تذكير الحكام بأيام الله

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
تذكير الحكام بأيام الله ...

بقلم:دكتور جابر الحاج

مقدمة

كان من أهداف الناصرية انسياق الشعب المصري خلف الرأي الواحد، دون تمرد أو تردد ، وأبدى ذلك جمال بصراحة للأستاذ فريد عبد الخالق، وهو يطالب الإخوان المسلمين، بأن ينضموا لهيئة التحرير، ورفض الإخوان،

قال المرشد العام المستشار حسن الهضيبي :" يا جمال عندما تشعر بضيق من الإخوان أبلغني وأنا أسلم لك مفتاح المركز العام ونقفلها حتى لا تقع أية فتنة" وقال فريد عبد الخالق: ليس هناك تعارض في أن تقود أنت التنظيم السياسي عن طريق هيئة التحرير ونبقى نحن كدعاة للتربية الإسلامية..

أما رأيك في أن تندمج الجماعة مع هيئة التحرير فهذا بالضبط أشبه بمن يضع زيتا وماء في زجاجة ويحاول أن يمزجهما .. مش ممكن يمتزجان..

ومن ألأفضل للإسلام وللبلد ولك أن تبقى بعيدين عن السياسة ومؤيدين لك كحركة إسلامية.. ونحن لا نريد الحكم ولذلك لا أرى أي سبب للتصادم بيننا..

صمت جمال للحظات ثم قال:اسمع يا فريد . أنا عندي فكرة مستولية على ولا أعرف إن كان هذا غلط أو صح.. إنما أنا أريد في خلال سنتين ثلاثة أصل إلى أنني أضغط على زر..

البلد تتحرك زى مانا عايز .. واضغط على زر ..البلد تقف .. ولا يتأكد هذا الهدف إلا بتعطيل الفكر وشله أو التشويش عليه بطمس الحقائق وتزييف البطولات وجرح الخصوم، فإذا ارتفع صوت بكلمة حق، أو كشف زيف ألقت به الناصرية في جحيمها الظالم من معتقلات ومحاكمات وقتل وسجون ومصادرات وتشريد للأهل وبطش بالمتعاطفين مع الضحايا.

إنه واقع محزن لفترة هي أسود الفترات التي مرت بمصر.. لقد حدثنا الله تبارك وتعالى عن فرعون وقسوته، وبرغم هذه القسوة أرانا جانبا من الرحمة بقى عنده، فأخذ برأي امرأته في ترك الطفل الرضيع (موسى عليه السلام) وأهمل رأى بطانة السوء الذين أشاروا بقتله..

واستمع لموسى يحاوره ويجادله، واستمع (لمؤمن غافر) يقول لفرعون وقومه" أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ، إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب" فرعون الطاغية المستبد برأيه يعطى مواطنا فرصته يبدى رأيه، وليسمع فرعون" يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض ، فمكن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا)

أما عبد الناصر ورفاقه فلم يعطوا فرصة لخصم يدافع عن نفسه، ولا لناصح ينصحهم، ولا لمفكر مصري يفكر لصالح مصر، ولا لأبطال مصر ليدافعوا عنها ضد أعدائها، ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أبطالا على الورق، وطواغيت جبارين على أبناء مصر الشرفاء،

وظلوا على تخبطهم، بفكرهم المظلم، وقلوبهم المتحجرة، وأعمالهم الضالة، الخارجة على الدين والخلق والإنسانية، والمتنكرة للقانون وما تعارف عليه الناس من مبادئ.. وقيم..

يقول سدنة الطغاة: كان لابد للثورة من ضحايا، ويقول الله تعالى" يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون" سورة المائدة 8 .

فإذا لم تعدل الثورة ولم تستجب لداعي الله، وأصرت على أن يكون لها ضحايا ، واختل فكر قائدها وسدنته، واستعانت بالمنافقين على المخلصين، ومكنت الجهال من المتعلمين، وأغلقت أفواه الصادقين وأطلقن أبواق الكاذبين، ونصبت المشانق وفتحت السجون والمعتقلات لكل خصومها ومكنت منهم أحط عباد الله، واستباحت مال الدولة تبعثره على الهتافين والعاطلين المنساقين في مواكب الزيف وعلى التجارب الفاشلة والحروب الخائبة،

وفى الوقت نفسه تجرم معونة يقدمها قلب أخذته الشفقة على اليتامى من أبناء ضحاياها.. وأصدروا لذلك قانونا أسموه" قانون المتعاطفين" قتلوا الآباء، ولم يرحموا الأبناء ولا الأرامل وعز على قلوبهم المريضة أن يروا رحمة الله تتنزل عليهم.. هذا الخزي والضياع أنسميه ثورة؟.. وهل كان نجيب مبالغا حين سماها "عورة" ؟..

يقول السادات فى كتابه" البحث عن الذات":

كان من الواضح أن نشوة الحكم قد بدأت تلعب برءوسهم فقسموا البلاد إلى مناطق نفوذ لهم ولمن يلتف حولهم من أقارب وأصدقاء..

ليست العبرة بما يفيد البلاد بل العبرة بمن سوف يستفيد من أقارب وأصدقاء وأتباع الحكام.. ص 183 ويقول:" في سنة 1965 كانت حالة البلاد الداخلية قد وصلت إلى مرحلة يرثى لها، فعلى صبري كرئيس للوزراء لا يتخذ قرار في أي شيء.. وعبد الناصر بطبيعته الديكتاتورية كان يطلب من رئيس وزرائه أن يكون مجرد مدير مكتب ينفذ أوامره فحسب..

فإذا أضفنا إلى هذا ميله الطبيعي إلى التجسس على الناس وتدبير المؤامرات والعمل في الخفاء لأدركنا سر تبرم الناس به.. فماذا يمكن للبلد أن تستفيد من حكومة هذا شأن رئيسها..؟ ص 213.

ويقول السادات الذي كان عضو يسار بمحكمة الشعب والذي قال مدافعا عن الثورة وفى الوقت نفسه مهددا من يفضح محاربها: أنا المسئول ، وهذا المسئول يحدثنا فيقول: ذهبت لزيارة عبد الناصر فسألت الضابط المختص إذا كان عبد الناصر قد استيقظ من النوم فأجابني بأنه استيقظ وهو الآن في حجرة مكتبه فدخلت الحجرة ورأيت عبد الناصر يجلس وقد وضع رأسه بين يديه حزينا مهموما وقفت أراقبه حوالي دقيقتين

ثم فاجأته بسؤالي "جرى إيه يا جمال مالك؟" التفت إلى في دهشة فقد كان واضحا أنه لم يحس بدخولي الحجرة وقال: إيه اللي جابك النهاردة يا أنور؟

قلت : النماردة الجمعة- وأنا لي مدة لم أرك- قلت أفوت عليك أدردش معاك شوية وأنا عارف إنك يوم الجمعة بتبقى لوحدك..

قال لي: والله عملت طيب.. اقعد..

جلست وسألته: مالك شايل الدنيا على دماغك.. ؟ قال : ايوه.. فعلا أنا شايل الدنيا على دماغي.. يا أنور البلد بتحكمها عصابة وأنا مستحيل أكمل بهذا لشكل..

والسادات الذي ذهب إلى جمال ينشد وده، ويبنى لمستقبله عنده، يعلم بأن الذي فرض العصابة ومكنها من رقاب الشعب المصري المسالم هو جمال عبد الناصر استباح آدمية الشعب بعصابته وسلطها الله عليه، وصدق الله العظيم: " وكذلك نولى بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون" سورة الأنعام 129.

كان عبد الحكيم عامر يحكم عبد الناصر، وصلاح نصر يحكمهما معا، وفى قضية المنتجة السينمائية اعتماد خورشيد، والتي نشرت بعض تفاصيلها مجلة الحوادث اللبنانية في 19 مارس 1976، مصداق ذلك..

فعلاوة على أن القضية تفضح الناصرية وتعريها من كل قيم تبقى ارتباط الإنسان بآدميته ، فهي تعرى الزعيم الملهم، وتظهره على حقيقته في الوضع المهين الذي ألقى بنفسه فيه..

القضية في إشارات عابرة، صلاح نصر يفرض نزوته على المنتجة السينمائية، وتقاومه ويسلط عليها صنوف العذاب والقهر وتخور قواها، وتنفجر باكية متوسلة أن يتركوها وشأنها، وتعرض القضية أسماء شخصيات تبعث في النفس الأسى والحسرات..

وفى الوقت الذي يحدثنا فيه السادات عن عبد الناصر المستسلم لعصابته .. تحدثنا القضية أن صلاح نصر، يتعجب كيف تستعصى عليه هذه المرأة .. فأحضر الوسيطة..

وقال : قولي لها من أنا.. أخبريها أنني صلاح نصر ملك مصر الذي يحكم جمال عبد الناصر؛ ولم يكتف صلاح بخضوعها وإنما في جلسة خمر عقد عقدا عرفيا أشهد عليه زوجها ، ووزيرا ناصريا سابقا.

يحدثنا السادات عن التركة المتعفنة الآسنة

" في الثامنة عشر عاما السابقة على رئاستي للجمهورية حاولوا أن يجعلوا من مصر مجتمع حقد وقوة فقط ولكن التجربة فشلت 100% لأنها لا تتلاءم مع تكويننا أو طبعنا.. قام البناء على الرمال .. ولين الأمر اقتصر على هذا..

فأقبح ما واجهته لم يكن الوضع الاقتصادي المنهار ولا الوضع العسكري المهين.. بل جبل الحقد الذي نشأ عن محاولة بناء مجتمع القوة.. وازدادت حدة الصراع وأصبح الضياع أمرا محتوما عندما رأى الشباب مجتمع القوة ينهار أمام أعينهم ومع ذلك فما زالوا يلقنونهم أنه أفضل المجتمعات وأقواها ..

ومما جاء في كتاب محمد نجيب( كنت رئيسا للجمهورية) :

هاجمت بعض الصحف والمجلات سلوك ضباط البوليس الحربي، وفضحتهم، الأمر الذي أثار الخوف في نفوس بعض الضباط، وأحسوا أن عودة الديمقراطية تعنى نهايتهم، أو محاسبتهم على ما ارتكبوه من جرائم ومخالفات، إلى جانب فقدانهم للسلطة والنفوذ.. ص 240.

ويقول البغدادي :

تناول كمال الدين حسين الاشتراكية عندنا وقال لابد أن تبع من ديننا، وليست من نظريات وأفكار ماركس ولينين.

وسأله جمال- هل عبود باشا أحسن من لينين؟

وقال جمال في سياق الكلام إنه متأثر بالفكر الماركسي.. ص 229.

ويقول أيضا: إن إصرار جمال على تعيين على صبري رئيسا لمجلس الوزراء برغم فشله كرئيس للمجلس التنفيذي قبل ذلك التعيين مباشرة وبرغم موقف شقيق زوجته في قضية الاستيراد والتصدير المعروضة على القضاء، واتهامه فيها بالرشوة،

وما يدور حولها كذلك من لغط كثير بين أفراد الشعب ليدل على أن جمال قد أصبح يستهين بالرأي العام.. بل ويتحدى مشاعر الشعب كذلك أو أن الغرور تملكه.

ويقول المستشار محمد عبد السلام النائب العام الذي حقق قضية الاستيراد والتصدير الآنفة الذكر في كتابه "سنوات عصيبة" – حاولن قدر استطاعتي أن أرسى مبادئ العدالة وسيادة القانون.. وكنت في خلال هذه المحاولات اصطدم بالمخرفين من أصحاب مراكز النفوذ،

وأخذ الصدام يتصاعد المرة بعد المرة حتى وصل ذرونه عندما أطيح بى مع الخيرة من زملائي فيما سمى بمذبحة القضاء..

كنت أدرك مصاعب التعامل مع حكام لم يكن بعضهم قد نسى صفته العسكرية وكان من العسير عليهم فهم معنى العدالة، وقداستها، أو إدراك مضمون المبدأ الصحيح في العبارة الخالدة ( العدل أساس الملك)..

لم أكن من الباحثين عن المتاعب .. وامتحنني القدر بقضية من قضايا الانحراف الخطير، وهى القضية التي عرفت باسم قضية الاستيراد( الجناية رقم 38/ 1963 عسكرية عليا) ..

وكان من بين المتهمين صهر السيد على صبري رئيس الوزراء إذ ذاك.. يشغل منصب رئيس مجلس إدارة شركة من شركات القطاع العام، وكان من بين التهم المسندة إليه حصوله من أحد كبار التجار على رشوة قدرها ثلاثة عشر ألف جنيه في مقابل استعمال نفوذه الفعلي، بحكم المصاهرة التي تربطه برئيس الوزراء، للحصول لهذا التاجر على تنازل عن تراخيص استيراد قيمتها مائة ألف جنيه وذلك على الرغم من سبق تأميم عمليات الاستيراد وحظر مباشرتها بواسطة القطاع الخاص.

وبرغم وجود على صبري رئيسا للوزراء، وبتشجيع المستشار محمد عبد السلام، قام نفر من خيار رجال النيابة العامة بواجبهم خير قيام، وصمدوا للعاصفة وهم هادئون كالجبال الرواسي..

وصدر الحكم هزيلا بإدانة ثلاثة من المتهمين وبراءة الباقين ومنهم صهر على صبري رئيس الوزراء..

وطعن النائب العام في الحكم على غير رغبة وزير العدل المستشار بدوى حمودة، وجاءت أسباب الطعن قنبلة لها دوى شديد..

ولكن عبد الناصر صدق على الحكم رافضا طعن المستشار النزيه.. ليبقى على صبري مجرد سكرتير ينفذ أوامر عبد الناصر كما وصفه السادات، لا شخصية له ولا يتصرف في أمر إلا بأمر سيده..

عصابة تحكم مصر وتتلاعب بحاضرها بعد أن شوهت تاريخها، يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، ويكذبون على الشعب ولا يصدقون، وينهبون المال ويخربون الذمم، يستعينون بالأشرار ويتآمرون بالأخيار، ويعطلون العقول ويخاطبون الغرائز، ولا يقنعون بالحلال ويقبلون في شره أثيم على الحرام، يعزفون على ربابة الديمقراطية ونظامهم أقبح ما عرفته الديكتاتورية..

يا فلول الناصرية المتغزلين بالديكتاتور الذي سلبكم عقولكم، وأفقدكم وعيكم.. هل كانت نكسة يونيو حقا نكسة، أم أنها المصير الحتمي لتخبط طغمة سماهم رئيسهم عصابة ولم يبين لنا من هو رئيس العصابة، ومن الذي كان له شرف اختيارهم؟

قال جمال أنا المسئول؛

قال السادات أنا المسئول؛

ولم يسألهم الشعب وإنما ينتظرهم يوم من أيام الله..

لم يسألهم الشعب المغلوب على أمره، وذهبا إلى الله جل جلاله الذى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" وهو القائل عن سلطانه: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين". سورة الأنبياء 47

سئل حكيم : ما بال صاحبك غيرته الإمارة؟

قال: إذا ولى امرؤ أمرا أكبر منه غيره.

وإذا ولى أمرا أقل منه لم يغيره.

وقد رأينا حكاما عمالقة خدموا أممهم وارتقوا بها، كانوا أكبر من المنصب ، فتواضعوا لله ، وقدموا لشعوبهم أجل الخدمات..

قال هارون الرشيد لأحد واعظيه: الملك ينسيني وأحب أن تكتب على الكرسي موعظة موجزة تذكرني فلا أنسى، وتنبهنى فلا أغفل..

وأقبل هارون الرشيد في الصباح، ووقف أمام كرسيه يقرأ ما كتبه الواعظ:

" أيها الأمير ، تذكر أن هذا الكرسي جلس عليه حكام قبلك، وسيجلس عليه حكام من بعدك"

بكى الرشيد، وكم وقف أمام الموعظة مع كل صباح، لتذكره بمن سبقوه وبمن سيتبعونه، وكم من حكام بنوا لشعوبهم أمجادا فودعتهم شعوبهم بالحب والدعاء، وحفظ لهم التاريخ أعمالهم المجيدة، وآثارهم الطيبة.. وما عند الله خير وأبقى..

وآخرون أنساهم السلطان أمانتهم، وأغرقتهم شهوات نفوسهم في سيئات أعمالهم، فغشوا وخانوا، وكذبوا وأسرفوا، ورفعوا مادحيهم، وأرهقوا ناصحيهم، وقربوا إليهم الانتهازيين المفسدين، وأنأوا عنهم الصادقين المصلحين، حتى جاءهم يوم من أيام الله فشيعتهم اللعنات، وسجل عليهم التاريخ ، وانتظرهم يوم آخر من أيام الله:

"إنا نحن نحيى الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين". سورة ياسين 12

د.جابر الحاج

الزقازيق

ملكان ونهايتان

الملك فاروق

كانت الفرحة بالغة، يوم نصب فاروق ملكا بعد موت الملك فؤاد، وكان الأمل فيه كبيرا، وزاد الأمل بزواجه من الملكة فريدة، ثم بإطلاق لحيته وتعيين إمام يؤمه في صلواته،

فأصبح اسمه " الملك الصالح" ، واتسعت مظاهر صلاحه، فأقام سرادقا يحيى فيه ليالي شهر رمضان المبارك بتلاوة القرآن الكريم من الشيخ مصطفى إسماعيل ، وهرع الشعب إلى سرادق الملك الصالح فاروق يستمعون القرآن وتقدم إليهم المرطبات.

كنت تلميذا بالمدرسة الإلزامية، وفى أحد أيام سنة 1936 عمتنا الفرحة حين أصدر ناظر المدرسة أمره بخروج كل التلاميذ، لاستقبال الملك المحبوب، الذي كان مسافرا بالقطار من القاهرة إلى الإسكندرية في صحبة على ماهر باشا رحمه الله.

وقف التلاميذ والمدرسون وجموع الشعب المتدفقة من كل صوب، كان الشعب الطيب ممثلا بكل فئاته، وكانت هتافاته تنبعث من ألأعماق تعبر بصدق عن قلوب نابضة بالحب والأمل، وانتشرت إشاعة بأن الملك فاروق يعد نفسه لخلافة المسلمين، بعد أن حطم الخلافة مصطفى كمال أتاتورك العميل الماسونى، والذي خضع لأغراض الماسونية وساير مخططاتها، فساعدوه في إرساء حكمه في الداخل، وساعدهم في تفتيت العالم الإسلامى من الخارج.

وكان الحب حقيقيا بدت صورته على وجهها الصحيح يوم زواج الملك، فامتلأت شوارع القاهرة بشعب مصر من كل محافظاتها، وكنت صغير السن وفى ظروف لا تسمح لي بالسفر إلى القاهرة، ولكنى كنت تواقا لسماع الذين سافروا وشاركوا ،

وكان الحديث ذا شجون لا نزهد فيه، الملك والملكة في سيارتهما المكشوفة، يحييان الجماهير الهادرة كالموج، والهاتفة بالصدق والحب، والناثرة للزهور والورد، الشعب الطيب وضع أمله في صلاح الملك، وقوى أمله مباردة الملك إلى الزواج من أسرة مصرية كريمة، ليكمل دينه، والزواج نصف الدين.

ما الذي حدث بعد ذلك. وكيف ضحى الملك المحبوب بحب الشعب الطيب؟ كيف تغلب عليه شيطانه، واستعبدته أهواؤه، فاستحب العمى على الهدى؟

- حلق لحيته، وشده طيشه، واستولت عليه نزواته.

- أقال حكومة الوفد صاحبة الأغلبية.

- فرض حكومة الأقليات الهزيلة، ومكنها من تزييف إرادة الشعب.

- استغل سلطانه للإثراء ، وتهريب المال إلى الخارج.

وبرغم ذلك ظلت بعض طوائف الشعب تحب فاروقا وتدعو له بالهداية، ياله من شعب طيب، كم صبر على ظالميه، وهتف لقاتليه.

وأذكر حادثا وقع له في القصاصين، حيث دهمته سيارة إنجليزية ، وأشيع أن الانجليز تعمدوا هذا الحادث قاصدين قتله لوطنيته، ووقوفه ضد تحقيق رغباتهم،

وكنت طالبا بمدرسة المعلمين بشبين الكوم في ذلك الحين، امتلأت شوارع المدينة الصغيرة بالطلبة من كل المدارس الكل يهتف: حذاء الملك فوق عرش إنجلترا، نحن فداؤك يا فاروق بالدم والروح نفديك يا فاروق.

ولم تطل السكرة، فقد علمنا فيما بعد أن الملك الحليق كان في رحلة غرامية، وأن الحادث وقع بغير قصد، ليكشف الله به الملك الهارب من نور الهداية إلى ظلمات الضلالة.

وطلق فاروق الملكة فريدة.. ووجدتني أسير في مظاهرة تهتف بسقوط فاروق. وتندد بطلاق الملكة "خرجت الطهارة من بيت الدعارة" وفى نفس الوقت تهتف بحياة على ماهر..

وكان قد أشيع أن على ماهر لا يوافقه على نزواته، وأن ذلك هو سر الخلاف بين الملك وزعيم الوفد.

كانت أمام المسكين فرصة من أعظم الفرص يقيم بها الحكم العادل، ويرسى قواعد الديمقراطية السليمة، وأن يبتغى فيما آتاه الله الدار الآخرة، وأمامه الحلال بصنوفه وألوانه، يمتع نفسه إن شاء وأن يبتعد عن المعاصي ، فالمعاصي حمى الله، ومن يقرب الحمى يوشك أن يقع فيه:

" قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون. قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون. ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" (سورة الأعراف- 32،33،34)

أحل الله الحلال وما أكثره، وحرم الفواحش والإثم والبغي والشرك والكذب، وذكرنا بالحقيقة التي نعلمها، وهى أن حياتنا محدودة، وأنفاسنا معدودة .. كيف ينسى الحاكمون هذه الحقيقة: ".. فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" (سورة الحج – 46)

أي حاكم يفرض على الشعب سلطانه. لن يستطيع ذلك إلا بالقهر والزيف وارتكاب المحاذير. وهذا ما حدث بتنكب فاروق عن طريق الديمقراطية.

من أظرف ما سمعته عن قصص تزوير الانتخابات في العهد الملكي أن بعض الوفديين هجموا على صناديق التزييف في إحدى القرى وخطفوها، وانزعج العمدة، فاتصل بمدير المديرية ليخطره،

فأجابه المدير على الفور، لقد وصلت إلينا الصناديق وفحصناها وأظهرت النتيجة المجهود الذي بذلته وسجلناه عندنا لنبلغه وشكرناك عليه.

كانت أمام فاروق فرصة ليتوب إلى الله، وليحمل أمانة الحكم في صدق وكانت الظروف مواتية له لو أخلص ولن يغش ويغلل، ولكنه أخطأ وأصر على الخطأ ..

واستغل حكومات الأقلية في كبت الشعب، وساهم في قبول المخطط الماسونى بقبول الهدنة بين اليهود والجيوش العربية المبتلاة بحكامها ،

وسحب جيش مصر، وسلط النقراشي رئيس وزرائه على الإخوان المسلمين، وخداع المجاهدين منهم في فلسطين، فأخذوا أسلحتهم، ثم قتلوا مرشدهم وصعدت روحه الطاهرة وهو يناجى ربه، ويدعوه على فاروق ومن أعانه.

وجاء عام 1952 بثورة الجيش والشعب معا، وظهر قائد الثورة محمد نجيب، كان محبوبا من الجيش ، وأصبح محبوبا من الشعب والجيش، الطرقات والميادين وشرفات المنازل، تغص بالناس، تصفق لمسيرة النصر، وتنظر بالإعجاب لكل طائرة، وتنصت في شغف لكل نشرة إخبارية،

قامت ثورة 23 يوليو لتقيم في كل بيت موكب فرح وبهجة، وفى يوم 26 يوليو كنت بالإسكندرية وسمعت بخبر تطويق فاروق وإجباره على التنازل عن العرش ومغادرة البلاد.

أقبل الشعب صفوفا يسمع النبأ العجاب.

وتلقف الأخبار فترى في شكوك وارتياب .

قد بدا في الأفق نور وانقشاع للضباب .

وانبرى صوت نجيب باعثا حلم الشباب.

فابتهجنا والسعادة أقبلت من كل باب .

حكم فاروق تولى وانتهى عهد الخراب.

طارت الأحلام تعلو فوق هامات السحاب.

يملأ الشعب الشوارع في ذهاب وإياب .

يرمق الكل نجيبا بينهم دون حجاب.

الملك العملاق المتأله هوى.

السلطان والجبروت انسحب ولن يعود.

القصور والاستراحات أصبحت لغيره دونه.

الضباط الذين كانوا يرتعدون منه.

السياسيون الذين كانوا يتملقونه.

الشعب الذي أحبه صالحا وكرهه طالحا.

الجنود الذين كانوا بالأمس يحرسونه.

الكبار والصغار على شاطئ البحر يرون "المحروسة"

الرجال يهتفون والنساء تزغرد.

هؤلاء ، وهؤلاء يصبون اللعنات.

الكل هزتهم الفرحة وعمهم السرور.

فاروق الذي كم أسعده إذلال خصومه.

فاروق المغادر رغم أنفه في ذلة وانكسار .

بكى فاروق وكم أبكى المظلومين.

هزته الفجيعة على مصيره المجهول.

نظر إلى الضباط وهم يتأبطون عصيهم.

ونظر إلى أمواج الشعب وهو يلوح في سخرية.

ثم نظر إلى السماء وهى تصب عليه الغضب.

نظر إلى الشاطئ لعله يبكيه.

ونظر إلى القصر لم لا يواسيه؟

ونظر إلى الأمواج كأنها تناجيه .

كان كل شيء طوع يمينك فأضعته.

وكان الشعب يحبك فتمردت عليه وعاديته.

كانت بطانة الخير تنصحك فأبعدتها وقهرتها.

وأقبلت بطانة السوء فكرمتها وأدنيتها.

كيف نبكيك وكم رأيناك لله عاصيا؟

كيف نحزن لفراقك وكنت فينا طاغيا.

ابك أنت فدموعك أرخص من الماء.

واحزن ما شئت فلن يحزن لحزنك ملكك الضائع.

الكل شامت فيه وساخر منه.

لم يكن إلا باب واحد عمى قلبه عنه.

كان أمامه باب رب الناس حين يئس من الناس.

كانت أمامه أبواب السماء بعد أن غلقت أبواب الأرض .

كان أمامه أن يتوب إلى الله والله يقبل التائبين.

يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.

ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار.

جاءت فرصته ليتعظ ويتهدى.

فقسي قلبه وأصر على طريق الضلال.

وفى يوم من أيام الله.

هناك في بار تغص موائده بالخمور.

جلس إبليس يضحك مع جنده الشياطين.

وامتدت يد فاروق إلى كافيار فيه نهايته.

وبجواره خليلته التي تبغض بخله وتنتظر المكافأة .

مكافأة سخية من الذين طردوه وتعقبوه.

وسقط فاروق.

وهملق السكارى. وضحك إبليس اللعين.

يا من تريد الشعب قونا تابعين وصاغرين.

انظر لفاروق حزينا واعظا للمحاكمين.

شاه إيران

تزوج الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق، وفرحنا، كنا نتمنى أن يكون ذلك خطوة لجمع شمل الأمة الإسلامية، برغم المذهب الشيعي وما به من شطط، وفوجئنا بطلاق الملكة فوزية، وشده الغرور، فلم يكفه أن يكون شاه إيران،

فسمى نفسه شاهنشاه، أي ملك الملوك، أعترف بإسرائيل كما اعترفت بها تركيا، فالماسونية التي سخرت كمال أتاتورك لمآربها لم يكن من العسير عليها تسخير الشاه..

وتدفقت أموال البترول إلى خزائنه وهرب منها ما شاء له نهبه، وسلط طغيانه على كل ما هو مسلم، قتل واستباح قتل المسلمين، وكان والد الخميني أحد ضحايا أبيه وانتشر حرسه وجنده يقتلون في أي مكان ولأية شبهة، اعتز بكل ما هو فارسي واجترأ على كل ما هو إسلامي، وتقرب لأمريكا بشتى الطرق لتكون درعه في ضرب الشعب الإيراني الأعزل.

ولكن أنى للحكم الدكتاتوري أن يصمد أمام شعب أصر على التخلص منه، لقد نجح الشاه في قتل كثيرين، وسجن كثيرين وتشريد عدد كبير من الشباب المسلم، ولم يمنع كل ذلك من دنو نهايته، كثر الشهداء،

وتكاثر الثوار ووجد الطاغية نفسه مضطرا على الهرب، لم يتنازل عن العرش كفاروق، ولكنه رحل وهو يطمع في كرم أمريكا لتعيده إلى غيران بعد كبت الشعب وتصفية قادته الأحرار.

وأقبلت طائرة تحمل الخميني، ومدافع أتباع الشاه مصوبة إليه، ولم تنطلق المدافع بقنابلها، وإنما انطلقت الحناجر بهتافها وترحابها، واندفعت جموع الشعب الإيراني ولهم دوى بحمد الله وتسبيحه وتكبيره ،

كان الشاه يطمع في مساعدة أمريكا له، فلن تتسع أرضها له، ولم تبد استعدادها لضيافته بملياراته، تنكرت له كل بلاد الله، واستقبله السادات،

والطيور على أشكالها تقع. استقبله السادات برغم إرادة الشعب المصري فلم يكن الشعب على استعداد للترحيب بسفاح سفك دماء شعبه تمقته وتحتقره كل الشعوب.

السادات صديق كارتر المتورط ولم ينقذه من ورطته إلا السادات، كارتر وعد الشاه، ولكن الشعب الأمريكي يبغض كل الطواغيت وإن كانوا ملوكا يملكون المليارات ويبدون استعدادهم للإنفاق، والشعب المصري لا يرحب بأي طاغية، ولكن حكم الفرد انتقل من عبد الناصر إلى السادات، وإن اختلف الأسلوب.

الخميني ممتلئ بالحقد الأسود من ماضي الطاغية السفاح، وذهب سفاح وجاء سفاح وإن اختلفت الدوافع.. كنت أطمع في حكم إسلامي يسود إيران، ويقف الخميني يقول للسفاحين الذين أعانوا الشاه : ما تظنون أنى فاعل بكم؟ ..

ويسمع الدنيا كلها ما قاله الرسول الكريم من قبل:" اذهبوا فأنتم الطلقاء" ويفتح صفحة جديدة لشعب إيران المسلم فتتحد كلمته ويأخذ مكانه في البناء الإسلامى الذي طال انتظاره لمن يجمع شمله ويوحد كلمته.

أين يكن الشاه الطريد؟

في قصر القبة الذي لفظ فاروقا وما بكاه،

واستسلم للشاه وما رحب به،

سجن كبير يعيش فيه الشاهنشاه،

حوله ضباط عظام وجند كثيف،

سور من الجند والحراس يحميه من أعدائه الكثيرين،

يسمع عن أنباء الذين حموه من قبل ما يحزنه ويزيد يأسه،

تصله أنباء مصارعهم فيضطرب قلبه المريض وتثور أعصابه المرتعشة،

كانوا يحمونه من الشعب واليوم لا يحمون أنفسهم،

قتلوا الشعب بالأمس ليحفظوا عرشه واليوم الشعب يقتلهم،

ثورات الشعوب كالنار تحرق ما يصادفها،

لا تعرف الرحمة ولا تخضع لتفكير حكيم،

كان ينتظر اليوم الذي يعود فيه لإيران،

طال انتظاره وأحكم اليأس عليه قبضته،

نظر إلى حفنة التراب التي أحضرها معه من إيران،

فذكرته بالدماء التي أرهقها على تراب إيران،

الكأس التي جرعها لخصومه بالأمس في خسة ونذالة،

تتجرع مثلها بطانته ويأتيها الموت من كل مكان،

ذهب الملك وبقيت مظالمه تحيط به،

لا قصر القبة ينسيه،

ولا المليارات المهربة تغنيه،

ولا الابتسامات المصطنعة تواسيه،

وأغمض عينيه لينسى ماضيه،

وظل شبح الماضي يناجيه،

واشتدت آلام مرض يعانيه،

وفى يوم من أيام الله دنا منه ملك الموت ليرديه،

وضحك إبليس الذي كان يغويه،

ومضى السادات به إلى قبر يواريه،

ليته اتعظ بفاروق وكان هذا يكفيه، من يبتغ الله ربا فالله ينجيه..

حين قامت ثورة إيران هاجمها السادات، ولا أدرى لماذا تجنى على الشهيد حسن البنا بأقوال حاقدة غير صادقة،

وكنت على وشك كتابة ديوان شعر" نور على الكون أضاء" فصدرت الديوان بقصيدة، كانت في الحقيقة تحديا للسادات الذي كال تهما وتهديدات للخمينى ثم زج بالإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله في هجومه الحاقد ، فكان مما جاء في القصيدة:

إذا ضاقت سيفرجها الودود

فإن الله يفعل ما يريد

أخي في الله لا تحزن

سيمضى الهدم والبنا يعود

تدبر حكمة الرحمن فينا

يفر الشاه وخمينى يسود

تدبر كيف ينتصر الخميني

وشاهنشاه في الدنيا شريد

إذا ما الحاكمون بغوا وجاروا

وبات الشعب يحكمه الحديد

ويعلو نجم أفاك أثيم

وأحرار تكبلها القيود

وأرض المسلمين بكل قطر

تقاسمها الملاحد واليهود

فجاهد ما استطعت ولا تبال

سيجلو الضيق والمولى يجود

وجاءني خطاب عتاب شديد من فضيلة الشيخ محسن عبادي رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ومعه صورة لإعلان كله هجوم على أبى بكر الصديق رضي الله عنه، والإعلان الضال موجه من العلماء اإيرانيين، واسم الخميني بين الذين كتبوا هذا المنكر..


حزنت وقل تفاؤلي بما كنت أتمناه من نجاح لثورة إيران ، فلا خير في أي جهاد إلا أن ينطلق من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثورة .. وثلاثة رؤساء

الرئيس محمد نجيب . جمال عبد الناصر . أنور السادات

لماذا تقوم الثورات

تقوم الثورات الناجحة لتزيح الفساد ، حين يعم شره ويطغى أهله، ويصم أذنه ويتبلد عقله، وتنطلق غرائزه بغير رادع من قانون أو خلق، ولا مانع من عرف أو تقاليد، ولا خوف من شعب أو دين، ثم وقف المصلحون حيارى بين حق يناديهم، وباطل يفرض بطشه عليهم..

