حقيقة ثورة يوليو

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حقيقة ثورة يوليو

تأليف: جول جوردون

ترجمة عادل عبد الصبور

مقدمة

إعادة كتابة الثورة

في شهر ديسمبر 1953، وتحديدا بعد ستة عشر شهرًا من استيلائهم على السلطة، وبصفة أكثر تحديدًا بعد قرابة عام من حظر الأحزاب السياسية كان أعضاء الانقلاب الحاكم يمشون في جنازة حفني محمود الباشا سابقا، وأحد أفراد النخبة المالكية لمساحات شاسعة من الأراضي والموالية للنظام القديم ذلك النظام الذي كان من العسير على الضباط أن يفخروا به.

ويذكر أن حفني محمود كانت لدية مسحة من حرية التفكير، إلا أنه كان يمثل إحباطًا للمثقفين اليساريين خاصة – من خلال أطروحاته في الاجتماعات الليلية التي كان إحباطا للمثقفين- اليساريين خاصة- من خلال أطروحته في الاجتماعات الليلية التي كان يعقدها بمكتب رئيس تحرير جريدة المصري اليومية واسعة الانتشار، تلك الاجتماعات التي كان يحضرها ناصر وآخرون من رفاقه العسكريين، والتي كانوا يرون خلالها أطروحات حفني محمود بمثابة نكات لاذعة لفيلسوف ساخر.

وقد عكست صورة الموكب الجنائزي والني نشرت بجريدة المصري مجموعة فريدة من التناقضات فمن ناحية ظهر بالصورة أحمد عبد الغفار (زعيم ليبرالي آخر) متكئا على عصاه وعلى رأسه طربوش، مجسدًا بذلك نظام الباشوية القديم بينما كان يمشى بجانبه أربعة ضباط من حكام مصر الجدد والمؤسسين للعهد الجديد اثنان منهم كانا يريتديان زيا عسكريا (عبد الناصر وعبد الحكيم عامر) بينما كان الآخران يرتديان زيا عسكريا عبد الناصر وعبد الحكيم عامر) بينما كان الآخران يرتديان زيان تقليديا (عبد اللطيف البغدادي وصلاح سالم)... ومن ناحية أخرى أبرزت الصورة نقطة التحول في دولة خلعت نظامها السياسي وأخذت طريقا مغايرا تحت اسم الثورة، كذلك كان حضور عبد الغفار جنبا إلى جنب مع الضباط يمثل تذكارا على أن محاولات الغدر والخيانة من قبل سياسي النظام القديم لا تزال مستمرة إذ منذ شهر مضي كان عبد الغفار يواجه محاكمة نجا منها بأعجوبة، بينما هو في اليوم –يوم الجنازة- كان يمشي جنبا إلى جنب مع متهميه بما فيهم قاضي المحاكمة الرئيسي (البغدادي). ورغم أن معايشة هؤلاء السياسيين القدامى قد جعلت آمال العودة البرلمانية

- أي العودة إلى النسق البرلماني الذي كان قائما قبل 23يوليو 1952- حية إلا أن الغطاء الشرعي لأعضاء الانقلاب الثوري قد أشار إلى مستقبل بعيد مختلف حيث قام الضباط في السنة التالية لاستيلائهم على السلطة بإزاحة كل العوائق التي كانت تعترض طريقهم لحكم مصر فقمعوا خصومهم السياسيين بقسوة وثبتوا سلطتهم في الدولة بقوة السلاح ثم قاموا بتشكيل مجلس قيادة عسكري من الضباط للعقد القادم دن وضع أهداف محددة.

ويذكر أن الضباط الأحرار كانوا قد تولوا شئون البلاد بالتعاون مع حكومة مدنية واستمر ذلك حتى أوائل شهر سبتمبر 1952 حينما شرعوا في وضع برنامج الإصلاح الزراعي وأمروا كل الأحزاب السياسية بالتقدم لإعادة استخراج الترخيص بمزاولة نشاطها، ثم كان إلغاء الدستور في ديسمبر 1952.

وقد شهدت الأعوام من 1953إلى 1955 العديد من التغييرات الدراماتيكية التي أثرت على مجرى الحياة السياسية في مصر بصورة كبيرة، ففي عام 1953 تمت تسمية النخبة العسكرية الحاكمة بمجلس قيادة الثورة وتم إعلان مصر جمهورية وعين محمد نجيب أول رئيس لها، كما تم حظر الأحزاب السياسية في أوائل نفس العام.

وفي يناير 1954 حظرت الحكومة حركة الإخوان المسلمين وفي 28 فبراير من نفس العام وصف مجلس قيادة الثورة محمد نجيب بأنه طاغية وقام بتنحيته.

وتصاعدت الأمور حدة في الشعر التالي من خلال ما عرف في التاريخ المصري بأزمة مارس 1954 وهي الأزمة التي على أثرها عقد الضباط العزم على الإمساك بالسلطة بصورة مطلقة، كما حطموا كل الحصون المعارضة لحكمهم (الجيش- الصحافة- النقابات المهنية- أساتذة الجامعات...إلخ).

وفي 26 أكتوبر وتحديدًا بعد يومين من توقيع مصر وبريطانيا على اتفاقية لإجلاء القوات البريطانية عن الأراضي المصرية، حاول الإخوان المسلمون اغتيال ناصر وسط الحشود بمدينة الإسكندرية، وهي المحاولة التي على أثرها تحرك النظام بسرعة لتدمير حركتهم وفي 9ديسمبر سيق الرجل المسلح وخمسة من زعماء الإخوان إلى المشنقة.

وفي عام 1955 ومع الاستمرار في قمع المعارضة الداخلية، بدأت الشئون الخارجية تسيطر على اهتمامات النظام، وتمثل ذلك في إعلاء أفكار من قبيل العروبة وعدم الانحياز ..و.. و.. إلخ.

ولكون الناصرية مثلت نموذجا للتحرر السياسي والتنمية الوطنية في الدول حديثة الاستقلال وبسبب الدور الذي لعبته مصر في الشئون الدولية، فقد كتبت العديد من الدراسات عن مصر الناصرية، وكل هذه الدراسات ركزت بوجه عام على بناء الدولة الذي قام به ناصر في إحداث ثورة اجتماعية.

وفي هذا السياق أثيرت العديد من الأسئلة من قبيل: ما الأفكار التي تبناها الزعماء السياسيون المصريون الجدد عقب تداعي النظام القديم؟ وهل كان لدى الضباط الأحرار خطة عمل مسبقة؟ وعندما تم الاستيلاء على السلطة وما العراقيل التي واجهها الضباط في مختلف النواحي؟ وإلى حد قاموا بترتيب الأحداث؟ ثم ما القوى التي ساندتهم والقوى التي نافستهم للتأثير على مسار التنمية السياسية؟ وإلى أي مدى وجهت الأيديولوجية –إذا كانت موجودة- والاعتبارات السياسية والسلطة هذه القوى؟

بالإضافة إلى ذلك تلح بعض الاستفسارات من قبيل: ما الدور الذي لعبه الضباط في الفترة ما بين عامي 1952و 1955 تلك الفترة التي كان المصريون فيها ينظرون للوراء لتحديد قضايا النظام القديم؟ وما الأدوار الخفية المؤثرة التي لعبتها القوى الأجنبية؟ وما أهداف واستراتيجيات هذه القوى؟ وأخيرا لماذا فاز الضباط في النهاية؟

والآن، وبعد مضي ما يزيد عن أربعة عقود على ثورة يوليو، وعقدين على وفاة ناصر، لا تزال العديد من هذه الأسئلة والاستفسارات وغيرها دون إجابة شافية.

وها هي القوى السياسية التي سجن أنصارها ونفوا وعزلوا عن الحياة السياسية خلال الحقبة الناصرية تؤكد الآن أنها عانت الاضطهاد على مدار ثلاثة عقود من حكما لدولة الناصرية ذلك الحكم السياسي الذي يزعمون أنه الميراث الحقيقي للصراع في مصر الحديثة.

كذلك يمثل البناء السياسي للدولة الناصرية نقطة محورية في الجدل الدائم بشأن تلك الحقبة إذ بعد أن ثبت الضباط سلطتهم ركزوا على ستة أهداف كانوا قد تبنوها عبر تنظيمهم السري في الجيش من قبل، وهي:

محاربة الإمبريالية وطابورها الخامس من المصريين والقضاء على الإقطاع وأعوانه وتحطيم الاحتكارات وسيطرة رأس المال الأجنبي وتحقيق العدالة الاجتماعية وإقامة جيش وطني قوي، وإقامة نظام ديمقراطي سليم.

وعلى أية حال يعتبر الهدف الأخير من الأهداف الستة –وهو أهمها جميعا- مألوفا من قبل أن حزب أو جماعة سياسية، إلا أنه يظل- بالنسبة لمصر الناصرية- غير واقعي إذ رغم المحاولات الجادة لتأسيس حزب جماهيري فقد ظلت مصر خلال الفترة الناصرية تحت حكم نخبة ذات طبيعة عسكرية سيطرت على الحزب وبيروقراطية الدولة دون إبداء أية رغبة في تنمية التجربة السياسية.

وبعد فترة وجيزة من تولي السادات السلطة في عام 1970 قام بعملية تطهير للرموز الناصرية من الحكومة والجيش والحزب، ثم قام بحل الحزب (الاتحاد الاشتراكي) وأسس حزبه الخاص، وخطأ خطوات بطيئة نحو نظام التعددية عازلا نفسه عن التحالفات الناصرية، وباحثا عن بناء قاعدة لسلطته هو.

كما انقلب على الخصوم السابقين النظام الناصري، والذي أطلق هو بنفسه صراح العديد منهم لدرجة جعلت الكثيرين يركزون على اهتمام النظام بالسلطة أكثر من الاهتمام بالقضايا الأساسية للشرعية السياسية.

أما إذا عاودنا الحديث عن ناصر، فنجد أنه لم سلم من الانتقادات والشائعات التي وصمته بالفساد الشخصي، وإن شعر العديدون بأن اللوم يجب أن يلقى على القوى التي كانت تخيط بناصر، والمعروفة باسم مراكز القوى.

أيضا فقد ظهر نوع من المذكرات ربما بعد أكثر خطورة من الانتقادات التي وجهها إليه خصومه وسرعان ما بدأ يعاد إنتاج مضامينها ويعود ذلك بالأساس إلى أن معظم أصحاب هذه المذكرات إما سياسيون سابقون وأكاديميون وإما ضباط سابقون عايشوا دولة ناصر والسنوات المبكرة لحكمه العسكري.

وقد ملأت شروحات هؤلاء صفحات الدوريات المصرية، معيدين بذلك فتح الجروح القديمة ومشجعين على إثارة الجدل، الذي تغير بصورة دراماتيكية في 1977 حينما منح السادات الوفد (حزب الأغلبية في الفترة من 1919-1952) تصريحا بإعادة نشاطه السياسي، مما حدا بالوفد إلى تغيير محطات الجدل عبرا الهجوم المباشر على شرعية ثورة يوليو والتركيز على أن الناصرية كانت على خطأ وتجلي ذلك بوضوح حينما أعلن فؤاد سراج الدين أن انقلاب الضباط الأحرار مثل إهانة لثورة مصر الحقيقية التي ظهرت مع نشوب ثورة 1919.

وبعد موت السادات ونتاجا لجو الحرية السياسية الذي شهدته مصر بتولي الرئيس مبارك، عاد الجدل حول الميراث السياسي الناصري بصورة قوية، وتركزت المناقشات حول مستقبل مصر السياسي وعلى ذات الموضوعات التي طرحت في أوائل عام 1950.

وفي ضوء ما سبق يمكن إيجاد تفسيرات للأحداث التاريخية عن الحقبة الناصرية فيما تبلور من اتجاهين سياسيين متناقضين هما: أنصار الاتجاه البرلماني الليبرالي والناصريون، أو بصورة أخرى حزب الوفد الذي سيطر على الحقبة البرلمانية قبل يوليو 1952 والذي استند مفردا إلى دعوى التقليد البرلماني، متزعما بذلك العديد من السياسيين المستقلين من التكنوقراط من ناحية، ومن ناحية أخرى أحزاب الأقلية والذي بحكم عداوتهم الطويلة للوفد ساندوا النظام العسكري.

وبين هذين الاتجاهين السياسيين وقف القوى التي شكلت حركات شعبية وفي مقدمتها الإخوان المسلمون تعارض الإرث الناصري كلية.

أما اليسار المصري الذي تأسس قبل ثورة الضباط الأحرار والذي أيد الضباط في البداية ثم انقلب عليهم في أواخر 1950 فإنه إيثارا للسلامة قام بمساندة النظام في اتجاهه صوب الاشتراكية ومن ثم بقي متصلا بالقاعدة الاجتماعية والتوجهات الاقتصادية للناصرية.

