب متقن إلى حد ما ومن ثم فإنه لم يحرص على تسليم أي منهم موقعا قياديا في الجيش وإنما اختار القيادات الجديدة على أساس الكفاءة والوطنية ولم يكن الانتساب للضباط الأحرار واحدا من المعايير المطلوبة عند الاختيار وبهذا نجح عبد الناصر في تأمين الجيش من خصومه ومن أصدقائه معا.

وفي هذه الأثناء كان الضباط ذو الثلاثين عاما خالد محيي الدين لم يزل يتمسك بالمبادئ التي قامت على أساسها حركة الضباط الأحرار الديمقراطية الانتخابات البرلمان سيادة الشعب. ودهش الضباط الشباب إذ وجد أن أساطين القانون الدستوري والذين طالما تحدثوا عن الدستور والبرلمان كانوا يستحثون الضباط ويحرضونهم على تأجيل الانتخابات ورفض اجتماع مجلس النواب ومن ثم تأجيل قضية الديمقراطية

وللتاريخ أسجل أن الدكتور عبد الرازق السنهوري وسليمان حافظ وعلي ماهر كانوا جميعا يحرضون الضباط على تجاهل البرلمان والدستور وطبعا كانت هناك الكثرة الغالبة من الضباط الذين يستجيبون لذلك ويتقبلونه بحماس بحكم أنهم يستشعرون مصلحتهم في الاستمرار في حكم البلاد بأنفسهم.

وفي هذه الأثناء رتبت زيارة لعدد من أعضاء مجلس القيادة لفؤاد سراج الدين وذهبنا جمال عبد الناصر وجمال سالم وبغدادي وعامر وأنا التقينا في بيت واحد من أقاربه في جاردن سيتي تحدث سراج الدين ليستحثنا على تقنين الأوضاع بدعوة مجلس النواب إلى الاجتماع وإعطاء مجلس الوصاية كامل سلطاته الدستورية وإعطاء المؤسسات دورها المحدد دستوريا ولم يبد ارتياحا للأحداث المتداولة عن قانون الإصلاح الزراعي.

وبطبيعة الحال يمكن القول أن زملائي لم يهتموا كثيرا بحديث سراج الدين عن تقنين الأوضاع خاصة وأنه أفسد الحديث كله بإعلان تحفظه على قانون الإصلاح الزراعي، فأعطى الآخرين الفرصة للربط بين الموقفين: الديمقراطية والدستور ورفض قانون الإصلاح الزراعي.

وأصبح وضعي مع زملائي أكثر حرجا خلال هذه المناقشة.

وفي هذه الأثناء أثار كل من الدكتور راشد البراوي (وهو أستاذ اقتصاد شهير ومترجم لعدد من الكتب الإشتراكية وكان على علاقة بعبد الناصر) وأحمد فؤاد (وكان لم يزل على علاقة حميمة بعبد الناصر أيضا) أهمية أن تبادر الحركة بتقديم شيء ما للشعب تلف به الجماهير حولها وتكتسب تأييدها.

وكان الاثنين يلحان في اتخاذ إجراء اجتماعي ما كانا يقولان إن كل الحكام السابقين كانوا يتحدثون بحماس عن قضية الجلاء وأن الجديد الذي يشد الجماهير ويحشدها خلف الثورة هو موقف اجتماعي يتعلق بأغلبية الشعب .. أي الفلاحين، ومشروع آخر يهتم بتصنيع البلاد وتطويرها.

وطلبنا إليهما أعداد مشروع قانون للإصلاح الزراعي وما أن طرحت الفكرة حتى أثارت مشاكل عديدة فعلي ماهر رئيس الوزراء كان في دخيلة نفسه ضد الإصلاح الزراعي أصلا وبدأ يثير العقبات اقترح فكرة الضرائب التصاعدية بتصاعد الملكية من مائتين وكانت حجة علي ماهر أن ملاك الأرض هم الفئة المستنيرة والمثقفة في المجتمع وأنه من الصعب تحدي هذه الفئة وضرب مصالحها.

أما أعضاء مجلس الوصاية فقد عارض بهي الدين بركات بشدة في مبدأ إصدار هذا القانون وقال إن هذه الطبقة قد اعتادت على مستوى معين من المعيشة وأنه من الصعب المساس بهذا المستوى وربما كانت معارضته هذه طبيعية لكن الشيء الغريب حقا هو أن رشاد مهنا قد حاول أن يضع العديد من العراقيل أمام الموضوع وأن يعرق إصدار القانون بأي شكل.

أما المثير للدهشة حقا فهو أن السنهوري باشا اتخذ من قانون الإصلاح الزراعي ذريعة لضرب أي توجه ديمقراطي.

فقد قال: إن كنتم تريدون كسب الشعب من خلال قانون الإصلاح الزراعي فإن آثار هذا القانون لن تظهر قبل خمس أو ست سنوات فكيف تسارعون بإجراء الانتخابات في فبراير؟ وبدأ يستحثنا على ضرورة تأجيل الانتخابات لفترة تكفي لضمان اكتساب جماهيرية حقيقية.. ومرة أخرى أصدم . فها هو كبير الفقهاء الدستوريين يستخدم قانون الإصلاح الزراعي ذريعة لضرب التوجه الديمقراطي وطبعا كان يجد آذانا صاغية ونفوسا تتقبل ما يقول بصدر رحب وترحب شديد.

وبرغم أن الكثيرين من الزملاء في مجلس القيادة كانوا يتباعدون رويدا رويدا عن فكرة الانتخابات وفكرة الديمقراطية إلا أنهم استخدموا موضوع الانتخابات سبيلا لإكراه علي ماهر على الاستقالة.

فقد أصدر علي ماهر بصفته رئيسا للوزراء بيانا لم يتحدث فيه عن الانتخابات ولم يتوافق مع وجهة نظرنا في قانون الإصلاح الزراعي.

واجتمع مجلس القيادة وأصدر بيانا ضد عل ماهر بيانا ضد علي ماهر انتقد فيه عدم وضوح موقفه من قضية الانتخابات في فبراير ومن قانون الإصلاح الزراعي كما انتقد قيام حكومة علي ماهر بفرض ضرائب جديدة ورفع أسعار بعض السلع.

وكان الموقف غريبا مجلس القيادة يصدر بيانا ضد رئيس الوزراء ووقعت الصحف في حيرة وأذكر أن أحد الصحفيين قال لي وأنا أمليه البيان: هذا البيان ضد رئيس الوزراء قلت له: أعرف .. وانشره على مسئوليتنا.

ووقع علي ماهر في مأزق حرج بل غاية في الحرج وقرر أن يستقيل ثم تراجع عن الاستقالة ثم عاد إليها بعد أن أيقن أن ثمة قوة أخرى غير مجلس الوزراء هي التي تملك مفاتيح السلطة.

وفي هذه الأثناء وقعت أحداث كفر الدوار أيقظوني من النوم ليبلغوني أن حركة مضادة للثورة قد نشبت في كفر الدوار وأن العمال يشعلون الحرائق والحقيقة أن رأيا عاما قد تكون سريعا ضد إضراب كفر الدوار وشكلت محكمة عسكرية برئاسة عبد المنعم أمين وأصدر قرار تشكيلها محمد نجيب بصفته قائدا للجيش وأصدرت المحكمة حكما بالإعدام على عاملين هما: خميس والبقري.

وأذكر أن نجيب كان أكثر الجميع حماسا لإعدامها وانقسم مجلس القيادة: نجيب ومعه الأغلبية يطالبون بالضرب بيد من حديد حتى يرتدع الجميع وكانوا يتكلمون من منطلق أن الإضراب هو جزء من حركة معادية للثورة وأننا لو تساهلنا إزاء هذا الأمر لضاعت الثورة وضاع البلد وأنا وعبد الناصر ويوسف صديق وزكريا كنا ضد الإعدام وحجتنا أن الإعدام سيفتح الباب أمام إراقة الدماء وأنه لا مبرر أن تصطبغ حركتنا بالدماء.

والحقيقة التي أود أن أسطرها هنا هي أن أحدا منا نحن (أعضاء القيادة) مؤيدين للإعدام أو معارضين له لم يكن قد تعرف بعد على مبادئ العلاقات الاجتماعية ولا على الحقوق العمالية في الإضراب والاعتصام وما إلى ذلك أما المحيطون بنا من أمثال السنهوري وسليمان حافظ والبراوي فقد كانوا يتسمون بروح برجوازية محافظة بل ومعادية لحقوق العمال وجماعة الإخوان بدأت في شن حملة عاتية ضد عمال كفر الدوار المضربين واتهمتهم بالخيانة. وحتى حدتو نظرت إلى الإضراب نظرة مستريبة وربطت بين الإضراب نظرة مستريبة وربطت بين الإضراب وبين حافظ عفيفي عضو مجلس الإدارة المنتدب في شكر كفر الدوار وإن كانت قد عارضت بشدة حكم الإعدام لكن الغريب أيضا أن أيا من النقابيين المصريين أو النقابات العمالية لم يبد أي تأييد للإضراب وضمت الجميع صمتا مريبا أفسح المجال لتأويلات والأوهام صحيح أن بعض المنظمات الشيوعية الصغيرة قد أعلنت تأييدها للعمال وهو ما علمت به فيما بعد إلا أن صوت هذه المنظمات كان خائفا بحيث لم يصل إلى أسماعنا وهكذا فإن أحدا في مجلس القيادة لم يناقش الحق المبدئي للعمال في الإضراب بل انحصر النقاش في أمر واحد: إعدام أم لا.

وصمت الأغلبية في المجلس على موقفها رغم سيل البرقيات الهائل الذي انهمر علينا من الخارج مطالبا بعدم تنفيذ حكم الإعدام.

ولعب البعض لعبة التوازن فضخم من قضية لملوم( ) ولكنني أيضا وقفت ضد الحكم عليه بالإعدام ونفذ حكم الإعدام في خميس والبقري وسط صيحات الاستنكار العالمية ومع شعور عميق لدى بالضيق والغيظ لتورط الثورة في إعدام مواطنين والأخطر لأن هذين المواطنين من العمال وكنت ومنذ البداية قد حسمت أمرا بيني وبين نفسي هو ألا أوافق على إعدام أي شخص لأسباب سياسية.

وفي هذه المرة كان عبد الحكيم عامر ضد الإعدام ونظر في الجلسة وكأنه يسأل عن موقفي فقلت بصوت سمعه الجميع: إن معارضتي للإعدام لأسباب سياسية محسومة بشكل نهائي فأنا ضد إعدام عدلي لملوم كما كنت إعدام خميس والبقري..

ونجحنا في إيقاف مسلسل الإعدامات


الفصل الرابع عشر: نحو الحكم خطوة خطوة.

- اعترض كافري علي السنهوري لأنه شيوعي.

- بقرار من عبد الناصر .. الاتصال بإسرائيل.

- وقال سليمان حافظ.. حيرتوني، فضحك المجلس.

- الإخوان من المشاركة ..إلى العداء.

- وبدأ التمايز في المواقف..


وكان إعدام خميس والبقري درسا كافيا اقنع جمال عبد الناصر بضرورة الكف عن استخدام سلاح الإعدام ذلك أن الحكم سوف يواصل مواجهة خصوم عديدين وليس من المعقول أن يغرق في مستنقع العنف بإعدام كل معارضيه وعندما وقعت حادثة لملوم اعترضت أيضا على حكم الإعدام ووافق الزملاء هذه المرة فبدا الأمر وكأنه تحيز للأغنياء وانحياز ضد العمال.

وهكذا لم تكن الأمور سهلة ونحن نخطو خطوة خطوة نحو ارتقاء موقع الحكام، وأربكنا كثيرا قضية التعامل مع خصومنا السياسيين وأربكنا بوجه خاص محاولة البعض القفز مباشرة إلى إعدام هؤلاء المعارضين كذلك كانت هناك مسألة العلاقة مع رئيس الوزراء الذي اخترناه بأنفسنا علي ماهر . فبعد حادثة إصدار البيان المضاد لعلي ماهر ، أعلن أنه سيقدم استقالته ثم تراجع عنها لكنه ما لبث أن اكتشف وبوضوح تام أنه ليس في مركز السلطة الحقيقي وأن هناك مركزا آخر للسلطة هو مجلس القيادة واكتشف أن كل أصحاب المصالح لا يتوجهون إليه ولا إلى وزرائه وإنما إلى الضباط و مجلس القيادة.

وذات صباح استيقظ علي ماهر ليقرأ في الصحف نبأ اعتقال كل قيادات الأحزاب السياسية (ماعدا الإخوان) وفوجئ الرجل فكيف لا يستشار وهو رئيس الوزراء، أو حتى كيف يبلغ بالخبر قبل أن يطالعه الناس في الصحف وقرر علي ماهر الاستقالة وقررنا قبول استقالته لكننا اتفقنا معه على انسحاب كريم أو بمعنى أدق أن نفترق ونحن أصدقاء وأقمنا له حفل تكريم وبدأنا رحلة البحث عن رئيس وزراء جديد..

وكان أول المرشحين هو الدكتور عبد الرازق السنهوري باشا رئيس مجلس الدولة، لكن قصة السنهوري تجرنا إلى موضوع خطير هو علاقتنا بأمريكا والسفير الأمريكي مستر كافوري والحقيقة أن جمال عبد الناصر كان قد رتب كما قلت قبل الثورة علاقة مع الأمريكيين عن طريق علي صبري ومنحهم قدرا من التطمينات من أن الثورة القادمة لن تقف ضدهم.

والحقيقة أيضا أن كافري كان يتصرف بالحق أو بالباطل على أساس أنه يمتلك نفوذا في صفوف الثورة ولقد أدهشني أن طالعت فيما بعد في بعض وثائق وزارتي الخارجية البريطانية والفرنسية أن كافري كان يزهو أمام السفراء الغربيين موحيا إليهم بأنه على علاقة خاصة جدا من الثورة، بل لقد كان يتحدث عنا قائلا: my boys (أي أولادي) والحقيقة أنه كان مبالغا في ذلك أشد المبالغة فلم نكن «أولاده» ولم يكن يمارس علينا نفوذا حقيقيا لكنه استفاد من غموض الموقف ومن بعض العلاقات ليتظاهر بأنه يمتلك نفوذا ما.

وبعد أيام من الإطاحة بالملك قيل لي أننا مدعوون على العشاء في بيت عبد المنعم أمين مع السفير الأمريكي وذهبنا: نجيب وعبد الناصر وبغدادي وعبد الحكيم وصلاح سالم وأنا وأتى السفير الأمريكي وذهبنا: نجيب وعبد الناصر وبغدادي وعبد الحكيم وصلاح سالم وأنأن وأتى السفير الأمريكي ومعه المستشار السياسي.

جلست على يسار السفير وجلس إلى جواري المستشار السياسي وفميا كان نجيب وجمال يتحدثان مع (كافري) عن فكرة إصدار قانون للإصلاح الزراعي بدا المستشار السياسي وكان اسمه (إيفانز) فيما أعتقد يتحدث معي عن موضوع مثير فقد أشار إلى تعاوننا مع بعض العناصر ذات الوجه الوطني الراديكالي مثل فتحي رضوان ونور الدين طراف وغيرهما وقال: إن خطورة مثل هذه العناصر تمكن في أنهم يصطفون في نهاية الأمر مع الشيوعيين وأبديت دهشتي فإن هؤلاء جميعا كانوا خصوما للشيوعية وقلت له ذلك لكنه أجاب: هذا صحيح الآن لكنهم في النهاية سيقفون مع الشيوعيين ذلك أن التطرف في الوطنية يقود صاحبه للاتفاق مع الشيوعيين ضد ما يسمونه معا.. الاستعمار.

والغريب أيضا أنه هاجم الوفد بشدة وقال: إن عيب الوفد أنه يخضع للضغط الشعبي وإنه خضوعا لهذا الضغط ألغى المعاهدة وفجر الكفاح المسلح ومثل هذا المناخ يشجع الشيوعية هو الآخر. ولست أدري حتى الآن لماذا اختصني أنا بالذات بهذا التحذير هل لأنه يعرف أنني يساري وأراد أن يقدم لي إنذار مبكرا أم ماذا؟ لكنني على أية حال جادلته باتزان ولم أبد أية موافقة مع رأيه.

انتهت المقابلة وظننت أن الأمر قد انتهى فقد تعارفنا وانتهى الأمر أو سينتهي عند هذه الحدود لكن هذه الطمأنينة من جانبي لم تكن في محلها فعند ترشيح السنهوري لرئاسة الوزارة على أثر استقالة علي ماهر .. فوجئت بأمر خطير...

كنا في جلسة لمجلس القيادة وكان الدخول ممنوعا بطبيعة الحال وأبلغنا الحارس الواقف على الباب أن علي صبري يريد جمال عبد الناصر لأمر هام وعاجل وكان عبد الناصر منهمكا في الحديث فخرجت أنا لأستطلع الأمر، وكان علي صبري يلح في مقابلة عبد الناصر فورا وقلت إن هذا مستحيل فألح وقال إن الأمر هام جدا وعاجل للغاية، فرفضت وقلت إنه من غير الممكن إخراج عبد الناصر من الجلسة فقال: إذن أبلغه وعلى وجه السرعة أن السفير الأمريكي غير راض عن اختيار السنهوري رئيسا للوزراء فالأمريكيون يعتبرونه شيوعيا لأنه وقع على نداء السلام فقلت: لكنني أيضا أيضا وقعت على هذا النداء فرد على صبري لكن أنت لم تكن معروفا في هذا الحين و (كافري) يقول إن الرأي العام الأمريكي يتعاطف الآن معكم وهم يعتبرون أن كل من وقع على (نداء السلام) شيوعي فلا تسخروا الرأي العام الأمريكي بهذه السهولة.

دخلت إلى الاجتماع وأبلغت الرسالة وأنا منفعل جدا وقلت: إنني أرفض بشدة قبول هذا لأن معناها الحقيقي أن السفارة الأمريكية تتحكم فينا وفي قرارنا وهذا أمر خطير جدا ورد جمال عبد الناصر بهدوء وأنا أيضا غير موافق.

لكن الذي حدث بعد ذلك أنهم ناقشوا السنهوري وأبلغوه برأي السفير الأمريكي، ولعلهم نقلوا له الأمر بحيث يدفعوه إلى الاعتذار وقد اعتذر فعلا مبديا دهشته قائلا إن الأمر كان بسيطا للغاية وأنه فوجئ بهذه الضجة فقد كان جالسا على أحد المقاهي عندما مر عليه شاب يحمل عريضة يجمع عليها توقيعات للمطالبة بعدم استخدام السلاح النووي في أيه حرب مقبلة ووقع السنهوري ولم يكن يعرف أن هذا التصرف البسيط سوف يعتبر عند الأمريكيين عملا خطيرا بحيث يضعون صاحبه في مصاف الشيوعيين ولم يكن يعرف أن هذا التوقيع سوف يحرمه بعد أكثر من عام من منصب رئيس الوزراء. وعلى أية حال اعتذر عبد الرازق السنهوري حتى لا يسبب لنا حرجا بل لعل البعض قد أحرجه لكي يتخذ موقف الاعتذار.

وبدأنا في البحث عن رئيس جديد للوزراء..

واقترح نجيب أن نختار سليمان حافظ رئيسا للوزراء لكن سليمان حافظ رفض وقال بصراحة محمودة: إن مركزه ومكانته لا يسمحان له أن يخلف علي ماهر في موقع خطير كهذا واقترح علينا أن نختار محمد نجيب رئيسا للوزراء وأن يكون هو نائبا لرئيس الوزراء وبعد فترة يترك نجيب رئاسة الوزراء ليحل محله.

لكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن فلا نجيب استمر طويلا في الوزارة ولا حافظ أصبح رئيسا للوزراء.

وقبل أن أنتقل من هذا الموضوع أود أن أقرر أنني لم أعتقد يوما أن عبد الناصر كان خاضعا للأمريكان لكنه كان رجلا يعرف كيف يتفاهم مع القوى المختلفة بل ومع الأضداد محاولا أن يستخلص مصلحته هو من مثل هذا التفاهم..

فمنذ البداية الأولى لإنشاء تنظيم الضباط الأحرار كان جمال يتفاهم مع الإخوان ويتفاهم أيضا مع الشيوعيين ولم يكن يجد غضاضة في ذلك لكنه كان حريصا على ألا يسمح لأي طرف منهما بالسيطرة عليه أو التحكم في مسيرة التنظيم كذلك فقد تحدثت عن علاقة عبد الناصر بيوسف رشاد، ولم يحمل هذا أي شك في خضوعه للقصر الملكي الذي كان يوسف رشاد ممثلا له ولعله حاول أن يفعل نفس الشيء مع أمريكا وهي قوة كبرى إلى إدارة على التأثير المباشر على انجلترا التي كانت تتحول سريعا من قوة كبرى إلى دولة عادية ويجب أن نضع في الاعتبار أيضا أن الطرف الآخر أي الاتحاد السوفيتي كان يشن علينا حملة عاتية ويتهمنا بأننا انقلاب عسكري عميل لأمريكا وعزفت كل الأحزاب الشيوعية باستثناء منظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو ) نفس المعزوفة وهكذا كان عبد الناصر يجد أن تفاهمه مع أمريكا مبررا تماما.

ولعل قد تحدثت أيضا عن شكوك ساورت جمال سالم وجمال عبد الناصر إزاء جدوى الهجوم على أمريكا حتى في أيام ما قبل 23 يوليو، وفي ليلة العشاء الشهير مع السفير الأمريكي ومستشاره لاحظت أن السفير كافري يحاول أن يتعرف على كل واحد منا وعلى اتجاهاته الحقيقية وأحسست أن بعض الزملاء يحاولون أيضا إظهار اعتدالهم أمام السفير ولعل هذا كان مبررا بعض الشيء خاصة وأننا نستعد للتصادم مع انجلترا مطالبين بالجلاء وأننا كنا مقطوعين السبل بالاتحاد السوفيتي ولا نمتلك سبيلا لعلاقة معه خاصة وأنه كان يهاجمنا بشدة كما قلت ويتهمنا بالعمالة لأمريكا.

وكان الأمريكيون يبدون بوضوح مصلحتهم في استمرار الثورة في الحكم، واعتقادهم بأهمية أن تتخذ الثورة بعض الإجراءات الاجتماعية التي تكفل الاستقرار الاجتماعي والسياسي وتحل ولو بشكل جزئي مشكلة الفقر، وكانوا يقولون صراحة: إذ لم تحلوا مشكلة الفقر، فسوف يأتي قوة أخرى لتحلها وهذه القوة هي الشيوعيون.

وكان عبد الناصر حريصا على تحييد أمريكا وتحييد طرف ما شيء والخضوع له شيء أخر وعندما عرض عليه الأمريكيون فكرة الأحلاف العسكرية كسبيل لتحقيق الاستقرار في مصر والمنطقة ولضمان مقاومة الشيوعية استخدام عبد الناصر معهم ذات الفكرة التي طرحوها من قبل بأن تحقيق الاستقرار ومقاومة الشيوعية يكون بالإصلاحات الاجتماعية وليس بالأحلاف العسكرية كان يؤكد لهم في مناقشاته ضد فكرة الأحلاف أن الشعب لا يشعر بأن الاتحاد السوفيتي عدو إنما أعداؤه الإنجليز وإسرائيل لكن عبد الناصر لم يكن يرغب في القطيعة مع أمريكا أعداؤه: الإنجليز وإسرائيل لكن عبد الناصر لم يكن يرغب في القطيعة مع أمريكا بل كان يسعى لتحسين العلاقات معها بهدف تسليح الجيش المصري تسليحا كافيا وعندما سافر علي صبري للتفاوض على التسليح وعاد من أمريكا مثقلا بشروط لا يمكن قبولها لم يتردد عبد الناصر طويلا في اللجوء إلى الطرف الآخر للحصول على السلاح منهم وحتى عندما حصل عبد الناصر على السلاح من تشيكوسلوفاكيا في خطوة صاعقة حاول رغم ذلك استمرا علاقته مع أمريكا وحاول الحصول منها على قروض السد العالي لكن أمريكا هي التي رفضت وباختصار كانت سياسة عبد الناصر الضباط قبل الثورة والحاكم بعدها هي هي.. أن يقيم علاقات مع كل الأطراف وحتى مع الخصوم وكان يرى أن إقامة العلاقات لا تعني الخضوع ولا تعني العمالة.

ولقد كان عبد الناصر هكذا دوما ومع كل الأطراف حتى مع إسرائيل ففي فترة إقامتي بالمنفى وأثناء زيارتي لباريس أبلغني الأستاذ عبد الرحمن صادق المستشار الصحفي في سفارتنا بباريس أنه مكلف من قبل عبد الناصر بعمل علاقة ما بالسفارة الإسرائيلية وأن هدف العلاقة هو التعرف على كل أفكار الإسرائيليين ورؤيتهم للثورة وموقفهم إزاءها.

ويمكن القول بأن إسرائيل في هذه الفترة لم تكن مدرجة في الأسطر الأولي لجدول الأعداء، وقد كان هناك الإنجليز أولا وضرورة إجلائهم عن أرض الوطن، ولم تصعد إسرائيل في جدول الأعداء إلا بعد أحداث غزة وحلف بغداد إلخ..

وفيما أعتقد استمرت العلاقات والاتصالات مع السفارة الأمريكية عبر قناتين تصب كل منهما عند عبد الناصر وحده: عبد المنعم أمين وعلي صبري ولعل هذه العلاقة قد استمرت زمنا ليس بالقصير.

وأعتقد أنه يتعين علي أن أتوقف هنا قليلا لأتحدث عن القضية الوطنية وموقفنا منها لقد كنا ككل المصريين أو غالبيتهم العظمى أعداء للاحتلال البريطاني بل لعل مبرر نشأتنا كتنظيم للضباط الأحرار ومبرر قيامنا بالثورة كان بالأساس العمل على تحير مصر من يد الاحتلال البريطاني وظلت قضية الجلاء هي الهم الأول لنا جميعا بل لعلها كانت الهاجس الأول فإن لم يتحقق الجلاء الكامل وناجزا تكون الثورة بعيدة عن تحقيق هدفها بل وتفقد مبرر بقائها.

صحيح أن الثورة قد أنجزت الكثير منذ أيامها الأولى طرد الملك الإصلاح الزراعي مجلس تنمية الإنتاج القومي مصادرة أملاك وأموال أسرة محمد علي الإنفاق منها على بناء آلاف المدارس والوحدات الصحية على امتداد ريف مصر كل هذا صحيح لكن الجلاء كان العقدة وكان الحل به نحقق وجودنا وبدونه نفقد مبرر بقائنا كحكام بل ونفقد هويتنا التي عشنا بها طوال حركتنا منذ أن كنا ضباطا شبانا نحلم بمصر أخرى غير التي نعيشها في ظل الاحتلال.

ومنذ الأيام الأولى للثورة شكل فريق عمل للاهتمام بموضوع الجلاء..

وتشكل الفريق من محمد نجيب جمال عبد الناصر عبد الحكيم عامر صلاح سالم وبغدادي ومن داخل هذا الفريق كان هناك فريق مصغر للاهتمام بموضوع السودان مكون من نجيب وصلاح سالم.

وظلت الاتصالات مع الإنجليز تجري بهدوء ودون إعلان في كثير من الأحيان، حتى كانت زيارة (دالاس) وزير الخارجية الأمريكية لمصر واجتمع به عبد الناصر وتحدث معه طويلا مؤكدا حرصنا على ضرورة جلاء الإنجليز عن مصر دون دفع مصر للتورط في تحالفات واضحة وأكد أن ذلك لا يعني اتخاذ موقف العداء من الإنجليز.

ولعبت أمريكا دور الوسيط وكانت المفاوضات تجري عبر محورين: اتصالات مباشرة مع الإنجليز ووساطة دالاس بين الطرفين التي كانت تنسقها بشكل مستمر سفارة أمريكا بالقاهرة وخصص الأمريكيون دبلوماسيا من سفارتهم بالقاهرة اسمه بيل لكلاند للاتصال المباشر والمستمر مع عبد الناصر حول هذا الموضوع.

وكان (ليكلاند) هذا صديقا للأستاذ محمد حسنين هيكل ومن هنا كان هيكل مطلعا على بعض تفاصيل المفاوضات.

وقرر عبد الناصر أن يلعب مع الإنجليز لعبة مزدوجة لعلها نجحت إلى حد ما فكان يتفاوض معهم بصبر وهدوء فإذا ما تعثرت المفاوضات كنتيجة لتشدد الإنجليز قامت مجموعة من ضباط الجيش (كمال رفعت - لطفي واكد- عبد الفتاح أبو الفضل.. وآخرين) بعمليات فدائية محسوبة لنضغط عليهم.

وهكذا كان عبد الناصر يتفاوض وف آن واحد يضغط بالعمل الفدائي المحدد والمحسوب وقد اتقن عبد الناصر العملين معا.

وأذكر أن آخر اقتراح قدمه (ليكلاند) خلال وجودي في مجلس قيادة الثورة كان يتمثل في انسحاب بريطانيا من مصر مع احتفاظها بحقها في العودة ف حالة أي هجوم على بلد عربي أو في حالة التهديد بالحرب ضد كل من تركيا وإيران.

ورفضنا موضوع تركيا وإيران هذا.

وفي مارس 1954 سمعت من صحفي فرنسي هو «وجيه استفان» وكان مراسلا لجريدة فرانس أبزر فاتور أثناء أزمة مارس وفي محاولة منه لكسب تأييد انجلترا وأمريكا إلى صفه في هذا الصراع قد أبلغهما بموافقته على النص الخاص بتركيا وإيران وسوف أعود فيما بعد لبقية حديث روجيه استفان معي حول موقف أمريكا وانجلترا من طرفي الصراع في أحداث مارس.

والحقيقة أنني كثيرا ما تناقشت مع عبد الناصر (قبل أحداث مارس 1954) حول موضوع الجلاء وحول الموافقة على حق الإنجليز في العودة وكانت وجهة نظري أن توقيع معاهد مع انجلترا تتضمن حقها في العودة سوف يقوى المعسكر الاستعماري ويعطيه مزايا استراتيجية بما يزيد من احتمالات قيام حرب عالمية ومن ثم يزيد من احتمالات عودة الإنجليز لاحتلال مصر لكن عبد الناصر كان يرى أن الجلاء هو حلم كل مصري وأنه من المهم جدا أن نحقق للمصريين حلمهم وكان يؤكد أن تحقيق الجلاء هو انتصار تاريخي وإذا أراد الإنجليز العودة بعد ذلك نمنعهم بأمل أن نكون قد كسبنا قدرا كافيا من القوة فقلت: فإذا لم تستطع منعهم أجاب: ساعتها قدرا كافيا من القوة فقلت: فإذا لم تستطع منعهم؟ أجاب: ساعتها سأعالج الموقف وفق مستجداته لكنني اليوم سأحقق نصرا كبيرا وحلما كبيرا وحلما كبيرا لكل المصريين.

وظللت طويلا أتذكر هذا النقاش حتى وقع العدوان الثلاثي وألغى عبد الناص معاهدة الجلاء واستولى على القاعدة البريطانية في القناة ولم تستطع الإنجليز فعل شيء وفي تلك الأيام قابلت عبد الناصر وذكرني بمناقشاتنا القديمة حول هذا الموضوع والحقيقة أن البعض وأنا منهم كان بيني حساباته على احتمالات قيام حرب عالمية ثالثة ومخاطر أن نكون نحن طرفا فيها بعودة الإنجليز إلى مصر لكن عبد الناصر كان بيني حساباته على أساس أن الحرب العالمية الثالثة لن تقوم.

وكانت قضية الجلاء هي المهم الأول لعبد الناصر ولهذا قد قبل الوصول إلى تسوية حول مسألة السودان والحقيقة أن اتفاقية السودان كانت جيدة فقد رسمت للسودان طريقا محددا إما الاستقلال أو الوحدة مع مصر وكلاهما يمثل خطوة إيجابية بالنسبة للتخلص من الاحتلال البريطاني هنا وقد أتت الانتخابات وفق توقعاتنا بالاتحاديين لكنه ما أن أصبح بإمكانهم حكم بلدهم حتى وضعوا شروطا للوحدة كان من الصعب قبولها في هذا الوقت ولم يكن عبد الناصر على استعداد لأن يربك معركته من أجل الجلاء بالدخول في مماحكات حول السودان ومن هنا وقع الخلاف بينه وبين صلاح سالم الذي كان يعتبر أن مسألة الوحدة مع السودان هي المسألة الأولى ولعله كان يعتبرها مسألة تتعلق بشخصه وبمدى نجاحه ولقد قال الكثيرون إن عبد الناصر قد ضحى بالسودان مقابل الجلاء عن مصر والحقيقة أن عبد الناصر لم يكن يملك شيئا في السودان وما قبله عبد الناصر هو حق تقرير المصير للسودانيين وهو مبدأ صحيح تماما وما كان بإمكان مصر أن تسعى جاهدة لاستقلالها أن تفرض سيطرتها بالقوة على بلد آخر.

ولعلي أذكر هنا واقعة طريفة فقد كان عبد الناصر يتحدث في اجتماع في جمعية الشبان المسلمين وهناك تصدت له مجموعة من الطلاب السودانيين الشيوعيين الذين كانوا في ذلك الحين منظمين في صفوف حدتو وهاجموا بشدة اتفاقية السودان بهدوء دعاهم عبد الناصر لمقابلته في مكتبه في مجلس قيادة الثورة وهناك سألهم عبد الناصر بشكل مباشر: أنتم شيوعيون؟ فقالوا: نعم فقال: ولماذا ترفضون الاتفاقية هل نسيتم أن الماركسية تدافع عن حق تقرير المصير للشعوب وأنا أعطيت لكم حق تقرير المصير فقرروا مصيركم كما تشاءون.

ولم يجد الطلاب حججا كافية للرد عليه.

وشكل نجيب وزارته الأولى، واختار لها وزراء من المدنيين لا بأس بهم: فعبد الجليل العمري للمالية ونور الدين طراف للصحة وصبري منصور للصناعة وأذكر أن عبد الجليل العمري كان رجلا شجاعا ومترفعا ومعتدا بنفسه وقد اشترط لقبول الوزارة أن يعوض أصحاب الأراضي الخاضعة لقانون الإصلاح الزراعي بسندات واشترط أن يكون سقف الملكية مائتي فدان ومائة فدان للأسرة وكان مشروع القانون يقترح مائتي فدان فقط. وكان العمري أيضا يتحدث بحدة مع الضباط حتى أعضاء مجلس القيادة قائلا: لا تعطوا وعدوا إلا بعد سؤالي حتى أدبر لكم ميزانية.

ثم كانت الخطوة التالية عندما قرر مجلس القيادة توزيع أعضائه على الوزارات المختلفة كل منا يشرف على وزارة أو وزارتين وكان من نصيبي وزارتا الصحة والصناعة والغريب أن جمال سالم أخذ الإشراف على وزارة المالية وقد حاولت أن أتولى أنا الإشراف على وزارة المالية والاقتصاد مبررا ذلك بأنني حاصل على بكالوريوس تجارة لكنهم رفضوا وفيما يبدو أن هذا الرفض لم يكن مصادفة فقد كان المقصود إبعادي عن هذا المجال والغريب أن جمال سالم كان ليبراليا جدا في الموضوعات الاقتصادية لكنه لم يكن ليبراليا في السياسة ولعل البعض لم يتقبل فكرة وجود مندوبين لمجلس القيادة في الوزارات المختلفة لكن الحقيقة أننا كنا نشعر بالمسئولية أمام الجيش وأمام الشعب وأنه يتعين أن يتم التشاور معنا قبل اتخاذ قرارات أساسية وأنا من جانبي لم أكن أتدخل في الشئون الإدارية ولا في المسائل التفصيلية فقط كنت أسأل إن كان هناك مسائل مهمة أو اقتراحات بتشريعات جديدة أو قرارات ذات أهمية خاصة وهكذا.

لكن تشكيل وزارة نجيب الأول كان إيذانا ببدء الخلاف مع جماعة الإخوان المسلمين فقد اقترح عبد الناصر أن نمثل الإخوان في الوزارة الجديدة واقترح الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين: الشيخ الباقوري وأحمد حسني، ووافقنا لكننا وبينما كان الوزراء يستعدون لحلف اليمين فوجئنا بمنير الدلة وحسن عشماوي يحضران ليرشحا شخصين آخرين أحدهما أخو المرشد العام قائلين: إن المرشد اقترح في البداية لكن مكتب الإرشاد يرى تعديل الاقتراح وربما كان الخلاف عميقا إلى هذا الحد داخل الجماعة وربما كانت هناك محاولة من الجماعة لإظهار سطوتها إزاءنا وأنها قادرة على التلاعب معنا وبنا ورفضنا ذلك بشدة وحدة.

وتحدى الباقوري أوامر الجماعة وقبل الوزارة وحدث ذلك أول شرخ في العلاقة بيننا وبين الإخوان وتضاعف الشرخ في صفوف الجماعة ذلك الشرخ الذي لعب عليه عبد الناصر كثيرا مستفيدا منه في استقطاب عناصر هامة من الجماعة ومن جهازها السري إلى صفه وضد الهضيبي مما أربك الجماعة فيما بعد إرباكا شديدا.

لكن عبد الناصر والزملاء في مجلس القيادة أخطأوا أيضا في حساباتهم مع الإخوان فقد اتفقنا في الأيام الأولى على إصدار قرار بالعفو عن المسجونين السياسيين.

وركز عبد الناصر وعدد من الزملاء على ضرورة الإفراج عن السجناء من الإخوان المسلمين وكانوا جميعا محكوما عليهم في قضايا إرهاب واغتيالات وهذا الإفراج وبرغم أنه أكسب الثورة علاقات حسنة في صفوف الجماعة إلا أنه كان في واقع الأمر تشجيعا خفيا للتيار المؤيد للإرهاب والعنف في صفوف الجماعة فإذا كان المحكوم عليهم في قضايا نسف وقتل وإرهاب يفرج عنهم بهذه السهولة فلماذا لا يكررونها مرة أخرى بأمل الحصول على عفو من حاكم آخر أو حتى من نفس الحاكم.

لكن الغريب في الأمر هو أن هذا القانون قد طبق على الإخوان المحكوم عليكم في قضايا إرهاب واغتيالات ولم يطبق على الشيوعيين.

وأذكر أننا كنا مجتمعين في مجلس القيادة عندما دخل علينا سليمان حافظ ومعه مشروع القانون الخاص بالإفراج عن المسجونين السياسيين وسألته ببساطة: هل يطبق القانون على الشيوعيين؟ فأجاب بزهو: لا فقد وجدت لهذا الأمر مخرجا قلت: كيف فقال: قلنا إن الشيوعيين ليست جريمة سياسية وإنما هي جريمة اجتماعية اقتصادية فقلت: لكنها جريمة سياسية وإذا قلتم كده ولم تفرجوا عن الشيوعيين تبقى بايخه قوي خصوصا وأن التهمة الموجهة لهم هي محاولة قلب نظام الحكم وتغيير النظام الاجتماعي وهم بذلك يحاكموه كمتهمين في جريمة رأي فالأفضل عندي هو الإعلان أنه لن يفرج عن الشيوعيين لأسباب سياسية بدلا من استخدام تفسيرات غير قانونية وغير منطقية فرد مندهشا حيرتوني قلتم بلاش الشيوعيين فلقينا الحل وبعدين رافضين وتقولوا بايخة قوي فضحك الزملاء في المجلس وقالوا له: معلش أصل خالد مختلف في هذا الموضوع.

والحقيقة أن عبد الناصر كان يضمر في هذا الوقت الدخول في تصادم مع الأحزاب السياسية فأراد أن يكسب الإخوان إلى صفه في هذه المعركة ولكنه في نفس الوقت لم يسمح بإعطائهم أي نفوذ داخل الثورة بل ومارس داخلهم لعبة استقطاب البعض إلى صفه فأحدث انقساما خطيرا في صفوفهم وشجعه ذلك على المضي قدما في طريق تصادمه مع القوى الحزبية عامة.

والحقيقة أنه كانت هناك مؤشرات جماهيرية شجعت على هذه الخطة فعندا تصادم أحمد أبو الفتح رئيس تحرير جريدة المصري الوفدية الاتجاه مع سليمان حافظ وبدأ ينتقد قيادة الحركة وتصرفاتها بدا انخفاض حاد في توزيع جريدة المصري الأمر الذي أعطى مؤشرا هاما للزملاء في مجلس القيادة بإمكانية المضي قدما في طريقهم ضد الأحزاب السياسية وهو ما كنت اعترض عليه صراحة سواء داخل الاجتماعات أو خارجها.

كانت انتقاداتي وتصريحاتي محل غضب من الزملاء في مجلس القيادة وكانوا يقولون إنني بهذا أكشف عن خلافاتنا الداخلية بينما كنت أوضح أنني لا أهاجمهم ولا أفشي أسرارا فقط كنت أعبر عن وجهة نظري ..

وعندما بدأت وجهة النظر هذه التي ترفض تحدي الأحزاب السياسية أو الضغط عليها تمهيدا لحلها تجاهل الديمقراطية السياسية وتتمسك بما تعاهدنا عليه قبل الثورة تواجد بشكل مثر داخل قطاع هام من سلاح الفرسان بدأت الحساسية تزداد إزائي وإزاء مواقفي بل وإزاء سلاح الفرسان وعلاقاتي بضباطه.

ومن هنا طرح اقتراح بتشكيل لجنة مصغرة من مجلس القيادة تقوم بدراسة الأمور ثم تعرض مقترحاتها على المجلس بكامل هيئته بما يعني تقليل اجتماعات (مجلس القيادة) وتركيز السلطة في يد أعضاء اللجنة المصغرة الخمسة إلى حد كبير، صحيح أن المجلس يتعين إقرار كل شيء عن طريقه ولكن سير الأمور ركز السلطة في يد الخمسة وهكذا تركزت السلطة في يد أربعة عشر ثم في يد خمسة وانتهى الأمر بتركيزها في يد عبد الناصر وحده وكان طبيعيا بعد كل ما حدث ألا أكون ضمن الخمسة الذين تم اختيارهم في اللجنة المصغرة والتي بدأت وإلى حد كبير تلعب دورا أكثر تأثيرا وتشكلت اللجنة من جمال عبد الناصر بغدادي جمال سالم زكريا محيي الدين وعامر.

وفي نفس الوقت بدأ عبد الناصر يتصادم مع اليسار ومع حدتو بالذات وهي المنظمة التي أسهمت معه في تنظيم الضباط الأحرار وأسهمت أيضا في تحركات ليلة الثورة وأيدت الثورة في مواجهة موقف الاتحاد السوفيتي وكل الأحزاب الشيوعية في العالم وبدأت خطة التصادم بمصادرة جريدة الكاتب ثم مجلة الواجب وكانتا تصدران عن حدتو .

وأدى ذلك إلى المزيد ن التمايز بين موقفي وموقف الزملاء في مجلس القيادة وأدى بي إلى المزيد من النقاش مع الضباط في سلاح الفرسان فزاد ذلك من غضب عبد الناصر وغضب الزملاء في المجلس.

وهكذا كانت السلطة تتبلور في اتجاهين: «مجلس القيادة» يمسك بمفاتيح الحكم أكثر فأكثر والكثيرون منا يتحولون بالفعل إلى حكام حقيقيين بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى وعلى الصعيد الآخر بدأ موقفي يزداد تمايزا بما جعلني أشرع بالعزلة إزاء الزملاء في (مجلس القيادة) ولعل هذه العزلة دفعتهم إلى إخفاء بعض الأمور عني ودفعتني إلى المزيد من الالتصاق بإخوتي في سلاح الفرسان.

وكان للأمر وجهه الآخر..

فنحن في (مجلس القيادة) حرصنا على ألا نحصل لأنفسنا على أية امتيازات كل ما تميزنا به سيارة جيب وسائق يحمل سلاحا وفقط ولكن لم تكن هناك حتى ذلك الحين امتيازات مالية أو عينية أخرى..

وعندما أصبح البعض منا وزراء تقاضوا بالطبع مرتب الوزير الذي يزيد بكثير عن مرتباتنا كضباط وأثير هذا الموضوع على سبيل الفكاهة في بداية الأمر ثم بشكل جدي فيما بعد واقترح عبد الناصر حلال يبدو فيه الطابع الشخصي في العلاقة وهو أن يقوم كل وزير من الزملاء أعضاء مجلس القيادة بدفع مبلغ من مرتبه ويجمع جمال هذا المبلغ ثم يقسمها بالتساوي علينا نحن الذين لم نعين وزراء.

واستمر هذا الأمر عدة أشهر ثم تراخى الزملاء الوزراء في سداد ما يدفعون معلنين أن وضعهم كوزراء يملي عليهم التزامات اجتماعية تتطلب نفقات إضافية.

ومن هنا بدأت فكرة إعداد ميزانية خاصة (لمجلس القيادة) ثم بعد ذلك استخدمت في أغراض أخرى. ولعلنا سنتطرق لهذا الموضع فيما بعد.