هنالك تقوم الثورة ويكون نجاحها بقدر ما تحقق من عدل وما تزيح من ظلم، وبقدر ما تحقق من ديمقراطية تعوض الأمة ما فقدته منها،وتوحد الصف في الداخل لتواجه به عدو الوطن في الخارج، وتنهض بالاقتصاد الوطني في نزاهة وأمانة.

وتكون الثورة ناجحة إذا اتسمت بالأخلاق، وتخلص قادتها من نزوات نفوسهم، وألجموا شهواتهم،

ولم يستسلموا لنهم غرائزهم، ولقد ابدع الشاعر على طه حين صور قوما تجمح بهم غرائزهم، فلا يشبعون من المتع مهما انكبوا عليها، فقال رحمه الله:

خلقنا غرائز منهومة
فليست تروى ولا تشبع

وهناك شاعر آخر يصور النقيضين: القناعة وشدة الرغبة فيقول في إيجاز موسيقى معبر:

والنفس راغبة إذا رغبتها
وإذا الرد إلى قليل تقنع

ومن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع".

وأما مغريات حب الشهوات من المتع المحرمة، تظهر معادن الرجال، وتتميز صفاتهم، فهناك مراهقون يغرقون في نهم شهواتهم، ويساعدهم على تحقيق مآربهم الهابطة سلطات واسعة وقوانين استثنائية جائرة،

ومحاكمات لمؤامرات مدبرة، ومشانق وسجون ومعتقلات مستعدة لابتلاع من لا يعلن استسلامه للمفسدين الجدد.

دواعي قيام ثورة 23 يوليو

قامت ثورة 23 يوليو ودواعي قيامها واضحة لدى غالبية الشعب:

1- الديمقراطية متوقفة وحزب الأغلبية مضطهد من فاروق لصلابة على ماهر باشا وعدم رضوخه لنزواته.

2- العدالة اهتزت حين أعلنت حكومة الأقلية الأحكام العرفية واعتقلت أبرياء، وتآمر فاروق وإبراهيم عبد الهادي رئيس وزرائه على قتل داعية الإسلام وحامل لوائه حسن البنا، لخشية فاروق على عرشه ولينفذ رغبة الانجليز.

3- الريب والشكوك إلى أحاطت بفاروق بخصوص الجيش المصري بفلسطين، وقد قبل الهدنة وما كان ينبغي له قبولها، واستعد اليهود خلالها بجلب الأسلحة المتطورة، وفاروق وعصابته تاجروا في الأسلحة ولكي يزيد ربحهم أرسلوا للجيش المصري أردأ الأسلحة، ثم انسحب الجيش المصري ، في ظروف توحي بالخيانة،

وبناء علي معاهدات سرية استسلم لها فاروق وحكومة الأقلية، وكان العنصر الفعال في فلسطين هم المجاهدين من الإخوان المسلمين، فاستدرجوهم لتسليم أسلحتهم وتم اعتقالهم وترحيلهم إلى المعتقل بمصر.

4- أنشأ الحرس الحديدي ليقضى به على خصومه واستغل صلاح سالم في قتل البطل أحمد عبد العزيز قائد الفدائيين بفلسطين،

واستغل السادات في قتل أمين عثمان وفى محاولاته الفاشلة في قتل على ماهر باشا، وأصبع السادات ليست بعيدة عن قتل الشهيد عبد القادر طه.

5- النزوات التي فاحت روائحها الكريهة، وكان سفر فاروق المتكرر إلى كابري مع ما يعرف عنها من فساد وإفساد، يثير على الملك شبهات وإشاعات مخجلة،

وفى احد الأيام صودرت أكبر جريدتين وهما الأهرام والأخبار لأنهما نشرتا صورة للملك العاشق وهو يلبس المايوه مع إحدى رفيقاته.

6- استغلال نفوذه للإثراء غير المشروع وتهريب الأموال خارج البلاد.

هذا وغيره، لم يكن خافيا على الشعب، وكانت تلوكه الألسنة وتلمح إليه الصحافة، بل وتصرح، ولا زلت أذكر عنونا لجريدة مصر الفتاة"رعاياك يا مولاي" وكان فاروق في كابري يشاع عنه بعثرة الأموال في الميسر، وتقدم الجريدة صورا لبعض الفقراء بملابس بالية.

جاءت الثورة وحفنة ضئيلة مصلحة، تبارك فساد الملك وتؤيده.. أما الشعب والأغلبية بكافة طوائفها فكانت تحتقر الملك وتمقته، وكان هو يجلس يحس بعداء الشعب واحتقاره له.

وجاءت الثورة وعلى رأسها اللواء محمد نجيب.. والحق يقال: كان رجلا واضحا صبوحا، يخرج الكلام من فمه إلى القلوب المحبة لحديثه والراغبة في المزيد منه..

وقبل أن أقف مع كل احد من الفرسان الثلاثة على حدة، أوجز حصاد الثورة.

فإذا كانت الثورات الناجحة تغير إلى الأفضل، فلنأخذ ما أوجزناه من أسباب قيام الثورة، ونسأل فرسان الناصرية بما لديهم من مغالطات، وبرغم ما هم فيه من أوهام، وبرغم الغيبوبة وفقدان الوعي الذي ألقوا بأنفسهم فيه، فألفهم وألفوه، وعشش في أذهانهم ويعز عليهم ألا يجد سبيلا إلى العقلاء الذين لا يعيشون في ظلمات الوعي المفقود..

وهم لذلك يسبحون بحمد الله جل وعلا، ولا يسبحون بأباطيل المتألهين ، ويعجبون بالأبطال المنتصرين ولا يحترمون أدعياء البطولة المنهزمين، ويحبون المصلحين الصادقين ويبغضون المفسدين الأفاكين.. ويحبون الحكام العادلين، أما الذين يؤثرون الظلم ، ويسخرون نفوذهم للبغي واختلاق المؤامرات والقتل وإذلال الخصوم في السجون والمعتقلات والمصادرة ..

هؤلاء الطغاة كيف نحبهم أو نصدق أكاذيبهم، وقد رأينا بأعيننا إسرافهم وإصرارهم على القتل ولم يشبعوا، وإهدار آدمية الأبرياء بحقد ووحشية لم نر مثلها من الانجليز الذين لعناهم ، هؤلاء لا يحبهم إلا أمثالهم والطيور على أشكالها تقع..

أما نحن فنؤذن على منابر النور بما يؤذن به ملائكة الرحمن".. أن لعنة الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا" ( سورة الأعراف 44،45).

تعالوا نناقش معا القضية بعقولنا، لأن شهوات النفوس والتعصب للباطل ، لا يبنى الأوطان، ولا يهدى إلى الطريق الصحيح، وإنما يخرج من باطل إلى باطل، فيزداد عن الحق بعدا، وتنأى بنفسها عن مواطن الإصلاح وتظل مع ما ألفته من الفساد، ولا يستوي الفساد والإصلاح، ولا المفسدون والمصلحون.

ماذا عن الديمقراطية؟

على الرغم مما تحدث به عبد الناصر عن الديمقراطية، وعن الذين أفسدوا الحياة السياسية، وزيفوا الانتخابات فلم تر مصر في كل عهودها الفاسدة فسادا سياسيا، وقتلا للديمقراطية،

كذلك الذي رأته على يد عبد الناصر، ولم تر تبجحا وجرأة على عقول الناس كجرأة الناصرية وأعلامها ينشر على الناس الخمسة تسعات المؤيدة للدكتاتور، والمسلمة أو المستسلمة له يفعل بها وبمصر ما يشاء.

وأصبح عبد الناصر هو مصر ، مصر هي عبد الناصر، وكلنا عبد الناصر وزغردي يا أم الهنا، واعزفي يا مزيكة.

البطل مشغول بالدور البطولي الذي تفرضه عليه الظروف، فقد جاء مع القدر على حد شعاره:

- الغي اسم مصر بجرة قلم ، أو بضغط على الزر الذي تمناه الرئيس، والذي يشبه على حد بعيد" خاتم سليمان" الذي يدلكه حامله فيحضر الجن ملبيا" شبيك لبيك ، عبدك واقف بين يديك" ، وضغط على الزر وتحول اسم مصر، الاسم الذي شرفه الله بذكره في القرآن،

واستبدل به اسما يليق بالدور البطولي " الجمهورية العربية المتحدة" ، وإذا كان قادرا على تغيير اسم مصر، فهو على تغيير من عليها أقدر.. أو هكذا خيل إليه ظنه.

وضغط على الزر فأمم الشركات والبنوك "المستغلة" لينشئ القطاع العام ، وحسب التأميم والقطاع العام من الفساد أن يؤكل به ناصريين لا خلق يمنعهم ولا دين يردعهم.

وضغط زره فأمم الصحافة، وفرض عليها المداحين لمواهب الزعيم وإلهاماته وتجلياته وعبقرياته ولا مانع من مقارنة كل ذلك بغباء خصومه، وجمودهم ورجعيتهم وعدائهم للشعب.. ولا تمل من تكرار "الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب".

وضغط الزر.. وتدفق الجيش بسلاحه وعتاده إلى أرض اليمن فقد جرحت سوريا كرامة الزعيم، وضرب اليمنيين بأكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط ليخضعهم لنفوذه ويظل للاسم "ج . ع . م " سحره وتعود للزعيم أحلامه وهيبته.

لعب الزر دوره في أحلام الزعيم، في مؤامرة المنشية ليمثل البطل على مسرح كبير يليق به.

تأميم القناة، بتحد لا يليق بدولتين كبيرتين، فضلا عن- أمريكا وأوربا.

ولقنته إسرائيل الدرس فاحتلت سيناء وهزمت جيشه ودمرت سلاحه، ثم دخلت إنجلترا وفرنسا.

هذه أمثلة .. ولا يمل الجهاز المتبجح من كيل التهم والتهديد للسياسيين القدامى الذين أفسدوا الحياة السياسية .

أين ضوت الشعب في كل ذلك؟

أين الممثلون الذين اختارهم الشعب؟

الشعب جمال وجمال الشعب ولا داعي ليتعب الشعب نفسه وليتقبل شرف تمثيل جمال له، ومن لم يعجبه البحر الأبيض فليشرب من البحر الأحمر، وليتعظ بأمريكا، فقد رضخت لتهديد البطل وشربت من البحرين.

في استفتاء عام 1956، ذهبت مع وفد من أصدقائي لإحدى لجان الاستفتاء بالورديان، لنبدى رأينا في المسرحية، وأمسكت بالقلم وكتبت على ورقة الاستفتاء:

"الجنازة حارة والميت كلب".

وفى اليوم التالي خرجت نتائج الاستفتاء، في دائرتنا بالذات (دائرة مينا البصل) عدد المقيدين يساوى الذين حضروا وقال الكل: نعم 100%.

أيها الناصريون أتحبون منطق العقول أم ران على قلوبكم ما كنتم تكسبون؟

يحدثنا الأستاذ هيكل شاعر الناصرية وحامل ربابتها، والمحلل القدير لإنجازاتها، وهو في نفس الوقت العدو اللدود للسادات، فيقول في كتابه خريف الغضب صفحة 372 وهو يصف تزييف الديمقراطية الساداتية:

" ولقد ضاقت مع الأيام دائرة من كان يتصل بهم- يقصد السادات ومستشاريه- وانحصرت هذه الاتصالات بدائرة قليلة من الناس ، كانوا على استعداد لأن يقولوا له ما يعرفون أنه يرغب في سماعه، وأصبح بصدق كل ما يقدم إليه من نتائج استفتاءات،

ويصر على أن أكثر من 99% من المصريين يؤيدون سياسته، وأي لا أحد يعارضه سوى قلائل من الأرذال والمنحرفين ، ولم يكن على استعداد على الإطلاق لأن يعرف أن كل استمارات الاستفتاءات تملأ في الريف بواسطة الإدارة وبدون ما حاجة حتى إلى شكليات عملية الاقتراع بما فيها عدد الأصوات".

وأنا أسم بصدق هيكل فيما ذكره، ولكنه ينطبق بصفة أقبح في استفتاءات صاحبه، وبرغم أن السادات تلميذ جمال إلا أنه ظل دونه جرأة على الحق، وتزييفا لإرادة الشعب، وبقى لديه درهم من قيم القرية، ومن لديه ولو درهم من القيم، خير من الذي قال:"ارفع رأسك يا أخي فقد انقضى عهد الاستبداد" والجرائم التي صبها على أحرا مصر في ثمانية عشر عاما ألعن مائة مرة من المصائب التي صبها الانجليز على أحرار مصر في سبعين عاما.

وقد يسألني ناصري خبيث : أيهما أفضل الاستعمار أن الناصرية؟ والإجابة جاهزة، كلاهما شيطان رجيم نستعيذ بالله منه.

ما أعظم العبرة في أيام الله وسننه التي لا تختلف ولا تتبدل، من كان يظن أن كاتب الناصرية المسبح بأمجادها وإنجازاتها وعدالتها المتمثلة في شخصية قائدها، ورحمتها بخصومها المتمثلة فى تركهم للأبناء يعيشون بعد قتل الآباء فلم يدفنوهم أحياء..

من كان يظن أن هذا الكاتب يساهم في تعرية الناصرية بأسلوبها وتخبط أفعالها ، وسواد أيامها.. هيكل هو هيكل.. لم يتغير.. هو لم يكتب ليكشف مخازي عهد سبح بحمده، وإنما كتب ينفس عن حقده ضد السادات، ولقد كان هيكل كذلك، واتخذ لأسلوبه الطريقة التي يعلم أنها تعجب صاحبه، صاحب الكلمة التي كتبها في كتابه فلسفة الثورة:

" ما أسهل الحديث إلى الغرائز" وكانوا يخاطبون غرائز الشعب، وكانت إسرائيل تتخطف خطبهم وكتاباتهم وتذيعها على العالم، لتشهده ولتهيئه ولتؤلبه على مصر والعرب والمسلمين أجمعين:

- سنحارب إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل.

- إن لم يعجب أمريكا أن تشرب من البحر الأبيض فأمامها البحر الأحمر.

- لن نسمح لأحد أن يجرنا إلى المعركة وسنحدد نحن يوم المعركة.

وكان مقال هيكل الأسبوعي"بصراحة" والذي كان ينشر في الأهرام يوم الجمعة يلف ويدور حول هذه المعاني ومن فاتته قراءته في الأهرام فما عليه إلا أن يدير مفتاح المذياع ليستمع إليه من إذاعة إسرائيل، ومن العجيب أن التشويش على إذاعة إسرائيل كان يتوقف أثناء إذاعة حديث هيكل،

لأن أحاديث الناصرية إلى الغرائز لم تكن قاصرة على الشعب المصري وإنما يعنى عبد الناصر أن تصل إلى كل عربي ، وإذاعة إسرائيل بنصيب نشيط في هذا المجال، مع الفارق، فالناصرية تخاطب به غرائز المغلوبين على أمرهم من المصريين والعرب، وإسرائيل تخاطب به عقول المتعاطفين معها، وقادة الدول العظمى، ولا تمل من إسماعهم تهديدات الزعيم لإسرائيل ومن هم وراء إسرائيل، ولسان حالها يقول: احذروا هتلر الجديد.

أين الشعب من كل ذلك، وما مسئولية الشعب المستبد به؟ أكبر جريمة ارتكبتها الناصرية ها وأد الديمقراطية وكان غلو الناصرية في الديكتاتورية، وتسخيرها السلطة العمياء في هدم الشرفاء والتنكيل بهم، أول طريق الضياع، وهزيمة الناصرية الكاسحة في يونيو عام 1967

لا نقول : إنها بدأت بإغلاق مضيق تنيران، وإنما بدأت يوم تخلص أعضاء مجلس الثورة من محمد نجيب ، منساقين خلف عبد الناصر، ويوم أقنعهم بتفويضه في اتخاذ القرار، ليتحاشوا تواجد محمد نجيب الذي أرادها ثورة نظيفة، ورآها المراهقون فرصة انكباب على الشهوات واقتسام الأسلاب ومحتويات القصور، وما يجد بعد ذلك من أمور.

صوب هيكل سهامه ضد ديكتاتورية السادات ونسى صاحبه، ولا أحب أن أقارن بين ديكتاتور وديكتاتور، فكلاهما أجرم في حق وطنه، وكلاهما ساهم في وأد ثورة تمنيناها لإنقاذ مصر والعرب.. ولكنى أغوص في التاريخ القريب أحلل كلنا سمعنا عنه، بل طالما تكلم عنه رجال الثورة..

هذا الحادث هو شهداء دنشواي.. الحدث في حقيقته جنديان إنجليزيان خرجا يصطادان طيورا وأطلق أحدهم بندقيته فتسبب عنها اشتعال النار في كوم من القمح، فخرج عليهما بعض المصريين وقتلوهما، قد تختلف الروايات،

ولكن هذا هو ما قرأته في كتاب تسلمته وأنا طالب في مدرسة المعلمين سنة 1940 ضمن الكتب التي كانت توزع علينا مجانا قبل الثورة، وللعلم كنا في مدرسة المعلمين نتعلم بالمجان وتوزع علينا الكتب، والكراسات وتقدم إلينا وجبة غداء بلا مقابل.

يا قومنا ، لو أن هذين الجنديان مصريين وحدث منهما خطأ نتج عنه اشتعال نار في قمح وقتلهما فلاحون أو جنود آخرون، ألا يتطلب الأمر محاكمة؟

القانون الوضعي والشرع الإلهي يحتمان المحاكمة، فماذا حدث؟ عين قاض مصري، ووكيل نيابة مصري.. ولا يضير الانجليز بعد ذلك أن يصدر حكم مصري على مصري بالإعدام، وإنما هو درس في الديمقراطية.

تعالوا بنا إلى المنشية.. يقف الزعيم ليخطب، وتنطلق رصاصات يفجر الرئيس على أثرها قلمه الأحمر فيبدو والحبر على صدره يشبه الدم الأحمر القاني، ويصيح.. أنا خلقت فيكم العزة والكرامة..

وفى اليوم التالي تنتشر أقوال واعترافات متهمين.. ويتبين وكيل النيابة أن المسدس الذي تسلمه مخالف لظروف الطلقات، فتعلن الجرائد في اجتراء أثيم بعد ستة أيام قصة عامل بناء يدعى خديوي آدم جاء من الإسكندرية إلى القاهرة ليسلم مسدسا وجده أثناء الحفل ولفقره لم يستطع الركوب فقطع المسافة ماشيا، ويسلم المسدس للمحقق على أنه المسدس المستعمل،

وتشكل محاكمة قاضيها جمال سالم وعضواها أنور وحسين، خصوم وقضاة- أين الشهود وأين خديوي آدم، وأين العسكري إبراهيم الحالاتى الذي ذكرت الجرائد أنه أول من أمسك بالمتهم وأين وأين ولماذا؟ وكيف يكون هذا..؟ واأسفاه.

وقالوا: إن الأستاذ الدكتور محيى الدين الخرادلى أخرج رصاصة من كلية أمين الاتحاد الاشتراكي بالإسكندرية وكان يجلس خلف الرئيس ، وكأن الرصاصة قد أصابت قلم الحبر الأحمر للرئيس فسكبت الحبر على ملابس الرئيس وأخذت طريقها إلى كلية أمين الاتحاد الاشتراكي..

وفى غمرة الأحداث جاءت قصة خديوي آدم وكان أقرب إلى التصديق أن يعلنوا أنهم وجدوا الرصاصة في الكلية اليمنى وجارى البحث عن المسدس المستعمل في الكلية اليسرى..

ولكن هكذا كانت عقلية الذين قادوا الثورة بالمؤامرات افترضوا السذاجة في الشعب. فقدموا البراهين على مستوى عقليتهم التي تستطيع قيادة كتيبة فضلا عن قيادة أمة.

وبعد محاكمات هي الخزي ووصمة العار في جبين الثورة الهابطة، تأتى الأحكام إعدام بالجملة، وسجن واعتقال الآلاف ، ومن يقرأ للسادات كتابه" البحث عن الذات: وهو يصف المعتقل الذي اعتقله فيه الانجليز والمعاملة الطيبة التي عومل بها وهو الخائن المتصل بالأعداء حسب قوانين الدولة- ..

ثم يقارن ما حل بالمسجونين من الإخوان المسلمين يجد الفارق الشاسع بين من يحترم آدمية الإنسان، وبين الناصرية الضالة الغارقة في ضلالها وشذوذ رجالها.

ومن منا لم يسمع عن مذبحة طره .. وأين دنشواي.. وأين محاكم التفتيش من هذا الذي رأيناه بأعيننا؟

يا من تحدثتم عن دنشواي، هل سمعتم عن كرداسة؟ رجال المشير، يريدون أن يثبتوا لعبد الناصر يقظتهم وحرصهم على حمايته، فيفترضون نشاطا مناهضا لجمال،

وذهبوا لاعتقال شاب متدين فلم يجدوه فاعتقلوا عروسه، فثار الأهالي ، لم يضربوا ولم يقتلوا.. منعوا فقط خطف ابنتهم وأختهم.. وهنا تحرك جيش المشير المهزوم في كل ميدان واعتقلوا رجال القرية، وعلقوهم كالذبائح وجلدوهم بقسوة، ونشرت جرائد الثورة أكوام الأسلحة التي كانت معدة لقلب الحكم.

ألا يحق لمحمد نجيب أن يقول: إنها "عورة" وليست ثورة؟ ألا يحق لرشاد مهنا أن يسمى أشباه الأبطال بأنهم مراهقون؟

سار وأد الديمقراطية جنبا إلى جنب مع مظالم تاه معها أية بارقة أمل في عدالة ترنوا إليها عين مظلوم ، وامتلأت السجون والمعتقلات بالشرفاء بما أخرس الألسنة، وانفسح المجال للمنافقين والمخادعين والمداحين والمتسلقين الذين لا يخلو منهم عصر، هذا ليس قولي،

وإنما نجد تفصيلاته فيما كتبه قادة الثورة كالبغدادي والسادات وغيرهم، ويقول السادات :" وكثيرا ما كان جمال يفقد البصيرة" ولماذا لم ينصحه ويبصره؟

ثورة هذا شأن رجالها، يفسدون ولا يصلحون، ويظلمون ولا يعدلون، هل كنا ننتظر منهم أن يحاربوا إسرائيل فضلا عن الذين هم وراء إسرائيل؟ أسلحة تشترى بدم الشعب وبالديون وقادة الجيش سماهم جمال "عصابة".

كيف ينتصر جيش تقوده عصابة، ولم يتمكن من استيعاب أسلحته، ويرى بعينه قائده غارقا في ملذاته. كيف ينتصر جيش أعدوه لغزو كرداسة وكمشيش واليمن؟

ثم كيف ينهض اقتصاد مصر، وقد افسدوا العامل والفلاح، وسلبوا المجد ثمرة جده بالمصادرة:

" وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا" سورة الإسراء – 16

حدثنا هيكل عن آلاف الجنيهات التي أنفقها السادات على استراحاته وعلى مظهره وعلى أمنه، ولم يحدثنا عن المليارات التي بددها صاحبه على المؤامرات في الداخل وفى الحروب الفاشلة والتجارب الخائبة،

والعمال الذين ينزعون من أعمالهم ليقوموا بمسيرات مفتعلة، وليهتفوا للبطل الذي لولاه ما كانت مصر ولا كان النيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

هذا هو حال الديمقراطية، وتلكم انتحار العدالة، وها هم أولاء أعضاء الثورة، تخلصوا من محمد نجيب وأصبح كل واحد منهم ألعن من فاروق، تحيط به الشكوك والريب، ولكل منهم حرس حديدي أشرس من حرس فاروق، وانطلقت نزواتهم وفاحت روائحها الكريهة،

واستغلوا النفوذ، لالتهام أقوات الشعب، ومصادرة أموال الخصوم، وتقدم أحمد حسين الذي قال لفاروق: " رعاياك يا مولاي" تقدم لجمال ليعاتبه فرماه في السجن، وفر من مصر مع أول فرصة سنحت له.

الرئيس محمد نجيب

يقول رحمه الله: سنتيمتر ماحد كان سيمنعني من أن أكون ضابطا، وقضت مشيئة الله أن يدخل الكلية الحربية في ظروف قاسية، توفى والده الضابط وهو صغير وترك أسرة كبيرة يعتصرها الفقر.

وعلى الرغم من قسوة ظروفه فقد كان شجاعا لا يقبل الهوان، سمع الباشجاويش يوجه كلامه للطلبة: أنتم حثالة المدارس، لو كان فيكم رجل فليتقدم خطوتين للأمام، فتقدم محمد نجيب أربع خطوات وقال:

- إنني عندما التحقت بهذه المدرسة لم أكن أتوقع أن أسمع ذلك، فشكره الباشجاويش وصرفه. تفوق في المدرسة الحربية فاختصروا له مدتها.

يقول رحمه الله: إنني أحزن على تاريخ مصر الذي تصور البعض أنه لم يبدأ إلا في ليلة 23 يوليو سنة 1952م.

عارض مبدأ دخول الجيش حرب فلسطين، لأنه كان يعلم الوضع السىء الذي عليه الجيش، وكان يتوقع نتيجة المأساة التي سوف تحدث لو تدخل الجيش بوضعه واستغل اليهود الموقف لصالحهم ..

ومع ذلك فقد حارب ببطولة نال عليها نياشين ونجا من الموت ثلاث مرات، ورقى ترقية استثنائية إلى لواء .

كان الفساد في الجيش بقيادة فاروق يعذبه ويؤرقه، ورأى الحقيقة المحزنة وهو أن فاروقا وبطانته قد حولوا كارثة فلسطين إلى ثروات.

يقول: إنه هو الذي أطلق على تنظيم الضباط السري اسم- "الضباط الأحرار" ، ويقول آخرون: إن الصاغ محمود لبيب رحمه الله هو الذي اختار هذا الاسم، ويزعم السادات أن له فضل اختيار هذا الاسم وعلى أى الأحوال

يقول محمد نجيب: لقد جاء اسما على غير مسمى ، فلم يكونوا أحرار، وإنما كانوا أشرارا، وكان أغلبهم من المنحرفين اجتماعيا وخلقيا ، ومن أجل ذلك كانوا في حاجة إلى قائد كبير ليس في الرتبة فقط، وإنما في الأخلاق أيضا وكنت أنا هذا الرجل للأسف.

نجح نجيب في رئاسة ننادى الضباط بأغلبية كاسحة أذلت كبرياء فاروق، وأحس فاروق بتحرك الضباط الأحرار من خلال منشوراتهم، وقرر اعتقالهم وفى مقدمتهم نجيب، وعلم نجيب بمخطط فاروق واتفق مع الضباط على تقديم ميعاد الثورة،

واختاروا لها يوم 22 يوليو، وكان على نجيب أن يظل بمنزله ليفوت على مراقبيه فرصة كشف الحركة، واتصل به الوزراء، ورئيس الوزارة نجيب الخلالى رحمه الله، يستفسرون منه عن التحرك الذي علموا به، وظل نجيب يخادعهم ويضللهم إلى أن جاءه تليفون يبشرونه بنجاح الخطة فاستقل سيارته وذهب إلى القيادة.

- كل ذلك يسقطه الضباط من كتاباتهم، حتى السادات الذي نسج لنفسه أدوارا بطولية قبل الثورة، والذي كان ليلة الثورة في السينما واختلق مشاجرة كتب عنها مذكرة في البوليس، تحسبا لفشل الثورة وليحمى نفسه، يغفل السادات ماضي محمد نجيب

ويقول: إنه بعد نجاحهم أرسل سيارة لتحضر محمد نجيب، كأن محمد نجيب كان "كخيال المآتة" يحمله غيره ولا يستطيع حمل نفسه، وكأن محمد نجيب الذي اكتسح خصومه في انتخابات رئاسة نادي الضباط على غير رغبة فاروق، كان من صنع جمال وشركاه، ولو كان لهم ذلك الوزن أو دونه ما فشل جمال سالم فشلا ذريعا في عضوية النادي.

- ما كتبه محمد نجيب في كتابيه" كلمتي للتاريخ" و " كنت رئيسا للجمهورية" يتسم بالصدق ، ويسقط من حسابنا أكاذيب وادعاءات الذين حقدوا على الرجل وتآمروا على إبعاده، وانساقوا في مخططهم هذا إلى أفعال يترفع عنها عصابات السطو على الثروات والبنوك.. لم يصدق عبد الناصر في حديث ولا وفي بوعد، ولا تواضع لعد فكيف نصدقه في ادعائه على خصومه وعلى رأسهم الرئيس المحبوب محمد نجيب.

- ومن المسلم به أن للسادات تاريخا حافلا في تحقيق أهدافه بالتمويه، وهو الذي يباهى بمقدرته الفائقة ومواهبه الفريدة في قضية أمين عثمان، كذب وتفنن في أساليب الكذب، منكرا صلته بالحادث ومتجنبا على مأمور السجن، ومدعيا على ضباط المباحث بتعذيبه..

ثم إنه وهو عضو اليسار في محكمة جمال سالم التي أسموها زورا محكمة الشعب، لا نستطيع أن نجزم بأن عضو اليسار كان يعلم بتفاصيل المؤامرة ولكن المقطوع به، أنه ساهم في التمويه والتغطية ورضي لنفسه أن يكون كومبارس مع الشافعي.. على مسرح الخزي والعار.

محمد نجيب أولى بالتصديق وأجدر بأن يؤخذ حديثه كما أخذناه منه يوم انطلق صوته قائدا لركب الثورة، حاملا روحه على كفه، باذلا كل قطرة من نشاطه ، وكل دقيقة من وقته لإنجاح الثورة.. وهل كان يتصور نجاح الثورة بدونه؟..

احتمالات كثيرة كانت كفيلة بتغيير مسار الثورة .. لولا صدق هذا الرجل وتواضعه لأراحنا من تخبط المراهقين، ولكن صدقه وتواضعه لا يشفعان له تردده في الضرب على أيديهم وردهم إلى حجمهم، ولم يفعل واكتفى بوعظهم وأمرهم بالتعفف ورجائهم أن يكونوا قدورة لغيرهم في الوطنية، والإيثار.. ما أحوج الصدق والتواضع إلى الحزم وحسم الأمور.

لو تذكر نجيب نصيحة فاروق لتيقظ لما كان يحاك حوله، كان فاروق واقفا على المحروسة استعدادا للرحيل، وأقبل محمد نجيب مصرا على توديعه برغم حشود الشعب الهادرة المرحبة بنجيب .. وصعد نجيب على المحروسة وحيا الملك، وقال له فاروق:

- أنتم سبقتموني فيما كنت أريد أن أفعله.

ـ أرجو أن تعتني بالجيش فهو جيش آبائي وأجدادي.. إن مهمتك صعبة جدا فليس من السهل حكم مصر، كان كل شيء يثير البهجة في النفوس، الثورة حقا ثورة الشعب بكل فئاته، نجيب الهلالي رئيس الوزراء ينصح فاروقا بألا يعاند نفسه، ويسلم بمطالب الجيش، القضاء ممثلا في السنهوري وسليمان حافظ متفانيان في صبغ تحركات الثورة والتخلص من الملك بالصبغة القانونية، الشعب كل الشعب يحيى موكب نجيب وهو في سيارته المكشوفة يحيى أفواج الشعب في الطرقات ،

وتجمعات الناس في شرفات المنازل والرجل يلوح للجميع بقبعته العسكرية والكل يهتف من الأعماق والجماهير تحيط بالسيارة المكشوفة وتكاد تحملها على أكتافها، والرجل واضح كأننا نراه من داخله، نرى قلبه ونقرأ نفسه ونتابع خواطره، الكل متلهف لسماع الرجل، ولم لا وابتسامة الرجل لها فعل السحر، ولحديثه جاذبية تشد القلوب قبل الآذان، يقول الرجل في تواضع وأدب:

- بني وطني إن ما ينسب إلى من عمل مجيد إن هو في الحقيقة إلا مجهود وتضحيات رجال الجيش البواسل، من جنود وضباط، لم يكن إلا شرف قيادتهم ، وإن هذا العمل الذي قمنا به ما هو إلا استمرار لجهاد مصر المقدس من عشرات السنين.. ولا يفوتني أن أقرر بمزيد الشكر والإعجاب ذلك المجهود الرائع الذي قام به رفعة على ماهر في اللحظات الحرجة..

وقد أمر جلالة الملك فاروق بأن ينعم على برتبة فريق، فلم أعلن رفضها حتى لا يعرقل غرضا أسمى وهو تنازل الملك عن العرش والآن وقد انتهت الأمور فإني أعلن تنازلي عن هذه الرتبة قانعا برتبة اللواء مراعاة لحالة الدولة المالية ويكفيني ما أسبغه على زملائي من شرف قيادتهم وما أسبغته على الأمة من ثقة وتكريم.

خطاب دبلوماسي كله رقة وعذوبة ويصلح أن يكو دستورا لنجاح الثورة لو حرص رجالها على نجاحها في القفز بالشعب خطوات هائلة نحو الرخاء، والارتفاع بمصر والعالم العرب والإسلامى إلى قمة المجد.

- يشيد القائد بالدور البطولي لرجال الجيش ضباطا وجنودا، ويعلن أنه لم يكن له شرف قيادتهم.

ولا شك أنهم شرفهم ورفع من قدرهم قيادة نجيب لهم، وماذا كانوا يساوون من دونه؟

هل كان يصلح لقيادة الجيش في ذلك الحين عبد الناصر أو جمال سالم أو صلاح سالم أو أنور أو غيرهم من الضباط الذين أتى بهم عبد الناصر من غرز الحشيش كما قرر ذلك بنفسه؟

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الله" اللهم انصر الإسلام بأحد العمرين" ولما أسلم عمر بن الخطاب فرح به النبي وكل المسلمين ولم يكن محمد نجيب نكرة فرفعه جمال،

وإنما كان نجيب قمة في السمعة والكفاءة والخلق وجاءت نتيجة انتخابه باكتساح أحرج الملك فأصدر قرارا تعسفيا بحل النادي، وهذا أعطى نجيبا تعاطفا من القلة الذين لن يعطوه صوتهم عن محبيه وعارفي في فضله ، فحين قامت الثورة وعلى رأسها نجيب ، فقد كان اختياره بحق من توفيق الله.