وأينما كان الأمر، فإن فهم التوجهات السياسية خلال الحقبة الناصرية بمقتضى تأصيل ومزج التفسيرات المختلفة لأحداث تلك التفسيرات التي تنعكس مدلولاتها في مصر اليوم أكثر من العقود الأربعة الماضية وذلك بعيدا عن الروايات الرسمية للأحداث والتي سيطرت على التاريخ المصري لمدة عقدين والتي كان الضباط قد شرعوا ف بناءها منذ اللحظة التي استولوا فيها على السلطة من خلال احتكارهم الصحافة على وجه السرعة، حتى تتاح لهم إمكانية نشر تفسيرات رسمية لجذور حركتهم وتوليهم المسئولية والقيام باختلاق دور لخصومهم من مثيري المشاكل والاعتماد على مشاركة المدنيين في كتابة التحليل السياسي الاجتماعي لحركتهم أضف إلى ذلك البيان الناصري الذي جسد فلسفة الثورة في أواخر 1954، ثم سلسلة المقالات التي كتبها السادات بالجمهورية في أوائل 1955 والتي تم نشرها في كتب وتضمينها في العديد من الكتابات.

وبناء على ذلك تعد التفسيرات غير الرسمية للأحداث هي الأساس الذي ينطلق منه هذا الكتاب، والذي يهدف من بين ما يهدف إلى تسليط الضوء الكاشف على أسباب فشل الليبرالية في مصر، وإيضاح الجذور الحقيقية للناصرية وكيف سقط نام قديم وصعد نظام جديد؟ ثم كيف أثر ذلك بصورة مباشرة مستقبل مصر في مرحلة ما بعد الناصرية، أو بالأحرى ما بعد الثورية؟

المؤلفجول جوردون

الفصل الأول

دولة الفشل

استيقظت مصر في 23 يولية 1952 مهللة لسماع أخبار الانقلاب العسكري بعد حقبة انتظار عصيبة بينما قام السياسيون ورفاقهم بالاتصال ببعضهم البعض لتبادل الأخبار والشائعات، وكان العديدون قد تجمعوا بفندق سان ستيفانو بالإسكندرية بوصفه المنزل الصيفي للمؤسسة السياسية ولأنه أصبح من الواضح خلال الأسبوع التالي أن تكلفة الجيش ستكون قليلة وأن القليل من الدماء سوف يسفك (قتل جنديان فقط نتيجة لإطلاق النار خارج قصر راس التين في 26 يوليو) فقد تنفس المصريون الصعداء وإن كان القليلون قد تحسروا على سلوك الجيش كما أصيب النظام البرلماني بما أكتنفه من عدم استقرار- بما يشبه الصدمة الكهربية، ومن ثم تمت مباركة خلع الملك الفاسد.

وكانت الاستجابة الأولى الحذرة ولكن تحدوها الآمال لصعود الضباط الأحرار قد غرست على مدار ثمانية وعشرين سنة غير مريحة من الحكم البرلماني وهي الفترة التي هدمت فيها الثقة في الليبرالية وتركت علامات بارزة فيما يتعلق بإذعان المثقفين المصريين لخيار تدخل العسكريين في العملية السياسية ومن جانبهم قدم الذين عايشوا النظام المصري القديم تفسيرات لانحطاط الملك وحاشيته من الباشوات والسياسيين وما كان منهم من ممارسات مفضوحة.

وتجد الإشارة إلى أنه في منتصف سنة 1930 أصبحت الحياة الحزبية مرادفا للفساد الشخصي ..وفي أواخر سنة 1940 تحدث المصريون بصورة أكثر إلحاحا عن الثورة البعض منهم كان يتحدث بصورة مازحة والعديد منهم بوعي وفهم وبحلول يوليو 1952 كان النظام البرلماني قد توقف بالفعل عن أداء وظيفته.

وتعبر السهولة التي سيطر بها الجيش على السلطة انعكاسًا لفساد الملك وسفاهة النخبة السياسية... أما النظام البرلماني فقد أنهار لعدم مقدرته على التعامل مع الاختلالات الهيكلية السياسية وما تلود عنها من نتائج مدمرة.

وبإحساس حقيقي جدا فإن التجربة الليبرالية قد فشلت منذ البداية ولم يشف النظام البرلماني على الإطلاق من الإزاحة تحت تهديد الأسلحة البريطانية في نوفمبر 1924 حين تم تشكيل أول حكومة منتخبة ورغم ذلك عانى النظام طيلة 30 سنة من سيطرة نفس الممثلين ومع بعض الاختلافات القليلة ورغم ما كان يعانيه النظام من مرض مزمن بوجه عام فقد ظل العديد معتقدين في قابليته للشفاء حتى بعد انقلاب الضباط الأحرار.

ولفهم أسباب انقلاب الضباط الأحرار وما تلي ذلك من نزاع سياسي – بوضوح فمن الضروري الوقوف على طبيعة النظام البرلماني في السنوات الأخيرة، وتحديدا في الفترة ما بين يناير 1950 و23 يوليو 1952 إذ خلال هذه الفترة تصارع أصحاب الأفكار الإصلاحية للمؤسسة السياسية مع أولئك الذين تجاهلوا المزايا الشخصية المكتسبة أو أحيطوا بالفساد عبر الاستمرار في اللعبة السياسية كالمعتاد.

عندما ألقى الضباط الأحرار بأنفسهم إلى بؤرة الحياة السياسية في يوليو 1952 فشل العديد من النخب السياسية في ملاحظة التهديد الواقع وإلى حد ما فقد أربكوا الضباط حيث كان البعض أكثر أمانة من الآخرين.

والحادث تاريخيا أن جذور النظام البرلماني المصري تعود إلى ثورة 1919 وما آلت إليه من الفشل في تحرير مصر من الاحتلال البريطاني وما تلي ذلك من إعلان بريطانيا في 1922 عن أن مصر دولة مستقلة ولكنها احتفظت بحق التدخل في شئونها الداخلية من خلال أربعة تحفظات هي: المحافظة على المصالح الأجنبية ومصالح الأقليات والدفاع عن مصر ضد أي عدوان خارجي أو أي تدخل أجنبي في شئونها وقنا ة السويس والسودان وألحق بهذه التحفظات الأربعة بقاء السيطرة البريطانية على الجيش المصري كما ظلت القوات البريطانية مرابطة في الدولة.

واستكمالا لذلك أصبحت مصر ملكية دستورية وأصبح السلطان فؤاد الأول ملكا لها ووضع دستور 1923 وأجريت انتخابات في يناير 1924 وشكل سعد زغلول حزب الوفد الذي أصبح في حينه حزبا رسميا وأول حكومة برلمانية في الحقبة الليبرالية.

إلا أن أول حكومة مصرية منتخبة انفضت بعد أقل من أحد عشر شهرا إذ على الفور شرع سعد زغلول في اختبار قوة وزارته بالنسبة للقصر والوجود البريطاني ..ففي نوفمبر 1924 هدد سعد زغلول مدفوعا بتدخل القصر في الشئون الحكومية بالاستقالة وفوجئ الملك فؤاد بصياح الجماهير «سعد أو الثورة».

الأمر الذي جعل الملك يخضع لرغبة الجماهير. وعندما قررت بريطانيا أن تطيح بسعد زغلول رفعت قائمة مهينة من المطالب أجبرت سعد زغلول على الاستقالة. وعلى أثر ذلك قام الملك بتعين رئيس جديد للوزراء قام بحل البرلمان مرسيا بذلك سابقة لم يشف منها النظام البرلماني المصري على الإطلاق.

إن صراع المصالح الأجنبية والوطنية أحاط بالنظام البرلماني منذ البداية وانقسمت السلطة بميزان دقيق بين البريطانيين والقصر والوفد وأحزاب الأقلية وهذه القوى وضعت كل منها الأخر تحت المجهر، وحينما تتحرك إحداها لتدعيم مركزها تتصدى لها القوى الأخرى- سواء منفردة أو مؤتلفة- بالضغوط دفاعا عن مصالحها بينما ظلت السلطة البرلمانية بأيدي الملك حيث كان باستطاعته حل البرلمان متى شاء كما أدرك الملك أن عرشه ومصيره مرتبط بالبريطانيين وأنهم الذين يمنحونه عصا السلطة ومن ثم اتخذ فؤاد الإنجليز مرجعا للاسترشاد في الأمور التي تتعلق بالحركة الوطنية وأساء استعمال سلطاته الدستورية الواسعة والوقوف حجر عثرة أمام تطلعات المثقفين الليبراليين الجدد، ولم يجد البريطانيون الذين حازوا مصادر القوة في الدولة حرجا إسقاط أية حكومة مصرية يمكن أن تهدد وجودهم.

ونتيجة لعدم الاستقرار الدائم قام البريطانيون بإجبار الملك على إجراء انتخابات جديدة، والتي كانت ستقود حتما إلى انتصار آخر للوفد إذا كانت حرة وسوف يترتب على ذلك عادة إبداء شروط تفاوضية عقيمة بشأن الاحتلال البريطاني وسوف يدفع العناد الوفد البريطانيين إما على الأمر مباشرة بتغيير الحكومة وإما إلى إدارة ظهورهم والسماح للملك بعزل حزب الأغلبية وإملاء خياره هو وبنفس الدرجة من الاستخفاف سوف يكرر السيناريو نفسه بلا نهاية .. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه طوال الفترة ما بين 1924و 1952 أمسك الوفد بزمام السلطة قرابة سبعة سنوات فقط.

وبصورة مستمرة حارب الوفد –سواء تحت زعامة سعد زغلول أو خليفته مصطفى النحاس- التطلعات الأوتوقراطية للملك والقصر وذلك بغض النظر عن الاختلافات الموجودة داخل صفوفه والتي قادت إلى تشكيل أحزاب أقلية (الحزب الدستوري 1922- حزب السعديين 1938- الكتلة الوفدية المستقلة 1942) فشلت في تحقيق أي نجاح انتخابيا، ومن ثم دفع الاستياء من حيازة الوفد للسيطرة الانتخابية إلى أن لاذت أحزاب الأقلية بالقصر كوسيلة منفردة لكسب السلطة الأمر الذي سمم المناخ السياسي بين الوفد ومنافسيه، في حين سخرت الحياة السياسية لخدمة المصالح البريطانية ومصالح القصر كما غذت السياسة البرلمانية المتبعة اتجاها ضارا بين أولئك الذين ينافسوا من أجل السلطة وأولئك الذين كانوا يسعون لكسب ثقة القصر. وهكذا اصطبغت الحياة المصرية بالفساد السياسي والشخصي والترميمات المتعاقبة للبيروقراطية أو الإدارة الإقليمية والمحلية طبقا لتعاقب وتغيير الحكومة.

وقد شهد عام 1936 تغييرين مهمين تمثلا في مراجعة المعاهدات مع بريطانيا وظهر ملك جديد، إذ في أغسطس من ذلك العام أقام البريطانيون علاقات دبلوماسية طبيعية مع مصر وتعهدوا بإلغاء الامتيازات التي يحصل عليها الأجانب أو المصريون الذين يحملون جوازات سفر أجنبية والموافقة على سحب القوات البريطانية من منقطة قناة السويس .. صحيح أن الامتيازات ألغيت بعد عام لكن المعاهدة التي وصفها البعض بأنها (جهزت من قبل طرف واحد ليقبلها الطرف الآخر) كانت غير ذات تأثير فعال على العلاقات المصرية البريطانية في ظل اندلاع الحرب العالمية الأولى. أما فاروق (1936- 1952) الذي امتطى العرش عن عمر يبلغ ستة عشر عاما فلم يكن شأن والده الذي تخيل نفسه وطنيا وكيف لنفسه موقفا ضد البريطانيين، وإنما حكم فاروق مصر بأيدي غير ماهرة، وانعكست شخصيته المقهورة في أفعاله الفاضحة الشائنة. .وقد وصف السفير البريطاني بمصر خلال الفترة (1950- 1955) (رالف ستيفنسون) الصراع الداخلي بين إحساس الملك بواجبه تجاه شعبيه وشخصيته النهمية ذلك الصراع الذي عكسته مجموعة مستشاريه حتى إنه يعلم دروسا في المكر السياسي من بعض العقول السياسية اللامعة في الدولة مثل إسماعيل صدقي وعلى ماهر وأحمد حسين وحافظ عفيفي.. إلخ.

وللتعرف على ملابسات ما سبق بصورة أكثر وضوحا وتفصيلا يجب الرجوع إلى عام 1930 حينما تعالت صيحة الجماهير منادية بالاستقلال التام والسيادة غير المنقوصة وإلغاء التحفظات الأربعة التي حددتها بريطانيا.