الفصل الخامس عشر: أكتوبرنوفمبرديسمبر – الأشهر الحاسمة.

- إما أقطع علاقتي بأحمد فؤاد أو يعتقلوه.

- وقدمت استقالتي دفاعا عن العمال.

- أساطين القانون الدستوري .. ضد الدستور.

- وسأل عبد الناصر ثروت: ماذا لو اعتقلنا خالد؟

- مأساة أن تقف وحدك.


كانت الأشهر الثلاثة: أكتوبرنوفمبرديسمبر 1952 هي أشهر تكريس الخلاف والتمايز بيني وبين الزملاء في مجلس القيادة.

فالعديد من المواقف كانت تتخذ ضد إرادتي كنت أناقش في الغرفة المغلقة اعتراض وألح في الاعتراض وأذكرهم بمواقفنا القديمة قبل الثورة وما تعاهدنا عليه وبرنامجنا وبعد ذلك كله تأتي نتيجة التصويت لأقف وحدي أو أنا ويوسف صديق .

وبهذه المناسبة أود أن أوضح بالغة الأهمية هي طبيعة علاقتي بيوسف صديق وأحمد فؤاد وحدتو

فالغريب أنني لم أفكر ولم أحاو أن أنسق مع يوسف صديق داخل المجلس ذلك أن علاقتي به كانت محدودة ولم أتعرف عليه إلا في مرحلة متأخرة كما أنني لم أكن في واقع الأمر زميلا له في حدتو .

فمن تركت (أيسكرا ) في بداية عام 1947 لم تكن لي أية علاقة تنظيمية مع الشيوعيين والحقيقة أن هذه العلاقة مع (أيسكرا ) لم تستمر إلا عدة أسابيع حضرت فيها اجتماعات محدودة وبسبب سوء تصرف المسئول تركت هذه الاجتماعات في نفس أثرا سلبيا أبعدني عن الحركة وعن أية علاقة تنظيمية معها.

وعندما عاود أحمد فؤاد الاتصال بي وافقت على هذا الاتصال كعلاقة عامة ومفتوحة مع اليسار دون أي التزام تنظيمي من جانبي ومن ثم لم تكن لي أية علاقة تنظيمية (بحدتو ) وإنما كنت على علاقة شخصية بأحمد فؤاد فحسب وكان عبد الناصر هو أيضا على علاقة شخصية بأحمد فؤاد لكن علاقتي كانت مختلفة فأنا لم أكن أتعامل مع أحمد فؤاد من خارج الإطار الفكري بل كنت أعتبر نفسي يساريا بشكل ما وإنما لم أرتبط ولم أنتظم ولم أتعهد بالانتظام في إطار تنظيمي محدد.

ولهذا فإن ما يورده الأخ الأستاذ أحمد حمروش في كتابة الممتاز (قصة ثورة 23 يوليو) عن علاقتي التنظيمية (بحدتو ) ليس صحيحا وربما كان أحمد فؤاد قد أثار لبسا ما فربما كان يبلغهم في الاجتماعات التنظيمية أن خالد معي لكنني في الحقيقة لم أكن معه، وإنما كنت فقط على علاقة به.

وبرغم هذا وبرغم أن علاقة عبد الناصر قد توثقت كثيرا مع أحمد فؤاد فقد أدت تداعيات الأحداث وما شهدته من تحولات وتمايز في المواقف وتحول الزملاء في مجلس القيادة إلى حكام أدت إلى أن يصبح موضوع أحمد فؤاد أحد موضوعات الصدام بيني وبين الزملاء في (مجلس القيادة) ففي فترة من فترات الاحتداد في الاجتماعات المغلقة طلبوا مني أن أقطع علاقتي بأحمد فؤاد..

كانت علاقتي مع أحمد فؤاد هامشية ولم تكن ذات بعد تنظيمي ولم أكن ملتزما أمامه بشيء محدد لكنني وجدت في الأمر مساسا بفكري وبكرامتي ورفضت وهنا تعرضت لأغرب عملية ضغط يمكن أن يتعرض لها إنسان في وضع كوضعي فقد خيرني الزملاء بين أحد أمرين: إما أن أتعهد بأن أقطع علاقتي بأحمد فؤاد وكانوا يعلمون أنني أفي بما أتعهد به وإما أن يوضع أحمد فؤاد في السجن حتى لا أستطيع الاتصال به وصوت مجلس القيادة على قرار غريب: يطلب إلى العضو السيد خالد محيي الدين عضو المجلس أن يتوقف أي علاقة مع أحمد فؤاد وطوال النقاش كان يوسف صديق صامتا ولم يتدخل ووقفت وحدي تماما.

إلى هذا الحد وصلت الأمور بيني وبين الزملاء.

والحقيقة أن التمايز كان يتخذ مسارات عديدة ...

فإذا كانت الحركة النقابية تستعد لعقد مؤتمر لإعلان اتحادها العام صدر قرار بعدم عقد المؤتمر ومن ثم منع قيام اتحاد عام للعمال.

وأذكر أن صاحب الاقتراح بمنع قيام اتحاد عام للعمال كان الأخ سيد قطب أحد قادة الإخوان وكان يعمل في ذلك الوقت مستشارا لعبد المنعم أمين الذي كان يشرف على وزارة الشئون الاجتماعية وهي الوزارة التي كانت تتبعها في ذلك الحين مصلحة العمل وكانت حجة سيد قطب أن مثل هذا الاتحاد سيكون مناوئا للثورة وأن الشيوعيين سوف يسيطرون عليه وكذلك أسهم سيد قطب في إعداد مشروع قانون جديد لعقد العمل الفردي وقد تحمس عبد المنعم أمين المشروع حماسا شديدا رغم أنه كان مجحفا إجحافا شديدا بحقوق العمال فهو يحرم الإضراب ويسمح بالفصل التعسفي وعندما نقل إلى حد الضباط نص هذا المشروع ذهبت إلى عبد المنعم أمين في وزارة الشئون وتناقشنا طويلا في الموضوع وأصر كل منا على رأيه وكان عبد المنعم أمين يقرر صراحة أننا بحاجة إلى دكتاتورية صناعية طالما أننا قررنا إقامة دكتاتورية عسكرية واتفقنا على الاحتكام إلى (مجلس القيادة)

وفي المجلس وقف الجميع ضدي وفي البداية حول يوسف صديق مساندتي لكنه عندا وجد الهجوم ضدي عنيفا سكت ولم يشارك وكان الزملاء متحمسين للغاية: كيف نعطي العمال حق الإضراب ولمصلحة من هذه الفوضى؟ وإذا سمحنا بالإضراب فسوف بفلت البلد من أيدينا ونحن نريد تشجيع الاستثمارات وهذا سوف يعرق الاستثمار وهكذا بل وصل الأمر إلى أن بعض الزملاء اعتبر أن مجرد إثارة هذا الموضوع تمثل محاولة لإحراج المجلس.

وفما بعد تسبب هذا الموضوع في أزمة أخرى بيني وبين الزملاء ففي مارس 1953 عرض مشروع قانوني عقد العمل الفردي في المؤتمر المشترك (وهو اجتماع يضم أعضاء مجلس القيادة ومجلس الوزراء) وطرح للبحث من جديد موضوع الفصل التعسفي الي اشتهر بموضوع المادة 39 من قانون عقد العمل الفردي وتكتل الجميع ضدي وكان عبد الناصر غائبا وتقدمت باقتراح بسيط للغاية وهو حق العامل في اللجوء إلى المحكمة إذا فصل تعسفيا فإذا قررت المحكمة حقه في العودة للعمل تحتمت عودته لكن الجميع رفضوا ذلك أيضا بحجة أنه سوف يخيف رأس المال.

إزاء ذلك قررت أن أقدم استقالتي.

وأرسلت إلى جمال عبد الناصر الرسالة التالية:

حضرة المحترم وكيل مجلس الثورة:

أتشرف بتقديم استقالتي من عضوية مجلس الثورة لأني أصبحت أشعر أنه لا فائدة من بقائي عضوا بمجلس الثورة ولا أستطيع إزاء ذلك أن أودي خدمات لبلادي وللشعب المصري العزيز علينا جميعا ما دمت باقيا بهذا المجلس لأنني قد فقدت القوة الدافعة على العمل نتيجة أنني أرى أن أقل ما كانت تصبو إليه نفسي من أفكار ومبادئ لا أستطيع تنفيذها أو المساعدة على تنفيذها بل وأرى الاختلاف البين بين رأي ورأي جميع الزملاء أعضاء مجلس الثورة..

لقد حدثت مناقشة في جلسة المؤتمر المشترك الأخيرة عن تعديل قانون العمل الفردي الخاص بالفصل التعسفي أي الفصل بلا مبرر فظهر من مناقشة جميع إخواني أعضاء مجلس قيادة الثورة أنهم لا يوافقون على إعادة العمال لعملهم إذا ثبت للمحكمة أن الفصل بلا سبب أو مبرر وهذه المحكمة هي التي أقرها التعديل المذكور وأنا أعتبر أن هذا ظلم فادح لفئة العمال التي تعتبر العمود الفقري لأي أمة تريد أن تبني مكانها اللائق بها بين الأمم.

وإذا كنت قد اشتركت أو ساهمت بمجهود في حركة 23 يوليو 52 فإنني كنت أشعر أن الشعب المصري بفئاته وطبقاته يقع عليها الظلم ولا تستطيع أن ترده ولذلك قمنا بالحركة نيابة عن الشعب والجيش لدفع هذا الظلم وتحقيق الرفاهية والسيادة للشعب فإذا كنت لا أستطيع ذلك فإنني أرى من واجبي أن أتنحى حتى لا أشعر بمرارة تأنيب الضمير فيما بعد.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام

صاغ

خالد محيي الدين.

والحقيقة أنني كتبت هذه الاستقالة وكأنني أزيح عن كاهلي عبئا ثقيلا وأحست براحة بالغة بعد أن أرسلتها وقلت لنفسي الآن ارتاح ضميري.

فقد كنت أعيش في مأزق حقيقي فأنا أعارض في غرفة مغلقة وهم يملكون الأغلبية أو الإجماع ضدي ويملكون أجهزة الإعلام إذا قلت رأي لأحد قالوا إنني أذيع أسرار المجلس وأتحدى التضامن المفترض بين الزملاء في «مجلس القيادة»

علة أية حال رفض عبد الناصر الاستقالة وربما لم يجد أن الوقت مناسبا أو أنه ليس من المناسب أن أخرج هكذا مدافعا عن حقوق العمال.

والمهم عقد مجلس قيادة الثورة اجتماعا حضره عباس عمار وزير الشئون الاجتماعية الذي وجد حلا وسطا هو أن يمنع الفصل التعسفي بسبب النشاط النقابي ووافق عبد الناصر ووافقت أنا وانتهت الأزمة إلى حين.

لكننا بهذا نكون قد ابتعدنا عن الأشهر الثلاثة الحاسمة التي مهدت لكل ما حدث بعدها من تداعيات وأحداث.

ويمكنني القول بأن أغلب من أحاطوا بالثورة من مستشارين ومن قوى سياسية كانوا يعملون جميعا من أجل استمرار العسكريين في الحكم وضد الديمقراطية والبرلمان.

قلت إن السنهوري وسليمان حافظ وفتحي رضوان كانوا يشجعون الضباط على تحدي الدستور والديمقراطية بحجة أنها ثورة وأن للثورة قانونها الخاصة كذلك كان الدكتور سيد صبري أستاذ القانون الدستوري يشجع في هذا الاتجاه أيضا ويقول إنه لا مبرر للتمسك بالنصوص وأن البلد في وضع ثوري وبحاجة إلى خطوات ثورية وإلى فقه ثوري.

والإخوان المسلمون كانوا يشجعون هذا الاتجاه كذلك ربما بأمل ضرب كل القوى السياسية الأخرى ثم بعدها يتمكنون من احتواء الثورة ناسيين أن افتقاد الديمقراطية قد ينقلب وبالا عليهم وقد انقلب بالفعل وبالا عليهم وعنفا ضدهم.

كان يصب في هذا الاتجاه أيضا أن الجماهير الشعبية لم تكن تحترم الحياة الحزبية السابقة وكانت تشعر بما فيها من فساد وتحلل وقد اندفعت هذه الجماهير في تأييد رجال الثورة تأييدا مذهلا خاصة بعد طرد الملك وصدور قانون الإصلاح الزراعي والحديث المتصاعد ضد الاستعمار وشعار (ارفع راسك يا أخي) وإلغاء الألقاب.. وكانت زيارات أعضاء مجلس القيادة لعديد من المدن فرصة لتحرك أمواج هادرة من البشر تهتف بموقفهم وكثيرا ما كنت أناقش جمال عبد الناصر عن الديمقراطية وعن ضرورة إشراك الجماهير فكان يرد على باسما: ألا ترى أن الجماهير تؤيدنا.

يضاف إلى ذلك أيضا أن الأحزاب السياسية لم تقاوم ولو بأقل قدر ما وجه إليها من صفعات بل استسلمت مثيرا للدهشة وخيب الآمال فيها بما شجع الزملاء في مجلس القيادة على المضي قدما في طريقهم فباستثناء الإخوان المسلمين والشيوعيين لم يتحرك أحدا.

وبدأ أساطين القانون الدستوري يدبجون للثورة نصوصنا تمكنها من التلاعب الحياة الحزبية ويرسمون لها خطوات ماكرة أربكت الأحزاب التي كانت مرتبكة بذاتها وضعيفة عاجزة عن ممارسة أي فعل يمتلك صفة الاعتراض أو المقاومة.

ففي البداية قالوا إنه يتعين على الأحزاب أن تطهر نفسها وتجهد الأحزاب نفسها في تطهير صفوفها وتتصادم داخليا ويطرد البعض البعض الآخر بأمل الفوز بقبول ما تم فيها من تطهير ثم تكشف أن الثورة ترى أن هذا التطهير غير كاف ثم يسن قانون ملتو وملئ بالمخارج والثغرات يطلب إلى الأحزاب أن تتقدم على وزير الداخلية بطلب إشهارها من جديد، ويعطي لوزير الداخلية حق الاعتراض على أي من المؤسسين، وبالفعل يتم الاعتراض على مصطفى النحاس وكان هذا الاعتراض خطة مبالغا فيها فقد كان مصطفى النحاس بكل المعايير زعيما وطنيا مرموقا وارتبك الوفد أكثر فأكثر فتارة يعلن أنه يرفض الاعتراض على النحاس ويتمسك به وتارة يعلن أنه سيقبل الاعتراض وانقسم الوفديون.

وهكذا أدى الخبراء الدستوريون الذين اشتهروا للأسف بأنهم ليبراليون دورهم في مناوأة الدستور والحياة النيابة بمهارة فائقة.

وفي خضم هذا كله كنت أستشعر المزيد من الغربة وسط زملاء مجلس القيادة وكانت لقاءاتي مع ضباط الفرسان هي المتنفس الوحيد وتتابعت اللقاءات في مكتبي كضابط مخابرات سلاح الفرسان ثم اقترح بعض الزملاء عقد اجتماع للضباط الأحرار في الفرسان وعقد الاجتماع وقد غضب عبد الناصر عندما أبلغته بذلك وسألني: أنتم بتجتمعوا فين؟ فقلت: في منزل واحد منا أو في مكتبي بالسلاح وأرسل عبد الناصر ضابطا من الفرسان لم يكن من الأحرار لينقل له مايدور في جلساتنا وهذا الضابط هو صلاح عيداروس وفي إحدى الجلسات دار النقاش ساخنا كالمعتاد انتقد الضابط هو صلاح عيداروس وفي إحدى الجلسات دار النقاش ساخنا كالمعتاد انتقد الضباط تصرفات مجلس القيادة وقال أحدهم: لابد من أن نعقد اجتماعا للضباط الأحرار ويقدم لنا كشف حساب عما فعلته القيادة حتى الآن لأننا زملاؤكم ومسئولون مثلكم أمام الجيش وأمام الشعب وقلت والله سأنقل هذا الاقتراح للقيادة فرد أحدهم وقال: وإذا لم يقبلوا؟ فاندفع أحد الجالسين قائلا: نبقى نعمل انقلاب ونشيلهم.

وأسرع صلاح عيداروس بالخبر إلى عبد الحكيم عامر وكان مديرا لمكتب محمد نجيب وضخم عامر الموضوع بشكل كبير والحقيقة أنني لم آخذ هذه الكلمة (الانقلاب) مأخذ الجد واعتبرتها نوعا من التعبير عن التوتر السائد لكن عبد الحكيم أبلغ عبد الناصر وذهبا معا إلى ثروت عكاشة ليسألاه سؤالا غريبا: إذا أصدرنا أمرا باعتقال خالد فيهل ستستطيع السيطرة على سلاح الفرسان؟ وثار ثروت ورفض الفكرة وقال إنه معترض على اعتقالي وثار عبد الناصر وقال له إن الثورة لن تتوقف في سبيل شخص واحد وإزاء إصرار ثروت عكاشة وخوف الزميلين من ردة فعل عنيفة من الفرسان قالا لثروت: إذن سنحاسبه في مجلس قيادة القيادة.

وفي المساء أبلغوني أن هناك اجتماعا عاجلا (لمجلس القيادة) وأتصل بي ثروت عكاشة طلابا بإلحاح أم أمر عليه قبل الاجتماع لكنني كنت منشغلا وألح بشدة فلما اعتذرت أفهمني بلباقة أن أكون هادئا في الاجتماع.

وفتح الموضوع وتحدث الزملاء بتوتر شديد فكيف أستمع إلى تهديد بعمل انقلاب ضد الثورة وأسكت وتحدثت بهدوء مؤكدا أنني أخذت هذه الكلمة ببساطة خاصة وأن من يريد عمل انقلاب لا يقولها هكذا بصراحة في اجتماع عام.

وتطرق الحديث إلى مقابلاتي مع الضباط واجتماعات الضباط الأحرار في الفرسان وأنه لا مبرر لها وأن كثيرين منهم لم يأتوا لنا إلا ليلة الثورة وأن آخرين لم يسهموا في الثورة بشيء فكيف يأتون اليوم ليطلبوا محاسبتنا.

وطوال ثلاث ساعات تعرضت لهجوم شديد من الجميع وظل يوسف صديق صامتا وطرح في هذا الاجتماع موضوع علاقتي بأحمد فؤاد وطلبوا مني عدم مقابلته كما رويت من قبل واتخذ القرار الغريب بعدم مقابلتي له.

ويتواصل التوتر في العلاقة ونأتي إلى قصة مجلة التحرير .


وقد كان صاحب اقتراح إصدارها يوسف صديق ألح (وربما بإيعاز من حدتو ) بأهمية أن يكون لمجلس القيادة مجلة تعبر عن رأيه في الأحداث وكلف يوسف صديق بإصدار مجلة أسميت مجلة التحرير وتولى رئاسة تحريرها أحمد حمروش الذي جمع فيها العديد من الصحفيين اليساريين وكالعادة فإن الزملاء اليساريين كانوا يعشقون الألفاظ العالية الرنين والشعارات الساخنة وكانوا يتصورن أنهم بذلك يضعون الثورة أمام مسئولياتهم وأمام التزاماتها السابقة، وأمام برنامجها القديم أهداف الضباط الأحرار ناسين أن لدنيا قد تغيرت وأن الضباط الثائرين على الحكم القديم أصبحوا حكاما وأن التأثير فيهم لا يكون بمثل هذه الحجة ولا بهذا التحدي...

والنتيجة أنه وبعد ثلاثة أعداد ساخنة للمجلة أتى عبد الناصر وقال إن المجلة شيوعية وأنه يتعين تغيير رئيس التحرير.

وأبعد حمروش واستدعى ثروت عكاشة.

قابل عبد الناصر ثروت عكاشة في حضوري وقال له بوضوح: يا ثروت أنا عايزك تمسك مجلة التحرير ويمكن أن يكتب فيها كل ما تشاء بشرط ألا يسيطر عليها الشيوعيون وتصبح مجلة شيوعية والحقيقة أن ثروت أصدر ا مجلة بشكل جديد ونشر فيها العديد من المقالات الممتازة عن الدستور وعن الديمقراطية وبهذا أصبحت مجلة التحرير لسان حال للجناح الليبرالي في الثورة.

وكتبت أنا فيها عدة مقالات عن العدالة الاجتماعية والاقتصادية وعن النقابات وحرية العمل النقابي ونجحت المجلة وزاد توزيعها واستمر الأمر كذلك حتى 23 يوليو 1953 عندما كتب ثروت مقالا عن دوره في الثورة وفيما يبدو أنه تحدت عن دوره كثيرا وقلل من دور حسين الشافعي وصلاح سالم وحدثت مشكلة إلى درجة أن البعض قرر مصادرة العدد وانتهى الأمر بأن أرسل المقال محل الخلاف إلى عبد الحكيم عامر الذي قرأه وقال إنه ليس فيه شيء يستحق المنع وصدرت المجلة لتثير الكثير من الجدل والحساسيات وأصدر وزير الإرشاد بيانا أعلن فيه أن مجلة التحرير لم تعد تعبر عن القوات المسلحة ثم اجتمع مجلس الثورة ليقرر إخضاع المجلة كلية للرقابة وبعدها تقرر إبعاد ثروت عن المجلة وعندما عرف بالخبر اصطحبني إلى دار الهلال حيث كانت تطبع المجلة وأمرنا نحن الاثنان بتكسير كل الصفحات التي تم جمعها من المجلة وأحدث تلك مشكلة أخرى وغضب الزملاء في (مجلس القيادة) من تضامني مع ثروت ومساندتي له.

وانتهت المسألة بأن أرسل ثروت ليعمل ملحقا عسكريا في برن، ولكن ورغبة من بعض الأخوة في القيادة في الانتقام منه أرسل إلى هناك ملحق جوهري هو عمر الجمال وكان أرقى في ربتة من ثروت وبها فقد ثروت كل دور هناك وظل يلح حتى نقل ملحقا عسكريا في باريس وهناك انغمس في مناخ الحياة الثقافية وأعد رسالة دكتوراه.

وهكذا ومع كل خطوة تمضي ومع كل يوم يمر من أيام هذه الأشهر الثلاثة (أكتوبرنوفمبرديسمبر 1952) كان يتحدد موقف الزملاء مني وكنت أحدد موقفي منهم وأصبحت وبصدق أستشعر خلافا شديدا مع ما يصدر من قوانين وتشريعات قانون رأس المال الأجنبي قانون الأحزاب إلغاء دستور 1923 حل الأحزاب القبض علي ضباط المدفيعة.

وفي هذه الأثناء أعلن مجلس قيادة الثورة كسلطة سيادة وتغير اسم مجلس القيادة إلى مجلس قيادة الثورة وبطبيعة الحال كان نجيب رئيسه وجمال عبد الناصر هو الوكيل.

وفي 18 يناير 1953 شن الأمن حملة اعتقالات واسعة شملت 14 من قادة الأحزاب و39 شخصا بتهمة الاتصال بجهات أجنبية و48 شيوعيا أغلبهم أو ربما كلهم من أعضاء حدتو .

وأعلنت فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات وأعلن قيام هيئة التحرير وأعلن الدستور المؤقت الذي أعلن أن سلطة السيادة في الدولة هي لمجلس قيادة الثورة ولرئيس مجلس الثورة في مجلسه.

إنها مرة أخرى ألاعيب القانونيين: «لرئيس المجلس سلطة السيادة في مجلسه أي أن الرئيس بمفرده لا يمتلك سلطة السيادة ولا المجلس بمفرده يمتلكها كما تقرر تشكيل ما يسمى المؤتمر المشترك وهو هيئة تضم أعضاء مجلس قيادة الثورة والوزراء لمناقشة التشريعات وإصدارها.

إنه الحكم العسكري المباشر.

وأحسست أن كل أحلامي عن حكم نيابي وديمقارطي تتلاشى.

وقررت أن أركز على جهودي على أن تكون فترة الانتقال فترة انتقال فعلا وأن تكون قصيرة قدر الإمكان وألا تزيد بأي حال عن الثلاث سنوات التي أعلنت وإذا أمكن إنقاصها يكون ذلك أفضل وكنت أعتقد أنه يمكن تحقيق ذلك بأن يسعى مجلس الثورة لإيجاد تنظيم جماهيري حقيقي وليس مثل هيئة التحرير فإن نجح في ذلك فإنه يمكنه بعد انتهاء فترة الانتقال أن يقتحم الانتخابات البرلمانية مطمئنا وإلا فإن مصير فترة الانتقال هو أن تمتد بلا نهاية.

وبذلك كل جهودي لإقناع الزملاء بوجهة نظري وفشلت كانت السلطة مغرية وكانت الجماهير تؤيدهم وأحسست أن كل أحلامي تتلاشى وفكرت كثيرا في أن أستقيل.

وأعترف أنني قد عالجت الأمر بطريقة غير صحيحة فإذا كان الزملاء في مجلس القيادة يتحفظون إزاء مواقفي ويرفضونها وإذ شعرت بالعزلة عنهم فقد بدأت في الالتصاق أكثر فأكثر بضباط الفرسان مما أثار لدي الزملاء هواجس حقيقية.

والحقيقة أنني في هذه الفترة كنت أقف وحدي تماما حتى محمد نجيب كان يقف معهم ضد أي تتجه ديمقراطي وضدي شخصيا وبينما كان الجو متوترا زاده نجيب توترا بأن جاء إلى (مجلس القيادة) وقال إن أحد الضباط قال له إن خالد وثروت عكاشة غير راضين عن هيمنة جمال عبد الناصر على المجلس وبعدها حاول نجيب أن يبرر لي تصرفه بأنه خشي أن يكون هذا الضباط مدسوسا عليه من عبد الناصر ليتعرف على رد فعله وأنه طرح الأمر ليبرئ نفسه.

وبدأ الزملاء يستشعرون حالة من التوجس إزائي وبدأوا يلحون على حسين الشافعي بأن يتيقظ لما يجري في سلاح الفرسان.

والحقيقة أن الموج المعادي للديمقراطية كان عاليا ومستندا إلى عوامل عديدة ولم تكن هناك مقاومة سياسية أو طبقية فقط كانت هناك بعض التحركات في الجامعة لكن الجامعة وحدها لا تكفي إذا لم يكن هنا تجاوب جماهيري معها.

ويمكنني أن أقول وبضمير مرتاح أن محمد نجيب كان في هذه الفترة من أكبر المتحمسين لانفراد مجلس الثورة بالسلطة كل السلطة وكانت هذه وجهة نظر العديد من الضباط لكن نجيب يتحمل مسئولية كبرى فقد كان يدفع الأمور دفعا في هذا الاتجاه مستندا إلى موقعه كرئيس لمجلس قيادة الثورة.

كذلك يتحمل مسئولية أساسية في ذلك جماعة الإخوان المسلمين الذين حرضوا وواصلوا التحريض ضد الحياة النيابية الأحزاب السياسية بأمل أن يفرضوا سيطرتهم على الثورة لكن الأمور انقلبت عليهم.

كذلك كانت الطبقة الوسطى قد سئمت الحياة النيابية والأحزاب التقليدية وربطت بينها وبين كل فساد الماضي ولعل لم أدرك عمق هذه المشاعر إلا في أزمة مارس عندما أحسست بمشاعر الكثيرين منهم ضدي إلى درجة أن كل أقارب زوجتي (إذا استبعدنا أقاربي لشبهة تأثرهم بوضع زكريا محيي الدين ابن عمي وموقفه) كانوا ضد مواقفي خلال أزمة مارس وكانوا يستنكرون مطالبتي بالبرلمان والانتخابات وعودة الأحزاب.

باختصار كانت معركتي من أجل الديمقراطية صعبة بل ومريرة المذاق.

ولعل قضية لم تظل محل للجدل والأخذ والرد حتى الآن مثل علاقة ثورة يوليو بالديمقراطية فبرغم أننا ومنذ الأيام الأولى لمحاولة بناء تنظيم الضباط الأحرار كنا نعتقد ونعلن وتمسك بالديمقراطية كمخرج للوطن وللشعب لكننا نسينا في غمرة حماسنا ونحن ضباط عاديون أن الديمقراطية تعني في الأساس تداول السلطة فما أن أصبحنا حكاما حتى نسي البعض ما تعاهدنا عليه وتمسك بالسلطة ولعله قد منح نفسه طمأنينة إذا أكد لها أن البقاء في السلطة هو بذاته حفاظ على منجزات الثورة وحفاظ على مصالح الشعب.

ولا شك أن موقفا كهذا قد استند أيضا إلى فساد الحكم في العهد الملكي وإلى شكلية التوجه الديمقراطي.

كذلك فإن فكرة الانتخابات كانت تعني في الأيام الأولى للثورة عودة الوفد للحكم ولقد سبق أن قلت إن الوفد لم يكن يحظى بشعبية في صفوف الجيش بسبب حادث 4 فبراير 1942 ثم بسبب ما أشيع عنه من فساد في حكوماته المتتالية.

فإذا أضفنا إلى ذلك أن جهابذة القانون الدستوري الذين أشبعوا مصر حديثا عن الحريات والدستور والذين اتشحوا بوشاح ليبرالي واضح كانوا يحرضون زملائي في القيادة على عدم الاعتداد بالدستور أو الديمقراطية أو الانتخابات اتضح لنا أن مسار عبد الناصر باتجاه عدم الاعتداد بالديمقراطية لم كين خروجا غير مألوف وعندما جاء أحداث مارس 1954 خاضها عبد الناصر بكل ثقله واستطاع أن يسير مظاهرات تهتف تسقط الديمقراطية وانتصر عبد الناصر في مارس 1954 لكنه لم يدرك أن كسب جولة كهذه شيء وكسب المسار التاريخي شيء آخر وفي اعتقادي أن مارس 1954 ونجاح عبد الناصر فيه مثل تجربة ظلت تهيمن لفترة طويلة على أسلوب عبد الناصر في الحكم وتصرفاته إزاء معارضيه واستمد من نجاحه في مارس أساس فعليا لتجربته ولم يدرك أن مثل هذا النجاح وقتي بالضرورة ولم يكتشف متى يتعين عليه العودة للديمقراطية والتعددية الحزبية وانساق وراء وهم نجاح التجربة حتى كان هزيمة 1967 وفي اعتقادي أن هزيمة يونيو 1967 لم تكن هزيمة عسكرية، بل هي في الجوهر هزيمة سياسية لنظام فشلت آلياته في اكتشاف ما إذا كانت البلاد جاهزة للحرب أم لا وبعد الهزيمة كانت هناك فرصة تاريخية لتحقيق الديمقراطية لكن هذه الفرصة ضاعت لأن الديمقراطية تتطلب من الحاكم أن يقدم تنازلات للشعب ولم يكن عبد الناصر مستعد حتى رغم الهزيمة أن يقدم أية تنازلات.

وللحقيقة فإنني أعتقد أن أزمة الديمقراطية التي ولدتها ثورة يوليو لم تزل قائمة في بلادنا حتى الآن. صحيح أن يوليو حققت قدرا من الديمقراطية الاجتماعية وحققت للشعب منجزات كبيرة لكن افتقاد الحماية الشعبية لهذه المنجزات كان المقتل.

ولم يدرك عبد الناصر أن هناك فارق كبيرا بين راء الشعب عن الحاكم وتأييده له وبين المشاركة الفاعلة للشعب في اتخاذ القرار بل وفي نفسه بنفسه.

لقد فجرت قضية الديمقراطية أزمة مارس 1954 وكان هناك طرفا صراع كان لابد لأحدهما أن ينتصر على الآخر وانتصر عبد الناصر لكنه لم يدرك أنه بانتصاره هذا حكم على مسيرته كلها أن تظل أسيرة لهذا الانتصار.

وبرغم ذلك كله فإنني أعتقد أنه من حيث الجوهر لا يمكن لأي نظام آخر سواء قبل يوليو أو بعد يوليو أن يدعي أنه كان ديمقراطيا بشكل كامل أو هو ديمقراطي بشكل كامل.

أو هذا ما أعتقد.

الآن أتكلم

الفصل السادس عشر: وتفجرت الخلافات.

- الضباط الأحرار في مواجهة القيادة.

- تحرك في المدفعية .. ضد مجلس الثورة.

- صالح جمال سالم : من لا يوقع على حكم الإعدام عليه أن يوقع وثيقة إعدام الثورة.

- قال لي عبد الهادي: أنا مدين لك بحياتي.

- وأدركت لماذا يتصارعون على السلطة.


ومنذ الأيام الأولى للثورة بدأت حساسيات عديدة وسط الضباط وخاصة (الضباط الأحرار) وبدأت حساسيات أكثر بين الضباط الأحرار كتنظيم وكفكرة وبين بعض الزملاء في مجلس القيادة وخاصة جمال عبد الناصر.

كان العديد من (الضباط الأحرار) يرون أنهم قد تحملوا المسئولية طوال فترة الإعداد للحركة وأنهم أسهموا وتحملوا المخاطر بينما يجري الآن تجاهلهم في حين يصعد البعض لتولي مراكز مرموقة دون سبب واضح.

مع تزايد جرعات النفوذ لدى تحول مجلس قيادة الثورة إلى سلطة فعلية وتولية سلطة السيادة في مصر تفاقمت هذه الحساسيات من الجانبين جانب يرى أنه يستبعد ويتم تجاهله وجانب آخر يتشبث بالسلطة ويسعى لحماية وضعه في إطارها.

والحقيقة أن الأمر كان معقدا...

ففي حدود علاقاتي بضباط الفرسان كان هناك رجال حقيقيون وهبوا أنفسهم للعمل من أجل مصر وشعبها واستمروا معنا في (الضباط الأحرار) منذ البداية جندوا ووزعوا منشورات، ونفذوا تعليماتنا بتحدي الملك في نادي الضباط وغيرها من التعليمات وخاطروا بموقعهم بل وبحياتهم ثم إذا بهم وبعد نجاح الثورة يفاجأون بمحاولة تحييدهم وإبعادهم عن أي دور سياسي وكانت لهم ملاحظات وانتقادات وآراء يتداولون فيها ويطرحونها في موقع إحساسهم بالمسئولية إزاء الثورة لكن القيادة بدأت تعتبر أن ذلك كله تدخل في شئونها وإثارة للفتنة وتعبئة للمشاعر ضدها فوق هذا وذاك كانت تعتبر ذلك كله خروجا على التقاليد العسكرية.

ومن هنا بدأت في سلاح الفرسان وفي الأسلحة الأخرى دعوة لتكوين جمعية عمومية للضباط الأحرار تناقش وتتداول وتصدر قرارات ملزمة.

وفيما كان الزملاء في القيادة يتشبثون بسلطة اتخاذ القرار منفردين كانوا يستندون أساسا إلى ضرورة احترام التقاليد العسكرية في الجيش وإلا أفلت الزمام من أيدينا كما كانوا في واقع الأمر لا يقبلون بأية مشاركة لهم في (سلطة اتخاذ القرار).

وربما امتلك كل من الموقفين بعضا من الصحة وبعضا من الخطأ ويمكن القول بأن معركتي الأساسية طوال هذه الفترة التي قضيتها عضوا في مجلس القيادة أو في مجلس القيادة الثورة كانت تستهدف إقناع كلا الطرفين بضرورة التوصل إلى حل يكفل احترام آراء (الضباط الأحرار) فهم في نهاية الأمر صناع الثورة وهم المنوط بهم حمايتها اليوم أو غدا ولأنهم القوة التي ستدافع عن الثورة لدى أي هجوم معاد عليها ويكون هذا الحل أيضا قادرا على كفالة احترام التقاليد العسكرية وعدم تقييد حرية القيادة في اتخاذ القرار.

لقد بذلت جهدي ولم أزل حتى الآن أعتقد أنني لو كنت قد حصلت على فرصة إنجاح هذه الفكرة لكان مسار الثورة قد تغير ولكان تاريخ مصر قد تغير أيضا ولتحصن الثورة ضد ما وقعت فيه من أخطاء تالية: من انتهاك لحريات الأفراد والقوى السياسية ولنهجت نهجا ثوريا وديمقراطيا في آن واحد..

لكن هذا المنهج تحديا لم يكن مقبولا من جانب بعض الزملاء في القيادة ومن ثم فقد تشبثوا بمواقفهم ضد أي فعالية (للضباط الأحرار) بل كانوا ينتقدون وبشدة تمسكي بعلاقات وثيقة مع ضباط الفرسان بينما كنت أرى أن ضباط الفرسان متوترون ويجب أن أستمر في العلاقة معهم لتفهم مواقفهم ولشرح مواقف القيادة لهم وإلا ازدادوا توترا في حين كان بعض الزملاء يعتقدون أنني استقوى بهذه العلاقة ولم يدرك الزملاء في القيادة لفرط حساسيتهم إزاء علاقاتي الوثيقة بضباط الفرسان وإزاء افتقادهم لعلاقة مماثلة بضباط أسلحتهم أن هذه العلاقة ضرورية وصحية وأن افتقادهم لعلاقة مماثلة بضباط أسلحتهم أن هذه العلاقة ضرورية وصحية وأن افتقادها سوف يفقدنا إمكانية ترشيد التوتر وسوف يفقدنا مصدرا هاما للمعلومات عن أية تحركات ضدنا في الجيش بل وقد يدفع بعض هؤلاء الضباط الأحرار إلى التحرك ضدنا وهذا ما حدث بالفعل في سلاح المدفعية.. وعلى الجانب الآخر كان الضباط الأحرار يتفجرون بحساسيات مفرطة إزاء التعاون أو الاستعانة أو منح مناصب لضباط لم يكونوا أحرار بينما كانت هناك وجهة نظر صحيحة أخرى تقول إننا قد أصبحنا ثورة لمصر كلها وللجيش كله ويجب أن نفتح صدرنا للجميع وأن نكسب الجميع في صفنا وألا نحصر أنفسنا في إطار العدد المحدود من الضباط الأحرار.

وحتى أن تعرضت لانتقادات شديدة من ضباط الفرسان لأنني اخترت جمال منصور مساعدا لي ضباط مخابرات سلاح الفرسان وكان جمال منصور محل ثقتي رغم وقوع خلافات سابقة وبين التنظيم.

ولقد تحدثت فيما سبق عن انضمام جمال منصور وكفافي ونصير إلى الضباط الأحرار وكيف أنهم ضبطوا الانضمام كمجموعة بينما أصر عبد الناصر وكان علي حق في عدم قبول أية انضمامات جماعية وأن كل من ينضم إلى (الأحرار) يجب أن ينضم فرديا.

وبعد أن انضموا إلينا لعب جمال منصور دورا هاما ولم أزل أذكر له أنه هو الذي اختار اسم الضباط الأحرار وهو الذي رتب عملية شراء الرونيو الذي طبعنا عليه منشوراتنا وكان صاحب العلاقة مع شوقي عزيز الذي كتب لنا على الآلة أول منشوراتنا وهيأ مكان طباعتها.

لكنه بعد انضمامه إلى التنظيم بدأ في إثارة القلاقل والمشاكل وأكثر هو وزملاؤه من الانتقاد لكل شيء بالحق وبالباطل وطالبوا بمعرفة أسماء (القيادة) وتحولوا إلى مشكلة حقيقة في التنظيم فلما رفضنا الانصياع إلى مطالبتهم بمعرفة أسماء (القيادة تباعدوا عنا).

واتفقت مع عبد الناصر على ألا نتصادم معهم أنو نوحي إليهم أننا نتخذ موقعا ضدهم وأنا نحاول قدر الإمكان الاستفادة منهم دون علاقة تنظيمية مباشرة.

والحقيقة أنهم رغم تشددهم غير المنطقي في انتقاد كل شيء كانوا شرفاء فلم يفشوا أسرار التنظيم ولم يضعوا أمامنا أية عراقيل في العمل واكتفوا بالتباعد.

وعندما كنا نضع اللمسات الأخيرة لتحركنا ليلة 23 يوليو كان جمال منصور في أجازة واقترحت على عبد الناصر الاستعانة بنصير وكفافي فرفض قائلا: إنهم سوف يربكون كل استعداداتنا بانتقاداتهم وأسئلتهم وإننا في هذه اللحظات الحرجة نحتاج إلى كل دقيقة في العمل المباشر وليس في الانتقاد ووافقه على ذلك.

وبذلك امتلك زملاؤنا الأحرار في الفرسان ورقة أن جمال منصور وكفافي ونصير لم يشتركوا في الثورة فكيف يعين أحدهم مساعدا لي.

ومع إعلان الجمهورية أعيد ترتيب مواقع القيادة العليا..

تقرر أن يكون نجيب رئيسا للجمهورية وتغير اسم (مجلس القيادة) إلى (مجلس قيادة الثورة) وأصبح نجيب رئيسا لمجلس الثورة أيضا.

ومنح مجلس الثورة سلطة السيادة ووضع نص دقيق يقول إن رئيس مجلس الثورة يمارس سلطته في مجلس أي لا هو يستطيع أن يتخذ قرارا منفردا ولا نحن كمجلس.

وتقرر تكوين ما يسمى (بالمؤتمر المشترك) وهو اجتماع يضم أعضاء مجلس الثورة ومجلس الوزراء معا ويتولى مهام السلطة التشريعية لحين انتهاء فترة الانتقال التي حددت بثلاث سنوات.

ومع توالينا كمجلس ثورة سلطة السيادة بدأ الضباط الآخرون يستشعرون قدرا من الحساسية وبدأوا يتساءلون: لماذا هؤلاء بالذات؟ ومن اختارهم؟

وإذا كان الزملاء في مجلس الثورة قد وجهوا كل جهدهم ضد ضباط الفرسان ووجهوا لي الكثير من الشكوك والانتقادات فإن التفجير ما لبث أن أتى من المدفعية..

وبدأ حركة في سلاح المدفعية تنتقد مجلس الثورة وتسأل من اختار ضباطه وكانوا يعربون عن رفضهم لأن يمثلهم في مجلس الثورة عبد المنعم أمين وكمال الدين حسين وأعربوا عن انتقادات شديدة ضد الاثنين وطالبوا بأن ينتخب ضباط كل السلاح ممثليهم في مجلس الثورة وكان صلاح سالم يتصل بهؤلاء الضباط ويناقشهم وأفهمنا أنه يحاول تهدئتهم والغريب أن أحد من زملائنا في القيادة لم يستشعر حساسية من اتصال صلاح سالم بالمدفعية كتلك التي استشعروها إزاء علاقتي بالفرسان.

وبدأ ضباط المدفعية في التحرك واتصلوا برشاد مهنا الذي كان ثائرا ضدنا بطبيعة الحال والذي اصطدم بنا طويلا عندما كان عضوا في مجلس الوصاية على العرش وكان من بين ضباط المدفعية: سامي شرف، أحمد شهيب، محسن عبد الخالق، فتح الله رفعت، ومصطفى راغب وعندما بدأ زكريا محيي الدين في التحقيق مع سامي شرف أكتشف مكتب زكريا ثم نقل بعدها إلى مكتب عبد الناصر.

والحقيقة أن سامي شرف لم يكن يمتلك معلومات كثيرة عن تحركات المدفعية لكن أقواله ضد زملائه أتخذت كدليل على وجود شيء ما. .ووجود شيء ما كان كافيا لدى بعض الزملاء في القيادة لتوجيه ضربة قاصمة لأصحاب هذا الشيء ما.

وأبلغونا في المجلس أن هناك محاولة في المدفعية لعمل انقلاب وأن ثمة ضباط من المدفعية يرتبون لاقتحام ثكنات قصر النيل خلال اجتماعنا فيها ويقبضون علينا.

وعندما قدمت لنا هذه المعلومات انبرى جمال سالم لتفجير الموقف وتصعيده واقترح أن نقبض عليهم وأن نقدمهم لمحاكمة صورية ثم نعدمهم وقال: هم إذا كانوا قبضوا علينا كانوا سيقتلوننا فنحن نقتلهم جميعا ونشكل محكمة منا لإصدار أحكام الإعدام حتى يخاف الجميع.

كان هذا ولا أحد يعرف الحقيقة ولا يمتلك دليلا حقيقيا واحدا بل المتهمين لم يقبض عليهم بعد ولم يتم استجوابهم.

والحقيقة أن كلمات جمال سالم المندفعة والتي أيدها بحماس أنور السادات وعبد اللطيف بغدادي وعامر وعدد آخر من الزملاء قد أثارتني ثورة عارمة ولأول مرة تحدثت بعنف شديد وصوت مرتفع في المجلس وأبديت اعتراضا شديدا على الإعدام.

وكان جمال عبد الناصر صامتا..

أما محمد نجيب فقد أفلت بجلده من المسألة فقال: إذا كنتم أنتم ستحاكمونهم بمحاكمة عسكرية فلابد أن أكون أنا الضباط المصدق على الحكم ولهذا لا يجوز أن أشرك ف المحاكمة.

استمر الحوار طويلا ومحتدما وكنت مستفزا ورفضت أي تفاهم أو أي تنازل عن موقفي واستمر النقاش حتى الساعة الثالثة فجرا وتعبنا دون أن نصل إلى قرار وقررنا أن ننام وأن نستيقظ لنواصل نقاشنا.