وكان نجاح الثورة يستوجب من الضباط أن ينسوا أمجادهم الشخصية ، ويتخلقوا بالأخلاق الفاضلة، وأن يكونوا كما نصحهم نجيب قدوة لغيرهم ، وأن يحافظوا على نجيب صمام أمام نزواتهم..

لم يكن عبئا عليهم وإنما كان بصدق خيرا ساقه الله إليهم، ليقوم في يوم من أيام الله المباركة، فينهى عهد فساد ويبدأ عهد إصلاح، فليست العبرة أن يذهب فاروق ويحكمنا جمال ، وإنما العبرة أن يذهب الفساد ليبدأ الإصلاح فما عبد قوم شخصا إلا أذلهم الله به.

- " وأن هذا العمل الذي قمنا به ما هو إلا استمرار لجهاد مصر المقدس من عشرات السنين".

كان على رجال الثورة جميعا أن يؤمنوا بذلك ويؤكدوه قولا وفعلا، فالذي يريد لشجرة أن تتفرع ، عليه بادئ ذي بدء أن يرعى أصولها ويتعهدها بالغذاء والإرواء، ولم تبدأ ثورة يوليو من فراغ، ولقد اختلفوا عليها أهي ثورة أن انقلاب؟

والحق الواضح فيها، هي ثورة وانقلاب، ثورة الشعب منذ بدأ الملوك يفسدون، وانقلاب الجيش حين عجز الشعب الثائر عن التغيير وترجمة ثورته بإزاحة المفسدين،

ولقد بدأت ثورة الشعب حين رأى بذخ إسماعيل ، وارتفعت حين انتفض أحمد عرابي قائد جيش مصر، ولم يكن على مستوى القيادة الحازمة الواعية، مهما قال المتقولون، فبقيت الملكية الفاسدة، وزادت البلوى باستعمار الانجليز..

وتأججت الثورة في النفوس، وإن رضخت لبطش الانجليز والقصر.. وما حادث دنشواي إلا تعبير عن ثورة في النفوس حين تجد الفرصة للانطلاق ، فهجم الفلاحون على الجنديين الانجليزيين حين أهاجا شعورهما باشتعال النار في القمح بسببهما وإن كان من غير قصد، وهل كانت ثورة النفوس ضد الاستعمار واهنة أو متبلدة إلى الحد الذي يرى فيه الشعب عدوين له يتسببان في حرق زرعه، ويعجز عن الثأر لنفسه ويتركهما لضربة الشمس لتثأر له؟

ومع ذلك فقد أظهر هذا الحادث أبطالا كان على رأسهم- مصطفى كامل ومحمد فريد رحمهما الله ولكن هناك آخرين، وشعب يعطى أذنه لمصطفى كامل ليسمعه" لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا " ولو كان للكلام ميزان، ووضعنا في إحدى كفتيه هذه الكلمات المنتسبة لمصطفى كامل، ووضعنا في الكفة الأخرى شعارات جمال والسادات معه، لرجحت كفة مصطفى كامل.

كيف نسقط جهاد من سبقونا؟ لقد حببت كلمات مصطفى كامل مصر إلى المصريين، وأثارت فيهم روح النضال والجهاد ضد المستعمر فماذا صنعت شعارات جمال وسوء فعله؟

لقد بغض عبد الناصر مصر إلى المصريين فمنهم من ظل في غيابات السجون وفى عذاب المعتقلات السنين الطوال، ومنهم من شنق ومنهم من قتل برصاص جنود زكريا وبأمر جمال، ولعل الشاعر كان واقعيا حين عبر عن محبوبته فشدته لحب دارها:

أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدار

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

أما أن يكون ساكن الديار، والمتحكم في أرزاق العباد، والقاضي والسجان والسياف والجلاد هو عبد الناصر وزبانيته وهم سكان الديار، فكيف نحب دارا فيها هذا البلاء؟

لقد كان عبد الناصر ونظامه نكسة خطيرة على مصر والعرب، فلم تكن النكسة هي يوم العار في 6 يونيو، كما سماه هيكل فيلسوف الناصرية وإنما بدأت النكسة والعار والهزيمة يوم كشر جمال عن أنيابه وافترس الديمقراطية،

وافترس كل من وقف في طريق، كيف نلوم من هاجر ولسان حاله يقول" يا مصر إنك حبيبة إلى قلبي وعزيزة على نفسي، ولكنى لا أحب أن أكون منافقا بني الحكام ولا طاقة لي بعذابهم اللعين. كنت آخر من اعتقله عبد الناصر ونظامه، وكنت أفكر كثيرا في الماضي وأغوص في عصور الظلم والظلام فلم أجد ألعن من الناصرية وعهدها الأسود.

- التهمة: إخراج جزء من زكاة المال ليتامى قتل أباهم حقد الناصرية المتبجح في مذبحة طره.

- الجزاء: اعتقال وضرب وافتراء وتعذيب- في 14 سبتمبر سنة 1970 – قبل موت عبد الناصر بأسبوعين.

- واستمر اعتقالي وفوضت أمري إلى الله.

وكانت فرصة طيبة لأحفظ القرآن الكريم وأتعرف على كثيرين من الإخوان الكرام، وجلست مع الأستاذ محمد السمان الكاتب الإسلامى، وسألته عن سبب اعتقاله فأخبرني بأنه قضى في المعتقل ست سنوات حسوما لم يوجه إليه فيها سؤال، وعلمت منه أنه أرسل للدكتور محمود فوزي رئيس الوزراء مذكرة تدين العهد الناصري.

ومما قاله في هذه الوثيقة التاريخية: إن عهد عبد الناصر أكرهنا على أن نكره بلدنا، والفلاسفة يقولون: شر ما في الحياة أن يكره الإنسان وطنه.

كانت اللمسة اللطيفة في خطاب محمد نجيب تستحق أن تضعها الثورة في الاعتبار، فإن الثورة لم تتوقف والأبطال الصادقون لم يخل منهم جيل وجاءت ثورة 1919 قوية جارفة عاتية، العمال في المدن والفلاحون في القرى والموظفون في كل مكان، المصريون جميعا ينادون بالاستقلال ويصبون غضبهم على المستعمر وأعوانه وكان سعد زغلول زعيمها المفوه وإن لم يكن بطل مصر الوحيد..

لو نقب قادة ثورة يوليو في التاريخ لعلموا أنه ليس لمصر الوطن، خير من المصريين، هم جنودها المضحون حين يظهر قادتها المخلصون، وكانت أمامهم فرصة ليروا جهاد الذين جاهدوا وقد سمعوا ورأوا الإمام الشهيد حسن البنا يجوب مصر من شمالها لجنوبها،

ومن شرقها لغربها يهيئ الأذهان ويشحن العزائم ويستحث الهمم، ويسمع كل مصري، حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:" من لم يغز أو ينو الغزو مات ميتة جاهلية"، وانطلق الشباب إلى القناة يسفكون دماء الانجليز هناك وفى كل مكان مما اضطر الانجليز إلى الجلاء عن القاهرة والإسكندرية وتقوقعوا في القناة..

وكان جهاد تلامذة المرشد لا تخلو منه مدينة ولا قرية ، ولقد سمعت أحد تلامذته يخطب في شعبة امبروزوبالإسكندرية وأمامه عدد كبير من الناس وتعرض بصراحة لفاسد الملك وواجب الجميع نحو طرد الانجليز وأعجبني منه ما ذكره من قول جمال الدين الأفغاني لأهل الهند: يا أهل الهند، لو تحولتم إلى نحل لأزعجتم الانجليز بطنينكم، ولو تحولتم إلى سحالي لاقتلعتم الجزر البريطانية من المحيط..

مسيرة الثورة لم تتوقف ، وكانت مستمرة ولها أبطالها.. وما قتل أحمد ماهر والنقراشي إلا المد الثوري، لتعاونهما مع الملك، ثم دفع الشهيد حسن البنا حياته رضي الله عنه، ولقد كان اغتياله بأمر فاروق أكبر مؤجج للثورة في نفوس المصرين جميعا، بل وكل العرب.

لو درسوا المد الثوري لوجدوا أن الدافع له لم يكن المستعمر فحسب، وإنما كانت ديكتاتورية الحاكم هي الدافع لكل الثورات، وكانت السبب المباشر لدخول المستعمر، ثم كانت السبب في بقاء المستعمر.

نجيب في خطابه التاريخي

" ولا يفوتني أن أقر بمزيد الشكر والإعجاب لذلك المجهود الرائع الذي قام به رفعة على ماهر في اللحظات الحرجة".. ولقد وقف على ماهر وقفة وطنية رائعة، وبذل من المجهود الخارق والنصائح الصادقة ، والأسلوب المتمرس ليتنازل فاروق في هدوء لا يعرض الثورة لتدخل إنجليزي أو أمريكي يجهضان في أيامها الأولى، أولصدام بين الجيش والحرس الملكي تراق فيه دماء مصرية غالية.

ولم يكن على ماهر وحده هو المستحق للشكر فقد قام السنهوري وسليمان حافظ بمجهود مماثل، في وطنية صادقة ، وفرحة غامرة بالتخلص من الملك بالأسلوب القانوني الذي يبعد عن الثورة شبح الهمجية في أيامها الأولى.

وكان على ماهر في الخارج فأقبل ليلا وتوجه إلى قائد الثورة يهنئه فور وصوله.

ماذا بقى أما الثورة من أعداء أو أعوان استعمر؟ لو تنبه طواغيت القيادة، لهذه اللفتة، وطبقوها قولا وفعلا لما تعثرت في مشاكل خلقتها وأفقدتها توازنها، ولما شكلوا محكمة الثورة ليرأسها البغدادي ومعه ضابطان، وقد وجدوا فرصتهم في سلخ قيادات الأحزاب، وفى توجيه تهم مضحكة، يكفى أن يكون من بينها تهمة عثمان محرم، إنشاء كوبري على النيل، تهم لو قيست بنهب القصور الملكية ونهب مال الدولة، وبعثرة المليارات على أسلحة يراها الشعب في العروض وترمى لليهود في الحروب ، ومال الشعب المنهوب بالحراسة والتأمين..

لو قارنا هذا الخبل بالتهم التي وجهها البغدادي وحاكم بها رجالات مصر لكانت أوسمة تحلى بها صدورهم وليست تهما تنشرها جرائدهم المترنحة، وكتابهم المتسلقون.. لقد نجحت الثورة وكان أمامها فرصة ذهبية لتجميع كلمة الشعب وتوحيد صفه، لو بسطت للشعب كله جناح الذل من الرحمة، والتمست الأعذار لشعب تسلط عليه القصر والاستعمار المتربص.

من كان أمام الثورة من رجال الأحزاب غير على ماهر ، كان رئيس حزب الأغلبية وباقي الزعماء لم يكونوا إلا أسماء لمكاتب عليها يفط أحزاب، أنا شخصيا لم أكن وفديا، ولكن الإسلام الذي أكرمني الله به علمني الصدق، وبقدر حبي للصدق أمقت الكذب والكذابين، كان على ماهر ضحية استبداد القصر، فكان مجنيا عليه، وكان الملك هو الجاني، وكان رؤساء أحزاب الأقلية يشاركون الملك، وكانوا أدواته في إفساد الحياة السياسية.

وبرغم ما كنت أعلمه ولمسته بنفسي عن شعبية على ماهر ، لو أن قادة الثورة تخلصوا من هوى أنفسهم وسلكو ا طريقا ديمقراطيا صحيحا وأبقوا على نجيب دون تجريح للرجل ولا نبش لصغائر التهم، وأتاحوا الفرصة لانتخاب حر صحيح بين نجيب ومن يتقدم وليكن على ماهر أرجح أن كفة أن كفة نجيب كانت سترجح..

فإن لم ترجح ونجح على ماهر فما كان هناك أدنى خوف من فساد سياسي ولا ممالأة للاستعمار، ولكانت نتيجة التفاوض مع الانجليز أيسر وأنتج وأفضل عاقبة.

ولكن كما ظهر بعد ذلك كان المحرك لدفة الثورة هو جمال، وامتلأ قلبه بالحقد على نجيب، ويحدثنا البغدادي والسادات عن أمر عجيب.

بعد طرد الملك اجتمع مجلس قيادة الثورة، وسألهم عن طريقة الحكم وقرر أعضاء المجلس الديكتاتورية وجمال بمفرده قرر الديمقراطية وانتصر.

- لم يكن نجيب موجودا ، فقد اجتمعوا بدونه.

- ديكتاتور القرن العشرين هو وحده يقف مع الديمقراطية ما معنى هذا؟

لقد رأى إقبال الشعب على نجيب وعظيم تجاوبه معه، وكان ذلك في عرفه ديكتاتورية ينبغي هدمها، وفعلا انتهز كل فرصة يظهر فيها نجيب ليهاجم الديكتاتورية ويعرض بنجيب.

كان أمام عبد الناصر خصمان احتار في شعبيتهما: محمد نجيب و على ماهر ، أما محمد نجيب فقد جرده جمال من أسلحته مستغلا طيبة الرجل وحسن ظنه بأعضاء مجلس الثورة، وتربص به جمال وتدرج في لكمه إلى أن أجهز عليه بالضربة القاضية بعد مسرحية المنشية.

وأما على ماهر الزعيم العنيد فقد سلط عليه جمال جرائده المترنحة، وكتابه المتسلقين، فصوبوا سهامهم إلى نقطتين:

- الأولى : حادث 4 فبراير 1942، وكنت أيامها طالبا بمدرسة المعلمين بشبين الكوم ، ووجدتني أسير في مظاهرات لا أعرف سببها..

هناك أمور تستغل فيها عواطف الجماهير وغرائزهم دون تعقل.

لم يكن على ماهر رجلا كرجال أحزاب الأقلية يدفن رأسه في الرمال إلى أن يتصدق عليه الملك، وإنما كان رئيس حزب الأغلبية وعلى ثقة من حب الشعب له، واكتساح خصومه في أية انتخابات حرة، لذلك اصدر الرجل بيانا في استفتاء الأمة، وإجراء انتخابات لمجلس النواب

وأذكر مما قاله فيه:" إنني إن لم أستفت الأمة لداستني الأمة بالأقدام" وفعلا أيدت الأمة على ماهرفي انتخابات حرة لا يطعن في نزاهتها إلا كاذب.

الأمة أيدت دعوة على ماهر ، فهل يضيره أنه جاء في وقت ضغط فيه الانجليز على فاروق أن يكون الحكم مستقرا بحكومة شعبية ديمقراطية.. هل قدم لنا خصوم على ماهر ومنهم جمال تنازلات من على ماهر للانجليز لنحاسبه عليها؟

العكس هو الذي حدث، فصلابة على ماهر ووطنيته أيأست الانجليز منه، فتركوا لفاروق حريته في الحكم الاستبدادي فأقال على ماهر وجاء بوزارة أحمد ماهر ، وأجرى الانتخابات المزيفة، وأعلن الحرب على المحور مجاملة للانجليز، وقتله وطني غيور" محمود العيسوي" رحمه الله لذكر بيوم من أيام الله.

- النقطة الثانية: يذيعون عن على ماهر أنه وقف أمام الملك يرجوه أن يسمح له بتقبيل يده.

يا سبحان الله ، إن النقطتين متعارضتان ولا تلتقيان، لقد قبل على ماهر الحكم رغم أنف فاروق فأذل كبرياءه، وفى الثانية يشيعون عن على ماهر أنه يقف أمام الملك يرجوه أن يسمح له بتقبيل يده، وكأن تقبيل يد الملك كانت تحتاج إلى طلب مشفوع بالرجاء ليسمح له بتقبيل يده.

من التفاهة وقلة المروءة أن يبحث التافه عن أسباب تافهة يهدم بها خصمه.. وفى كتاب السادات " البحث عن الذات" لجأ السادات لشيء من هذا القبيل للإمام الشهيد حسن البنا حيث قال: لم يكن يعجبني منظر الإخوان وهم يقبلون يد المرشد العام.

ويشاء الله أن يسلط على السادات صديقه القديم هيكل فيحدثنا فى كتابه " خريف الغضب" أن السادات الذي عمل في الحرس الحديدي لحساب فاروق.. بعد فصله من الجيش أرشده الدكتور يوسف رشاد إلى طريقة يستدر بها عطف فاروق وهى تقبيل يده..

واستغل السادات وجود الملك في مسجد الحسين رضي الله عنه ، وهجم على يد الملك يقبلها " طبعا من غير استئذان" .

كانت لفتة كريمة في خطاب نجيب يشكر على ماهر.. وكل زعماء مصر على ما قدموه وفتح صفحة جديدة لجهاد الجميع بعد أن رحل فاروق، وبات الانجليز يبحثون عن وسيلة للجلاء، ليس عن مصر فحسب وإنما عن كل المستعمرات.

ولا أحب أن أترك على ماهر رحمه الله قبل التنويه بأن عيوبه كانت أشبه بمخالفات مرور صغيرة إذا قيست بجرائم غيره على حد قول الأستاذ مصطفى أمين، ومن وجهة نظري فقد كان على ماهر وطنيا صادقا ، وسياسيا قادرا، وكان بشعبيته أقدر الزعماء السياسيين إذا فاوض ، وأخلصهم إذا عاهد ، وأشجعهم إذا ألغى.

عيب في على ماهر لم أحبه فيه بحكم انتمائي الإسلامى، هو حبه لكمال أتاتورك، وهو العيب الذي أوجد الصدام بينه وبين الإخوان، وعاتبه الشهيد حسن البنا رحمه الله، فترك على ماهر صحافته تهاجم المرشد وتفتري عليه افتراءات واسعة،

وأقول: ترك صحافته تفعل ذلك ولم أقل : أمر أو أوعز وإنما كان في استطاعته أن يقول: إنه اختلاف رأى وكان في استطاعته أن يوقف تهجم صحافة الوفد وافتراءاتها ولم يفعل، ولو فعل والتقى الوفد والإخوان ، لتيسر لهما إنقاذ مصر مما حل بها على يد المتشنجين.. عيب لم يكن في على ماهر وحده وإنما كان في أنور وقد باهى به، وزعم أنه كان يقرأ كتابا عن مصطفى كمال بالانجليزية..

أما جمال فلم يباه بتقليده لأتاتورك لأنه لم يكن يقبل أن يكون تلميذا وإنما أستاذا لأعداء الإسلام..

وقد كان وظل يستنكف أن يظهر بمظهر المقلد لغيره، أو المتعظ بسواه، ولذلك لم يكن يمل من تكرار "لست سياسيا محترفا" وما الذي يعنيه بذلك إلا أنه يحتقر السياسيين القدامى ويتعالى بفكره عليهم؟.

وإن كان السادات في كتابه " البحث عن لذات" يدهش لكثير من أمور عبد الناصر، ولكثير من تصرفاته ويصفه بأنه السياسي المحترف، وأيهما أصدق ،السادات الذي يصفه بأنه السياسي المحترف أم هو الذي يعلن بلسانه ويكرر ما أعلنه بأنه ليس سياسيا محترفا؟

يتدارك السادات فيعلل متناقضات صاحبه بأنه كان يفقد البصيرة في تصرفاته.. وحسب مصر من الضياع أن يفقد قائدها البصيرة ولا يقبل النصيحة من أحد.

- وجاء في خطاب نجيب التاريخ الذي كان ينبغي أن يكون دستورا للثورة لو أراد لها الثوار النجاح، وأن تكون ثورة إصلاح يراه الناس ويسجله التاريخ دون احتياج إلى فلاسفة المغالطات، وحملة المباخر، ممن على مستوى هيكل ومن دونه بدرجات:

" وقد أمر جلالة الملك فاروق بأن ينعم على برتبة فريق، فلم أعلن رفضها حي لا تعرقل غرضا وهو تنازل الملك عن العرش، والآن وقد انتهت الأمور فإني أعلن تنازلي عن هذه الرتبة قانعا برتبة اللواء مراعاة لحالة الدولة المالية، ويكفيني ما أسبغه على زملائي من شرف قيادتهم وما أسبغته على الأمة من ثقة وتكريم" تحمل هذه الفقرة من المعاني المعبرة والنابضة بما كان ينبغي أن تكون عليه المسيرة من إيثار للذات ، وهذا القائد محمد نجيب لم يكن من الذين يقولون ما لا يفعلون ، إنما قال وفعل.

اختبر في فلسطين فحارب ببسالة، وجرح سبع مرات، وتعرض للموت مرات ومرات فثبت ولم يبال بضعف إمكانياته وتفوق اليهود وواجه الأمور بشجاعة ولم يدبر .

واختير قائدا للثورة فأخلص واحتفظ بالسر حتى عن أخيه اللواء على نجيب، وحين ابتدأ الانقلاب بتحرك يوسف صديق، لم يجد الوزراء أمامهم غير نجيب، سألوه وهو في بيته، يضللهم ويقوم بأعظم ما يقوم به مسئول يريد لحركته البادئة أن تشب عن الطريق ، فلم يستخفه هوى النفس ، وظل يناور حتى تمكنت يد الثورة من أعناق الرتب المحركة للجيش ، ومع أو لتليفون وصله، انطلق بعربته ليقود المسيرة..

ولم تنسه نشوة النصر الأدب الذي ينبغي أن يكون عليه أبطال الإصلاح فودع فاروقا المهزوم بأدب القائد المنتصر الذي لا تغيره الإمارة، ولا يطيش بصوابه المنصب.

- وها هو القائد المنتصر لا تنسيه نشوة النصر ما قام به إخوانه وأبناؤه الضباط، بل ولم تنسه تجاوب الشعب المعبر عن سعادته بالثورة واستبشاره بما يمكن أن تقدمه له.

كان يرى استبداد فاروق وفساده عقبة في طريق نهوضه.. بل وفى إجلاء الانجليز.

وكان يرى بعض الزعامات المفتتنة لكلمة الأمة والمفرقة لصفوفها، وكان من الواضح أن زعماء الأقليات ما كان على الواحد منهم إلا أن يعلن اختلافه، ويؤسس حزبا ويعلن لافتة، ويضع نفسه تحت تصرف الملك يقبل يده بإذن أو بغير إذن ، فيكلفه الملك بتشكيل الوزارة ويعطيه سلطات تزييف الانتخابات، والشعب المبتلى يعبر عن سخطه بمظاهرات ، ويؤمر البوليس بتفريقها يجرح من يجرح ويموت من يموت وتظل حكومة الأقلية ما رضي الملك.

وقد ذهب الملك فماذا بقى؟

عبر نجيب عما كان ينبغي أن تكون عليه الحكومة التي تحكم لتصلح ما أفسده الملك ومن عاونه، ولم يكن ذلك ليتحقق إلا بقادة ينسون ذاتهم، ويكونون عند قول الحق تبارك وتعالى :" .. ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" ( سورة الحشر- 9)

وبدأ نجيب بنفسه ، فأعلن عن تنازله عن رتبة الفريق تقديرا لحالة البلاد المالية، وقطع تنازل نجيب عن رتبته خط الرجعة على باقي أعضاء مجلس الثورة الذين اشرأبت أعناقهم إلى الرتب، وإلى النهب بغير حسيب ولا رقيب.

وعرض جمال وهو وزير للداخلية على نجيب وكان رئيسا للوزراء أنه استقر رأى مجلس الثورة سرا على أن يأخذ كل عضو عشرة آلاف جنيه ولنجيب أربعة عشر ألفا ، وأن زكريا محيى الدين" بطل مذبحة طره" قد أعد النقود.. فغضب نجيب ورفض بشدة.

وفى إحدى الحفلات قدم إليه الأكل في أواني ملكية، فغضب وحذر من تكرار ذلك.

وحين أصبح نجيب رئيسا للجمهورية، اجتمع مجلس قيادة الثورة ليقرر مرتب الرئيس وقرروا له خمسمائة جنيهن فأعلن اكتفاءه بالنصف فقط ونقلت الصحافة قوله" لو كان عندي ما يغنينى لتنازلت عن كل المبالغ، وشرفني أن أعمل بلا مقابل لخدمة بلادي".

له الله يا نجيب ، كنت في واد والمراهقون في واد آخر.

سعدت بالشعب كما سعد الشعب بك، وأردت أن تكون قدوة طيبة وأسوة حسنة، فماذا كان يضن لك أن يتأسوا بك ولا ينقلبوا عليك.

لا شك أنك كنت على ثقة من إجماع الشعب على حبك ولكنك نسيت أن الشعب أعزل، وأن حب الشعب لسعد لم يمنع فؤادا من إقالته وتكليف زعماء اللافتات بالوزارة.

ونسيت فاروقا وهو يقيل على ماهر ويكلف زعماء اللافتات بتشكيل الوزارات وتزييف الانتخابات، ونسيت الحسين رضي الله عنه، وهو من هو وبرغم حب الشعب له، لم يستمع لمن نصحه، " يا ابن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قلوب القوم معك وسيوفهم عليك، فارجع خيرا لك".

وماذا يعنى حب القلوب إذا فسدت وانصاعت لبطش جمال؟ من الذي يتصور أن ابن قميئة يقتل الحسين تزلفا ليزيد؟ ومن الذي يتصور ذلك الدنيء الذي يقتل حسن البنا انصياعا لحاكم؟.. ومن .. ومن.. والقصة تطول.

بل إنه لم يكن أمام الرجل الطيب ما يبشره بأنهم سيقلدونه في العفة والطهارة التي أخذ نفسه بها ودعاهم إليها، رآهم نجيب وهم يحاكمون الضباط بمؤامرات وهمية ويعدمونهم ويعذبونهم ويشردونهم.. ورآهم لاهثين خلف الأميرات ووصل إلى سمعه أصوات استغاثتهن، وتقدم إليه جمال بصراحة لا تحتمل اختلاف اثنين على مغزاها، لم يكن الأمر مجرد عشرة آلاف لكل ضابط، وأربعة عشر ألفا لنجيب..

ولما احمر وجه نجيب من الغيظ قال له جمال: إنما أردت أن أختبرك ولا يحتمل الاختبار إلا أمرين: - إما أن يوافقهم فيكون بداية لما بعدها.

- وإما أن يرفض فيعلمون أنه عائق لهم عن بلوغ مآربهم، فتجتمع كلمتهم على الكيد له ليخلو لهم الجو.. كما اجتمعت كلمة إخوة يوسف على إلقائه في الجب ليخلو لهم وجه أبيهم.

ورأى نجيب يد الهضيبى تمتد بالإسلام.. ليكون البديل عن الغثاء الذي عاشت مصر فيه، فأخرها القرون، وفرقها إلى طبقات، فاستبد الحاكم بالمحكوم، وحرم الغنى الفقير، واستغل القادر العاجز.. فماذا كانت إجابة جمال؟

- إننا لم نتفق على شيء.

لقد رفض الإسلام، ضابطا لتصرفاتهم ، واقنع جمال رفاقه برفض الإسلام وكانوا لذلك مستعدين ووافقهم نجيب، فماذا بقى ليبشر بخير يتحقق على يد هؤلاء؟

كان المخطط أكبر وأبعد من أن يستوعبه نجيب ولذلك تنازل عن قيادة الجيش الذي أوصاه فاروق بالاهتمام به، وتركه لجمال ليمزقه شر ممزق، وليحوله إلى جهاز أمن له، وسلطة بطش بخصومه.

كانت أما نجيب فرصتان:

- الديمقراطية كاملة في شهر الثورة الأول، وكان يستطيع ذلك في سهولة ويسر.

- أو يقبل الإسلام ليضبط تصرفاتهم:

".... ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة..." ( سورة الأنفال- 42)

فلا يترك الأمر فوضى لضابط ابدي استعداده لقتل كل خصومه، واستنكر نجيب المنكرات التي رآها بلسانه، وقد كان صاحب سلطة تفرض عليه الحسم.. ولم يفعل.

وفى يوم من أيام الله أقبل عبد الحكيم عامر الذي سلمه نجيب الجيش ن وتقدم خطوات من نجيب، وأقسم له بابنتيه نجيبة التي سماها على اسم نجيب حبا له وتقديرا لإخلاصه ونبله، قبل أن يوغر الشيطان صدره عليه.. أقسم له أنه سيبعده في مكان أمين لمدة أيام إلى أن ينتهي التحقيق في " مسرحية المنشية".

وظهرت علامات الشك والريبة في هذا القسم، فأقسم بشرفه العسكري، الشرف العسكري الذي فضحه الله في العالمين ، يوم انصاع لأمر جمال فأصدر أمره للجيش أن يتحرك إلى سيناء، وذهب بالجيش إلى سيناء وكأنه ذاهب إلى كرداسة أو إلى كمشيش، وسلم سيناء لليهود بسلاحها وعاد بفلول جيش منسحب من غير نظام:

كم صبرنا وانتظرنا الخير في يوم قريب

وأتى الجيش ببشرى زفها صوت نجيب

فسعدنا وسمعنا صوت تصفيق القلوب

كيف لا والقول يأتي من حبيب لحبيب

بيت الشر بليل عصبة الحقد العجيب

ضللوا الشعب وقادوا فتنة الكيد المريب

حولوه إلى سجين في ضحى يوم عصيب

وانتهى عهد نجيب وأتى عهد الكروب

ذهب نجيب إلى الصحراء ، يلقى بالفتات ويتجرع الألم ولسان حاله يعبر عن ذكرياته:

ساروا بجسد واهن فوق الصحارى.

بالأمس كنت رئيس مصر،

واليوم يحرسني حثالات الجنود،

من أجل ماذا يا جمال صنعت هذا ؟

أين الوفاء بما وعدت ؟

في لحظة خنت الصداقة والعهود.

لا ماء أشربه لأطفئ لوعتي

أبدا وليس هنا طعام،

والفكر أرهقه وعذبه الشرود .

ونسيت أياما قضيناها معا.

ونسيت عهد جهادنا.

ومضى يهدد ودنا قلب حقود.

قمنا نزيح الظلم عن أوطاننا ،

والله يعلم سرنا ،

والنصر جاء ورفرفت كل البنود،

ما كان ظني أن نخون عهودنا ،

وترجج الأحقاد.

وتعيش مصر مع السلاسل والقيود،

قد كان يوم النصر أكبر واعظ،

ملك بذل بظلمه.

يمضى ذليلا صاغرا بين الجنود،

قد ظن أن الظلم يحمى ملكه،

وقد انتهى في لحظة، واليوم ظلمك يا جمال بلا حدود،

قد كان فاروق يروع شعبنا.

ولكم دعونا ربنا.

وقد استجاب الله في يوم الخلود.

ولقد أرانا الله أعظم آية،

كانت تحتم شكرنا،

فأبى اللئام الجاحدون سوى الصدود.

بالعدل قامت في البلاد حضارة،

والظلم أفزعنا،

وفرقنا وهدد أمننا عبر الحدود.

نهبوا البلاد ولوثوا أعراضها.

وتعاونوا في بغيهم،

وتلاءموا وتراقصوا مثل القرود،

هتف الرعاع يؤيدون عصابة،

خانت أمانتها،

فعمت وضلت في متاهات الشرود،

وظللت أنصحهم وأستر خزيهم.

كي يرجعوا عن غيهم،

فأبوا وظلوا في المفاسد والنكود،

واستأجروا الغوغاء،

وتناثرت أموال مصر مع الهواء،

آثرت أنصح

م نصيحة مخلص،

وأعيدهم من غير عنف أو دماء ،

وعلمت أن الانجليز تأهبوا،

وهناك قد تم اتفاق في الخفاء .

الجيش مزقه الحقود.

والشعب كبل بالقيود .

والذئب يولغ في دماء الأبرياء.

فوضت أمري للإله وحكمه.

والكل يمضى كي يعود لربه،

والله يقضى في العباد بعدله.

حاولت صبغ الحكم دون مظالم

وأقود مصر بحكمة العقلاء

يجد المجد جزاءه ومكانه.

ويجيء واسع الإثراء

وأتت شياطين الهوى بضلالها

وتعاونوا ضدي على الإيذاء

إن كنت قده قصرت في تأديبهم

فلقد جزيت بها.. وأي جزاء

بحر عميق بالمصائب مترع

ألقوني فيه لفتنة وبلاء

يقول رحمه الله: إن كنت قد أخطأت فبحسن نية .. ولم يكن خطئ سوى قطرة ماء إذا ما قورن بمحيط العذاب الذي غرقت فيه من يوم أن خرجت من قصر عابدين في 14 نوفمبر سنة 1954 حتى الآن ( 1984).

جمال عبد الناصر

لكي نعرف حقيقة عبد الناصر لابد من إزاحة ركام الزيف الذي أحاط به.. ولن نستطيع لأن ثمانية عشر عاما من الزيف المتعمد والذي حشد له إعلاما جبارا لم تشهده مصر في كل تاريخها.

ليس من اليسير إزاحة العفن المتراكم، والران المتجمد، ثم نغوص في المستنقعات الآسنة نبحث عن اللآليء المزعومة، والجواهر البراقة التي صاغها الناصريون والمغرضون عقود زينة، وباقات زهور، وأوار بطولة، تغنوا بترابها وقد أمسكوا بنواصي أحرارها بقسوة وغلظة إما الموت، وإما الانسياق في ركب الزيف، وما بين الموت والانسياق أسباب لا تحصى من السجون والمعتقلات والتعذيب والتشريد، والمصادرة، وهتك العرض، وفتنة المؤمنين في دينهم..

حقائق لو لم ترها أعيننا لكان من العسير أن يتصور إمكان حدوثها فضلا عن تصديقها.. حسبنا من نظام تمكن الزيف فيه من غسيل أمخاخ ملايين البشر، كان من واجب حكامهم أن يعلموهم الصدق ويكونوا قدوة لهم فيه، وأن يعلموهم الجد ويكونوا قدوة لهم في الجد، فما هدم الشعوب مثل الهزل، وأن يكون واضحا لدى الجميع أن الحظ المستقيم هو أقرب طريق يصل بين نقطتين، وأن الدين المتين والأخلاق القوية أكبر حافز، وجهاز تمويل، وطريق خير وأمن لكل ذلك.

فماذا صنعت الناصرية؟

حشدت الجموع تهتف للزعيم المهزوم المنتصر، والظالم العادل، والكاذب الصادق، والقاسي الرحيم، والقاتل المتسامح.