وخلال عام 1930 بدأ سوء الأحوال السياسية يتسع وهو الأمر الذي تبدت أهم ملامحه في غلبة الطابع اللامؤسسي رغم طرح أفكار سياسية واجتماعية بديلة، وتنظيم العارضة في الشوارع المظاهرات للإعلان عن ضرورة قيام بنية مؤسسة سياسية مصرية ويذكر أنه في منتصف عام 1930 كانت حركة الإخوان المسلمين والتي تأسست بمدينة الإسماعيلية عام 1928 على أيدي حسن البنا قد انتشرت في مصر واختلطت بدعوة حسن البنا بضرورة قيام النظام السياسي على المبادئ والأحكام الإسلامية بالمناداة بالقومية المصرية ولقي ذلك استجابة من قبل أفراد الطبقة الوسطى ومن ذوي النشأة الريفية وحوالي عام 1940 أقام الإخوان عيادات ومدارس وبدأوا في تنظيم عمال المصانع وتجنيد أفراد من البوليس والجيش.

أما حركة مصر الفتاة تأسست في عام 1933 على أيدي أثنين من خريجي الحقوق هما أحمد حسين وفتحي رضوان محتذين في ذلك بالحركات الشبابية الفاشستية في أوروبا وقد جذبت حركة مصر الفتاة طلاب الجامعة والمدارس العليا وألبستهم ملابس خضراء وأرسلتهم إلى الشوارع للتظاهر ضد البريطانيين والوفد والقصر ولكن بالتمثيل البرلماني للحركات الشبابية عبر حركة مصر الفتاة قام الوفد والإخوان المسلمون بقلب الحركة الوطنية مستغلين الاستياء والاحتقان العام الذي كاد يتفجر في أواخر 1940.

ثم زادت تجربة مصر أثناء الحرب العالمية الثانية من حدة التوترات بين مصر وبريطانيا وكذلك حدة التوترات بين أنصار وخصوم المؤسسة السياسية إذ كان اندلاع الحرب وخاصة فيما يتعلق بتهديد القوات الإيطالية واتصالات فاروق مع المستشارين الإيطاليين ذريعة لأن تعيد بريطانيا فرض الأحكام العسكرية وإعادة احتلال الدولة في يونيه 1940 وحينما عارض علي ماهر رئيس الوزراء إعلان الحرب على المحور قامت بريطانيا بعزله في 4فبراير 1942 في حادث محزن لأي ذاكرة وطنية مصرية إذ قامت السلطات البريطانية بالزحف على قصر عابدين وحاصرته بالدبابات وهددت بخلع الملك إذا رفض تعيين حكومة وفدية.

وبسبب موقفه السيئ ترك فاروق بذكاء الوفد يتحمل عبء تشكيل الحكومة وبعد مرور عامين انقضى تهديد الحرب وأدار البريطانيون ظهورهم من ثانية للوفد عندما قام فاروق بإزاحة حزب الأغلبية أيضا احتكر القصر صراعات السلطة الداخلية من خلال الوفد لخلق المنازعات وقد فصل مكرم عبيد الرجل رقم اثنين في الوفد في كتابة المسمى «الكتاب الأسود» الفساد الذي حدث من خلال الوفد وعندما أقاله الوفد قام بتشكيل حزبه الخاص المعرفو باسم الكتلة الوفدية المستقلة إلا أن رغبته في الانضمام لأحزاب الأقلية قد شوه صورته ودمر آمال أجندة الإصلاح التي ظهرت عبر المؤسسة البرلمانية.

وفي الفترة التالية على الحرب غيرت حركات المعارضة طبيعة المعركة السياسية في الدولة حيث عكست معارك الشوارع في 1930 عدم القدرة على تحقيق الانسحاب البريطاني. إذ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حاولت الحكومات المتعاقبة إقناع بريطانيا بالتفاهم بشأن منطقة قناة السويس على أساس معاهدة 1936 ثم إعادة التفاوض بشأن نصوص المعاهدة ذاتها وفي نفس الوقت كان ارتفاع الأسعار والنمو السكاني والتدني الاقتصادي العام عوامل مؤثرة في اشتعال المطالبة بالإصلاح الاجتماعي وكان أرباب الصناعات قد نادوا في الفترة من (1920- 1930) بفرض الحماية الجمركية وتشجيع الاستثمار في القطاع الصناعي كواجب وطني.

وبحلول عام 1940 أحيط الإصلاح الاقتصادي بخطط تنشد الخلاص من الأمراض الاجتماعية التي تعانيها طبقتا العمال والفلاحين.. وحينذاك عرف المصلحون خططا للتعليم الإلزامي والمساكن العامة ومشروعات الصحة والتأمين الاجتماعي والتعويضات العمالية.. كما سيطر الإصلاح الزراعي على أجندة الإصلاح.

وتجدر الإشارة إلى أنه في عام 1940 كان الملاك الكبار للأراضي (الذين يمتلكون 50 فدانا فأكثر) يمثلون 5٪ فقط من الملاك في حين يمتلكون حوالي 37٪ من أراض مصر الصالحة للزراعة. ومن ناحية أخرى الـ75٪ من الفلاحين الذين كانوا يمارسون حرفة الزراعة كان كل منهم يمتلك أقل من فدان أو لا يملك شيئا على الإطلاق.

وفي هذا السباق اقترحت حلول متنوعة حيث اقترح البعض فرض ضرائب كبيرة على ملاك الأراضي بما يدفعهم على الاستثمار في الصناعة بينما اقترح البعض الآخر تحديد الملكية التي يحوزها الفرد أو الأسرة.. هذا وقد ترتب على الحديث عن الإصلاح الزراعي إثارة العواطف بصورة كبيرة لدرجة أنه في عام 1945 اقترح نائب سعدي تحديد حجم الحيازات مستقبلا مستثنيا من ذلك الحيازات الموروثة الأمر الذي لم يكن رفاقه السعديون يريدونه مما جعله يترك الحزب في النهاية.

وقد واكب الحديث عن الإصلاح الزراعي حديث آخر عن العدالة الاجتماعية ذلك الحديث الذي عكس ميلا إلى اليسار وترتب عليه تفجر النشاط الشيوعي رغم أن الشيوعية لم تكن لها قوة التأثير في الشارع التي تضارع الإخوان المسلمون أو مصر الفتاة بل وفوق ذلك ظلت الحركات الشيوعية منقسمة نتيجة للمعارك الأيديولوجية واختراق البوليس وقمع الدولة حيث نجحت حكومات صدقي (فبراير- ديسمبر 1946) والنقراشي (ديسمبر 1946-ديسمبر 1948) وعبد الهادي(ديسمبر1948- يوليو 1949) في عرقلة نشاط أكبر التنظيمات وتدمير العديد من الجماعات الصغيرة وبحلول عام 1950 كان العديد منها قد انفض أو شرع في تشكيل تنظيمات جديدة.. ورغم هذه الإجهاضات فإن الانتقادات الماركسية للمجتمع المصري التي أعلنت عنها في الصحف وخلافه قد لعبت دورا كبيرا في تشكيل الأجندة الإصلاحية في مرحة ما بعد الحرب.

ومن الأمور التي ظهرت ماثلة بوضوح في فترة ما بعد الحرب تفشي ظاهرة العنف وعدم استتباب الأمن في الدول وخلال هذه الفترة سقط رئيسان للوزراء ضحايا لرصاصات الاغتيال هما أحمد ماهر ومصطفى النقراشي وكلاهما كان سعديا.. ووقف الإخوان المسلمون في قلب المعركة وكان حسن البنا قد أجاز في أوائل 1940 تشكيل التنظيم العسكري السري ويجادل أنصار حسن البنا بأنه إنما شكل هذا الجناح الخاص للقيام بالكفاح المسلح ضد البريطانيين وهي حجة واهية لأن الغالبية العظمى من أعماله وجهت ضد الخصوم المصريين بل والأكثر من ذلك أعترف أنصار حسن البنا بأنه فقد السيطرة على التنظيم السري الذي يتصرف على غير رضاه وضد رغباته.

وقد وصلت دائرة العنف إلى الذروة في ديسمبر 1948 حينما حظر النقراشي حركة الإخوان المسلمون ووجد مذبوحا وفي المقابل قتل حسن البنا في فبراير 1949 وفي الشهور التالية قام إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء السعدي الجديد بالحكم من خلال القانون العسكري والقبض على محركي الإخوان والشيوعيين كما ساق بقايا المعارضة اللابرلمانية إلى غياهب السجون.

ثم توالت الأحداث إلى أن التحق الوفد بحكومة وحدة وطنية تحت قيادة حسن سري رجل القصر المخلص في عام 1949 وفي يناير 1950 ذهب المصريون للانتخاب للمرة الأخيرة في ظل الحقبة البرلمانية وانتخبوا حكومة وفدية ورغم محاولة الملك عرقلة المساندة الانتخابية للوفد إلا أنه استطاع الحصول على 228 مقعدا من أصل 319 مقعدا محققا بذلك الأغلبية المطلقة.

ومن جهته أدرك النحاس ورفاقه جسامة الخطر الذي يواجهونه ومن ثم وعد النحاس في خطابه في افتتاح البرلمان بألا يدخر جهدا في تحقيق الانسحاب البريطاني ووحدة مصر والسودان وفي معرض حديثه عن القضايا الداخلية وعد النحاس باتخاذ خطوات سريعة لإنهاء العمل بالأحكام العسكرية وخفض تكلفة المعيشة ومجانية التعليم الابتدائي والثانوي والحفاظ على الأمن الاجتماعي.

وقد عكست حكومة النحاس الجديدة التوفيق بين المصالح التقليدية للحزب والحاجة للوجوه والدماء الجديدة إلا أن شهر العسل لم يدم طويلا وواجه الوفد مشاكل لا قبل له بها عندما بدأ في إنجاز ما وعد بتحقيقه من أهداف كما أظهرت سياسة الوفد تناقضات بالنسبة للتنازلات التي قدمها للقصر.

وفي يونيو قاومت الحكومة المطالبة بإجراء تحقيق برلماني عن تدني الأداء الحكومي خلال العامين السابقين بما في ذلك قضية مخصصات حرب فلسطين كما خلق دفاع الوفد الضمني عن مصالح القصر ضجيجا في أوساط المعارضة البرلمانية.

وبناء على ما تقدم وبعد الاضطرار إلى إجراء تحقيق برلماني شاملا فضائح تمس القصر ألغت الحكومة كل تعيينات مجلس الشيوخ التي تمت أثناء تواجدهم بالسلطة وهكذا فقد 29 من أعضاء مجلس الشيوخ مقاعدهم التي شغل معظمها الوفديون المخلصون بوصف الوفد هو صاحب الأغلبية.

ونظرا لهذا الوضعية تحول فاروق على الفور إلى استعطاف الوفد طبقا لما تمليه مصلحته ولذا أغدق الهدايا على النحاس وسمح الملك للنحاس رئيس الوزراء بالإشراف على البروتوكول وإذا كان كل رجل قد اعتقد أنه يستخدم الآخر فإن فاروق كان غالبا هو المنتصر ومع ذلك حينما تعاظمت المشاكل استسلم الملك للرجل.

وفي صيف 1951 ورغم الضغوط الحادة لإلغاء معاهدة 1936 الإنجليزية المصرية أبحر فاروق إلى أوروبا ثم رجع متأخرا للغاية في أكتوبر ليوقف الإلغاء ثم قرر أن يغرق الوفد في أول مناسبة لكنه تردد مخالفة مهاجمة الحكومة أثناء أزمته.

ونتيجة لطبيعة تشكيل حزب الوفد ذاته والاختلافات الشخصية والجلية والأيدلوجية التي اتسم بها ونفاقه للقصر فشل في كسب التأييد العام في مقدرته على قيادة الأمة ومن ثم فشل النظام الليبرالي برمته.

وكان لابد أن يقود ذلك إلى قيام الحركات المعارضة باتخاذ موقف عدائي ضد الحكومة ومن أبرز الأمثلة الدالة على ذلك أنه حينما عقدت الحكومة العزم على عرقلة الإخوان المسلمين عن الظهور في السطح كقوة سياسية أعلنت الحركة ذاتها عن ظهروها وبقي الشيوعيون تحت الأرض لكنهم سرعان ما عاودوا الظهور واستعادوا تنظيمهم.

وفيما يتعلق بالمفاوضات المصرية البريطانية لم يتم إنجاز شيء إذا طلب الوفد اعتراف البريطانيين بالحقوق السيادية لمصر على السودان لكي تتم مناقشة مستقبل قاعدة قناة السويس وهو الاقتراح الذي رفضه البريطانيون حتى انتهى الأمر بقيام النحاس بإلغاء معاهدة 1936 في أكتوبر 1951 وفي الوقت ذاته انفجر العنف في منطقة قناة السويس وإذا كانت السلطات العسكرية المصرية والبريطانية قد سعت إلى تجنب الصدام الشامل فإن وزارة الحربية البريطانية قد اقترحت إعداد قانون عسكري وأعد خططا لاحتلال القاهرة.