ونمنا جميعا في مكتب رئاسة الجيش بكوبري القبة، ونام جمال عبد الناصر إلى جواري وهمس قائلا: أنا موافق على رأيك خليك متمسك به وأنا سأؤيدك وقلت له: يا جمال أنا ضميري لن يسمح لي بالتوقيع على حكم الإعدام ضد أحد الضباط خاصة وأن الحكم معد مسبقا حتى قبل القبض عليه أو سؤاله فقال: وأنا معك أيضا أنت قاوم بشدة وأنا سأساندك.

والحقيقة أنني وجمال كنا الأقرب إلى بعضنا البعض رغم خلافاتنا وكثيرا ما كنت أستشعر أنه يثق في أكثر مما يثق في عدد من الآخرين رغم اتفاقهم معه في الرأي ورغم التفاهم حوله، وتأييده في كل ما يقول:

وبدأت جلسة الصباح وتكلم عبد الحكيم عامر ثائرا متحمسا لأحكام الإعدام وهددنا بأن الثورة ستضيع وأننا سنندم وإننا نتحمل مسئولية فشل الثورة.

كان الأغلبية الكبيرة مع أحكام الإعدام لكنهم كانوا يخشون أن أخرج من المجلس وأعلن أنني كنت ضد حكم الإعدام فأثير ضباط الجيش ضدهم ولهذا أكد عبد الحكيم عامر: لن نسمح لأحد أن يخرج من هنا ليعلن أنه ضد الإعدام، وسنبقى هنا نتناقش حتى يقتنع الجميع بضرورة الإعدام.

وإذ قالها عبد الحكيم تمسكت أنا بها أن نقرر أنه لا يجوز إصدار أحكام بالإعدام إلا بالإجماع ووافق الجميع وهنا وبعد أن وافقنا قررت أن أتمسك بموقفي ضد الإعدام حتى النهاية واتفقنا أيضا على أنه في حالة صدور حكم بالسجن يحدد كل منا عقوبة ويؤخذ بالعقوبة الأقل.

وبدأو في تقديم الأسماء التي سيتم القبض عليها وفوجئت باسم أحمد حمروش من بينها والحقيقة أنهم جمعوا أسماء كل الضباط الذين أعربوا عن معارضتهم أو انتقاداتهم ولو بأقل قدر، وبقي حمروش في سجن الأجانب ستة أيام ثم أفرج عنه لكن بعض المقبوض عليهم ضرب ضربا مبرحا وكانت هذه بداية سيئة للغاية.

وعندما قبض على هذه المجموعة من الضباط قرر حسن الدمنهوري أحد ضباط سلاح الفرسان أن يتحرك واتصل بأخيه وطلب منه أن يفاتح توفيق عبده إسماعيل في الفرسان وخلال هذه الاتصالات أبلغ عنهما ضابط اسمه صفي الدين حسين وحوكم حسن الدمنهوري وحاولوا إصدار حكم بالإعدام ورفضت بشدة وهنا قال لي صلاح سالم: أرجوك وافق على الإعدام لكي نخيف الضباط وأعدك أن نطلب إلى نجيب عدم التصديق على الحكم وقد تم هذا فعلا.

وبعد أن انتهينا من محاكمة حسن الدمنهوري في رئاسة الجيش وانتقلنا إلى فشلاق قصر النيل لمحاكمة بقية الضباط ثم استبعاد عبد المنعم أيمن وأنور السادات ويوسف صديق ومحمد نجيب لأنه سيكون الضباط المصدق والآخرون لأن أسماءهم وردت في التحقيقات.

وترأس جمال عبد الناصر جلسة المحاكمة والحقيقة أنه لم يكن هناك أي دليل جدي على القيام بحرة كان هناك مجرد كلام وانتقادات ولهذا أنا صممت على عدم صدور أي حكم بالإعدام فقد تشاوروا معا واتفقوا على عمل انقلاب، لكن لم يقوموا بأي عمل تنفيذي وعندما رفضت حكم الإعدام ثار جمال سالم وقال: من لا يوافق على الإعدام عليه أن يوقع وثيقة إعدام الثورة ذاتها. وثروت ثورة عارمة وتمسكت بموقفي واستمر النقاش حوالي 48 ساعة دون أن نصل إلى حل أخيرا تدخل جمال عبد الناصر وقال: أنا أؤيد خالد وأنا ضد الإعدام.

وهنا ثار بغدادي وقال: إذا لم توافقوا على الإعدام فأنا سأضع حكما قليلا لأحرجكم، وأثبت ضعفكم أمام الضباط وأمام الناس وطلب الحكم بعشر سنوات سجن وكنا ملزمين بالأخذ بأقل الأحكام وفق اتفاقنا السابق.

وهنا أثار عبد الناصر موضع أنه من الضروري صرف معاشات هؤلاء الضباط واعترض البعض على ذلك واعتبروه تدليلا للضباط المدانيين وذكرهم عبد الناصر كيف أننا كنا قبل الثورة نجمع تبرعات للضابط المعتقلين فهل سنترك الباب مفتوحا لجمع تبرعات كهذه بما يعتبر تأييدا للضباط أو مساندة لهم، وسأل عبد الناصر: ما ذنب أسرهم؟

وفي النهاية تقرر صرف معاشات للضباط المحكوم عليهم وظل هذا المبدأ ساريا.

وعندما أعلنت الجمهورية عين نجيب رئيسا للجمهورية.

لكن الحقيقة التي أود أن أتوقف عندها وأسجلها للتاريخ هي أن نجيب قد قاوم بشدة مسألة إعلان الجمهورية فهو رئيس مجلس الثورة المالك لسلطة السيادة، ورئيس الوزراء الممسك بزمام السلطة التنفيذية وهو أيضا القائد العام للقوات المسلحة صاحبة الثقل الأساسي في السلطة وكان المشروع الذي قدمه جمال عبد الناصر الذي كان متحمسا للإسراع بإعلان الجمهورية يقضي بأن يعين شخص آخر قائدا عاما للقوات المسلحة.

وقاوم نجيب بشدة.

والحقيقة أن نجيب كان من أنصار مد فترة الانتقال لأمد أطول بكثير من الثلاث سنوات ولم يتحدث عن الديمقراطية إلا فيما بعد أي عندما بدأ يفقد سلطته وكان نجيب منذ البداية قد أعد نفسه ليستمر حاكما ولم يكن نجيب وحده صاحب الطموح غير المحدود كان هناك أيضا جمال عبد الناصر لكن جمال كان أكثر ذكاء فكان يربط طموحاته بطموحات الحركة وطموحات الثورة، بل وطموحات مجلس الثورة وإذ كان نجيب يعلم علما يقينيا أن جمال عبد الناصر لن يسمح له بالاحتفاظ بكل السلطة في يديه فقد حاول أن يبحث عن مصدر للقوة يتحصن به ضد سلطة مجلس الثورة ولجأ محمد نجيب إلى الجماهير فأكثر من جولاته الجماهيرية وتحدث إليها بلهجة خالية من الترفع وتبدي أمام الناس حاكما بسيطا يمتلك مشاعر أبوية، وحاول أن يكون نسخة معدلة ومحسنة من مصطفى النحاس وقد أكسبه ذلك جماهيرية واسعة كانت تثير القلق لدى جمال عبد الناصر وبعض الزملاء في القيادة كما كان نجيب يمتلك نفوذا وسط السودانيين في فترة كانت مصر تتطلع فيها لقبول السودان لمبدأ الوحدة معها وكان نجيب يلح صراحة أو تلميحا ويحاول أن يرتب أن يكون الوحيدة الظاهر أمام الجماهير وأن يتوارى كل أعضاء مجلس الثورة منكرين لذواتهم ولم يكن هذا سهلا ولا مقبولا.

لكن كل هذه الأوراق التي أمتلكها محمد نجيب كانت أضعف بكثير من أوراق مجلس الثورة ومن نفوذنا داخل القوات المسلحة ومن الأغلبية في المجلس التي كانت دائما إلى جانب جمال عبد الناصر.

وأخيرا رضخ نجيب وقبل أن يصبح رئيسا للجمهورية وأن يتخلى عن موقعه كقائد للقوات المسلحة خاصة وأن الزملاء قد تحدثوا طويلا عن انشغاله عن القوات المسلحة وفي هذه الحالة يصبح محمد إبراهيم رئيس الأركان قائدنا جميعا.

وتم اختيار عبد الحكيم عامر قائدا عام للجيش.

وكان اختيار عبد الحكيم قائدا للجيش مثارا لمعركة صامتة بين الزملاء في مجلس الثورة فبغدادي اعتبرها مناورة من عبد الناصر لتعزيز نفوذه الشخصي في مواجهتنا جميعا فعامر صديقه الحميم ولا بد أنهما معا سوف يستقويان ببعضهما البعض ضد الجميع وربما كان هذا هو ما حدث فعلا فيما بعد أما أن فقد كانت علاقتي حسنة بعبد الناصر ولم أكن أشعر إزاءه بأية رغبة في تقليص نفوذه ومن هنا لم تشغلني هذه القضية بما كان ما يشغلني في واقع الأمر القضية أكثر عمومية وهي أسلوب عملنا كحكام ومواقفنا من الديمقراطية ومن القضية الوطنية.

كذلك أحدث تعيين عامر حالة من عدم الرضا بين قادة القوات المسلحة فكيف لضابط أن يقفز من رتبة الصاغ إلى رتبة اللواء دفعة واحدة ليقودهم جميعا.

وبدأ الإعراب عن عدم الرضاء هذا باستقالة حسن محمود قائد سلاح الطيران الذي أكد لنا أنه يحترم عبد الحكيم عامر لكنه يستقيل لأنه يعتبر أن رتبة اللواء رتبة محترمة وأنه لا يجوز التلاعب بالرتب العسكرية والقفز عبرها بهذه السهولة وحدثت استقالات مماثلة وأدى ذلك إلى قلق مضاعف لدى محمد نجيب فقد كان يعتمد في علاقاته بالجيش على هذه القيادات التقليدية خاصة وأن غيابها سيتيح لجمال وعامر أن يحلا رجالهما محل المستقيلين.

وكان عامر يمتلك العديد من المميزات وجمال لم يختره فقط لأنه صديقه الحميم ولا لأن ثقته به عالية فقط فقد كان عامر أحد الضباط الذين حاربوا بكفاءة وشجاعة في حرب فلسطين وكان أحد خمسة ضباط تمت ترقيتهم ترقية استثنائية، فقد رقى من رتبة يوزباشي إلى رتبة صاغ.

والترقية الاستثنائية من رتبة يوزباشي قفزة كبيرة، فرتبة اليوزباشي كانت الرتبة التي يبقى فيها الضابط أطول مدة، وإذ يترقى بعدها إلى رتبة صاغ يصبح واحدا من الضباط العظام ويسرع في الترقي إلى الرتبة الأعلى وأنا مثلا بقيت في رتبة اليوزباشي من سنة 1942 وحتى بدايات الثورة في 1952 ولم أرق إلى رتبة الصاغ إلا ضمن دفعة الترقيات الواسعة في يناير 1952 بمناسبة ميلاد ولي العهد أحمد فؤاد وكان هذا حال الضباط الآخرين جميعا وكانت حجة قطع الطريق على محمد إبراهيم هي التي تقدم للضباط العاديين الذين أبدوا دهشتهم من هذه القفزة أما الأسباب الحقيقة فهي أن عامر كان صديقا لجمال وكان في نفس الوقت صديقا لنجيب ومقبولا منه ومن ثم كان يمثل نقطة توازن مقبولة من الطرفين.


وبعد الاتفاق على اختيار عبد الحكيم عامر بدأنا ف ترتيب بقية الأوضاع: استمر نجيب رئيسا للوزراء، وكانت هناك محاولة لإبعاده أيضا عن هذا الموقع لكنه قام بشراسة وعين جمال عبد الناصر نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للداخلية وعبد اللطيف بغدادي وزيرا للحربية وصلاح سالم للإرشاد وبعد اختيار صلاح سالم لهذا الموقع الحساس المسئول عن أجهزة الإعلام التابعة لصلاح سالم له كرئيس الجمهورية ومن أن صورته لا تنشر بمساحة كافية وبقدر كاف إلى غير ذلك من الملاحظات الصغيرة المرهقة.

ولابد لي من أن أتوقف قليلا أمام هذه المسألة فقد كان محل صراع ضاربين نجيب وجمال فإذا كان الاثنين لا يتطلعان إلى إنشاء حزب سياسي ليكتسبا صلتهما بالجماهير عبر قنواته وأدائه ومواقفه فقد شغلا نفسيهما كثيرا بالالتقاء بالجماهير عبر أجهزة الإعلام.

وإذ أبدى جمال ومنذ اليوم الأول للثورة حرصا فائقا على امتلاك علاقة وثيقة وحميمة بعدد من كبار الصحفيين مثل مصطفى وعلي أمين محمد التابعي هيكل حسين فهمي جلال الحمامصي فقد ركز نجيب اهتمامه على الجهاز الأكثر سهولة والأكثر وصولا إلى الجماهير العريضة وهو الإذاعة.

وعندما بدأت المنافسة تحتد صامتة أحيانا وصاخبة في أحيان أخرى كان تولى صلاح سالم لوزارة الإرشاد القومي المشرفة على كل أجهزة الإعلام يمثل نجاحا هاما لعبد الناصر وقد أدى ذلك إلى ارتفاع نبرة الشكوى عند نجيب من أن خطبه لا تذاع بالقدر الكافي ولا تعطي المساحة الكافية في الصحف..

كذلك حرص عبد الناصر على إصدار جريدة جديدة تكون لسان حال الثورة وصدرت مجلة التحرير لكن كثافة الوجود اليساري فيها ثم التصادم مع ثروت عكاشة وحمروش جعلا عبد الناصر يتجه لإهمال (مجلة التحرير ( وإصدار جريدة يومية هي الجمهورية) واختار لها رئيس تحرير لامع هو حسين فهمي وكان حسين فهمي في ذلك الحين واحدا من أقرب المقربين إلى عبد الناصر وتولى السادات مسئولية الإدارة في الجمهورية وكان عبد الناصر يتوجه كل مساء إلى دار (الجمهورية) ليراجع بنفسه المانشيتات والعناوين الرئيسية ولعل هذا وحده يكفي للدلالة على مدى اهتمام عبد الناصر بالصحافة كوسيلة لمخاطبة الرأي العام.

وإذا جاز لي أن أستطرد قليلا في هذا الموضوع فإنني أعود لأؤكد على الاهتمام المبالغ فيه الذي أبداه عبد الناصر دوما للصحافة وقد ظل عبد الناصر طوال فترة حكمه حريصا على أن يقرأ الطبعة الأولى من كل الصحف اليومية، ويراجعها بنفسه، ثم يصدر تعليمات فورية بأية ملاحظات يراها ليتم تعديل الطبعات التالية على أساسها وعندما توليت مسئولية دار أخبار اليوم كان هناك موتوسيكل مخصص لإرسال أول خمس نسخ تصدر من الطبعة الأولى ليسرع بها إلى بيت عبد الناصر.

كما كان عبد الناصر يتابع باهتمام بالغ الصحف العربية وخاصة الصحف الصادرة في بيروت وكان يؤكد أنه يلمح من خلالها اتجاهات السياسة للدول العربية المختلفة خاصة من الصحف التي كانت تمول سرا من بعض الدول العربية.

كما كان عبد الناصر حريصا على قراءة ملخصات مترجمة ومعدة بعناية من الصحف العالمية الهامة وفي حدود تجربتي الشخصية سواء خلا عملي في جريدة (المساء) (65- 1959) أو أخبار اليوم (64- 1965) كان عبد الناصر يتصل بي عدة مرات كل يوم أو مرة على الأقل في اليوم ليعرف أهم الأخبار والتوجهات وليبدي رأيه وتعليماته في كل ما هو هام وباختصار كان افتقاد الحزب السياسي الجماهيري حقا دافعا لأن يهتم عبد الناصر بالصحافة والتليفزيون والإذاعة كأدوات لتشكيل الرأي العام وتحقيق التواصل معه.

ونعود إلى موضوعنا الأساسي وما ترتب على اختيار الزملاء الثلاثة لمناصب وزارية هامة فقد أثار ذلك حساسية لدى بعض الزملاء في مجس الثورة فلماذا هؤلاء الثلاثة بالذات يصبحون وزراء وكان الأكثر حساسية كمال الدين حسين فقد تأثر جدا في عدم اختياره وزيرا ولهذا فقد كان هو أول من عين وزيرا فيما بعد، حيث أصبح وزيرا للشئون الاجتماعية وبعدها وزيرا للتربية والتعليم.

إما أنا فللحقيقة لم أشعر بأية عضاضة فقد كنت أعلم أن هذا طبيعي بعد كل الصدامات التي حدثت فيما بيننا..

وكان انشغالنا بهذه الترتيبات لا يقلل من قلقنا مما يجري من أحداث فالتمرد في المدفعية وإن كان محدودا إلا أنه نذير سيئ كذلك كانت خلافاتنا مع نجيب تتفاقم ونجيب كان يمتلك في ذلك الحين سمعة حسنة وسط الجماهير، وكان بوضوح تام أكثرنا جماهيرية وأكثرنا احتكاكا بالجماهير وأكثرنا قبولا من جانبها.

وكانت عملية إبعاد ثروت عكاشة إلى ملحق عسكري قد أثارت أيضا غضب العديد من ضباط الفرسان وطرح بعضهم فكرة القيام بحركة لمنع عملية إبعاد ثروت وقامت ذلك بشدة وكانت حجتي أنه من المقبول أن نتحرك دفاعا عن الوطن أو عن الشعب، أو عن قضية قومية أما أن نتحرك دفاعا عن فرد فهذا كثير.

وكان جمال عبد الناصر قلقا بشدة من أوضاع سلاح الفرسان وكنت في هذه الأثناء أسافر إلى الإسكندرية لأن أسرتي تقض أجازة الصيف هناك وكلما ذهبت إلى هناك لا يلبث أن يرسل إلى طالبا الحضور فورا وتكرر ذلك مرات كثرة فقد كان يدرك أنني صمام الأمام في الفرسان والحقيقة أنني بذلك مجهود كبير لإقناع ضباط الفرسان بعدم التحرك وكان عبد الناصر ممتنا كثيرا لما فعلت.

وفي هذه الأثناء حدث انقلاب ضد حكومة مصدق في إيران وكانت حكومة شعبية مقبولة من جانب الجماهير وعاد شاه إيران مرة أخرى وبدأ البعض يربط بين ما حدث في إيران وبين أوضاعنا في مصر، وترددت شائعات أن الملك فاروق سوف يعود قريبا وأن الأمريكيين سوف يعيدونه كما أعادوا الشاه.

وفي هذه الأثناء فكر صلاح سالم في أن يحدث فرقعة تمكن الثورة أن تضرب خصومها قبل أن يتحركوا أو حتى يفكروا في التحرك وأعلن لنا أنه يمتلك وثيقة هامة تفيد أن السفارة الأمريكية تتصل بالسياسيين القدامى وتتآمر معهم للإعداد للتحرك ضد الثورة.

ووقع الجميع في الفخ وعقد اجتماع جماهيري في ميدان عابدين وقف فيه صلاح سالم معلنا أنه يمتلك وثيقة خطيرة وتحدث نجيب وجمال عبد الناصر منددين بالمؤامرة التي تحاك ضد الثورة وأعلن عن تشكيل (محكمة الثورة) لمحاكمة المتآمرين.

وتشكلت المحكمة من بغدادي وحسن إبراهيم وأنور السادات وقبض على إبراهيم عبد الهادي بتهمة التآمر مع أمريكا وعلى إبراهيم فرج بتهمة مماثلة وكانت هناك محاولة لتقديم النحاس باشا أيضا لذات المحكمة لكنني اعترضت بشدة كما أشرت في صفحات سابقة ولكي أوقف هذه المحاولة طلبت محاكمة حيدر باشا وكانت حجتي أنه إذا أردتم محاكمة رموز العهد البائد فإن حيدر باشا هو أيضا أحد هذه الرموز بل أنه يتميز بأن محاكمته سوف تلقى استحسانا من ضباط الجيش وهكذا أمكن كسب صلاح سالم ضد مسألة محاكمة النحاس باشا كما أسلفت من قبل.

وعندما عقدت المحكمة اكتشفنا حقيقة (الفرقعة) التي أوقعنا صلاح سالم في مطبها فلم تكن هناك مؤامرة فقط تمت مراقبة أفادت بزيارة موظف بالسفارة الأمريكية لإبراهيم عبد الهادي في بيته ولا شيء آخر.

وزارني زوج أختي الدكتور سيد طه وأعطاني معلومات مصدرها أسرة عبد الهادي أكد فيها أن زيارة الدبلوماسي الأمريكية كانت لغرض لا علاقة له بالسياسة، وأقسم لي أن عبد الهادي برئ.

وطبعا كنت أدرك أنه إذا كان هناك ترتيب لمؤامرة فلا يمكن أن يتم بهذه السذاجة مستشارة السفارة الأمريكي يزور رئيس وزراء سابق في بيته علنا ليدبر معه مؤامرة هذه مسألة غير مقبولة عقلا.

وأصدرت المحكمة حكمها على عبد الهادي بالإعدام.

وفي ذات المساء زارني محمد نجيب في بيتي وسألني: ما موقفك من حكم الإعدام.

قلت: سأرفض طبعا قال وأنا أيضا قلت: إذن نتخذ نفس الموقف في الاجتماع ، فقال: لكن أنا عايز أشوفك على انفراد وغمز بعينه مشيرا إلى ياوره إسماعيل فريد الذي كان عينا لعبد الناصر على نجيب وبدأ ساعتها أدرك عمق الخلاف بين نجيب وجمال.

وفي اجتماع مجلس الثورة الذي دعي للتصديق على الأحكام فوجئنا بغياب نجيب أعلن الراديو أنه سافر إلى الإسكندرية وكان واضحا أنه يريد أن يضعنا في موقف حرج فإما أن نفض المجلس انتظارا لعودته وهنا سيتضح أنه صاحب النفوذ الأول في مصر أو أن يصدق المجلس على الأحكام فيقع في مأزق دستوري ويتحمل أيضا مسئولية الأحكام أمام الشعب..

وكانت واحدة من أخطر جلسات مجلس الثورة وصمم الزملاء على مواصلة الاجتماع وطرحت مسألة التصديق على الأحكام وقلت منذ البداية: اسمعوا أنا لن أوافق على حكم الإعدام ورتبوا أمروكم على أنني لن أتزحزح عن موقفي هذا وثار بعض الزملاء على حكم الإعدام ورتبوا أموركم على أنني لن أتزحزح عن موقفي هذأن وثار بعض الزملاء وفي هذا الاجتماع حكيت لهم قصة (ساكو وفنزيتي) العاملين الذين حكم عليهما بالإعدام وبعد عشرين عاما ثبتت براءتهما وما زال العمال يحتفلون بعيد أول مايو كرمز لاحتجاجهم على هذا الحكم الجائر.

وكان عبد الناصر قد تحدث معي شاكيا من صلاح سالم وقال: إنه ورطنا في هذا الأمر قائلا إن هناك وثيقة وبعد ذلك اكتشفنا أنها مجرد كلام عادي وأنها لا تشكل دليلا ضد أي حد وبعد الإعلان عن المؤامرة تورطنا وكان لابد من تقديم أشخاص للمحاكمة.

المهم صممت على موقفي وألغي حكم الإعدام.

وتمضى سنوات عديدة لأقابل وبالمصادفة إبراهيم عبد الهادي في المنتزه بالإسكندرية وصافحني بحرارة قائلا: أنا مدين لك بحياتي.

ساعتها أدركت أية حماقة كنا سنرتكبها لو أننا أعدمنا أناسا أبرياء.

ولكن هذا الاجتماع أثار العديد من القضايا ..

فسليمان حافظ عندما استشرناه فيما بعد قال لنا إننا تجاوزنا سلطاتنا فقرار تشكيل المجلس ومنحه سلة السيادة ينص على أن هذه السلطة يمارسها رئيس المجلس في مجلسه وقال إن المفهوم هو أنه لا نجيب وحده بال نجيب يمكنه أن يصدر قرارات لكننا كنا قد فكرنا بأسلوب آخر هو أن نجيب يتحدانا ويجب الرد عليه ومواجهته واقترح جمال أن يفوضه المجلس سلطاته وأن يتفرغ هو لهذه العملية ويترك وزارة الداخلية ليتولاها زكريا محيي الدين وأن يتشارك مع الزملاء ثم يأخذ قرارا باسم مجلس الثورة ليواجه به محمد نجيب معلنا أن المجلس يريد ذلك.

واعترض على مسألة التفويض هذه صلاح سالم وبغدادي لكن عبد الناصر طمأنهم أنه سوف يتشاور مع الجميع.

وتقرر أن تعلن قرارات (مجلس الثورة) وإذا أراد نجيب أن يثير أزمة دستورية فلنواجهه وإذا رضخ نكون قد لقناه درسا.

أما القرارات الأخرى فكانت تعيين زكريا وزيرا للداخلية وجمال سالم للموصلات وعينت أنا بدلا من جمال سالم عضوا في المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي.

من الطريف أن تعيين جمال سالم وزيرا للمواصلات قد أثار مسألة اهتمت بها الصحف لفترة فقد تصادم جمال سالم مع موظف بمكتب تلغراف الأوبرا قبل تعيينه وزيرا للمواصلات بفترة كان جمال يريد إرسال تلغراف وأهمله الموظف حتى بعد أن زفه بنفسه ثار جمال سالم كعادته وشتم الموظف وتحدث غاضبا من وزير المواصلات الذي وقع جزاء على الموظف فلما عين جمال سالم وزيرا للمواصلات خشي الموظف من انتقامه فأسرع بتقديم استقالته واتخذ هذه الموقعة كمادة إعلامية فقد استدعى هذا الموظف مقابلة جمال عبد الناصر وجمال سالم وخرج من المقابلة وقد وعد بعدم تعرضه لأية ضغوط ونشرت الصحف قصة الموظف مما زاد من حساسية نجيب الذي شعر بخطورة ضغوط نشرت الصحف قصة الموظف مما زاد من حساسية نجيب الذي شعر بخطورة سيطرة الطرف الآخر على الصحف لكن هذه كانت مجرد مسألة فرعية فقد أثارت نجيب مسألة أكثر خطورة وهي مدى مشروعية القرارات التي أصدرناها في غيابه.

فجر نجيب المشكلة وعقدنا جلسة تحدث فيها نجيب بشدة، مؤكدا أننا تعدينا على اختصاصه كرئيس وزراء وكان على حق فكيف نعين وزراء دون موافقة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء واستدعينا سليمان حافظ الذي أفاد برأيه السابق وحاول جمال أن يتمسك بلائحة مجلس الثورة التي تقول إن التصويت على القرارات بالأغلبية ولم يفد تمسكه هذا.

وأثيرت قضية ماذا لو امتنع نجيب عن حضور اجتماعات مجلس الثورة فهل سنوقف إصدار أية قرارات أو تشريعات؟

وهكذا تفجرت الخلافات مع نجيب تفجيرا خطيرا كان بداية للأحداث التالية المعروفة.

وبعد هذه الجلسة وبينما كنت ف مكتبي بسلاح الفرسان اتصل بي محمد نجيب وبعد دردشة قصيرة فاجأني قائلا أنا مسافر الليلة النوبة وأريدك أن تسافر معي فوافقت.

وكانت رحلة النوبة مقررة سلفا لأن مشروع السد العالي كان مطروحا وثارت مخاوف النوبيين من تهجيرهم مرة أخرى وكان من الضروري زيارتهم وطمأنتهم.

وبعد أقل من ساعة حضر إلى جمال عبد الناصر وصلاح سالم وكانا ثائرين وسألاني: هل صحيح أنك مسافر مع نجيب فقلت: نعم فقالا: لكننا قررنا ألا نسافر معه فقلت: أنتم قررتم ولم تبلغوني بقراركم فكيف التزم به (وبدأت أشعر أن الزملاء يتخذون مواقف وقرارات من خلف ظهري)

وطلبا مني بإلحاح مبالغ فيه أن أعتذر لنجيب لأنه من الضروري أن يشعر أنا جميعا نقاطعه فرفضت وقلت: لقد أعطيته كلمة ولابد أن أفي بوعدي.

وقلت لهما: أنا أعرف أن هناك خلافات لكن يجب ألا تصل الخلافات إلى حد القطيعة فكيف يسافر رئيس الجمهورية إلى رحلة كهذه وتقاطعونه جميعا؟

وبدأ أشعر أن الأمور تسير نحو تصادم فعلي وليس مجرد خلافات في وجهات النظر أو حتى تنافس حول المناصب.

وسافرت مع نجيب وكانت المرة الأولى التي أسافر معه فيها بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية وذهلت من الأبهة الخرافية فالقطار الملكي بفخامته أصبح قطار رئيس الجمهورية هذا بالإضافة إلى ما يحيط الرئيس من سلطة وهيلمان وأبهة ونفاق من الجميع.

وأدركت لماذا يتخذ الخلاف مع نجيب أبعادا حادة.. فالصراع لم يكن فقط حول موقف بل كان صراعا على السلطة بكل ما تعينه هذه الكلمة من معنى وبكل ما تحمله من نفوذ وسلطان..

وكان صراعا على الاستمتاع بكل هذا الذي رأيت ويتجاوز في فخامته وسلطانه وأبهته كل خيالات ضابط مثلي سني ووتجاربي.


الفصل السابع عشر: واستقال محمد نجيب

- بكي نجيب فقال جمال: دموع التماسيح.

- واقترح جمال: أن نستقيل جميعا.

- حاولنا إحراج نجيب فأحرجنا.


وبدأ الصراع بين نجيب وعبد الناصر يتخذ أبعادا لم أكن أتوقعها.

كان نجيب يستشعر أن جمال محصنا بنفوذه في مجلس قيادة الثورة يريد أن ينتزع منه سلطانه كرئيس للبلاد وكثيرا ما كان يقول غاضبا: «أنا لست فوزي سلو» والحقيقة أن شبح «فوزي سلو» هذا كان يفزعه كثيرا فعندما قام أديب الشيشكلي بانقلابه الشهير في سوريا استمر في قادة الجيش وقام بتعيين رئيس صوري للبلاد مجرد من كل السلطات والصلاحيات هو فوزي سلو.

والحقيقة أن نجيب لم يكن مثل فوزي سلو فهو ومنذ ما قبل الثورة كان شخصية محترمة في القوات المسلحة ولعب دورا هاما في انتخابات نادي الضباط وفي موجهة الملك كما أنه اكتسب حضورا جماهيريا واسعا.

لكن العيب الأساسي في نجيب هو أنه أهمل إلى حد كبير مسئولياته كرئيس للجمهورية ورئيس للوزراء وتفرغ للاحتفالات والزيارات وبناء ما يمكن تسميته كاريزما جماهيرية وترك كل شيء للآخرين وسرعان ما تلقفت أيدي جمال عبد الناصر النشيطة واليقظة كل ما تركه نجيب من مسئوليات وأصبح جمال كنائب لرئيس الوزراء ممتلكا للقوة الفعلية وصاحب الكلمة الأعلى في كثير من الأمور.

ولعل اتخذ من نفسي مثالا يمكنه أن يوضح الفارق بين الشخصيتين فبعد الثورة كنت ضابط مخابرا سلاح الفرسان ومعلوم للجميع أنني كنت وثيق الصلة بضباطه وأن يدي كانت على نبض هذا السلاح بصورة تمكني من التعرف على ما يجري فيه كما أنني كنت مشرفا على وزارتين وكنت عضوا في مجلس الثورة وعضوا في مجلس الإنتاج ومع ذلك فإن نجيب لم يهتم أبدا لا كرئيس للجمهورية ولا كرئيس للوزراء بالاتصال بي، وبسؤالي عما يجري في الوزارتين اللتين أشرف عليهما ولا عما يجري في سلاح الفرسان بينما كان جمال دائم الاتصال ودائم السؤال بل ودائم التدقيق في كل شيء وباختصار اهتم نجيب بالمظاهر وبهيلمان السلطة، وبمحاولة بناء علاقة مع الجماهير بينما اهتم جمال بالإمساك بمفاتيح السلطة الحقيقية.

ولعل الفارق الأساسي بين جمال ونجيب هو أن نجيب يربط مشكلته وطموحاته وصراعاته بشخصه فقط بينما يربط جمال طموحاته بقضية جماعية هي سلطات مجلس قيادة الثورة فاستطاع جمال أن يستقطب إلى صفه أعضاء المجلس بينما واصل نجيب ومن منطلق شخصي التصادم معنا واحدا تلو الآخر فقد اصطدم بصلاح سالم وأنور السادات بل حاول الوقيعة بيني وبين جمال كما أشرت في فصل سابق عندما قال إن الضباط نقل إليه تذمر خالد وثروت من محاولة جال للاستحواذ على كل النفوذ

وعند إعلان الجمهورية تنبه نجيب إلى وجود محاولة ما لتجريده من نفوذه أو المرتكز الأساسي لنفوذه وهو منصب القائد العام للقوات المسلحة وظل يقاوم ويجادل ويناقش لكن الجميع في مجلس قيادة الثورة كانوا يدركون أن نجيب مشغول عن المهام الأساسية وأن بقاءه قائدا للجيش سوف يعني ترك أمور القوات المسلحة بكل ما تعنيه بالنسبة لنا في أيد أخرى كما أنه سوف يضعنا جميعا تحت قيادة رئيس الأركان محمد إبراهيم.

وظل نجيب متشبثا بموقفه بصورة عنيدة وطوال أسبوع كامل استمرت مناقشاتنا مع نجيب لتدور في حلقة مفرغة أخيرا نفد صبر جمال وألقى بالأوراق على مائدة الاجتماعات صارخا في وجه نجيب خلاص نقوم نروح أحنا غير قادرين على التفاهم ولن نترك أبدا شخصا واحدا متحكما فينا وفي كل شيء.

وهنا انفجر نجيب باكيا وقال: إذا كنتم تريدون مني أن أمشي وأترككم أنا مستعد أمشي.

وبكي بعض الزملاء ربما تأثرا وربما تجاوبا أو مجاراة لكن قلب جمال لم يلن بل أفلتت من فمه عبارة (دموع التماسيح).

ومن هذه الجلسة التاريخية خرج عبد الناصر فائزا بكل الأوراق.. فقد أبعد نجيب من قيادة الجيش ووضع في هذا الموقع الحساس أخلص خلصائه في ذلك الحين عبد الحكيم عامر ومن موقعه كنائب لرئيس الوزراء استطاع جمال أن يدير كل شيء وأن يدبر كل أمر فالرئيس غائب ومشغول بأمور أخرى كما أنه تولى وزارة الداخلية وهي موقع بالغ الحساسية واستطاع بمجرد توليه لهذه الوزارة أن يكتسب تعاطفا عاما من رجالها بقراره إضافة علوم كلية الحقوق إلى مواد الدراسة في كلية البوليس ليصبح ضابط البوليس حاصلا أيضا على ليسانس الحقوق.

وباختصار وضعت اللبنات الأولى للتحرك نحو الهدف إبعاد نجيب وتولي جمال.

وبدأ مجلس الثورة يبحث عن سبيل لكسب جماهيرية كافية لموازنة جماهيرية نجيب وضمان مواجهة أية مؤامرات داخلية أو خارجية.

وطرحت فكرة مصادرة أموال أسرة محمد علي وتحويل هذه الثورات الطائلة إلى مجلس أسمى (مجلس الخدمات) وقد كرست هذه الأموال لبناء مدارس ووحدات صحية في مختلف القرى.

والحقيقة أن هذا المشروع كان بالغ الأهمية وقد نقل مصر كلها نقلة حضارية هامة حيث وجدت في كل قرية تقريبا وخلال عدة سنوات مدرسة وحدة صحية.

وحتى ذلك الحين لم أكن أدرك عمق الخلافات بين نجيب وجمال كنت أتصور أن المسألة مسألة اختلاف في وجهات النظر، أو حتى صراع محدود على السلطة أو أنها من نوع الصراع الموجه ضدي من جانب جمال سالم مثلا هو وبعض الزملاء فهم مثلا كانوا يتصورن أن وجودي معهم عبء على حريتهم في الحركة وأنا كنت أتصور أن هناك اتجاه أمريكي يريد الانحراف بالثورة عن أهدافها الأولى لكنني رغم ذلك كله لم أكن أتصور أن الأمور يمكنها أن تتفجر لتصل إلى المواجهة الحاسمة وإلى القطيعة.

حتى كانت زيارة النوبة..

وفشلت محاولات عبد الناصر وصلاح سالم الملحة لدفعي إلى رفض السفر مع نجيب رغم وعدي له وإصرارهم على ضرورة مقاطعته وإصراري على أنني سأفي بما وعدت وهنا قال جمال: إذن سافر معه وأحكي لنا كل ما سيقوله لك وكانت هذه العبارة ثقيلة للغاية على سمعي، لكنني لم أشأ أن أفجر مشكلة ثانية غير تلك التي فجرتها بسفري مع نجيب.

وأثناء الرحلة تحدثت طويلا مع نجيب وبطبيعة الحال كنت حذرا فأنا كنت أدرك أن نجيب قد ينقلب فجأة ويحكي ما دار بيننا للآخرين وعلى أية حال حاولت قدر الإمكان أن أضع نجيب ومواقفه ومعركته في إطار صحيح ومقبول..

قلت له إن معركته ستكون خاسرة إذا استمر على هذا النحو فهو يربط معاركه بشخصه وسلطاته ونفوذه وحقوقه ولا يربطها بمسألة عامة وهذه أمور لا تتقبلها الجماهير وطرحت عليه أن يتبنى معي قضية الديمقراطية وعودة الحياة النيابية وإجراء الانتخابات خاصة وأن فترة الانتقال قد مضي منها أكثر من سنة وأنه آن الأوان للإلحاح على إنجاز الدستور والإعداد لإجراء الانتخابات بما يستتبعه ذلك من وجود أحزاب وقلت له إن مجرد إثارة هذا الموضوع سوف يخلق مناخا جديدا في الرأي العام وسوف تحول صراعاته من صراع شخصي على النفوذ والسلطة إلى صراع سياسي قادر على استقطاب الجماهير إلى صفه.

لكن نجيب لم يهتم بما قلت ويبدو أنه لم يقتنع فقد زل مهتما بدوره الشخصي وكرس كثيرا من وقته حتى خلال الرحلة للصراخ في وجه موظفي الإذاعة وملحا على ضرورة إذاعة كل كلمة يقولها وكل خطاب يلقيه وكل حديث يتفوه به.

وفي إحدى القرى النوبية وقف نوبي ليقول: يا سيادة الرئيس تقولون إنكم ستبنون السد العالي وستعوضوننا عن أملاكنا لكن هناك أشياء لا تعوض فكيف تعوضوننا عن أرض ولدنا فيها وتكونت فيها ذكرياتنا ودفن فيها آباؤنا وهنا صرخ نجيب ربما بما يجاوز الأسلوب المفترض لرئيس الجمهورية فقد صاح في العاملين بالإذاعة أمام الناس فين بتوع الإذاعة؟ سجلوا الكلام ده علشان الناس إلي في مصر تعرف.

وعدت من رحلة النوبة لأجد جمال عبد الناصر متلهفا لمعرفة ماذا دار بيني وبين نجيب وقلت باختصار إنه تحدث عن محاولة انتزاع سلطاته وأنني تحدثت عن أهمية عودة الحياة النيابية وكان هذا موقف الثابت الذي يعرفه الجميع.

وكانت رحلة النوبة إيذانا بتفجر جديد في الموقف..

فقد دعينا إلى اجتماع لمجلس الثورة (لم يدع إليه نجيب) وتحدث صلاح سالم معلنا أنه عاجز تماما عن التعامل مع نجيب وقال إنه سيستقيل من المجلس وسيعود لسلاح المدفعية وقال إن نجيب ظل طوال رحلة النوبة يتصل بالمسئولين في الإذاعة بالقاهرة طالبا إذاعة خطبه كاملة وأن تعاد كل خطبة ثلاث مرات وعندما عرض الأمر على صلاح سالم أمر بأن يذيعوا منها المقاطع المهمة فقط وهنا ثار نجيب وأمر بإحالة المسئولين بالإذاعة إلى التحقيق وطلب صلاح إعفاءه من منصبه واقترح أن يتولى نجيب وزارة الإرشاد.

وقررنا أن نعقد اجتماعا يوم 24 نوفمبر 1954 ولعله قد فاتني أن أقول إنه كان هناك اجتماع أسبوعي كل يوم أحد لمجلس قيادة الثورة وكان يعقد في مقر قيادة الثورة بالجزيرة.

وكان الاجتماع يوم الأحد جدول أعمال يعد مسبقا ونبلغ به وكان كمال الدين حسين يتولى سكرتارية اجتماعاتنا.

ولم يحضر نجيب اجتماع يوم 24 نوفمبر لسب لا أتذكره وبدأنا نحن في المداولة فيما يجري ووجت من عديد من الزملاء انتقادات عديدة لأسلوب نجيب ورغبته في الانفراد بالسلطة.

وبعدها مباشرة عقد مؤتمر جماهيري بالإسكندرية كان من المفروض أن يتحدث فيه محمد نجيب وحده، وفوجئ نجيب بحضور عبد الناصر وعامر وصلاح والشيخ الباقوري وتكلم جمال خلافا لما كان مرتبا وألقى خطابا شديدا هاجم فيه (المنافقين) و (المخادعين) الذين يتمسحون في الديمقراطية.

وأحس نجيب أن الهجوم موجه إليه وشعر بغيظ شديد..

وفي 3 ديسمبر كان هناك حفل لتخريج رجال الحرس الوطني وذهب جمال وتحدت في نفس الاتجاه وفي نفس الوقت بدأ جمال يوثق علاقاته برجال الصحافة ليسد على نجيب منافذ الإعلام فاتصل بأحمد أبو الفتح وهيكل ومصطفى وعلي أمين وأحمد الصاوي ومحمد وكان همزة الوصل في هذه الاتصالات أو أغلبها أنور السادات ومن خلال هذه الاتصالات بدأ جمال يطلب منهم تلميحا ثم صراحة ألا ينشروا الكثير من الأخبار عن محمد نجيب وبدأ الحصار الإعلامي على نجيب وكان الإعلام والخطب هي ك ما يملكه نجيب وكل ما يحاول أن يوطد به نفوذه فبدأ يشعر بحلقات الحصار تضيق حوله فهم يلاحقونه ف المؤتمرات الجماهيرية وهم يحاصرونه إعلاميا فماذا يتبقى له؟

وفي 6 ديسمبر دعى مجلس الثورة إلى اجتماع وحضر نجيب وبدأت المواجهة عبد الناصر وصلاح هاجما نجيب بشدة، ولم نصل إلى أي اتفاق..

وبعد هذا الاجتماع اقترح جمال أن تعقد اجتماعات للمجلس دون نجيب حتى يمكن أن تناقش الأمور بحرية..

وبعدها بأيام عقدنا اجتماعا في استراحة وزارة التربية والتعليم في الهرم واستمر هذا الاجتماع طيلة النهار وإلى وقت متأخر من الليل.

وكان جدول الاجتماع مكونا من موضوعين: الخلاف مع نجيب، والخلاف مع الإخوان المسلمين وطرح علينا في الاجتماع معلومات عن تحرك الإخوان في صفوف الجيش والبوليس واستعدادهم للعمل ضد الثورة واقترح جمال أحد حلين: الأول أن نحل الجماعة والثاني أن نتركها بينما نركز جهودنا على تعميق الخلافات داخلها واتفقنا على أن حل الجماعة سوف يزيد من تعاطف الناس معها واستقر الرأي على الاقتراح الثاني خاصة وأن المعلومات المقدمة لنا كانت تفيد أن الخلافات بينهم عميقة للغاية وأنهم يشعرون بالغيرة من بعضهم البعض وأن الكراهية تشتد بين أطرافهم.

واتفقنا على نفس الوقت على ضرورة الإسراع بمشروعات بناء المدارس والوحدات الصحية في القرة كسبيل للحصول على مساندة جماهيرية في مواجهة أي أخطار أو أية تحركات سياسية مناوئة.

أما فما يتعلق بنجيب فقد طرح علنيا أنه بدأ يتحرك لاستقطاب الوزراء وأن أي وزير يمتلك أي ملاحظات على جمال عبد الناصر يستقطبه نجيب ويحاول أن يوطد علاقته به واتفقنا على عقد اجتماع يوم 20 ديسمبر لمحاولة تسوية الخلافات مع نجيب.

وفي اجتماع 20 ديسمبر هذا تكلم جمال عبد الناصر وجمال سالم وبعبد الحكيم عامر وتكلم الآخرون ولم أتكلم أنا فأنا لم تكن لدي مشكلة مع نجيب وأنا لست وزيرا وليس هناك مجال للتصادم معي سواء في سلاح الفرسان أو في ملس تنمية الإنتاج ولا محل لأية مصادمات حول النفوذ أو السلطة مع نجيب لكنني من وضعني هذا كنت أحاول الوصول إلى حل وسط أو ترضية ما يمكنها أن تكون مقبولة من الجميع.