وفى قسوة متعمدة، ونية سوداء مبيتة، بطشت بالمتدينين .

ماذا كان ينتظر من نظام حدث فكذب، ووعد فأخلف، واؤتمن فخان وغدر، وسخر من الأخلاق الحميدة ، وحارب الدين في شتى صوره؟

لن نعرف خبايا الناصرية وركام العفن والزيف بهذا القدر من الجرأة على الحق وعلى مصادر التاريخ الصحيح، فنضرب أمثلة حية على جرأة كتاب الناصرية مع الحقيقة وقدرتهم على قلب الأوضاع، ومسخ التاريخ، وتبرئة المذنب، واتهام البريء، نقرأ لمحمد هيكل في كتابه عبد الناصر والعالم:

" وذات يوم كان عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة يبحثون مسألة بناء برج لاسلكي للاتصالات العالمية التي تقوم نبها وزارة الخارجية وإدارة المخابرات،

وقيل لعبد الناصر: إنه قد تم شراء بعض المعدات ولما احتج أنه ليست هناك أموال مرصودة في الميزانية لهذا قيل له: إن المال جاء من اعتماد أمريكي خاص، ودهش عبد الناصر إذ كانت هذه أول مرة يسمع فيها بوجود أي اعتماد خاص،

وقيل له: إن وكالة المخابرات المركزية وضعت تحت تصرف اللواء محمد نجيب ثلاثة ملايين دولار" وكان المبلغ قد تم تسليمه بواسطة عميل أمريكي في حقيبة ضخمة عبثت بقطع نقدية من فئة المائة دولار. واستشاط عبد الناصر غضبا عندما سمع ذلك وتوجه بالسيارة فورا إلى مجلس الوزراء وطلب تفسيرا من محمد نجيب.

- بهذه الجرأة يكتب هيكل، وبطريقته ومقدرته الفريدة يحاول جاهدا تبرئة ساحة عبد الناصر من مخازي ماضيه، ولا يكفيه تبرئة صاحبه، فيحاول جاهدا إلصاق التهمة والعمالة بمحمد نجيب، لم يكفه ما حل بالرجل من سجن وتعذيب وإذلال وقتل لابنه وتشريد لباقي الأبناء..

لم يكفه كل ذلك، فينسج من خياله الخصيب قصة مختلفة يزيد بها مآسي محمد نجيب.. وفوجئ هيكل بمحمد نجيبيرفع عليه قضية، وكان و ظن هيكل أن خبطات جمال لنجيب قد حولته إلى تمثال لا يقرأ ولا يسمع.

- وحين بلغه خبر القضية وانكشف زيفه وتراجع بأسلوب مترنح لا يعرف صراحة أهل الحق حين يبصرون بباطلهم فإذا هم مبصرون..

وتنازل الرجل الطيب عن القضية وعن التعويض بعد أن استبان الحق، وعرف الجميع أن نجيبا لو كان هو الرجل الذي يقبل هدايا الأمريكان لأعانوه على جمال ولاختلف الوضع. تنازل نجيب، وما كان نجيب في حاجة إلى قضية يثبت بها صدقه وإفك خصومه، فقد عرف عنه الصدق، وما عرف عنهم صدق في يوم من الأيام. حقيقة أخرى ،

يحدثنا هيكل بأن جمال وهو قادم من يوغسلافيا في المحروسة علم وهو في البحر بانقلاب حدث في العراق، فاستشار محمود فوزي رحمه الله، فقال له محمود فوزي: هذه أمور تحسمها إلهامات الزعامة، وليست مجالا لمشورة أحد.

محمود فوزي نفى حدوث ذلك وأنكره، ولا يعلم هيكل أن قوله هذا إن كان كذبا فجل كتابه كذلك، وإن يكن صادقا فذلك برهان ساطع على نوع المستشارين الذين يستطيعون البقاء مع الديكتاتور فما اختارهم ليشيروا عليه، وإنما اختارهم ليكيلوا له المديح، وليحملهم بعض أوزاره:" وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون". (سورة العنكبوت- 13)

وليس هيكل هو الكاتب الأوحد كما أشيع عنه، وإنما هو كاتب متميز بين كتاب كبار رفعتهم مواهب مشتركة، وأبقاهم استعدادهم الانسياقى ، يؤمرون فيلبون ، وينهون فينتهون، ويزجرون فتنحني قامتهم والكتاب المتمكنون، والمداحون المتمرسون ، والمغالطون القادرون ..

هذه هي القناة الوحيدة التي أرادها الزعيم، فمن أراد أن يخطب أو يتكلم فهذا هو الركب الذي لا ركب غيره.. وإلا فيصمن وحذار أن يتكلم..

ثمانية عشر عاما تراكم فيها الزيف، ونما العفن، وتعطنت المستنقعات.. وحجبت الوثائق وصدر بالمنع قانون.. لا علينا، فما لدينا مما رأيناه بأعيننا وسمعناه بآذاننا ، وأشهدنا الله عليه، وهو القائل جل جلاله:" وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس.." ( سورة البقرة- 143) وحذرنا من كتمان الشهادة:" ... ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم" ( سورة البقرة – 283)

فما قرأناه وما سمعناه وما رأيناه وما حل بنا .. يكفى أما الوثائق فمنع نشرها يدينهم، وينبئ عن مخازي عهد لطخ كل الزعماء، المحسن منهم والمسيء، ووصفهم بالعمالة، ولم يجد وثائق تدينهم لينشرها، فأطلق عليهم كتابه المنساقين، وأمم الصحافة ليركبها المنساقون، بلا منافس يفضح زيفهم ويعرى إفكهم.

كنت وأنا أرى وأسمع ما لا يصدقه عقل من وأد للحرية، وإهدار للآدمية، وقتل جماعي على أعواد المشانق وفى السجون، وهتك للأعراض بخسة يعافها الحيوان، كل ذلك في عهد الحاكم صاحب الشعار :" ارفع رأسك يا أخي فقد انقضى عهد الاستبداد"

وكنت وأنا معلق والضرب ينهمر على، وسب الدين والصفع بأسلوب خسيس في أواخر أيام عبد الناصر.. ولا ذنب لي ولإخواني إلا أن قلنا : ربنا الله.. كان يرد على خاطري سؤال " هل عبد الناصر يؤمن بالبعث والحساب والميزان؟ " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين". ( سورة الأنبياء-47)

وحين انتقلت من معتقل القلعة حيث الحبس الانفرادي إلى معتقل طره مع الإخوان المسلمين، رأين طائفة حين اشتد عليهم التعذيب بطريقة وحشية لا تصدر من آدمي فضلا علة مسلم، كفروا عبد الناصر ومعاونيه، فأفردوا لهم عنبرا خاصا بهم، وتبلبل فكرى إلى أن علمت أن المرشد الأستاذ الهضيبى رحمه الله حسم الأمر وقال : نحن دعاة لا قضاة، وتأكد لي هذا الاتجاه حين جمعتني جلسة طعام كان بها الأستاذ عمر التلمسانى ،

ووجدتني أقول بصوت يسمعه الجميع:" لعنة الله عليك يا..." وثار الأستاذ عمر ونهرني قائلا: ى تلعن أحدا، ألا يكفيك أن تولى الله عنك لعن الظالمين.. ولم ألعن أحدا بعدها وإن ظل الخاطر يراودني" هل جمال يؤمن بالبعث؟" إلى أن تولى هيكل الإجابة على سؤالي: في كتابه "عبد الناصر والعالم" الطبعة الانجليزية يقول هيكل: إن عبد الناصر سأله في إحدى جلساته:

- هل تؤمن بالبعث؟

- وأجاب هيكل : بأنه يؤمن بالبعض ولكن الجزاء ليس النعيم أو العقاب الحسي الذي يتصوره البعض. لماذا لم يكتب ذلك في الطبعة العربية، وهل يهم الانجليز أن يعرفوا إيمان هيكل وعبد الناصر بالآخرة؟

الزى يريده الانجليز أن يروا شعب مصر مترحما على وكيل النيابة والمحامى والقاضي الذين حكموا بالإعدام على ثلاثة رجال قتلوا جنديين إنجليزيين في دنشواي ، ولم يهجم الانجليز على القرية كما هجم- عبد الناصر بجنده على كرداسة فساقوا أهلها رجالا ونساء، وما ارتكبوا جنحة تدينهم، وكما ساق جنده إلى كمشيش لتكنس عائلة الفقى وتصادر أموالهم وتهدر آدميتهم.

أما أن يؤمن عبد الناصر بالآخرة أو لا يؤمن ، أو يؤمن على طريقة هيكل بالآخرة مجردة من النعيم الحسي أو العقاب الحسي.. إيمان بالمزاج ، كديمقراطية المزاج، وكحربهم لإسرائيل وانهزامهم لها بالمزاج، وكتنقلهم من حضن دولة لدولة بالمزاج، وكاشتراكهم الغارقة في أهواء من احتفظوا لأنفسهم باللحم وتصدقوا بالعظم:

كمطعمة الأيتام من كد عرضها

فليتها لم ترن ولم تتصدق

لقد أحاطوا ماضي عبد الناصر بالبطولة والشجاعة، ومن يدرس قصص الشجاعة والبطولة بادئا بما كتبه جمال في كتابه" فلسفة الثورة" والذي صححه له هيكل، يجد أن هذه البطولة المدعاة لا تزيد عن بطولة من يضرب ويجرى في الظلام، ولقد نسب إلى نفسه بطولات في فلسطين،

والذين رأوه في عراق المنشية عرفوا عنه أنه كان يقيم في الخندق فلا يكاد يبرحه حتى قال فيه بعض السودانيين شعرا سجلوا عليه رضاه من الغنيمة بالجلوس في الخندق.

لم أقصد من هذا الكتاب أن يكون كتاب تاريخ ، فتاريخ الناصرية يطول شرحه ويحتاج لإزاحة طوفان من التلفيق إذا أريد له أن يتحرى الصدق ولا يخلط الجد بالهزل، ولكي يحقق ذلك فأمامه نتاج ما يقرب من ثلاثين عاما. منها ثمانية عشر عاما مع ديكتاتورها الأصيل ، وأحد عشر عاما مع وارثها المسئول، والذي سمح لقلمه ولبعض الأقلام أن يمس الناصرية مسا خفيفا وفيقا بالقدر الذي – لا يعرضه للمساءلة، فما أعلن أنه مسئول عن الناصرية ليسأله أحد، وإلا فالويل في الدنيا قبل الآخرة ، فيما لو قف أما الشعب ليحاكم عن الدماء التي أريقت ، والأموال التي بددت ،

والضحايا الذين أنفقوا حياتهم في السجون وإنشاء المعتقلات ومستشفى المجانين(أي والله) ، لم تكفهم الشجون وإنشاء المعتقلات ولم تكفهم المعتقلات فزجوا بمخالفيهم إلى مستشفى المجانين ، وقصة العاقل المجنون عبد الحفيظ هاشم من قرية هورين مركز بركة السبع، لا تخفى على أحد. فقد تولى الدفاع عنه الأستاذ صلاح منتصر حتى استمع له مسئولون،

وبحثوا عنه فوجدوه في مستشفى الخانكة ولمدة 28 عاما، والمرض الذي شخصه أبطال الثورة في العاقل المجنون، خطاب ضمنه رأيه لرجال الثورة ، دعاهم فيه للإبقاء على محمد نجيب والالتزام بالديمقراطية، لم يجدوا مكانا يناسب هذا الجريء إلا الخانكة يرمى فيها، ووجد صلاح منتصر، فما بال آلاف لم تصل أخبارهم ولا لغيره، ثمانية وعشرين عاما وأصوات المظلومين المطحونين مخنوقة تحت أنقاض الناصرية وأبواقها العالية.

وننبش في الأنقاض لنرى الضياع الذي حل بمصر على يد الأدعياء يقول صلاح الشاهد في كتابه" بين عهدين" صفحة 278: " كنت على علم بأن أحد الضباط قد لفق قضية تهريب (لبعض الأشخاص بمبلغ مليون جنيه، وكنت على يقين من أن القضية كاذبة، فقد اتفق أحد الضباط على تسليم المبلغ وتأشيرات الخروج وقام بإيصال الحقائب بالمبلغ إلى الطائرة بناء على اتفاق نظير نصف مليون جنية تدفع لشخص في بيروت.

وأمام هذه المغريات وقع الأشخاص في الشرك وقبض عليهم وقدموا إلى المحاكمة التي أصدرت حكمها بالسجن لمدد تتراوح بين خمس سنوات وعشر سنوات وبغرامة بلغت جميعها ثلاثة ملايين من الجنيهات.

وفى أحد الأيام حضرت إلى مكتبة سيدة عجوز ومعها الأستاذ جلال عدلي المحرر بجريدة الأهرام وسلمني خطابا ..

وقالت في شكواها : إن زوجها حكم عليه في قضية التهريب بالسجن عشر سنوات وغرامة نصف مليون جنيه وأن الحكومة شرعت في الحجز على أثاث بيتها وقدرته بمبلغ 300 جنيه وحددت يوما للبيع ولا تدرى ما مصيرها ومصير أولادها من المنزل ،ولما كنت على يقين من أن القضية ملفقة، فقد وعدت السيدة ببذل الجهد لإبلاغ شكواها إلى الجهات المعنية.

وفعلا سلمت الشكوى إلى المحروم فهمي السيد مستشار الرئيس جمال عبد الناصر الذي رفض الشكوى استنادا على أن القانون هو القانون .. ا هـ .


أي عفن هذا الذي يقال عنه ثورة مباركة، لقد ركبت الناصرية الثورة فهدمت القيم، وخربت الذمم، ودفعت حثالة الانتهازيين إلى الكيد الأثيم لخيار الناس، آلاف الضحايا الذين ر يعرفون صلاح منتصر ، ولا صلاح الشاهد ، ولا صلاح سالم ، ولا صلاح نصر.. كيف يصلحون إفساد أدعياء الإصلاح والصلاح؟

بعد ثمانين يوما من الحبس الانفرادي بمعتقل القلعة فوجئت بضابط يستدعيني وأدخلني حجرة فيها بزوجتي وجلس معنا الضابط يحرسنا، وعلمت منها الجهد الجبار الذي بذلته لكي يسمح لها بزيارتي، وسألتني عن سبب اعتقالي؟

وأعلمتها بأني قدمت من زكاة المال جزءا لأبناء أحد الشهداء الذين قتلهم عبد الناصر في مذبحة طره، فقالت: ولكنهم يشيعون أنك بعثا.

أي ركام من الزيف يتحتم على كاتبي التاريخ إزاحته، بل وإني على يقين أن الذين سينتظرون خمسين عاما لكي يقرأوا ما يفرج عنه من وثائق، لن يجدوا إلا وثائق مزورة وسيظل تاريخ هذه الحقبة المحزنة بلا وثائق، أو تاريخ بلا وثائق، على حد تعبير الدكتور إبراهيم عبده.

دكتاتورية عبد الناصر لا تحتاج إلى دليل فلا يختلف عليها حتى الذين أحاطوا به من المنتفعين، إنما يحدث الخلاف حين نتناول ما أسموه بالسلبيات والايجابيات والذي قلل الوضوح فيها هو الإعلام الناصري الجبار ، مبالغات تشطح بالعقول إلى اللامعقول، وتمويه وتعميه تغطى أقبح الأعمال وأراداها، وإرهاب وتسلط اختير له صنف من الناس تأنف الحيوانات أن تنتسب إليهم على حد تعبير محمد نجيب رحمه الله في مذكراته،

وإذا كان هذا هو وصف محمد نجيب للصنف من الزبانية الذين تعاملوا معه، فكيف يكون حال الصنوف والضروب الأخرى الذين علقوا وسحلوا وقتلوا ونهبوا وشردوا وأحرقوا، وانتهكوا الحرمات وتسلطوا على الأعراض ونهبوا الأموال وألقوا بأصحابها في السجون أو في الطرقات، أي صنف من الناس هؤلاء الذين اختارتهم الناصرية لضرب خصومها؟

والإعلام برغم ذلك وغير ذلك لا يكف عن نشر الزيف، وأي زيف أقبح من أن يزعم هيكل أننا انتصرنا في 5 يونيو لأن اليهود وإن أخذوا سيناء برمالها فقد عجزوا عن إسقاط عبد الناصر، وفى يوم تال تنشر جرائد الناصرية أن أم كلثوم التي تجوب أوربا تستجدى المال لمصر التي خربها عبد الناصر، سئلت عن أهم صفة في عبد الناصر؟ فقالت: إنسانيته.

وأظن أنه من البديهي أن كتابا يصفون عبد الناصر بأنه انتصر، وآخرون يصفونه بأن أهم صفة هي إنسانيته سنختلف معهم، وسيختلف معهم كل ذي رأى واع، أو عاد إليه بعد أن خدعته أساليب الشياطين، أما الذين استحبوا فقدان الوعي وآثروه، هؤلاء يعرفون الحقيقة وينكرونها، فهم على حد قول الشاعر:

وليس يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

بداية ونهاية

ومعذرة للكاتب الكبير الأستاذ نجيب محفوظ، فقد قرأت روايته" بداية ونهاية" منذ ثلاثين عاما ولا زال خيالها الخصب ماثلا أمامي وإن كان واقع الناصرية أغرب من كل خيال..

ومن عجيب الصدف أن بطل الرواية كان ضابطا، ويستويان إن كان ضابط بوليس أو ضابطا في الجيش، كلاهما يلبس البدلة الميرى، وقد كان لها سحر يزداد بعدد النجوم وهى تتجه إلى النسر بمخالبه، أو إلى المقص وما يرمز إليه.

ومن الصدف أيضا أن ضابط الرواية تعهدته الأسرة الفقيرة ، الأم بحكمتها وتدبيرها، والإخوان بتضحياتهما وإيثارهما، والأخت بجدها وكفاحها، حتى تخرج الضابط وأسرته في قمة فرحها وسعادتها به وبما تنتظر من تعويض على يدي ضابطها الذي لم يكن يوجد أدنى شك في أن تخرجه سينهى متاعب الأسرة المكافحة، وأن وظيفته ستكون شرفا يتوج الأسرة فتتزوج الأخت من خطيبها، وتهنأ الأم بابنها، ويعتز الإخوان بمركز أخيهما.

وكانت الأسرة في واد وصاحبنا في واد آخر، فقد ضاق ذرعا بالأسرة التي لا يشرفه فقرها، وبالأخوين الذين يعملان بعمل متواضع وبأخته الخياطة وبخطيبها البقال ،

ثم ضاق ذرعا بخطيبته التي كان يتمناها وعقد العزم على الزواج منها، وبسببه رفض أهلها كثيرا من الخطاب الأكفاء الذين تقدموا لها، ولكن حضرة الضابط الناشئ انجذب إلى ابنه ضابط كبير..

وترك ابنة الأسرة الوفية بعهدها، ثم رفضه الضابط الكبير باحتقار . ولاحقته المتاعب ، فقد اعتدى خطيب أخته عليها فقضى مأربه منها ولفظها ليتزوج بأحسن منها.. وانغمست هي في الرذيلة.

كان في استطاعته إنقاذ أسرته لو سار إلى هدفه في خط مستقيم، وكان في استطاعته أن يرد الجميل مضاعفا لو لم تستبد به أنانيته، ولكنه لم يفعل شيئا يعوض الأسرة التي قدمت له كل ما استطاعته.. وأخيرا وجد نفسه أمام شقيقته يحقق معها في جريمة عرض.. وانفلتت أعصابه أخذ طريقه إلى كوبري قصر النيل ـ ليلقى بنفسه في اليم، فيذهب إلى الجحيم، ويحدق بأسرته العذاب الأليم.


كنت طالبا في كلية الطب ومدرسا في نفس الوقت في المدارس الابتدائية حين رأيت هذه الرواية في يد صديق لي ، وبرغم ضيق وقتي فتحتها ولم أغلقها حتى انتهيت منها مع آذان الفجر يدعوني إلى الصلاة، وأنا مشدود بخيال الأستاذ نجيب الذي استطاع أن يسرق من وقتي الثمين ليلة كاملة، ويدفعني إلى الإعجاب بقدرته على عمق الخيال وروعة التصوير ولم أكن أتصور الحكمة القائلة:" الواقع أغرب من الخيال".


واقعنا يبدأ بآسرة يشيع فيها قدر من الديمقراطية، كنا نستقلها ونطمع في أفضل منها.. ولكنها ديمقراطية لها وجود في كثير من الأحوال، وهل ننكر ديمقراطية أتاحت لمحمد نجيباليتيم الفقير، وأنور السادات ابن الكاتب الفقير، ثم جمال عبد الناصر ابن موظف البريد البسيط.. هؤلاء وغيرهم دخلوا الكلية الحربية وتخرجوا منها ولم يكونوا قبلها شيئا يثير انتباه من حولهم.


عبد الناصر حصل على التوجيهي بمجموع متواضع، وكان يحتاج لواسطة، وتطوع المستشار محمود عبد اللطيف بهذا الفضل.. أمر السائق بتجهيز العربة وركب المستشار الفاضل بالكرسي الخلفي وبجواره موظف البريد.. وجلس الابن بجوار السائق ، وقبلت وصيته ودخل عبد الناصر الكلية الحربية.

وجاءت فرصة عبد الناصر ليرد الجميل [الديمقراطية |للديمقراطية]]، فكيف كان رده؟ ,.. حرقها بنار وصعقها بكهرباء. والمستشار محمود عبد اللطيف ماذا كان جزاؤه؟

رأينا عبد الناصر يخطب فيندد بالماضي وفساده، ويسوق على ذلك دليلا، بأنه دخل الكلية الحربية بواسطة رجل أجلسه بجوار السائق، وماذا يكون تعليقه لو أن المستشار الأصيل أجليه بجوار أبيه وجلس هو بجوار سائقه؟.. ألم تكن أمامه فرصة بأن يعلق على ذلك بأن المستشار جلس بجوار السائق وأجلسه مع أبيه في الخلف احتقارا لهما وامتهانا ؟ ,,

وأخيرا اعتقل المستشار بمعتقل القلعة، فلم تكن أعصابه تطيق رؤية صاحب فضل عليه.. وكان صوتي العالي يصل إلى سمعه، حين اشتد الضرب على وأنا معلق أعانى آلام التعليق وآلام الضرب، ولم أكن أملك إلا صوتي، الذي كم صحت به على المنابر منددا بطغيان الملكية ، وصحت به مؤيدا للثورة، يوم كنا نحسبها جاءت لنصرة مصر، لتقطع حبال الليف من أقدامنا، وما حسبناها جاءت بسلاسل الحديد ونيران الحقد، وعته العقول.

وكان صوتي يصل إلى كل الزنازين ويضايق الضابط نديم الذي يقول:"خليك راجل" ، وأي رجل تريده الناصرية بهذا العته، وماذا تركت الناصرية من رجالات مصر وأفذاذها ؟ لقد نالتهم جميعا بفتنتها وبلائها، ومن فاته القتل أو التعذيب بتعدد صوره واختلاف صنوفه.. لم يسلم من لسانها وإفك افترائها.

لم أكن أعلم أن المستشار محمود عبد اللطيف يسمع استغاثتي ويقول للأستاذ عبد الرازق جاره في الزنزانة: لم أندم على شيء كما ندمت على توسطي لجمال يوم قبلوه في الكلية الحربية.

إنما الأعمال بالنيات يا أستاذ محمود، وكل إنسان يعمل بأصله، وقد عملت بأصلك ، فما توسطت له لتشفى به مصر، وإنما تشفعت له وأنت ترجو منه وله الخير، فألقاك في الزنزانة ، وألقى بمصر في مستنقعات التجارب الفاشلة، وأعد للأحرار صنوف الفتنة وأنواع البلاء.

توقف خيال الكاتب الكبير عند نهاية بطل قصته الذي ألقى بنفسه في النيل ولم يلق بالأسرة في النيل، أو لم يقامر بها أو يضرب بعضها ببعض.. لا شيء من ذلك، وإنما كفاهم شره، واكتفى بأن ترك لهم فراقه على الصورة المحزنة التي أنهى بها حياته..

وعند هذه النقطة تفترق القصتان: قصة الواقع وقصة الخيال ، فضابطنا على استعداد لكل شيء إلا الانتحار، وكيف ينتحر وقد قدم لآخرته الدماء المؤمنة التي سفكها، والأموال التي بددها أو نهبها والأبرياء الذين جلد ظهورهم وبطونهم، والأعراض التي مكن منها جند وأغراهم بها، والجيش الذي هزمه لليهود،

والسياسات التي ألبت علينا كبريات الدول لصالح إسرائيل.. هذا وكثير غيره يكفيه منه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم" .

وحديث آخر:" لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم الله في النار" وحديث ثالث:" من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله".

لم نكن نتمنى لعبد الناصر أن ينتحر، وإنما كنا نود له المتاب، وأن يكتفي ببضع شهور أو بضع سنين قضاها في تجاربه الفاشلة، فيعتزل ويفسح الطريق لعباقرة مصر الذين لم يخل منهم جيل، وإنما حجبهم ، وأغلق الطريق عليهم لصول الحكم أبطال الديكتاتورية.

من أين نبدأ ؟

ما دام الحديث يتصل بعبد الناصر فيقتضينا الحال أن نبدأ حيث بدأ هو حديثه عن الثورة في كتابه الذي كتبه بيده(فلسفة الثورة) وسواء كان هو كاتبه أم هيكل أم هما معا وهذا هو الأرجح فكل سطر في الكتاب وثيقة لا تنتظر الإفراج ولا تحتمل التنصل من تحمل تبعتها من جانب عبد الناصر.

هذا الكتاب الذي دلني عليه جهاز التعذيب الناصري، والمقدم نديم يباهى بعبد الناصر(في آخر أيامه) ويتحدث عن كتابه "فلسفة الثورة" كوثيقة تثبت أن جمال لم يكن كغيره (يعنى الإخوان) وأنه قام بالثورة وهو جاهز وبرنامجه معد، وأهدافه واضحة في فلسفة الثورة وفد تعبت في الحصول على الكتاب إياه،

وحين قرأته ارتبت في أن يكون الرائد نديم قد قرأه ، فما فيه يدين عبد الناصر ولا يقف دليلا على أنه فكر وقدر، وإلا فكيف فكر، وعلى أي أساس قدر؟

إنني أتحدى الناصرية أن تعيد طبع الكتاب وتوزعه ، كما طبعته إسرائيل ووزعته كانت إسرائيل توزعه وهى تتباكى وتناشد العالم الحر لتدافع عن نفسها ضد الوحش المصري الكاسر، الذي يهددها بالإفناء، ويتوعدها بالرمي في البحر، ويباهى بأكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط تحت يده، إسرائيل توزع الكتاب وتذرف الدمع وهى تستعد للحرب.

والديكتاتور يوزع الكتاب، ويسخر الإعلام الناصري الجبار يملأ الدنيا صراخا وتهديدا، وقد سخر الجيش والبوليس بقيادة- عبد الحكيم عامر وشعراوي جمعة، لضرب الشعب، واصطناع المؤامرات ، وتشكيل المحاكم من أعضاء مجلس قيادة الثورة، أو من السجون وغصت المعتقلات، وتحولت البلد كلها إلى سجن ، كبل كل الشعب فيه بقيود الخوف والتهديد والمناظر المرعبة لأبناء مصر ودعاة الإسلام الذين أعدمهم ولم يتقبل شفاعة أحد فيهم.

ماذا يقول عبد الناصر في كتابه فلسفة ثورته؟

" وأعترف- ولعل النائب العام لا يؤاخذني بهذا الاعتراف- أن الاغتيالات السياسية توهجت في خيالي المشتعل في تلك الفترة على أنها العمل الايجابي الذي لا مفر من الإقدام عليه إذ كان يجب أن ننقذ وطننا.

وفكرت في اغتيال كثيرين وجدت أنهم العقبات التي تقف بين وطننا وبين مستقبله، ورحت أعد جرائمهم، واضع نفسي موضع الحكم على أعمالهم، ثم أشفع ذلك كله بالحكم الذي يجب أن يصدر عليهم.

- أكنت على حق؟

- وأقول لنفسي في يقين: دوافعي كانت من أجل وطني، ويقول ( وأنا أنقل كلامه حرفيا) :

" مكاننا من العالم .. لوكان الأمر محصورا في حدود بلادنا السياسية لهان الأمر " .

- أيمكن أن نتجاهل أن هناك دوائر عربية تحيط بنا، وأن هذه الدوائر منا ونحن منها..؟

- أيمكن أن نتجاهل أن هناك قارة إفريقية شاء القدر أن نكون فيها..؟

- أيمكن أن نتجاهل أن هناك عالما إسلاميا تجمعنا وإياه روابط لا تقربها العقدية فحسب، وإنما تشدها حقائق التاريخ..؟

إن ظروف التاريخ مليئة بالأبطال الذين صنعوا لأنفسهم أدوارا بطولية مجيدة قاموا بها في ظروف حاسمة على مسرحه.

ولست أدرى لماذا يخيل إلى دائما أن في هذه المنطقة التي نعيش فيها دورا هائما على وجهه يبحث عن البطل الذي يقوم به.

وأحيانا كنت أهبط من ارتفاع النجوم إلى سطح الأرض، فأحس أنني أدافع عن بيتي وعن أولادي ولا تعنيني أحلامي الموهومة والعواصم والدول والتاريخ.

ثم أعود إلى الدور التائه الذي يبحث عن بطل يقوم به.

ذلك هو الدور ، وتلك هي ملامحه ،وهذا هو مسرحه ، قضيت في دار الكتب يوما مع هذا الكتاب، لا أدرى ماذا أكتب منه وماذا أدع، كنت على استعداد لشرائه بأي ثمن لو كانوا يبيعونه أو أصوره لو كان عندهم جهاز تصوير جاهر، أو أستعيره لو سمحوا بذلك..

كل سطر فيه يضع يدنا على استعداد متحفز ليسلك طريقه على جماجم معترضيه، ولا يبالى نصيحة فقد سخر كل أساتذة الجامعات وغيرهم من كل كبراء القوم:

"وكثيرا ما كنت أقابل كبراء- أو هكذا تسميها الصحف- من كل الاتجاهات والألوان، وكنت أسأل الواحد منهم في مشكلة ألتمس منه حلا لها، ولم أكن أسمع إلا أنا.. وتكلم أمامي كثير من الأساتذة.. وتكلموا طويلا ومن سوء الحظ، أن واحد منهم لم يقدر لي أفكارا..".

وشد انتباهي سطر يفسر الطريق الذي اختاره عبد الناصر :

"ما أسهل الحديث إلى غرائز الناس وما أصعب الحديث إلى عقولهم".

ومع سكرة العقول، وضياع المنطق السليم جاء في المقدمة التي كتبها كمال الدين حسين، لطبعة خاصة توزع على طلاب المدارس بالمجان: " أملاه جمال عبد الناصر على التاريخ، كما لا يزال يملى على التاريخ..

دستور الماضي ينبغي أن تمحى صفحته من تاريخنا لأنه يقوم على مبادئ الخوف، والضعف، والأثرة، والبغي وسوء الظن والتربص، وما يستتبع ذلك من سيئات".

ولعل كمال شده لمسايرة جمال ما ذكره عنه وهو يسخر من أساتذة الجامعة الذين لم يعجبه فكرهم:"

ولم أشأ أن أقول لهم: إن معظم أعضاء مجلس قيادة الثورة أساتذة في كلية أركان الحرب هم وهذا دليل امتيازهم، وأن ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة، عبد الحكيم عامر، وكمال الدين حسين، وصلاح سالم رقوا ترقيات استثنائية في ميدان القتال في فلسطين، وما من شك في أننا نحلم بمصر المتحررة القوية".

من هنا نبدأ ، لكي نعرف الخبايا المستترة خلف الأقوال المعسولة والشعارات المنمقة، والحقائق المقلوبة، وذلك الحشد الهائل من الصحفيين والإذاعيين، والتلفازيين سائرين في خطا الزعيم إذا همس أو خطب، وإذا وعد أو توعد، وإذا خاصم أو صالح، وإذا هدد أو هادن.. أقواله حكم غالية، وأوامره مقادير نازية لا يردها إلا من آثر السجن أو المعتقل، وفوق ذلك ودونه درجات ودركات.

أعلن عبد الناصر نوايا بدايته على الناس أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، ولم يتركها في وثائق يتحكم فيها ورثة نظامه، ولو فعل لأبقوها سرا مائة عام لا خمسين عاما ، ليقرأها عشاق التاريخ فيبكون أو يضحكون، ويعجبون أو يسخرون.

- وهناك صنف من الناس آثروا ما عند الله وهداه يعلمون أن وثائق المستبدين الذين فرضوا أنفسهم بالظلم، وآثروا مسيرة الظلم والظلمات، لن يجدوا في وثائقهم ما يشرف، ولو كان فيها ما يشرفهم ما كتموه، لقد عشقوا المديح الكاذب والإطراء المعكوس، واعتادوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، ولا يحبون رفع الغطاء عنهم إذا ماتوا، ولخمسين عاما، يكون جيل ذهب وجيل آخر أقبل لا يعنيه ظلم حكام سبقوا ما يهمه صلاح حكام اقبلوا.

- اعترف عبد الناصر بأن الاغتيالات السياسية توهجت في خياله المشتعل في فترة ما قبل 23 يوليو، ورآها العمل الايجابي الذي لا مفر من الإقدام عليه. وقد أيده في ذلك ما ورد في مذكرات البغدادي والسادات وكثيرين.

وكانت صراحة الرجل داحضة لكل دعي، وهى صراحة من يباهى بجريمته، فهو يعد جرائم خصمه، ويضع نفسه موضع الحكم على عمله، ثم يشفع ذلك بالحكم الذي يجب أن يصدر عليه.

- لم يسأله لأن سؤاله ليس واردا.

- ولم يتح له فرصة الدفاع عن النفس لأن الذين يغتالون في الظلام لا يناقشن التهم في النور.

- ولم يفكر في العواقب ، فيما لو نجح في قتل حسين سرى عامر،واستطاع فاروق قتله أو قتل أبرياء، أو تسبب هذا الطيش في كشف الضباط الأحرار، حين يمسك به متلبسا، ويتسلمه حمزة البسيونى ومع أول كرباج ينهار ويعترف على كل زملائه.