واستجابة للضجة العامة في ديسمبر 1951 قامت الحكومة باستدعاء السفير من لندن وطردت موظفي الدولة البريطانية كما منعت التعاون مع البريطانيين في منطقة القناة وخففت القيود المفروضة على المدنيين لحمل الأسلحة وبلغ الأمر غايته في 25يناير 1952 حينما نشبت معركة بين الطرفين قتل على أثرها 50 من رجال البوليس المصري وجرح قرابة مائة بينما قتل ثلاثة بريطانيين وجرح ثلاثة عشر. وفي اليوم التالي تجمعت الجماهير الغاضبة في وسط القاهرة وتحولت الأصوات العالية إلى شغب وصبت الجماهير جام غضبها على المشروعات الأجنبية ومكاتب الخطوط الجوية ودور السينما والفنادق والملاهي والنوادي وكان من ناج ذلك أن قتل حوالي 26 من المصريين والأجانب كما ترتب على ذلك أيضا أن قام الملك بعد الضغط على النحاس لإعلان القانون العسكري بعزل الحكومة.

وهكذا تأكد الكثير من أن شغب 26 يناير 1952 جعل مصر تقف على شفا حفرة من النار بل وحتى الثورة وكان سفير الولايات المتحدة قد خمن بأن عوامل عدم الاستقرار في مصر تتغلب على عوامل الاستقرار ثم طغى الحديث عن الثورة في المقاهي والنوادي حيث كانت تجتمع الصفوة وعلى صفحات مجلات وجرائد المعارضة وتعالت الأصوات التي تحض المصريين على رفع الصوت والثورة الحقيقة والتخلص من الخونة واللصوص الذين يسرقون الأموال التي جمعت بالدم والدموع.

ويذهب منتقدو الناصرية إلى أن الثورة المصرية الحقيقية وجدت جذورها في الواقع الاجتماعي وأن انقلاب الضباط الأحرار هو الذي منع قيام هذه الثورة. ولكن هذه النظرة تنطوي على قدر كبير من المبالغة يمكن إدراكها بسهولة حال التعرف على سلوكيات التجمعات والتنظيمات السياسية التي كانت قائمة في تلك الفترة وما كان يدور بداخلها من صراعات وشقاقات تلك الصراعات والشقاقات التي كانت تعرقل تماسكها ذاتيا أو تلاحمها مع بعضها البعض للقيام بالثورة التي يذهب إليها منتقدو الناصرية.

فها هي حركة الإخوان المسلمين والتي استعدت للعودة إلى الظهور عام 1950 تفتقر إلى روح التماسك التي كان مؤسسها حسن البنا يعلن عنها إذ بعد موت حسن البنا دب الصراع على قيادتها بين أربعة أشخاصهم: عبد الرحمن البنا (شقيق حسن البنا) وعبد الحكيم عبدين(صهر حسن البنا) وصالح عشماوي (نائب حسن البنا منذ 1947والمحرر بمجلة الدعوة ) والشيخ أحمد حسن الباقوري (الزعيم السابق لحركة طلاب الإخوان والذي أعتقد العديد أن البنا اختاره خليفة له) وفي النهاية وافقه الأربعة على اختيار شخص خارج مجلس الإرشاد هو حسن الهضيبي إلا أن الهضيبي وجد نفسه محاطا بسياج من الحقد حتى من قبل أولئك الذين قبلوا تعينه بل وتحدى البعض شرعيته كخليفة للبنا ومن ثم رأى الهضيبي أن قبوله مرهونا بمجيء رجاله إلى مجلس الإدارة الأمر الذي جعل أولئك الذين كانوا مقربين من حسن البنا يجدون أنفسهم بعيدا عن الدائرة من أولئك الذين قربهم.

كذلك قوبلت مجهودات الهضيبي الشخصية لاستعادة الصورة السياسية للإخوان بمعارضة قاسية كما لم يسامحه خصومه على الإطلاق على الزيارة التي قام بها لفاروق في نوفمبر 1951 ولا على اتصالاته بإبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء السابق والذي اعتبره الإخوان مسئولا عن موت البنا.

وإذا كان السفير البريطاني قد تنبأ بإمكانية أن يلجأ الملك يوما ما إلى تكليف الهضيبي بتشكيل الحكومة فإن الهضيبي لم يكن ذلك الشخص الذي يرغبه البريطانيون كما أنه كان يتحدث عن النظام بصورة أكثر بساطة من سلفه بالإضافة إلى ذلك فإنه تبنى موقف عدم المشاركة الانتخابية بدعوى أنها لا تتواءم ومستويات الإخوان ولا مع طبيعة دعوتهم.

أما مصر الفتاة، فمنذ أن أعلنت تحولها من حركة شبابية إلى حزب سياسي في عام 1936 فقد دأبت على نهج تنوع الهوية حيث أظهرت الحركة ميولا إسلامية وحينما عاودت الظهور في عام1949 أبقت الحركة على شخصيتها الإسلامية ولكنها عزفت على وتيرة الاشتراكيين الإصلاحية وفي عام 1950 أرسل الاشتراكيون أول ممثل لهم إلى البرلمان وهو إبراهيم شكري.

ومع ذلك فشل الاشتراكيون في تحويل أنفسهم من حركة شعبية غير منظمة إلى حزب سياسي ذي برنامج إصلاحي دقيق وحينما قبض على زعيمهم أحمد حسين بعد شغب السبت الأسود لم يحرك قادة الحزب ساكنا.

أما فيما يتعلق بالشيوعيين فرغم أن السجناء الشيوعيين استردوا حريتهم في بداية 1950 وعقدوا العزم على ممارسة أنشطة أكثر انفتاحا فإن الاختلافات المذهبية والاستراتيجية منعت وحدة اليسار.

وفي هذه الصدد برزت الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني مدافعة عن توحيد كل الحركات الشيوعية وشارك أعضاء الحركة في تحالفات مثل حركة السلام وتنظيمات الطلبة كما ازداد عدد أعضاء الحركة في تحالفات مثل حركة السلم وتنظيمات الطلبة كما ازداد عدد أعضاء الحركة من 500 عضو عام 1950 إلى 5000 عضو عام 1952

ونتيجة للمرونة الأيديولوجية كانت الحركة تعاني شقاقات متكررة كما أصبحت هدفا سهلا للبوليس السياسي وحسبما علق رفعت السعيد على نمو الحركة المفاجئ فإنها ربما نسيت أنها كانت تنظيما سريا.

أما ثاني أكبر الحركات الشيوعية فقد كان الحزب الشيوعي المصري والذي تأسسي بواسطة مجموعة صغيرة من الماركسيين الاقتصاديين الذين درسوا بفرنسا واحتفظوا بعلاقات حميمة مع الحزب الشيوعي الفرنسي وعلى خلاف الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني فقد انتهج الحزب خطا جامدا ومغلقا رافضا الاتصال بأيه قوى أخرى ويذكر أن عدد أعضاء الحزب بلغ حوالي 1500 عام 1952.

أما بالنسبة للحركات الأصغر حجما فقد تمثلت في طليعة العمال تلك الحركة التي بلغ عدد أعضائها حوالي مائة عام 1949 كما كانت منغلقة تنظيميا وأيديولوجيا وبعد عام 1950 تخلى معظم مؤسسي الحركة عن جذورهم السياسية وهكذا وفي ضوء الاختلافات الهيكلية والأيديولوجية والتنظيمية التي اتسمت بها التجمعات والتنظيمات السياسية في هذه الفترة يصعب القول بأنه كانت هناك إمكانية لانبعاث ثورة من بين جنبات الواقع الاجتماعي.

ولكن الذي لا شك فيه أن الاستقرار السياسي تزلزل بصورة ملحوظة بعد شغب السبت الأسود الذي كان النظام قد حاول جاهدا استعادة الاستقرار عبر حكومات علي ماهر (27يناير- 1مارس 1952) وأحمد نجيب الهلالي (2مارس – 29يونيو 1952) وحسين سري (2يوليو – 20يوليو 1952) ثم أحمد نجيب الهلالي للمرة الثانية (22، 23 يوليو) فإنه لم يفلح في ذلك مما مهد الطريق لحركة الضباط الأحرار.

الفصل الثاني

جيش الشعب

إن ضباط الجيش الصغار الذين استولوا على السلطة في 23يوليو 1952 كانوا على قناعة بأن الجيش لدية القدرة على القضاء على فساد النظام السياسي وإنقاذ الأمة حيث أساء الباشوات حكم مصر، إذ إنهم لم ينموا ثرواتهم ومكاسبهم الشخصية الخيالية فحسب وإنما أيضا تجاهلوا الويلات التي يعانيها الرجل العادي وفشلوا في وضع نهاية للاحتلال.

كذلك بدلا من أن يبني الساسة جيشا وطنيا قويا ويعملون على إزاحة الاحتلال قاموا بإرسال جيش يفتقر إلى المعدات والقيادة ليهزم في فلسطين.. ومن ثم فإن الضباط الأحرار هبوا لطرد الخونة المصريين الذين تحالفوا مع الإمبرياليين سعيا وراء مصالحهم الشخصية.

وتعتبر حركة الضباط الأحرار بمثابة بلوغ الذروة في دراماتيكية إعادة التوجه السياسي الذي حدث بالنسبة للمؤسسة العسكرية بين عامي 1936 و 1952. ففي عام 1936 أصبح الجيش ملكا للحكومة المصرية واتسعت فئة الضباط التي كانت حكرا على العائلات ذات التقاليد العسكرية لتشمل آخرين من خارج هذه العائلات كذلك تبنى الشباب الذين دخلوا الأكاديمية العسكرية بعد عام 1936 وتصدوا في الشوارع للحكم البريطاني سياسة وطنية (قومية) للجيش.

وقد مثل الضباط الأحرار ذلك الجيل الذي ترعرع بعيدا عن المؤسسة السياسية ورفض قيادة عواجيزها كما شاركوا معاصريهم من المدنيين نفس الإحباطات. بعد الحرب العالمية الثانية التحق الضباط المصريون بخلايا سرية.. وبوصفهم جنودا فقد طوروا شبكة من الروابط والصداقات وارتكزت اهتماماتهم بوجه خاص على علاقة الجندي بوطنه وشعبه وقادته من الضباط.

ولعل ما ميز حركة الضباط الأحرار عن الحركات الأخرى في الجيش هو أن الضباط الأحرار ظلوا مستقلين عن أية أيديولوجية أو حزب أو زعيم، رغم أن بعض مؤسسي الحركة كانوا في وقت ما أعضاء أو ينضون تحت لواء الإخوان المسلمين، بينما كان البعض الآخر شيوعيين وكان من الطبيعي أن تثير هذه الروابط أسئلة من قبيل: ما التأثير الأيديولوجي لهذه الحركات على الضباط الأحرار، وما مدى تجاوبهم السياسي وتعاونهم مع هذه الحركات؟ وأخيرا ما مدى خيانتهم لها؟

والحادث تاريخيا أن معاهدة 1936 منحت مصر السيادة على جيشها ولكنها أتاحت لبريطانيا الاحتفاظ بقوة قوامها 10.000 رجل من منطقة قناة السويس كما منحتها الحق في إعادة احتلال الدول عند حدوث أزمة دولية كذلك ظل الجيش المصري يعمد في تدريبه وإمداداته على البريطانيين. وفي يناير عام 1937 أرسلت بريطانيا إلى مصر بعثة عسكرية قوامها 32 ضابطا وبحلول عام 1939 بلغ هذا العدد 51 ضابطا.

أما مصر فقد أرسلت الضباط المصريين للدراسة في الأكاديميات العسكرية البريطانية وفي عام 1937 أقام الجيش بمساعدة البريطانيين بفتح مدارس تدريبيه للضباط في مجالات المدفعية والمدرعات والأسلحة الخفيفة والمهندسين العسكريين كما أسس كلية الأركان التي دخلتها الدفعة الأولى في أكتوبر عام 1938 وتخرج في يناير 1939 وبحلول عام 1944 تخرج منها سبع دفعات يبلغ عدد أفراد الدفعة الواحدة منها حوالي 20 طالبا حتى وصل عدد ضباط الأركان بحلول عام 1947 إلى 188 ضابطا.

ويذكر أن القوات المسلحة في عام 1936 كانت تتكون من 398 ضابطا 991 من ضباط الصف وازداد هذا العدد بصورة سريعة ليبلغ 982 ضابطا و783 من ضباط الصف.

ولتدعيم عدد الضباط ضاعفت القيادة العليا عدد الضباط المتقدمين للأكاديمية العسكرية من 150 إلى 300 طالب واختصرت فترة الدراسة من حوالي سنتين إلى إثنى عشر شهرا.

ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية أصبح الجيش مصدرا للكفاح الدبلوماسي بين مصر وبريطانيا كما ضغط البريطانيون على فاروق لعزل اللواء الوطني المشهور عزيز المصري وأمروا القوات المصرية بالانسحاب من المواقع الحدودية بين لبينا وعلى ساحل البحر المتوسط غرب الإسكندرية وأن يقوموا بتسليم أسلحتهم ومعداتهم إلى الجيش البريطاني.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية انسحبت القوات البريطانية إلى منطقة القناة، بينما سعت الحكومات المتعاقبة لزيادة وتحديث الجيش.. وفي عام 1947 ألغت حكومة النقراشي قانون «البدل» والذي كان يساعد العديدين في التملص من آداء الخدمة العسكرية نظير مبلغ مالي معين كما تحرك النقراشي لوضع حد للبعثة البريطانية وكذلك أرسل وفدا للولايات المتحدة لمعرفة أمكانية شراء أسلحة والترتيب لبعثة الولايات المتحدة العسكرية وفي عام 1951 أرسلت حكومة الوفد ودون علم بريطانيا بعثة أخرى إلى أوروبا للبحث عن الأسلحة.

وكان أولئك المؤسسون للضباط الأحرار وأولئك الذين شكلوا دائرتها الداخلية قد التحقوا بالأكاديمية العسكرية بين عامي 1937 و 1939. ولحق بهم الصف الثاني في عام 1940 وكان هؤلاء الضباط بمثابة الثمار الأولى للتوسع في الأكاديمية العسكرية. ولترسيخ قاعدتهم الشعبية صور الضباط الأحرار أنفسهم كممثلين للطبقة الوسطى الدنيا مؤكدين ارتباطهم بالريف وأشهرهم تأكيدا على هذا الجانب كان أنور السادات ولكن هذا التأكيد كان يكتنفه الكثير من المبالغة إذ كان ناصر نفسه الابن الأكبر لأحد الموظفين في البريد بمدينة أسيوط.

ويذكر أن السادات وآخرين ينتمون للمستويات الدنيا من الطبقة الوسطى بينما آخرون كانوا ذوي طبقات اجتماعية أعتى، في حين كان البعض من الطبقة العليا عبد اللطيف البغدادي وعبد الحكيم عامر كانا من أبناء أعيان الريف وكان والد حسين الشافعي مهندسا أما صهره فكان عمدة مدينة طنطا أما والد ثروت عكاشة فكان ضابطا أما خالد محيي الدين وزكريا محيي الدين فقد كانا من أبناء عائلة مالكة لمساحات معتبرة من الأراضي في الدلتا.

وعلى هذا الأساس مثل الضباط الأحرار الطبقة الوسطى فقط من حيث الإحساس الواسع. وبسبب نشأة الضباط واتجاهاتهم وأنشتطتهم السياسية أطلق عليهم «مثقفون يرتدون الكاكي» ولأنهم ولدوا في غضون ثورة 1919 فقد ترعرعوا في ظل قصص سعد زغلول والوفد كما كانوا في مرحلة الدراسة الثانوية في منتصف عام 1930 عندما ردت الجبهة الوطنية العمل بدستور 1923 وتعاركت قمصان مصر الفتاة الخضراء مع قمصان الوفد الزرقاء في الشوارع وانتشر الإخوان المسلمون بسرعة في الدولة. وجدير بالذكر أن الخبراء العسكريين البريطانيين لاحظوا في عام 1945 نقص الروح المعنوية لدى الضباط الصغار وقلة الحزم بين الضباط والجنود والبطء العام في تحرك الضباط وبحلول عام 1950 تغيرت هذه الحالة قليلا وتوصل المحلون البريطانيون إلى أن، الجيش المصري بإمكانه اتخاذ موقف دفاعي ولكن ليس لديه القدرة على شن غارة هجومية.

ومع أخذ محدودية التدريب في الاعتبار فإن الضباط الصغار كانوا كمجموعة أكثر مهارة من رؤسائهم إذ كان خمسة من الضباط الأحرار (ناصر_ صلاح سالمزكريا محيي الدين- عبد الحكيم عامر- ثروت عكاشة) على رأس دفاعتهم بل إن بعض الضباط الأحرار أصبحوا مدرسين بالأكاديمية العسكرية.

ومع سيادة الاعتقاد بأهمية وضرورة الدور الذي يجب أن يلعبه الجيش كان لابد أن يتحرك الضباط الأحرار لتوسيع دائرة نشاطهم.

إن تجربة الجيش المصري أثناء الحرب العالمية الثانية غذت النشاط السياسي في الصفوف إذ عندما أمر البريطانيون القوات المصرية في الصحراء الغربية بنقل الأسلحة والمعدات رفض بعض الضباط حيث أشاع تقدم روميل إلى ضواحي مدينة الإسكندرية الأمل في انتصار ألمانيا ومن ثم إضعاف بريطانيا وإتاحة إمكانية التخلص من احتلالها لمصر وبعد الحرب تورط بعض الضباط في محاولات للقيام ببعض الاغتيالات السياسية كما شرع الضباط في تفعيل أنشطتهم السياسية تلك الأنشطة التي وجهت ليس إلا الضباط الكبار غير المحبوبين فسحب إنما أيضا وجهت إلى البعثة العسكرية البريطانية على أساس أنها تمد مصر بأسلحة رديئة الجودة وتمنح جيشها قدرا متدنيا من التدريب وذلك في محاولة مقصودة للسيطرة على القوات المسلحة المصرية الأمر الذي دفع السلطات العسكرية إلى القبض على مدبري تلك الأنشطة وإيداع العديد منهم السجن وكان السادات من بينهم.

وبسبب تكرار نفس أسماء البعض مدبري هذه الأنشطة قامت السلطات برصدهم وقد قررت هذه السلطات أن مجرد حفنة من الضباط لا يزيدون على 25 هم الذين شاركوا في مثل هذه الأنشطة وأنهم لا يشكلون أي تجمع سري ذي معنى، وأنهم جاءوا من أسلحة مختلفة كما أنهم لا يعكسون أي توجه أيديولوجي معين. وبنقلنا هذا إلى إثارة التساؤل عن سر العلاقة بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين؟ يمكن القول بوجه عام أن الإخوان المسلمين بدأوا في تجنيد الضباط الصغار في تنظيمهم السري في مطلع 1941 وقد عكس نجاح الإخوان في اختراق صفوف الضباط سيطرتهم على المعارضة الشعبية في الدولة على نطاق واسع، خاصة بعد فبراير 1954 وظهر هذا ماثلا بوضوح في سلسلة الكتيبات التي ظهرت في 1941 ومطلع 1942 تحت اسم «جنود الجيش الأحرار» والتي كانت تحوي مرجعيات دينية واضحة ولكنها تؤكد على مسائل وطنية كما كانت تدعو الأمة إلى تسليح جنودها للمعركة ضد الاحتلال.

ويذكر أن ناصر وعامر وخالد محيي الدين وحسن إبراهيم وآخرين انضموا إلى التنظيم السري في 1943- 1944 وفي عام 1944 سعي مجلس الإرشاد إلى إنشاء خلايا في الجيش والبوليس وقام حسن البنا بتكليف صلاح شادي ضابط بوليس صغير بالإشراف على خلايا البوليس بينما عهد بخلايا الجيش إلى الرائد المتقاعد محمد لبيب.

وتحت قيادة لبيب انتشر الإخوان بصورة واسعة بين الضباط وباستحسان المرشد العام للإخوان ولم يشترط لبيب العضوية بالإخوان كسابقة ضرورية للانضمام إلى تنظيمه كما ارتأى الشيء الأكثر أهمية هو جذب الضباط ذوي النشاط السياسي آملا أنه مع الوقت سوف يضمن قائمة الحركة. وفي أحد هذه الخلايا التقى ناصر وخالد محيي الدين وكمال الدين حسين وعبد المنعم عبد الرؤف وضباط آخرون عديدون في منازلهم بعضهم البعض فيما يسمى بالجلسة الأسبوعية في الفترة من 1945 إلى 1948 وفي هذه الجلسات ناقشوا دورهم في معركة التحرير الوطني بصورة أكثر من مناقشتهم للأمور الدينية كما قاموا بتوزيع المنشورات التي كان بعضها يحمل اسم الضباط الأحرار والتي أكدو فيها على وقوف الجيش مع القوى الوطنية الأخرى.

ومع اجتياح فلسطين وتضييق الحكومة الخناق على الإخوان طرحت خلاياهم السرية بالجيش جانبا في حين ظل بعض الضباط على اتصال بهم بل وانضم العديدون إلى الوحدات غير المنظمة التي شكلها الإخوان للحرب على الجبهتين السورية والأردنية من أمثال عبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وكمال الدين حسين وعبد المنعم عبد الرؤف. وقد خاض الجيش المصري أول معركة له في حرب 1948 تلك المعركة التي ذهب إليها باستعداد ضعيف الأمر الذي سرب شعورا متناميا لدى المستويات الوسطية من القيادة بأنهم كانوا ضحية للانحراف وأنهم أرسلوا إلى المعركة نتيجة للصراع الداخلي وتركوا ليهزموا بالأسلحة الفاسدة، في حين ربح أولئك الذين يحتلون المناصب الرفيعة أرباحا خيالية من صفقة الأسلحة.

أيضا أثرت التجربة بصورة عميقة على أولئك الذين قادوا الوحدات في حرب فلسطين وجعلت الإحساس بالخيانة يطارد الضباط وعاد الكثيرون منهم إلى الوطن وهم على قناعة بضرورة إحداث تغييرات جذرية في الجيش.

وبسبب غير الملتزمين أيديولوجيا ببرنامج الإخوان المسلمين فقدت حركتهم الكثير من جاذبيتها بعد معركة فلسطين وقد زاد من ذلك الصراعات على السلطة داخل الحركة ذاتها والمغامرات الطائشة للتنظيم السري ودائرة العنف السابق واللاحقة على تحجيم الحركة في ديسمبر 1948 وفراغ القيادة بعد موت حسن البنا بالإضافة إلى الاختراقات الأمنية .. ومن ثم انقلب البعض مثل خالد محيي الدين إلى الماركسية كما أن محمد لبيب سقط مريضا وعلى أثر غيبا شخصيته القيادية القوية انحرف العديد من الضباط عن الحركة وهكذا كان لابد من انهيار تنظيم الإخوان المسلمين في الجيش.

أما فيما يتعلق بالتواجد الشيوعي في الجيش في الفترة السابقة على 23يوليو 1952 فتجدر الإشارة إلى أن الشيوعية انتشرت بصورة بطيئة في الجيش في عام 1940 وبدأت تنمو بإطراد بعد الحرب العالمية الثانية.

والشيوعية لم تنتشر في البداية بين الضباط وإنما بين ضباط الصف والفنيين حين ارتبطت مجموعة مكونة من حوالي 40 من الفنيين العاملين بالقوت الجوية بالحركة الديمقراطية للتحرير الوطني. وشكلت هذه الطليعة الأيديولوجية أول خيط في التنظيم وبعد تشكيلها في عام 1947 شكلت الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني أنشطة أكثر انتشارا في الجيش.

وفي عام 1950 بعد أن خرجت قيادة الحركة المدنية من السجن قامت بتنسيق أنشطتها مع الجناح الذي ينتمي إليها في الجيش حتى بلغ عدد الأفراد المنتمين إليها في الجيش ما بن 60و70 فردا في تلك الفترة.

وبصفة عامة فقد نظرت الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني إلى الجيش باعتباره قوة إيجابية محتملة في الصراع الوطني ولذا فقد قام قادتها بتشجيع التعاون بين جناحها العسكري والضباط الأحرار..... وإذا عاودنا الحديث عن حركة الضباط الأحرار نجد أن الضباط الأحرار قد عزموا بعد الملابسات السابقة على أن يبقوا مستقلين عن كل القوى الأخرى في الدولة مركزين على الاختلاف بين تنظيمهم والتنظيمات الأخرى في الجيش كما شكلوا رؤية خاصة للدور السياسي للجيش.

لقد ترسخ لديهم الاعتقاد بأنهم التحقوا بالجيش للدفاع عن دولتهم ولكن لا يتأتى لهم فعل ذلك وكانت تجربتهم المأساوية في فلسطين بمثابة دافع جوهري للتركيز على الجيش وواجبهم كجنود ومجهوداتهم الفريدة للتحرك.

ويعتبر قرار الضباط الأحرار بالبقاء مستقلين عن القوى السياسية الأخرى بمثابة اتفاق ضمني لتقليل حجم الانشقاقات المحتملة بسبب تنازع الولاءات السياسية ومن ثم فإن التركيز على الاختلافات الشخصية لتقسيم قادة الحركة إلى فئات سياسية ينطوي على سوء فهم لديناميكية الجماعة والروح الحقيقية للحركة، والصداقة التي ربطت بين الضباط وبعضهم البعض من ناحية وبينهم وبين زعيمهم جمال عبد الناصر من ناحية أخرى.