ولم يتحدث أيضا حسن إبراهيم وحسين الشافعي فلم يكونا قد أصبحا وزيرين بعد، ومن ثم لم يكن هناك مجال للشكوى من أية أزمة مع نجيب.

واستمر الاجتماع لوقت طويل جدا دون الوصول إلى اتفاق وهنا اقترح جمال سالم على نجيب أن يتخذ إجراء يثبت حسن نواياه تجاهنا وهو أن يبعد عنه ثلاث من ساعديه أو المحيطين به وهم: اليوزباشي محمد رياض الذي كان ضابط بالبوليس الحربي وعينه نجيب حارسا خاصا له واليوزباشي رياض سامي وكان بمثابة المستشار الإعلامي لنجيب أما الثالث فهو صلاح الشاهد التشريفاتي برئاسة الجمهورية وكان الهدف من هذا الاقتراح زيادة محاصرة نجيب بعزله عن أقرب المقربين إليه والذين يعتمد عليهم في اتصالاته وفي الحصول على المعلومات المختلفة ومن الملاحظ مثل أن جمال سالم لم يطلب إبعاد إسماعيل فريد الياور الخاص لنجيب فقد كان فريد عينا لعبد الناصر على نجيب.

وكانت الساعة قد وصلت إلى الرابعة فجرا ونجيب يرفض كل الملاحظات ويصمم على موقفه ويمتنع عن تقديم أي تنازل، ورفض أيضا إبعاد أي من الثلاثة المطلوب إبعادهم وانفض الاجتماع وقال جمال: فلنترك المسألة للزمن.

وفي يوليو 3يناير 1954 جاء عامر من عند نجيب وقال إنه يشعر أنه الآن أكثر استعدادا للتفاهم وأنه فقط يريد احترام المظاهر التي يتعين احترامها ولكنه لا يريد الدخول في أية تصادمات.

وسارت الأمور سيرا هادئا حتى أول فبراير وكانت جماعة الإخوان المسلمين قد صدر قرار بحلها في 15 يناير وأود هنا أن أقرر للتاريخ أن قرار حل الإخوان قد صدر بالإجماع أي بموافقتنا جميعا بما فينا محمد نجيب ومن هنا فإن تنصل نجيب فيما بعد من هذه الموافقة ليس متطابقا مع الحقيقة وكان السبب المباشر لحل الإخوان هو وقوع تصادم في الجامعة بينهم وبين طلاب آخرين وأحرق الطلاب الإخوان سيارة وقاموا بأعمال عنف وتخريب وعقدنا اجتماعا في نفس الليلة وحضر الاجتماع الشيخ الباقوري وصدر قرار الحل بالإجماع كما قلت وتقرر اعتقال 150 شخصا من الإخوان.

لكننا كنا ف نفس الوقت نرى ضرورة الاستمرار في تعميق الخلافات داخل الجماعة ومن ثم كان هناك اتفاقا على المشاركة في الاحتفال بذكرى وفاة حسن البنا في 12 فبراير لنعلن أننا لسنا ضد دعوة الجماعة وإنما ضد هذه المجموعة التي تقودها وضد قيادة المرشد حسن الهضيبي تحديدا.

وكان من المقرر أن يشارك في الاحتفال جمال عبد الناصر وصلاح سالم، واتصل نجيب بصلاح سالم وأبلغه أنه يريد الحضور في الاحتفال.

وغضب عبد الناصر غضبا شديدا فلم يكن يريد أن يذهب مع نجيب وإذا امتنع عن الذهاب وذهب نجيب وحده تأكدت المعلومات الخاطئة التي كان نجيب يسر بها للإخوان والتي تؤكد فيها أنه كان ضد قرار الحل.

وفي ذات الليلة اتصل بي كمال الدين حسين ليبلغني أن هناك اجتماعات للمجلس في بيت زكريا محيي الدين وفهمت أنه اجتماع خاص بنا وأن نجيب غير مدعو له إنها جلسة 11 فبراير 1954 التاريخية.

كان جمال عبد الناصر متوترا للغاية وبدأ الاجتماع معلنا أنه غير قادر على التعامل مع نجيب بأي حال من الأحوال وأنه يريد أن يستقيل وأن يعود إلى الجيش مرة أخرى، وأن نجيب وحده لن يستطيع أن يدير شئون البلاد وسوف يثبت فشله.

واختلفنا في الرأي .. مجموعة تعارض الاستقالة وتحذر من مخاطرها مؤكدة أن نجيب سوف يحكم بدوننا ثم يعين قائدا للجيش أو يتولى هو قياد الجيش ليطردنا من الجيش وربما ليحاكمنا ثم ينفرد هو بكل شيء وكان بغدادي وحسين الشافعي متحمسين لهذا الرأي..

بينما كان زملاء آخرون متحمسين للاستقالة والعودة للجيش والاستعداد لعمل ثورة جديدة وكان هذا الرأي مثاليا فكيف يمكن أن يتركهم نجيب بهذه البساطة لكنهم كانوا يتصورون أن الجماهير سوف تثور لتساندهم وتعيدهم ضد إرادة نجيب وبهذا يطيحون بنجيب.

إنها نفس الفكرة التي طبقت في مارس، لكنهم في هذه المرة اقترحوها دون إعداد كذلك الذي أعدوه في مارس.

أما أنا فقد قلت إذا أردتم الاستقالة فأنا موافق والحقيقة أن سبب موافقتي كان إحساسي بأن الزملاء يرفضون أي تقدم في مجال الديمقراطية وأية عودة للحياة النيابية، وأن هناك اتجاها ملحوظا للتعاطف مع أمريكا فقلت: إذا أردت الاستقالة أستقيل معكم لكنني لن أعود للجيش وثار البعض: لماذا؟ قلت إذا كنتم أنتم تهاجمونني وتقولون إنني يساري وأنني ضد الاتجاه العام وأنتم تعرفون أنني مع الديمقراطية ومع الحياة النيابية فماذا سيفعل بي الآخرين عندما نتخلى عن سلطة السيادة، ونصبح ضباطا عاديين سوف أفصل فورا وربما أحاكم أيضا.

وحذرتهم كما حذرت نجيب من قبل من أن الجماهير سوف تفهم الصراع على أنه صراع شخصي على السلطة وأنه لكي تتحرك الجماهير يجب أن تطرح عليها قضية عامة مثل قضية الديمقراطية والحياة النيابية.

لكن أحدا منهم لا هم ولا نجيب كان موافقا على تلك الفكرة التي كنت ألح عليها في كل وقت فكرة الديمقراطية والحياة النيابية.

ويبدو أن جمال عبد الناصر كان متأثرا بما حدث في تركيا لكمال أتاتورك عندما استقال وخرجت الجماهير الشعبية لتعيده مرة أخرى للسلطة لكنه نسي أن الوضع كان مختلفا.

وبعد نقاش قررنا أن نؤجل الأمر كله إلى الغد لنجتمع في المساء في بيت جمال عبد الناصر. وفي الغد كان هناك الاحتفال بذكرى حسن البنا وأرسل جمال إلى نجيب يهدده ويطلب إليه عدم الذهاب إلى الاحتفال وأعود لأكرر عبارة يهدده فقد وجه إليه جمال ما يشبه الإنذار بألا يذهب ولم يذهب نجيب وذهب جمال وتحدث في الاحتفال وعاد ليجتمع بنا.

وأعدنا مناقشة الموضوع وعاد الزملاء لطرح فكرة الاستقالة والعودة إلى أسلحتنا وأن نظل نعمل تحت قيادة عبد الناصر ولم يتصورا أن يقوم نجيب بطردهم من الجيش أو حتى اعتقالهم.

وبعد مناقشة أكدت لهم أنه في حالة الاستقالة فسوف أستقيل لكنني لن أعود للجيش وثار خلاف شديد واقترح جمال سالم أن نغتال نجيب ورفضنا الفكرة باستهجان لكن عبد الناصر كان يهدأ رويدا رويدا ثم تحدث ليعلن أنه يسحب اقتراح الاستقالة ويقترح أن تترك الأمور مرة أخرى للزمن ربما كان الهدوء ظاهريا وربما كان استعداد لخطة جديدة.

لكن التربص ظل موجودا وبدأ كل طرف يستعد للانقضاض على الطرف الآخر.

واستمرت الأمور كما هي في حالة من التربص والحذر حتى كان يوم 21 فبراير وكان موعد الاجتماع الدوري لمجلس الثورة.

وذهبنا جميعا وكالعادة بدأن نتجمع في غرفة جمال عبد الناصر بمبنى قيادة الثورة وكانت العادة أن ننتظر حتى يكتمل الحضور ثم نصعد إلى الدور الثاني حيث مكتب نجيب لنعقد اجتماعنا في غرفة الاجتماعات الملحقة به ولكننا في هذا اليوم لسبب أو لآخر ظللنا جالسين في غرفة جمال نتبادل أطراف الحديث فلم طال انتظار نجيب أرسل لنا ياوره إسماعيل فريد ليقول : الرئيس يسأل متى ستصعدون وأتاه الجواب سبابا وبذيئا من جمال سالم .


وبعد خمس دقائق دق التليفون ورد عليه حسين الشافعي وكان المتحدث نجيب وسأله مش حتطلعوا؟ فقال له: أصل العدد لم يكتمل.

وكان نجيب يعلم أن العدد قد أكتمل منذ فترة طويلة لكنه يبدو أن البعض كان يحاول ترويض نجيب وجعله ينتظرنا لأطول فترة ممكنة ولعل نجيب قد أدرك ذلك فقرر أن يواجه التحدي بتحدي آخر وفوجئنا بالبروجي يعلن مغادرة الرئيس المقر.

ووقعنا في مأزق جديد فإذا انفض الاجتماع كان وضعنا سيئا أمام الجميع وذا استمر الاجتماع لن نستطيع إصدار قرارات ملزمة وهذا أسوأ.

وأحسست أن الارتباك يسود الجميع وبدأ عدد منا يقطع الغرفة جيئة وذهابا وخيمت الحيرة علينا.

وفي محاولة للخرج من المأزق الشامل اقترح بغداي أن نشكل مجلسا استشاريا يتم تعيينه من بين الشخصيات العامة المدنية وممثلي النقابات المختلفة لدلي برأيه فيها وعرض أن نتقدم بهذا الاقتراح مقرونا باقتراح أن يترك نجيب رئاسة مجلس الوزراء لأنه لا يقوم بمهام هذا المنصب ولا يعطي مسئولياته الوقت الكافي.

لكن عبد الناصر قال: لا تربطوا المسالتين ببعضهما فنجيب لي عبيطا فقد يوافق على المجلس الاستشاري لكنه سيرفض أية محاولة لإبعاده عن رئاسة مجلس الوزراء لكن جمال لم يرفض اقتراح المجلس الاستشاري من حيث المبدأ.

وعدنا لمناقشة موضوع علاقتنا بنجيب واتفقنا على أن نرسل له وفدا من جال سالم وكمال الدين حسين وإسماعيل فريد ليعرض عليه اقتراحا بتحديد اختصاصاته كرئيس للجمهورية وأن يترك رئاسة مجلس الوزراء ليتولاها جمال عبد الناصر.

مرة أخرى تحدثت مؤكدا أن نجيب لن يقبل وأن الحل الوحيد هو أن نقترح عودة الحياة النيابية وهنا يمكن أن يراجع نجيب أو حتى يمكن أن يتحول الصراع من صراع شخصي على السلطة إلى صراع سياسي.

وأخيرا تقرر إرسال الوفد إلى نجيب وأن نعاود الاجتماع يوم الثلاثاء 23 فبراير.

وفي اجتماع 23 فبراير أبلغنا جمال سالم أنه والوفد قابلوا نجيب وعرضوا عليه الاقتراح وأنه تلقى الاقتراح مبتسما ولكنه لم يبد رأيه بالقبول ولا بالرفض.

وبينما نحن جالسون دخل إسماعيل فريد ياور محمد نجيب وسلم لكمال الدين حسين مظروفا فتح كمال الدين المظروف وقال إنها استقالة أرسلها نجيب من جميع الوظائف والمسئوليات المنوطة به، ويؤكد فيها أنه يستقيل لأسباب لا يريد الخوض فيها وأن مصلحة الوطن هي التي أملت عليه هذا القرار.

ومرة أخرى .. وقعنا في المأزق.

الفصل الثامن عشر: الديمقراطية الحد الفاصل.

- قال عبد الناصر: قل لنجيب المسألة مش لعبة.

- صلاح أعلن قبول استقالة نجيب فوقف أولاده ضده.

- سمعت مواطنا يقول علينا: دول أولاد كلب.

- الاقتراح المأزق: أن أتولى رئاسة الوزراء.


وتأتي استقالة محمد نجيب لتفجر من جديد الخلاف بيني وبين الزملاء في مجلس قيادة الثورة ولترسم الحد الفاصل بيني وبين الزملاء في مجلس قيادة الثورة ولترسم الحد الفاصل بيني وحدي وبينهم جميعا فلدي منحنى كنت أتصور وأتمسك بأن المخرج هو إعلان الاستعداد لإعادة الحياة النيابية بما يستتبع ذلك من إعادة السماح بقيام الأحزاب السياسية ومن البدء في اندماجنا في العمل السياسي.

والحقيقة أن تلك الورقة التي دخل بها إسماعيل فريد على اجتماعنا ليسلمها لكمال الدين حسين بصفته سكرتير المجلس والتي تضمنت استقالة محمد نجيب قد أربكت كل الحسابات ووضعت مجلس الثورة في موقف حرج للغاية

وبسرعة فائقة أدرك جمال عبد الناصر خطورة الموقف وأدرك أن الزمام قد يفلت من أيدينا جميعا فصاح في وجه إسماعيل فريد: روح بلغ نجيب أن يبقى في بيته ولا يغادره ثم تذكر أنه لابد أن يكون إسماعيل فريد نفسه يعلم بمحتوى الورقة التي أتى بها فمع أن إسماعيل فريد كان عين عبد الناصر على نجيب إلا أن عبد الناصر لم يشأ أن يترك شيئا للمصادفة فصاح في إسماعيل فريد: وأنت لا تغادر هذا المكان ثم أردف بعبارة لم أزل أذكرها: قول لنجيب إن المسألة مش لعبة.

وكان كل حرص عبد الناصر ألا يتسرب نبأ استقالة نجيب قبل أن نرتب نحن أمورنا.

وبدأنا في مناقشة الاستقالة وتداعياتها..

ومن جديد بدأت الاقتراحات تتساقط من الزملاء لكنها تتساقط وهي غير ناضجة البعض اقترح اتخاذ قرار بتشكيل وزارة مدنية وأن يلحق به إعلان استقالة مجلس قيادة الثورة.

وعندما تعثرت المناقشة قال جمال سالم : نشوف حل بعدين لكن بغدادي قال: أي حل لازم يكون بعلمنا واتفاقنا نقعد إلى أن نتفق فقال جمال سالم : أقصد أن نحاول ترضية نجيب لكي يسحب استقالته مؤقتا وبعد شهر نكون قد توصلنا إلى حل ولكن كيف يمكن إقناع نجيب سحب استقالته وعلى أساس هنا صمت جمال سالم ولم يجب.

وتساقط حل جديد نشكل هيئة استشارية وكان اقتراح الهيئة الاستشارية قد طرح من قبل ورفضته بشدة لأنه يعني شيئا واحدا: مد فترة الانتقال وعدم إعادة الحياة البرلمانية.

واعترضت على موضوع الهيئة الاستشارية: وقلت: بصراحة يا جماعة البلد لن تقبل بأقل من عودة الحياة النيابية وإعلاننا الاستعداد لعودة الحياة النيابية وهو وحده الذي سيسحب البساط من تحت أقدام نجيب ويبرز استقالته كموقف ضد الديمقراطية.

وفجأة تذكر صلاح سالم موضوع السودان، وصاح قائلا: يا جماعة أنتم ناسيين موضوع السودان محمد نجيب شيء مهم جدا بالنسبة للسودانيين خاصة وإحنا مقبلين على تحديد العلاقة المصيرية بين مصر والسودان.

وهنا تقدمت باقتراح قلت إنه يخرجنا ويخرج مصر كلها ويخرج علاقتها مع السودان من المأزق أن نعلن بدء فترة الاستعداد لعودة الحياة النيابية وأن نعمل ف هذه الحالة على مسايرة محمد نجيب في المدة المتبقية من فترة الانتقال والتي لا تزيد على عام ونصف.

أيدني عبد اللطيف بغدادي قائلا: إن هذا هو المخرج الوحيد الذي يحل مشكلة استقالة نجيب لكن الزملاء جميعا كانوا ومن حيث المبدأ ضد عودة الحياة النيابية وحتى موافقة بغدادي على اقتراحي كانت موافقة مرحلية فما لبثت أن وقفت وحدي في مواجهتهم جميعا.

استمرت المناقشة دون أن نصل إلى حل وكنا يوم الثلاثاء موعد اجتماع المؤتمر المشترك واتصلوا بنا من قاعة المؤتمر المشترك ليقولوا إن الاجتماع جاهز وأن نجيب هنا وذهبنا جميعا إلى الاجتماع فيما عدا عبد الناصر الذي كان فيما يبدو مرتبطا بموعد في منزله واتفقنا أن نلحق به إلى هناك فور انتهاء الاجتماع.

وسارت الأمور في الاجتماع سيرها العادي نوقشت موضوعات عادية واتفقنا على العديد من القرارات ونجيب يمارس مهامه وكأنه لم يستقل.

أثار هذا الموضوع هواجس عديد لدى فنجيب يقرر الاستقالة لكنه فيما يبدو يقررها لمجرد الضغط الزملاء يتحدثون لدى أي مشكلة عن الاستقالة دون أن يستقيل أحدا أو يفكر جديا في التنازل عن أقل قدر من السلطة ومن ثم يرفضون أي تفكير في عودة الديمقراطية والحياة النيابية.

وفرض الصمت الشامل نفسه على فلم أنطق بحرف واحد طوال الاجتماع إذ أدركت أن البعض يخوض حرب أعصاب ومناورات ضد البعض الآخر والعكس وأنه لا توجد اقتراحات بريئة أو خيالية من الغرض أو من المصلحة الذاتية كانت كل أحداث الماضي تتلاحق أمامي وأنا جالس معهم وبدأت ملامح موقف حاسم وعنيد ترتسم في ذهني وازددت يقينا أن المخرج الوحيد هو الديمقراطية وعودة الحياة النيابية.

انتهى الاجتماع وأسرعنا إلى عبد الناصر في بيته وبادر جمال ليقرر أن الحل الأفضل هو أن نستقيل وأن نترك السلطة لنجيب وأن نعود جميعا إلى الجيش.

وطبعا لم يكن بالإمكان تصور أن مثل هذه الاستقالة جادة فلا أحد يتصور أن نجيب كان سيسمح لأحد منا بالبقاء في الجيش ولو ليوم واحد حتى يدبر ضده انقلابا لكن الحسابات كانت أن الجماهير ستتحرك دفاعا عن مجلس الثورة وأن الجيش لن يقبل استقالتنا وسيتحرك هو أيضا لم يكن ضمن الحسابات أن نجيب كان حتى ذلك الحين هو رمز الثورة ورمز التغيير عند الجماهير صحيح أن الجماهير تؤيد مجلس الثورة لكنها تلتف أكثر بكثير حول شخص نجيب.

وتواصل الاجتماع بغير جدوى ولم نصل على قرار.

قررنا أن نعود لبيوتنا لننام قليلا ولنعاود الاجتماع في الغد في مبنى مجلس الثورة.

كان الغد هو الأربعاء 24 فبراير في الصباح كان هناك اجتماع لمجلس الثورة وقلنا نجتمع كمجلس ثورة بعدة انتهاء اجتماع مجلس الوزراء وعندما توجهنا إلى مبنى مجلس الثورة كان هناك عدد كبير من الضباط الأحرار الذين تسرب إليهن نبأ اعتزام مجلس الثورة الاستقالة أو ربما سرب إليهم عن عمد لإثارتهم لا أعرف على وجه الدقة فربما حاول البعض الاستقواء بالجيش في مواجهة نجيب أقول ربما لأنني لا أريد أن أقحم التخمين في أحداث دقيقة كهذه ولأنني لا أقرر هنا إلا ما أعرفه عن يقين.

المهم كان هناك حشد من الضباط الغاضبين الرافضين لاستقالة مجلس الثورة وتم الاتصال بأعضاء مجلس الثورة الوزراء لاستدعائهم على عجل وتركوا مجلس الوزراء وحضروا.

كان نجيب يمارس سلطاته كالمعتاد فقد ترأس اجتماع مجلس الوزراء وقد أثار هذا دهشتنا وحيرتنا في آن واحد: فهو يرفض سحب الاستقالة في حين بقى ممارسا لسلطاته.

وعقدنا اجتماعنا ..

يمكن القول بأن المناخ قد تغير بعض الشيء في الاجتماع فلعل بعض الزملاء ومنهم عبد الناصر قد أحسوا بأن الجيش معهم فشعروا بحالة من الانتشاء وبدوا أكثر استعدادا لمواجهة نجيب.

لكن الوصول إلى اتفاق لم يكن سهلا وظلت الاقتراحات غير الناضجة تطرح على مائدة النقاش دون أن يحظى أي منها بقبول عام وهنا صاح جمال سالم محتدا: (أمامكم حتى الخامسة صباحا لتصلوا إلى حل حاسم فلا يجوز أن تستيقظ البلد على هذا الوضع، وإلا أفلت الزمام من أيدينا وأنتم منذ يومين تدورون في حلقة مفزعة تقولون نستقيل ثم ترجعون ثم تعودون لفكرة الاستقالة لتتراجعوا عنهأن إذا لم تصولوا إلى حل أنا عندي حل.

وفجر جمال سالم الذي توصل إليه ليفجر غضبي كما لم يتفجر من قبل قال جمال سالم : (سأذهب إلى بيت محمد نجيب لأضربه بالرصاص ثم أضرب نفسي)

انفجرت غاضبا: هل ستصل الأمور إلى حد أن نقتل بعضنا بعضا عندما نختلف؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تقتلني فأنا مختلف معكم أيضا؟

وثار بغدادي أيضا رافضا الفكرة.

ولعل هذه المشاجرة كانت إيذانا بأن يصل الاجتماع الذي استمر طويلا إلى حل.

وأخيرا توصلوا إلى حل: إعلان قبول استقالة محمد نجيب ، ومد فترة الانتقال وتبرير قبول الاستقالة بأن نجيب يريد أن يستحوذ على كل السلطات.

وكنت وحدي في الطرف الآخر، وأكدت للزملاء أكثر من مرة أن حجة أن نجيب يريد أن يستحوذ على السلطات لا تقع أحدا وقلت لهم: أنتم ترفضون عودة الحياة النيابية وقرر تم حل الأحزاب، أي تريدون الاستحواذ على السلطة لأنفسكم، والجماهير ستفهم الأمر أنه صراع على السلطة بين أطراف كل منها يريد أن يحوزها لنفسه وليس للشعب كذلك فإن هذه الحجة لن تقنع أحدا في الجيش الذي اعتاد رجاله على الخضوع التام للقيادة.

وكنت بطبيعة الحال أيضا ضد مد فترة الانتقال.

لكن الزملاء صمموا على أن يصدر هذا القرار بالإجماع لإظهار تضامننا معأن وإزاء إلحاحهم قلت: سأعلن موافقتي بشرط أن أستقيل من مجلس الثورة وأكدت لهم أنني سأستقيل ولن أعود للجيش وإنما سأشتغل بالسياسة.

ووافق الزملاء على ذلك بشرط ألا أعلن استقالتي فورا وإنما بعد فترة وهنا وافقت أيضا مشترطا ألا يطلب مني أن أذهب إلى ضباط المدرعات (الفرسان) لإقناعهم بما أعتقد في قرارة نفسي أنه قرار خاطئ وضار.

وأتى صباح الخميس 25 فبراير.

ذهب صلاح سالم إلى الإذاعة ليعلن نبأ قبول استقالة نجيب وليبرر الأمر تبريرات أثارت سخرية الناس فقد قال إن نجيب كان يلح على نشر صوره في الصحف وعلى إذاعة خطبه في الإذاعة وأنه كان يوقظ صلاح سالم بصفته وزيرا للإرشاد من النوم ليطلب إليه الأمر بإذاعة خطاب ألقاه. وقال صلاح سالم في بيانه إنه إزاء تفاقم الخلافات بينه وبين نجيب ذهب بنفسه إلى السجن الحربي ووضع نفسه في السجن.

وهكذا..

والمهم أن الناس لم تقتنع بكلمات صلاح سالم فكيف يحرم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وقائد الثورة من إذاعة خطبه في الراديو أو من نشر صوره في الصحف أما موضوع أن صلاح سالم ذهب بنفسه إلى السجن الحربي ليسجن نفسه فقد أثار لدى الناس تعليقات مليئة بالسخرية.

وأما أنا فقد قررت لكي لا أضع نفسي في موضع الحرج ولكي أفي بما تعهدت به للزملاء أن أختفي فتركت البيت طوال يوم الخميس ذهبت وزوجتي إلى خارج القاهرة وقررت أن أقطع حرارة التليفون لكي لا يتصل أحدا بالمنزل ويوم الجمعة ذهبت إلى السينما لأشاهد مع زوجتي فيلم (يوليوس قيصر) ثم تعشيت في الخارج ولم أعد إلى البيت إلا الساعة الثانية عشرة والنصف مساء.

عدت للبيت لأجد ضابطا في انتظاري يبلغني أن الزملاء في مجلس الثورة ينتظرونني في مكتب عبد الحكمي عامر قررت أن أصعد لأغير ملابسي المدنية وألبس الزي العسكري قد اعتدنا أن نحضر اجتماعات مجلس الثورة بالزي العسكري لكن الضابط كانت لديه تعليمات بأن أذهب بأسرع ما يمكن فقال: يا أفندم مفيش وقت.

وذهبت بملابسي المدنية مكتفيا بأن البالطو الذي أرتديه يميل لونه إلى اللون الكاكي.

كان الجميع هناك إلا حسن إبراهيم فقد كان بالإسكندرية..

قلت: (السلام عليكم) ولم أستمع ردأن الوجوه جميعا كانت باردة وجافة عبد الناصر ممسكا برأسه بين يديه والبعض يضع رأسه على مائدة الاجتماع والجميع واجمون نظراتهم نحوي لم تكن ودية.

هذه الوجوه الباردة جديدة تماما على أنها غير تلك التي زاملتها سنوات طويلة في الإعداد للثورة فهذه الصداقة القديمة والطويلة اختفت وحلت محلها نظرات لا أريد أن أصفها لكنني لا أنساها حتى الآن.

لقد كانوا جميعا غاضبين مني رغم أن توقعاتي هي التي تحققت أو ربما بسبب ذلك فبيان صلاح سالم في المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه قبول استقالة نجيب لم يقنع أحدا بل إنه زاد من عطف الناس على نجيب.

قال صلاح سالم إن أولاده هاجموه بشدة في البيت وأن خادمه مر على محلات العباسية ليشتري احتياجات المنزل لكن البائعين رفضوا أن يبيعوا له أقارب زكريا هاجموه بشدة والضباط عامة ما أن نزلوا الشارع صباح الخميس حتى ووجهوا برفض جماهيري شامل وانتقادات حادة.

أنا نفسي كنت في وسط البلد مساء الخميس ووجدت الناس متجمعين أمام أحد المحلات يستمعون لخطاب صلاح سالم نزلت من السيارة ووقفت استمع معهم وعندما انتهى البيان علق أحد الواقفين قائلا: (دول طلعوا أولاد كلب) وأسرعت إلى سيارتي.

كان رد الفعل الجماهيري على غير ما توقع الزملاء فماذا كان رد فعل الجيش؟

كانت الأنظار كلها متجهة إلى سلاح المدرعات ولقد اتفقت مع الزملاء في جلسة الأربعاء ألا أتحمل أمام ضباط المدرعات مسئولية الدفاع عن موقف أنا غير راض عنه ولقد تعمدت الاختفاء من بيتي حتى لا أضطر لأن أعلن رأي لزملائي في المدرعات فيتصور الزملاء في مجلس الثورة أنني أحرض الجيش ضدهم.

وذهب حسين الشافعي ووجه بمعارضة شديدة من ضباط المدرعات وطلبوا أن يذهب إليهم جمال عبد الناصر فلما ذهب هاجموه بشدة ولم يستطع أن يكسبهم أي صفة بل ولم يستطع أن يقنع منهم أحدا بموقفه

كان هذا هو سبب الوجوم فقد كانت حساباتهم قائمة على أساس أن الجيش معهم وأن بيان صلاح سالم يكنه أن يقنع بعض قطاعات من الشعب قد وقف ضدهم المدرعات وقفت ضدهم ثم زاد الطي بلة أن حسن إبراهيم اتصل من الإسكندرية ليبلغ أن حامية الإسكندرية هي أيضا ضد القرارات صحيح أن المدفعية والطيران والمشاة معهم لكن هناك شرخ خطير في الجيش وربما أدى تجاهله إلى حدوث مذبحة بين قوات الجيش.

حاولت أن أكسر حاجز الوجوم والنظرات المشحونة بالغضب فقلت: خير يا جماعة؟ ولم يرد أحد سألت عبد الناصر: فيه أيه يا جمال ولم يرد وازداد توتري إلى درجة أنني مددت يدي وأخذت سيجارة من علبة كانت على المائدة وأشعلتها وعدت للتدخين من جديد بعد أن كنت قد أقلعت عنه لفترة.

أخيرا تكلم جمال وقال: أنتم تعرفون الحكاية لكن سأحكيها لخالد، يوم الخميس ذهب حسين الشافعي إلى ضباط المدرعات وعرض عليهم القرار فعارضوه بشدة وبدأوا في الاتصال ببعضهم وحاولوا الاتصال بخالد لكن خالد لم يكن في بيته وقرر الضباط عقد اجتماع ثان في صباح الجمعة وذهب لهم حسين الشافعي ولم يستطع إقناعهم أيضا وصمموا على أن أذهب أنا إليهم وإلا عقدوا الاجتماع بمفردهم وأصدروا قرارات أعلنوا رأيهم ومضى جمال قائلا إنه ذهب إليهم فعارضوه بشدة وانتقدوه انتقادا شديدا وقال إنه بينما كان يتحدث إليهم كان طابور دبابات عائدا من التدريب على ضرب النار فدارت الدبابات حول الميس المجتمع فيه وشعر جمال أن هناك نوعا من التهديد.

وقال جمال أنا وجدت أمامي ناس رافضة لأي إقناع مصممين على ضرورة عودة محمد نجيب ولو بدون سلطات وعلى ضرورة عودة الحياة النيابية واستطرد قائلا (وطبعا أنتم عارفين أن موضوع الحياة النيابية ده كلام خالد وأفكار خالد)

فقاطعته وقلت: أنا تركت بيتي حتى لا يتصل بي أحد ولكي لا أتصل بأحد فقال عبد الناصر: أنا لا أتكلم عن النهارده وقال حسين الشافعي: الحقيقة يا خالد أنت منذ عدة أشهر وأنت تعقد اجتماعات مع ضباط المدرعات وتقوم بزيارات جماعية مع الضباط بصورة دورية لأحد الضباط في قريته وكنت تتحدث معهم دوما عن الحياة النيابية والديمقراطية) فقلت: (هل كنت عايزني أقول لهم لازم نعمل دكتاتورية، أنا كنت أقول لهم رأي وقد قبلوه، والحقيقة أن ضباط المدرعات يشعرون بأنهم مغبونون وأنهم مبعدون عن عمد عن تولي المناصب الهامة)

ومضى جمال عبد الناصر ليروي قصة حواره مع ضباط المدرعات وقال إن ضابطا في الفرسان هو ابن محمد نور الدين الزعيم السوداني قال: يا جماعة لا تنسوا السودان وتأثير محمد نجيب على السودانيين وأنه يمتلك شعبية كبيرة وسطهم وأن أبعاده الآن سيؤدي إلى انفصال السودان عن مصر.

وأخيرا قال جمال: لكن أخطر ما في الموضوع أن الضباط أعلنوا أنهم سيظلون مجتمعين حتى يصلهم رد على مقترحاتهم أو مطالبهم التي تتلخص في:

• عودة نجيب.

• عودة الحياة النيابية..

وقال: لقد أشاروا بشكل غير مباشر إلى أن المظاهرات الشعبية سوف تنفجر في الغد مطالبة بعودة محمد نجيب وعودة الحياة النيابية وأنهم لن يستطيعوا مواجهة هذه الجماهير لأنها تنادي بما ينادون به ولهذا فهم مصممون على أن يصلهم رد قبل طلوع الصبح.

وفيما بعد علمت من صلاح سالم وبغدادي أن عبد الناصر اقترح على مجلس الثورة قبل حضوري الموافقة على عودة محمد نجيب لكن الزملاء رفضوا وكان أكثر الجميع تشددا جمال سالم الذي قال: إذا قبلنا ذلك فمعنى هذا أننا نخضع للضغط وأننا نشجع الآخرين على الضغط علينا ويخرج الموقف من أيدينا والأفضل أن نرفض وأن نستقيل.

مرة أخرى .. نرفض ونستقيل..

كان هذا قبل حضوري فلما حضرت وتحدث جمال سألني بعد أن انتهى من حديثه: أيه رأيك يا خالد؟ فقلت رأي من رأيكم.

وفوجئت بجمال يقدم اقتراحا غريبا ومثيرا في آن واحد:

محمد نجيب يعود.

• مجلس الثورة يستقيل.

• تشكل حكومة مدنية برئاسة خالد محيي الدين.

• تعود الحياة النيابية خلال فترة أقصاها ستة أشهر.


أنها ما عرف في التاريخ باسم قرارات 26- 27 فبراير.

وفوجئت بهذا الاقتراح ومضى جمال عبد الناصر مبررا: يا جماعة بصراحة كده مافيش حد مقتنع بعودة الديقمراطية والحياة النيبابية إلا خالد.. إذن بقى هو نحن نستقيل ليحقق هو الأهداف التي نادى بها.

وبدأت أشرع بحقيقية المأزق الذي يريدون وضعي فيه فإذا كانوا يستقيلون فهل سيستقيل عبد الحكيم عامر قائد الجيش؟ فإن فعل فمن يضمن استمرار ولاء القوات المسلحة؟ وإذا كان سلاح الفرسان معي فماذا عن المدفعية والطيران والمشاة وضباطها متمسكون بمجلس الثورة وبسلطاته وبرفض الحياة النيابية وهل أقبل أن تقع مذبحة بين قوات الجيش؟

سيل من الأسئلة وعلامات الاستفهام تتراكم أمام ناظري وأحسست أن الأمر ليس سهلا وأنني أدفع دفعا إلى مأزق خطير فقلت لعبد الناصر: يا جمال لقد فاجأتني بهذا الموضوع والمسألة ليست بهذه البساطة أنت تقترح أن أشكل وزارة مدنية ..

أشكلها ممن؟ وبأية سلطة؟ ومستندا إلى أية مشروعية إذا كنتم جميعا ستستقيلون؟ وماذا سيكون موقف القوات المسلحة فرد عبد الحكيم عامر: أنا مسئول عن تأمين القوات المسلحة لفترة ثم أستقيل.

فقلت: ومن يضمن تأمينها بعد أن تذهب أنت؟

وهنا انفجر صلاح سالم في حركة درامية قائلا: (استحلفك بالله يا خالد أن توافق إنقاذا للبلد، فإذا لم توافق قبل طلوع الصبح ستقوم في البلد مذبحة فهناك انقسام في القوات المسلحة والناس عايزه نجيب أرجوك أقبل.

وبرغم حيرة شديدة وأسئلة حائرة بلا إجابة وشكوك تتسرب على عقلي ونفسي قلت: إذا كان الأمر كذلك مازالوا مجتمعين كقوة ضغط ولابد هنا أن أذكر بأن مقر سلاح المدرعات كان في مواجهة مقر قيادة الجيش لا يفصلها عن بعضها إلا عرض الطريق ومن ثم فإن اجتماعهم كان يمثل قوة ضغط مباشرة وفاعلة.

وتوجهت أنا وعبد الناصر إلى سلاح المدرعات وطوال الطريق كان هم ثقيل يطبق على صدري أي مأزق يريد الزملاء وضعي فيه وأي عبء يلقونه على عاتقي كانت الأسئلة تتزاحم مع بعضها بعضا: كيف ستتم السيطرة على البلد؟ كيف ستتم السيطرة على القوات المسلحة والمدفعية والطيران والمشاة؟ الأحزاب كيف ستعود الحياة النيابية كيف يمكن إعادتها؟ ثم من ها كله بل قبل هذا كله ما هي حقيقة نوايا الزملاء في مجلس الثورة؟ وماذا يضمرون فعلا؟ وما هي خطتهم الحقيقية؟

وأخيرا وصلنا إلى ضباط المدرعات وعرض جمال الاقتراح.

وسأل أحد الضباط: وأنتم ماذا ستفعلون؟ فقال سنحال إلى المعاش ويبدو أن المخاوف التي سيطرت على قد وجدت سبيلها إليهم فقال ضباط مهم: إذا كنت موافقين على عودة نجيب وعلى عودة الحياة النيابية وترون أن هذا هو المخرج فلماذا تستقيلون وتتركون خالد وحده؟ هل تريدون إحراج خالد؟

فقال جمال: نحن نرفض العمل مع نجيب وأنتم مصممون على إعادة نجيب ونحن لا نثق في نجيب بينما نثق في خالد فنحن نريد أن يتولى خالد المسئولية واستمرت الشكوك تحيط بضباط الفرسان وتدفعهم إلى المناقشة لكن عبد الناصر وضعهم أمام خيارات صعبة قائلا: أنتم مصممون على عودة نجيب ونحن نرفض عودته فلا تستطيعون إجبارنا على إعادة نجيب وعلى البقاء للعمل معه نحن نوافق على رأيكم ولكن ننسحب نحن، فنحن لن نتعامل مع نجيب كذلك أنتم تريدون عودة الحياة النيابية والوحيد فينا الذي يطالب بعودة الحياة النيابية هو خالد ولهذا اقترحنا أن يأتي هو لينفذ طلباتكم.

وانتهى النقاش وضباط المدرعات غير مستريحين كما كنت أنا غير مستريح ولكن لم يكن هناك مخرج آخر.

وعدت أنا وجمال إلى مقر القيادة لإعداد صيغ القرارات واقترحت أن أذهب إلى نجيب لأعرض عليه الأمر، ووافق الزملاء لكني فوجئت بثلاثة يصاحبونني دون أن أطلب منهم ذلك وربما طلب إليهم أحد أن يذهبوا معي ليعرفوا على وجه الدقة ماذا سأقول لنجيب.

كان الثلاثة: عباس رضوانشمس بدران- عماد ثابت- وكان الأخير من الفرسان لكنه كان من دفعة عبد الحكيم عامر وكان صديقا له..

وعندما وصلنا إلى بيت نجيب أحسست أن وجود هؤلاء الثلاثة معي سوف يفسد النقاش وقد يرفض نجي الموافقة على هذه الاقتراحات وقررت أن ألتقي بنجيب قبل أن يخرج إلينا وطلبت أن أدخل إليه كانت الساعة حوالي الرابعة فجرا وكان في غرفة نومه مع زوجته خرجت زوجته من غرفة النوم ودخلت أنا إليه.

لم تستمر مقابلتي معه أكثر من ثلاث أو أربع دقائق ولم أكن أعلم أن انفرادي بنجيب بعيدا عن أعين الرقباء الثلاثة سوف يثير لدى الزملاء في مجلس الثورة حساسية مفرطة، وأنه سوف يثير لديهم تساؤلات عن العبارات التي قلتها له على انفراد، وكيف ولماذا اقتنع بهذه السرعة وهل ثمة اتفاق بيننا؟ والحقيقة أن هذه الدقائق الثلاث لم تشهد أكثر من النقاش العادي المفترض في ظروف كهذا فعندما عرضت الأمر على نجيب حاول الاعتراض على عودته بلا سلطات فقلت له: أليس هذا أفضل من قبول استقالتك وإبعادك نهائيا وقلت له إن الناس تريدك والمدرعات أثارت مشكلة بسببك فيكف ترفض؟

وأعلن نجيب موافقته وخرجنا إلى الرقباء الثلاثة ليعلن نجيب الموافقة مصحوب بشكاوي شخصية عديدة ففي هذا الوقت القصير السابق لموافقته حاصروا بيته ومنعوا الطباخ من الخروج لشراء حاجيات المنزل و..إلى آخره من مثل هذه الشكاوي لكنني قلت له: لا مبرر لهذه الشكاوي الآن، المهم أنك وافقت ولنبدأ صفحة جديدة وأسرعنا أنا والرقباء الثلاثة إلى مقر قيادة الجيش لأعلن للزملاء في مجلس قيادة الثورة موافقة نجيب.


الفصل التاسع عشر: اجتماع الميس الأخضر.

- حاول عبد الناصر دخول سلاح الفرسان فمنعه الحرس.

- وقال عبد الناصر: شعبنا لا يستطيع تحمل مسئولية الحرية.

- سمع عبد الناصر هدير الدبابات فسقطت سيجارته من يده.


منذ الأسطر الأولى لهذه المذكرات عاهدت نفي ألا أورد فيها إلا ما علمت أو شاهدت أو سمعت أو فعلت بنفسي.

ولقد قلت في الفصل السابق أنني أخفيت نفسي عمدا طوال يومي الخميس والجمعة، غادرت المنزل بل غادرت القاهرة لبعض الوقت تحاشيا لأن يسألني أحد عن رأيي في قرار قبول استقالة نجيب، وحتى حرارة التليفون قطعتها أمنع أي اتصال تليفوني حتى في غيابي.

لكن وقائع اجتماع الميس الأخضر وهو ميس الآلاي الثاني مدرع بسلاح الفرسان المدرعات كانت بالغة الأهمية بل كانت إلى حد ما ذات تأثير حاسم في مجرة الأحداث وربما في مجرى الثورة ككل. ولهذا فإنني أتمنى أن يأذن لي القارئ أن أستعير ذاكرة بعض الأخوة الأحباء من ضباط سلاح الفرسان الذين شاركوا بل ونظموا هذا الاجتماع فليس من الممكن مواصلة الحديث عن الأحداث التالية دون أن نتوقف وببعض من التفصيل أما حوارات الميس الأخضر الساخنة بين ضباط الفرسان وعبد الناصر وحسين الشافعي..

فلعل هذه الحوارات قد حددت المواقف ووضعتها عند نقطة فاصلة ولعلها قد أثرت ولأمد طويل في موقف عبد الناصر مني ومن إخواني ضباط الفرسان.

وقبل أن أكتب هذه الصفحات استمعت طويلا إلى العديد من إخوتي ضباط الفرسان الذين حضروا هذا الاجتماع كما تفضل أخي أحمد المصري ضابط الفرسان الشجاع وأحد العناصر القيادية في حركة القيادية في حركة الفرسان وبناء على طلبي بكتابة ذكرياته عن هذا الاجتماع.

وإلى ما سمعت، وما كتب أحمد المصري سأعتمد في كتابة هذه الصفحات وأعتقد أنه لابد عزيزي القارئ من أن أقدم لك وفي إيجاز شديد أحمد المصري فهو واحد من الطلائع الأولى (للضباط الأحرار) وقد أسهم معنا منذ البداية في تعزيز صفوف (الضباط الأحرار) في سلاح الفرسان وكان ضابطا في الآي السيارات المدرعة يقوده حسين الشافعي وكان وثيق الصلة بي وبالشافعي لكنه كان شخصية مستقلة وقيادية وكان يؤمن إيمانا عميقا بأن الديمقراطية هي السبيل الأفضل لمواصلة الثورة لدورها من أجل خدمة مصر وشعبها وقد لعب أحمد المصري دورا قياديا بارزا في حركة الفرسان للمطالبة بالديمقراطية وبعودة الحياة النيابية.

وقد تواترت إلى مسامعي عدد من ضباط سلاح الفرسان أنباء عن خلافات بين مجلس قيادة الثورة ونجيب ثم وصل إليهم نبأ قبو استقالة نجيب ومد فترة الانتقال وقد أثارت هذه الأخبار هواجس ومخاوف العديد من الضباط الفرسان وخاصة بعد أن تأكد لهم عن طريق حسين الشافعي صحة الخبر.

كان ضباط الفرسان ضد مد فترة الانتقال الذي يعني بالضرورة عدم عودة الحياة النيابية وافتقاد الديمقراطية وكانوا يتفقون معي ومنذ زمن على هذه المبادئ الأساسية، وحاولوا الاتصال بي عندما علموا بالأمر فلم يستطيعوا فاتصلوا بحسين الشافعي في مقر القيادة فدعاهم إلى إرسال وفد من ضباط الفرسان للتفاهم.