ويعقب على ذلك بقوله:

- أكنت على حق؟

- وأقول لنفسي في يقين: دوافعي كانت من أجل وطني.

ولم يتغير شيء في أسلوب عبد الناصر بعد الثورة بفارق بسيط، هو الفرق بين عبد الناصر الخائف المرعوب من فاروق وحكومته إن اكتشفوا أمره- وبينه حين أصبح رئيسا لمجلس قيادة الثورة، وهو يتلاعب بأعضائها ويفرض عليهم رأيه ويسخرهم في تحقيق مخططه الكامن في نفسه والذي أعلنه في كتابه ، فوجدنا جمال الذي وقف في الظلام يصوب رصاصه في خوف إلى حسين سرى عامر ويجرى دون أن يصيبه ،

نجده بعد الثورة وهو يخطط لإنهاء خصومه يقف والأضواء مسلطة عليه، والشعب الطيب يستمع إلى خطابه، وهو يخطب فيمن على الشعب بما قدم له من عزة وما حقق له من كرامة وترتفع فجأة صوت انطلاق رصاص. وقد تغير الموقف وأصبح جمال الشجاع الثابت الذي لا يرهبه الرصاص بعد أن حقق لشعبه العزة والكرامة.. كان بالأمس يضرب ويجرى واليوم يقابل صوت الرصاص بشجاعة وثقة..

لقد أتعبه خصومه، وقد حاكمهم بينه وبين نفسه، وبقيت الطريقة التي بها يدينهم، ودفاعه مصلحو وطنه، وإن قتل أنفع الناس لوطنهم، وأخلصهم لدينهم، لقد فقدوا أحقيتهم في الحياة لأنهم لم يقبلوا الناصرية دينان ولا وطنية لمن لن يخضع للزر الزى أعلن عنه جمال يضغط عليه فيتحرك كل شيء ويضعك آخر فيسكن كل شيء.

ولن ننتظر من البغدادي والسادات أن يعلنا صراحة بتدبير عبد الناصر لمسرحية المنشية ، فقد شاركا في مآسى النظام الديكتاتوري..

وبرغم أنهما يبذلان جهدا خارقا للتمويه، وتبرئة ساحتهما ، فنجد فيما كتباه شهادة تضاف إلى ما عرف عن صاحبهما من أسلوب التآمر، المحقق لأهدافه..

يقول السادات: أنا مثلا أثق في كل إنسان إلى أن يثبت العكس، أما عبد الناصر فقد اكتشفت أنه يشك في كل إنسان إلى أن يثبت العكس.

ويقول:" لم يكن من السهل أن تزول الغشاوة من عيني- عبد الناصر.. وداخله مليء بتناقضات لا يعلمها إلا الله.. يحتم على واجبي كصديق ألا أكشفها أو أفصح عنها.. ولكنها كانت موجودة.. عبد الناصر مات دون أن يستمتع بحياته كما يستمتع الآخرون..

فقد قضاها كلها في انفعال وانفعال.. القلق يأكله أكلا، فقد كان يفترض الشك في كل إنسان مسبقا..

وكانت النتيجة الطبيعية لكل هذا أن خلف عبد الناصر وراءه تركة من الحقد الأسود سواء بين زملائه أقرب الناس إليه أو داخل البلد نفسها بجميع طبقاتها".

- ويقول السادات : في سنة 1965 كانت حالة البلاد الداخلية قد وصلت إلى مرحلة يرثى لها، فعلى صبري كرئيس للوزراء لا يتخذ قرارا في أي شيء ..

فعبد الناصر بطبيعته الديكتاتورية كان يتطلب من رئيس وزرائه أن يكون مجرد مكتب ينفذ أوامره وحسب.. فإذا أضفنا إلى هذا ميله الطبيعي إلى التجسس على الناس وتدبير المؤامرات والعمل في الخفاء لأدركنا سر تبرم الناس به..

- وسواء كان قصد السادات بتدبير المؤامرات من عبد الناصر أم على صبري، فالطيور على أشكالها تقع، وقد كان عبد الناصر يتآمر ويضرب في الظلام، ولما أصبح حاكما وفى يده سلطات تمكنه من بسط قدراته سخر لمؤامراته من يشاء ، ومنهم السادات الذي عمل من قبل في الحرس الحديدي لحساب فاروق، ولم يكن أقل استعدادا للعمل لحساب جمال.

- ويقول البغدادي وهو أحد الذين ساهموا في التمكين للديكتاتورية ولم يبد تذمره إلا حين أحرقته بعض نارها .. بعد أن تآمروا على التخلص من نجيب، وانتظروا المكافآت ،جاءهم ما ليس في حسابهم إهمال تام لهم، عبد الناصر يتخذ القرار، وعلى الأعضاء التوقيع،

وناقشوه على استحياء وأفاض البغدادي في مدى الكارثة التي كادت تطيح بمصر نتيجة انفراد جمال باتخاذ قرار التأميم وما تلاه من احتلال إسرائيل لسيناء، والإنذار الفرنسي الانجليزي وما تلاه من تدمير، وفوضى القيادة العسكرية المصرية، وانسحابها بغير نظام/ واليأس الذي بدد على الرئيس وعبد الحكيم وصلاح سالم..

وتفكيرهم في التسليم.ز لولا بركات السيد البغدادي وشجاعته وإصراره على المقاومة.. وكان ظن البغدادي أن جمالا اتعظ ولن ينفرد باتخاذ القرارات. ولما كان أسلوب جمال لا يتغير ولا يتبدل ..

وأعيت السيد البغدادي الحيل والشكوى إلى زملائه وشكوى زملائه له، وبكائهم غير المسموع، وكبتهم الذي كاد يقتلهم.. فعبس وبسر، وفكر وقدر.. ثم انفجر فقدم استقالته وصمم في هذه المرة على عدم سحبها فلا يقبل أن يكون "عيل" على حد تعبيره، ورفض كل الوساطات التي رجته سحب استقالته:

- الاستقالة رفعت لعبد الناصر يوم 16 مارس سنة 1964.

- في يوم 22 مارس نشرت الصحف قرارات منها" وافق مجلس الرئاسة على قوانين تصفية الحراسات والتعويض عنها وعن التأميم".

- في يوم 24 مارس أصدر عبد الناصر قرارا بوضع شقيق البغدادي تحت الحراسة.

وأبدى المسئولون حيرة، لا يعرفون كيف يتصرفون لصدور قرار إلغاء الحراسة قبل ذلك بأيام، فصدرت تعليمات جديدة باعتبار قرار فرض الحراسة صدر بتاريخ 13 مارس .. ما أروع قول الشاعر :

" إذا كان رب البيت بالدف ضاربا

فشيمة أهل البيت كلهم طرب.."

ويقول البغدادي: لعله اختار يوم 13 مارس بالذات ليوحي بأن استقالة البغدادي جاءت بسنن فرض الحراسة على شقيقه.

وفى يوم 15 مارس سنة 1965 علم جمال بأن البغدادي ذهب إلى صناديق الاستفتاء ليعطى صوته له، فأصدر قرارا في 18 مارس برفع الحراسة على شقق البغدادى ورد ممتلكاته إليه وكأن لم تكن.

لم يكتف عبد الناصر بهذا ، فقد خفض معاشه، ووضع اسم زوج ابنته في القائمة السوداء ومنعه من السفر إلى عمله بالخارج.. وفصل أصدقاء البغدادى الذين أبقوا على ودهم معه.

- وكان رد جمال على استقالة كمال الدين حسين أن حدد إقامته هو ووالده وفصل ابنه الضابط بالجيش وفصل بعض أقاربه، ولم يجد كمال طبيبا لزوجته المريضة، فلفظت آخر أنفاسها ومن العجيب أن زملاءه لم يعزوه.

أسلوب عبد الناصر الذي كان يقف في الظلام يصب الرصاص على خصومه ثم يجرى ، ظل معه وإن تفرعت طرقه وتشعبت نواحيه.

حين عز عليه احتواء الإخوان، وتعذر التخلص من نجيب بيسر وسهولة، أكله الحقد أكلا على حد تعبير السادات، واشتعل حقده وهو يرى عبد القادر عودة محمولا على الأعناق يخطب منددا- بالاستبداد..

وقال جمال لأتباعه ولم يكونوا أكثر من أتباع) : فوضوني في اتخاذ القرار وانأ كفيل بالقضاء على كل الخصوم، وأعلن جمال سالم تفويضه وأقره الباقون.. ووقف في المنشية يمثل دورا تمرن عليه وجهز له كلمات عن العزة والكرامة:

- سمع الناس صوت رصاص وما رأوا قتلى.

- وفزع الباقورى من دم أحمر على صدر جمال ثم اتضح أنه حبر أحمر صبه جمال على صدره.

- وتسلم المحقق ظروف رصاص ومسدسا، وجدهما لا يمتان لبعضهما على الظروف.. وظلت المفاوضات بين المسدس والرصاص ست أيام بلياليها إلى أن أقبل مسدس يعرض نفسه، ويقول: أنا المسدس الذي تشرف بالنسب.

- سئل أين كنت هذه المدة؟

- قال : معذرة فقد اختطفني عامل يدعى خديوي آدم، ولم يجد أجرة الركوب فسار على قدميه من ميدان المنشية في الإسكندرية إلى منشية البكري في القاهرة، وهناك على منصة بلا محكمة، جلس جمال سالم يسب ويهدد ويلعن، وحوله أنور وحسين صامتان كصمت القبور.ز لا داعي للدفاع، ولا لزوم للشهود، فالأحكام صاغها المتآمر الأكبر من يوم المظاهرة المشئومة..

وما على الثالوث إلا أن تصورهم الصحافة، ويتكلم عنهم التابعي وكل التابعين، فالثالوث تابع والصحفيون تبع، كل من أعلن الحرب على دعاة الإسلام وليكن معهم محمد نجيب، وعلى رأس الجميع عبد القادر عودة .. رحم الله الشهداء، فقد أقاموا الحجة على الطغاة، وانتصروا بهذه التبليغ:

" هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب". ( سورة إبراهيم- 52)

وجاء عام 1965 الذي يقول فيه السادات: إن حالة البلاد وصلت إلى حالة يرثى لها، وساعد عبد الناصر الأيمن في تآمره على صبري وقطعت أمريكا معونتها لمصر، وسافر السادات مع عبد الناصر وزكريا إلى روسيا، يستجدونها ما يعوض عن قطع المعونة الأمريكية واستجاب السوفييت.

ما اذ يتصوره عاقل ، يحتفظ بوعيه حين يسمع عبد الناصر يعلن في موسكو أن حكومته الرشيدة ضبطت مؤامرة لقلب نظام الحكم برئاسة سيد قطب، ويصدر أمره باعتقال من سبق اعتقاله. أهذا ثمن يدفعه عبد الناصر ليرضى موسكو؟

يا بهاء الدين.. يا هيكل.. يا كروم.. يا فلول الناصرية الكادحة إلى حتفها كدحا.. هل مهمة رئيس جمهورية يستجدى رضاء الروس في موسكو تهبط إلى هذا الحد فيشغل نفسه بضبط بعض شبان وجدوا متلبسين بدراسة القرآن الكريم وكتب السلف؟

يقول السادات: وفى سنة 1965 عندما قيل: إن هناك مؤامرة يدبرها الإخوان المسلمون تولى أمرهم البوليس الحربي وشمس بدران أهم معاوني عامر.. وكما اتضح بعد ذلك كان هناك تعذيب وإهانة وامتهان لكرامة الإنسان.

ويستمر السادات بطريقته الثعبانية: لا أستطيع أن أجزم بأن عبد الناصر كان على علم بما حدث.. ولكنى في الوقت نفسه لا أستطيع تبرئته من المسئولية فالرئيس دائما هو المسئول مهما كانت أخطاء معاونيه ومساعديه ومهما كانت نواياه هو.

ولم يذكر لنا السادات إذا كان جمال على علم بإعدام شهداء الإسلام سيد قطب ، ومحمد إسماعيل وسعيد هواش أم لم يعلم .

لقد قال السادات ما فيه الكفاية،وإن كنا في غنى عن كل ما قاله، فالذي رأى القاتل بعينه، لا يضيره ولا يغير من اعتقاده شاهد نفى أو شاهد إثبات،

فضلا عن شهادة السادات الذي قال : إن صداقته تحتم عليه ألا يكشف صديقه ، فإذا وضعنا ذلك نصب أعيننا، وعلمنا أن السادات شارك في ألاثم، وكان عضو اليسار في سلخانة جمال سالم، وأعلن أنه مسئول عن الناصرية بضلالها، وتضليلها.. إذا علمنا ذلك وغيره، ثم قرأنا كتاب البحث عن الذات ، وخطب السادات قلنا له مترحمين عليه: يكفينا منك ذلك، والباقي نعلمه بما رأيناه، وبما سمعناه ، وبما نالنا منه من بلاء.

ومتى صدق السادات لننتظر منه إذاعة ما بيتوه معا في الظلام.. الجرائم التي ارتكبتها الناصرية هي بأمر عبد الناصر، والسيدة المجاهدة زينب الغزالي رأت بنفسها عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر في السجن الحربي وهى تعذب ، ورأت شمس بدران يثور على الزبانية ويلعنهم لعجزهم عن قهرها باعترافات كاذبة ينتظرها عبد الناصر،

وشهادة السيدة زينب الغزالي ترجح شهادتي البغدادى والسادات وكل الذين تستروا على الافك الناصري بقدر ما ساهموا فيه، وكانت الأحكام يقررها جمال بموافقة باقي الأعضاء الذين فوضوه وقضى الأمر.ز وقد عاتب الأستاذ أحمد حسين – رحمه الله- عبد الناصر في إعدامه للشهيد عبد عودة حيث كان معتقلا أثناء مسرحية المنشية وقال: عبد الناصر : كانت أحكاما سياسية.

ويقول عبد الناصر تحت عنوان – مكاننا من العالم-:

لو كان الأمر محصورا في حدود بلادنا السياسية لهان الأمر .

رحم الله امرءا عرف قدر نفسه، وهل كان يظن عبد الناصر أنه سيقف على قدم المساواة مع أوربا وروسيا وأمريكا، فيتركونه للزر الزى تخيله تحت سبابته يضغط عليه فتركع أمريكا وتلبى روسيا وتصفق أوربا.

وهل الأسلوب الذي اتبعه عبد الناصر ، بتصدير الثورة إلى الخارج وسب الحكام وتهديدهم بنتف ذقونهم، وإسقاط عروشهم.. هل كان هذا أسلوبا يجمع كلمة العرب ويحد صفوفه.؟

وغزو اليمن بمائة ألف جندي، وقتل الجنود المصريين بالآلاف ، والفشل الذريع لهذه العملية المرتجلة الخائبة، هل هذا كانت أهم في تقدير الديكتاتور من الحفاظ على حدود مصر من اليهود؟.. لقد اعترف السادات أن كارثة يونيو تمت بعارها وخزيها، ولنا في اليمن 70 ألف جندي.

لم نكن نطالب الديكتاتور بالوفاء بتهديده لإسرائيل ومن هم وراء إسرائيل، لأن تهديداته التي عودنا على تصديقها والخوف منها، هي تهديداته بضرب الشعب وسحله وسجنه واعتقاله ومصادرة أمواله، وإرخاص حياة أحراره.

أما تهديداته لإسرائيل ولأمريكا فكانت تذكرنا بقول جرير وهو يطمئن كاتبه( مربع) الزى هدده الفرزدق:

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا

أبشر بطول سلامة يا مربع

ولكن الذي كنا نرجوه من الديكتاتور أن يقوم بالأمر الذي رآه هينا، وقد كان هينا لو لم ترزأ الثورة بالديكتاتور.

كانت أمريكا تمد يدها ونحن في وضع كريم ومشرف، فهددها الديكتاتور بقطع يدها، وانهزمت سياسته وحروبه، وانحنى الزعيم العملاق لروجرز.. وإن ظل يخطب، وظل هيكل يكتب وبقيت السجون والمعتقلات مكتظة بالأحرار.


ثم يقول في كتابه ( فلسفة الثورة) أيضا: " إن ظروف التاريخ مليئة بالأبطال الذين صنعوا لأنفسهم أدوارا بطولية مجيدة، قاموا بها في ظروف حاسمة على مسرحه ولست أدرى لماذا يخيل إلى دائما في هذا المنطقة التي نعيش فيها دورا هائما على وجهه يبحث عن البطل الذي يقوم به".

- لقد كانت مادة التاريخ محببة إلى نفسي ولكن الأبطال الذين نالوا إعجابي هم الذين صنعوا لأممهم أدوارا بطولية، وكانت بطولتهم في استغلال الظروف الحاسمة التي ألمح إليها الديكتاتور، هذه الظروف فعلا كانت مواتية يوم جاءت ثورة يوليو،

وقد ظن جمال أنه بطل الأقدار، وكان يردد كثيرا:" أيها المواطنون إن جيلكم جاء مع القدر"، ولكن هل كان جمال هو البطل الذي يصلح لهذه الظروف؟ يجيب على ذلك نتيجة الحروب التي خاضها، والاقتصاد الذي بدده، والديون التي طوق الأجيال القادمة بها، والقتلى وإذلال وإهدار كرامة الإنسان المصري.

حين جاءت ثورة 23 يوليو نشرت الصحف أن تماثيل أسرة محمد على ستهدم.. محمد على بطل حقق لمصر مجدا وإصلاحات بدأ بها مصر الحديثة.. لا يصنع الحقد الأبطال.. الأبطال لا يرتفعون بالأحقاد وإنما يرتفعون بإثارة الهمم وإنارة الطريق، والانتفاع بكل ممكن، ويكونون هم قدوة لشعوبهم، وقادة يتقدمون الصفوف ويحققون النصر.

أما تصور عبد الناصر بأن يصنع لنفسه مجدا على مسرح الظروف ، وأن الدور ينتظره، فهذه أفكار ممثل قد يصلح لتمثيل دور بطل في دراما على خشبة مسرح وليس رئيسا ينهض بها، ويرفع من شأنها، وقد كانت أدوار عبد الناصر لا تخلو من تمثيل على الشعب المبتلى، وإن كان جمهور المشاهدين لا يغرمون، وإنما يمنحون أجر المشاهدة والهتاف والتصفيق.

ويقول جمال: وكثيرا ما كنت أقابل كبراء- أو هكذا تسميهم الصحف- من كل الاتجاهات والألوان ، وكنت أسأل الواحد منهم في مشكلة ألتمس منه حلا لها ولم أكن اسمع إلا "أنا".

لم يصادف جمال كبيرا يستحق منه احترامه، فكل الناس دونه، ويعجب للصحافة التي تسمى هؤلاء كبارا ، فهو لا يطيق واحدا يتحدث عن نفسه، وكل ذلك يوحى بما كان يتمناه جمال من "الزر" الذي يضغط عليه فيتحدث الكل عن جمال ولا يتحدث واحد عن نفسه، ولهذا كان تأميم الصحافة.

أما قول جمال :" ما أسهل الحديث إلى غرائز الناس، وما أصعب الحديث إلى عقولهم" فإنما يكشف إسرافه في الحديث إلى الغرائز، وإيثاره الطريق السهل، ومن لم يعجبه المعتقل بظلمه وظلماته فأمامه السجن بزبانيته وكلابه..

ومن لم يرض بهذا وذاك فالقهر والمصادرة والتشريد والمؤامرات وكل ضروب الكيد متوافرة لدى الجهاز الناصري ، والإعلام المؤمم ، كفيل بقلب الحقائق ، وتزييف النتائج ، وإذا كانت الحقائق حجبت عن الشعب في حياة الديكتاتور، فوثائق التآمر، ومخازي الأسرار محرم كشفها خمسين عاما حين يذهب جيل خدروه، ويقبل جيل طوقوه بهمومه الديون، وقيود معاهدات المهزومين:

دعاء الرجال ودمع النساء بسجن الزعيم

بكاء اليتامى وبؤس الأيامى بكل مكان

ترى الكل يشكو لرب قدير سميع عليم

سجون الزعيم وأغلاله

لكل أبى وحر كريم

وسلب ونهب بكل مكان

ومن قال لا في العذاب الأليم

فكم من بريء أطاح به

مظالم عهد حقود لئيم

وكم من نساء يعذبن ظلما

لإيمانهن برب رحيم

وحرب غشوم تدور رحاها

على الأبرياء بمعتقلات

وفى كل دار وفى كل واد

بشر عذاب وفعل أثيم

ورب العباد يرى كل هذا

فأمهلهم وأنذرهم

وظلوا في غوايتهم

وجاء الرد من رب عظيم

أيام الله

"ولقد أرسلنا إلى أمم مت قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون . فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون. فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين". ( سورة الأنعام 42-45)

- قبل قيام الثورة بيوم حضر جمال عبد الناصر لمقابلة بعض الأعضاء البارزين من الإخوان المسلمين، عبد القادر حلمي ( وكان الاجتماع في شقته) وصالح أبو رقيق، وحسن عشماوي، وصلاح شادي، وكان كمال الدين حسين مع جمال،

وعلم جمال بموافقة المرشد حسن الهضيبي على تأييده وحمايته للثورة، كما أبلغه بأنه ليس من المصلحة أن تظهر للثورة علاقة بالإخوان حتى لا يتدخل الانجليز لمقاومتها واقترحوا عليه أن يتولى على ماهر الحكم.. وقرأ معهم الفاتحة أن تكون الثورة لله.

وذهبت مجموعة من الفدائيين الإخوان على الكيلو 96 على طريق السويس ليقاتلوا الانجليز إذا تحركوا.

بعد نجاح الثورة قابل عبد الناصر المرشد في منزل صالح أبو رفيق ، وذلك يوم 28 يوليو وفاجأ الجميع بقوله للمرشد: إحنا لم نتفق على شيء( وهكذا تنكر للعهد الذي قرأ عليه الفاتحة منذ أيام).

- وقال المرشد: اسمع يا جمال.. محصلش اتفاق.. وسنعتبركم حركة إصلاحية.. إن أحسنتم فأنتم تحسنون للبلد وإن أخطأتم فسنوجه لكم النصيحة بما يرضى الله.. وانصرف جمال.

- وقال المرشد للإخوان : هذا الرجل لا خير فيه ويجب الاحتراس منه.

- وقرر مكتب الإرشاد للإخوان المسلمين عدم الاشتراك في الوزارة، واشترك الباقورى وقدم استقالته من الإخوان.. وتضايق جمال من رفض الإخوان الاشتراك في الوزارة.

- ثم طلب جمال من الإخوان أن تنصهر جماعتهم في هيئة التحرير ورفض الإخوان طبعا.. وتضايق جمال وقال للإخوان: أنتم عصاه ومنع جمال بعض بيانات الإخوان من النشر.؟

- وقال الإخوان: إننا نريد الديمقراطية وتضايق جمال وقال: أنتم بهذا تحرجونني .. يعنى عايزين على ماهر يرجع يحكم.

وقال الإخوان: الديمقراطية لا بديل لها.

وقال المرشد: يا جمال عندما تشعر بضيق من الإخوان أبلغني وأنا اسلم لك مفاتيح المركز العام حتى لا تقع فتنة.

وقال جمال لفريد عبد الخالق: أنا عندا فكرة ، فايز في خلال سنتين أو ثلاثة أوصل إلى أنى أضغط على زر البلد تتحرك ،زى ما أنا عايز.. وأضغط على زر .. البلد تقف.

وفاوض جمال الانجليز.. وأعلن الإخوان اعتراضهم على بعض بنود المعاهدة.. وتضايق جمال.

وطالب الإخوان بتحديد موعد لإعلان الدستور، وتطبيق الشريعة الإسلامية.. وتضايق جمال وأعلن أن الهضيبى يريد أن يفرض رأيه على الثورة وحاول أن يضرب الإخوان من داخلهم ففضل فأصدر قرارا بحل جماعتهم في 13 يناير سنة 1954 واستقال محمد نجيب في فبراير فهبت مظاهرات عاتية قادها الإخوان وخطب فيها عبد القادر عودة منددا بالديكتاتورية ..

وأحنى جمال رئسه للعاصفة واتفق مع أعضاء مجلس الثورة أن يفوضوه في اتخاذ القرار وفى الأسلوب الذي يختاره للتخلص ممن اعتبرهم أعداء الثورة.

فأفرج عن الهضيبى وبعض الإخوان المعتقلين، وأصدر الهضيبى بيانا طالب فيه بالتحقيق فيما ألصق به وبالإخوان من تهم كاذبة ليعرف كل إنسان قدره وجاء في ختامه:

- إننا ندعوكم وندعو كل من اتهمنا وندعو أنفسنا إلى ما أمر الله تعالى به رسوله عليه الصلاة والسلام حين قال:" .. فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين" ( سورة آل عمران – 61)

وأسرها جمال في نفسه.

وحاول محاولته الأخيرة فدعا صالح أبو رفيق للفطار معه.

وقال له: أنتم عايزين انتخابات ليه.. عايزين زينب الوكيل تتحكم في البلد تانى.. قال صالح : يا شيخ بلاش تشنيع.

قال جمال: أنتم يهمكم إيه.. ما دمتم أنتم أحرار.. ما لكم ومال الباقي.

قال صالح: هل تستطيع أن تعلن ذلك؟

فضحك وقال : طبعا لا ..

وكان اليأس قد بلغ من جمال الذروة، وأصبح واضحا أمام عينيه أن الزر الذي تخيله واستولت فكرته عليه، يقف دونه عقبات: الإخوان المسلمون ومحمد نجيب.

ووقف جمال على مسرح المنشية في مساء 26 أكتوبر ليخطب ، ودوى صوت الرصاص ، ومال جمال كأنما يتفادى الرصاص المنهمر عليه.. وأشار بيده وصاح.. أمسكوه.. أيها الأحرار حياتي فداء لكم .. أتكلم إليكم بعد أن حاول المغرضون أن يعتدوا على .. دمى فداء لكم .. أنا لست جبانا.. أنا قمت من أجلكم.. فليقتلوني .. لقد غرست فيكم العزة.. وغرست فيكم الكرامة.

أنا جمال عبد الناصر .. إذا مت فإني أموت وأنا مطمئن فكلكم جمال عبد الناصر.. تدافعون عن العزة وعن الحرية وعن الكرامة.. وإذا مات جمال عبد الناصر فليكن كل منكم جمال عبد الناصر..

وليعلم الخونة أن جمال ليس فردا واحدا في هذا الوطن فكلكم جمال عبد الناصر.. أيها الرجال لقد استشهد الخلفاء الراشدون جميعا فى سبيل الله وغذا كان جمال يقتل فأنا مستعد لذلك في سبيلكم وفى سبيل الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وتعالت الهتافات ، وأصبحت لجمال شعبية تدينه من " الزر" اعتقل صلاح شادي الذي قرأ معه جمال الفاتحة أن تكون الثورة لله، قبل قيام الثورة بيوم، وانهال عليه كمال رفعت و صلاح دسوقي وقساة الزبانية ، يضربونه بقسوة، وعلى صبري ممسك بمسدس يهدده بأن طلقة واحدة كفيلة بإنهاء حياته، وجمال عبد الناصر في حجرة مجاورة يدير بنفسه هذا الجحيم.

ما الذي يريدونه من صلاح شادي؟

أن يعرف بأن حادث المنشية حركة مضادة من الرئيس محمد نجيب ضد عبد الناصر وان البكباشي عبد المنعم عبد الرءوف هو الذي أعد الخطة.

وتشكلت محكمة الثالوث المضحك المبكى جمال سالم وأنور وحسين يحضر الإخوان من سلخانة التعذيب إلى ثالوث في قبح الشياطين ونداء الله يثبتهم. " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب " ( سورة البقرة- 214)

اعدموا ستا لم يرق أحدهم قطرة دم، ثم قتلوا عشرات المسجونين حصدوهم برصاص الغدر، لم يخافوا ربا ولم يراعوا مستقبل وطن، غدروا بدينهم ودنياهم ولطخوا تاريخهم بسواد الخزي والعار.

وجاء عام 1956، والمغرور المفتون، ومن فوق نفس المسرح يعلن تأميم القناة، بطريقة فجة مقززة، تحدى فيها أمريكا وإنجلترا وفرنسا.. ووجه خطابه للجميع" موتوا بغيظكم" انتزع التصفيق والإعجاب، لأنه يخاطب الغرائز بعد اعتقال العقول.

وتقدمت إسرائيل بمفردها لتحتل سيناء، وجاءه إنذار من إنجلترا وفرنسا بالتسليم، وأترك للبغدادي يقص علينا يوما من أيام " فرافيرو العجيب" وحوله باقي الفرافير، في شهر أكتوبر سنة 1956 بعد عامين من مقتل الشهيد عودة ورفاقه الأبرار رحمهم الله.

يقول البغدادى في الباب الثامن من الجزء الأول من مذكراته:

- لاحظت أن عبد الحكيم يدير المعركة بحالة عصبية، ويتولى إصدار الأوامر في كل صغيرة وكبيرة.

- وظهر على محمد صدقي محمود الاضطراب وابدي أن هناك بعض الصعوبات التي تعترض قيام الطائرات القاذفة بعملياتها فورا- بحجة عدم توفر الوقود اللازم لها.

وفى أثناء اجتماع مجلس الوزراء في مساء نفس اليوم أبلغنا بإنذار بريطاني فرنسي.. ولم يأخذ عبد الناصر الإنذار مأخذ الجد.

- وقامت الطائرات البريطانية بغارة على القاهرة.. وتكلم عبد الحكيم بعصبية قائلا:" اختفوا جميعا واتركوني مع الجيش" واضطرب جمال وفكر في أولاده، وطلب العمل على نقلهم إلى القناطر الخيرية..

وأما صلاح سالم فإنه كان مصرا على قيامنا فورا بمغادرة مبنى القيادة والاختفاء، وزكريا تكلم عن ثلاث شقق كان قد سبق تجهيزها لاستخدامها عند الطوارئ.

- وكان الموقف في هذه اللحظة له خطورته ، وسيتقرر مصير بلادنا وربما لأجيال قادمة على تصرفات جمال شخصيا.

هل نستمر في المعركة ونتحمل التخريب والتدمير أم نجنب البلاد هذا الدمار بالاستسلام والاختفاء لمقاومة هذا الاحتلال عن طريق المقاومة السرية؟.وأما جمال فكان مضطربا ولكنه لم يبد رأيه فورا ولم يظهر اتجاهه.

وبدأ عبد الحكيم قائلا:" إن الاستمرار في المعركة سيترتب عليه تدمير البلاد وقتل الكثيرين من المدنيين.. والشعب سيكره النظام والقائمين عليه، وأنه يفضل أن يطلب إيقاف القتال".

وقال البغدادي:" إنني أرى أنه أشرف لي يا صلاح أن أنتحر".

وقال جمال :" إنه من المستحسن أن ننتحر جميعا قبل أن نأتي بمثل هذا العمل".

وطلب من زكريا إحضار عدد من زجاجات السم" سيانور البوتاسيوم" تكفى لعددنا لاستخدامها عند الزوم".

- ويبدو أن الفرافير وجدوا أن السم إنما أعدوه لخصومهم، وليس من حقهم الاعتداء عليه.

- ويقول البغدادي : إن عبد الناصر رأى الأسلحة التي اشتراها من روسيا محطمة على الطريق فقال بصورة مؤثرة:" إنها بقايا جيش وأخذ يتحسر على المبالغ التي أنفقت وأنها ذهبت هباء وقال: لقد هزمت بواسطة جيشي.

- ونكتفي بهذا القدر من البغدادي ونذهب إلى فرفور آخر:

يقول السادات في كتابه( البحث عن الذات) ص 192:

" كان على عبد الناصر أن يتعلم درسا مما حدث فيدرك أن إستراتيجية إسرائيل هي أن نكون على خلاف مع أمريكا..

ولكنه بدلا أن يفعل ذلك فعل العكس تماما، فنجده بعد عدوان 1956 يشيد بالإنذار الروسي وينسب إلى السوفيت كل شيء ويهمل الإشارة إلى قرار يزنهاور بالانسحاب رغم ما في هذا من مجافاة للحقيقة، فالذي جعل هزيمتنا تنقلب إلأى نصر كان القرار الأمريكي وليس الإنذار الروسي..

وكان عليه أن ينتهز هذه الفرصة لتوطيد العلاقات بين مصر وأمريكا- ولو من باب ضرب إستراتيجية إسرائيل.. ولكن هكذا كان عبد الناصر.. تختلط عليه الأمور ويفقد البصيرة وخاصة لأنه كان يتأثر بتحليلات المحيطين وبه والذين لم يكونوا شرفاء في تقديم النصح له، فقد كان كل همهم أن يضخموا ذات عبد الناصر حتى تبقى لهم مناصبهم ونفوذهم.

- إذا كان هذا ما قاله السادات بنصه، فكيف يكون حال ما في الوثائق الممنوع نشرها خمسين عاما؟ وساءت علاقة عبد الناصر بأمريكا، يسبها ويلعنها ويتحداها ويساعده في ترويج شتائمه إعلام بذيء كان لهيكل الباع الطولي فيه.. ومنعت أمريكا عن مصر القمح..

وهرع عبد الناصر والسادات وزكريا إلى روسيا.. ومن هناك أعلن عبد الناصر اعتقال من سبق اعتقاله، ودبر له عبد الحكيم مؤامرة تصفية للإخوان المسلمين.. وتولى جيش عبد الحكيم مؤامرة قتل وسحل وتشويه الضحايا ، حتى النساء،

فلم يسلمن من الاعتقال والتعليق والضرب والرمي في زنازين الماء البارد في ليلى الشتاء، ومحاولات سافلة متحدية لكل الشرائع ولأي عرف تعارفت عليه الإنسانية منذ عصورها الأولى.. كان ذلك في عام 1965 م.

كان عار هزيمة عام 1956 كفيلا بأن يوقظ ضمائرهم، ولكنهم والسادات ، لم يكن عندهم ضمير لتوقظه الحوادث وتحركه العبر، كانوا على حد قول الشاعر:

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

وأبلغ الحديث وأصدقه هو قول الله تعالى:" بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" ( سورة المطففين – 14)

أحاطت المعاصي بقلوبهم وتراكمت عليها

تراكم الصدأ على أحط أنواع الحديد.