إن نواة حركة الضباط تبلورت في أواخر عام 1949 ووثق المؤسسون للحركة في قدرة ناصر على تجميعهم وتحريضهم على تشكيل حركة جديدة. ويلاحظ أن «ناصر» اعتمد في البداية على أربعة من أصدقائه في خلية الإخوان المسلمين هم عبد المنعم عبد الرؤوف وحسن إبراهيم وخالد محيي الدين وكمال الدين حسين واتسع قلب المجموعة سريعا ليشمل عبد اللطيف البغدادي وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم.

وبحلول أكتوبر 1949 أنشئ هؤلاء الثمانية لجنة تنفيذية وتعهدوا بأن كل قرارتها سوف تخضع للتصويت وانتخبوا ناصر رئيسا لها، كما قرروا شن حملة دعائية وناقشوا سرا القيام بانقلاب وهي الخطوة التي أجلوا اتخاذها لمدة 5 أو 6 سنوات على الأقل. أما بخصوص البنية التنظيمية للحركة فقد عكس تنظيم الحركة توجهها العسكري الخاص إذ على خلاف الإخوان المسلمين والحركة الديمقراطية للتحرير الوطني التي تقاطعت خلاياهم عبر فروع الجيش ونهضت حركة الضباط الأحرار واستمدت قوتها من الإحساس والشعور بالصداقة بين أعضائها رغم أنهم كانوا ينتمون لأسلحة مختلفة.

ولأن الحركة كانت نموا مطردا فقد حاولت اللجنة التنفيذية أن تحافظ على المساواة بين الأعضاء من مختلف الأسلحة.

وبإضافة كل من أنور السادات وجمال سالم في النصف الثاني من عام 1951 زاد عدد أعضاء اللجنة التنفيذية إلى عشرة أعضاء ناصر وعامر وعبد الرءوف (مشاة) حسن إبراهيم وبغدادي وجمال سالم (قوات جوية) كمال الدين حسين وصلاح سالم (مدفعية) خالد محيي الدين (مدرعات)... السادات (إشارة) وكلف كل عضو في اللجنة التنفيذية بتشكيل خلايا فرعية في السلاح الذي ينتمي إليه وهكذا وبشكل هرمي تغلغلت الحركة في الجيش.

وفي الحقيقة فإن عددا قليلا من الضباط في التنظيم هم الذين كانوا يعرفون من الذي يقف على قمة الهرم التنظيمي ويدير أنشطة الحركة حيث يقرر ثروت عكاشة أنه كان يعرف أن (ناصر) هو قائد الحركة ولكنه لم يكن يعرف شيئا عن تنظيمها أما حسين الشافعي فلم يدرك أن (ناصر) على رأس التنظيم سوى في سبتمبر 1951 في حين أعلن زكريا محيي الدين مهندس خطة الاستيلاء على السلطة أنه لم يكن يعرف شيئا عن وجود لجنة تنفيذية منفصلة عن القيادة العملياتية حتى بعد تولي السلطة.

وحتى حدوث الانقلاب بلغ عدد أعضاء الحركة من 90 إلى 100 عضو في كل فرع من أفرع القوات المسلحة باستثناء البحرية وبوضوح استطاعت الحركة أن تتجنب اختراقات البوليس السري وبتحليل البيانات الواردة بكتيبات وأوراق الضباط الأحرار وإلقاء الضوء على خريطة أنشطتهم السياسية والعسكرية من عام 1950 وحتى يوليو 1952 يستطيع المرء أن يرصد مدى التطور الأيديولجي في اللجنة التنفيذية إذ تظهر فى الصورة مجموعة مخططة بدرجة عالية ذات تصورات مبهمة عن القيادة بانقلاب في وقت ما في المستقبل لكنها تركز اهتمامها العاجل على السياسية في الجيش.

والذي لا شك فيه أن الحركات السياسية الأخرى التي كان الضباط الأحرار ينتمون إليها أو يشاركون فيها في مرحلة ما قد أثرت بصورة أو بأخرى على تطورهم الأيديولوجي وحازت قدرا من ولائهم فالبعض منهم جاء من عائلات وفدية والبعض الآخر كان منخرطا في الإخوان المسلمين والبعض الثالث التف حول مصر الفتاة.

ويمكن القول بوجه عام أنه خلال عامي 1950 و 1915 اتخذ الضباط الأحرار موقفا أكثر فاعلية تجاه المؤسسة السياسية ففي الكتيب الذي طبع في منتصف 1950 أعلن الضباط الأحرار «أن الجيش هو جيش الشعب وليس جيش أي شخص معين» كما حذروا القيادة العليا من أنه سيأتي اليوم الذي يكف فيه الذين يطيعون أوامرهم الآن عن ذلك. وفي أواخر عام 1950 اصطبغ بيانهم بالمشاعر الناجمة عن حرب فلسطين مؤكدا «أن الجيش لن يكون قادرا على الاضطلاع بواجبه الوطني في الصراع ضد الإمبريالية إلا إذا طهر صفوفه من الخونة أعداء الأمة».

ورغم عدائهم للقيادة الوفدية فقد أيدوا الحكومة ضد الأعداء المعروفين وأبرز الأمثلة على ذلك أنه في أوائل ديسمبر 1951 أرسل مبعوثين من اللجنة التنفيذية إلى فؤاد سراج الدين الذي تهرب من اقتراحات الضباط وإن كان الاتصال بين الضابط والوفد قد استمر على المستوى العملياتي.

وفي غضون ذات الشهر قرر الضباط الأحرار بالتعاون مع بعض الضباط الوطنيين أن يوجهوا دفة الانتخابات السنوية لمجلس إدارة نادي الضباط والذي كان يتم السيطرة عليه تقليديا بواسطة بعض الضباط الكبار من ذوي الولاء للقصر وعلى هذا الأساس قاموا بترشيح اللواء محمد نجيب الذي جرح في حرب فلسطين والذي كان أيضا بمثابة البطل المخلص الوحيد من بين القادة الكبار ف تلك الحرب.

ومن ناحيتهم أعلن مرشحوا المعارضة عن أنفسهم في اجتماع صاخب يهدف ظاهريا إلى كسر لوائح النادي ودخل الضباط الصالة هاتفين للبديل الذي اختاروه، وعلى أثر ذلك تحول الاجتماع إلى حالة من الفوضى وعدم النظام فقام رشاد مهنا مرشح معارض وليس من الضباط الأحرار بالإمساك بالميكرفون ليعيد النظام.

وفي الانتخابات التي أجريت في 3يناير حصل نجيب على 75٪ من الأصوات كما حصل 5ضباط أحرار على مقاعد (زكريا محيي الدين- حسن إبراهيمجمال حماد- أمين شاكر- حمدي عبيد).

وبعد يومين اجتمعت اللجنة التنفيذية لتقرير خطواتها القادمة وفي الاجتماع أعلن ناصر عن محاولة الاغتيال الفاشلة للواء سري عامر، وحينا لامه زملاؤه على ذلك عرض أن يستقيل وانتهى الأمر عند هذا الحد.

وبعد السبت الأسود بدأ الجنة لتنفيذية بجدية في تقرير أهدافها السياسية بصورة أوضح والتقت اللجنة ليلة الاضطرابات وأعلنت الحركة في منشور لها وزع بعد عدة أيام..«أن تواجد الجيش في شوارع القاهرة الغرض منه إحباط مؤامرات الخونة الذين يسعون للتخريب والتدمير ونحن لن نقبل القهر ضد الشعب، ولن نطلق رصاصة واحد ضد الشعب ,أو نقبض على الوطنيين الأوفياء إن كل شخص يجب أن يفهم أننا من الشعب الآن وإلى الأبد، وسوف نلبي فقط نداء الأمة... إن الأمة الآن في خطر راقب المؤامرات التي تحاك لها.. التف حول الضباط الأحرار وسيأتيك النصر .. أنت والشعب الذي أنت جزء لا يتجزأ منه».

يبد أن عبد اللطيف البغدادي الذي أصر وجادل بأن الفرصة سانحة للقيام بثورة على وجه السرعة ويجب ألا تضيع، قام بالانسحاب من اللجنة التنفيذية حينما رفض الآخرون دعوته وظل غائبا حتى 16 يوليو عندما استدعاه رفاقه للعودة لوم تتوقع الغالبية اتخاذ إجراء على الأقل لمدة سنة وفي شهور الشغب التالية حينما بدت العملية السياسية تميل للضجيج اختزل الضباط نشاطهم وعندما قام رئيس الوزراء (آنذاك نجيب الهلالي) بحل البرلمان قرر الضباط أنه إذا لم يقم بإجراء انتخابات بحلول الأسبوع الثاني من نوفمبر وهو التاريخ الذي يحدده الدستور للبرلمان الجديد فإنهم سوف ينظمون استعراض للقوة... وحتى مع ترويهم في اتخاذ إجراء سياسي فإن تركيز الضباط الأحرار انصب على الكفاح من أجل التحرير ودور الجيش في هذا الخصوص ففي منشور انتقد تطهيرات الهلالي تحت عنوان (انقلاب جديد للدولة) أتهم الضباط رئيس الوزراء بأنه يتعاون مع البريطانيين كما أعلنوا أن اضطربات السبت الأسود هي انقلاب إمبريالي وامتدحوا مجهودات علي ماهر الفاشلة للسعي لتسوية تفاوضية ومقاومته لضغوط الإمبرياليين والخونة المصريين وبالإضافة إلى ذلك اتهموا الهلالي بأنه يشن انقلاب جديدا ضد الشعب وأنه نسي أن المصدر الأساسي للفساد هو الإمبريالية وأن مقاومة الفساد الداخلي مستحيلة دون اقتلاع جذوره.

وبحلول ربيع 1952 بدأ الضباط الأحرار يتخذون خطوات جادة نحو الثورة، وقد شكلت اللجنة التنفيذية قيادة عملياته منفصلة تتولى مسئولية الأمور التكتيكية المتعلقة بالثورة، وقاموا بتقسيمها إلى قطاعين: القاهرة تحت إشراف ناصر و زكريا محيي الدين (مشاة) وخالد محيي الدين والشافعي (مدرعات) ومجدي حسانين (إمداد) وأمين شاكر (إشارة) والعريش تحت إشراف صلاح سالم (مدفعية) وجمال سالم (قوات جوية) وعامر ويوسف صديق (مشاة). وهكذا ظل الضباط الأحرار يبنون استراتيجية طويلة الأجل للتحرك حينما تجبرهم الأحداث على ذلك.

وفي 16 يوليو أمر فاروق بحل مجلس إدارة نادي الضباط واستبدل اللواء محمد نجيب بشقيقه اللواء على نجيب وعين مجلسا جديدا لمساعدته. ومخافة أن يتم القبض عليهم تحرك زعماء الضباط الأحرار بسرعة وفي يوم 18أو 19 يوليو وبعد مناقشة قتل مجموعة من الضباط الأحرار بسرعة وفي يوم 18أو 19 يوليو وبعد مناقشة قتل مجموعة من الضباط الكبار الخونة قرر الضباط القيام بالثورة، وحددوا 5أغسطس موعدا لاندلاعها باعتبار ذلك وقتا كافيا لتنظيم أنفسهم والسماح لوحدات العرش بالوصول.

ويذكر أنه يوليو أرسل حسين سري رسولا إلى محمد نجيب يعرض عليه وزارة الحربية في 19 يوليو أخبر محمد نجيب الضباط أن القيادة العليا لديها قائمة بأسمائهم وفي 20 يوليو أخبر أحمد أبو الفتح صهره ثروت عكاشة أن الملك خطط لتعيين اللواء سري عامر وزيرا للحربية مع انتدابه لاقتلاع الغرماء من الرتب في كافة الصفوف وتقديرا لخطورة الموقف قدم الضباط تاريخ الانقلاب إلى مساء 21- 22 يوليو ثم أجلوا العملية لمدة 24 ساعة لإخبار زملائهم في قطاع العريش.

وقد رسم كل من ناصر وعامر و زكريا محيي الدين خطة الهجوم بأن تقوم المشاة ميكانيكا تحت قيادة يوسف صديق والعميد أحمد شوقي بالاستيلاء على مراكز القيادة العامة وأن تؤمن وحدات المدفعية والمدرعات مراكز قيادتها على أن تنشر الفصائل في الطريق المؤدية إلى خارج مدينة القاهرة لمنع أية محاولات محتملة للتدخل من قبل البريطانيين وكان مقررا أن تبدأ العملية في منتصف الليل لكن صديق تحرك بوحداته ساعة مبكرا وربما كان هذا التحرك الخاطئ هو الذي أنقذ العملية ومنع ضرورة التراشق بالنيران لأنه حينما استولت وحدات صديق على مركز القيادة العامة أمسكوا بأفراد القيادة العليا الذين كانوا قد تجمعوا لإرسال تقارير عن الأزمة.

إن قصة الثورة تشير إلى أن حسن الحظ لا يقل أهمية عن التحرك الذكي فقد ظل ناصر وعامر حتى هذه اللحظة الحرجة بالخارج محجوزين بواسطة رجال صديق حتى وصل قائدهم (صديق) وأخبرهم أنه والرجلين اللذين يحتجزونهما في الحقيقة أصدقاء أما السادات فقد أفقدته زيارة قام بها إلى السينما ساعة الصفر.