وأفد الفرسان ثمانية ضباط: أحمد المصري، [[أحمد سامي ترك، [[أحمد إبراهيم حموده، محمود حجازي فاروق عزت الأنصاري عبد الفتاح علي أحمد فتحي الناقة وعبد الله فهمي.

ذهب الضباط الثمانية ليجدوا مقر القيادة وغرفة القائد العام مكتظة بالغاضبين من ضباط الأسلحة الأخرى: المدفعية، المشاة..إلخ .. وشاهدوا كم هي متشددة مواقفهم ضد نجيب وسمعوا أصواتا تندد بنجيب وتصيح علنا: اطردوه ، اعتقلوه، اقتلوه.

وأحسوا أن سيادة مثل هذا التيار تعني بالضرورة إجهاض أية محاولة لعودة الحياة النيابية أو عودة الديمقراطية.

ودخل الضباط الثمانية إلى قاعة الاجتماعات حيث كان هناك حشد من ضباط الأسلحة الأخرى ولحق بهم جمال سالم ، صلاح سالم، عبد الطيف بغدادي، حسين الشافعي، وبدأ جمال سالم في الحديث قائلا: يا حضرات احنا خلاص زهقنا من الراجل اللي اسمه محمد نجيب فنحن منذ ثمانية شهور على خلاف مستمر معه، ولن نستطيع الاستمرار هكذا إن ذلك كله يتم على حساب أعصابنا ووقتنا وعائلاتنا ولن نستطيع احتمال المزيد.

وقال صلاح سالم: إن الموقف يا حضرات الضباط يمكن أن يتخلص في اختيار أحد ثلاثة حلول لا رابع لها ..فمحمد نجيب وضعنا ووضع البلد في مأزق باستقالته وهو يطلب أن تكون له سلطة مطلقة وله حق الفيتو على ما نتخذه من قرارات أي أنه يريد أن يكون ديكتاتورا وحاكما مطلقا ولهذا فليس أمامكم إلا أن تختاروا أحد ثلاثة حلول:

• الحل الأول: أن نفرض وفاقا بين مجلس الثورة ونجيب لمدة أخرى وهذا بالنسبة لنا غير ممكن، ولهذا نستبعد هذا الحل.

• والحل الثاني: أن ينسحب مجلس قيادة الثورة ويترك الحكم لنجيب ليحكم البلد حكما دكتاتوريا مطلقا ونعود نحن إلى وحداتنا في الجيش من جديد.


• أما الحل الثالث: فهو أن يقبل استقالة نجيب ويواصل مجلس الثورة تحمل الرسالة وأداء الأمانة التي في عنقه.

وتابع ضباط الفرسان الثمانية هذا العرض الذي لا يتيح سوى مخرج واحد هو إبعاد نجيب وتابعوا أيضا عاصفة الرفض من الضباط المحتشدين إزاء الافتراضين: الأول والثاني، وموجة الاستحسان للاقتراح الثالث.

وشعروا بأن هناك تباينا شديدا بين موقفهم وموقف الآخرين وطلب محمود حجازي فرسان الكلمة وقال: لقد سمعنا رأي مجلس الثورة في نجيب ولكن لم نسمع من نجيب رأيه ف مجلس الثورة وأنا أعتقد أن نجيب شخصية محبوبة من الجماهير وينظر الناس إليه على أنه رجل طيب والمفروض أن نسمع أيضا من نجيب وانفجر جمال سالم غاضا: البلد بتتحرق وأنتم عايزين تعملوا تحقيق.

وتدخل أحمد المصري (فرسان ) قائلا: نحن نعلم أن لنجيب مؤيدين في صفوف الجيش وربما كان البدل كله يؤيده ولا شك أننا جميعا نعرف ما تعانيه سوريا من انقلابات وانقلابات مضادة وهذا ما نؤمل أن ننب مصر من الوقوع فيه ولا مخرج لنا إلا الديمقراطية فالديمقراطية هي التي ستحمينا من مثل هذه المواقف الصعبة وتحمينا من الانقلابات العسكرية ونحن في سلاح الفرسان نجد أن قبول الحل الثاني أو الثالث أمر غير مفيد ومرير على النفس ونعتقد أنه من الممكن التوصل إلى توافق بين محمد نجيب ومجلس الثورة لفترة نستطيع أن نبني فيها أسس حكم ديمقراطي ونيابي قائم على إطلاق الحريات وتعدد الأحزاب وحرية الصحافة ومن جانبنا فإننا نحن ضباط الفرسان على أتم استعداد أن نبذل جهدنا لإقناع نجيب بالعودة على أساس التخلي عن أية مطالب أو شروط غير مناسبة.

ويصرخ جمال سالم : أنت واهم يا حضرة الضابط.

ويرد أحمد المصري: فلنحاول ولن نخسر شيئا من المحاولة ولتعلموا أن استمرار الوضع سيؤدي إلى تفجير خلافات جديدة داخل المجلس والمخرج هو إعادة الحياة الدستورية والحياة النيابية حتى تخرج البلاد من هذا المأزق بأسرع ما يمكن.

وتهب عاصفة من الاستنكار من جانب الضباط الآخرين ويقول جمال سالم بسخرية إيه النغمة الجديدة دي؟

ويرد أحمد المصري: إذا كان رأينا لا يعجبكم فليدع ضباط مجلس الثورة إلى الجيش وتتشكل منهم قيادة القوات المسلحة ويتركوا الحكم لنجيب ليرأس وزارة مدينة تحدد لها فترة زمنية لإعادة الدستور والحياة النيابية وتكون لكم كقيادة للجيش سلطة رقابية خلال فترة الانتقال.

وترتفع أصوات النقد اللاذع، والشتائم التي تتهكم على الدستور وعلى الديمقراطية بل وترفعت أصوات تقول: هذا الشعب الجاهل لا يصلح له الديمقراطية وأصوات تقول: هذا الشعب الذي كان يبيع أصواته في الانتخابات تريدون أن تعطوه الفرصة ليبيع أصواته من جديد؟

وتعالى الصراخ في كل مكان وصرخ صلاح سالم في الجميع: باختصار يا حضرات هل تثقون في مجلس الثورة أم لا؟ وتعالت أصوات البعض تؤيده وتعلن مساندتها للمجلس بينما صاح أحمد المصري ومحمود حجازي قائلين: إحنا لنا اثنين ممثلين في المجلس إذا لم يكونوا قادرين على الدفاع عن وجهة نظرنا يتفضلوا يمشوا ونختار اثنين بدلا منهم.

وسأل أحمد المصري: فين خالد محيي الدين نريد أن نناقشه؟

فرد صلاح سالم في سخرية: خالد رأيه مثل رأيكم وسوف نناقش هذا الأمر فيما بعد.

وانسحب ضباط الفرسان حوالي الساعة الثانية والنصف من صباح 25 فبراير بعد أن وعدوا بألا يصدر أي قرار إلا بعد التشاور مع ضباط الفرسان وفي الساعة السابعة صباحا أذاع صلاح سالم بيان قبول استقالة نجيب، والذي تضمن تهجما على نجيب وحججا لم يكن بالإمكان قبولها.

وثار ضباط الفرسان لأن مجلس الثورة نقض الاتفاق بعدم اتخاذ قرارا إلا بعد التشاور معهم، وتجمعت أعداد كبيرة من ضباط الفرسان.. ووجهوا اللوم لمندوبيهم الثمانية وتوتر الموقف إلى أقصى درجة.

وفي هذه الأثناء حاول الزملاء في مجلس الثورة الاعتماد على حسين الشافعي في إقناع ضباط الفرسان بوجهة نظر مجلس الثورة وطلب حسين الشافعي وضع جدول زمني للمرور على ضباط وحدات سلاح الفرسان لمناقشتهم وفشل في ذلك فشلا ذريعا فقد انقلبت المناقشات إلى محاسبة قاسية وصارمة لمجلس الثورة وتصرفاته والمسلك الشخصي لبعض أعضائه وأصبح واضحا لقادة حركة الفرسان أن ضباط السلاح معهم في موقفهم فازدادوا حماسا وهكذا جاء زيارات حسين الشافعي لوحدات الفرسان بنتيجة سلبية بالنسبة لمجلس الثورة ومنحن الحركة داخل الفرسان قوة دفع جديدة وساد وسط الفرسان إحساس بأن هناك اتجاها دكتاتوريا يحاول إجهاض أية محاولة لعودة الديمقراطية وأن هذا الاتجاه يريد أن يحرف المسألة إلى مسألة شخصية:

بقاء نجيب أو إبعاده وأن المسألة يجيب أن تحدد ديمقراطية أم دكتاتورية.

وعقد ثلاثة من قادة حركة الفرسان (أحمد المصري- محمود حجازيفاروق الأنصاري ) اجتماعا سريا في منزل أحد الأصدقاء بشارع عماد الدين هربا من العيون التي كانت تلاحقهم وترصد تحركاتهم واتفق الثلاثة على الدعوة لاجتماع واسع لضباط سلاح الفرسان لمحاسبة أعضا مجلس قيادة الثورة.

وتحدد موعد الاجتماع الساعة الخامسة مساء الجمعة 26 فبراير بميس الآلاي الثاني مدرع المعروف باسم الميس الأخضر.

ومنذ الصباح بدأت الاتصالات لحشد الضباط، ووجهت الدعوة لحسين الشافعي للحضور وبحثوا عني لدعوتي دون جدوى ورفض حسين الشافعي الدعوة واقترح بدلا من هذا الاجتماع الواسع عقد اجتماع لمندوبي الوحدات في مكتبه أو منزله واقترح تعديل الموعد إلى الثامنة والنصف مساء وأصر ضباط الفرسان على موقفهم وعقدوا الاجتماع في المكان والزمان المحددين.

وبدأ أحمد المصري بالحديث وتكلم بالتفصيل عن أحداث الأيام الأخيرة، وطالب بالحريات العامة، وتحقيق الديمقراطية والحياة النيابية وحرية الصحافة وحرية تعدد الأحزاب.

وانتقد بشدة تصرفات أعضاء مجلس الثورة وألمح إلى تصرفات شخصية غير مقبولة من جانب البعض منهم كما طالب بإلغاء الترقيات الاستثنائية في الجيش والعودة إلى الأقدمية المطلقة (بما يعني عودة عبد الحكيم عامر إلى رتبة الصاغ وعدم توليه لمنصب القائد العام)

وقد حظيت مطالب أحمد المصري بموافقة إجماعية وحماسية من جانب الحاضرين كما قرر الحاضرون ضرورة عودة محمد نجيب رئيسا للجمهورية ورئيسا لمجلس الثورة وتفرق الضباط إلى وحداتهم.

وفي هذه الأثناء أبلغ الحرس على بوابة القشلاق أحمد المصري بأن جمال عبد الناصر يقف بعربته خارج القشلاق وأنه ممنوع من الدخول وأسرع إليه أحمد المصري وعبد الفتاح علي أحمد (وكان عبد الفتاح هو الذي ابلغ عبد الناصر بالاجتماع) وطلب المصري من محمود حجازي أن يجمع الضباط من وحداتهم في الميس الأخضر بسرعة وأدخل عبد الناصر إلى الاجتماع محاطا بحشد من حرسه الخاص وضباط المخابرات وما أن جلس عبد الناصر حتى بدأ الحوار عاصفا..

أحد ضباط الفرسان وقف متسائلا: حضرتك جئت للمناقشة والتعرف على وجهات نظرنا أم لتحديد أشخاص معارضيك واعتقالهم؟ فإذا كنت تريد مناقشة حرة وصريحة فمن الضروري خروج حضرات ضباط المخابرات وضباط الحرس وقال بحدة: اخرجوا بره، بره سلاح الفرسان من غير مطرود لأن المسألة إذا كانت تجسسا وتهديدا فنحن قادرين على حماية أنفسنا ولا يكون هناك مبرر للنقاش أصلا.

حسم عبد الناصر الأمر بأن طلب إلى جميع مرافقيه الخروج من سلاح الفرسان وتهدأ القاعة ليبدأ عبد الناصر الحديث قائلا: أولا وقبل كل شيء هل تثقون في؟ وجاء الرد ليكهرب الجو: هذا يتوقف على ما ستقول وكان وقع الرد شديدا على عبد الناصر.

وتحدث أحمد المصري قائلا: لقد كنا نتوقع حضورك مع حسين الشافعي في الثامنة والنصف لكن نحن مستعدون للنقاش الآن ونريد أن نناقش كل شيء ابتداء من قرار إبعاد نجيب إلى مختلف القرارات التي أصدرتموها طوال قرابة العامين خاصة وأنكم تصدرون العديد من القرارات كل واحد منها يبعدنا أكثر فأكثر عن أهداف ثورة 23 يوليو التي تعاهدنا عليها والتي وعدنا الشعب بتحقيقها.

وشارك في الحوار العاصف: أحمد المصريبهاء الحيني - أحمد حمودة - سامي ترك - عبد الله فهمي - حسني الصاوي - محمود حجازي - إبراهيم العرابي - كمال صالح.

وتحولت المناقشة إلى جلسة استجواب عاصف لتصرفات المجلس وتصرفات أعضائه بل ووصل الأمر إلى الخوض في المسلك الشخصي لسلاح سالم وجمال سالم وتحدث البعض عما تواتر عن المصروفات السرية التي تنفق بلا رقيب وتصرفات العديد من ضباط الصف الثاني التي تحسب على مجلس الثورة بل على القوات المسلحة كلها.

وحوصر جمال عبد الناصر بهذه الاتهامات المتتالية وحاول الخروج من المأزق بأن قال: أنا شخصا أتحدى أن ينسب إلى أي إنسان تصرف غير نزيه.

ورد أحمد المصري: لكنك مسئول عن كل تصرف خاطئ يرتكبه أي واحد منهم.

ثم اتخذ النقاش منحى انتقادات شديدا لتصرفات مجلس قيادة الثورة: سلطات السيادة التي منحها المجلس لنفسه والاعتمادات الكبيرة التي وضعت تحت تصرف المجلس وأعضائه (وللحقيقة فقد سرت شائعات مبالغ فيها كثيرا حول هذه الاعتمادات في هذه الفترة المبكرة) وأسلوب إنشاء هيئة التحرير وطريقة فرض تبرعات لها على المواطنين، وتصرفات الضباط واستغلالها للنفوذ وعمليات الإثراء غير المشروع وما قيل عن اختلاس بعض أموال ومقتنيات أسرة محمد علي ونقل بعضها إلى منازل بعض الضباط، وحملات الاعتقال الواسع ضد الشيوعيين والإخوان.

وبرغم قسوة محمود حجازي ليسأل: ما هو تصور البكباشي جمال عبد الناصر كمسئول عن كل هذه التصرفات عن كيفية تلافي هذه السلبيات في ظل غياب الديمقراطية والحريات والبرلمان وعن إحساس البعض بأنه لا يمكن محاسبتهم في ظل هذه الأوضاع البعيدة عن الحرية؟ وقال: نحن كممثلين الشعب الذي ساند الثورة نريد إجابة عن هذا السؤال.

فرد عبد الناصر بعصبية ومن أعطاكم حق تمثيل الشعب.؟

فأجاب حجازي بحدة: نحن برلمان هذا الشعب حتى يتشكل له برلمان ثم مضى منفعلا: الدستور موقوف والبرلمان معطل والحريات العامة مهدرة والصحافة تحت الرقابة ومجلس الثورة ينفرد وحده بالسلطة دون التشاور مع أحد وحتى (الضباط الأحرار) الذين صنعوا الثورة لا أحد يتشاور معهم وهذا يعني أننا في الطريق إلى دكتاتورية عسكرية.

ويدخل حسين الشافعي ليجلس إلى جوار عبد الناصر ثم يسأل غاضبا: من دعا إلى هذا الاجتماع؟ ويرد عبد الناصر: مش مهم يا حسين مين دعا للاجتماع المهم نواصل النقاش.

ثم يتكلم عبد الناصر ليحدد موقفه: فترة الانتقال ضرورية ولابد منها فشعبنا لا يستطيع تقدير مصلحته الحقيقة بسرعة وربما لا تكفي ثلاث سنوات وشعبنا لا يمكنه تحمل مسئولية الحرية وقد سبق للإقطاعيين أن اشتروا أصوات الناخبين وقال: الشعب الذي لا يستطيع أن يتحمل مسئولية الحرية لا يمكنه أن يستمتع بالحرية.

واندفع أحد الضباط قائلا: نحن لا نستطيع أن نفرض وصاية على أهلنا والحرية هي السبيل الوحيد لتعليم شعبنا كيفية ممارستها ولا يمكن الحجر على الناس بحجة أنهم ليسوا أكفاء للاستمتاع بالحرية.

وهنا وقعت حادثة صغيرة لكنها تركت أثرا شديدا في نفس عبد الناصر.

تعالت أصوات الإنذار من دبابات متحركة وبدأ هدير الدبابات يهز المكان فزع عبد الناصر وسقط السيجارة من يده ونظر عبد الناصر إلى أحمد المصري نظرة تساؤل فقال له المصري: إنها دبابات عائدة من خدمة الطوارئ وأرجوك أن تطمئن تماما فأنت هنا في بيتك.

وأشعل عبد الناصر سيجارة جديدة، لكنه وبرغم حديث أحمد المصري المفعم بالصدق ظل يتصور أنها كانت محاولة من الفرسان للضغط عليه وتهديده، وظل يحفظها في نفسه ولفترة طويلة عندما انتهت عاصفة مارس...وبدأت مرحلة الانتقال ممن عارضوه أو حاولوا الضغط عليه.

وحاول عبد الناصر ترضية الضباط الثائرين، فقال: أنا أنوي أن أقابل علي ماهر غدا لأطلب إليه سرعة انجاز الدستور.

ويرد عليه أحمد المصري: نحن الآن نناقش أمورا أوسع بكثير من مجرد الإسراع بإنهاء أعمال لجنة الدستور فنحن نعتقد أن خمسة عشر يوما كافية لإعداد مسودة دستوري فمصر مليئة بعلماء القانون وفقهاء الدستور ولها تجربة دستورية غنية ولكن نحن نريد إعلانا سريعا للدستور وأيضا إعلانا بإجراء انتخابات عامة قبل نهاية العام وثمانية أشهر كافية تماما لإنهاء فترة الانتقال وبعدها نعود جميعا إلى ثكناتنا واقترح أن يعلن ذلك كله ومعه قرار برفع الرقابة عن الصحف ... في صباح الغد.

ووقف عبد الناصر منهيا الاجتماع وقال: هذا قراركم الأخير؟ وردت عيه عاصفة مدوية: (أيوه- أيوه)

وهناك وقف ضباط سوداني كان يعمل معنا في سلاح الفرسان هو ابن محمد نور الدين الزعيم السوداني المشهور بدفاعه عن الوحدة مع مصر، وقال: أنتم لم تتعرضوا في النقاش لعلاقة نجيب بشعب السودان، ونحن شعب عاطفي، ونجيب أمه سودانية، والسودانيون يحبونه جدأن وبصراحة نحن في السودان لا نعرف جمال عبد الناصر، ولكن نعرف نجيب وعزل نجيب تشويه صورته سوف يهز مشاعر السودانيين وقد يشجع التيارات الانفصالية في السودان إن إبعاد نجيب عمل ضد وحدة مصر والسودان أرجوكم أن تقرروا عودة نجيب.

وبعد أن انتهى الاجتماع انتحى جمال عبد الناصر بأحمد المصري وسأله: الآن ما هي طلباتكم تحديدا؟

فقال المصري الانتهاء من وضع الدستور إعادة الحياة النيابية بعد ثمانية أشره عودة جميع الضباط إلى وحداتهم إلغاء الترقيات الاستثنائية لاستقرار أوضاع الأقدمية في الجيش وعودة نجيب رئيسا للجمهورية برلمانية

ويسأل جمال: وماذا لو رفض نجيب العودة والتعاون معنا؟ فقال المصري : نحن كفيلون بإقناعه.

وسأل المصري: ما رأيك في أن يحضر مجلس قيادة الثورة اجتماعا في سلاح الفرسان؟ وتشكك عبد الناصر في هذا الطلب وقال: لا نجتمع في مقر القيادة أو مقر مجس الثورة أفضل.

وكانت الساعة قد وصلت إلى الواحدة صباح يوم 27 فبراير..

وانتهى اجتماع الميس الأخضر الشهير ولكن قلقا ما دفع الضباط إلى البقاء في السلاح وبقي الجميع ويدق جرس التليفون حسين الشافعي ليسأل: ما هي آخر مرة زار فيها الضابط محمد نور الدين السودان؟ ويكون الرد: منذ عشرين يوما.

ويبدو أن موضوع السودان قد بدأ يقلق أعضاء مجلس الثورة.

وظل الضابط في القشلاق حتى عاد جمال وخالد محيي الدين ليبلغانهم (بقرار 26- 27 فبراير) وهو ما تحدثنا عنه في الفصل السابق.

== الفصل العشرون: التراجع .. عن التراجع.

- واقترح صلاح سالم اعتقالي..

- اختطاف محمد نجيب ..

- وظهر مشمش إلى جوار نجيب.

- رفضت أن يقوم (الفرسان) بانقلاب.

- وطلب مني عبد الناصر أن آخذ أجازة.


لم يستغرق الأمر أكثر من ساعة .. ساعة واحدة ستون دقيقة ليس أكثر تغير فيها الوضع إلى النقيض بما يؤكد أن مخاوفي كانت في محلها تماما أنها الستون دقيقة التي استغرقها ذهابي إلى منزل محمد نجيب والعودة بقرار قبوله قرارات مجلس قيادة الثورة، والتي كان يرافقني خلالها أو بالدقة يراقبني خلالها ثلاثة ضباط من رجال عبد الناصر.

وعدت لأجد رئاسة الجيش مزدحمة بأعداد كبيرة من الضباط البعض يحمل مدافع رشاشة والبعض الآخر يشهر مسدساته والجميع يبكون ويصرخون معلنين رفضهم للقرارات ومطالبين باستمرار مجلس الثورة.

وعلى طول الممر المؤدي إلى غرفة القائد العام في الدور العلوي كان الضباط المحتشدون يوجهون شتائمهم ضدي متهمين إياي بخيانة الثورة وقررت ألا أرد، أو أجادل بل لم أحاول أن أنظر إلى الوجوه لأتعرف عليها فقد ركزت كل اهتمامي في أن أصل إلى غرفة القائد العام.

فتحت باب غرفة عبد الحكيم عامر لأفاجأ بما هو أكثر دهشة، الغرفة يحتشد فيها أكثر من مائة وخمسين ضابطا الجميع في حالة غضب هستيري وصراخ وبكاء عدد كبير منهم كان من الضباط الأحرار رفاق الطريق الطويل للعمل المشترك والمخاطر المشتركة والنضال المشترك ضد النظام الملكي ومن أجل البرنامج الذي حددنا لأنفسنا ولحركتنا والذي كان يتمسك بالديمقراطية وبالحياة النيابية لكن الزمن تغير وتغيرت معه المواقف وتغير الرجال لم أزل أذكر بعض الوجوه الغاضبة في ثورة جامحة تلك الوجوه التي كانت تتبادل معي المودة والحب إلى أسابيع أو أيام سابقة انقلبت نظراتها إلى غضب غير قادر على التحكم في نفسه، كان كمال رفعت يهدر رافضا استقالة مجلس الثورة وحسن التهامي يصرخ بذات الموقف أما مجدي حسنين فقد وصل به الأمر إلى الصراخ: (بلاش سلاح مدرعات نلغي سلاح المدرعات) وكان أكثر الموجودين صراخا أبو الفضل الجيزاوي تماسكت بقدر استطاعتي وفجأة انقض علي ضابط من البوليس الحربي اسمه ربيع عبد الغني وأمسك بخناقي محاولا الاعتداء علي وتجع غيره حولي وأيضا قررت ألا أرد أو أنفعل فقد كنت أعرف مدى سخونة المشاعر وكيف أن أي رد فعل من جانبي قد يفجر الموقف تماما ويحيل هذا الغضب الهستيري المحدود في غرفة مغلقة إلى معركة دامية بين أسلحة الجيش المختلفة ولهذا فقد قررت أن أمسك بزمام أعصابي مهما كان الثمن وهنا انقض جمال سالم علي الممسكين بخناقي ضاربا إياهم بالشلاليت صارخا بشتائمه الشهيرة منددا بالباكين موحيا إليهم من طرف خفي إلى فعل شيء غير البكاء فكان يصرخ فيهم:

(بدل ما أنتم قاعدين هنا تعيطوا زي... روحوا وحداتكم)

ولكن الصارخين الباكين المحتجين مازالو ممسكين بخناقي، وهنا تدخل عبد الحكمي عامر وحماني خلف ظهره قائلا: اللي حا يقرب من خالد حا اضربه بالرصاص )

فازداد صراخ المحتجين منددين بخالد محيي الدين وبالفرسان وبموقفهم فصرخ عبد الحميد عامر: إذا لم تستمعوا لأوامري سأضرب نفسي بالرصاص.

وبينما الهرج يسود المكان إذ بصوت طائرات سلاح الطيران يصم آذان الجميع كانت الساعة حوالي السادسة والنصف صباحا لمحت علي صبري يطل من النافذة ويحفف دموعه وسمعت جمال سالم يقول: أيوه كده بل ويصرخ: قولوا لسلاح الطيران يجهز الصواريخ ويضرب سلاح الفرسان أما عامر فقد أبدى أنه لم يكن يعرف بخروج الطائرات لكنه صرخ في الجميع مطالبا بالهدوء معلنا: أنا أعلن أماكم إلغاء القرارات وأعلن أنني المسئول عن القوات المسلحة وطالب الجميع بالهدوء.

طال هذه الفترة كان جمال عبد الناصر صامتا دون حراك، وذهبت إليه قائلا: أيه يا جمال حتسيب البلد يحصل فيها مذبحة، فرد بهدوء والله أنا مش فاهم حاجة وإلى جواره كان حسين الشافعي يبكي في صمت فقلت: أن أفضل أن أذهب إلى سلاح الفرسان لأهدئ الجو حتى لا ينفجر الغضب هناك أيضا وتحدث مذبحة وكانت قد سمعت أن بعض قوات المدفعية أخذت في محاصرة قشلاق سلاح الفرسان وأنهم طلبوا عددا من ضباط الفرسان للتفاهم معهم فلما أتى وفد الفرسان اعتقلوه فوجه سلاح الفرسان إنذار بأنه إذا لم يفرج عن زملائهم فإن علي من قبضوا عليهم أن يتحملوا مسئولية ما سيحدث كما أعتقد أيضا عبد الفتاح علي أحمد سكرتير في سلاح الفرسان وربما تصوروا أنه كان مسئولا عن بعض ما حدث لكنه ما لبث أن أطلق سراحه ويبدو أن البعض قد اكتشف أنه له علاقة ما بعبد الناصر.

إزاء هذا كله قلت لجمال: أنا أفضل أن أذهب للفرسان لتهدئة الجو وصاح جمال: خالد عايز يروح الفرسان علشان يهدئهم ووافق عامر ونزلت من الدور العلوي محاولا الخروج وعلى طول الممر والسلم كانت شتائم الضباط المحتشدين تنهال ضدي وضد سلاح الفرسان وعلى الباب كان هناك الضابط أحمد أنور يقف ليمنعني من الخروج ولم أشأ الاحتكاك به لكن عامر أطل من البلكونة صائحا: (يا أحمد سيب خالد يروح الفرسان) فرد أحمد: (لا مش حا أسيب) وصاح عامر مرة أخرى: نفذ الأمر يا أحمد أنا أعطيك أمر عسكري فرد أحمد باستهتار: لأ مش حا أنفذ أنتم قلتم إنكم استقلتم وأنا لا أنفذ أوامر مستقيلين)

ومرة أخرى ارتسمت في خيالي صورة صدام مروع بين رفاقي في الفرسان وبين الأسلحة الأخرى لو أن احتكاكا بسيطا وقع بيني وبين أحمد أنور وكظمت كل ما بداخلي من غيظ وعدت من حيث أتيت.

وأثناء عودتي إلى غرفة عامر وجدت في مواجهتي الضابط وحيد جوده رمضان وحييته لكنه لم يرد التحية.

وعدت إلى غرفة القائد العام..وأخليت الغرفة من الضباط وعقدنا اجتماعا لمجلس قيادة الثورة.

كانت الساعة حوالي السابعة صباحا من يوم السبت 27 فبراير، ولم تكن القرارات قد أعلنت في الصحف وكل ما كان لدى الناس هو خبر قبول استقالة محمد نجيب الذي نشر في صحف الجمعة.

وبدأنا الاجتماع وقال جمال عبد الناصر: واضح الآن أن القرارات صعب تنفيذها لأن هناك انقساما حولها في الجيش ومن الصعب الآن تنفيذ أي قرارا قد تؤدي إلى تصادم بين قوات الجيش وهنا اقتحم صلاح سالم نفسه على النقاش وقال: المهم الآن أننا نناقش موضوع خالد فخالد هو المشكلة الحقيقة فإحنا جميعا نرى أن تستمر فترة الانتقال لثلاث سنوات وربما أكثر بينما هو يصمم على عودة الحياة النيابية فورا ولأن هذا رأيه فقد أخذ سلاح المدرعات نفس الموقف وهكذا وجدنا أنفسنا في حالة انقسام ووجدنا الجيش في حالة انقسام وكل هذا بسبب خالد ولهذا أنا أطالب بأن يبعد عن مجلس قيادة الثورة وأن يعتقل وعلى الفور أيده أنور السادات محبذا فكرة طردي من المجلس واعتقالي.

لم أتمالك نفسي وضحكت فمنذ ساعات فقط كان صلاح سالم نفسه يناشدني بالأخوة والصداقة أن أقبل القرارات وأن أصبح رئيس للوزراء للموقف والآن وبعد ساعات فقط يريد اعتقالي.

وقال عامر: الحقيقة يا جماعة خالد من زمان كان يريد الاستقالة من المجلس فلنقبل استقالته ونعطيه أي منصب في الخارج.

ورد أحدهم: يعني عايز تكافئه؟ فتراجع عامر على الفور قائلا: بلاش يسافر للخارج يقيم في مرسى مطروح بعيدا عن أي تأثير في الجيش لكن حكاية الاعتقال دي بلاش.

وتدخل بغدادي قائلا: يا جماعة أنا عايز أقول إن خالد كان صريحا معنا منذ البداية ولم يخف عنا لا قبل الثورة ولا بعدها مواقفه واتجاهاته وكثيرا ما أبدى رغبته في أن يستقيل من المجلس عندما وجد نفسه في اتجاه ووجدنا جميعا في اتجاه آخر ولكننا نحن الذين رفضنا استقالته وأصررنا على أن يبقى معنا رغم اختلافه معنا ولم يكن من الطبيعي أن يقول للناس كلاما هو غير مقتنع به ولهذا فأنا أرى ألا وجه لمحاسبته أو اعتقاله وإنما إذا أراد تقبل استقالته بهدوء دون أية إجراءات ضده.

وكان حسن إبراهيم قد حضر وشارك في الاجتماع وقال: أنا ضد أي إجراء يتخذ ضد خالد لكن مع ذلك أنا أحمله مسئولية ما حدث وإلا فلماذا لم ينقسم عنا سوى سلاح الفرسان وإحنا جميعا كنا نقول في الاجتماعات كلام ونخرج لنقول للناس كلام آخر وكنا نبذل جهدنا في إقناع ضباط أسلحتنا برأي المجلس.

كان عبد الناصر صامتا طوال هذا النقاش وفجأة قال: يا جماعة لازم نفكر بطريقة أخرى المشكلة الآن ليست مشكلة خالد لكن المشكلة هي ماذا سنفعل في محمد نجيب ؟ هل سيعود أم لا؟ هل سنستمر في حصار سلاح المدرعات أم لا؟ والسؤال الآن هو: ستسمحون بإعادة نجيب؟ فإن عاد نجيب يعود خالد فليس من المنطقي أن نعيد نجيب ونطرد خالد فهذا غير منطقي فخالد كان صريحا معنا ولم يناور علينا..

وقال زكريا محيي الدين: ليس لأن خالد ابن عمي وإنما للحقيقة خالد راجل متمسك بالحياة النيابية وبالديمقراطية والديمقراطية تجري في دمه ولا يمكنه التخلي عنها لكنه ليس ضد الثورة هو يريد للثورة أن تستمر لكنه يريدها لكنه يريدها أن تستمر وفق رؤيته هو اتخاذ إجراء عنيف ضد خالد مسألة غير مفيدة وإبعاد خالد ونجيب معا سوف يسبب مشكلة أما إعادة نجيب وإبعاد خالد مسألة غير مفيدة وإبعاد خالد ونجيب معا سوف يسبب مشكلة أما إعادة نجيب وإبعاد خلد فإنها مسألة غير مقبولة وسوف تضعنا في وضع حرج.

وهكذا توقف النقاش حول مصير خالد محيي الدين ليبدأ في البحث في مصير محمد نجيب .

وهنا تكلم حسن إبراهيم وقال إنه كان في الإسكندرية وأن حاميتها ضد إبعاد نجيب وقال: إذا كانت هناك رغبة جامحة في البلد بضرورة إعادة الديمقراطية فلا يجوز أن نتصدى نحن لهذه الرغبة.

وبنما نحن مجتمعون دخل أحدهم ليبلغ عامر أن كمال رفعت وحسن التهامي توجها إلى منزل محمد نجيب واختطفاه وتحفظا عليه في قشلاق المدفعية وثار عامر لدى سماعه هذا الخبر.

واستمر النقاش واتضحت أمام الجميع الحقيقة: الشعب مع نجب ومع عودة الحياة النيابية والجيش منقسم وكان لابد لمجلس الثورة أن يتراجع عن قرار قبول استقالة نجيب لكن البعض قال: إذا عاد فإنه سيعود وهو يتصور أننا قد هزمنا أمامه، ومن ثم سيفرض شروطه.

جري النقاش بلا مخرج وأنا صامت، فلقد تعرفت على حقيقة نوايا زملائي إزائي وعلمت أن مصيري معلق بالقرار الذي سيتخذونه إزاء نجيب ساعتها أحسست ولأول مرة بغربة شديدة وسطهم، وقلت: يستحسن أن أقوم حتى تتخذوا قراركم فقالوا: أقعد معنا.

وأخيرا تعب الجميع ثلاثة أيام من الاجتماعات المتصلة ليلا ونهارا أرهقت الجميع الساعة أوشكت على الثانية بعد الظهر وتقرر أن يرفع الاجتماع لعدة ساعات ليرتاح الأعضاء ثم يعودوا لمواصلة النقاش وقال عبد الناصر: أنا سأبقى هنا وفوضوني في التصرف عند الضرورة في حالة غيابكم..

لعلك عزيزي القارئ ترغب في معرفة مشاعر في هذه الساعات العصيبة الحقيقة أنني كنت أشعر براحة بال غربية وإحساس بأنني قد تصرفت بضمير نقي وبلا ضغينة ضد أحد ولم أشعر بأي حقد على أحد بل لم أشعر بأي حزن إزاء احتمالات إبعادي عن مجلس الثورة أنا لم أرتكب خطأ أخشى منه أو أخشى أن يحسب عل تصرفت وفق ما اعتقدت أنه صالح الوطن في صالح الثورة وكنت أعتقد أن الديمقراطية وفق ما اعتقدت أنه في صالح الوطن وفي صالح الثورة وكنت أعتقد أن الديمقراطية مسألة حيوية بالنسبة لمصر وأنها تستحق أن يضحي الإنسان من أجلها بالمنصب مهما كان رفيعا وبالنفوذ مهما كان كبيرا.

والحقيقة أنه بعد سنوات قليلة عاد الكثيرون ممن هاجموني واتهموني وشتموني في هذا اليوم الصعب عادوا ليعتذروا لي مؤكدين أنني كنت على صواب في تمسكي بالديمقراطية خاصة وأن الكثيرين منهم ما لبثوا أن أضيروا بسبب حسابات فردية لا يمكنها أن تنمو وأن تزهر إلا ف ظل مناخ يفتقد الديمقراطية.

المهم عدت إلى منزلي هادئا.. ونمت نوما عميقا.

وفي السادسة مساء أيقظتني زوجتي لتبلغني أن الراديو يذيع نبأ عودة نجيب وقلت مش معقول نحن لم نصل بعد إلى قرار حول هذا الموضوع لكنني سمعت بأذني ذات النبأ.

ارتديت ملابسي وذهبت إلى مقر قيادة الجيش.

وهناك سمعت القصة من صلاح سالم.

قال صلاح إنه بعد فض الاجتماع عند الظهر ركب سيارته لكنه خشي أن يتوجه إلى بيته في العباسية فالناس هناك وأصحاب المحلات يعرفنه وخشي أن يحتك به أحد أو يهاجمه فتوجه إلى بيت جلال فيظي أمام محطة باب اللوق ليرتاح هناك وفي الطريق وجد الشوارع مملوءة بالمتظاهرين المتجهين إلى ميدان عابدين وهم يهتفون بحياة نجيب وبأنه لا رئيس إلا نجيب وكانت المظاهرات عارمة وتوحي برفض جماهيري واسع لقرار قبول الاستقالة اهتز صلاح سالم كعاته وكعادته أيضا تغيرت مشاعره وتغير موقفه بسرعة فدخل إلى أجزاخانة مظلوم بالقرب من ميدان عابدين وتحدث تليفونيا مع عبد الناصر قائلا: يا جمال لازم تأخذ قرارا بسرعة بعودة نجيب فالناس تهتف بحياته وقال له جمال: تعال فورا.

وعندما عاد صلاح سالم إلى مكتب عامر في رئاسة القوات المسلحة بكوبري القبة ألح علي عبد الناصر بضرورة أخذ قرار بعودة نجيب كان عبد الناصر صامتا قال صلاح: يا جمال موعد نشرة الأخبار قرب ولابد أن أبلغهم فورا بإذاعة خبر عودة نجيب وإلا فإن البلد ستثور ضدنا ولم يرد جال عاد صلاح سالم ليلح وصمم جمال على الصمت أمسك صلاح بالتليفون وطلب الإذاعة وقال: يا جمال أنا سأبلغ الخبر للإذاعة ولم يرد جمال فكررها عليه أكثر من مرة فلما واصل جمال الصمت قالها صلاح سالم بصوت مرتفع ليسمعه كل من في الغرفة ومنهم عبد الناصر طبعا: «أعلنوا في النشرة أن نجيب رُفضت استقالته وأنه قد عاد رئيسا للجمهورية»

أذيع الخبر .... وأيقظتني زوجتي لتبلغني بإذاعته.

كان الصمت يخيم على المكان الذي شهد مناخا صاخبا منذ ساعات قلائل دخلت إلى غرفة القائد العام كان جمال عبد الناصر لم يزل صامتا وصلاح سالم يؤكد أنه سيستقيل وبغدادي لا يخفي إحساسه البالغ بالضيق وكان الضباط الآخرون في حالة إحباط شديد.. تتالت التداعيات..

رفع الحصار عن سلاح الفرسان وأفرج عن ضابطه الذين كان قد تم التحفظ عليهم وقد علمت فيما بعد أن النية قد اتجهت لمحاكمتهم عسكريا أمام محكمة عسكرية جري تشكيلها على وجه السرعة وأبدى البعض ارتياحا لانفراج الأزمة لكنني لم أشعر بالارتياح لقد تكشفت النوايا وأحسست أن هناك حالة من التربص بي، وإذا كان البعض يؤيدني فإن البعض ضدي وبشدة وبدأت مخاوف عميقة تساورني ليس على مصيري الشخصي، وإنما على مصير زملائي وبدأت مخاوف عميقة تساورني ليس على مصيري الشخصي وإنما على مصير زملائي في الفرسان ومصير الثورة ككل.

ولكي أكون صريحا فقد أحسست باحتمالات الغدر بي ولهذا بدأت أبيت لعدة ليالي خارج منزلي وأعود لبيتي ليلية أو ليلتين ثم أبيت لعدة ليال خارجه وبعدها بفترة صارحني عبد الناصر بأنه يفعل نفس الشيء.

لكنني وبرغم ذلك لم أفكر في اتخاذ أي موقف ضد الزملاء في مجلس الثورة لقد كنت أدرك أن التصادم سوف يجر إلى مذبحة يضرب فيها الأخوة بعضهم البعض بل ويقتلون بعضهم البعض وكان مجرد التفكير في هذا الأمر يثير فزعي ولهذا رفضت أي عمل من شأنه أن تثير المزيد من الشقاق بين المدرعات وقطاعات الجيش الأخرى، ورفضت تحت أي ظرف أن أتثير المزيد من الشقاق بين المدرعات وقطاعات الجيش الأخرى ورفضت تحت أي ظرف أن أتسبب في إرساء تقاليد دامية لثورتنا التي صنعناها معا وتعاهدنا على أن نحافظ عليها بلا دماء ولا ضغائن.

وبعد هذه الأحداث بيوم أو يومين جاءني ضابط الفرسان أحمد حمودة وكان من (الضباط الأحرار) وقال: أنا أحمل إليك رسالة أنا مش مقتنع بها لكن أنا مكلف أن أحملها إليك وأرجوك أن تستمع إليها وكانت الرسالة من ضابطين من المدفعية هما مصطفى الخشاب وعبد الحميد لطفي يعلنان استعدادهما لتحريك المدفعية لعمل حركة.

وقت لحمودة مستنكرا: يعني عايزين يعملوا انقلابا؟

فقال ببساطة: انقلاب مقابل انقلاب.

ورفضت بشدة وأرسلت تحذيرا مع أحمد حمودة بأنني ضد أي محاولة للانقلاب من جانب المدفعية أو من جانب أية جهة أخرى.

كانت رؤيتي صافية في هذه الأيام بصورة غريبة كنت أعرف أن السبل بيني وبين الزملاء قد تفرقت فبعد ما قاله في مواجهتي عن ضرورة عزلي واعتقالي أدركت أن أيامي معهم معدودة لكنني كما قلت كنت مستريح البال، مرتاح الضمير فقد قلت ما يجب أن يقال وفعلت ما يجب أن يفعل وتصرفت برجولة مع زملاء كنت ولم أزل أعتز بهم برغم كل ما قالوا وكل ما فعلوا. لقد كنت أدرك أن مسئوليتي جسيمة إزاء ضباط الفرسان الذين دافعوا عني وعن موقفي وطالبوا معي بالديمقراطية وبعودة الحياة النيابية وأنني مسئول عن منعهم من القيام بأية مغامرة.

وكنت أدرك أكثر مسئوليتي إزاء الثورة التي أفنيت أجمل سنوات العمر إعدادا وتحضيرا لها وأنه يجب وبرغم كل شيء الحفاظ على الثورة وعلى قوة دفعها وحمايتها من شطط أي من الأطراف المختلفة مع بعضها البعض.

وفوق هذا وقبل هذا كنت أحس بمسئوليتي إزاء الوطن والشعب لقد قضيت كل سنواتي السابقة وأنا أحلم له بالحرية والديمقراطية والعدل فكيف أتسبب في فتح باب جنهنم بيدي وأبدأ بانقلاب من المدرعات قد يتلوه إن نجح انقلاب آخر ولو بعد حين.

وتوالت الأحداث.

بعدها بيومين أيقظوني من النوم ليبلغوني أن الصاغ محمد إبراهيم كامل غنام من سلاح المدرعات قد حرك عددا من المدرعات وأحاط بها بيت محمد نجيب لحمايته من أية محاولة للنيل منه، وأن قوات من المشاة تحاصر هذه المدرعات.

لكي تعرف عزيزي القارئ حقيقة الوضع في هذه الأيام العصيبة عليك أن تتخيل المنظر التالي: رئيس الجمهورية في بيته له حراسته الخاصة لكن ضابطا من المدرعات يخشى عليه من غدر البعض فيحاصر بيته بمدرعاته ليحميه منهم، وحول هذا الطوق المدرع، هناك طوق آخر من المشاة.

وعود ثقاب واحد كلمة واحدة، احتكاك ولو طفيفا يمكنه أن يشعل النار بين الطرفين ليشعلها بين أسلحة الجيش كلها.

أسرعت إلى الصاغ محمد إبراهيم كامل وسألته: ليه كده يا محمد؟ فقال ببساطة: خفت أن يعلموا شيئا ضد محمد نجيب فأتيت لأحميه.

وأقنعته أن يسحب مدرعاته ويعود.

وفي اليوم التالي لعودة نجيب تفجرت مظاهرات بالآلاف بل بعشرات الآلاف لتعلن ابتهاجها بعودته وبرز الإخوان المسلمين بقوة معلنين مساندتهم له وألقى عبد القادر عوده خطابا حماسيا في المتظاهرين معلنا تأييد الإخوان لنجيب.

وفيم خرج نجيب من شرفة قصر عابدين ليحي الحشود الهائلة التي ملأت ميدان عابدين والشوارع المحيطة به ظهر إلى جواره ضابط أبيض البشرة أصفر الشعر ويرتدي بيريه قوات المدرعات الأخضر، إنه ضابط من الفرسان ويشبهني تماما وظن الجميع أنني أقف إلى جوار نجيب لأؤيده ضد بقية الزملاء.