لم يسمعوا للنصيحة فحسب، وإنما عز عليهم أن تقال نصيحة، لا تلميحا ولا تصريحا، دعاة الإسلام يقتلون ويصلبون ويعتقلون ويعذبون ويشردون، ومشاهير الكتاب يفصلون ويكممون فلا يتكلمون ولا يجدون ما يأكلون. يقول الأستاذ أنيس منصور: عندما فصلني الرئيس جمال من عملي مدرسا في الجامعة، ورئيسا لتحرير "مجلة الجيل" ومنعني من الكتابة ،

أما القراءة فقد امتنعت أنا عنها، ومن الإذاعة ومن مغادرة البلاد، لم أعرف كيف يمكن أن تنتهي هذه المأساة فأنا قد ألقيت في بئر من آبار ألف ليلة وفى قاع البئر العميقة عدد من الأفعى، وعند فتحة البئر جلس العفاريت.. وبين القاع والقمة ما لا نهاية له من لم يكن الأستاذ أنيس منصور يعلم متى ولا كيف تنتهي المأساة..

والرسول صلى الله عليه وسلم علمنا أن الله تعالى لا يعجل عجلة أحدنا، فكم اتجهت إليه الأكف ضارعة؟ وكم استغاث بع المعلقون كالذبائح؟ وكم دعاه الشيوخ والنساء في زنازين الماء؟ وكم اطمأن إلى عدله الذين نهشتهم الكلاب ومزقت جلودهم الكرابيج ، ورأى بعينه التي لا تغفل الأسر الكريمة يلقى بها فى الشارع في ظلام الليل لا تجد غير الرصيف يأويها، ورأى الحكام كسروا موازين العدالة وانقلبوا إلى جلادين وقتلة، ورأى المناصب يرفع إليها المنافقون والمتزلفون والمداحون، ورأى ا لسجون والمعتقلات والتشريد والإذلال لمن قال كلمة حق، أو همس بكلمة عتاب أو تجرأ

وقال للطاغية: اتق الله، قالها كمال الدين حسين ، بعد أن نفذ صبره وكان يظن أن الظلم سيتوقف بعد علم أو بضعة أعوام ولكن وجد العصابة استمرأت تلفيق التهم، وقتل الأبرياء ، ومصادرة مال الشعب وعرضه، وكرامته وحريته، فأرسل خطابا لجمال يقول له: اتق الله ، واتعظ بعام الهزيمة ، وما الهزيمة على مثلك ببعيد، فاعتقله جمال، ولعل الله أن يكون قد قبل توبة كمال ولعله رفه يده كما رفعناها وسأله كما سألناه.

أرسل كمال رسالة إلى عبد الناصر ، وأرسل صورة منها إلى عبد الحكيم.

وسبحان الله الذي سخر كمال الدين حسين ليقوم بعمل هو من شعب الجهاد، وأدعو الله أن يجعله في ميزان حسناته، كان خطاباه لجمال وعبد الحكيم، حجة الله عليهما، كحجته التي أقامها على فرعون قبل أن يغرقه، ولكن جمال أصدر أمره من موسكو ولن يتراجع، وعبد الحكيم،دبر المؤامرة ولن يتراجع، فالرجوع إلى الحق فضيلة للفضلاء، أما عباد الأهواء ومصاصو الدماء ، فالظلم يغريهم بالظلم، والدماء تدفعهم لمزيد من الدماء ،

حدد عبد الناصر إقامته وأرسل المشير إليه رد خطابه يتندر به، ويسخر منه، ولم يستح من أن يبدى دهشته من كمال الذي يريد لعبد الحكيم بطل 1956، أن يتغاضى عن مؤامرة الإخوان، الذين أعدوا العدة لقلب الحكم، وقتل رجال الثورة، وتخريب البلاد والرجوع بها إلى الخلف سنين طويلة.. جريمة ضد شعب بأسره.. دماء تسيل وخراب يعم باسم الإسلام.

ويقول قائد جيش الديكتاتور: إنني تابعت التحقي خطوة خطوة.. والمؤامرة فيها أكثر مما نشر حتى الآن ..

- ولعل هذا كان السبب في إشعال الجحيم الذي ألقوا فيه بالأبرياء ليعترفوا زورا على أنفسهم وعلى أبرياء مثلهم.

- ويقول السادات: لا أستطيع أن أجزم إذا كان عبد الناصر يعلم بالتعذيب أو لا وإن كان مسئولا. ويقول في اجتراء :" علمت بعد ذلك أنه كان هناك تعذيب" ولم يقل إذا كان قد علم باستقالة كمال وأسبابها ، أم أنه كان في رعب وهلع من سؤال كمال أو زيارته أو تتبع أخباره بعد أن غضب عليه الديكتاتور.

لقد أملى الله لجمال إعطاء الفرصة تلو الفرصة، وأملى للمشير الذي لم يتعظ وآثر هواه ما عند الله.. وأعطى الله الفرصة لمن ساندهما من المتآمرين ، وأقام عليهم جميعا الحجة.

وأيام الله جلت قدرته تزحف على اللاهين السادرين في غيهم وفجورهم، والمتلذذين بظلم عباد الله، والحاقدين الناقمين على الطائعين المخبتين لله- والأشرار المغبين المعاصي غبا، والمتفكهين بشرب دماء الأخيار، الصابرين والقانيتين والمستغفرين بالأسحار.

كانت الأعين تنهمر بالدموع، والنفوس المؤمنة مع إيمانها كاد يهزها اليأس وصدق الله العظيم:" حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين".

قالوا: إنها النكسة، كذبوا إنها أية من آيات الله، وتبلغ الآية ذروتها والمشير يساق للديكتارالمهزوم، ويأمره الديكتاتور يتجرع السم. كان أعضاء مجلس الثورة يراودهم تجرع السم جميعا في هزيمة عام 1956 وتجرعه المشير وحده بأمر صديق عمره في كارثة- عام 1967 وسيق أنصاره إلى السجن والزنازين،

وكنت بعدها في الزنزانة 25 بمعتقل القلعة، ورأيت مكتوبا على جدارها" كان آخر شيء نفكر فيه، هو أن يعتقلنا عبد الناصر" والإمضاء- " ناصريون" ومتى فكر هؤلاء؟ لقد الغي عبد الناصر منهم الفكر، وأطلق غرائزهم على الحرام، وعلى كل ما هو دنيء أثيم.

وفى يوم كان يحدثني الشاويش سرحان وهو واقف على باب الزنزانة وأنا بداخلها، ماذا قال؟ إنه يعجب لأمر الله، وقال: تصور إن الزنزانة المجاورة لك كان يقيم بها حمزة البسيونى ، ولم أسعد في حياتي باحتقار معتقل وأتعمد إيذاءه كما فعلت معه، كنت أذله وأهدده بحرمانه من دورة المياه إن زاد على ثلاثة دقائق في اليوم.

وكنت في الزنزانة بعد أن انقطعت عنى أخبار أسرتي وانقطعت أخباري عنهم، لا عمل لي إلا تلاوة القرآن ، أتدبر آياته، وأعيش في نوره، وأتساءل لماذا يقتلون الأبرياء، ويحرمون إطعام أبنائهم؟ لأي هدف يهدفون؟ هل هم بهذا يريدون إطفاء نور الله؟ وحين تملكتني الحيرة والعجب وقعت عيناي على آية أضاءت كل جوانب نفسي، وأحيت أملى، هي قول الله تعالى:" هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون"( سورة المنافقون- 7)

يا حسرة على العباد ، يتوهم الطغاة أنهم قادرون على كل شيء، وهم تافهون لا يقدرون على شيء، ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم أن يفتنوا المؤمنين ويزلزلوا إيمانهم بإجاعة بطونهم، وتعرية أجسادهم، صادروا الأموال وفتنوا الخيرين، وما علموا أنهم عاجزون صاغرون لا ينالون من خزائن الله إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما أمانيهم إلا في ضلال.

دعوات المظلومين واليتامى والثكلى لا يحجبها عن الله حجاب.

وفى يوم من أيام الله استجاب الله، وانتفضت الملايين.. عودوا إلى رشدكم ، وصححوا إيمانكم واستيقظوا من سباتكم يا أصحاب الوعي المفقود، والارداة المسلوبة والأفكار المعطلة.. كل نفس ذائقة الموت، وكل امرئ بما كسب رهبن.

يا سبحان الله ، كان يريد تحطيم تماثيل الملوك، حتى لا يكون هناك إلا تمثاله، واحتار الأديب توفيق الحكيم، أين نقيم التمثال؟ وجاءه خطاب من عاقل لم يفقد وعيه، أنسب مكان للتمثال هو تل أبيب وأفاق الكبير وخرج علينا بكتابه " عودة الروح" وقلت في ذلك:

سألوا عن التمثال أين مكانه

ليخلدوه ويستمر زمانه

زعماء إسرائيل عرفوا فضله

فبظلمه انتصروا وخاب رجاله

لو أنصفوه لقدسوا تمثاله

وتكون تل أبيب ميدانا له

وسبحان الحي الباقي " إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون" ( سورة مريم- 40)

أنور السادات

تكلم كثيرون عن نشأة السادات، فمنهم من مدح ومنهم من قدح، وخاصة هيكل، وهذا لا يضيرنا كثيرا وخاصة إذا كان القادح محمد هيكل، وإلا سألناه أن يحدثنا عن نشأة جمال ، ولن يجد في نشأة جمال ما يعينه على اختلاق الأساطير.

وكما أن حديث هيكل عن السادات يؤخذ منه ويترك فكذلك حديث السادات عن نفسه يؤخذ منه ويترك، وخاصة أن كليهما ساير المدرسة الناصرية وشارك في إفكها، وساهم في أوزارها ولدى كل منهما رصيد من الحقد تؤججه عقدة الذنب، ويعمقه مركب النقص.

ركز هيكل على كل نقيصة يصم بها السادات، وكتابه " خريف الغضب" يكاد ينبئ عن بركان الحقد الذي انطوى عليه صدره . أعلن أن السادات ابن جارية، ولم ينكر السادات أنه نشأ في الفقر يجرى خلف حدته حافة القدمين فرحا بما اشترته من العسل الأسود، ولا يضيره أن يكون ابن جارية فما كان جمال ابن أميرة، ولا كان محمد هيكل شيئا مذكورا عندما احتكر له جمال قيادة الصحافة بخنق الصحفيين الأكفاء ليخلى المسرح للصحفي الأوحد.

- وقع نظر المأمون على الملكية زبيدة، زوج والدة هارون الرشيد ، وكان المأمون في عنفوان مجده، لمح الملكة زبيدة تبتسم في سخرية فاقترب منها وسألها عن سبب ابتسامتها، ولج في سؤاله في أدب ورجاء فقالت له: تذكرت حادثة فرضت على ابتسامتي، جاء الملك الرشيد إلى وله رغبة في ، فقلت له نلعب معا شطرنج فإن غلبتني فلك ما تطلب وإن غلبتك حكمت عليك حكما تقبله، فوافق ، ولاعبته فغلبته، فحكمت عليه أن يواقع أقبح جواريه، فكانت أمك وكنت أنت ثمرة الرهان، فقتلت ابني واستوليت على الخلافة مكانه..

تضايق المأمون من لجاجته التي أسمعته ما يكره، كان الرشيد وكل الحاشية يعرفون فضل المأمون- ابن الجارية- على الأمين ابن الملكة زبيدة، وأوصى الرشيد بالخلافة للأمين على أن يليها من بعده المأمون ، ونقض الأمين الوصية، وأوصى بالخلافة ، أكبر أبنائه المأمون وقتله.. وتولى هو الخلافة، وما قلل من شأن المأمون أمه الجارية ، على حد قول الشاعر:

كن ابن من شئت واكتسب أدبا

يغنيك محموده عن النسب

إلا أن هناك أمورا ينبغي الإشارة إليها.. ومنها إسراف السادات في إلباس نفسه ثوب الوطنية الفضفاض ، وما أتعس الوطنية حين يرتكب باسمها أبشع الجرائم ، وأفجرها.

يعترف السادات أن معاهدة سنة 1936 التي أبرمها على ماهر يسرت له دخول الكلية الحربية ، وأنه قبل هذه المعاهدة كان الأجنبي يرتكب ما يشاء من جرائم، وكان قانون الامتيازات الأجنبية يمنع السلطة المصرية من محاكمته، وألغت معاهدة سنة 1936 هذا الإجحاف وأعطت مصر حق محاكمته.

ثم إن السادات يعترف بأن حزب الوفد كانت له أغلبية شعبية، واستبداد فاروق هو الذي حطم القانون ليأتي بوزارات الأقلية التي تزيف لها الانتخابات.

هذه بديهيات لم ينكرها السادات:

- قانون معطل.

- وزارة أقلية مفروضة على الشعب.

- مجلس نيابي مفروض بانتخابات مزيفة.

- ملك مستبد يفرض كل هذا، وهو سليل توفيق الذي عاون الانجليز مجيئا وبقاء.

- وقد طالب الانجليز الملك بترك وزارة الأغلبية الشعبية لتحكم لتستقر الأمور في مصر.

- عدوان أحدهما الملك فاروق عطل القانون وفرض حكومة الأقلية، تفرض نفسها بتزييف الانتخابات.

وعدو آخر هو الانجليز يطالبون بحكومة تمثل الشعب تمثيلا صحيحا :" أيهما أولى بالاختيار؟".

يقول قائل: إنه حق أريد به باطل، ولكنه حق على كل حال، فإذا كان عدواك اختلفا، أحدهما مع الباطل والآخر مع الحق، فهل نقول :إن الوطنية أن نترك فارقا يفرض باطله؟

- حين قبل على ماهر الوزارة في 4 فبراير إنما كان مظلوما جاءت فرصته ليحطم كبرياء ظالمه وهو فاروق.

واشترط الرجل إجراء استفتاء شعبي صحيح على الرغم من إرادة الملك، وكان مما قاله:" إنني لو استفت الأمة لداستني الأمة بالأقدام".

وقد استفتى الأمة، وقالت كلمتها في استفتاء صحيح لم يجرؤ واحد على الطعن فى صحته.

فهل قبول على ماهر للوزارة تعاون مع الاستعمار؟

لقد كان قبول على ماهر للحكم بعد استفتاء الشهب تحديا لفاروق والمستوزرين من حكومات الأقليات، ولو تعاون على ماهر مع الانجليز ما تركوه لفاروق يقيله ويأتي بحكومة أحمد ماهر الذي ابتدأ حكمه باستعداد كبير للتعاون مع الانجليز، بإعلانه الحرب على ألمانيا وانبرى له البطل محمود العيسوي ليرديه قتيلا.

وفرض فاروق، النقراشي في الحكم من بعد أحمد ماهر.

- على ماهر الأعزل ذاهب إلى مؤتمر للوفد يخطب فيه بمناسبة ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم مجرد من السلطة إلا من حب الشعب، فلا زالت لع الأغلبية برغم كل ما قيل ، وفاروق يقتله الحقد على على ماهر ، فإذا ادعى السادات أن وطنيته أوحت إليه بقتل على ماهر المتواطئ مع الانجليز فيتربص له في طريق ذهابه إلى المؤتمر

وفى هذه المناسبة الكريمة- نقول للسادات: لا ، إن الوطنية إنما كانت وطنية محمود العيسوي الذي هجم في جرأة وشجاعة على عميل الملك فاروق وأداته في تحطيم الديمقراطية ثم بإعلانه الحرب على ألمانيا مجاملة للانجليز..

- أما أن يحرك السادات أدواته في الظلام لاغتيال على ماهر عدو الملك والانجليز معا، ثم يزعم أن دوافعه وطنية فلا يستقيم لدى الفكر السليم.

- كان للسادات دور مشبوه كشفته الأحداث فيما بعد، يقول السادات: إنه في نفس الليلة التي فشلت فيها عصابته في قتل على ماهر ذهبوا جميعا إلى مقهى يفكرون في قتل أمين عثمان الذي كان وزير مالية حكومة الوفد قبل إقالتها، وفعلا نجح حسين توفيق رحمه الله، في قتل أمين عثمان، وقبض على الجناة والمتآمرين وعلى رأسهم السادات، وتركت القضية لتنسى وتتعفن، والسادات يدلل في السجن يضرب عن الطعام فيستجاب له، يتهم حراسه زورا بتعذيبه فتتحرك الأجهزة لتثبت ادعاءه، وأسرف في الكذب

ولم يجد من يعلقه أو يعذبه، وهو لا يفتأ يفسر ذلك منوها بذكائه المتوقد، ومكره المتفرد، وتفوقه على المحقق والحراس والأولاد، يقول السادات عن حسين توفيق ومحمد إبراهيم( أولاد) لأنه استطاع استدراجهما لعمل أقنعهما بمصلحة الوطن فيهن وبقى عليه أن يقنعنا بوطنيته وهو يحترف سفك دماء ضحاياه بدافع مشبوه لا يعود على الوطن منه إلا المزيد من التمزق.

وأخيرا جاءت أحكام المحكمة لتبرى السادات.

وقابل السادات الدكتور يوسف رشاد، رئيس الحرس الحديدي الخادم لفاروق، فأمره بمقابلة الملك في مسجد الحسين رضي الله عنه بعد صلاة الجمعة ليقبل يده، وأصدر الملك أمره لحيدر، وقابل السادات حيدر، وقال لأحد الضباط : _ رجع الولد ده للجيش) كما ذكرها السادات في مذكراته.

وقد أصبح من الواضح أن السادات كان يعمل بالحرس الحديدي لحساب فاروق وأنه كان مستعدا للعب على الحبلين.

ولم يحدثنا السادات عن دوره في باقي المحاولات لقتل على ماهر، وكنا نود أن يحدثنا عن قاتل الضابط الوطني عبد القادر طه، ولقد قتل الضابط الوطني البطل أحمد عبد العزيز، وكان السادات في السجن،

قتل في فلسطين لحساب فاروق وكان يجلس في السيارة بجوار صلاح سالم كما جاء في أقوال حسن التهامي، ولكن للحقيقة قبل أن يذكر حسن التهامي ذلك، كان عندي علم مسبق بأن قاتل البطل أحمد عبد العزيز هو صلاح سالم الذي كان يعمل في الحرس الحديدي أيضا.

وأيضا علمت بأن السادات كان يعمل لحساب الحرس الحديدي، فإذا كان محمد نجيبذكر ذلك في كتابه، وكذلك محمد هيكل فهما لم يضيفا إلى معلوماتي جديدا، ولكنهما بدون شك أكداها.

ومما لا شك فيه أن السادات كانت لديه قدرة على تجنيد الشباب من الوطنيين الغيورين لتنفيذ مآربه، وإن تعذر عليهم فهم الدوافع الخفية التي تحركه..

وقد استغل السادات وطنية بعض الإخوان المسلمين ودفعهم لبعض أغراضه، وحين وقف إبراهيم الطيب- رحمه الله،يدافع عن نفسه أمام ثالوث محكمة الشعب، جمال وأنور وحسين قال بشجاعة: لقد وجهتم إلينا اتهامات بقتل شخصيات قبل الثورة يكفى للرد عليها أن عضو اليسار شاركنا فيها ولم ينكر السادات، فقد كان يرى مؤامراته السابقة بطولات يتفرد بها على باقي أعضاء الثورة، ويراهم يحسدونه عليها( كما جاء في كتابه البحث عن الذات) بل إن أحد الذين حضروا المحاكمة قال :

إن السادات أومأ برأسه مؤيدا إبراهيم الطيب، في الوقت الذي ثار فيه جمال سالم مهددا ومتحديا البطل إبراهيم الطيب المثخن بالجراح والتعذيب الناصري المستمر في الليل والنهار.

وإذا كان عبد الناصر دائم القول لمستمعيه: إن جيلكم جاء مع القدر، فقد كان قدر مصر المحزن أن يحكمها متآمران معترفان بتآمرهما ، في كتابيهما ، تآمرا على قتل الخصوم في الظلام، فما تمكنا من الحكم ، سهل عليهما القتل الجماعي في وضح النهار، مسخرين سلطاتهما،

أحدهما بإلغاء القانون والآخر بمخالب القانون، ولله في السلطة تدبر المؤامرات، وتقيم المحاكمات وتنصب المشانق ، وتعتقل وتسجن، وتمنح السفاحين والجلادين الأوسمة والنياشين، وتهرب من يدان منهم بجوازات سفر دبلوماسية، وإذا كان هيكل حدثنا عن السادات الممثل.. فلسنا في حاجة إلى أن يحدثنا عن صاحبه الممثل .. فقد رأينا ورأى العالم فصول المسرحيات المحزنة.

- كان هذا قدرنا في ماضينا، فماذا نحن صانعون في حاضرنا ولمستقبلنا؟

إيمان السادات

أعلن السادات شعار" دولة العلم والإيمان" وأطلق الكتاب على السادات " الزعيم المؤمن" فهل كانت الدولة تتمشى مع الشعار البراق؟

لقد لبس السادات لباس الوطنية الفضفاض، وغاص في أعماق حياته ليقدم لسماعه أو لقارئه قصصا وأحاديث عن وطنيته النابضة بالحب، والخالية من الحقد، والراتعة في الجهاد منذ نعومة أظفاره، والقابضة على تراب الوطن إيثارا له على كل كنوز الأرض .

ولم يبخل السادات فقدم لنا مثله الأعلى في الوطنية والبطولة، وكان مثله الأعلى " كمال أتاتورك" .

وكان الأولى بالسادات أن يكتفي بثوب الوطنية الفضفاض كصاحبه ولكن السادات، بمواهبه المتعددة، يضرب في كل الميادين، فما يستعصى عليه ميدان، ولا تقتصر قامته عن بلوغ غرضه مما يطرقه من ميادين..

فهو بطل السلم والحرب وهو منقذ الوطن، وهو بطل السياسة الذي لم يأخذ فيها دكتوراه ولكنه تربع على قمة محترفيها فهو المحنك فيها وكل من حوله مراهقون.

حتى مؤامراته الخفية والتي جند لها شبابا منهم حسين توفيق ومحمد إبراهيم فهو بينهم الرجل المكتمل وهو "أولاد".

كان يكفى السادات هذه الميادين ويبعد عن ميدان الدين، فإن للدين ربا يغار عليه، وهو يمهل ولا يهمل .. ولكن السادات ينثر على الشعب المستسلم أحاديث الرئيس المؤمن رئيس دولة العلم والإيمان ، ويختلط الأمر عليه، فيتناثر الإيمان الهش ن فمه، فيعلن أن الإيمان كما يفهمه، إنما هو إيمان بتراب الوطن؟ ومما لا شك فيه أن للسادات إيجابيات من أبرزها حرب العبور ولا ينكر أحد أنه عبر ولكنه لم يعتبر، اختار لمعركته شهر رمضان المبارك، وأطلق عليها اسم " بدر" وحرر بضع كيلو مترات وصيحات جنده تدوي " الله أكبر"..

واستولى عليه الزهو فتدخل تدخلا تسبب في الثغرة، ثم أنساه الشيطان ذكر ربه، فنسى شهر رمضان ونسى بدرا، واختار لمعركته اسم " نصر أكتوبر العظيم" وصدح الإعلام وأشاد بأكتوبر العظيم يقيم باسمه الشوارع والمدن والكباري والمجلات ونحتفل به في كل عام.. وفى يوم من أيام أكتوبر العظيم جاء ختام الزعيم الذي أجزل الله له العطاء وكان عليه أن يشكر:" ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما". ( سورة النساء- 147)

كم وعد بتطبيق الشريعة وعمل على تعطيلها.. في ذكرى يوم العبور، تأتى النهاية المحزنة ، في يوم زينته وجيش العبور يمر أمامه، بعد أن جرده من أبطال العبور، والعالم كله يرى نهاية بطل العبور.

ذهب الرجل وبقيت آثاره ، فالسادات يتحدث في كتابه عن رب العالمين جل جلاله، يتحدث بطريقة شاذة لم أرها في أي كتاب مما قرأته ولعل السادات بما قرأ من كتب التصوف المرفوضة لدى فكر المحققين من السلف، لعلها شدته إلى هذا الفهم الخاطئ فالله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء وهو رب العالمين " إن كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا" ( سورة مريم- 93)

وفى موطن الحديث عن أنبيائه ورسله يقول الحق تبارك وتعالى: " الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون" ( سورة الأنبياء- 49)

وجاء أيضا قوله تعالى".. واتخذ الله إبراهيم خليلا" ( سورة النساء- 125)

وجاء في معنى " خليلا" أي وليا .

أما أن يحدثنا السادات في مواضع كثيرة من كتابه فيقول:

إن الله سبحانه أصبح صديقه الذي تملأ صداقته كل كيانه ( 107) عرفت صداقة الله، فهو وحده عز وجل الصديق ( 115) تجردت من ذاتي فنعمت بصداقة الله( 116) .

جاء في الحديث الشريف:" لو كنت متخذا غير الله خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا".

وجاء أيضا:" اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل .."

أما كلمة " صديق" وهى نابعة من صفة الصدق فأنت تؤثر صديقك سرك وهو يعاملك بالمثل لصداقته لك وصداقتك له، تحدث بين ندين، تعالى الله علوا كبيرا.

في الحق أنني تضايقت حيت قرأتها، ولما وجدته يصر على تكرارها نوهت إليها، وإذا كان السادات، غفر الله لنا وله قد قرأ في الانجليزية كلمة صداقة الله جل جلاله،كان الأولى به أن يعود إلى قرآنه وسنة نبيه ليتعلم منهما كيف يتكلم عن سيد الوجود.

لم يكن لدى السادات استعدادا ليصحح له أحد، فقد استمع إلى الطالب الناصري يحاوره طويلا، ويجادله بعناد، فلما قام دكتور عبد المنعم أبو الفتوح " حين كان طالبا بطب قصر العيني" فلم يكد ير لحيته السوداء حتى أبدى امتعاضه وأعلن ثورته.

من يقرأ كتب السادات يجد العجب، فهي يعطى نفسه من المجد بقدر ما يسقط للآخرين، يحدثنا عن الخفير الذي استأجر منه حجرة في بيته، وكان يحمل له الزبادي أو مترد اللبن كل صباح، وبدلا من أن يشكر هذا الفضل، يحدثنا أنه اكتشف فيما بعد أن هذا اللبن كان يسبب له تعبا في معدته.

ثم هو يحدثنا عن الشهيد حسن البنا رحمه الله، فقد قرر لأسرته عشرة جنيهات شهريا كانت تعادل مائتي جنيه اليوم، وكان في وقت يقول فيه السادات: كان المليم عنده عملة صعبة، وبدلا من أن يشكر يقول : " سامحهم لله" ، وذلك لأن المبلغ توقف بعض شهور، ولم يفكر السادات في أن هذا المبلغ كان يقطع من قوت إخوان شارك في الحكم عليهم بالإعدام والسجن والإذلال في معتقلات عهدهم الأسود.

أما الخفير الذي كان يحضر له اللبن أو الزبادي كل صباح، كان جزاء أولاده الاعتقال في عهد عبد الناصر، وظلوا في المعتقل حتى جاء من يخبر السادات- وهو رئيس للجمهورية- بشأنهم وأمهم ترسل إليهم وهى تطمع في سرعة الإفراج، ولسان حالها يقول: يخونك العيش والملك واللبن والزبادي، ولم تكن تعرف أن الوجبة الصباحية كان ينقصها ملح الفواكه لتريح معدة الزعيم المؤمن.

ويتحدث السادات عن الوفاء فيذكر قصة الدكتور يوسف رشاد الذي قرر مجلس قيادة الثورة اعتقاله، فأحضر السادات حقيبة ملابسه وقال لزملائه: إذا اعتقلتموه فاعتقلوني معه الأقرب إلى الواقع هو علاقة كل من يوسف رشاد والسادات بالحرس الحديدي وحرص السادات على إبقاء الأسرار، أما الوفاء فلم يكن إلا مما تغنى به السادات من روائع الصفات دينية كانت أو خلقية.

وإلا فكان الأولى بالوفاء الذين أطعموه وهو جائع، وكسوه وهو عريان، وكان الأولى بالوفاء زوجه الأولى وأولاده منها.

غضب السادات لنفسه كثيرا، ولم يغضب لله مرة واحدة.. وإلا كان الأولى به أن يثور على جمال سالم وهو جالس على يساره، وجمال يطلب من خميس حميدة أن يقرأ الفاتحة بالمقلوب سخرية واستهزاء وكان ينبغي أن يغضب وجمال سالم يقول للشهيد عودة: إحنا كفرة إحنا كفرة وأنت مالك ويكررها بالجمع .. يكررها شاهدا على نفسه وعلى من معه بالكفر.. وعودة رحمه الله، ينكر هذا الفكر لدى الإخوان فهم لا يكفرون مسلما.. ويصر جمال على إعلان كفرهم، وأنور وحسين صامتان صمت القبور.

الطريق إلى الحكم

مما كتبه السادات في صفحة 105

تساءل البعض في حيرة كيف قضيت هذه الفترة الطويلة مع عبد الناصر من غير أن يقع بيننا ما وقع بينه وبين بقية زملائه.

إما إنني كنت لا أساوى شيئا على الإطلاق، وإن إنني كنت خبيثا غاية الخبث بحيث تحاشيت الصراع معه.. ( ولقد نفى السادات هذا السؤال الساذج حسب تعبيره) وأنا أ}يد السادات في سذاجة هذا السؤال لأن السادات استعمل الموهبتين في الوصول إلى الحكم.. فهو قد تحاشى الصراع مع جمال في خبث، تثبته أقوال السادات وأفعاله والشهود عليه من زملائه.

أما كونه ليس شيئا على الإطلاق فقد استغل موهبة التمثيل عنده ليطبق قول الشاعر :

ليس الغبي بسيد في قومه

لكن السيد قومه المتغابي

اعترف السادات بأن عبد الناصر أزاح عبد المنعم عبد الرءوف بسهولة، وكان عبد المنعم الرجل الثاني بعد السادات.

ومن كلام السادات إن شخصية عبد الناصر فرضته، وجعلته الدينامو المحرك للثورة. واعترف بالصراع على السلطة من باقي الزملاء.. وهنا نترك السادات يرد على السادات لنرى من حديثه مدى الخبث وتحاشى الصراع:

يقول:" أحيانا كنا نختلف وتحدث بيننا جفوة قد تستمر شهرين أو أكثر يرجع السبب فيها ربما إلى اختلافنا في الرأي أو إلى دس بعض من لهم تأثير عليه ممن حوله.. فقد كان عبد الناصر يؤمن بالتقارير، ويميل بطبعه إلى الإصغاء للقيل والقال. ولكن أيا كان الأمر فلم أضع نفسي موضع الدفاع.. طبعا كانت تنتهي الجفوة مهما طالت عندما يتصل بى تليفونيا ويسأل أين كنت طوال هذه الأيام، ولماذا لم أتصل به؟

وكنت أجيب: كنت أظن أنه كان مشغولا ولذلك فضلت أن أتركه لمشغولياته.. ثم نلتقي وكأن شيئا لم يكن.

كنت أقابل كل ما يفعله عبد الناصر بالحب الخالص من جانب.. هذا ما جعلني أعيش مع عبد الناصر 18 سنة دون صراع.. لم يتغير حبي لعبد الناصر أو تختلف مشاعري نحوه.. فأنا إلى جانبه منتصر أو مهزوما.. ولعل هذا ما جعل عبد الناصر يتلفت حوله بعد 17 سنة وينتبه إلى أن هناك إنسانا لم تقم بينه وبينه معركة في يوم ما.. ( ص 106) ".

ونسأل : هل كان عبد الناصر مثاليا في كل تصرفاته، الأمر الذي جعل السادات يقف منه هذا الموقف المسلم والمستسلم لكل أفعاله؟ يجيب السادات على سؤالي في كتابه:

" لم يكن من السهل أن تزول الغشاوة من عيني عبد الناصر وداخله مليء بمتناقضات لا يعلمها إلا الله .. يحتم على واجبي كصديق ألا أكشفها أو أفصح عنها.. ولكنها كانت موجودة.. عبد الناصر مات دون أن يستمتع بحياته..

فقد قضاها كلها في انفعال وانفعال.. القلق يأكله فقد كان يفترض الشك في كل إنسان .. وكانت النتيجة الطبيعية لكل هذا أن خلف عبد الناصر وراءه تركة رهيبة من الحقد".

وعلى الرغم مما كتمه السادات ففي الكثير مما ذكره ما يدل على ما جرعه عبد الناصر للسادات من المرارة والألم.. وكان لابد للسادات من الخبث المتناهي، والحرص الشديد على تحاشى الصراع مع- الديكتاتور المخيف.

ويلخص السادات التركة التي خلفها له جمال في ص 113:

" في الثمانية عشر عاما السابقة على رئاستي للجمهورية حاولوا أن يجعلوا من مصر حقد وقوة وفشلت التجربة 100% .. أقبح ما واجهته لم يكن الوضع الاقتصادي المنهار، ولا الوضع العسكري المهين..

بل جبل الحقد.. وازدادت حدة الصراع وأصبح الضياع أمرا محتوما عندما رأى الشباب مجتمع القوة ينهار أما أعينهم ومع ذلك فما زالوا يلقنونهم أنه أفضل المجتمعات وأقواها".

لم يبق أدنى شك في أن السادات كانت لديه قدرة خارقة على كبت شعوره، ليمثل أمام عبد الناصر دور المحب له، المعجب بمواهبه والمؤمل في انتصاراته وكان على أتم استعداد لأن يتلقى الاهانة بأعصاب باردة عليها باعتكاف وانطواء، حتى يأتيه صوت جمال يناديه فيلبى نداءه وكأنه لم يكن.

عرف السادات موهبة جمال وقدرته وأبعاد نفوذه، وزاد على ذلك ما تعلمه في مساء 27 يوليو أي بعد طرد فاروق بيوم واحد: عرض جمال عليهم الاختيار بين طريق الديمقراطية أو طريق الديكتاتورية واختاروا جميعا طريق الديكتاتورية إلا عبد الناصر فهو الوحيد الذي أصر على طريق الديمقراطية.