وعلى صعيد آخر رد محمد أبو الفداء الجيزاوي بعد القبض على قائده علي عدة مكالمات من رئيس أركان الجيش مؤكدا عدم وجود تحركات غير عادية لقوات معينة وذبلك على خلاف الحقيقة.

أما محمد نجيب فقد جلس في البيت أثناء العملية لا يعرف سوى القليل من التفاصيل وعندما تلقى عدة مكالمات تليفونية من وزير الداخلية (المراغي) يستفسر فيها عما إذا كانت هناك أية مشكلة أو اضطراب أجابه نجيب بأن كل شيء هادئ. وفي الساعة الثالثة صباحا كان الضباط قد أمنوا القاهرة واستدعوا محمد نجيب إلى مركز القيادة واتصلوا بالقوات الموالية بالإسكندرية والعريش ولم يكن زملاء العريش قد أحيطوا علما بالعملية أما بالنسبة للإسكندرية حيث كان فاروق وحاشيته يصيفون فقد آثر قادة الضباط الأحرار هناك عدم التحرك حتى يتأكدوا من النجاح في القاهرة.

وفي الساعة السابعة صباحا أذاع أنور السادات أول رسالة للضباط الأحرار إلى الأمة. وواقع الأمر، أنه رغم الاستقلال التنظيمي للضباط الأحرار، فإنهم لم يكن بوسعهم القيام بالثورة دون مساعدة ونظرا لأنهم كانوا على علاقة ببعض الحركات مثل الإخوان المسلمين والحركة الديمقراطية للتحرير الوطني فإن الجدل يثور بشأن أدوار هذه الحركات في تشكيل حركة الضباط الأحرار وأيديولوجيتها.

إن علاقة الضباط الأحرار بهذه الحركات تختلف في مناحي رئيسية ومع ذلك فإن كلتا الحركتين تعاونتا مع الضباط الأحرار، وأقامت معهم اتصالات على أعلى المستويات كما أمدت الحركتان الضباط الأحرار بخطط عن استيلاء الجيش على السلطة كذلك وافقت كلتاهما على الاشتراك بأدوار فرعية وبوصفهم مشاركين فإنه لا يمكن عزل دعواهم بالقيام بدور ما بعد الثورة في تحديد مصير مصر لأن هذه الدعاوي كانت حقيقة دون خلق إحساس بالخيانة أو معارضة مفتوحة.

فهاهم زعماء الإخوان المسلمين استمروا في النظر إلى زعماء الضباط الأحرار على أنهم حزب عنيد انبثق عن حركتهم وطبقا لصلاح شادي أقام ناصر اتصالات بزعماء الإخوان المسلمين في بداية 1950 مؤكدا أنه أعاد بناء تنظيم محمد لبيب المنفك وأكد بوضوح على ولائه للإخوان المسلمين ولكن خوفا من اختراق البوليس السري أكد ناصر ضرورة الحفاظ على استقلالية التنظيم ويضيف شادي أن «ناصر» اغتصب التنظيم من الرجل الذي كان يمثل ذراع لبيب اليمني وخليفته الحقيقي (عبد المنعم عبد الرؤوف) وأنه أدار ولاء الضباط الأحرار لنفسه.

وأكد ضباط إخواني آخر حسين حمودة أنه أثناء زيارة للبيب المريض أقنعه بأن يعطيه الخير قائمة بأسماء الضباط المجندين في خلايا الإخوان المسلمين. ولا شك أن استبعاد عبد المنعم عبد الرءوف من اللجنة التنفيذية للضباط الأحرار في مطلع 1952 ينبغي أن يشجع بكل تأكيد على إعادة تقييم العلاقة حيث أثار إصرار عبد المنعم عبد الرءوف على أن الحركة تتبع توجيهات من مجلس إرشاد الإخوان المسلمين استفزاز مستبعديه بل إن كمال الدين حسين عضو اللجنة التنفيذية والذي كان يتمتع بعلاقات قوية مع الإخوان الملمين قرر أن البعض عرض على عبد المنعم عبد الرءوف خيار العودة إلى اللجنة، إذ اختار ذلك.

ورغم الأجواء المرضية الناجمة عن طرد أحد الزملاء المقربين استمرت العلاقة بين الحركتين ففي السبت الأسود سمح نفر يشغلون مناصب قيادية في الإخوان للضباط الأحرار بتخزين أسلحة في عزبة تابعة لأسرة حسن العشماوي وبعد سقوط الوفد وانقطاع الاعتداءات في قناة السويس احتفظ الضباط الأحرار بالاتصال بمجلس الإرشاد من خلا حسن العشماوي وآخرين وقبل الثورة بعدة ليالي أخبر ناصر الإخوان المسلمين بخطط الضباط الأحرار وطلب التأكد على وجه السرعة من التحركات المحتملة للقوات البريطانية عن طريق السويس وتأمين السفارات الأجنبية بالقاهرة ووافقا الهضيبي على ذلك.


أما عن احتفاظ الضباط الأحرار بعلاقتهم بالحركة الديمقراطية للتحرير الوطني فإن ثمة عوامل مختلفة حكمت هذه العلاقة ففي أواخر 1949 أو أوئل 1950 قدم خالد محيي الدين الذي أصبح عضوا في الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني - «ناصر» إلى أحمد فؤاد همزة الوصل المدنية بين اللجنة المركزية للحركة الديمقراطية للتحرير الوطني والجناح العسكري وكان أحمد فؤاد صديق دراسة لخالد محيي الدين وقد باركت اللجنة المركزية للحركة الديمقراطية للتحرير الوطني تلك العلاقة القائمة بين فؤاد والضباط الأحرار وظل ناصر وفؤاد يتصلان سويا بصورة مباشرة بل وكان الضباط الأحرار يطبعون منشوراتهم بمطبعة الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني وبعد يناير عام 1952 وافقت الحركة الوطنية للتحرير الوطني على أن تقوم بالدعاية للضباط الأحرار عبر قنواتها الخاصة.

ولا شك أن ثمة توافق أيديولوجي بين الحركتين جعل هذا التعاون طبيعيا حيث وافق بيان الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني إن لم يكن نظريتها الاجتماعية العديد من الأفكار التي كان يعتنقها غالبية زعماء الضباط الأحرار وإن كان ناصر ورفاقه باستثناء خالد محيي الدين لم يقبلوا التحليل الماركسي للمجتمع إذ بوجه عام كان لديهم قدر ضئيل من المعرفة بالماركسية ولكنهم مع ذلك قبلوا الكثير م الانتقادات الاجتماعية التي ساقها اليسار.

هذه الألفة في وجهات النظر حول الموقف السياسي في مصر ودور الجيش على خلاف الحركات الشيوعية الأخرى أدركت الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني إمكانية أن يتحرك الجيش كقوة وطنية شعبية جعلت زعماء الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني يأملون في إيقاع الضباط الأحرار تحت سيطرتهم.

ورغم ذلك فإن توترا ما أصحاب العلاقة فيما يتعلق بالجانب الأيديولوجي من ناحية ومن ناحية أخرى وجود التنافس التنظيمي. كذلك فإن اللغة المضادة للولايات المتحدة التي تبنتها الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني أعجت ناصر وزملائه الذين ارتأوا في الولايات المتحدة صديقا محتملا وأنها يمكنها التصدي للبريطانيين.

أما عن التنافس بين الحركتين من أجل التجنيدات فيهما فقد كان ذلك مستبعدا حيث كان ناصر وخالد محيي الدين صديقين حميمين وكان ناصر على ثقة بأن ولاء خالد محيي الدين للضباط الأحرار يزيد على ولائه للحركة الديمقراطية للتحرير الوطني .. وقد حافظ خالد محيي الدين على هذه الثقة حتى 23يوليو وإن كان اتخذ منحى مغايرا فيما بعد في حين امتنع أحمد حمروش زعيم الجناح العسكري للحركة الديمقراطية للتحرير الوطني عن الانضمام للضباط الأحرار لتجنب صراع المصالح ومع ذلك حاول هو وآخرون اختراق الضباط الأحرار عبر أعضاء الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني ولعب ناصر نفس اللعبة.

ويذكر أن زعماء الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني كانوا خائفين من فشل الانقلاب وما سيترتب على ذلك ولكنهم أعلنوا تأييدهم له بعد نجاحه. وأيما كان الأمر فإن أية مناقشة لتنظيم الضباط الأحرار وتحالفاتهم وتطروها الأيديولوجي يجب أن يضع في الاعتبار التاثير الشخصي لجمال عبد الناصر حيث كان ناصر بمثابة القوة القائدة والزعيم الذي لا يقاوم للحركة وهو الذي حشد زملاءه المقربين في أواخر عام 1949 وشكل نواة التنظيم وهو الذي وضع الحركة على أعتاب طريقها المستقل كما أنه هو الذي اضطلع بمسئولية معظم الاتصالات الخارجية المهمة. .وشأنه شأن زملائه لم يكن ناصر أيديولوجيا ولكنه كان مؤمنا بأنه يجب أن يضع الضباط الأحرار أجندة سياسية خاصة بهم.

ومع ذلك لا ينبغي اعتبار الحركة آلة ناصر الشخصية فلا هو أملى عليها سياساته ولا هو أحاط نفسه بالمنافقين حيث كان زملاؤه المقربون رجالا ملهمين ويمتلكون ملكة الإقناع كما كانوا رجالا كرسوا ملكاتهم للانضمام إلى الضباط الأحرار كما كانت اللجنة التنفيذية للضباط الأحرار جسما ديمقراطيا تخضع فيه أغلب القرارات للتصويت ويقف فيه ناصر على قدم المساواة مع زملائه تلك المسألة التي أدركها ناصر وأساء استعمالها في بعض الأحيان. فقد كان يعلم أن الانشقاق عن التصويت بدوره سوف يقود حتما إلى إعادة التقدير في أي مسألة مطروحة وأن التهديد بالاستقالة سوفي يسهل دائما التوصل إلى اتفاق.

ولقد عكس أسلوبه إحساسا عميقا بالزعامة وبالقدرة على القيادة بإخلاص وفي نفس الوقت شارك ناصر زملاءه مشاعر الانتماء والولاء للمجموعة ولكن نظرا لعدم تبلور الأهداف التي كان يأمل إنجازها مع حركته فقد كان دائما ما يسعى لاستشارتهم والحصول على تأييدهم ورغم كل ما سبق فقد كانت لناصر تصرفاته المنفردة، ومن أبرز الأمثلة الدالة على ذلك تعاونه مع الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني في محاولة اغتيال اللواء سري عامر الأمر الذي لم يرض زملاءه.

وأخيرا يجبي أن يتحمل القصر والمؤسسة السياسية المسئولية عن السهولة التي أقحم بها الجيش نفسه في الحلبة السياسية وذلك بإهماله التعامل مع الغضب الكامن داخل صفوف الجيش من ناحية والتعيير المتسارع وغير المناسب على مستوى قادته من ناحية ثانية واقتياده إلى حرب فلسطين غير المتكافئة على الإطلاق من ناحية ثالثة وفوق ذلك كله التخبط الذي ساد الحياة السياسية والذي كان يزيد من غضب ضباط الجيش كل يوم عن سابقه وبعد حركتهم ارتأى الضباط الأحرار أن اصطدامهم بالسلطة يحتم عليهم تشكيل التوجيه الذي ستتبعه الحركة ففي الساعات المبكرة من صباح 23يوليو وقب أن تستيقظ مصر على أخبار الثورة ركز الضباط النظر في خطواتهم التالية لاسيما وإنهم كان لديهم القليل من الوقت للاعتبارات السياسية أو للتطلعات طويلة الأمد لحركتهم ومن ثم قرروا أن يعيدوا السلطة لرئيس وزراء مدني ولمن لم يكن هناك مرشح معين في تفكيرهم وهم في طريقهم إلى المركز العام للقيادة. وبفطنة وحر من عدم خبرتهم السياسية توجه الضباط الأحرار بشغف لاستشارة أولئك الذين شاركوهم نفس الإحساس بأن مصر يجب أن توضع على أعتاب الطريق الصحيح من بين نخبة (المثقفين) وأولئك الذين تملكتهم الرغبة في بناء قاعدة شعبية للزعامة والسير مع الضباط الصغار على نفس الدرب.