واتصل بي أحدهم تليفونيا وأنا في مكتبي في مجلس الإنتاج وكن بمقر مجلس النواب ليبلغني أن الجميع يظنون أنني هناك مع نجيب وأدركت أنه مشمش زميلنا في المدرعات واسمه الحقيقية طلعت محمد حسين، وكان يشبهني إلى حد مأن وكنا نداعبه ونسميه (مشمش) ومن مكتبي اتصلت بعبد الناصر وقلت له: الناس يظنون أنني أقف إلى جوار نجيب في شرفه قصر عابدين فقال: وأنا أيضا سمعت ذلك قلت: لكنني هنا في مكتبي في مجلس الإنتاج وأعتقد أن الذي يقف إلى جوار نجيب هو (مشمش).

واطمأن جمال وقال: أنا قلت أيه اللي يخلي خالد يعمل كده... وسألت جمال: ماذا ستفعلون فقال: سنحاول أن نهدئ الوضع.

وبعد فترة ذهب نجيب إلى مجلس الوزراء ليصدر بيانا يؤكد فيه أنه تناسى الخلافات من أجل مصر وقال: إن أعضاء مجلس الثورة زملائي وإخواني برغم أي خلاف.

وكان ذلك بناء على ضغط من عبد الناصر الذي أبغله بضرورة إيقاف هذه المظاهرات حتى يمكن استمرار التعاون.

وبرغم كل ما حاولت من تهدئة للأوضاع ومحاولة إقناع ضباط المدرعات بالهدوء فإن عبد الناصر قد فاجأني بنصيحة غريبة: (أنصحك بأن تأخذ أجازة ثلاثة أو أربعة أيام) وفهمت أن الزملاء من أعضاء مجلس قيادة الثورة يرغبون في أن ينفردوا بالتصرف وألا يشركوني فيما ينتوون اتخاذه من قرارات.

وأخذت أجازة.. وفوجئت بإعلان قرارات 5 مارس الشهيرة.

لكنني وما دمت أرصد كل ما حدث من وقائع هامة، أود أن أشير إلى واقعة محيرة بل لعلها ظلت تحيرني لأمد طويل.. ففي هذه الأيام المليئة بأحداث مضطربة وغامضة قابلني صحفي فرنسي مرموق ينتمي إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي هو روجيه استفان وكان بالقاهرة ممثلا لجريدة (فرانس أوبزر فاتور) قابلني ليجري حديثا معي وأثناء الحديث همس في أذني قائلا: سأبلغك بنبأ هام الدوائر الحاكمة في الغرب قررت مساندة جمال ضد نجيب إنهم الآن يفضلون جمال لأنه سيكون حاكما قويا ومتفهما للأوضاع في آن واحد، أما نجيب فهو حاكم ضعيف وأمثاله سرعان ما يخضعون لضغط الجماهير.

ومكنتني هذه الهمسات من أن أعرف الاتحاه الحقيقي للريح.


الفصل العشرون: مارس المتأرجح.

- وأخيرا اتفق الجميع... الديمقراطية هي المخرج.

- نجيب يتقدم بمطالب جديدة كل يوم.

- الوفديون والشيوعيين أساءوا التعامل مع قرارات 5 مارس.

- بأربعة آلاف جنيه كسب عبد الناصر السلطة.


لعل شهرا ما لم يشهد أحداثا متقلبة ومتأرجحة مثل مارس 1954.

في أيامه الأولى كنت في أجازتي الإجبارية حيث نصحت بالابتعاد عن القاهرة، خوفا من أية أعمال قد يقوم بها بعض الضباط المعارضين لموقف والحقيقة أن بعض الضباط من المعادين لفكرة الديمقراطية كانوا يرون ضرورة التخلص مني، وسافرت إلى وادي النطرون، حيث كانت دراسات مشروع وادي النطرون داخلة في اختصاصي كمشرف على المجلس القومي للإنتاج.

وفي 5 مارس أعلنت قرارات مارس الشهيرة.

• اتخاذ الإجراءات فورا لعقد جمعية تأسيسية منتخبة بطريق الاقتراع العام المباشر على أن تجتمع خلال شهر يوليو 1954 (أي بعد أربعة أشهر، رغم أنهم منذ أيام قد رفضوا اقتراحي بإجراء انتخابات بعد ثمانية أشهر)

• تقوم الجمعية التأسيسية بمناقشة مشروع الدستور الجديد وإقراره والقيام بمهمة البرلمان إلى الوقت الذي يتم فيه عقد البرلمان الجديد وفقا لأحكام الدستور الذي ستقره الجمعية فيما عدا سلطة إسقاط الوزارة.


• إلغاء الأحكام العرفية قبل أجراء انتخابات الجمعية التأسيسية.

• يكون المجلس قيادة الثورة سلطة السيادة لحين انعقاد الجمعية التأسيسية

• ينظم الدستور الجديد كيفية تنظيم الأحزاب.

عدت إلى القاهرة لأتصل على الفور بجمال عبد الناصر كنت متلهفا لأعرف ماذا حدث؟ وما الذي دفع الزملاء إلى تقبل هذه المطالب بالديمقراطية؟ وكان عبد الناصر متعجلا ليعرف موقفي وسألني بشكل مباشر كعادته هيه يا خالد هل ستكون معنا؟ فقلت طبعا وقال: يعني عندما نشكل حزب الثورة هل ستنضم إلينا؟ فقلت طبعا وشرحت وجهة نظري التي سبق أن شرحتها عشرات المرات وربما أكثر .. وقلت: يا جمال أنا مع الثورة الديمقراطية وكل أمنيتي هي أن تستمر الثورة ولكن في إطار ديمقراطي، وقال جمال: لكن الحزب ستكون له قواعد صارمة ولابد من الالتزام بقراراته فقلت: طبعا وكنت أدرك أن حزبا ينوي الدخول في انتخابات سيضطر إلى ممارسة الديمقراطية في قراراته.

وتأكيد لهذا كتبت عددا من المقالات منها مقال في روز اليوسف أكدت فيه أنني مع الثورة ومع الديمقراطية في آن واحد وأن كلا الموقفين يؤكد الآخر ويكمله.

لكن أين الإجابة على سؤالي كيف حدث ذلك؟ وما الذي دفع الزملاء إلى اتخاذ قرارات 5 مارس؟

سألت بغدادي وحكي لي تفاصيل ما حدث.

كانت أحداث الأيام الأخيرة قد أصابت الزملاء في مجلس الثورة بالفزع فنجيب عاد منتصرا ومظاهرات الجماهير الصاخبة المؤيدة له زادته تشبثا بالسلطة والرغبة في الاستحواذ على كل السلطات وجزء هام من الجيش ضدهم، وشعر الزملاء أن الأمور بحاجة إلى نظرة متأنية وعقدت سلسلة من الاجتماعات.

وفي يوم الخميس 4 مارس انتحى بغدادي بجمال سالم وحسن إبراهيم قبل ذهابهم إلى اجتماع مجلس الثورة وتحدث بغدادي معهما محاذرا خوفا من أن تفلت منه كلمات تنقل سريعا إلى عبد الناصر فتثير مشاكل ضده قال بغدادي: إن اجتماعات مجلس الثورة بدأت تفتقد التوازن الذي كان يسودها قبل الثورة وفي أيام الثورة الأولى حيث كان يجري نقاش صريح يحدد فه كل شخص رأيه ملمحا بذلك إلى أن جمال سالم كان في الأيام الأخيرة يصوت دوما إلى جانب أي اقترح يقدمه عبد الناصر الأمر الذي أدى إلى اختلال التوازن في المجلس حيث بدأ بعض الزملاء يفعلون مثلما يفعل جمال سالم .

وذهب الثلاثة إلى مجلس الثورة وربما ترك هذا النقاش أثره على جمال سالم الذي أسرع بتقديم اقتراح من عنده وهو: انسحاب مجلس الثورة على أن يقوم بقيادة مجموعة من الفدائيين قدرها بحوالي5000 فدائي للبدء في كفاح مسلح واسع ضد قوات الاحتلال في القناة وقال إن كفاحا مسلحا ضد الإنجليز كفيل بعودة الوحدة إلى الصفوف وبإدانه كل من يخرج على هذه الوحدة.

إنه يريد أن يكسب الجماهير عبر نضال مسلح ضد الإنجليز وأن يترك السلطة لتجيب على أن تساعده وزارة مدنية وأن يستمر عبد الحكمي عامر قائدا عاما للجيش.

ووافق صلاح سالم وزكريا محيي الدين على الاقتراح.

ثم تقدم بغدادي باقتراح آخر: يبقى نجيب رئيسا للجمهورية ونسحب أعضاء مجلس الثورة من الوزارات أي من السلطة التنفيذية ويبقى للمجلس سلطة السيادة وحق المراقبة لضمان تحقيق أهداف الثورة دون أن يتدخل في أعمال السلطة التنفيذية إلا إذا وجد انحرافا عن هذه الأهداف وتشكل وزارة مدنية يترك لنجيب حرية اختيار أعضائها مع العمل على ضمان كسب تأييد واسع في صفوف الجيش من خلال القيام ببعض العمليات العسكرية ضد القوات البريطانية في القناة دون الدخول معها في تصادمات واسعة ومكشوفة قبل الاستعداد الكافي واقترح بغداي أيضا: تطهير الجيش ومنع الضباط من الخوض في المسائل السياسية.

وتلكم عبد الناصر وطالب بانسحاب مجلس الثورة وأن يعمل كل عضو من أعضائه على تكوني فريق من عشرة أشخاص تكون مهمته التخلص من العناصر الرجعية والإخوان والشيوعيين وأن تعلن عن قيام الهيئة الاستشارية وأن يستمر عامر قائدا للجيش.

ولم يتجاوب أحد من أعضاء المجلس مع هذا الاقتراح الغريب.

واستطالت المناقشة صحيح أن هناك اتفاقا شاملا على ضرورة انسحاب مجلس قيادة الثورة وترك السلطة التنفيذية لنجيب ولكن الأمور لم تكن واضحة حول الخطوة التالية: ماذا بعد الانسحاب؟ وأرهق الزملاء بع اجتماع طويل واتفقوا على رفع الاجتماع للراحة وفي أثناء فترة الراحة توجه إلى منزل محمد نجيب ليعرض عليه اقتراح تولية الوزارة إلى جانب رئاسته للجمهورية وعاد أمر ليبلغ الزملاء بموافقة نجيب بعد تردد وشكوك.

وهنا بدأ عبد الناصر في إعلان تشككه بدوره فيما اتفق عليه منذ ساعة وقال إن هذا معناه أننا أننا نسلم الثورة إلى نجيب ليفعل فيها وبها ما يشاء لكنه رغم شكوكه لم يجد حلا بديلا.

وفي هذه الأثناء هبطت الفكرة على صلاح سالم، فسأل بطريقته المباغتة:

لم لا نعلن عودة الحياة النيابية في أسرع وقت ووجد الجميع في هذا الاقتراح مخرجا والغريب أنهم أنفسهم رفضوا ذات الاقتراح عشرات المرات عندما كنت ألح عليه في كل مرة .. وعندما كنت أؤكد أنه المخرج من هذه الصراعات وأنه الضمان لاستمرار الثورة وارتباطها بحركة الجماهير. وأخيرا توصل المجلس إلى قرار بعودة الحياة النيابية ومن ثم بضرورة إنجاز الدستور سريعا وأيضا بأن يكون أعضاء مجلس الثورة حزبا لهم يخوضون به الانتخابات المقبلة.

واتفقوا على أن يقوم عبد الناصر بزيارة السنهوري وعلي ماهر لبحث النواحي الدستورية في الأمر وموعد الانتهاء من مشروع الدستور ومن ثم يمكن إعلان القرار متضمنا مواعيد محددة.

وتقرر تأجيل الاجتماع إلى مساء اليوم التالي الجمعة 5 مارس حيث عقد الاجتماع بمنزل جمال عبد الناصر.

وكان جمال عبد الناصر وصلاح سالم والسنهوري قد زاروا نجيب قبل بدء هذا الاجتماع وعرضوا عليه الموضوع وتحدث جمال قائلا: إن بعض العناصر قد حاولت الاستفادة من الخلافات بيننا وإثارة الفتنة في البلاد وأن الحل الأسلم هو عودة الحياة النيابية لكن ذلك يتطلب أن نوحد صفوفنا فعلا وقال إن الثورة يجب أن يكون لها حزبها وأن يرأسه محمد نجيب وهنا أبدى نجيب مخاوفه من أن هذا الحزب قد لا يحصل على أغلبية برلمانية في الانتخابات المقبلة وقد تضيع عليه فرصة أن يستمر رئيسا للجمهورية وهكذا أثبت نجيب في كل مرة حرصه الشديد على منصبه لكن السنهوري طمأنه بأنه من الممكن أن يستقيل من رئاسة الحزب قبل أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية.

عاد صلاح سالم إلى الاجتماع الذي بدأ يتكامل أعضاؤه في بيت عبد الناصر بينما توجه جمال مع نجيب والسنهوري للاجتماع مع علي ماهر رئيس لجنة الدستور للتوصل معه إلى موعد محدد لانتهاء اللجنة من عملها.

وعاد جمال إلى المجتمعين في بيته مصطحبا معه نجيب والسنهوري وتحدث نجيب مؤكدا أنه نسي الإساءة إليه وأنه على استعداد للتضحية بأي شيء في سبيل مصلحة الوطن.

ووفقا للموعد الذي حدده علي ماهر لإنهاء عمل لجنة الدستور اتفق المجتمعون على إجراء انتخابات الجمعية التأسيسية في يونيو 1954 وعقد اجتماعها يوم 23 يوليو 1954.

وأعلنت القرارات..

وبدأ الاتصالات ببعض العناصر المدنية للانضمام إلى حزب الثورة مثل د. محمد صلاح الدين وزير الخارجية الوفدي وفكري أباظة وكثيرين آخرين.

لكن الأمور لم تجر وفق ما كان مقدرا لها..

فنجيب تصور أن بإمكانه استثمار المظاهرات التي خرجت لتأييده إلى مالا نهاية وظل يحاول أن ينتزع مكاسب شخصية تضيف إلى سلطاته سلطات جديدة.

وحضر جلس مجلس الثورة في 8 مارس كان الاجتماع مقدرا له أن يعقد في المساء لكنهم استدعونا على وجه السرعة لنجتمع في الثانية عشرة ظهرا وفي الاجتماع تحدث جمال سالم ليبلغنا بالحديث الذي جرى خلال المقابلة التي تمت بينه هو وعبد الناصر وبين السنهوري وسليمان حافظ وعبد الجليل العمري وفي هذه المقابلة أبلغهم السنهوري أن نجيب قد طلب منه أن ينقل إلى مجلس الثورة طلبات محددة هي:

• أن يكون له حق الاعتراض على قرارات مجلس الوزراء.

• أن يكون له حق تعيين أو الاعتراض على تعيين قادة الكتائب والألوية في الجيش.


وطلب عبد الناصر العودة إلى مجلس الثورة لعرض الأمر عليه.

وبينما كان جمال سالم يعرض طلبات نجيب دق جرس التليفون وكان المتحدث سليمان حافظ الذي أبلغ عبد الناصر طلبات جديدة لنجيب .. وهي:

• أن يكون رئيس الجمهورية بالإضافة إلى ما طالب به من سلطات كل سلطات رئيس الجمهورية البرلمانية طوال فترة غياب البرلمان.

• وأن يجري استفتاء شعبي على النظام الجمهوري وعلى شخص رئيس الجمهورية وأن يكون مرشحا وحيدا لرئاسة الجمهورية.. بمعنى أن تكون صيغة الاستفتاء كما يلي:


- هل تقبل النظام الجمهوري: نعم أم لا ؟

- هل تقبل محمد نجيب رئيسا للجمهورية: نعم أم لا؟

• وأن يتم الاستفتاء قبل إقرار الدستور.

• وأن يسحب الضباط من الوزارات التي يشغلونها.


وإذا تلقى جمال عبد الناصر هذه المطالب الجديدة بدأ يشعر بأن نجيب يحاول أن يزيد من كل لحظة من سلطاته وأن يريد أن يستثمر المظاهرات التي خرجت مؤيدة له إلى أقصى مدى الذي يدمر كل شيء وتحدث جمال قائلا: في هذه الحالة يكون من العب علينا تنفي قرارات 5 مارسي ذلك أنه في حالة موافقتنا على هذه المطالب فإن نجيب سوف يتقدم بمطالب جديدة.

وهنا اقترح السنهوري عودة دستور 23 وأن يحل مجلس الثورة حتى يأمن نجيب على نفسه ولا يطالب بسلطات جديدة.

ورفضنا هذا الاقتراح.

ومرة ثانية يدق جرس التليفون ويكون سليمان حافظ أيضا هو المتحدث ليبلغ عبد الناصر أن الوزراء المدنيين اجتمعوا في منزل د. وليم سليم حنا وزير الشئون البلدية وتباحثوا في الموقف واستقر رأيهم على ضرورة تأليف وزارة مدنية يبعد عنها العسكريون وبرروا ذلك بأن الخلافات والتنافس والحقد بين العسكريين وراء كل ما حدث.

وبدأت أنا في الحديث طويلا منددا بموقف نجيب مؤكدا أنني ضد أن يستحوذ على كل هذه السلطات.

وعندما رفعت الجلسة الاستراحة ولكي يتمكن عبد الناصر وجمال سالم والسنهوري من عقد اجتماع سبق تحديد موعده مع سليمان حافظ والعمري صاح صلاح سالم موجها حديثا لي: يا يا أبو الخلد أنت كنت ملك هذه الجلسة وكان موقفك رائعا.

ومرة أخرى اضطر لأحدد موقفي أنا مع الثورة ولكن أريدها في مسار ديمقراطي.

وعاد جمال عبد الناصر وجمال سالم ليبلغانا بمطالب جديدة لنجيب:

• أن يكون له حق الاعتراض على قرارات مجلس الثورة وإذا تم الاعتراض في ظروف مدة محددة يعود القرار معه الاعتراض المسبب إلى المجلس لإعادة النظر فيه وللمجلس أن يتمسك بقراره بشرط توافر أغلبية محددة وإذا مل يعترض رئيس الجمهورية على القرار في ظروف هذه المدة يكون القرار نافذا.

• أن يكون من حق رئيس الجمهورية أن يحضر جلسات مجلس الثورة، وعد حضوره يرأس جلساته.

• أن يكون له حق تعيين قادة الوحدات في الجيش بالاتفاق مع القائد العام وأن يكون له الحق في زيارة الوحدات المختلفة بحضور القائد العام أو وزير الحربية ومن يقوم مقامه.

• عودة الضباط إلى صفوف الجيش وخاصة هؤلاء الذين يعملون في هيئة التحرير وتشدد نجيب بوجه خاص ضد وجيه أباظة.


وبطبيعة الحال زادت هذه المطالب المتلاحقة من توتر الوضع في مجلس الثورة وبدأت تنمو بذرة التراجع عن قرارات 5 مارس.

وبعدها انتقلنا إلى اجتماع (المؤتمر المشترك) بين مجلس الثورة ومجلس الوزراء وحضر نجيب وتحدثت أنا بحدة قائلا: يا سيادة الرئيس أنا وقفت معك في الماضي أما اليوم فأن أقف ضدك فطلباتك كلها تحاول أن تحشد المزيد من السلطات لشخصك وقد يؤدي ذلك إلى فساد كل شيء.

وغضب نجيب وقال: أن فقط عايز أعرف رأس من رجلي، وإذا كنت عايزين أننا نتوحد فلترج الأمور إلى ما كانت عليه قبل الخلاف فأرجع رئيس مجلس الثورة ورئيس مجلس الوزراء وقال جمال عبد الناصر: أنا الآن أحسن أن نجيب يحاول أن يتميز علنيا وأنه لا يهمه إلا أن يضمن بقاءه رئيسا وأن يستحوذ على أكبر قدر من السلطة.

وبعد مداولات مرهقة وشاقة وافق المؤتمر المشترك على عودة نجيب رئيسا لمجلس الثورة ورئيسا للوزراء كما كان الوضع قبل أزمة مارس وهدأت الأوضاع ولكن إلى حين.

وبدأ أشعر بقلق بلغ .. فقرارات 5 مارس الرائعة مهددة ومطالب نجيب المتلاحقة تحرجنا بل وتحرجنا وتظهره بمظهر الذي يحاول التسيد علينا وثمة شيء آخر هو أن إلغاء الرقابة على الصحف قد ترتبت عليه آثار لم يكن يتوقعها أحد فأحمد أبو الفتح شن في جريدة المصري حملة ضارية على ضباط الثورة وضباط الجيش عموما ووجه لهم اتهامات قاسية تتعلق بالتصرفات الشخصية والذمة المالية وانهالت قرارات من نقابة المحامين ومؤتمرات الطلبة تدين تصرفات ضباط الجيش وتندد بها بما أثار مخاوف أعضاء مجلس الثورة من المستقبل، وربما أثار حفيظة ضباط الجيش ضد قرارات 5 مارس وضد الديمقراطية أصلا التي جلبت لهم أولى بداياتها شتائم وإهانات لم يكونوا يتوقعونها.

وبصراحة شديدة أقرر الآن وبضمير مستريح أن قرارات 5 مارس وهي قرارات جيدة بكل المعايير لم تجد من القوي المدنية سواء القوى الليبرالية أو القوى اليسارية أي تفهم منطقي أو تعامل إيجابي بل على العكس استخدام الجميع فرصة مساحة الحريات التي أتيحت في الفترة من مارس لشن هجوم ضار على مجلس الثورة وعلى حركة الجيش وضباطه بما أثار مخاوف المجلس والضباط معا وبما حفز الجميع وفي مقدمتهم عبد الناصر إلى التفكير في خطة للتراجع عن قرارات 5 مارس وابتداء من 20 مارس حيث عقد مجلس الثورة اجتماعا غلفته الحيرة للبحث عن مخرج من هذا الطوفان من الهجوم على الثورة الذي تولد من قرارات 5 مارس بدأ أشعر أن عبد الناصر يرتب أمرا ما.

ولابد لي أن أضع أمامك عزيز القارة بعض ما أثار حيرتي في هذه الأيام العصيبة.

توفي أحد أعمامي وتوجهت إلى كفر شكر لحضور الجنازة وهناك التف حولي الكثير من أقاربي لينددوا بموقفي من المطالبة بالديمقراطية والانتخابات وكانوا يرددون مخاوف عميقة من أن الانتخابات لن تأتي إلا بعناصر مثل تلك التي كانت تأتي في البرلمان قبل الثورة وأن هذا سيهدد ما قامت به الثورة من إصلاحات.

وكان أقارب زوجتي وهم أيضا مثل أقاربي من الطبقة المتوسطة يرددون نفس الانتقادات العنيفة إلى الدرجة التي دفعت زوجتي للتساؤل: ما هي مصلحتك في أن تقف ضد كل هؤلاء الناس؟ كذلك لابد لي أن أشير إلى أن مخاوف كثيرة كانت تنتابني وربما تنتاب عبد الناصر بشكل أكبر من احتمالات أن تؤدي هذه الحملة الشرسة وغير المتأنية ضد الضباط إلى حركة في الجيش ضد قرارات 5 مارس.

وباختصار أعتقد أن قرارات 5 مارس قد تعرضت للعصف بها من جانب نجيب الذي حاول استثمارها لتعزيز سلطاته ومن جانب القوى المدنية (الوفد والشيوعيين) الذين لم يدركوا واجبهم في التمسك بالقرارات والوصول بها إلى مرحة التنفيذ وبدأوا على الفور في شن حملات شديدة على أصحاب القرارات وعلى ضباط الجيش عموما بما دفع الكثيرين من الضباط وعلى رأسهم عبد الناصر إلى البحث عن سبيل للتراجع عن هذه القرارات.

أما الإخوان المسلمون فقد انحاز القسم الأكبر منهم إلى جانب نجيب صحيح أن قرارا بالإفراج عن المرشد العام الأستاذ الهضيبي قد صدر في 26 مارس وأن عبد الناصر زاره في منزله وصحيح أيضا أن عبد الناصر كان قد نجح في شق صفوفهم واستقطاب البعض منهم لكن الأغلبية كانت مع نجيب ولعله من المهم أن أقرر أن الإخوان المسلمين لم يؤيدوا عودة الحياة النيابية بل تحفظوا على عودتها بعد الإفراج عنهم في 26 مارس سنة 1953 كذلك قام عبد الناصر بالإفراج عن ضباط المدفعية الذين اتهموا في انقلاب يناير سنة 1953: محسن عبد الخالق وفتح الله رفعت وآخرين بهدف كسب تأييد المدفعية وتأييد هؤلاء الضباط.

وقد دفعت هذه التصرفات عبد الناصر وكثيرين من أعضاء مجلس الثورة إلى الاعتقاد بأنه إما الثورة أو الديمقراطية وأنه لا سبيل للالتقاء بينهما.

ولكن لابد لي أن أقرر أن عبد الناصر والزملاء في مجلس الثورة كانت لهم هم أيضا حساباتهم التي تنطلق أولا وأساسا من ضرورة احتفاظهم بالسلطة بشكل أو بآخر ولم تكن قرارات 5 مارس نابعة إلا من إحساسهم بالمأزق ومحاولة وجود مخرج يكفل لهم الاستمرار فلما تراكمت المشاكل وتبنت لهم احتمالات نهوض قوى سياسية أخرى لمعارضتهم خشوا من إفلات الزمام من أيديهم وتراجعوا عن القرارات وانقلبوا إلى النقيض.

إذن أدرك عبد الناصر أن خطة 5 مارس لا يمكن تنفيذها مع استمرار احتفاظه بالسلطة وبدأ في الالتفاف على هذه الخطة وترتيب الأمر للاتجاه في مسار مضاد تماما.

وطوال هذه الأيام أنهمك عبد الناصر في تنفيذ خطته فحشد أكبر قدر من ضباط الجيش حوله وبالتحديد حشدهم حوله على أساس رفض الديمقراطية وأنها ستؤدي للقضاء على الثورة وبدأ عن طريق طعيمة والطحاوي في ترتيب اتصالات بقيادات عمال النقل العام لترتيب الإضراب الشهير.

ولك عزيز القارئ أن تتصور إضرابا لعمال النقل تسانده الدولة وتحرض عليه وتنظمه وتموله.. وأتوقف تحديدا أمام كلمة تموله هذه فلقد سرت أقاويل كثيرة حول هذا الموضوع لكنني سأورد هنا ما سمعته من عبد الناصر بنفسي فعند عودتي من المنفى التقيت مع عبد الناصر وبدأ يحكي لي ما خفي عني من أحداث أيام مارس الأخيرة وقال بصراحة نادرة: لما لقيت المسألة مش نافعة قررت أتحرك وقد كلفني الأمر أربعة آلاف جنيه.


الفصل الحادي والعشرون: مارس الوجه الآخر

- وتمسك عبد الناصر بمقولة: (إما...إما)

- هل دبر عبد الناصر سلسلة الانفجارات؟

- سحب عامر موافقته فسقط اقتراح عبد الناصر.

- وأحسست أن ثمة تدبيرا يجري الإعداد له.


ولكن لم نسرع هكذا فثمة أيام فصلة مشحونة بالنقاش والجدل لعل العودة إليها تفسح المجال أمام فهم واضح لما حدث.

فبرغم قرارات 5 مارس الباعثة على البهجة كان الارتباك يغلف كل المواقف وكل التصرفات ومع صدور هذه القرارات اشتعلت حملة في جريدة المصري وغيرها من الصحف ضد الثورة والضباط وارتفعت المطالبة بعودة الجيش لثكناته ومحاكمة المسئولين عن ما ارتبكت من أ×طاء ولعلل هذه المقالات قد أفزعت العديد من الضباط ومارست ضغطا نفسيا عليهم أخافهم من مواصلة السير على دريب الديمقراطية ومهد لهم سبيل التراجع عنها ولعل مهد السبيل للبعض الذي تقبل قرارات 5مارس أو صاغها كمحاولة لكسب الوقت أو كخطوة للتمويه كي يستجمع نفوذا بين الزملاء في المجلس وبين ضباط الجيش يمكنه من التراجع عن القرارات.

وفي اجتماع مجلس قيادة الثورة ( الأحد 14 مارس) كان واضحا أن الكثيرين يستشعرون وطأة هذه القرارات كان أكثر الجميع فزعا جمال سالم وصلاح سالم قال صلاح بصراحة: أنا لا أستطيع أن أمارس سلطاتي الآن الناس لن تستمع إلى كلامي أو قراراتي أما جمال سالم فقال: كيف سأواصل اصطدامي مع كبار الملاك خلال عملية تطبيق قانون الإصلاح الزراعي الأفضل أن انسحب وأكد صلاح سالم أيضا فكرة الانسحاب.

كان كل منهما يشعر أن نفوذه وهيبته ومستمدة من هيبة السلطة فإذا فقد السلطة فلا هيبة ولا نفوذ.

وبدأ بغدادي هو أيضا يتراجع فأخذ يردد أن الديمقراطية سابقة لأوانها وكانت الحالة النفسية لكمال الدين حسين سيئة للغاية.

وتقدم عبد الناصر بعدة اقتراحات: طرد أفراد أسرة محمد علي وإسقاط الجنسية المصرية عنهم إغلاق نادي الجزيرة الذي تحول إلى نقطة ارتكاز وتجمع للعناصر الارستقراطية المعادية للثورة وأصبح مصدرا للعديد من الشائعات محاكمة الطلاب الذين نظموا مظاهرات ضد الثورة وكانوا من الإخوان المسلمين والشيوعيين.

وطلب محمد نجيب تأجيل المناقشة في هذه الاقتراحات.

وهنا بدأ جمال عبد الناصر في ترديد مقولة ظل متمسكا بها طوال الأيام التالية: أما ديمقراطية مطلقة وأما سياسة الحزم واستمرار الثورة إما حريات كاملة وتخلينا عن دورنا وإما أن يعود مجلس الثورة ليمارس كل سلطاته بحزم.

وكان واضحا من هذه العبارة أنها تحاول عمل استقطاب داخل المجلس وبطبيعة الحال كان الاستقطاب لصلاح استمرار سلطة مجلس قيادة الثورة.

وكنت أحاول القول بأن لا ضرورة لوضع الاختيارين وجها لوجه وأنه بالإمكان استمرار الثورة في ظل الديمقراطية لكن عبد الناصر تسمك بقولة (إما... إما)..

وبدأ صلاح سالم يقول: إذا كنتم عايزين انتخابات وديمقراطية وأن نظل نلعب دورنا ونرشح نفسنا في الانتخابات فلابد أن نقدم تنازلات كي نكسب أصوات الناخبين فما هي التنازلات التي يجب أن نقدمها؟

وتحدث عبد الحكيم عامر فقال: إن الثورة تخوض معركة ضد الإخوان والشيوعيين والأحزاب القديمة كل منهم يريد أن يفرض إرادته ورؤيته ونحن لنا موقف ورؤية اشتراكية.

وكانت أول مرة تنطق فيها كلمة (اشتراكية) في اجتماعاتنا والإشتراكية لا تأتي بالديمقراطية وإنما تفرض فرضا)

وهنا عاد عبد الناصر ليقول: لهذا أنا أؤكد إما سياسة الحزم وفرض إرادة الثورة أو الديمقراطية الكاملة.

ومرة أخرى تهطل الاقتراحات غير الناضجة فقال جمال سالم : أنا الآن موافق على الانتخابات وتشكيل وزارة مدنية للإشراف على الانتخابات وعدم تكوين الأحزاب إلا بعد انتخابات الجمعية التأسيسية وقال: نحن ثوار ولسنا سياسيين ولهذا لا نشترك في الانتخابات وإنما نعد أنفسنا ونبقى على استعداد كي نتدخل لإنقاذ الموقف عند الضرورة.

وتقدم عبد الحكيم عامر باقتراح آخر:

• إغلاق نادي الجزيرة.

• تطهير الحية السياسية من السياسيين القدامى.

• بقاء مجلس الثورة حتى 23 يوليو 1954 ثم يحل.

• تعطي سلطة السيادة للجمعية التأسيسية

• إلغاء الأحكام العرفية.

• عدم إعلان هذه القرارات وبقاؤها سرية لحين خطوات جادة لتشكيل حزب للثورة ثم تعلن القرارات مع إعلان تشكيل الحزب.


وعارض نجيب وصمم على إبقاء الحال على ما هو عليه لكنه في نفس الوقت أثار قضية غريبة قد ركز هجومه ضد علي ماهر وتحدث طويلا عن أخطائه وعن تصرفات وفاسد في جمعية الهلال الأحمر التي يرأسها وطالب بمحاكمته.

وفهمت دونما حاجة إلى إعمال فكر أن نجيب يحاول أن يتخلص من علي ماهر خوفا من أن يرشح نفسه ضده لرئاسة الجمهورية وقد ظل نجيب طوال هذه الفترة يركز هجومه على شخصين يتصور إمكانية منافستهما له: علي ماهر ورشاد مهنا .

وطرح اقتراح عامر بالبدء في تأسيس حزب للثورة فحصل على أغلبية وعارضه زكريا محيي الدين بغدادي حسن إبراهيم جمال سالم .

وانتهى الاجتماع.

والآن لنعد مرة أخرى إلى الالتقاء في إطار المؤتمر المشترك (يوم الثلاثاء 16 مارس) وقد طرح في المؤتمر المشترك موضوع حرمان عدد من الأشخاص من حقوقهم السياسية وإذ وجدت أن الاتجاه العام سيوافق على هذا الاقتراح فقد حاول أن أضع قدر الإمكان ضوابط محكمة لذلك فقلت: يمكن تحديد قائمة تضم أفراد أسرة محمد علي ومن صدر ضدهم أحكام من محكمة الثورة سواء بعقوبة مقيدة للحريات أو بمصادرة أموالهم وأفراد محددين أسهموا في إفساد الحياة السياسية ببراهين واضحة مع تحديد أسباب الحرمان في كل حالة على حدة.

ثم ناقش المؤتمر المشترك بعد ذلك فكرة إجراء استفتاء عام بشأن مسائل محددة:

• النظام الجمهوري.

• انتخاب رئيس للجمهورية.

• تحديد الملكية الزراعية.

ونوقشت باستفاضة مسألة هل يجري استفتاء واحد أم عدة استفتاءات كما نوقشت إمكانية إجراء الانتخابات بالقائمة.

وتقرر إعداد مشروع قانون للانتخابات ومشروع خاص بالجمعية التأسيسية ومشروع قانون لتنظيم قيام الأحزاب السياسية وشكلت لجنان لإعداد هذه المشروعات من أعضاء (المؤتمر المشترك)

وتقرر دعوة المؤتمر إلى اجتماع تال يوم السبت 20 مارس أي بعد انتهاء زيارة الملك سعود. كان ذلك يوم الثلاثاء ولكن في يوم السبت خرجت أخبار اليوم وبها تصريح مثير للاهتمام أدلى به جمال عبد الناصر قال جمال (نحن ثوار ولسنا سياسيين).

وأثار هذا التصريح هواجس وسألت جمال عن مغزاه، ولماذا أدلى به في هذا الوقت بالذات وبعد كل ما توصلنا إليه من قرارات في المؤتمر بالذات وبعد كل ما توصلنا إليه من قرارات في المؤتمر المشترك فروي لي واقعتين:

• الأولى: أن عدد كبيرا من ضباط الجيش، وضباط الصف الثاني من الأحرار زاروه وبدوا قلقهم من الاندفاع نحو الديمقراطية وإنها دور مجلس الثورة أو ما كانوا يسمونه إنها الثورة وقال إنه خلال هذه المناقشات شعر بالورطة ولم يجد حججا مقنعة لهؤلاء الضباط الغاضبين وأحس أن الثورة سوف تنتهي وأن الزمام سوف يفلت.

• أما الثانية: فهي أنه أثناء عودته هو وعامر من مقابلة للملك سعود احتشدت الجماهير حول عربته وهتفت للثورة وحيتهما تحية حارة. وأحس جمال أنه يمتلك الآن سندا من الضباط وأن الجماهير إذا كانت قد أيدت نجيب منذ أيام فإنها أيضا تؤيد الثورة واستمرارها وارتفعت روحه المعنوية وبدأ يعيد حساباته من جديد.

وثمة واقعة أخرى لابد من وضعها في الاعتبار فقبل زيارة الملك سعود مباشرة وقعت سنة انفجارات دفعة واحدة في مدنية القاهرة منها انفجارات في الجامعة وانفجار في جروبي وآخر في مخزن الصحافة بمحطة سكة حديد القاهرة صحيح أنها لم تتسبب في خسائر مادية لكنها أثارت هواجس شديدة وسط الجميع حول مخاطر انفلات الوضع ومخاطر إطلاق العنان دون قبضة حازمة للدولة.

وبدأ البعض يستشعر أن الزمام يفلت وأن الأمن غير مستقر وأنه من الضروري إحكام قبضة النظام وإلا سادة الفوضى.

وقد روي لي بغدادي (وعاد فأكد ذلك في مذكراته) أنه في أعقاب هذه الانفجارات زار جمال عبد الناصر في منزله هو وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم ليناقشوا معه تطورات الأوضاع وأبلغهم عبد الناصر أنه هو الذي دبر هذه الانفجارات لإثارة مخاوف الناس من الاندفاع في طريق الديمقراطية والإيحاء بأن الأمن قد يهتز وأن الفوضى ستسود وبطبيعة الحال فإن الكثيرين من المصريين لا يقبلون أن تسود الفوضى بصورة تؤدي إلى وقوع مثل هذه الانفجارات.

وانعقد المؤتمر المشترك يوم السبت 20 مارس ليشهد المزيد من الاقتراحات غير الناضجة.. قدم جمال سالم اقتراحا مناقضا لكل ما تمسك به في المرات السابقة فطالب بانتخابات حرة لجمعية تأسيسية تصدر الدستور وتكون لها اختصاصات البرلمان وأن يسمح بقيام الأحزاب السياسية وأن تشكل حكومة مدنية للإشراف على تنفيذ هذه الإجراءات وأن تحفظ الحكومة النظام باتباع القوانين العادية وبأن يعود العسكريون إلى القوات المسلحة.

وقدم عامر اقتراحا آخر يقول: إعداد قائمة بأشخاص يتم حرمانهم من ممارسة الحقوق السياسية يمنع قيام الأحزاب قبل انتخاب الجمعية التأسيسية بعد انتخاب الجمعية التأسيسية تستمر فترة انتقال مدتها ثلاث سنوات العمل على مقاومة الفوضى بكل السبل.

وحاز اقتراح جمال سالم 15 صوتا .. واقتراح عامر 8 أصوات.

وفي يوم 25 مارس أبلغني أن الرئيس نجيب طلب عقد اجتماع عاجل لمجلس قيادة الثورة وتحدث نجيب في بداية الاجتماع فقال: إن البلبلة تسود البلاد وأنه لابد من وضع حد لهذه البلبلة واقترح تشكيل حكومة مدنية تشرف على الانتخابات برئاسة عبد الرازق السنهوري وأن يتحول مجلس قيادة الثورة إلى مجلس استشاري لرئيس الجمهورية.

ورفضنا هذه الاقتراحات.

وتكلم عبد الناصر بعصبية وأكد مرة أخرى: إما حزم وإما ديمقراطية وعلينا أن نختار أحد طريقين: فأما أن تستمر الثورة وأن تبني نفسها وتبني البلد وتتحمل المسئولية وإما إطلاق الحريات بلا قيود وبلا حرمان من الحقوق السياسية حتى لا يفهم ذلك على أنه تأثير في حرية الانتخابات واقترح انتخاب جمعية تأسيسية انتخابا حرا مباشرا وأن تمنح سلطة السيادة وسلطة البرلمان وأن يعلن حل مجلس الثورة يوم 24 يوليو على أساس أن الثورة قد أنهت مهمتها بتسليم شئون البلاد للمثلي الشعب المنتخبين.

واستكمال للديمقراطية اقترح جمال عبد الناصر الإفراج عن رشاد مهنا وكان هذا الاقتراح الأخير كافيا لتفجير مخاوف نجيب الذي كان كما قلت يخشى من أي منافس قد يرشح نفسه في مواجهته.

وتقدم بغدادي باقتراح مضاد يقول:

• عدم إجراء انتخابات قبل تحقيق أهداف الثورة وبخاصة تحقيق جلاء الإنجليز عن مصر.

• استخدام الشدة مع كل من يفكر في الموقف في وجه الثورة.

• إعادة تطهير الجيش.

• أن يخضع نجيب لرأي الأغلبية وأن يلتزم الجميع بكل ما يصدر عن المجلس من قرارات. واعترض نجيب بشدة على هذه الاقتراحات.

أما أنا فقد اعترضت أيضا فقلت: كيف التزام بما لا أوافق عليه وأنا لا أريد أن أتسبب في أي مشكلات وفي نفس الوقت لا أريد أن أخالف ضميري وموقفي ولهذا إذا اتخذت قرارات وجدت أنها فاضلة فإنني سأنسحب من المجلس.

ورد غدادي رافضا وقال: لا بد أن نتكاتف معا وأن يلتزم كل منا برأي الأغلبية ولا يجوز لأحد أن ينسحب فالأهم هو المصلحة العامة.

والحقيقة أنني كنت طوال هذا الاجتماع صامتا وأكتفي بتعليقات قصيرة ولم أتقدم مثل الجميع باقتراحات متكاملة ولعل هذا هو الذي دفع كلا من عبد الحكيم عامر وصلاح سالم للإلحاح على ضرورة أن أحدد موقفي بوضوح.

وتكلمت..

والحقيقة أنني حاولت قدر الإمكان إيجاد مخرج يقبله الزملاء ويرتضونه ويهدئ من مخاوفهم دون التراجع عن الديمقراطية والانتخابات وقرارات 5 مارس ولهذا تقدمت بالاقتراح التالي:

• تنفيذ القرارات الخاصة بانتخاب الجمعية التأسيسية.

• يحرم من الحقوق السياسية كل من حكمت عليه محكمة الثورة سواء بعقوبة السجن أو مصادرة الأموال وكل من اتخذ موقفا محددا ضد الدستور بشرط أيراد الأسباب.

• تجري انتخابات الجمعية التأسيسية في الموعد الذي حددناه من قبل.

• تتكون الأحزاب السياسية بعد انتخابات الجمعية التأسيسية ونتيجة لها.

• وحتى تقوم الجمعية التأسيسية إما أن يبقى الوضع على ما هو عليه، وإما أن تؤلف وزارة مدنية مع تشكيل هيئة استشارية تكون وظيفتها الإشراف على الانتخابات وضمان حيدتها.

• الجمعية التأسيسية تحدد موعد إجراء الانتخابات لاختيار برلمان جديد

• تبقى لمجلس قيادة الثورة سلطة السيادة.

وباختصار حاول أن أرفض سياسية (إما..إما) تلك السياسة التي كانت في اعتقادي تغلق الطريق أما الديمقراطية وتوحي للضباط سواء في مجلس الثورة أو خارجه بأنه لا مستقبل لهم في ظل الديمقراطية وحاولت أن أقدم فكرتي الثابتة: إنني مع استمرار الثورة في إطار ديمقراطي وبأسلوب ديمقراطي.

وحاول جمال سالم أن يفند اقتراحي بعد أن شعر بخطره، فقال: ومن أين نستمد سلطة السيادة؟ قلت: من كوننا نحن الذين قمنا بالثورة، ومن سيطرتنا على القوات المسلحة وقال:

وكيف نطرد الإنجليز من مصر؟ فقلت: بتنظيم الشعب نفسه ويخوض المعركة وأفلت جمال سالم واحدة من شتائمه المعهودة ضد الشعب.

ومرة أخرى حاولت أن أشرح وجهة نظري بالحفاظ على الثورة مع المضي في طريق الديمقراطية لكنني أحسست بالرفض في أعماق الكثيرين ورفض عبد الناصر وعامر الاقتراح متمسكين بسياسة (إما... إما..).

واستمر النقاش طويلا..

وتقدم نجيب باقتراح يقول:

• يستمر مجلس الثورة حتى 23 يوليو ويغير اسمه إلى مجلس رئاسة الجمهورية.

• تجلي الانتخابات على أساس فردي وليس على أساس حزبي.

• تكوين مهمة الجمعية التأسيسية وضع الدستور ومزاولة سلطات البرلمان حتى يقوم ويكون لها كل سلطاته ما عدا حق سحب الثقة من الوزارة.

• ليس من حق الحكومة حل الجمعية التأسيسية.

• تشكيل الوزارة يكون من اختصاص رئيس مجلس الثورة ومجلس الثورة معا.

• عمل استفتاء شعبي حول قانون الإصلاح الزراعي.

• يستمر المجلس ويكون له الحق في الموافقة على القوانين.

• حرمان بعض الأشخاص من الحقوق السياسية.

واحتدم الخلاف.

وتقرر طرح الاقتراحات المختلفة للتصويت.