وأخذ الأعضاء في إبداء آرائهم والسادات يستمع، وجاء دوره فأخذ يلخص آراء من سبقوه".. فقاطعه عبد الناصر بحدة وعنف قائلا:

أنت قاعد تلخص كلام الأعضاء وتتكلم كلاما لا معنى له.. وتتصرف كأنك رئيس مجلس قيادة الثورة.. ما هذا الذي تفعله؟

ورد السادات: يا جمال آسف..(158) وتكررت سخرية جمال من السادات لرأى أبداه وهاجمه.. ومنذ تلك اللحظة انسحبت إلى نافذة عالية أطل منها عليهم وأضحك على صراعاتهم .. (ص 162) .

أما تعلق محمد نجيبعلى موقف السادات في مجلس الثورة فهو ما لاحظه من أن السادات ينتظر حتى يسأل فيقول : صح.. ويفكر براحته إن كان صحا أن خطأ.. فالفرق بين الصح والخطأ في راية لا يساوى غضب الديكتاتور.

وحين وضحت الصورة أمام السادات، ورأى أن جمال قد تخلص من البعض وأن الباقين في الطريق.. أعلن استقالته واقترح في خطاب استقالته تحويل السلطة إلى جمال عبد الناصر لأنه قد لمس بنفسه أثناء مروره ببلاد الشرق نجاح البلاد التي يحكمها شخص واحد، وأنه مؤمن بهذا ، كما أنه مؤمن كذلك بأن جمال عبد الناصر يمكنه أن يحمل هذه الرسالة، وأنه يعتبر نفسه مستقيلا ابتداء من 23 يوليو سنة 1955,

ولكن سيظل بهذه الثورة وسيعمل على معاونتها وهو خارج الحكم( ص 240 مذكرات البغدادي) وحدثت مناقشة لاستقالة السادات وفوجئ البغدادي وشركاه بتأييد عبد الناصر لكل ما جاء في استقالة السادات.

استطاع السادات دراسة ميول عبد الناصر وأبدى استعداده التام للميل حيث يميل، قام السلال بانقلابه في اليمن وطلب من عبد الناصر مساعدة عسكرية محدودة ولتكن أسلحة ، ولم يطلب تدخل الجيش المصري كقوة ظاهرة لأنه يعلم مدى ضيق الشعب اليمنى القبلي بذلك، ولكن السادات يعلم نفسية عبد الناصر المتعطشة للثورات وخاصة بعد فشله الذريعة في سوريا فيشير على جمال بغزو اليمن،

ويقوم عبد الحكيم بالجانب العسكري والسادات بالجانب السياسي ، ويقول السادات في مذكراته: إن التدخل المصري في اليمن فشل فشلا ذريعا ويعزى ذلك لعبد الحكيم الفاشل في كل حرب يخوضها، أما الجانب السياسي لا يمكن له الفشل فيكفى أنهم أزالوا من اليمن حكم الإمام ..

وهذا نصر كبير إذا قيس بخسارتنا البسيطة، فقد احتل اليهود سيناء بكبوة لحصان الناصرية، واستردها فارس السياسة الزعيم المؤمن بمعاهدة كامب ديفيد.. وتصفيق حاد من مجلس الشعب. ومن لم يعجبه البحر الأبيض فأمامه البحر الأحمر.

ديمقراطية السادات

" أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن فى ذلك لآيات لأولى النهى" ( سورة طه- 128) كان أمام السادات فرصة ليحكم عقله، ويتقى الله في شعبه الذي عانى وظل يعانى من استبداد حكامه، وأمامه موعظة عملية في صاحبه الذي ورث مكانه وتركته المثقلة بالهزائم والخراب والأحقاد.

إذا كان السادات قد وجد ذاته في الزنزانة 45، وزعم في اجتراء أن صداقته لله ( تعالى علوا كبيرا) قد استوت أن يصدق مع الله، فكم عاهده وأشهد الناس ثم أخلف عهده، وكم رآه الناس في مواطن الطاعة يصلى في خشوع، ويحدثنا هيكل في كتابه خريف الغضب فيذكر أن الويسكي كان ركنا من أركان غذائه اليومي، في سهرته أمام السينما وفى سهرته قبل النوم.

رأى فاروقا يرحل والشعب يعلنه، ورأى جمالا قتل وقتل وظلم وظلم، واعتقل الآلاف وامتلأت السجون بالأبرياء ، وفى لحظة انتهى، حقا أن مليونين أو أكثر ساروا خلفه يلطمون الخدود ويشقون الجيوب .. ولكنهم لن يحملوا عنه وزره، ولن يغنوا عنه من الله شيئا ، وعمل قليل يعود إليهم وعيهم المفقود، وتزول عن أعينهم الغشاوة ، فيرون الحقائق فتبكيهم، ويعجبون من سكرتهم التي سلبتهم الفكر السليم، كالمخمور يترنح في سكره بلا وعى.

يعلم السادات مدى القبح والنكر الذي لازم حكم عبد الناصر، ويعلم حجم الهزائم والخراب الذي خلفه، ويعلم مدى التآمر والإسراف في الكيد لخصومه.. ويعلم إلى أي وضع مهين عامل جمال خصومه.. نسى ربه ونسى وطنه.. وجلس عضو يسار في محكمة الرعب والسب والتهديد وسفك الدماء.. وجاءته الفرصة ليبكى ذنوبه، وليعوض شعبه ، يعوضه عن الليالي السود التي قضاها مؤرقا مفزعا ينتظر مطلع نور الحرية، وطال انتظاره.

ويعلم السادات أن الذين حاكموا أبرياء، ومع ذلك قتلوا وسجنوا.. ويعلم أن الذين سجنوا حصدوا كثيرين منهم .. صب السفاحون رصاصهم على السجناء العزل.. بأمر صادر من عبد الناصر لوزير داخليته زكريا محيى الدين.

يحدثني أحد الذين نجوا من هذا البلاء فيقول: هددونا بالضرب بالنار، فلم نصدق أنهم جادون في تهديدهم، فلم يخطر على بالنا أن الجرأة على الله بلغت هذا الحد.. وفجأة أمطرونا بالرصاص جرينا إلى الزنازين وكان من بين القتلى ثلاثة من إخوان الإسكندرية سيد على ، ومصطفى العطار، وإبراهيم أبو الدهب رحمهم الله.

جاءت جثة الأخ جثة الأخ الشهيد سيد على رحمه الله إلى أخيه الحاج إبراهيم بالليل ليدفن بالليل. زوجه الثكلى، وأولاده اليتامى، وإخوانه الذين عرفوه ، تقيا ورعا، يجد ليكسب عيشه بشرف، ويذهب في الليل إلى شعبة الإخوان في اللبان بالإسكندرية، يقرأ قرآنا أو يذكر حديثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما علمنا إلا الصلاح والتقوى .. وكذلك كان باقي الشهداء، لا ذنب لهم إلا أن قالوا : ربنا الله.

أنا المسئول. قالها السادات ولم يعلم أنه يسجل على نفسه بذلك أقبح ما صنع أشباه الرجال بالرجال، ويسجل على نفسه عارا لو وزع على شعب مصر بأكمله لأدانه، ولو مزج بماء البحر لنسجه، فما بالنا لو وزع هذا العار على حفنة المراهقين من ضباط الثورة- كنا سماهم رشاد مهنا- وتضيق الدائرة حين يتقدم السادات ويقول في اجتراء مذموم:

أنا المسئول عما عمله عبد الناصر، مسئول عن إهداء كرامة الإنسان، وقتل الأبرياء، واختلاق القضايا في محاكم ثورتهم الطائشة، مسئول عن الهزائم التي لطخت مصر والأمة العربية بالعار، مسئول عن الاقتصاد الذي خربوه، جاءوا إلى الحكم والجنيه المصري بأربعة دولارات، أو خمسة عشر ريالا سعوديا .. ما قيمته اليوم؟

كانت لنا ديون على إنجلترا.. واليوم علينا ديون اختلفوا في تقديرها ، أهي عشرون مليارا،أم تنقص أم تزيد؟ ديون أثقلوا بها أجيالا في أحقاب أجيال.. ( أنا المسئول) قلتها كما قالها قبلك عبد الناصر.. ولم يسألكم الشعب، فتحملوا مسئوليتكم أمام الله الذي أملى لكم لتتوبوا .. وأعطاكم الفرصة بعد الفرصة لتنيبوا، وأرسل إليكم النذر لتتعظوا فخدعتكم أحلامكم إلى أن أتاكم وعد الله .

زيفت الانتخابات للسادات لينال 80% وكنت في المعتقل، ولو كنت خارجه ما أعطيت صوتي لأحد، لأن الحقيقة المرة التي رأيناها ، النتيجة في رأس الحاكم سواء صوت الشعب أم لم يصوت.

وأجرى ممدوح سالم انتخابات لا غبار عليها، بشرتنا بالديمقراطية التي كدنا ننساها، وكان ثمرها وجود مجلس الشعب منتخب يحس بالشعب ويحس الشعب به، ويكفيه شرفا أن يكون مواكبا لنصر رمضان ، نصر العبور، نصر بعد عهد الهزائم الناصرية المخزية.

وجاء من بعد ممدوح سالم انتخابات مشبوهة مالت إلى التزييف ولم يمنع تزييفها من وصول الشيخ عاشور والأستاذ عادل عيد وإبراهيم شكري ومحمود القاضي..

ومع قلتهم لم تطق أذن السادات أن تسمع نقدهم.. فصل كمال الدين حسين.. وفصل الشيخ عاشور وفصل وفصل.. والأغلبية المزيفة تساعده.. ولما ضايقه قلة القلة حل مجلس الشعب كله وعين مجلسا جاء كما أراد، مجلس مهمته التصفيق المتواصل، وتأييد الرئيس المؤمن ظالما أو مظلوما ، ونسى السادات نهاية فاروق ونهاية جمال.. لم يتعظ السادات وهو الذي عرف بنفسه فساد الديكتاتورية،وسار على شوكها وأكل من أثيم ثمارها،وتجرع من قيحها..

ورأى بعينيه نهاية الديكتاتورالذى أذابهم فيه، وألغى شخصياتهم فانصاعوا له، وجعل منهم قطع شطرنج يحركها بأصابع قدمه إن لم تكفهم إشارة يده، كم سخر منهم واحترموه ، وكم استعبدهم وقدسوه.. وكان السادات على قمة الذين انحنوا للعواصف لتمر، وكان يعتكف بعد كل عاصفة ينتظر رضاء سيده، وتحمل مع باقي الأعضاء أوزارا تنوء بحملها الجبال .

أي ذات وجدها السادات في الزنزانة 45، وهو الذي رأى الفرق الشاسع بين زنزانته وزنازين جمال ، وسخره جمال لآثامه واغتيال شعبه المسالم فما تمرد وما غضب غضبة واحدة لله، وإنما يقول في تحد للديمقراطية:

قابلت كل أفعال جمال بالحب.

أنا المسئول عن كل أفعال جمال.

كلنا على طريق جمال .

أهو طريق الهزائم، أم طريق المظالم والسجون والمصادرة والخراب أن طريق الحديث إلى الغرائز بعد أن تخدرت العقول؟

أي ذات وجدها السادات في الزنزانة 45 لقد دخلها وهو قاتل ولم تمتد إليه يد بإيذاء ، ولم يكره على قول، وكل زملائه أدانواه وهو يكذب ويراوغ ولم يجرح من المحقق بكلمة .. فلا غرابة أن يتعلم من الزنزانة إياها المراوغة وفنون اتهام الأبرياء وجرح الخصوم والتجني عليهم وإلصاق العيوب بهم.

وتذهب إليه أخبار أخيه المستغل لمركزه المهين به على كل شيء، تأتيه أخباره بالتهريب والمتاجرة في أقوات الشعب والحديد المدعم.. فيقول لمخبريه: لا أحب أن أسمع شيئا عن هذا الولد.

ثورة بدأت بأميرة تستغيث بأول رئيس للجمهورية( نجيب) في غسق الليل، تستنجد به من عضو مجلس الثورة الذي يأتيها مخمورا يفرض عليها نفسه.. ويعجز الرئيس عن كبح جماح الأعضاء.

وتذهب إلى الرئيس السادات أخبار أخيه فيقول: لا أحب سماع أخباره.

ماذا كنا ننتظر للديمقراطية من هذه الثورة التي قدسوها في غير حرج؟

برغم مراوغة السادات كنت أدعو الله أن يهديه، فقد جاءنا بعد ثمانية عشر عاما حالكة السواد، لم أتعلم التسامح ولا وجدت الذات في الزنزانة 25 إنما تعلمت التسامح من الإسلام:" .. وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم".( سورة النور- 22)

إن كان السادات دخل الزنزانة 45 وهو رئيس عصابة قتلت واعتدت وكذب وموه وراوغ المحققين ولم يتلق صفعة أو كلمة نابية، فقد اعتقلت أنا وتهمتي إطعام يتامى قتل أباهم جمال، واشترك في محاكمتهم السادات، وقلت الصدق، فقد علمنا الإسلام الصدق، ولم يعجبهم الصدق، فصبوا على عذابا لا قبل لي به.

ورأيت في الزنزانة 25 آية من آيات الله، وجدت الناصريين كانوا قد سبقوني إليها،وعبروا عن حسرتهم بما كتبوه على جدار الزنزانة وشتان بين من دخلها في سبيل الله وبين من دخلوها في سبيل الشيطان وصدق الله العظيم" .. إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كم تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما" ( سورة النساء- 104)

ظللت أدعو للسادات فقد تعلمت في الزنزانة ألا أدعو على أحد، فكم دعوت على فاروق، وذهب فاروق، وجاءنا حكم إبطال المشانق والسجون والمعتقلات والمصادرات والهزائم والأباطيل. وجاء سبتمبر بأعاصيره ورياحه العاتية، لم يترك بابا للديكتاتورية إلا طرقه، اعتقال لكل الخصوم وتهديد لكل الشعب.

جلست استمع إلى خطابه في حزب وألم.

لن أرحمهم .. لم أرحمهم.. قالها مرات.

التلمسانى سامحته مرارا ولن أرحمه هذه المرة.

المحلاوي مرمى في السجن زى الكلب " كررها ثلاثا وبصق"

ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعباد.

انتفضت وأحسست بقشعريرة تهز كياني وأحسست بنهاية السادات ولم يترك اختيار، وجدتني أرفع يدي إلى السماء مع ملايين الأيدي، ودعوت بما دعا به الملايين، دعونا الله الذي يمهل ولا يهمل:

" فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون". ( سورة العنكبوت 40 )

" اذكروا محاسن موتاكم" ( حديث شريف)

ولو كان لعبد الناصر محاسن ما ترددت عن ذكرها، فالرسول صلى الله عليه وسلم علمنا الكثير من الخير، بل دلنا على الخير كله .

حارب عبد الناصر الإسلام وقتل دعاته وسخر من علمائه، وشرد رجاله.

جيش مصر الباسل، حطمه عبد الناصر وفرض عليه القيادات الهزيلة التي يؤمن بها حياته ونظامه الفاشل.

الهزائم التي فرضها على مصر فرضا، والتي جعلت من إسرائيل قوة، بإصراره على عداء أمريكا وتحديها لينتزع إعجاب سامعيه، فدفعها دفعا إلى مد إسرائيل بالمال والعتاد والخبرات في الوقت الذي قطع هو يدها الممتدة إلينا بالسلاح والمودة والعتاد.. وامتدت يده في صغار لروسيا يرجوها السلاح والقمح.

الاقتصاد الذي حطمه ودمره.

الأحقاد التي زرعها في صفوف الشعب، والتركة المثقلة بالأقوال الكثيرة والأعمال المرتجلة محقت منها البركة، وأحدق بها الخسران، وأحيطت بمراكز القوى المتربصة والمتنازعة على تركة الديكتاتور .. أعمال على كثرتها ، وكثرة المتشدقين بها تذكر بقول الله تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا". ( سورة الفرقان – 13).

أما السادات – رحمه الله0- فله محاسن. والله تبارك وتعالى يقول : " .. ولا تبخسوا الناس أشياءهم.." ( سورة الأعراف- 85)

رأينا محاسن السادات وهو يرفع أنقاض صاحبه، عرفنا أول خطوة مباركة له، ونحن في المعتقل الناصري تحصى علينا أنفاسنا، وتسجل كلماتنا بجهاز مدرب على الفاسد والإفساد.

جاء السادات إلى الحكم، وجهاز الإفساد الناصري يتفنن في تعذيب المعتقلين لفظة شاردة يتفوه بها المعتقل كفيلة بنقله من اعتقال جماعي إلى حبس فردى في زنزانة تعزله عن العالم والزنازين درجات منها الرطب المقبض للقلب والخانق للنفس ومنها للوسط.. ومنها.. ومنها.

ثم على الجهاز الفاسد المفسد أن يدخل بين الإخوة ليفسد ودهم ويثير الشكوك بينهم.

والزيارات درجات، فتأتى الزوجة التي حملت على كتفها، وساقت أبناءها ليروا أباهم الذي حرموا من رؤيته، وعليهم أن يمشوا على المعتقل مسافة طويلة، حاملين متعثرين في حجارة مليء بها الطريق لتمنع السيارات وتحتم المسير ودرجات الزيارة، من يرضى عنه قائد المعتقل يسمح لزوراه بالدخول والجلوس معه، ومن لم يرض عنه يقف زواره خلف سلك شبكي يسمح للأعين بالنظر وللآذان بالسمع وللآلام أن تتضاعف فتمزق القلوب وتحرك الأكف متجهة إلى الله أن يزيل هذا البلاء.. واستجاب الله الدعاء، وجاء السادات.

حين حكم السادات توقف التعذيب، فلم نعد نسمع أصوات المستغيثين في حجرات التعذيب، وبدت الكآبة والوجوم وحمل الهموم على وجوه جهاز الفساد والإفساد الناصري.

ثم جاءت حسنة كبرى وفق الله السادات فيها، وهى ضرب مراكز القوى، ولم تكن هينة كما زعم هيكل وغيره من الذين يقللون من أهمية انتصار السادات على مراكز القوى. لقد ترك عبد الناصر سيناء محتلة باليهود،

ومصر كلها محتلة بمراكز القوى، وحسبنا أن يكونوا خلاصة العفن الذي اختاره عبد الناصر ليحطم به خصومه ويصفى به الإسلام ، فهم لا يخافون ربا ، ولا يحترمون دينا، ولا يتعففون عن منكر. أرخصوا الأرواح واستباحوا الأعراض ، وأهدروا آدمية الخصوم بقسوة ووحشية لم يعرف التاريخ لها مثيلا.

كيف استطاع السادات تصفيتهم ؟ إنها بطولة لا ينكرها إلا أمثال هيكل الذي زعم أنهم لم يكونوا في حاجة إلا على عصا من جريد.

وكانت الحسنة الثالثة للسادات تصفية المعتقلات، ولا يعرف قدر هذه النعمة إلا من كان في معتقلات الناصرية، حيث لا قانون.. وطال الأمد على الفجار فقست قلوبهم، وتحجرت مشاعرهم ، ويئسوا من ميل الشعب إليهم في يوم من الأيام، فغالوا في قهر الشعب وإفساده.

ووسط هذا الركام امتدت يد السادات إلى نواصيهم، وألقى بهم في المعتقلات ناكسى الرءوس، مكفهري الوجوه، وجاء يوم من أيام الله، وكنت قد خرجت من المعتقل، وساقتني الصدفة، حيث جلست أمام التلفاز، فرأيت شعراوي جمعة وعلى صبري وسامي شرف وباقي العصابة.. واقفين أمام محكمة التصحيح ومصطفى أبو زيد- رحمه الله- يشير إليهم ويتلو قول الله تعالى" إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون. لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون. وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين. ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون. لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون" ( سورة الزخرف 74-78)

والحسنة الرابعة حرب العبور، لقد عودنا عبد الناصر أن يعلن الحرب وينسحب، ويؤكد النصر وينهزم، ويهدد إسرائيل بالدمار وهو يمكن لها في الأرض ..

فلم يكن عجيبا ألا نصدق السادات فيما وعد به من محاربة إسرائيل، وكانت كتابات هيكل تحمل في طياتها اليأس من النصر في حرب انهزم فيها فارس أحلامه عبد الناصر، والعجيب أنه في كتابه " خريف الغضب " يزعم أنه كان ينوه، ومتى صدق في حديثه بالأمس حتى نصدقه اليوم.

استعد السادات بجنده، واختار لقيادتهم الأكفاء من أبطال مصر، وبرغم كل الظروف حارب وانتصر، عبر الماء وعبر السد الترابي وحطم خط بارليف وسفك دماء اليهود ورفع رأس مصر عاليا بعد أن نكسه عبد الناصر طويلا. وكان على السادات أن يستمر فيشكر لله أنعمه، ويتواضع لشعبه، ويرسى قواعد الديمقراطية، لقد رأى بعينه طيبة الشعب الذي يفتح قلبه ويقدر جميل حكامه، كان السادات مخدوعا في الملايين التي سارت تودع عبد الناصر..

ظن أن الناصرية عشاقا فتملقها بمعسول قوله، وجاء نيكسون لزيارة مصر، وأمسك السادات قلبه، ظنا منه بأن مصر الشيوعية الناصرية ستقذف نيكسون بالبيض والطماطم. ودهش السادات إذ رأى شعب مصر وبتلقائية لا ترتيب لها ملأوا الطرقات والمحطات يرحبون بنيكسون.. لم يكن تكريما لنيكسون حاكم أمريكا المساندة لإسرائيل، وإنما جاءت حرارة الترحيب معبرة بصدق عن كفران الشعب بالناصرية، بأكاذيبها وزيفها. وكفرانا بالشيوعية البغيضة لكفرها بالله وسحقها لآدمية الإنسان:

رأى السادات ما يكفى للعبرة. واآسفاه .. أولئك ينادون من مكان بعيد.

ظل قابضا على ناصية الديمقراطية يسحب بالشمال ما يعطى باليمين .

وجاء خريف الغضب .. وجاء سبتمبر المتشنج من تشنجات الزعيم، وكان يوم الطغيان، يوم الخامس من سبتمبر.

كيف قبض على الآلاف بعد ن حرر الآلاف؟

كيف تحدى الحق والعدل وآثر الظلم والبغي؟

كيف صدق من حوله، بعد أن استبشع تصديق جمال لمن حوله؟

كيف سمح للسانه بهذا القول الذي يعاف مثله محترفو الإجرام وقطاع الطرق؟

كان المعتقلون يعذبون ويضربون، ويسمع صياحهم التلمسانى مرشد الإخوان المسلمين الذي قال: لقد كان السبعون يوما التي قضيتها في معتقل السادات، أشد على من السبعة عشر عاما التي قضيتها في معتقل عبد الناصر.

وفى يوم من أيام الله ، والسادات يستعرض قوته، وينتفش كالطاووس في نجومه ونياشينه انطلقت رصاصات خالد الإسلامبولى ورفاق.. وانتهى السادات.. ورحم الله الجميع.

وبقيت أيام الله تتلو علينا قوله تعالى " يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار؟ ( سورة النور- 44) ( صدق الله العظيم)

ناصريون بالإكراه

منذ أن قال عبد الناصر لفريد عبد الخالق:" إنني أريد في خلال سنتين.. ثلاثة.. اضغط على زر.. البلد تتحرك زى منا أنا عايز.. وأضغط على زر .. البلد تقف" .

أصبح واضحا أن جمال يريد من كل المصريين أن يصبحوا ناصريين لحما ودما، ويبدو أن هذه الأمنية البعيدة أو المستحيلة كانت من أكبر الدوافع لقسوة جمال في تصفية معارضيه، واعتبارهم أعداء يجب تصفيتهم بكافة السبل، ليتخلص منهم أولا، ثم لينزعج بهم غيرهم، وإلا فماذا يفسر لنا الحصد الجماعي للمسجونين العزل في مذبحة طره وغيرها؟

كنت طبيبا في مستشفى أحمد ماهر سنة 1963، حين وجدت استمارات موزعة لنملأها كأعضاء في الاتحاد الاشتراكي، وترددت، ولكن الزملاء الكرام حذروني وكانوا على حق، فالناصرية كما أرادها جمال من ليس معها، فهو عليها، وليتبوأ مقعده في المعتقل أو في قضية تدبر له، ثم السجن إن كتبت له الحياة.

هذه هي قصة الاتحاد الاشتراكي، منتفعون كبار، وأعضاء كثيرون فرضت عليهم العضوية ، فهم أعضاء يخصم الاشتراك من مرتباتهم، وتدرج أسماؤهم في كشوف ، وإن كانت زبدا كزبد البحر.

وجاء السادات وكنا نظنه سيزيح صروح النفاق وأكواخها في صراحة ووضوح، ولكن يبدوا أن السادات كانت لديه موهبة الانتفاع من كل شيء، وقد انتفع من عبد الناصر حيا، ولديه القدرة على الانتفاع منه ميتا، وقام فريق من المنتفعين يحملون الناصرية شعارا في مواجهة السادات ، ويرد عليهم السادات في مكر ودهاء.

وهل هناك طريق غير طريق عبد الناصر، كلنا على طريق عبد الناصر؟

وكانت أظرف نكتة قالها شعبنا الذواق: السادات يسير على طريق عبد الناصر " بأستيكه" .

وكان هناك آخرون ، انساقوا مع الناصرية، وتاهوا في تضليلها إلى حين منهم من بادر بالتوبة، ومنهم من أبطأ به فكره فأخذ يقلب الأمر ، ويسترجع شريط الأحداث ولكنه يحاول في غير تعصب أن يعطى الحكم الصحي على ما مر به.. لماذا سار في الركب اللاهث خلف الزعيم، تشده الأماني ،

وتغريه الأحلام ولم يحاول أن يرى الهزائم والفساد والإفساد بميزان فكره، ولماذا ظل مخدوعا في ركب المخدوعين يصدق التعليلات ويتشبث بالتأويلات وأين كان فكره، وكيف استسلم لهيكل الذي يقول : إننا انتصرنا ، ولم ينتصر اليهود لأن هدفهم كان إسقاط جمال، وقد تمسك الشعب بجمال، فخاب هدف اليهود وانهزم مسعاهم.

ويضرب رأسه في الحائط وهو يتذكر سذاجته يوم تحرك رئيس مجلس المدينة أو رئيس مجلس الإدارة بسيارات الحكومة يطلب إلى الموظفين ركوبها ليذهبوا إلى القاهرة يناشدون البطل المهزوم ألا يتنحى فليس لهم من بعده إلا الضياع ، وكيف سار ببراءة الأطفال يردد:

باسم القتلى وباسم الجرحى

لا تتنحى لا تتنحى

ويتواضع الزعيم، ويزف السادات بشرى تنازل الزعيم بقبول قيادة المسيرة، ويرقص نواب الشعب ، أو نواب الأمور، فما أكثر ما غيرو في الأسماء وبدلوا، حتى فقدت الكلمات معناها..

وتلتقط إسرائيل صور المظاهرات الهاتفة ومجلس الشعب الراقص، وتقدمها للعالم مع صور أخرى من الكنيست ، نواب إسرائيل يهاجمون- موشى ديان بعنف، لماذا لم يواصل غزو مصر، وأمامه الطريق مفتوح إلى القاهرة؟ وتنشر صحافة العالم كله" إي مصر طبعا" صور المأساة وتتساءل : من المنتصر جمال.. أم موشى ديان؟

شارب الخمر، يفيق بعد ساعة أو ساعات، ولكن خمر الناصرية لا يفيق منها الناصريون، وأريد للشعب كله أن يتجرع سمومها ليمكن الزعيم الأوحد بضغط الزر، ولو بخطأ غير مقصود ولا محسوب، فتقوم قيامة مصر، ومصر وحدها من دون بلاد العالمين.

أفاق توفيق الحكيم ، بعد أن بكى على الزعيم، وطالب له بالتمثال اللائق بالمقام، وكان الكاتب الكبير لا يزال متأثرا بخمر الناصرية اللعين حين جاءه خطاب من عاقل لا يستخفه الذين لا يوقنون، وقال لتوفيق الحكيم: لقد وجدت للتمثال مكانا، هو أنسب مكان، فليس أنسب من " تل أبيب".

أفاق الكاتب الكبير ، وبعد تفكير أتعبه، وأحرجه أمام الأجيال القادمة، بل أمام العالم المتفرج على مصر والساخر مما يجرى فيها، انتفض الرجل وأفاق من سكرته، وقدم أحسن ما كتب ، كان كتيبا صغيرا " عودة الوعي" ولكن كل سطر فيه يساوى كتابا، لم تمنعه رشوة جمال له أن يقول كلمة الحق حين استبان له الحق، وأي رشوة أوضح في هدفها ودلالتها، حين يمنح عبد الناصر قلادة النيل الخاصة بزعماء الدول – لتوفيق الحكيم، مع احترامي وحبي ودعائي لتوفيق الحكيم – ولكن الهدف واضح من منحه القلادة، فلو كان جمال ممن يقدرون الأدب والعلم لقدم قلادة النيل للشهيد سيد قطب بدلا من إعدامه.

اقرأ معي للحكيم غفر الله لنا وله، وتقبل منا ومنه المتاب:

" أين كنا نحن؟ أين كان المفكرون في هذا البلد؟ وأين كنت أنا المحب لحرية الرأي؟

كانت الثقة فيه شلت التفكير.

أدهشني أن كتاب ( فلسفة الثورة) توزعه في الخارج جهتان في نفس الوقت: السفارة المصرية، ولسفارة الإسرائيلية لتفهم العالم أن زعيما من طراز هتلر قد ظهر في العالم العربي.

أصبحت الحناجر هي للعقول.."

لم يكد يظهر كتاب " عودة الوعي" للكاتب الكبير حتى هبت عواصف الناصرية البغيضة، الخالية من نسمات العقل وأقل ومضات الفكر، خرج مذعور بكتاب أسماع" الوعي المفقود" وآخر بكتاب تافه أسماه" سقوط الحكيم" وثالثهم ورابعهم وسادسهم ..

تحركهم تشنجات ورثوها ولا سبيل للتخلص منها فهي كمدمن الحشيش يحبه ويلعنه.. وسأل توفيق الحكيم: وأين كنت؟

ومع تفاهة السؤال وسائله رد توفيق الحكيم بكتاب فيه الرد الشافي للسائل ولغيره من الذين يدافعون عن عبد الناصر ويزعمون أنه لم يكن يعلم، ولكن كتاب الأديب الكبير" على طريق عودة الوعي" أفحمهم الحجة، فقد أرسل للزعيم برأيه ولكن الزعيم كان في واد وناصحوه في واد آخر.

الناصريون لا يعرفون معنى" الرجوع إلى الحق فضيلة" ويصرون على الذنب ولا يحبون المتاب ولا الإنابة، وأعجب العجب أن يحدثك أحدهم فيوهمك أنه عالم في كل شيء، هو يحدثك في الذرة ويحدثك في السياسة ولا مانع عنده أن يحدثك في الدين وسأتناول في إيجاز أحدهم على سبيل المثال وليكن:


محمد حسنين هيكل

ربما جاء اختياري لهيكل لأنه بحق كاتب الناصرية العنيد ، المصر على عيوبها، والمتلاعب بالألفاظ حبا في سواد أيامها، والمبرر الجريء لمساوئ مسارها ومخازي انهزامها.

ثم هو يحدثك عن كل شيء حتى يدهشك بسعة اطلاعه، يعد لدى القراء وقت ليدققوا في صدق أقواله أو باطلها، ووجدته في كتابه " خريف الغضب" غاضبا على السادات، وهذا لا يعنيني فقديما قالوا: إذا اختلف اللصان ظهر المسروق.ز وإنما الذي يعنيني هو مدى صدقه فيما يقول.

لم يغفل هيكل هوايته المفضلة وهو الحديث عن عبد الناصر، في غير داع- يقول : " والشيء المهم فيما يتعلق بعبد الناصر وربما كان من أبرز أسباب نجاحه أنه – مثل" محمد على" قبله – أدرك بعمق حقيقة الثوابت الجغرافية والتاريخية التي تصوغ وتحكم أقدار مصر" اعترف هيكل بمحمد على وإن سخر منه صاحبه.

زعم أن عبد الناصر نجح، وإذا كان هذا هو النجاح فماذا يكون الفشل؟

زعم أن عبد الناصر أدرك مثل محمد على حقيقة الثوابت الجغرافية والتاريخية وهذا افتراء، فجمال لم يقم وزنا إلا لرمسيس وأحمد عرابي هذا من الوجهة التاريخية، أما من الوجهة الجغرافية فشتان بين- محمد على وجمال، محمد على ضم السودان إلى مصر، وجمال ضحى بالسودان ليتخلص من نجيب، ثم إن محمد على حارب في كل الميادين وانتصر وجمال انهزم ف كل حرب خاضها..

وشتان بين إصلاح محمد على في هدوء وذكاء وبين ما تشنج به جمال، وماذا يساوى السد العالي مقارنا بالقناطر الخيرية والترع الكبيرة والصغيرة والاتساع الزراعي ؟ يكفى أن عبد الناصر جاء ونحن نصدر القمح، وتركنا ونحن نستورده.

كلام كثير قاله هيكل وغالط فيه شأنه دائما حين يتكلم عن عبد الناصر والناصرية.

يحدثنا عن حرب العبور فيكاد يشعرك أن يده كانت مع السادات وأن أياديه البيضاء ورؤيته السديدة للأشياء كانت كفيلة بإحراز نصر أكبر وعلى باقي الناصريين أن يسألوه: أفلا كان الأولى بك أن تفيد عبد الناصر بهذه العبقرية لينتصر ولو مرة واحدة؟

كنت أود لهيكل أن يكتفي بمغالطاته السياسية، ويحلل ويتأول كما يشاء ويبعد عن الخوض في الإسلام، فهو أولا: بعيد عن هدى الإسلام، ثانيا: هو جاهل به، ثالثا: إنه كان أحد أركان التعتيم الناصري، والمبرر لضرب عبد الناصر للإسلام ولأهله، والمفترى على الإخوان المسلمين في محاكماتهم بقضايا ملفقة.

كان على هيكل أن يبتعد عن الخوض في الإسلام لأن خطأه سيكتشفه غيورون على إسلامهم ولن يتركوا هيكل يلبس عمامة ليعلم الناس مغالطات باسم الدين.