وطرح في البداية اقتراح جمال عبد الناصر باعتباره الاقتراح الذي تم عرضه أولا وحصل على ثمانية أصوات وقد أعطيت صوتي له، واعترض عليه: جمال سالم ، بغدادي، كمال الدين حسن إبراهيم، وعند فوز اقتراح عبد الناصر طلبت سحب اقتراحي وعدم التصويت عليه.

ثم عرض اقتراح بغدادي وحصل على 7 أصوات.

وهنا عرض اقتراح أو تحفظ فقد اشترط عبد الحكيم عامر لكي نستمر في التصويت أن نصوت أولا على التزامنا جميعا بنتيجة أي تصويت وأن تخضع الأقلية للأغلبية وألا تعلن معارضتها للقرارات وألا تنسحب.

وأنا تحفظت على ذلك معي صلاح سالم وهنا أعلن عامر سحب موافقته على اقتراح عبد الناصر وبهذا سقط الاقتراح لكن عبد الناصر نجح في الضغط على عامر كي يتراجع عن موقفه هذا وفعلا عاد عامر فمنح صوته لاقتراح عبد الناصر، وبهذا فاز الاقتراح من جديد ليصبح الأساس لما أسمي (بقرارات 25 مارس).

هنا وهنا فقط أدركت مسالة هامة.

فجأت انبثقت في عقلي فكرة لست أدري كيف غابت عن ذهني طوال الأيام السابقة لقد أحسست أن ثمة مناورة تحاك وأن الاقتراحات والاقتراحات المضادة هدفها الحقيقي إرباك كل الأطراف وتمييع الموقف وأدركت أن ثمة شيئا ما يجري إعداده في الخفاء.

وأدركت أن الزملاء يرتبون أمروهم فيما بينهم وعلى غير علم مني، وأن الاقتراحات غير الناضجة كان المقصود بها إحباط عملية الاستمرار في تنفيذ القرارات، وتمييع المواقف حتى تنضج للتنفيذ العملي فكرة عبد الناصر التي ظل يرددها في حماس مثير للدهشة.. (إما الثورة وإما الديمقراطية).


الفصل الثاني والعشرون: التراجع

- في القطار.. رأيت جموعا تهتف (لا حزبية).

- اختفيت كي لا أوقع على قرار التراجع.

- قال لي عبد الناصر: أنت مثل العسل.

- قبلوا استقالتي وقرروا عدم إعلانها.

- وسافرت .. مع قرار بعد عودتي.


كان الملك سعود لم يزل في مصر وكنا ممزقين بين متابعة زيارته، والاحتفاء به وبين محاولة حل خلافاتنا وإيجاد مخرج لهذه الأزمة الخانقة.

وفي 27 مارس وكان يوم سبت حدثني تليفونيا ليدعوني للسفر معه ومع الملك سعود بالقطار إلى الإسكندرية وذهبت وكان هناك أيضا كمال الدين حسين.

وما إن تحرك القطار نحو أول محطة في الطريق حتى أحسست بأن هواجسي التي سيطرت علي في الجلسة السابقة لمجلس الثورة كانت صائبة وأن شعوري بأن هناك ترتيبا خفيا يجرى إعداده كان صحيحا فعلى كل محطة كان هناك حشد من الناس يهتف بحياة نجيب وحياة الملك سعود ثم يهتف: (تحيا الثورة) ، لا حزبية).

وأحسست أن ثمة ترتيبا لهذا الأمر كله.

كانت الحشود متوسطة الحجم حوال مائتين في كل محطة لكن الذي يؤكد الترتيب أن الشعارات كانت موحدة فكيف يمكن التصديق أنه دون ترتيب خاص سرت هذه الشعارات وسط جميع المحتشدين في كل المحطات على طول الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية وأعتقد أن هيئة التحرير وأجهزة الدولة والأمن كانت وراء هذه الحشود.

وتغير الموقف عندما وصلنا إلى الإسكندرية فقد كان هناك حشدان حشد يهتف للنحاس وفؤاد سراج الدين وحشد يهتف تحيا الثورة و لا حزبية.

وقبلها بيوم كانت زوجتي في زيارة لأسرتها وعادت لتقول لي بدهشة: كل العائلة ضد موقفك وبدأت أستشعر دهشة بالغة، فما اتخذت من مواقف كان من وحي محبتي لمصر وللشعب فكيف يمكن لأسرتي أن تتخذ هذا الموقف وكيف يمكن تحريك الجماهير أو قطاع منها لتهتف ضد الديمقراطية؟.

وإلى هنا فإنني أود أن أوضح نقطة بالغة الأهمية صحيح أن عبد الناصر رتب الأمر وحشد المظاهرات ثم حشد بعد ذلك بعض قطاعات العمال ودفعهم للإضراب وخاصة عمال النقل العام وقد اعترف لي عبد الناصر صراحة كما قلت في السابقة بأنه أنفق أربعة آلاف جنيه على هذه الترتيبات وبعد عودتي من المنفى عاد فاعترف لي أنه رتب (حركة 27- 28- 29 مارس) كرد على حركة الفرسان واجتماع (الميس الأخضر) وقال باسما: واحدة بواحدة ونبقى خالصين لكن هذه الترتيبات ما كان لها أن تنجح لو لم تجد صدى لها وسط الجماهير.

فالطبقة الوسطى: مثلا كانت تخشى من عودة الحياة النيابية والأحزاب خاصة وأن أحزاب ما قبل الثورة كانت قد كسبت احتقار الجماهير سوا بتصرفاتها السابقة على الثورة، أو بسبب الحملة الإعلامية الضارية التي شنتها الصحف وأجهزة الإعلام ضدها.

والفلاحون: كانوا يوشكون أن يستمتعوا بثمار الإصلاح الزراعي وبدأوا يشعرون أن تراجع الثورة يعني إلغاء الإصلاح الزراعي وانتزاع الأرض منهم، وعودة القهر والنفوذ الإقطاعي الظالم. والعمال: بدأو يستمتعون وخاصة النقابيين منهم بنص قانوني كنت أنا الذي صممت على إصداره واستقلت فعلا من مجلس الثورة ولم أعد إلا بعد صدوره يحميهم من الفصل التعسفي.. وهناك فوق هذا.. وقبل هذا كله ضباط الجيش الذين فزعوا من الحملة الضارية التي شنتها جريدة المصري والجمهور المصري و روز اليوسف للمطالبة بعودة الجيش إلى ثكناته ومحاكمة المسئولين عما ارتكب من أخطاء وبدأو يشعرون أن مصيرهم كجماعة امتلكت نفوذا وسطوة هائلة بعدل ليلة 23 يوليو وكأفراد حصلوا على موقع ممتاز ومهابة اجتماعية ذات وزن أن هذا كله مهدد وأن الثورة التي حققوها مهددة أيضا.

وهكذا فأن عبد الناصر إذ رتب لهذا الرجوع عن القرار الديمقراطي كان يستند إلى ميزان قوى لصالحه فمعه أغلبية ضباط الجيش ومعه قطاع كبير من الجماهير الشعبية ومعه قطاع هام من الطبقة الوسطى ومعه أيضا الصحف والإذاعة والأمن والمخابرات و هيئة التحرير.

ولابد من الإشارة إلى هنا إلى أن مصطفى وعلي أمين وغيرهما من كبار الكتاب في الأهرام و الأخبار والجمهورية كانوا يؤيدون مواقف عبد الناصر وكانوا يروجون لفكرة (إما.. إما) ومن ثمة فقد كانوا رافدا هاما من روافد التفكير المعادي للديمقراطية.

وفي الجانب الآخر كان ضباط الفرسان مازالوا يتشبثون وبشرف بموقفهم المتمسك بالثورة وبالديمقراطية معا كلك فعلت نقابة المحاميين وبعض الصحفيين وجماهير الطلاب وأساتذة الجامعات وحاول جمال أن يزيد من رصيده وأن يقوى صفوفه فأفرج عن رشاد مهنا وعن كل الضباط الذين سبق اعتقالهم كما أفرج عن الإخوان المسلمين وأفرج أيضا عن عدد من السياسيين وحاول نجيب أن يلعب ذات اللعبة فنشرت أخبار اليوم في ذات يوم سفرنا إلى الإسكندرية خبرا يقول: إن نجيب اتصل تليفونيا بالنحاس باشا ليتأكد من أنه قد أفرج عنه، لكن هذه المكالمة تركت أثرا سلبيا وسط ضباط الجيش الذين تصوروا أن نجيب يتزلف للنحاس ويهين كرامة الجيش.

وبدأت العجلة تدور..

وفي يوم 28 مارس بدأت خيوط التدبير تتضح فقد أضرب عمال السكة الحديد، وأضرب عمال النقل العام، واعتصموا مطالبين بإلغاء قرارات 5 مارس ومطالبين باستمرار الثورة وسارت مظاهرات تهتف تسقط الديمقراطية و تسقط الأحزاب.

وأدركت أن ذلك كله مجرد مقدمة لعقد اجتماع لمجلس قيادة الثورة لإصدار قرار بإلغاء قرارات 5 مارس.

وقررت ألا أحضر مثل هذا الاجتماع.

كان نجيب عائدا في مساء 28 مارس إلى القاهرة ولم أعد معه..

جلست لفترة مع أحمد حمروش وطلعت شعث (وهو ضابط مدفعية سواحل أصبح فيما بعد مديرا لمكتب جريدة المساء بالإسكندرية) وسمعت منهما كثيرا مما يجري.. وقررت ألا أعود إلى القاهرة.

توجهت إلى صديق لي أسمه محمود عيد وقلت: أنا لا أريد الرجوع إلى القاهرة وأريد أن تجد لي مكانا لا يعرفه أحد أبقى فيه لعدة أيام واشترطت فقط أن يكون به راديو وتليفون كي أبقى على اتصال بما يجري خارج هذا المكان فأخذني لصديق له شقة خاصة بها تليفون وراديو، وأقمت هناك.

وبدأت أجهزة الأمن في البحث عني.

وزكريا محيي الدين بنفسه زار زوجتي وسأل عني وقالت أنها لا تعرف أين أنا والحقيقة أنها كانت تعرف فقد اتصل بها محمود عيد من الإسكندرية وقال لها: الأمانة بتاعتك حالتها كويسة وفهمت ومر الأمر ببساطة فلم تكن تسجيلات التليفونات تستخدم بعد.د

ومن هذه الشقة بدأت أتصل تليفونينا بالكثيرين وكل من أتصل به يبلغني أن الزملاء يبحثون عني وأنهم ذهبوا لبيوت ابن عمي وكل أقاربي وأصدقائي وسافر حسن إبراهيم إلى الإسكندرية ليبحث عني بنفسه وكانوا فقط يريدون توقيعي على سحب القرارات الديمقراطية ولم أكن مستعدا للتوقيع مهما كان الثمن.

وكنت في هذه الشقة ومعي أداتان للاتصال بالخارج: الراديو الذي بدأ يذيع أخبار الاعتصامات والمظاهرات وبرقيات التأييد للثورة من النقابات والهيئات والتليفون الذي اتصل عن طريقه بالأصدقاء. قال لي حمروش عندما اتصلت به: عبد الناصر اتصل بي وطلب مني أن أقوم شخصيا بالبحث عنك وتلقيت بالتليفون أبناء مظاهرات الجامعة التي نظمها الطلبة اليساريون والوفديون دفاعا عن قرارات 5 مارس ومطالبين بعودة الديمقراطية والأحزاب.

وفي حشد صاخب من طلبة كلية الحقوق جامعة القاهرة وقف شقيقي عمرو محيي الدين ليلقى خطابا ناريا اتهم فيه مجلس الثورة بأنه قتلني وصاح عاليا: أين شقيقي أين خالد محيي الدين؟ وهاجت الجامعة ولم يكن عمرو يعرف أنني مختف بإرادتي.

وصدر أمر بالقبض على عمرو محيي الدين لكنه اختفى وتعقد الأمر أكثر فأنا مختف وشقيقي يحرك الجامعة بمظاهرات صاخبة ويتهم مجلس الثورة بقتلي ثم يختفي هو الآخر، واشتدت حملة البحث عني وعن عمرو.

ومرة أخرى يزور زكريا محيي الدين زوجتي ليسألها عن مكاني وليبلغها بضرورة أن يسلم عمرو محيي الدين نفسه وقد قبض على عمرو فيما بعد بالمصادفة حيث داهم البوليس بيت أحد الطلاب للقبض عليه فوجد عمرو محيي الدين عنده.

وأخيرا لم يكن هناك مفر أمام الزملاء في مجلس قيادة الثورة من إصدار القرار دون توقيع ووجهت الدعوة لعقد اجتماع مجلس الثورة واعتذر نجيب بأنه مريض فذهبوا جميعا إلى بيته وعقدوا اجتماعهم هناك فقد كانوا بحاجة أيضا إلى توقيعه ووقع نجيب ووقع الجميع على إلغاء القرارات الديمقراطية والرجوع عنها إلا أنا سمعت القرارات في الراديو، فارتديت ملابسي وغادرت الشقة وركبت الأتوبيس المتجه إلى القاهرة.

وصلت إلى بيتي وبعدها بأقل من ساعة جاء زكريا محيي الدين وسألني بطبيعة الحال: أين كنت؟ وقلت له إنني لم أشأ أن أحضر ليفرض علي التوقيع على ما يخالف ضميري وأنني قررت الاستقالة من مجلس الثورة فقال: على أية حال جمال عبد الناصر عايز يشوفك فقلت: أقابله بكره.

وجلست لأكتب استقالتي من مجلس قيادة الثورة.

كانت لحظات غريبة استعدت فيها دون إرادتي شريط ذكريات طويلة..طويلة. أنا وزملائي كيف عملنا معا كيف تعاهدنا ذكرياتنا المشتركة أحلامنا المشتركة رحلتنا من البداية الإخوان المسلمون الجهاز السري الشيوعيون المجموعة الأولى للأحرار الاجتماع الأول، المنشور الأول، ليلة الثورة، سيل الذكريات الدافق لا يتوقف ولم يكن بإمكانه أن يتوقف في لحظة حاسمة كهذه لكنني كنت مرتاح الضمير، فلم أفعل ما يخالف ضميري بل تمسكت بما اعتقدت أنه صواب وأنه في صالح الوطن وفي صالح الشعب وأيا في صالح الثورة.

كنت وحتى هذه اللحظة متمسكا بموقفي الثابت: الحفاظ على الثورة عبر مسار ديمقراطي وكنت أعتقد أن هذا هو الطريق الصائب.

وتدافعت أمام عيني صورة الجماهير التي خلطت بين الدفاع عن الثورة وبين العداء للديمقراطية ولم أستشعر أي قدر من اللوم إزاءها فربما كنت أنا المخطئ لأنني لم أكن قادرا على توضيح موقفي بما يكفي ولكن كيف أوضح موقفي وكل ما هو متاح لي هو أن أعارض في غرفة مجلس قيادة الثورة المغلقة بينما الزملاء يسيطرون على كل أجهزة الإعلام.

وتزاحمت أمام عيني صور زملائي ضباط الفرسان، كنت أكبر فيهم رجولتهم الشامخة وصلابتهم في الدفاع عن الديمقراطية رغم كونهم أصحاب سلطة وأن بإمكانهم أن ينالوا المزيد فقط لو قالوا لا للديمقراطية ورغم أنهم سيفقدون الحظوة التي منحت للكثيرين فيما بعد ومعها المنصب والجاه والسلطان وكيف أعرف أنه تستقر الأمور وسوف ينكل بهم وقد حدث ما توقعت فيما أن استقرت الأحوال حتى تمت تصفية الحسابات مع كل من حاول الوقوف في وجه محاولة الارتداد عن القرارات الديمقراطية: الصحفيون جري فصل العديد منهم، الطلاب اعتقل منهم الكثيرون، أساتذة الجامعات شرد العديد منهم، أما ضباط الفرسان فقد كان لهم النصيب الأكبر من الاضطهاد.

وبينما شريط الذكريات يتداع في هدوء وكبرياء أتى لزيارتي زوج شقيقي د. سيد طه عبد البر وجلسنا معنا لنكتب استقالتي ولعلي كنت أتسعين به كي أتباعد عن تلك الصورة المتدافعة والمليئة بالحنين والشجن وأعددت الاستقالة.

زرت عبد الناصر يوم 2 أبريل قطعت الطريق إلى بيته سيرا على الأقدام فقد كنا جيرانا استقبلني عبد الناصر مرحبا كعادته وسألني: ناوي تعمل أيه؟

فقلت: أنا سأقدم استقالتي من مجلس الثورة.. فقال: وبعدين قلت: مش لما تقبلوها فقال ببساطة: اعتبرها قبلت قلت: سأبقى ولن أعود للجيش فقال: لا ثم أضاف: اسمع يا خالد، احنا أصدقاء لكن المصلحة العامة حاجة تانية وأنت عارف إنك زي العسل وسوف يتجمع حولك كل الذباب وتبقى مشكلة ونتصادم وأنا لا أحب أبدا أن أتصادم معك وأنا أفضل أنك تسافر للخارج فقلت: أسافر إلى باريس فقال: باريس لا باريس فيها حركة سياسية يسارية نشيطة وسوف تدفعك للانغماس فيها وأنا أفضل أن تكون في مكان هادئ.

وقال: على أية حال هناك بعثة مسافرة من مجلس تنمية الإنتاج القويم إلى فرنسا وإيطاليا فأنت تسافر معها وبعد انتهاء الزيارة الرسمية نتصل مع بعض ونتفق على مكان استقرارك ووافقت.

وطلب عبد الناصر مني طلبين.

• أولهما: ألا أخبر أحدا غير زوجتي بأنني لن أعود. حتى أبي وأمي وإخوتي، فقد كان حريصا على ألا يثير سفري أية قلاقل في سلاح الفرسان أو في أي مكان آخر حتى تستقر الأمور.

• وثانيهما: ألا أهاجم النظام وأنا في الخارج.

فقلت: أوافق بشرط ألا تهاجموني ووافق عبد الناصر.

وقد التزمت بالاتفاق الأول، ولم يعرف بقرار إبعادي عن مصر إلا زوجتي وعندما جاءت لتودعني بالمطار ودعتني بحرارة فقال أحد الواقفين: يبدوا أنه لن يعود.

أما الاتفاق الثاني فرغم أني التزم به أيضا فقد بدأ أنور السادات في شحن حملة صحفية ضدي في جريدة الجمهورية واصفا إياي (بالصاغ الأحمر) واتصلت بالقاهرة منبها إلى أن هذا خروج عن الاتفاق وبالفعل أبلغوني أن قرار قد صدر بإيقاف هذه المقالات.

المهم سلمت عبد الناصر الاستقالة..

ويذكر عبد اللطيف بغدادي في مذكراته أن جمال عرضها على الزملاء في اجتماع لمجلس الثورة يوم 4 أبريل ويقول في المذكرات: انتظر جمال حتى نهاية الجلسة ثم عرض الموافقة على قبول استقالة خالد محيي الدين من عضوية مجلس قيادة الثورة التي كان قد تقدم بها في اجتماع سابق.

والحقيقة أنني لم أتقدم بأي استقالة في اجتماع سابق ووافق الزملاء سريعا فقد كانوا يتصورون أنه كان يتعين علي أن أحضر لأوافق معهم على إلغاء القرارات الديمقراطية وأن أتحمل المسئولية معهم.

المهم تقرر قبول الاستقالة على ألا تعلن وأن يسافر خالد محيي الدين يوم الثلاثاء التالي إلى الخارج مع بعثة مجلس تنمية الإنتاج القومي وألا يعود مع البعثة وأن يبقى بالخارج حتى تهدأ الأوضاع.

واتصل بي محمد نجيب قائلا: لا تضايق نفسك روح استريح وإن شاء الله ترجع بالسلامة.

أما بقية الزملاء فقد لزموا جانب الصمت ولم يتصل أحد منهم بي.

وعدت إلى البيت لأستعد للسفر.

وما أقسى أن تستعد لسفر لا تعرف متى تعود منه، وما أقسى أن تضطر إلى مغادرة وطنك أرض بلادك من أجل خصومة سياسية مع زملاء أحببتهم وعشت معهم أجمل ساعات النضال المشترك. والحقيقة أنني لم أسمع لخصومة مع أي من زملائي لقد كنت واضحا معهم صريحا مؤكدا على الدوام تمسكي بالديمقراطية وإصراري على أنها المخرج وأحمد الله أنه لم يكن خلافا شخصيا ولا بحثا عن مغنم أو منصب بل ضحيت من أجله بكل شيء.

ولعل من الضروري أن أوضح أن بعض الزملاء إذ وقفوا ضد الديمقراطية كانوا يعتقدون أنهم يخدمون القضية الوطنية، وكثيرا ما أكد هذا البعض المهم هو أن نطرد المستعمر أولا ثم نبحث موضوع الديمقراطية بينما كنت أعتقد أن الديمقراطية يمكنها أن تعبئ الجماهير في مواجهة الأعداء، لكنهم كانوا يرون أن الديمقراطية ستفتح الباب أمام العدو الأجنبي كي يتسلل إلى صفوف الأحزاب ويضرب الوحدة الوطنية وتمسكت أنا بأن الديمقراطية هي أفضل ضمان لحماية أي حكم من الخضوع للضغط الخارجي.

باختصار كان الخلاف بيننا حقيقا لكنني قررت أننا لم نكن نتصارع على شيء شخصي أو مصلحة شخصية ولعلي ممن يقررون دوما أن مصر بلد حسن الحظ لأن الله قد هيأ لها هذه المجموعة من الضباط الذين مارسوا خلافاتهم فيما بينهم بطريقة غير دموية فلو أن أحدا مارس التصفية لمخالفيه في الرأي لسرت العدوى ولتحولت مصر إلى بلد لا يطاق ولانهارت قيم عديدة ظللنا جميعا نحن أبناء تنظيم الضباط الأحرار متمسكين بها حتى النهاية.

وتداعت أمام ناظري أسئلة عديدة.

كنت أمتلك وجهة نظر مختلفة لكنني لم أحاول أن أحشد قوى كافية لتأييد هذه الفكرة وسألت نفسي: هل أخطأ في ذلك؟ وبضمير مستريح قررت أنني لست من هؤلاء الذين ينسجون المؤامرات ضد زملائهم وأنني كنت أعبر عن وجهة نظري في المجلس وأعرب عن ذات وجهة النظر في بعض المقالات صحيح أن هذه المقالات لم تكن كافية ولم يكن من الممكن أن تعادل فيض الإعلام الموجه الذي سيطر عليه صلاح سالم ووجهه لصلاح وجهة النظر الأخرى لكنني لم أشعر مطلقا أنه من الممكن بالنسبة لي أن أقوم باتصالات سرية من خلف ظهر الزملاء مع حزب الوفد مثلا أو مع الشيوعيين فقد كنت أعتبر أنني ملتزم مع زملائي بالدفاع عن الثورة وعن استمرارها وأن نقطة الخلاف هي فقط حول المسار الديمقراطي.

وأدركت أن معركتي كانت منذ البداية غير مؤهلة للنجاح.

فأنا أعارض وأتشدد في التمسك بوجهة نظري في غرفة مغلقة وهم يمتلكون السلطة والإعلام والمال والاتصال والأمن والمخابرات والتنظيم السياسي والوحيد المسموح به. إلخ.

وأنا أتمسك بالديمقراطية بينما الرأي العام ضعيف وقطاع كبير منه مضلل بنظرية إما الثورة وإما الديمقراطية وقطاع منهم أيضا كان يخشى على مكتسباته الاجتماعية التي حصل عليها بفضل الثورة.

كذلك فإن الصحافة الليبرالية قد لعبت دورا خطيرا كما أكدت من قبل في إرباك الأمور وفي شحن ضباط الجيش بالمخاوف من الديمقراطية.

والحقيقة أن أحداث مارس قد أثمرت نتائج مصيرية فلعلها أقنعت الإخوة في مجلس الثورة وإلى أمد طويل بضرورة التمسك بنظرية (إما..إما) ولعلها أقنعتهم بإمكان شحن الجماهير وتحريكها في الاتجاه الذي يريدون عبر قنوات الإعلام والعلاقات السياسية والاتصالات غير المرئية ولعلها أقنعتهم بأهمية استثمار ثقة الجماهير ومحبتها للثورة وتمسكها بها في توجيهها نحو المسار الذي يريدون خاصة مع تقديم بعض الإصلاحات الاجتماعية التي تؤكد ثقة الجماهير بهم وتعني في الوقت نفسه عن الديمقراطية وتمكنهم من التخلص من تبعاتها.

وعندما قال لي جمال عبد الناصر: اعتبر أن استقالتك مقبولة، كان يضع خطا فاصلا بيني وبين الزملاء فلو أنه دعاني لاجتماع مع المجلس وتناقشنا كنت سأتمسك بوجهة نظري وسأحتفظ بها وأواصل النضال من أجلها في صفوفهم كما اعتدنا من قبل لكن الزملاء كانوا قد حسموا أمرهم وقرروا إما أن أكون معهم في كل ما يرون وكل ما يقولون وإما أن أبعد كانوا قد قرروا وبشكل حاسم التباعد عن لعبة الديمقراطية وأن ينفردوا بالحكم وبالتصرف وهو ما كانوا يعلمون أنني سأرفضه قطعا.

وكان عبد الناصر هو أكثر من يعرف أنني لست ذلك الرجل الذي يتنازل عن مبدئه ومواقفه مقابل الاستمرار في سلطة أو جاه أو منصب.

صحيح أنني خضت معركة غير متكافئة فرد واحد في مواجهة جهاز الدولة بأكمله فرد واحد لم يكن يريد أن يستقوي بأحد حتى لا يضر بموقف زملاء يحبهم وثورة عاش حياته يحلم بها لكنها كانت في اعتقادي معركة ضرورية فهل لإنسان أن يزهو أمام الناس بغير موقف ثابت لصالح الوطن والشعب والثورة؟

وباختصار لم أشعر ولو للحظة واحدة بذرة واحدة من الندم وأنا أخلع عني ثياب سلطة السيادة وأصبح إنسانا عاديا يستعد كي يحرم حتى من البقاء في أرض وطنه..

كانت زوجتي حزينة ليست بسبب المنصب فقد اعتادت أن تحتمل معي ما يفرضه علي موقفي من نتائج ولكن لأننا سنفرق.

لم تشعر هي أيضا بأي حزن عندما تحولت من زوجة لمسئول إلى زوجة لمواطن مبعد عن بلده، كان يعوضها عن ذلك أنها تشعر بمحبة الكثيرون لي، واحترامهم لموقفي.

وعلى أية حال حزمت حقائبي لأستعد للسفر وكل يقين أنني فعلت ما هو واجب وما هو ضروري.


الفصل الثالث والعشرون: قبل الرحيل شريط من الذكريات.

- بدلا من الديمقراطية اتجه عبد الناصر للفقراء.

- عبد الناصر (قائد) وعامر (عمدة)

- عرف السادات اتجاه الريح، فاتجه معه.


عدت إلى بيتي بعد أن قابلت عبد الناصر الآن وبعد كل ما كان تفرقت السبل، ولا مكان لي وسط الزملاء الذين عملنا معا طوال أحلى سنوات النضال وأجمل سنوات النضال وأجمل سنوات العمر.

هل تعرف معنى أن تحزم حقائبك وأنت تدري أن العودة بعيدة وغير منظورة؟ هل تدري معنى أن تسهم مع زملاء أحببتهم وخضت معهم كل مناطق الخطر والمخاطرة من أجل الوطن والشعب ثم تكتشف أن السبيل يجب أن تتفرق؟

هل يمكنك أن تتخيل مغزى أن تسهم ف نسيج عمل عظيم كثورة يوليو ثم تكتشف أنك مختلف مع أقرب الناس إلى قلبك؟ وأن الحدث العظيم يفرض عليك أن تحميه بأن تمتنع وأن تمنع مؤيديك من التصادم حفاظا على الوطن وعلى الثورة؟

كانت اللحظات صعبة ومريرة لكنني لم أكن حزينا ولا نادما.

عن طيب خاطر تقبلت أن أتخلى عن موقعي في أعلى سلطة.. سلطة السيادة، فالموقف والمبدأ يستحقان أن يتمسك بهما الإنسان حتى ولو تخلى عن أي سلطان.

أخبرت زوجتي بحديثي ومع عبد الناصر واتفقت معها أن نلتزم بما تعهدنا به وهو ألا نخبر أحدا بأن رحيلي إلى المنفى وليس كما سيعلن على رأس وفد لمجلس الإنتاج القومي.

دخلت إلى غرفة النوم انفردت بنفسي طويلا وضعت رأسي بأكمله بين يدي واستطالت الجلسة كانت محاولة لاستعادة كل ما كان.

وكان أكثر ما يشغل بالي هو إخوتي في سلاح الفرسان كانوا رجالا بحق أسهموا بقدر لا ينكره أحد في تشكيل الضباط الأحرار وبقدر أكبر من ليلة الثورة لكنهم تمسكوا بالديمقراطية لم يكونوا ضد استمرار الثورة ولكن كانوا مع الديمقراطية اختلفوا بشرف وتمسكوا بموقفهم برجولة تستحق الاحترام ليس مني وحدي وإنما من مصر كلها تقدمه لهم ليس في الماضي فقط وإنما في الحاضر والمستقبل أيضا

فلو أنهم يتصرفوا بكامل الإحساس بالمسئولية لا نفجر الجيش بصدامات ربما خطت في تاريخ مصر تقاليد رديئة.

وهم لم يسعوا إلى مغنم شخصي ولو سعوا إليه لنالوا ما أرادوا وبسهولة ويسر ولأخذوا أكثر مما أخذ الآخرون.

ولست أستطيع لا الآن في المستقبل أن أفي هؤلاء الرجال حقهم: توفيق عبده إسماعيل أحمد المصري أحمد حمودة، بهاء الحيني، محمود حجازي، فاروق الأنصاري، حسن الدمنهوري، سامي ترك، صبري القاضي، محمد إبراهيم عطية، [[مصطفى حمزة، [[سعد حمزة، حسن إبراهيم حسانين.. وغيرهم كثيرون وليعذرني إخوتي أبطال الفرسان إذا كانت الذاكرة قد تخلت عني فنسيت اسما أو أكثر والحقيقة أن العلاقة بيني وبين رجال الفرسان تظل دوما مكتسية برداء خاص، ومهما اختلفت مواقفنا الآن، فإننا نظل أقرب إلى بعضنا البعض من الآخرين.

فتوفيق عبده إسماعيل ضابط الفرسان الشجاع هو الآن عضو مجلس الشعب عن الحزب الوطني، ولكن عندما نجلس معا في مجلس الشعب يسري بيننا من حب ومودة ما لا يسرى بين الآخرين.

وبعد سفري إلى الخارج تعرض رجال الفرسان لعنت شديد، وحدث ما أسمى بانقلاب الفرسان حيث قبض على أحمد المصري وعدد من ضباط الفرسان وحوكموا.

أما حسين الشافعي فقد عين وزيرا للحربية وعين ضابط محترف لا علاقة له بالضباط الأحرار هو عبد العزيز مصطفى قائدا للفرسان وبدأت على يديه عملية إخلاء سلاح الفرسان من (الضباط الأحرار) وكان عبد العزيز مصطفى واحد من رجال عبد الحكيم عامر، وقد قام بعملية إبعاد شاملة لكل أبناء يوليو من صفو السلاح.

ولعله من حقي أن أعتقد أن معركتنا من أجل الديمقراطية قد دفعت عبد الناصر إلى محاولة التحصن بالجماهير .. وخاصة العمال والفلاحين.

ففي مواجهة شعارات الديمقراطية برزت شعارات مخاطر العودة إلى ما قبل يوليو، وإنهاء الثورة وكان لابد من حشد قوي اجتماعية يحتمي بها عبد الناصر في مواجهته مع القوى المسيسة التي تنادي بالانتخابات والديمقراطية.

لكن الاقتراب من الجماهير يتطلب عملا متجها لتحقيق مصالحها أو على الأقل البعض من هذه المصالح وهكذا كان الإصلاح الزراعي ثم كانت النهضة الاجتماعية التي كرست من أجلها الأ/ال المصادرة من أسرة محمد علي، حيث تم بناء مدرسة ووحدة صحية ووحدة اجتماعية في كل قرية كانت مصر في ذلك الحين تبنى مدرسة في كل يوم، وتبنى وحدات صحية على امتداد ريف مصر كله، ورفع في ذلك الحين شعار الإشتراكية، الديمقراطية، التعاونية).

وقد منح ذلك كله عبد الناصر شعبية كبيرة مكنته من أن يستمر في طريقه الخاص في معالجة قضايا الديمقراطية والحريات مستندا إلى هذه الشعبية التي ما لبثت أن تضاعفت بصورة لم يكن يتوقعها أحد عندما رفض عبد الناصر حلف بغدادي وخاض معركة واسعة ضده.

وباختصار كان الفلاح يشعر أنه قد تحرر فعلا من ظلم الإقطاع والعمدة ولم يكن مستعدا للاعتقاد بأن حريته قد انتقصت بوجود الثورة، ولعل هذا هو جوهر الفكرة التي ظل عبد الناصر يتمسك بها طويلا والتي احتلت مساحة واسعة من ميثاق العمل الوطني وفي فكرة الديمقراطية الاجتماعية.

كذلك صاحبت هذه الفترة عملية تنوير وطبع ونشر وإصدار كتب ثم تلاها نهوض مسرحي وفني إلخ أي أن الثورة أخذت على عاتقها عملية تنوير منضبطة ومحكومة أو بالدقة يجري التحكم فيها من أعلى وبصورة شاملة ومتقنة ولعلنا إذا حاولنا أن تقدم وصفا دقيقا لما حدث لقلنا إنه نوع خاص جدا من (الديمقراطية الموجهة) أو إن شئنا الدقة: عملية تحقيق للأماني القومية على حساب الليبرالية والديمقراطية الحقة.

فعندما بدأنا أولى خطواتنا لتشكيل الخلية الأولى للضباط الأحرار كنا نحلم بمصر وقد تخلصت من الملك ومن الإقطاع ومن الاحتلال ومن الاستغلال كنا نحلم بها وهي تتمتع بقدر من العدالة الاجتماعية وبمساحة واسعة من الحرية ومن الاستغلال كنا نحلم بها وهي تتمتع بقدر من العدالة الاجتماعية وبمساحة واسعة من الحرية والديمقراطية وقد نجح عبد الناصر في أن يحقق لها كل ما حلمنا به من أجلها باستثناء المساحة الواسعة من الديمقراطية بل لعله فعل ذلك كله، محاولا افتعال تناقض بينه وبين الديمقراطية.

ومهما كان تقييمي لموقف عبد الناصر من الديمقراطية إلا أنني لا أنني لا أنكر، ولعل أحد لا يستطيع أن ينكر أن الشعب بغالبيته العظمى قد ساند عبد الناصر ومنجزاته ولم يتوقف كثيرا لفترة معينة على الأقل عند مسألة الديمقراطية.

ولعل هذا يفسر لك عزيزي القارئ صعوبة موقفي وأنا أتمسك بالديمقراطية في مواجهة كل الزملاء أعضاء مجلس الثورة وصعوبة موقف إخواتي ضباط الفرسان الذين خاضوا معركة الديمقراطية وضحوا من أجلها بالكثير ثم اكتشفوا فيما بعد أن الجماهير لا تعلق أهمية كبيرة على ما فعلوا ولا حتى على ما تمسكوا به.

وما أصعب أن تتمسك بالمبدأ الصحيح ثم تكشف أنه يبتعد بك عن الناس.

ولكن لعل ضباط الفرسان وموقفهم الشجاع دفاعا عن الديمقراطية وما قدموه في سبيلها من تضحيات هو خير رد على هؤلاء الذين يدعون أن ثورة يوليو كانت بمجملها ضد الديمقراطية فهاكم رجال عسكريون، صنعوا ثورة وكان بإمكانهم أن يصعدوا في سلم السلطة ما شاء لهم الصعود، لكنهم زهدوا في كل شيء وتمسكوا بالديمقراطية وعانوا بسبب ذلك معاناة استمرت طويلا وربما استمرت طوال حياتي.

استطالت جلستي المنفردة واستعدت ذكرياتي مع كل هؤلاء الرجال الذين زاملتهم منذ البداية في طريق صناعة الثورة.

ولعلك عزيزي القارئ تمتلك كل الحق أن تعرف رؤيتي وتقييمي الشخصي لكل واحد منهم. تقييم أكتبه الآن هادئا مطمئنا إلى أنني فعلت منذ البداية ما اعتقدت أنه صواب، وما اعتقدت أنه في صالح الوطن وأنهم فعلوا ذات الشيء، وأن الاختلاف الذي أدى إلى الافتراق إنما نبع من اختلاف الرؤية والموقف والاجتهاد.

لكن أهم ما أريد أن أسجله أولا هو أن مصر كانت حسنة الحظ بهؤلاء الرجال فقد كانوا يمتلكون قدرا كافيا من إنكار الذات، مكنهم من أن يتباعدوا عن أي تفكير في الانقضاض على بعض البعض ومن ثم الانقضاض على الثورة بل وعلى مصر نفسها.

ولعلنا جميعا نحن نفكر الآن بهدوء نستعيد حقيقة أن هؤلاء الضباط لم يسيلوا قطرة دم واحدة في تصادم على السلطة في بلادهم ثم بدأوا صراعات دامية عندما أراد كل منهم أن ينفرد بالسلطان والنفوذ.

وحتى عندما وقف رجال الفرسان في المواجهة مع الآخرين مطالبين بالديمقراطية وحتى عندما حاصرتهم قوات المدفعية والمشاة وحلقت فوق الجميع مخاطر الصدام بين الإخوة، تراجع الجميع لا خشية على أنفسهم وإنما خشية على مصير الثورة من أن تبلله الدماء، وعلى مستقبل مصر التي أحببناها جمعيا ربما بنفس القدر.

والآن هل أتحدث عن إخوة العمل المشترك أعضاء مجلس الثورة.

سأحاول قدر طاقتي أن أقدم تقييما للتاريخ لا تعبث به الأهواء فأنا لم أزل كما كنت لحظة جلوسي المنفرد قبل ذهابي إلى المنفى لم أزل لا أحمل لهم إلا كل حب. وإعزاز.

منذ اللحظات الأولى أحسست أنه شخصية قيادية حتى ونحن شبان صغار يفرض على الجميع وضعه القيادي وكان رجلا بعيد النظر لا يخطو خطوة إلا بعد حساب دقيق ليس فقط ليس فقط لتداعياتها وإنما أيضا لمستقبل هذه التداعيات.

ولعلى لست بحاجة إلى أن أستعيد أمثلة عديدة تجسد طبيعة وأسلوب هذا الرجل لكنني سأورد واقعة واحدة كنموذج اغتيال الضابط عبد القادر طه ، وأحسسنا جميعا أن رجال الملك هم الذين فعلوها لكنه هو وحده الذي استشعر الخطر المستقبلي فإذا كانوا قد فعلوها مع عبد القادر طه فلماذا لا يفعلونها مع أي منا؟ وبادر جمال على الفور بالمرور على كل أعضاء لجنة القيادة في بيوتهم ليحذرهم من احتمالات الخطر وليرسم مع كل منا وسائل تأمين لتحركاته ولحماية منزله إنه الإحساس بالمسئولية إزاء الآخرين وإزاء العمل المشترك الذي يجعلك تتقبل في أعماقك أن يكون صاحبه قائدا.

وفي البداية كان عبد الناصر يرفض فكرة الإشتراكية وفي جلسات نقاش طويلة كان يتمسك بفكرة تقول إن الصراع الطبقي هو مجرد قول يستهدف التغطية على صراع آخر حقيقي هو الصراع على السلطة لكن معركة عبد الناصر ضد إصرارنا على الديمقراطية قادته باتجاه آخر نحو استرضاء العمال والفلاحين فمضى في اتجاه الإشتراكية خطوة خطوة.

وكان عبد الناصر قارئا ممتازا سواء قبل الثورة أو بعدها وحتى بعد أن أصبح حاكما متعدد المسئوليات كان يولي مسألة المعرفة اهتماما خاصا.

وكان هناك جهاز خاص مهمته أن يلخص له الكتب الهامة وأن يترجم له العديد من الكتب والمجلات والصحف.

وحتى وأنا أستعد للسفر إلى المنفي وفيما العلاقة مشحونة بالتوتر برغم محاولات الهدوء التي أبداها كل منا طلب مني أن أرسل له كل ما أعتقد أنه مفيد من كتب ومجلات.

ولعل شغفه بالمعرفة هو الذي جعله يهتم بمسألة المعلومات وكان عبد الناصر لا يتخذ أي قرار إلا بناء على معلومات وربما كان عبد الناصر يهتم دوما بالمعلومات ليس فقط من أجل تحقيق إمكانية اتخاذ قرار صحيح وإنما من أجل التعرف على كل من يتعامل معم تعرفا وثيقا ودقيقا.

فعندما كنت أذهب لمقابلته بعد عودتي من المنفى كنت أشعر أنه يعرف الكثير عن آرائي ومواقفي واتصالاتي وعلمت بعدها أنه لدى أية مقابلة كان يطلب كل ما لدى الجهاز من معلومات عن الشخص الذي سيقابله وتسجيلات آخر مكالماته التليفونية.. إلخ فكان يجلس وضيفه (مكشوف) تماما أو بالدقة (عاد) تماما أمامه ولعله كان يستمتع بذلك كثيرا بحيث تحول الأمر إلى عادة أو رغبة ذاتيه بأكثر مما كان مجرد محاولة لفهم الشخص ونوازعه.

وكان عبد الناصر مستمعا جيدا ينصت باهتمام لما تقول دون مقاطعة ومن حصيلة واستماعه لأكثر من رأي واطلاعه على (المعلومات) كان يتخذ القرار منفردا.

وكانت علاقته بي حميمة دوما فأنا تعاملت معه منذ البداية بوضوح وصراحة وإخلاص وكان يقدر ذلك دوما وعندما بدأت خلافاتنا في مجلس في مجلس قيادة الثورة طلبت أكثر من مرة أن أستقيل لكنه قاوم ذلك بشدة، ودافع عني أكثر من مرة وكان دائم الإلحاح على أعضاء مجلس الثورة أن يفرقوا بين موقفي وموقف محمد نجيب .

ولعل هناك تفسيرات عديدة لإصراره هذا ربما لأنه كان يعلم أنني نقطة توازن هامة بما أملكه من نفوذ في سلاح الفرسان، وربما لأنه كان يعتقد بأهمية موقفي معه في مواجهة بعض الزملاء الآخرين خاصة بمجموعة الطيران وربما لأنه من حيث المبدأ كان ضد إبعاد أي شخص من مجلس الثورة وفي البداية على الأقل حتى نظهر بمظهر الوحدة أمام الناس وقد قاوم بشدة إخراج عبد المنعم أمين ويوسف صديق حرصا على مظهر الوحدة.

كنت دوما أقول له: يا جمال أنا مختلف معكم أنا عايز انتخابات وديمقراطية وأنتم مش عايزين وأنا شايف أنكم متجهين نحو علاقة مع أمريكا وأنا أرفض ذلك فالأفضل أن أنسحب بدلا من تفاقم المشاكل.

وكان دوما يرد: يا خالد أنت صاحب حق ابق معنا ودافع عن وجهة نظرك ثم يقول: فيه زملاء من المجلس يرغبون في أن تخرج فلا تعطيهم هذه الفرصة ولكن عندما حدثت أزمة مارس وعدت من الإسكندرية وقمت بزيارته في بيته وبدأ التعاتب ذكرته بأنه هو الذي ألح علي في أن أبقى عن وجهة نظري فقال: بس مش للدرجة دي.

وكان عبد الناصر حريصا على ألا يتسبب في أية جراح بين أعضاء مجلس قيادة الثورة حتى بعد إبعادهم أو مهما اشتد الخلاف معهم.

وأذكر وهو يسلم علي عقب مقابلتي الأخيرة له قبل سفري للمنفى أنه قال: يا خالد أحنا أصدقاء وما حدث يجب ألا ينعكس على الصداقة ولهذا أرجوك ألا تهاجمنا وأنت بالخارج فقلت: بشرط ألا تهاجموني فقال: اتفقنا.

وقد ظلت العلاقة الشخصية حميمة بيني وبينه دوما وكان الاحترام متبادلا وأذكر أنني بعد عودتي من المنفى أقام عبد الناصر حفل عشاء في بيته وقال: سندعو بعض الزملاء ووجدت هناك صلاح سالم وعبد الحكيم عامر وزكريا وبغدادي.

ومنذ اللحظة الأولى أحسست أن الأمور قد تغيرت كثيرا...

كنا في السابق نناديه (يا جمال) فوجدت الجميع ينادونه (يا ريس) .. وعندما قام عبد الناصر ليذهب إلى دورة المياه وقف الجميع وعندما عاد وقف الجميع حتى جلس وفيما بعد أوضح لي صلاح سالم الأمر فقال: عندما أبعد نجيب وتولى عبد الناصر رئاسة مجلس الوزراء وأصبح الرئيس الفعلي للبلاد طلب هو بنفسه منا أن نعامله كرئيس أمام الآخرين، على أن نبقى علاقات الصداقة والتعامل الأخوي في مقابلاتنا الخاصة، ومضي صلاح سالم قائلا: لكن ما لبثت الأمور أن استقرت على أن نتعامل معه جميعا على أنه رئيس.

وفي اليوم التالي لحفل العشاء تكلمت معه بالتليفون فقلت له يا ريس: فقال إيه ريس دي يا خالد؟ فقلت: والله أنا لقيت كل الأخوة بيقولوا كده فقال: بس أنت حاجة تانية ولكن عندما كلمته مرة ثانية وقلت: يا ريس لم يعترض.

  • والآن انتقل إلى عبد الحكيم عامر، وهو صديق قديم وعزيز أيضا ولعل الخطأ الأول في حق عامر أنه عين قائدا للجيش.

لقد فعلها عبد الناصر لأنهما كان صديقين حميمين فأراد أن يضمن به ولاء القوات المسلحة لكن عامر لم يكن رجلا من هذا النوع هو عمدة طيب القلب يحب أن يقيم علاقات حسنة مع الناس وأن يتباسط معهم وهو لا يهتم كثيرا بالضبط والربط فحياته ذاتها لم تكن منظمة فقد كان يسهر كثيرا ويصحو متأخرا.

لقد ظلموه عندما عينوه قائدا للجيش فهو شخص جماهيري ولو أنه كان قد عين نائبا لرئيس الجمهورية وتفرغ مثلا لهيئة التحرير لكان قد حقق نجاحات مبهرة فهو شخص مرح وطيب وقادر على إقامة علاقات شخصية حميمة.

وآخر ما كان يصلح له هو أن يتولى مسئولية الضبط والربط وأن يتابع عمليات قيادة القوات المسلحة والبالغة التعقيد والحساسية وأن يتابع معها التسليح وتطوير الأسلحة والتدريب وما إلى ذلك.

ولعله لم يهتم بهذا كثيرا بل غلبت عليه روحه الطيبة و شخصية العمدة فكان سخيا على الضباط وكسب حبهم إلى درجة كبيرة، ولكن النتائج النهائية لم تكن مفيدة لأحد لا لمصر ولا للجيش ولا له هو شخصيا.

لكن عامر بدأ بعد فترة يعتاد على أنه الرجل الثاني في النظام ومن هنا بدأ في السعي للمزيد من النفوز في المؤسسة العسكرية بهدف استخدامها كثقل ضروري يحدد خطواته المقبلة وبدأ يقيم في المؤسسة العسكرية بهدف استخدمها كثقل ضروري يحدد خطواته المقبلة وبدأ يقيم علاقات خاصة مع عدد من الوزراء والكتاب وأصبح البعض منهم معروفا بأنه من رجال المشير وقد أثار ذلك حساسيات وتعقيدات كثيرة تفجرت بصورة مفزعة بعد النكسة.

ولعل عامر قد أراد أن ينقل نفوذه من المؤسسة العسكرية إلى المجتمع المدني من خلال هذه العلاقات ولعل هذا يفسر لنا إصراره على أن يتولى مسئولية لجنة تصفية الإقطاع رغم أنه لم يكن أبدا يساريا ولا من أصحاب هذا الموقف.

  • وبعد ذلك اقترب من صديق آخر صلاح سالم، وهو صاحب شخصية ذكية ذكاء فطريا متقدا عاطفي إلى درجة كبيرة ينتقل بعاطفته من النقيض إلى النقيض بسرعة مثيرة للارتباك متفتح واقعي يمتلك موهبة الإقناع بصورة لا يمكن تخيلها.. فهو قادر على أن يقنعك بعشرات الحجج بشيء ما وعلى أن يقنعك بنقيضه بحجج أخرى مضادة ولعل قد أوردت مثالا لذلك هو واقعة محاكمة حيدر باشا والنحاس باشا.

وكان تقبله العاطفي يقتاده إلى تقلب سياسي أيضا فبعد أن فشلت جهوده في السودان من أجل الوحدة وبعد أن استقل السودان قرأ كتابا للينين عن المسألة الوطنية وعن أهمية حق تقرير المصير للشعوب وتأثر جدا بهذا الكتاب إلى درجة أنه فاجأني بعد عودتي من المنفى وبعد إبعاده هو أيضا واختلافه مع عبد الناصر فأجابني قائلا : يا خالد أنا بدأت اقتنع بكلامك وقربت أبقى شيوعي فلما سألته مندهشا لماذا: حكي لي قصة السودان وكتاب لينين وأنه اقتنع أن الضغط على السودانيين من أجل الوحدة كان خطأ وأن لينين كان على صواب عندما أكد أهمية احترام حق تقرير المصير.

والحقيقة أن كل علاقته بالأمر قد وقفت عند حدود قراءته لكتاب واحد.

وقد ظلت عقدة السودان تلاحق صلاح وكان دائما وفي كل جلساته يؤكد أنه حقق كل ما هو مطلوب منه لكن الدولة لم تسانده بل وإن بعض رجالها كانوا يعملون ضده.

وقد أكد لي أكثر من مرة أنه أول من فتح موضوع شراء الأسلحة مع شواين لاي الذي نصحه بأن يناقش الأمر مع السوفيت.

وباختصار كان صلاح سالم – رحمه الله- رجل علاقات عامة ناجحا ولهذا فقد كان اختياره لمسؤلية الإعلام اختيارا موفقا.

  • وآتى إلى جمال سالم وكان شخصية مسيطرة يفرض نفسه ووجوده على الآخرين ولعلنا نذكر كيف فرض نفسه عضوا (بلجنة القيادة) بأن حضر مع بغدادي دون اتفاق مع أحد.

وكان رجلا حادا كالسيف ونشيطا وفاعلا وذكيا فعندما تولى مسئولية الاقتصاد درس وتمكن ولعب دورا فاعلا لكنه كان من دعاة المدرسة الرأسمالية لهذا ما لبث أن اختلف مع الاتجاه السائد عندما بدأ الريح تتجه نحو تأسيس المؤسسة الاقتصادية والمشاريع العامة.

وكان جمال سالم ضد الديمقراطية بوضوح وكان عسكريا متشددا وكان جافا وأكسبه ذلك كله موقفا ضد الديمقراطية ونزوعا نحو التحكم واعتداد زائد عن الحد بالذات وفي بداية الأمر كان يتصادم كثيرا مع عبد الناصر ثم أقنعته الأحداث بأن يتفاهم معه ويبقى بعد ذلك أنه كثيرا ما كان يفقد أعصابه لدى أي نقاش وسرعان ما يثور ويتحول إلى الشتائم فإذا لم توقفه تمادى إلى حدود غير معقولة

  • وهناك أيضا يوسف صديق والحقيقة أن علاقتي به قبل الثورة كانت محدودة للغاية وهو رجل شجاع اكتسب بشجاعته واستقامته احترام الجميع وهو صاحب الدور البارز ليلة الثورة وهو فوق كونه عسكريا شديد المراس كان أديبا وخطيبا وشاعر ويمتلك روح فارس من فرسان العصور الوسطى ولعل روح الفارس هذه هي التي دفعته إلى التصادم المبكر مع مجلس الثورة فكان يطرح أفكارا حادة، وحاسمة وقاطعة كحد السيف ولا يقبل أي مساومة حولها.

وكان ينزل إلى حدات الجيش ليعقد اجتماعات يتحدث فيها وبذات الحدة والحسم معلنا خلافاته مع مجلس الثورة مما أثار كل أعضاء المجلس ضده.

ولعل هذه المسئولية على عاتق منظمة (حدتو ) فقد كان عضوا بها ولعل بعض مسئوليها تصوروا أن هذا هو الطريق الصائب وحتى لو لم يكن هذا موقفهم فقد كان من الطبيعي أن يحاولوا وبشيء من الهدوء المتعقل والمتطلع إلى المستقبل حماية موقعه في مجلس الثورة لفترة أطول.

وعندما تحتم أن يخرج عبد المنعم أمين من المجلس بعد أحداث المدفعية كانت الفرصة سانحة لإبعاد يوسف صديق بإباء يليق بفروسيته المعهودة أي منصب عرض عليه.

أما زكريا محيي الدين فهو رجل متزن هادئ مرتب سواء في حياته الخاصة أو العامة منظم في بيته وفي حياته الخاصة وفي عمله إنه النموذج المطلوب لرجل الأمن الناجح وزكريا لا يتخذ موقفا ولا يبدي رأيا إلا إذا جمع معلومات وبيانات من مختلف الجهات ومرة أخرى تتفق هذه الميزة مع متطلبات عمل رجل الأمن.

وهو رجل كفء ونزيه ولا يجامل أحدا وقد حقق نجاحات كبيرة في كل عمل تولاه ولكنه تصادم مع عبد الناصر بعد أن أصبح رئيسا للوزراء لأنه كان من أنصار المشروع الخاص ومن أصحاب الرأي القائل بأن الطبقة الوسطى هي الطبقة الأكثر أهمية والأكثر قدرة على البناء ولهذا رفض أن يلقى العبء على الطبقة الوسطى واختلف مع عبد الناصر.

ويمكن القول بأن زكريا هو ممثل الطبقة الوسطى في هذه المجموعة.

وفي البداية كان زكريا ضد الديمقراطية لكنه عاد وبعد التجربة الطويلة إلى الاقتناع بالديمقراطية وزكريا رجل لا يعرف المحسوبية ولا يقبلها وهو رجل إذا وعد يفي بوعده مهما كان الثمن.

  • أما عبد اللطيف بغدادي فهو صاحب عقلية سياسية مرتبة ورؤية واضحة وكان منذ البداية ضد عودة الحياة النيابية قائلا: نحن ثوار ولن نستطيع لا احتمال ولا مواجهة برلمان منتخب من الشعب ويمتلك بغدادي مقدرة تنظيمية وإدارية وتنفيذية فائقة وقد تلوى مسئولية التخطيط فاستطاع بعقله المرتب أن يضع لمصر أول خطة وأن يقيم لمصر عديدا من المشروعات الهامة.

وقد أدهشني بغدادي عندما دافع عني عام 1954 ورفض بشدة مسألة إبعادي قائلا: إن خالد لم يخف عنا موقفه المخالف وقد تعامل معنا بشرف ولم يتآمر ضدنا ولم يخف عنا شيئا بل لقد طلب الانسحاب ونحن أجبرناه على البقاء فلماذا نبعده الآن؟ وطلب أن أبتعد قليلا حتى تهدأ العاصفة ثم أعود.

وبغدادي رجل معتد بنفسه ولهذا فعندما كان رئيسا لمجلس الأمة وأثيرت مسألة تفويض عبد الناصر في اتخاذ قرارات نيابية عن مجلس قيادة الثورة في حالة غياب المجلس.

وقد ناقشني طويلا في ذلك وكان ردي عليه: أنت يا عبد اللطيف ترفض الديمقراطية وترفض الانتخابات وترى أن تسعة أشخاص يجب أن ينوبوا عن كل الشعب بملايينه الثلاثة والعشرين فلماذا لا ينوب شخص واحد عن تسعة أشخاص، وقلت له: لقد قبلت وتحمست للخطأ الأكبر فلماذا لا تقبل تداعياته؟ لكنه ظل متمسكا برأيه في الحالين.

  • وانتقل بعد ذلك إلى كمال الدين حسين وهو كتلة من الإخلاص للوطن وللإسلام لكن إسلامه إسلام غير متطرف ولا يقبل بمقولات جماعات الإسلام السياسية وهو شخصية وطنية بمعنى الكلمة ويمتلك فاعلية كبيرة في العمل وقد أتى زمن كان يدير فيه أعمالا متعددة وقد أدراها بكفاءة ونجاح ولقد يختلف معك كمال الدين حسين اختلافا حادا لكنه يدير خلافاته باحترام ومودة وهو يتناسى هذه الخلافات فورأن إذا ما أحس أن الأمر قد يمس قضية الوطن.
  • أما حسين الشافعي فهو رجل فاضل بحق وعلى خلق قويم، وهو رجل مستقيم ولقد لعب دورا هاما ليلة الثورة بل هو فارس ليلة 23 يوليو سنة 1952 ولعل الأحداث وتداعياتها قد نقلت عنه صورة غير صحيحة في أعين الكثيرين ممن لا يعرفونه، فهو رجل شجاع هادئ إذا قرر شيئا فعله بنجاح ولولاه لا استطعنا في ليلة الثورة أن نحرك كل هذا القدر من سلاح الفرسان..


فأنا كنت قائد ثاني كتيبة أما هو فقد كان قائد ثاني الآلاي المدرع، وكان وجوده في السلاح ليلة الثورة قوة دفع كبيرة جدا لنا جميعا.

وفوق هذا فهو رجل حاسم حازم، أحس أن حسن حشمت قد يخيف البعض ويمنع تحركهم فاعتقله وهذه شجاعة لا شك فيها.

وحسين الشافعي رجل مرتب الفكر هادئ التفكير قادر على الفعل الحاسم عندما يريد.

  • أما حسن إبراهيم: فيمتاز بالشجاعة والقدرة على المواجهة والصراحة الشديدة وكان ينتقد الخطأ في مواجهة أصحابه وكثيرا ما أنصب انتقاده على عبد الناصر شخصيا وكان حريصا حرضا شديدا على وحدة مجلس الثورة حتى على حساب الموقف السياسي.
  • وهناك كذلك عبد المنعم أمين ولقد انضم إلينا في وقت متأخر فقد كان أهم ضابطين لنا ف المدفعية كمال الدين حسين وصلاح سالم يعملان بعيدا عن القاهرة وفيما نحن نستعد للثورة كان لابد من ضابط يضمن لنا تحرك بعض قوات المدفعية وفوتح عبد المنعم أمين في الانضمام إلينا قبل الثورة بأيام ووافق وقاد تحرك المدفعية ليلة الثورة وكان من الطبيعي أن ينضم إلى مجلس قيادة الثورة.


لكننا حظنا على الفور علاقاته الوثيقة بالأمريكان كما ثارت أقوال عديدة عن ثروة زوجته التي كسبت كثيرا من المضاربة في البورصة وكان يعيش عيشة مترفة في شقة فخمة بالجيزة وكان لا يخفي موقفه المعادي للعمال مؤكدا ضرورة أن نفرض دكتاتورية صناعية لصالح رأس المال وف سبيل ذلك لابد من تجريد العمال من أي حقوق حتى يمكن تشجيع الاستثمار.

وعندما حدثت محاولة انقلاب المدفعية التي تحدثنا عنها سابقا تناوله العديد من الضباط في التحقيقات بالتعليق وتحدثوا طويلا عن مسلكه وموقفه بحيث أصبح من الصعب استمراره في مجلس الثورة فطلب إليه أن يستقبل وتقرر تعيينه سفيرا وانتهز بعض الزملاء فرصة إبعاد عبد المنعم أمين ليبعدوا معه يوسف صديق .

ولابد أن أقرر ابتداء أنه كان أكثرنا خبرة بالعمل السياسي فهو أقدمنا جميعا في هذا المجال وكان يمتلك خبرة سياسية واسعة ويعرف كيف يكون لنفسه وضعا خاصا وعلاقات خاصة فعندما أعد البيان الأول للثورة وفشل أحد الضباط في تلاوته في الإذاعة تقدم السادات في اللحظة المناسبة ليقوم هو بتلاوته ليكتسب بذلك مزية أنه هو الذي أعلن قيام الثورة وبعد فترة وجيزة اكتشف السادات أن عبد الناصر وقف معه دائما ولم يختلف معه أبدا ولم يتصادم أبدا مع أي مركز للقوة فما أن أحس أن عامر قد أصبح ذا نفوذ حتى هادنة هو الآخر وهو شخص يمتلك مقدرة هامة وهي التوجه للجماهير وفهم نوازعها وخاطبتها بما تريد وكان في كل تعاملاته حريصا على مخاطبة الناس أو حتى مواجهتهم على أساس إدراكه لحقيقة نوازعهم الشخصية ولهذا صمد طويلا مع عبد الناصر وبقي حتى صار خليفته رغم أنه لم يكن أبدا لا الأقرب، ولا الأهم.

استطالت جلستي المنفردة بينما زوجتي تغالب دموعها وهي تعد حقيقتي وهل توجد دموع تكفي لزوجة تعد حقيقة لزوج سيسافر ليغيب إلى أمد غير معلوم؟

وأتى موعد الرحيل.


الفصل الرابع والعشرون: المنفى

- قبض على ضباط الفرسان.. فقدت منصب السفير

- حاول محمود أبو الفتح تجنيدي ضد الثورة.

- وجهت رسالة تأييد لعبد الناصر فأحالني على المعاش.

- وعدت إلى مصر ليقول لي عبد الناصر: واحدة بواحدة، ونبقى خالصين.


لم يعرف أحد أنني مسافر لأبقى دون عودة قريبة إلا زوجتي ولعل احتفاظها بالسر قد ضاعف من آلامها فما أصعب أن تنفرد بأحزانك دونما قدرة على اقتسامها مع أحد.

حتى أبي وأمي حتى سكرتيري الخاص عبد العزيز البدري (وكيل وزارة الإنتاج الحربي فيما بعد) لم يعرفوا سوى أني مسافر على رأس بعثة مجلس الإنتاج القومي.

أربعة أيام مضت على مقابلتي مع عبد الناصر رتب الأمر تسلمت جواز سفر دبلوماسي أمام المهنة كتبوا ريس بعثة مجلس تنمية الإنتاج القومي..

كنت قد تحدثت مع عبد الناصر حول مسألة: ماذا سأفعل بالخارج؟

سألني هو: أين تريد أن تستقر؟ قلت: باريس فقال: لأ باريس فيها حزب شيوعي قوي وحزب اشتراكي يساري وسوف تنغمس في هذا كله وأنا لا أريد ذلك فقلت : روما فقال أوحشت أحست تستقر في سويسرا فترة قصيرة أسبوع أو شهر على الأكثر وتفاهمنا على أنني سأبقى لفترة وجيزة ثم أعين سفيرأن وعرفت أنهم ينوون تعييني سفيرا في الفاتيكان.

وفي المطار كانت زوجتي يغلفها حزن قاتم وعميق سلمت علي بحرارة دفعت أحد الواقفين إلى الهمس في أذن جاره: خالد مش راجع طريقة زوجته في السلام توحي بهذا التقطت أذني هذه الهمسة وعدت لأتابع ملامح الحزن على وجه زوجتي وعرفت أن الرجل على حق.

وعندما ارتفعت الطائرة كانت النفس مليئة بنوازع مختلفة الألم الفراق فراق الأسرة والوطن والزملاء ورجال سلاح الفرسان ابني وابنتي أبي وأمي، أخي عمرو وماذا سيفعلون به الوطن ومصيره الثورة ومسارها ووسط هذه المشاعر الأليمة أحسست أن هما ثقيلا ينزاح عن كاهلي فما أسوأ أن تكون في موقع المسئولية أمام الوطن والناس ولا تكون قادرا على تقديم ما تعتقد أن الناس والوطن بحاجة إليه الآن أخذوا المنصب والمسئولية معا وانزاح عن كاهلي هم ثقيل.

سافرت على رأس بعثة مجلس الإنتاج إلى باريس حيث استقبلنا بحفاوة تقليدية، وزرنا مصانع الحديد والصلب وعددا من المشاريع الأخرى.

وفي باريس كان هناك ثروت عكاشة وكان وقتها ملحقا عسكريا كان لم يزل غاضبا على عبد الناصر وعلى الزملاء متألما من الطريقة التي عاملوه بها ( لكنه بعد فترة نسي ذلك كله) . استقبلني ثروت بترحاب يليق بصداقتنا الطويلة الأمد واستضافني في بيته تحدثنا في حرية ولكن بقدر من التحفظ.

وانتهت زيارتي إلى باريس واتجهت إلى روما في زيارة مماثلة وهناك كان أيضا المحلق العسكري أحمد حسين الفقي لم تكن علاقتنا وطيدة لكنه أصر على أن يستضيفني في بيته وأدركت أنه قد تلقى تعليمات بأن أبقى تحت بصره لأطول فترة ممكنة خلال إقامتي في إيطاليا.

وأثناء رحلة بالقطار في إيطاليا قرأ لي المترجم المرفق للبعثة خبرا منشورا في الصحف الإيطالية الخبر يقول: كانت هناك محاولة لعمل انقلاب في سلاح الفرسان قبض علي عدد من الضباط وذكرت الجريدة اسم: أحمد المصري.

تراكمت أحزان كثيرة في داخلي رجال الفرسان الآن يطاردون يدفعون الثمن الغالي عن الديمقراطية تذكرت عبارة قديمة قرأتها لولى الدين يكن تقول: (مساكين أنصار الحرية، يدافعون عنها فيفقدون هم حريتهم) وعندما وصلت إلى روما اتصلت بزكريا محيي الدين ومن بعيد أتى صوته المحايد والمتحفز دوما وأجاب:

أولادك حاولوا يعملوا حركة ومسكناهم ومضي مكملا: دلوقت أنت تروح سويسرا وطبعا مش ممكن موضوع تعيينك سفير بعد اللي حصل، فأنت صاحب فكرة الديمقراطية وأنت المسئول عن هذه الأفكار ومش ممكن تعيين حد من الفرسان سفيرا الآن.

وقلت: يعني المطلوب أن أسجن في سويسرا فقال: لا تقدر تسافر فرنسا يوم أو اثنين كل فترة لن تستقر في سويسرا.

وقلت: طيب إزاي حاعيش في سويسرا؟ فقال: اتصل بعمر الجمال (الملحق الجوي) وسوف يصرف لك بدل سفر 6 جنيه يوميا وسوف نحول كل مرتبك إلى سويسرا وهكذا فالهموم لا تأتي فرادى.

وفي مطار نيس كانت أول رحلة لي منفردا ودون مرافقين وبروتوكول تركت الوفد هم عادوا إلى القاهرة وأنا إلى المنفى.

ولم أكن معتادا على السفر ولا على نظام المطارات وفقدت طائرتي وبقيت في نيس ليلة حزينة واتصلت بعمر الجمال الذي انتظرني في الغد.

سلمني الجمال بدل سفر لمدة عشرين يوما وتفاهمت معه على أن أسافر إلى لوزان وكانت لوزان بالنسبة لي مدينة ميتة فبعد الضجيج والحياة المتخمة بالأحداث والحركة والانفعالات والاجتماعات والمسئوليات آتى إلى مدينة لا أعرف فيها أحدا تخلو الشوارع من المارة ينامون مبكرا وتنام معهم مدينتهم.

وتحدثت تليفونيا مع عمر الجمال: يا عمر أنا متضايق جدا فقال: تعالي إلى برن ومن برن إلى جنيف وبينما كنت أبحث عن سكن ملائم لي ولزوجتي قابلت صديقا مصريا هو محمود فهمي وكان صاحب مصنع سجائر وقال: أنا لدي شقة في جنيف ولا أحضر إليها إلا في الصيف استعملها وعندما أحضر أقيم معكم واتصل بزوجتي لقد وجدت سكنا تعالى وكان ذلك في شهر يونيو ولقد تسببت لمحمود فهمي في مشكلة بسيطة فقد طردوني من الشقة وخسر الرجل شقة جميلة بإيجار معتدل.

زوجتي حضرت ومعها أمين وبوسي لكن أولادنا غير أولادهم أولادهم لا يرفعون صوتهم أما أمين فقد أتى من مصر ليجد نفسه محبوسا في شقة صغيرة ولا أطفال يلعب معهم فكان يخرج إلى البلكونة ويصيح مقلدا محمد نجيب : (إخواني) ثم يلقي بلعبه إلى الحديقة وباختصار انتهى الأمر بطردنا من الشقة وأفهمني المصريين هناك أنه في حالة تكرار ذلك فسوف يكون من الصعب علي استئجار شقة أخرى حيث سيتم إبلاغ اتحاد الملاك باسمي ويرفض الجميع التعامل معي وعاد أمين إلى مصر..

والحقيقة أن أبي كان في أمس الحاجة إليه أنا في المنفى وأخي عمر في المعتقل كانت الضربة قاسية وكان بحاجة إلى أمين معه ليخفف عنه آلام هذا الفراق الأليم.

ولقد تأثر أبي كثيرا بهذه المحنة واعتبرها معيارا لعلاقته بالآخرين فكل من لم يسأل عنه في هذه الفترة من الأقارب أو الأصدقاء قاطعة طوال حياته ولم يتنازل عن هذا الموقف حتى آخر يوم في حياتي.

والحقيقة أن الوضع في أسرتنا كان محرجا فأختاي متزوجتان من شقيقين لزكريا وزكريا في نهاية الأمر ابن عمي ووجد الكثيرون من الأسرة في حرج بين ما بقي في الحكم وازداد سلطة وبين من يعيش في المنفى.

وعندما جاءت زوجتي أبلغتني أنها قد واجهتها بعض العراقيل في ترتيبات السفر وكانت قد باعت سيارتنا وطلبت تحويل ثمنها للخارج ورفض زكريا كعادته أن يقدم مجاملة قد يشتم منها أنه يجامل أقاربه واتصلت زوجتي بعد الناصر الذي سهل لها كل شيء.

وبعد أن سافر أمين القاهرة أدخلنا بوسي إلى المستشفى وبقينا وحدنا وأصبحت مشكلتنا هي كيف نتغلب على الوقت والفراغ والملل.

بدأنا أنا وزوجتي ندرس اللغة الفرنسية وبدأت ألتقي ببعض المصريين المقيمين في جنيف ومنهم محمد محمود جلال وعبد الفتاح الطويل، وأحمد عبد الغفار ومحمود الوكيل كنا نجلس على أحد المقاهي نتحدث في السياسة وفي أحوال مصر.

وكان يجلس معنا أحيانا محمود أبو الفتح.

وبعد توقيع (اتفاقية جمال- ناتنج) بالأحرف الأولى سألني أبو الفتح: أنت موافق على الاتفاقية؟ فقلت: لا.

وبدأت مناقشة ضد الاتفاقية لم أتوقع أنها مجرد بداية لمحاولة نصب شركي كي أتعامل معه.

وانتهت المناقشة بشكل عادي وغاب محمود أبو الفتح ليعود لمقابلتي بعد حوالي شهر وفي هذه المقابلة تحدث بحماس عن ضرورة فعل شيء لإنقاذ مصر من بارثن حكم عبد الناصر وتحدث عن دوري وحاول إثارتي، وكيف أنني مبعد وكيف أن علي واجب إزاء الوطن وأخيرا وصل إلى غايته ستكون هناك محطة إذاعة موجهة إلى مصر ومطلوب مني أن أتحدث فيها بشكل مستمر وأن أكون شيكا ف العملية كلها.

وأخطأ أبو الفتح الخطأ القاتل عندما حاول إغرائي بالمال فقال: نحن نعلم أنك تتقاضى معاشا وبدل سفر وطبعا سوف يقطعون ذلك كله، ولهذا نحن على استعداد أن نسلم لك مقدما ما يساوي ما ستتقاضاه لمدة عشر سنوات.

ولم ينس محمود أبو الفتح أن يقدم شروطه بعد أن قدم الإغراء فقال وكأنه يتحدث بشكل عشوائي وبلا تخطيط مسبق: وطبعا بلاش حاكية الإشتراكية واليسار والكلام ده.

كانت علمية الرفض تتراكم في داخلي منذ اللحظة الأولى وكلما استمر في حديثه ازددت رفضا فنا لم أكن أبد ضد ثورة أسهمت في صناعتها وعشت أجمل سنوات حياتي أحلم بها وأعمل من أجلها كما أنني لم أكن من الصنف الذي يمكن إغراؤه فلو كان ممكنا إغرائي لأغراني الموقع الهام في قمة السلة ولمنعني من الإصرار على التمسك بما أؤمن به.

رفضت ... وانتهت علاقتي بمحمود أبو الفتح.

وعندما استعيد ذكريات جنيف فلا بد أن أتذكر شابا مصريا ممتازا هو حلمي إبراهيم وزوجته الدكتورة أمينة الحفني وقد تعارفا علينا وزارانا في بيتنا وخففا كثيرا من وحدتنا أنا وزوجتي.

وذات يوم جاءني حلمي ومعه شاب عراقي اسمه الدكتور جواد (كان عضوا في الجناح اليساري للحزب الوطني الديمقراطي العراقي، وأصبح فيما بعد وزيرا لخارجية عبد الكريم قاسم).

كان الاثنان منشغلين بوضعي في جنيف ولاحظا حالة الملل التي أمر بها وقدما لي عونا لن أنساه لهما وقد تمثل العود في أولا الإنقاذ في شكل نصيحة تقبلتها بامتنان ولم أزل ممتنا لهما حتى الآن اقترحا علي أن أنظم وقتي بشكل أفضل وأن أخصص عدة ساعات منتظمة وثابتة لقراءة منهجية مخططة ولكتابة مذكراتي.

وكتبت الكراسة التي سجلت فيها المعلومات التي اعتمدت عليها في كتابة هذه المذكرات ثم منحت كثيرا من وقتي للقراءة.

حصل لي حلمي على كارنية لمكتبة الأمم المتحدة وبدأت نظاما ثابتا وصارما في الصباح رياضة ثم في الساعة العاشرة أكون في المكتبة حتى الساعة الواحدة والنصف، وهناك قرأت كثيرا في الفلسفة والتاريخ والسياسية والاقتصاد وبدأت أشعر أن الوقت ثمين ومفيد وهكذا كانت فترة جنيف مرحلة هامة من مراحل تكويني الفكري.

ومع ذلك يبقى هناك الحنين للوطن والأهل والزملاء يبقى الأمل المتجدد في كل يوم في أن أعود لمصر.

والحقيقة أن أكبر ما واجهنا من مشكلات أنا وزوجتي هو أننا لم نكن نعرف لبقائنا أمدا ولا لعودتنا للوطن موعدا لو كنا نعرف هذا الموعد فربما دبرنا أمورنا بشكل مختلف.

واقترب الصيف وكان الحنين للأسرة قد تراكم بحيث أصبح عبئا نفسيا ووجدانيأن واستأجرت فيلا كان إيجارها رخيصا وأتت أسرتي كاملة على فوجين أبي وأمري وإخوتي وأزواجهن وقضينا معا وقتا ممتعا نسينا فيه إلى حد ما ألم الغربة، وعذاب الافتراق واستنشقت عبرهم عبير الوطن ومذاقه الذي لا يدرك قيمته إلا من عاني آلام المنفى عن وطني يحبه.

وفي مصر كانت الأمور تمضي في اتجاه جديد، عبد الناصر يخوض معركته ضد حلف بغدادي وكسب مكانة دولية هامة، وكانت هناك حادثة غزة حيث اعتدى الإسرائيليون على جنودنا في قطاع غزة وشعر عبد الناصر أنه مقبل على معركة ليست سهلة مع إسرائيل والصدام بيننا وبين الاستعمار يتصاعد ويستمر ويتواصل ثم يكون مؤتمر باندونج الذي يحدث تغييرا حاسما توجه السياسة المصرية.

طوال هذه المرحلة كنت أتابع ما يجري على أرض الوطن خطوة خطوة وأشعر أن مساحة الخلاف بيني وبين عبد الناصر تضيق وأن حدة الاختلاف تخف.

وفي هذه الأثناء زار جنيف عديد من الزملاء: كمال الدين حسين، حسين الشافعي، حسن إبراهيم لطفي واكد ومجدي حسنين ومع لقاءاتهم الحارة ودفء الصداقة القديمة المتجددة شعرت بانتعاش ونشوة فقط مقابلة كمال الدين حسين كانت جافة بعض الشيء لكنني لم أشعر رغم ذلك إزاءه بأي عتاب.

ومع حسن إبراهيم دار حول طويل حول الأوضاع السياسية في مصر وكيف أنه بعد حادثة غزة حاول عبد الناصر الحصول على سلاح كاف من أمريكا دون جدوى وكيف أنه قادم إلى أوربا بحثا عن موردين للسلاح.

وقبل هذه الفترة بزمن قصير وقعت حادثة المنشية ونجا جمال من محاولة اغتياله ووجدت نفسي مندفعا لمحادثته تليفونيا لأهنئه ولم أجده فأرسلت له برقية عن طريق حقيبة الملحق العسكري لأهنئه بالنجاة وتلقيت منه عن ذات الطريق برقية شكر تتسم بالعاطفة.

ثم كانت صفقة الأسلحة التشيكية والغريب أن بعض المحللين تصور أنني الذي رتبت هذه الصفقة والحقيقة أنني لم تكن لي علاقة بهذا الأمر وقد أبلغني صلاح سالم فيما بعد أنه هو الذي اقترح على عبد الناصر مفاتحة شواين لاي في شراء أسلحة منهم ولكن عبد الناصر قال له إنه لا يعتقد أنهم يبيعون سلاحا إلا للدول الشيوعية لكن صلاح قال له: فلنجرب ولن نخسر شيئا ووفق راوية صلاح سالم فإن فاتح (شواين لاي) في الأمر لكن شواين لاي قال لهم: رسالتكم التي أبلغت لشواين لاي وصلتنا ونحن جاهزون للتفاهم.

وبدأ التفاهم الذي انتهى بصفقة الأسلحة التشيكية.

والغريب أنه ف هذه الفترة بالات كتب السادات مقالا يهاجمني فيه يصفني بأنني الصاغ الأحمر ولست أدري ما الذي دفع السادات إلى كتابة هذا المقال هل هي محاول للتوازن؟ أم هي محاولة لاستدراجي إلى معركة ضد النظام في وقت أصبح فيه استمراري في المنفى لا مبرر له.

المهم نشر السادات مقالة في (الجمهورية) معلنا أنه بداية لسلسلة من المقالات وفي ذات اليوم اتصل زكريا بي في جنيف ورجاني ألا أستفز أو أرد على مقال السادات، وكان يتصور أنني قرأته، والحقيقة أنني لم أكن قد قرأته أو حتى سمعت به وقال: إن الأمر قد صدر بإيقاف المقالات الأخرى.

ثم كانت واقعة هامة فقد تلقيت رسالة من هنري كورييل( ) ولم أكن قد رأيته من قبل فقد سمعت مثل الكثيرين حملت الرسالة إلى السيدة ديدار فوزي (الزوجة السابقة لعثمان فوزي) والرسالة من جملة واحدة: كوربيل يريد أن يراك) ورتب الأمر بأن أسافر إلى قرية على الحدود الفرنسية لا تبعد عن جنيف بأكثر من نصف ساعة وهناك في بيت ريفي كان كوربيل وكان معه الصحفي الفرنسي روجيه فايان فقد التقينا في بيت تمتلكه زوجته.

بدأ (كوربيل) الحديث عن واجبي إزاء الوطن، وإزاء الثورة التي أسهمت في صنعها وقال إن مسافة الخلاف تضيق الآن كثيرا بينك وبين عبد الناصر، لقد اختلفت بسبب العلاقة مع الأمريكان وبسبب الديمقراطية والآن عبد الناصر يخوض معركة شديدة ضد الاستعمار وضد الأمريكان ويصبح جزاء من المعسكر المعادي للاستعمار وهكذا فإن مساحة الاختلاف تضيق.

ونصحني كوربي أن أبعث برسالة إلى عبد الناصر أوجه له فيها تحيتي وتأييدي على موافقة هذه وقل بصراحة: هذه الرسالة يجب أن تكون مقدمة لرسالة أخرى تطلب منه فيها أن تعود.

أبديت ترددي وتحدثت عن الكرامة والمبادئ والديمقراطية المفتقدة واستمر كوربيل يجادلني بهدوء وصبر لا ينفذ أكد لي أن المبادئ تتحقق بتحقق مصلحة الوطن والشعب ومصلحة الوطن والشعب أن تكون مصر وليس في جنيف وأن تكون إلى جانب عبد الناصر تشد من أزره وتحمسه وتسانده في اتجاهه الجديد وأن تعزز هذا الاتجاه في وجه المعاديين له وأخيرا أبديت اقتناعا.

وعدت جنيف أنا وزوجتي في رحلة إلى نيس استغرقت حوالي عشرة أيام، وعدت لأجد غريبا.


اتصل بي أحد الأصدقاء وقال: إن النشرة العسكرية وصلته، وأن قرارا قد صدر بإحالتي على المعاش وقال إن الضباط يحاولون عادة على معاش الرتبة التالية، أما أنا فقد أحلت على المعاش بذات رتبتي أي الصاغ وبحسبة بسيطة سيكون معاشي حوالي 15 جنيها شهريا.

وبدأت في داخلي مشاعر غريبة أنا أمد يدي وأرسل رسالة تأييد ومساندة فيردون على بإحالتي للمعاش وبدون أي مجاملة وينتهي الأمر بأن يكون كل دخلي خمسة عشر جنيها شهريا.

وبدأت أتساءل كيف سأعيش في جنيف بهذا المبلغ؟ وما هو السبب في هذه الخطوة؟

واتصلت تليفونيا بعبد الحكيم عامر وكنت أختزن في نفسي تساؤلات قاسية وربما جملا عنيفة لكن عامر تلقى كلماتي الأولى ضاحكا كعادته وقال: طبعا بتتكلم علشان المعاش يا سيدي كانت غلطة واتصلحت وتقرر أن تحصل على معاش أميرالاي أي فوق رتبتك بأربع رتب.

انتهت المكالمة ولم ينته التساؤل: لماذا أحلت على المعاش.

ولم يبق أمامي من إجابة سوى أن جمال أحس أن المسافات بيننا تقترب وأن رسالتي إليه عززت هذا الإحساس، وشعر أنه لا مبرر لاستمراري في المنفى وأنني سأعود إن لم يكن اليوم فغدا ومن هنا قرر تحديد موقفي بشكل نهائي. وقطع أية علاقة لي بالقوات المسلحة وأحالني على المعاش.

ومرة أخرى أتلقى اتصالات من كوربيل ومرة أخرى نلتقي في هذه المرة قال: أعتقد أن الوقت الآن ملائم لأن توجه رسالة إلى عبد الناصر تبلغه فيها برغبتك في العودة، ومن جديد بدأ (كوربيل) ينسج من حججه، وصبره الهادئ ما أقنعني بتوجيه رسالة ثانية ألح كوربيل في نقاشه على أن بقائي في الخارج لا يفيد أفكاري ولا وطني في شيء وقال: لقد تحسنت سياسة عبد الناصر الخارجية ولكن الديمقراطية لم تتحقق بعد وفي السياسة ليس بالإمكان أن تتمسك بكل شيء أو تخسر كل شيء وقال: أنا لا أطلب منك أن تتنازل عن موقفك من الديمقراطية ولكن أعط لنفسك مجالات للحركة في وطنك.

ومرة أخرى نجح في إقناع وأرسلت رسالة ثانية لعبد الناصر طالبا أن أعود إلى مصر قلت له فيها: إن أشياء هامة قد تحققت وأننا نلتقي على أشياء كثيرة وأن معركته ضد الاستعمار هي معركة كل الوطن وكل المواطنين وأنني لا أجد مبررا لبقائي في الخارج: وقلت: أنت تعرف كم أحب مصر وأنني لا يمكن أن أفعل شيئا ضد مصلحتها.

كان ذلك في أواخر أكتوبر 1955 ويمضى حوالي شهر وفي أواخر نوفمبر أتلقى مكالمة من عبد العزيز محيي الدين.. زوج أختي وشقيق زكريا وقال بكلمات متقنة من الواضح أنها معدة مسبقا: أيه رأيك تيجي تزور العائلة في أجازة لمدة شهر وتقابل الزملاء وتشوف الجو، وترجع جنيف تاني، وصمت قليلا ثم قال: بس لازم تبقى عارف أنك حترجع جنيف تاني وكررها تاني وصمت قليلا ثم قال بس لازم تبقى عارف أنك حترجع جنيف تاني، وكررها أكثر من مرة قلت: سأرد عليك غدا.

وف الغد أبلغت عبد العزيز بموافقتي وعاد ليؤكد أنني سأرجع جنيف ثانية، ومن ثم لا مبرر لأن أرتك سكني أو أن أحضر كل متعلقاتي وأكد أنها مجرد زيارة.

واتصلت بعمر الجمال فوجدت لديه تعليمات وسلمني تذاكر السفر، وفعلا عدت أنا وزوجتي إلى مصر يوم 4 ديسمبر 1955.

وما أن وصلت إلى بيتي حتى اتصل بي زكريا يسألني عن الأخبار والأحوال وقال: الريس حيكلمك. وفي الصباح كلمني جمال عبد الناصر، وكان ودودأن وقال: عايز أشوفك تعالى فورا ثم أضاف: إزاي أمين قتل كويس فقال: هاته معاك فقلت بس معنديش عربية فقال: زكريا سيرسل لك عربية فورا.

وذهبت إلى عبد الناصر مصطحبنا أمين ابني ولعل عبد الناصر بهذه اللفتة أراد أن يعزز أواصر العلاقة الشخصية أو لعله أراد أن يضفي طابعا عائليا وليس رسميا على الزيارة كان أمين في السادسة من عمره عندما دخلنا بين عبد الناصر فوجئ بالأبهة والفخامة فقال بعفوية الطفل: أنت ليه معندكش كده؟ ولم أجد إجابة.

قابلني عبد الناصر بترحاب شديد وسلمنا على بعضنا بحرارة سألني عن أخباري وكيف قضيت وقتي في جنيف.

وبدأن نتحدث عما كان وقال بصراحة من لم يعد يخشى من التصارح إنه رتب أحداث مارس وتحديدا إضراب عمال النقل وما لحق به من إضرابات ومظاهرات عمالية وقال إنه فعلها ردا على اجتماعات (الميس الأخضر) في سلاح الفرسان وقال ببساطة أن ترتيب هذه الأحداث كلفه أربعة آلاف جنيه وقال أنتم أتحركتم في الفرسان وأنا رديت عليكم واحدة بواحدة، ونبقى خالصين.

ثم سألني: أنت ناوي تعمل أيه فقلت: لم أفكر بعد أنا عايز أشوف البلد والناس وأزور العائلة وبعدين أفكر.

وفي المساء دعاني على العشاء في بيته وحضر عامر وصلاح سالم وزكريا وكانت جلسة ممتعة استعدنا فيها ذكريات الزمن القديم الجميل.

وفي اليوم التالي كلمني عبد الناصر، وقال أنا أحب أشوفك ونقعد نتناقش زور البلد وبعدين نلتقي.

وفي هذه الأثناء اتصل بي شخص كان وثيق الصلة بمصطفى أمين، وقال لي إن مصطفى أمين أبلغه أن عبد الناصر مرتاح جدا لمقابلتي معه، وأن عبد الناصر قال: أنا كنت عايز أعرف إذا كان خالد لسه زعلان منى وإلا لأ.. لكن وجدت قلبه صافي ..

وأدركت مغزى الرسالة..

وقلت لزوجتي: سنعود إلى مصر نهائيا.

بعدها سألني عبد الناصر: مشاريعك أيه يا خالد؟ قلت: أروح جنيف أجيب ملابس وأشيائي وأرجع فقال ببساطة: طيب بس عايزك تشتري لي شوية كتب عن الإشتراكية بمختلف مدارسها.

فقلت: وكيف أدخل بها من المطار؟

قال: سيستقبلك لطفي واكد ويرتب الأمر.

وقبل أن أسافر حضر حفل إعلان الدستور وأجلسوني في الصف الأول مع كبار المسئولين.

ولم أبق في جنيف سوى خمسة عشر يوما قضيت كثيرا منها في شراء الكتب لجمال اشتريت له كتبا عديدة ملأت حقيبتين كبيرتين وكان أغلبها كتب عن المدارس الإشتراكية المختلفة.

وبعد عودتي قابلني جمال ليسألني مباشرة: ناوي تعمل أيه يا خالد؟ كنت قد فكرت وقررت أن أنغمس في الحياة العامة فقلت: أنوي أن أرشح نفسي لمجلس الأمة، وأن أعمل في الحياة العامة فقال: موافق.

وقال: هناك اقتراح آخر أن تعمل سفيرا من تشيكوسلوفاكيا فهي بلد مهمة جدا لنا خاصة بالنسبة لصفقات الأسلحة أو هناك اقتراح بأن تصدر جريدة ياسرية مسائية.

ولما أبديت دهشتي قال: كلا البلاد العربية فيها جرائد يسارية وعيب أن مصر لا يكون فيها جريدة يسارية وأنت أفضل من يصدر مثل هذه الجريدة.

وأردف قائلا: بس ما تكونش يسارية زي خالدي بكداش عايزين حاجة يسارية معتدلة.

فقلت: ولماذا مسائية فقال بصراحة واضحة: لكي تكون محدودة الانتشار والتأثير.

وتحددت معالم طريقي الجديد.

وقررت أن أرشح نفسي لعضوية مجلس الأمة.

وأن أخوض لأول مرة تجربة الانتخابات.

وبدأت أستعد لإصدار جريدة المساء.

ويحتاج الحدي عن ذلك كله إلى كتاب جديد آمل أن نلتقي معا على صفحاته قريبا.