بجرأة هيكل على قلب الحقائق، والالتواء بالواقع، لينصر سيده حيا وميتا، بنفس الجرأة يغالط وهو يتكلم عن الجماعات الإسلامية، وكأن السادات ارتكب منكرا حين تركهم يؤدون صلاة العيدين في الخلاء، وترك لهم حرية الحركة حتى اشتد عودهم وكثر عددهم وأصبحوا عبئا عليه، وقوة ضده وليست له.. في نفس الوقت الذي ترك فيه شجرة الناصرية تذبل وتضمر ، وأصبح الناصريون كاليتامى فقدوا عائلهم ولا يجدون من يقيم شأنهم، ويوجه تحركهم.

تأمل معي تفكير الكاتب الأوحد لتعرف بأي عقل يفكر- الناصريون، وأن هناك أصنافا منهم لا زالت عقولهم في حناجرهم على حد تعبير الكاتب الكبير توفيق الحكيم.

هل كان فرضا على السادات أن يسير على طريق الناصرية، فيلفق التهم، ويشكل المحاكم، ويعدم الخصوم ويزيد من الخرائب التي خلفها له جمال؟

هل كان على السادات- ليعجب هيكل- أن يترك العفن الذي تركه له عبد الناصر ليأتي على الأخضر واليابس؟

من الإنصاف أن نقول : إن السادات ترك له صاحبه تركة مريضة مثقلة بالهم والغم، وجاء السادات ليلعب في القوت الضائع، ليحرز هدفا يحسن به الهزيمة المجللة بالعار الناصري، وقد أحرز السادات هدفا أحرج هيكل، لأن هيكل بني لعبد الناصر قصورا في الهواء بعد أن هدم قصور الأرض وحولها إلى خرائب ، وجاء السادات وكان يعز على هيكل أن ينجح السادات فيما أخفق فيه صاحبه.. ونجح السادات وإن كان نجاحه محدودا.

فإذا لم يلازم السادات التوفيق الذي تمناه له ذوو الضمائر الحية والأفكار المستقيمة، فعلى قمة الأسباب ، التربية الناصرية السيئة فقد انحنى السادات لاستبداد عبد الناصر كثيرا، وظن خاطئا أنه من الممكن أن يمارس الاستبداد بعد أن حقق بعض النجاح، وكان يطمع أن ينحني له الشعب كما انحنى لعبد الناصر وكان يطمع في أن يسير في جنازته مليون أو مليونان مخدرين بخمر الإعلام السائر على طريق صاحبه.

ويتلاعب الخمر الناصري بعقل هيكل، فيحدثنا عن أحمد شوقي الإسلامبولى الرجل المتدين المسلم الذي تزوج في سنة 1952 وأنجب خالدا في عام 1957 ويقول هيكل: إنه عام كان الناس يطلقون فيه اسم خالد بن عبد الناصر على أبنائهم.

أما آن للسكارى أن يفيقوا من خمر الناصرية الأثيم؟ إن حديث الغرائز كان عليه أن يتوقف يوم 28 سبتمبر سنة 1970م.

يا سيد هيكل هل تسعفك ذاكرتك الإسلامية الضعيفة، فتتذكر بطلا اسمه خالد بن الوليد؟ أيهما أليق وأولى برجل متدين لم تجرفه غيبوبة الحديث إلى الغرائز- أن يطلق اسم ابنه على اسم خالد بن الوليد أم خالد بن صاحبك؟ وما دمنا نتكلم عن الأسماء فإن لي صديقا اسمه " جمال عبد الناصر" وصديقي المهندس جمال عبد الناصر لا يضايقه شيء كما يضايقه اسمه، وذلك أن والده سماه والعقول غائبة، وهيكل متربع على عرش التعتيم الاعلامى.

إنها أيام الله ، لتذكر من يتذكر عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.

قامت الثورة في عام 1952 وفى نفس العام تزوج أحمد شوقي الرجل المسلم المحافظ، ولابد أنه ككل مسلم غيور على دينه، كان يقلب كفيه عجبا لإعلام عبد الناصر في عام 1957م، كان يعلم مثلنا القضايا الملفقة والمشانق المنصوبة، والمعتقلات المكتظة، والسجون المتخمة، ثم يعرف حجم الهزيمة التي حولوها إلى نصر ببركات هيكل وفرقته الخبيرة بفنون التزييف وضروبه ، وجاءه ابنه الثاني في عام المتناقضات، فأطلق على ابنه اسم "خالد" تيمنا بخالد بن الوليد سيف الله المسلول على أعدائه، وكان ذلك من توفيق الله له أولا وأخيرا، ليحقق الله به أمرا كان مقدورا في علمه جل جلاله، والله غلب على أمره.

وتبلغ الجرأة بهيكل حدا عجز عن تفسيره ، هل هو يقصده؟

فيكون شأنه شأن الكاذبين على الله:" ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا.." ( سورة هود- 18-19)

يقول هيكل فى صفحة 289 من كتابه ( خريف الغضب):

"وكانت لكتابات ( سيد قطب) تأثيراتها، ولقد ساعد على انتشار هذه التأثيرات أن الإخوان المسلمين لم يقبلوا مجمل الأفكار الرئيسية التي جاءت بها الثورة المصرية، كانت أفكار الثورة عن المساواة وتذويب الفوارق بين الطبقات تبدو متعارضة مع قول القرآن:

" وجعلنا بعضكم فوق بعض طبقات"

يستطيع هيكل أن يكذب على الإخوان المسلمين، ولو جمعت أكاذيبه عنهم لملأت مجلدات، وحسبنا الله منعم الوكيل.. ولكن هيكل كيف يجترئ على الكذب على الله ؟ في أية سورة من القرآن الكريم قرأ هيكل " وجعلنا بعضكم فوق بعض طبقات" ؟ هذا كلام هيكل وليس كلام الله، ومن يكذب على الله ، فليس بمستغرب عليه أن يكذب على الناس:

إن كان يقصد ما يقول فآثم

أو كان يجهل فالجهالة عار

الله تبارك وتعالى يقول:" أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون" ( سورة الزخرف- 32) هذا هو كلام الله، ومن أصدق من الله قيلا؟

هل كانت حرب جمال للإسلام نابعة من فهم خاطئ للإسلام كفهم هيكل؟ ومن المسئول.. الذين غشوه فأدناهم أم الذين نصحوه فأشقهم؟

اختلاف الدرجات لازمة من لوازم كل مجتمع : الشيوعي والرأسمالي.

أما الطبقة الديكتاتورية بجعل طبقة فوق طبقة، طبقة المنافقين المقربين، وطبقة الأتقياء المنبوذين، فهذا ما أرادته الناصرية:

"أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم" ( سورة المائدة- 74)

ولا زال الباب وسيظل مفتوحا أما المسرفين ليفيقوا ويتوبوا ولا يتأتى ذلك إلا بالندم على المشاركة في منكرات عهد حرك الغرائز وألغى العقول.

خسائر 23 يوليو بعدائها للحركة الإسلامية

الوطنية الصحيحة تلاقى الإسلام ولا تعارضه، فارق واحد بين الوطني الصحيح الوطنية- والمسلم الفاهم لإسلامه والعامل به- ذلك هو " النية" ، فالمسلم تتجه نيته إلى الله، لا يريد من مخلوق جزاء ولا شكورا، لأن ثقته بما في يد الله أغنته عما في أيدي الناس، وشتان بين من يؤمن بالله العزيز الحميد، وبين من يؤمن بتراب الوطن ومتاعه:

" ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"( سورة النحل- 96)

الوطني نجد مثاله في كل قطر وفى كل ملة مشدودا بحب وطنه.. ومقيدا بما يفرضه نظام الوطن من حدود وقيود. أما المسلم الفاهم لإسلامه فخدماته لوطنه أثبت وأرسخ، لأن نيته الله وتعامله مع الله، وإذا جد الجد لا يجوز للمؤمن أن يلقى سلاحه أو يفر من ميدانه: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون"( سورة الأنفال- 46) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:" المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير".

والإمام الشهيد حسن البنا يفسر القوة فيقول في رسالة المؤتمر الخامس:" إن أول درجة من درجات القوة العقيدة والإيمان، ويلا ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعا، فإنها إذا استخدمت قوة الساعد وهى مفككة الأوصال مضطربة النظام أو ضعيفة العقيدة، خاملة الإيمان، فسيكون مصيرها الفناء والهلاك".

وقدم الإخوان نماذج طيبة للقوة التي تخدم الوطن من منطلق العقيدة، ابتغاء وجه الله، وجاء بلاؤهم في فلسطين بلاء حسنا، أثار الدهشة وألهج الألسنة وبالإعجاب، وكان أعجب ما قرأته أيامها وقد نشرته بعض الصحف أمام عملية من أعمالهم الفدائية الجريئة ، قال الضابط الانجليزي:" بثلاثة آلاف من هؤلاء أفتح كل فلسطين".

كانت روح الاستشهاد هي العامل البارز في هذا النجاح، فالأخ واضح أمامه الغاية : إما النصر وإما الشهادة.

وحين جاءت ثورة 23 يوليو لم تكن حقيقة الإخوان المسلمين خافية على عبد الناصر، بل إنه كان يعلم حقيقة الأسباب التي دفعت النقراشي إلى حل الجماعة،

ثم مواصلة اضطهادها والتخطيط لتصفيتها بقتل إبراهيم عبد الهادي لمرشدها، ولابد أنه قرأ بيان المرشد الشهيد حسن البنا قبيل اغتياله وكان مما فيه:

" الإخوان كهيئة إسلامية جامعة مزجت الوطنية بروح الدين، واستمدت من روح الدين أسمى معاني الوطنية، ولم تبتدع ذلك ابتداعا ولم تخترعه اختراعا، وإنما هي طبيعة الإسلام الحنيف الذي جاء للناس دينا ودولة، وكل مواقف الإخوان المسلمين في ميدان السياسة مواقف وطنية خالصة، بريئة كل البراءة عن حب الدنيا أو الرغبة في الوصول إلى الحكم أو الغنيمة، تهدف إلى إصلاح النظم المقررة في البلاد حتى تتفق ودينها وعقيدتها، ونص دستورها الذي ينادى بأن دينها الرسمي هو الإسلام".

ولعل الذي يسر للحكومة سبيل اتهام الإخوان هو عمل الإخوان وجهادهم في سبيل فلسطين ، وإن كان هذا العمل من أنصع الصفحات وأمجدها في تاريخ دعوتهم.

شبت الثورة في فلسطين ، والتحم العرب واليهود في معارك شعبية، وألفت لجنة لمساعدة الفلسطينيين وتطوع بعض شبابهم لهذه الغاية، وتركوا مصالحهم ظهريا، وبذلوا في ذلك غاية المجهود، وقدموا كل ما يستطيعون، واحتملوا كثيرا من التضحيات المالية في هذا السبيل، وبخاصة بعد أن عدلت الحكومة عن خطتها، وصادرت كثيرا من المشتريات التي اشتريت لأهالي فلسطين بمعرفتهم أو عن طريق الإخوان، وكان جزاء هؤلاء الإخوان أخيرا السجن وسوء الحساب.

أعد الإخوان معسكرا لهم بالقرب من العريش يمارسون فيه التدريب استعدادا لدخول فلسطين، وأذن لهم في ذلك.. وأمدهم المركز العام للإخوان المسلمين بكل ما يحتاجون إليه من أدوات وتموين وسلاح وعتاد بإذن الحكومة وعلمها.. ودخلوا في فلسطين في مارس سنة 1948، أي قبل دخول القوات النظامية بشهرين.. واحتلوا " معسكر النصيرات" جنوبي غزة، وكلن لوجودهم هناك أحسن الأثر في رد عدوان اليهود وطمأنينة السكان.

وتحركت الحكومة وهيئة وادي النيل العليا لإنقاذ فلسطين، واعدت معسكر" هايكستيب" لتدريب المتطوعين وتقدم إليه أكثر من ستمائة أخ فجهزتهم الحكومة، ودخلوا مع القوات النظامية، وظفروا – بحمد الله- بتقدير كل من عرفهم أو اتصل بهم أو رأى حسن بلائهم وإخلاص جهادهم،

فقد رابط الإخوان في " صور باهر" وفى " بيت لحم" وعلى مشارف القدس، واقتحموا " رامات راحيل" واحتلوا " معسكر النصيرات" و" معسكر البريج" ونسفوا " مستعمرة ديروم" واشتركوا في معارك " عسلوج" وحاصروا " المسنة وبيرون إسحق" وترددت نقطهم الثابتة والمتحركة في كل مكان من جهة الجنوب، واستشهد منهم قرابة المائة وجرح منهم نحو ذلك، وأسر بعضهم، وكانوا مثال البسالة والبطولة والعفة والشرف والنزاهة وحب الاستشهاد.

الدوافع الحقيقية لموقف الحكومة

مستحيل أن يكون الدافع الحقيقي لحل الإخوان مجرد تشابه الحكومة في مقاصد الإخوان، أو اعتبارهم مصدر تهديد للأمن والسلام وهو ما لم يقم عليه دليل ولا برهان، ولكن الدافع الحقيقي هو انتهاز الأجانب فرصة وقوع بعض الحوادث مع اضطراب السياسة الدولية، وقلق الموقف في فلسطين، وتردد مصر بين الأقدام والأحجام فشددوا الضغط على الحكومة.

وقد صرح سعادة" عمار بك" نفسه وأقر بأن سفراء بريطانيا وأمريكا وفرنسا قد اجتمعوا في " فايد" وكتبوا لدولة النقراشي باشا في صراحة بأنه لابد من حل الإخوان المسلمين.

وهكذا تقوم الشواهد كل يوم على أن مصر للأجانب، قبل أن يكون لأهلها منها نصيب، وأن على صفوة شعبها أن تقدم حرياتها قربانا لإرضاء السفراء ورعايا الدول.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

ولو أخذت الأمور وضعها الصحيح ، وكانت الكلمة للحق لا للقوة، لحاكمناكم، نحن يا أيها المفرطون على التفريط، ولحاسبناكم على هذا العجز اشد الحساب، ولكن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة: " .. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون". ( سورة يوسف- 21)

وسيقول التاريخ كلمته، ويظهر المستقبل القريب آيته، ولن تستطيع القوة أن تمحو عقيدة أو تبدل فكرة: ".. كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال". (سورة الرعد- 17) والعاقبة للمتقين.

هذا مختصر من " القول الفصل" آخر ما كتبه الإمام الشهيد حسن البنا- رحمه الله- يرد به على قرار الحل ، ويفضح عمالة النقراشي وطغيان فاروق.

ولابد أن جمال قرأه واستوعبه، فلم يكن بعيدا عن الإخوان بجسده وإن كان بعيدا بطموحه والانسياق لأهوائه.. كانوا يتمنونه أخا مسلما يعمل لله، ووجدهم صيدا ثمينا يحقق من ورائهم ما تصبو إليه أحلامه، أرادوه لنصرة دينهم وأرادهم لنصرة دنياه، والأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.

يقول أحد قادة الإخوان صلاح شادي في كتابه " صفحات من التاريخ" وهو من الإخوان الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأحسبه كذلك ولا أزكى على الله أحدا، يقول : عبد الناصر اتصل به عبد المنعم عبد الرءوف لضمه إلى تنظيم الإخوان وعرفه بعبد الرحمن السندى، وأخذ عليه البيعة، وأقسم على المصحف والمسدس، على الطاعة لله ، والالتزام بقيادة الجماعة فيما لا معصية فيه.

وفى سنة 1944 توثقت معرفته بالصاغ محمود لبيب وكيل الإخوان المسلمين الذي قدر لعبد الناصر كفاءته بالنهوض بتبعات نشاط الإخوان داخل الجيش وانقطعت الصلة بعد حل الإخوان المسلمين سنة 1948 ولكن في سنة 1950 استؤنف الاتصال، وأعلم جمال الإخوان بتهديد إبراهيم عبد الهادي له بسبب تدريبه للإخوان.

في يوم 21 يوليو قبل حركة الجيش بيومين تعهد جمال ومعه كمال الدين حسين وجددا القسم أن تكون الثور لله، وأن تطبق شرع الله، وقرأ جمال الفاتحة مع صلاح شادي لتأكيد هذا المعنى.

ونجحت الحركة يوم 23 وغادر فاروق مصر يوم 26 يوليو سنة 1952 وعمت الفرحة مصر.

في يوم 28 يوليو ذهب عبد الناصر لمقابلة الأستاذ الهضيبى مرشد الإخوان في منزل صالح أبو رقيق فصافحه ولم يكتم خبيئة نفسه، ففوجئ الجميع به يقول للمرشد: قد يقال لك: إننا اتفقنا على شيء.. نحن لم نتفق على شيء.

وهكذا تنصل جمال من عهده أن تكون الثورة لله، وبهذه السرعة، حين تأكد له النصر، ورأى أنه قادر على تحقيق أهدافه، وكأنما كان ينتظر من الإخوان الذين بايعهم بالأمس أن تكون الثورة لله، كان يريد منهم اليوم أن يبايعوه على تأييده والسير خلفه ويعينوه على تحقيق أمنية الزر الذي كان يحلم به، يحرك مصر ويوقفها بلمسة من يده.. ولكن صوت الهضيبى القاضي المؤمن التقى أغلق عليه ما تمناه من انسياق الإخوان ومرشدهم في ركابه.

- اسمع يا جمال.. ما حصلش اتفاق.. وسنعتبركم حركة إصلاحية.. إن أحسنتم فأنتم تحسنون للبلد، وإن أخطأتم فسنوجه لكم النصيحة بما يرضى الله.

- وما كاد ينصرف جمال حتى قال الهضيبى للإخوان: هذا الرجل لا خير فيه ويجب الاحتراس منه. وما الخير الذي يرجى ممن نقضوا عهدهم مع الله، مع أول بادرة نصر أتتهم ، فأنستهم أنفسهم، وهبطت بهم من علو روحاني شاهق إلى مستنقع بشرى آسن.

كانت أركان البيعة التي بايع عليها عبد الناصر دستورا لا غنى عنه لأي مصلح:

الفهم والإخلاص، والعمل والجهاد، والتضحية والطاعة، والثبات والتجرد ، والأخوة والثقة.

هذه لأركان العشرة التي وضعها الشهيد حسن البنا- رحمه الله- ابتدأت بالفهم، فهم العالم بالشيء وليس ادعاء الجاهل به وقد سبقت الإشارة إلى فهم الناصرية للإسلام الذي حاربته، وليس أدل على قصور فهمها مما افتراه فيلسوفها هيكل، من ادعائه أن في القرآن آية تقول:" وجعلنا بعضكم فوق بعض طبقات"..؟

فلا غرابة أن تسير الناصرية على طريق مضادة للبنود العشر ، في غير إخلاص وبادعاء عمل، لا جهاد ولا تضحية، ولا طاعة لله ولا ثبات على مبدأ، ولا تجرد من شهوات النفس وجشعها، فمن أين تأتى الأخوة والثقة؟

كان الحل في يد جمال لو أراد ، فأعضاء مجلس قيادة الثورة بايعوا الإخوان مثله، وكان التنظيم الذي جمعهم هو تنظيم الإخوان، وتنصل جمال من عهده، ففتح باب الفتنة للباقين وجرأهم على الباطل، والادعاء الكاذب، وفتح شهيتهم للمتاع الرخيص، والنهب الجريء، وأنساهم ما عاهدوا الله عليه، فكان التخبط والضياع،

وصدق الله العظيم غذ يقول" ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون. فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون". ( سورة التوبة- 75-77)

لو أن جمال وتابعيه استجابوا لضوابط الإسلام لحققوا أنجح ثورة في التاريخ.

الظروف تساعد على هذا النجاح، الشعب كفر بالأسرة الملكية وأذنابها من المستغلين والانجليز يستعدون للرحيل من كل مستعمراتهم ورحلوا عنها بغير ضجيج وبغير تشنجات.

ومحمد نجيب الذي ظهر على السطح، سواء كان معهم مسبقا كما أعلن هو أم جاء مؤخرا كما أعلنوا هم فسيان هذا أو ذاك، فليست العبرة بمن سبق وإنما العبرة بمن صدق، وقد صدق الرجل، فلم يمكر بهم وإنما مكروا هم به، لم ينكر لجمال فضله ، وتنازل عن نفوذه بلا مقاومة ، ورأى جرأتهم على الحق وانكبابهم على المعاصي فنصحهم في أبوة حانية، وكان يطمع في هدايتهم، وضرب المثل لهم من نفسه قرروا له خمسمائة جنيه مرتبا شهريا فتنازل عن نصف المبلغ وأعلن أنه لو كان قادرا لتنازل عن كل مرتبه ويتطوع لخدمة بلده، وتنازل عن رتبة فريق منحها له فاروق لكي يغلق بابا سال له لعاب باقي الأعضاء.

وكانت ضوابط الإسلام يفوح عبيرها من تصرفات الرجل وأدبه وصدقه وبشاشة وجهه ونقاء سريرته.

لماذا تخلصوا من هذا الرجل ؟ وبمؤامرة رخيصة تفوح بعفنها، وبجرأة على كل ما هو جميل وكريم.

لماذا أعلنوها حربا على الخصوم بحقد خلا من كل عاطفة آدمية؟ كان في ضوابط الإسلام الإنقاذ، ولم يرتضوا الإسلام الذي رأوه قيدا على شهوات نفوسهم المتعطشة للغب من كل ممنوع.

لو ارتضوا ضوابط الإسلام لوقف نجيب أو جمال فبس بضير أن يكون هذا أو ذاك، فما كان أحدهما نبيا والآخر حواريا، وإنما هما مسلمان يطمعان فيما عند الله، حين يعلم أحدهما: يا أبناء مصر ، لقد انقضى عهد الظلم، وننفتح صفحة جديد، ليتوب من أذنب، وليخلص من نافق، ولنضع أيدينا جميعا في يد الله نسأله العون على إيجاد مجتمع العدل والتكافل والنهوض.

وكان لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة:

يا أهل مكة ما تظنون أنى فاعل بكم؟

قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم.

قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

فانطلقوا برسالة النور يبددون ظلمات الطواغيت في فارس وفى الروم أكبر دولتين.

كانوا رعاة إبل وغنم فأصبحوا قادة شعوب ومصابيح أمم.

لو استجابوا لضوابط الإسلام ما احتاجوا لمحكمة الثورة وتهريجها، ولا لمحكمة الشعب وعفنها، ولا للدجوى ومسرحياته، وما خدعوا الشعب ولا داسوا حريته، ولا بددوا ثرواته، ولا انكبوا على القصور الملكية وأولى النعمة كالغربان الجائعة والوحوش الضارية، ولتعلموا من الإسلام قصة الجندي الشجاع الذي دخل على كسرى وقتله وأخذ سواريه، وحافظ عليهما ليسلمهما لعمر أمير المؤمنين ،

وبحث عمر عن سراقة فوجده قد كف بصره فألبسه سواري كسرى وطاف به المسلمون وهم يكبرون ويقولون:" صدق رسول الله"، وكان بشر سراقة وهو يجرى خلفه وهو مهاجر حتى أدركه طمعا في مائة ناقة وعده بها الكفار إن عاد بمحمد حيا أو ميتا، وأدرك سراقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الطريق. ووجد سراقة نفسه عاجزا عن أن ينال رسول الله بأي أذى وسمع من فم رسول الله البشرى، يبشره بسواري كسرى يلبسهما.

لو استجابوا لما احتجنا للسجون ولا للمعتقلات، ولفرح رجال الثورة بكل قادة مصر وكانوا مستعدين للتعاون، ومع الديمقراطية .

".. فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .." ( سورة الرعد- 17). ولكنهم لم يرحبوا بضوابط الإسلام لأنهم أقزام، والأقزام يخافون العمالقة، وأدعياء بطولة، ولذلك يخشون ظهور الأبطال.

عمر يسأل جلساءه: تمنوا ملء هذه الحجرة ، فتباروا في أمانيهم هذا يتمنى ملء الحجرة فضة ينفقها في سبيل الله، وآخر يتمنى ملأها ذهبا ينفقه في سبيل الله وثالث ورابع.. وعمر لا يتكلم ولا يبدو عليه اقتناع بإجاباتهم ويسأله سائل: تمن أنت يا أمير المؤمنين، ويقول عمر: إنني أتمنى ملء الحجرة رجالا كأبي بكر وعبيدة ابن الجراح، لأن عمر بطل فهو يحب الأبطال ولا يخشاهم، بل يتمنى أن يكثر الله منهم في أمة محمد ولم يقل لهم: مثل عمر لأن الإسلام علمه التواضع وألا يبخس حقوق الآخرين.

لو استجابوا لضوابط الإسلام لفتحوا أبواب العمل أمام كل عامل، ولتعلم الجميع قول رب العزة:" .. إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا". ( سورة الكهف – 30)

فمن فاته ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، لا يضيع عنده مثقال ذرة من عمل، فليست النياشين ولا رشاوى الحكام للمحكومين بقادرة على بناء نهضة وبعث أمة، إنها تزيد عدد المداحين والمتملقين فحسب- وصدق الله العظيم:" يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.." ( سورة الأنفال- 24)

في التزام منهاج الله، إحياء للأمة، وتجديد لشبابها، وإنقاذها، ثم التمكن والسيادة.

لو استجاب رجال الثورة لضوابط الإسلام لوجدنا الجيش القوى، الجيش الذي يتقدم ولا يتراجع ، ويثبت ولا يتزحزح ، جيش قوى بعقيدته وإيمانه، وخلقه ومسلكه، وزهده في الدنيا بقدر حرصه على الآخرة، يعطى سمعه لأبى بكر وهو يوصى خالد: يا خالد احرص على الموت توهب لك الحياة، ثم هو يمد بصره عبر التاريخ ليرى خالدا يبكى على فراش الموت ويقول في أذن الدنيا: لقد حضرت نيفا ومائة غزوة، وليس في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، لا نامت أعين الجبناء.

لو أخضع جمال هواه لما يريده الله، ويأمر به أولياءه، لوجد أن الشهداء عبد القادر عودة وفرغلى ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب أرجح في ميزان الرجال من مائة ألف من الضباط الذين جاء بهم من غزو الحشيش – على حد تعبيره- وخاض بهم حربين تليقان بكفاءته ونقده العهد مع الله.

سار عودة إلى المشنقة صائحا:

اللهم اجعل دمى نقمة على عبد الناصر وما عاونه.. وفتحت أبواب السماء واستجاب الله الدعاء. وألقى الله في قلبه الرعب فشك في كل إنسان، وأكله القلق أكلا- على حد تعبير السادات، وزاد تعطشه للدماء، فصب بلاء آخر على الإخوان في عام 1965 ولم يكتف بالرجال فامتد حقده على المؤمنات القانتات ، ولم يكفه هؤلاء وهؤلاء فسن قانونا لمن يتعاطف مع أسر الضحايا، المرأة التي نزعوا زوجها كيف تأكل، والطفل الذي يتموه كيف يعيش.

عاش في ظلمات بعضها فوق بعض، ولو قبل ضوابط الإسلام لعاش في النور وفتح لشعبه أبواب النور، ولتنزلت عليهم بركات من السماء:" ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون". ( سورة الأعراف – 96)

حين رفض عبد الناصر ضوابط الإسلام، وصب على رجاله نقمته وظلمه، هل كان لديه البديل؟

يقول عبد الناصر في الميثاق الصادر يوم 21 مايو سنة 1962:

إن هذا الشعب البطل بدأ زحفه الثوري من غير تنظيم سياسي يواجه مشاكل المعركة، كذلك فإن هذا الزحف الثوري بدأ من غير نظرة كاملة للتغيير الثوري.

إذن واضح من قوله أن الزحف الثوري بدأ من غير تنظيم سياسي، ومن غير نظرة كاملة للتغيير الثوري. هل هي سياسة جرب حظك، وإذا كانت السياسة جرب حظك، والزر قد أصبح معدا ليضغط عليه الزعيم فيتحرك كل شيء، فكيف تكون النتائج المتوقعة منه وهو الذي عرف عنه التغيير وسرعة التحول وفقدان التروي لمجرد كلمة تغضبه، أو تفقده تصرفه؟ كانت أمامه ضوابط الإسلام، وأمامه الأسوة الحسنة في رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.

مهما أخطأ القوم فمشورتهم فرض على قائدهم وملزمة له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من هو، يكفيه وصف ربه له: " وما ينطق عن الهوى " ومع ذلك يأمره بمشورة قومه، بعد أن أشاروا عليه في "أحد" بمشورة لم يوفقوا في نتائجها، وبعد أن ترك الرماة أماكنهم طمعا في الغنيمة حين تظاهر المشركون بالهزيمة. - مشورتهم غير موفقة.

- وقد ترك الرماة أماكنهم برغم تأكد الرسول لهم ألا يبرحوها.

- وبسبب مشورتهم ومخالفتهم حلت الهزيمة بالمسلمين ولولا لطف الله وبلاء قلة التفوا حول النبي لكانت المصيبة أكبر.. وفى هذا الجو نسمع قول رب العزة لخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم:

" فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين. إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون". ( سورة آل عمران159-160)

ما كان يضيرنا أن يحكمنا أي مصري جاءته الفرصة تبسط له أسباب التوفيق، وما كان عليه إلا أن يفكر ليفهم، ويخلص ليثاب من الله وينجح، ويعمل أكثر مما يتكلم، ويجاهد ويضحى، ويطيع الله ليقتدي به من دونه، ويثبت على عهده مع ربه وإخوانه، لا يغيره نصر، ولا تزحزحه شدة، ويتجرد لفكرته ومبادئه، ويحس بأخوته لكل فرد في شعبه، وأن يكون نموذجيا في تصرفه ليثق شعبه فيه..ولم يكن في جمال هذه الصفات.

ولو فعل وامتثل وتواضع لله ولكتابه ولشعبه ولنصائحه لقدم للعالم كله نظاما إسلاميا شوق الدنيا إليه. سئل المستشار الهضيبى مرشد الإخوان : لو طبقت الثورة الإسلام فماذا يبقى لكم من عمل؟

وأجاب رحمه الله: لو طبقوا الشريعة لحملنا المكانس ننظف لهم مكاتبهم.

هذا هو الهضيبى الذي حاكمه جمال، وزج به في السجن ظلما وهو شيخ مريض بالقلب، أليس من آيات الله أن يظل مرفوع الرأس قوى الإيمان مخلصا لدعوته، مضحيا براحته، صابرا لقضاء ربه، محبا لإخوانه، مطمئنا بذكر الله، غير مبال بتهديد وحوش البشر؟ ليصيح فيه ضابط تافه من ضباط جمال: اضرب الأرض بقدمك فيرد عليه في هدوء: سأضرب الأرض لتخرج لك بترولا.

قرأ العقاد فلسفة الثورة ، فكتب " فلسفة الثورة في الميزان" ومما جاء فيه :

" ليس علينا بالبداهة أن نعمل كل شيء لنعفى من يأتي بعدنا من العمل.. ولكننا نترك له واجبه وننهض بواجبنا، وواجب كل جيل من أجيال الأمم أن يبقى لمن بعده أمانة، ولا يبقى له قيودا من عمله، وأثقالا من جرائر إهماله وتفريطه" رحم الله العقاد، فقد ألمح في إيجاز لما يمكن أن تتمخض عنه ثورة يقودها جمال بجرأته على خصومه، وطموحه بأبعاده، واستبداده في تصرفاته، وكأنما يرجوه أن يسلم مصر للجيل القادم من غير مزيد من القيود ومزيد من الأثقال- وأن يتقى الله في أمته.

وأي قيود وأي أثقال خلفها جيل الثورة لنا ولأجيال قادمة والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل. وإذا كان الأستاذ العقاد قد تنبأ بما يمكن أن يورثه الاستبداد من أثقال ، فإن تلميذه الأستاذ أنيس منصور قد خرج من تجاربه الطويلة بما كتبه في مواقفه عن " سفينة النجاة.. بصدق: تأملت أبحث عن سبيل للخلاص وعن نور يهدى..

كل وسائل خلاص الإنسان من الإنسان متضاربة متناقضة، وإن هذه الضوضاء الفكرية قد غطت عينيه، وسدت أذنيه، وملأت الأرض حفرا تحت قدميه.. وأنه لا خلاص إلا بالله وإلا بكتابه، وأنه لا سلام إلا بالإيمان وأنه لا إيمان إلا بالله. والهدى هدى الله.. وفى هذا الطوفان السياسي ليس إلا نوح واحد وإلا سفينة واحدة وإلا جبل واحد يعصمنا جميعا من الماء..".

اشتد الداء ، وبين أيدينا الدواء. أليس لنا أن نتعجب مع الشاعر:

ومن العجائب والعجائب جمة

قرب الدواء وما إليه وصول

كالعيس في الصحراء يقتلها الظما

والماء فوق ظهورها محمول

خاتمة

إلى دولة العلم والإيمان بحق وصدق

فضل الله الإنسان بالعلم، منذ علم آدم الأسماء كلها ثم عرضها على الملائكة ، وهو القائل جل جلاله:" .. قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.." ( سورة الزمر- 9)

والإيمان هو الطريق إلى الالتزام بمنهاج الله.

".. ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون". ( سورة المائدة- 50)

نبدأ الطريق ملبين أمر الله تعالى:" إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون". ( سورة النحل 90)

نعدل ونحرص على العدل، ونعمل ونتقن العمل، ونؤثر على أنفسنا ونشيع الإيثار ، ونجنب مجتمعنا الفحشاء والمنكر والبغي، فنوحد الصف على الأخلاق ، ونشيع في مجتمعنا الصدق في القول، والإخلاص في العمل ، ونعين الحاكم الذي يحكم نفسه ويحكمنا بمنهاج الله، ينصحنا ويستمع لنصحنا، ويبدى رأيه ولا يقتل رأينا.

لنعوض ما فاتنا، ونبنى لمستقبلنا، ونقدم للأجيال القادمة أمانة لا يشق عليهم حملها، فقد جربنا ما تركه لنا المتألهون من ديون وأثقال وأوزار وقيود.. ولبئس ما كانوا يصنعون.

"لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب.." ( سورة يوسف-11).

والسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من لم يتعظ إلا بنفسه.

"... ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين". ( سورة الأعراف- 89)

د. جابر الحاج

الزقازيق