لم ينظر الضباط إلى أنفسهم خلال الشهور الأولى لحكمهم على أنهم طليعة الصراع من اجل الاستقلال الوطني فحسب وإنما أيضا كحكام شرعيين لبلدهم.. وفي بادئ الأمر تخيروا لأنفسهم دورا غير مباشر قوامه بناء نظام سياسي واجتماعي جديد بعد استقرار الجبهة الداخلية على وجه السرعة وتظهير الصفوف السياسية وإرساء الإصلاح الدستوري وشأنهم شأن الليبراليين فقد دفعهم شبح الفراغ والفساد الذي حام حول النظام السياسي والاجتماعي إلى الاعتقاد بأن الثورة يمكن فرضها فقد بواسطة الإصلاح من أعلى في الوقت الذي حددوا فيه وضعا أكثر تقدما إزاء الصراعات السياسية.

وفيما بعد ونظرا لأنهم كانوا محبطين من المؤسسة السياسية القديمة وعدم رغبة الحرس القديم في تسليم السلطة إلى جيل جديد من القادة فقد قاموا بإلغاء الأحزاب السياسية وتأكيد سلطتهم المباشرة على الدولة وهكذا أعلنوا ثورتهم. ومن خلال قراءة أحداث هذه الفترة توجد العديد من الدروس التي يجب أن يتعلمها المرء عن فشل المؤسسة السياسية القديمة في مواجهة التحدي الناجم عن تدخل الجيش في شئون الدولة . وعلى سبيل المثال يجادل الوفديون بأنهم رحبوا بالثورة وساندوا أهداف الإصلاح الاجتماعي المقترحة من قبل قادتها وفي ذلك الوقت يفخرون بأنهم كانوا المدافعين الوحيدين عن التقليدي البرلماني والمطالبين بإصلاح الحياة البرلمانية وحينما تهدد وجودهم كحزب أخذوا يتحدون الحكومة في المحاكم واتسم موقفهم بالصلابة. بيد أنه رغم صلابة موقف الوفديين قد تعرض حزبهم شأنه في ذلك شان بقية الأحزاب السياسية للانشقاق الداخلي.

كذلك فإن اشتغال العداوة ينهم وبين النظام الحاكم كان بمثابة نقطة محورية في تحطيم المؤسسات القانونية. وأيما كان الأمر فإن دوافع واستراتيجيات الزعماء المؤسسين والتي استندت غالبا إلى قواعد مبسطة للاتجاهات الديمقراطية يجب أن تفهم من خلال المحتوى الواسع لانعدام الثقة في الليبرالية والمؤسسات كما سيتبين فيما بعد.

الحركة المباركة: لم يهدف الضباط الأحرار قبل 23يوليو 1952 إلى محو النظام الليبرالي وإزالة الملكية أو فرض ديكتاتورية عسكرية على مصر .

وبعد الانقلاب عرفوا أنفسهم بصورة مبسطة باسم «حركة الجيش»أو بنوع من المبالغة «الحركة المباركة» كم أكدوا على أنهم سيحافظون على النظام في ظل الدستور وأنهم سيقيمون حياة ديمقراطية سليمة كما تحدثوا عن تطهير قيادة الجيش من الخونة كما عزموا على السماح لأنفسهم بالتقاط الأنفاس وتلطيف الجو العام.

وواقع الأمر أن الضباط لم يعتبروا أنفسهم ساسة أو متمرسين بالسياسة وإنما تحركوا بمزيج من مشاعر عدم الثقة والإعجاب بالنفس وإن كانت رغبتهم القوية في عدم عزل أنفسهم عن الشئون اليومية لم تمنع من أن يكون لهم دور سياسي. ورغم تحديدهم الهزيل لبرنامج ما، فقد سيطر الضباط على السلطة انطلاقا من إحساسهم الخالص بالواجب وتنقية المؤسسات السياسية ولإفساح الطريق أمام جيل جديد من الزعماء واقتلاع جذور الفساد البيروقراطي وتضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتحطيم السلطة السياسية لطبقة البشوات وهكذا عقد الضباط العزم على قيادة القافلة ولكن دون أن يحكموا وخوفا من عدم خبرتهم لجأوا إلى رئيس وزراء مدني كلفوه بمهمة إعداد القرارات التي تم تداولها من أسفل إلى أعلى . وإذا كان الانقلاب الذي صنعه أعضاء اللجنة التنفيذية للضباط الأحرار قد أكد قيادتها المباشرة للقوات المسلحة فإن هؤلاء الأعضاء ظلوا في بادئ الأمر شريكا مهما في بنية الحكم السياسي.

وقد أعادت اللجنة انتخاب ناصر رئيس لها ولكنها اتفقت على أن تعيين محمد نجيب رئيسا لأركان الجيش سوف يجعله ابنها والمتحدث الرسمي باسمها وقد أشار النخبة العسكرية الجديدة إلى نفسها بالقيادة العامة وأدلى أعضاؤها بتعليمات للصحافة بعدم ذكر أسمائهم أو نشر صورهم باستثناء محمد نجيب ويذكر أن محمد نجيب لم يكن له حضور في اللجنة التنفيذية حتى تمت دعوته من أربعة آخرين للحاق بصفوفها وبانضمام نجيب وزكريا محيي الدين وحسن الشافعي وعبد المنعم أمين بلغ أعضاء اللجنة 14عضوا واعتبروا كلهم متساوون كلما كانت غالبية قراراتها تخضع للتصويت... ونظرا لأن هذه القرارات كانت تتم صناعتها خلف الأبواب المغلقة فقد دفع ذلك البعض إلى القول بأن النخبة العسكرية مارست ضغوطا خفية صنع السياسة كما ارتأى الذين تعاملوا عن قرب مع الضباط أن هذه الضغوط الخفية مثلت إحكاما لقبضتهم في حين رآها الجمهور قبضة للحماية ونموذجية للجيش أما اختيارهم لرئيس وزراء مدني «على ماهر» ليرأس حكومة مدينة فق مثل دليلا على رؤيتهم الراديكالية للمستقبل المصفى من أخطاء الحرس القديم وكان على ماهر قد حقق شهرة في الصلابة والأمانة بعد السبت الأسود وتبدت جابيته في البداية والتي ثبت أنها غير حقيقية فيما بعد من شهرته المؤسسية وإشاعته حكم القانون والاستقرار في العملية السياسية.

وعندما عرض عليه الضباط رئاسة الوزراء في 23 يوليو وافق على ذلك شريطة موافقة الملك على أداء اليمين القانونية أمامه. وقد اعترف ماهر بأنه لم يكن يعرف سوى القليل من نوايا الضباط عندما وافق على رئاسة الوزراء كما أخبر أحد المسئولين البريطانيين أنه كان متعاطفا كلية مع مظالم الضباط الشرعية ولكنه لم يكن متأكد من نواياهم في خلع الملك فاروق.

والحادث أن الضباط لم يقروا مصير فاروق حتى ليلة 24 يوليو، واختلفت الرؤى بشأن هذا المصير بين أولئك الذين طلبوا رأسه وأولئك الذين طلبوا التخلص منه بحكمة وفي 25يوليو أمرت النخبة العسكرية بإزاحة حاشية فاروق دون استثناء من القصر.. وفي 26 يوليو أخبر علي ماهر المصدوم فاروق بأنه يجب أن يتنحى عن العرش ويغادر البلاد وقد حرص الضباط على أن يتم العزل بالصورة القانونية قدر الإمكان حيث وقع فاروق بعد ظهر ذلك اليوم وثيقة رسمية بتمرير السلطة إلى ابنه الأمير أحمد فؤاد (ستة أشهر) واستطاع فاروق الذي كان يساوم من خلال ماهر إقناع الضباط بأن يمنحوه مهلة يحزم فيها حقائبه وفي السادس والنصف مساء أبحر فاروق الأول ملك مصر السابق إلى نابولي بإيطاليا وفي اللحظة التي ترك فيها فاروق تراب مصر أجبر التساؤل عن الموقف الدستوري من اختيار خليفة للملك يبلغ من العمر ستة أشهر أجبر الضباط الأحرار على تقدير الدور السياسي الذي يجب أن تلعبه الحركة (كان الدستور يقر تعيين نائب للملك في حالة تقاعده أو موته).

وحينذاك نشب خلاف حاد بين أولئك الذين قيموا الموقف بأنه يشابه حالة موت الملك أو تقاعده وبين أولئك الذين ارتأوا المسألة باعتبارها خارج وجهة النظر الدستورية المحضة. وبعيدا عن الخلاف الدستوري نشب صراع حاد بن الوفد والضباط بان عودة برلمان 1950 المنحل ذلك الصراع الذي بلغ غايته حينما شهدته ساحة أعلى سلطة قضائية في الدولة متمثلة في مجلس الدولة وخلال الأسابيع الستة الأولى من حكمهم اتخذ الضباط سلسلة من الإصلاحات بعضها كان رمزيا مثل الحد من خصصات مصيف الحكومة بالإسكندرية وإلغاء دعم السيارات الخاصة بأعضاء مجلس الوزراء وإلغاء الألقاب الشرفية مثل (بيك وباشا) وإجراءات أخرى اتخذت بصدد عدم الإنصاف المالي حيث تم إصدار لائحة بالدخل والربح وأشكال ضرائب التركات وارتفاع رواتب الجيش وخفض الإيجارات بنسب تتراوح ما بين 10٪ و 3 ٪ وإعلان استقلالية القضاء وتشكيل لجان قضائية في كل وزارة للاضطلاع بشئونها الشخصية وواقع الحال فإن مفتاح الإصلاح الاجتماعي للضباط كان هو الإصلاح الزراعي إذ خلال أسبوعين من قيام الثورة بدأ الضباط في دراسة الموضوع ولمساعدتهم في إعداد صورة المشروع لجأ الضباط إلى أستاذ اقتصاد شاب بجامعة الإسكندرية هو راشد البراوي الذي كان معلما سابقا لخالد محيي الدين.

وكان البراوي قد جذب انتباه الضباط إليه عبر مقالة له نشرت بجريدة «الزمان» أكد فيها أن فرض حد معين لملكية الأراضي سوف يؤدي حتما إلى تخفيض سعر الأرض وبالتالي تخفيض الإيجارات الزراعية وسوف يشعر ذلك صغار الملاك بالاستقرار الاجتماعي.

وفي نفس الوقت أكد البراوي على أهيمة الإصلاح الزراعي كوسيلة لتحجيم القوة السياسية الارستقراطية الزراعية وسوف يشعر ذلك صغار الملاك بالاستقرار الاجتماعي.

وفي نفس الوقت أكد البراوي على أهمية الإصلاح الزراعي كوسيلة لتحجيم القوة السياسية للارستقراطية الزراعية وذلك من خلال تحجيم قوتهم الاقتصادية وقامت جريدة المصري بنشر أول خبر عن نية النخبة العسكرية في الإصلاح الزراعي في 12أغسطس 1952 ولمدة شهر تال تابعت الصحافة التقدم في الخطة النهائية.

وعلى وجه السرعة أتضح للضباط أن التوقعات الشعبية أصبحت أكثر واقعية بالنسبة لتقدير كمية الأراضي المتاحة للتوزيع وفي ذات الوقت مثلت التقارير المرفوعة عن رفض الفلاحين زراعة الأراضي التي يستأجرونها حتى تصبح ملكية خاصة بهم مصدرا للشعور بعدم الراحة والاهتمام الواسع لدى الضباط وقد جاءت اضطرابات منتصف أغسطس بمدينة كفر الدوار لتبرر هذا الاهتمام ففي التاسع من شهر أغسطس قام عمال النسيج بحرق واحد من أهم مصانع البلدة واشتعل العنف على أثر تظاهر نشب ليلة 12 أغسطس واستدعيت القوات إلى موقع الأحداث في ساعات مبكرة من ذلك اليوم وفي صدام عنيف قتل أربعة عمال وجنديان ورجل بوليس وقبضت السلطات على 545 عاملا وحاكمت 29 بتهمة إشعال الاضطرابات وفي 15 أغسطس أرسلت النخبة العسكرية واحدا من أعضائها هو عبد المنعم أمين لمراقبة المحاكمة عسكرية وبعد يوم أدانت المحكمة عاملين وتم شنقهما في 7 سبتمبر.

وهكذا فإن الإجراءات المتصاعدة تبدت ملامحها في إضراب عمال كفر الدوار وتوقف العمل ونشب صراع مرير مع الإدارة على حق التنظيم. وها هم العمال يطالبون النظام الجديد الآن بالعدالة، وتتعالى أصواتهم بمديح محمد نجيب وقد وصفت ملحقية العمل الأمريكية التي زارت المصنع الانفجار بأنه كان تحديا للنظام الصناعي والسلطة بل وأكثر من ذلك اعترف الضابط المكلف بقيادة القوات التي أسرعت للحفاظ على النظام بأنه بسبب التقارير المبالغ فيها من موقع الأحداث تحركت قوات أكثر من اللازم فعليا.

وفي إيماءة سياسية إلى حد كبير التقى محمد نجيب بأحد الرجال المدانين ويدعى مصطفى خميس ورغم قناعتهم بأن العاملين مذنبين كما أدانتهما المحكمة فقد ترددت النخبة العسكرية في تنفيذ حكم الإعدام مخافة أن تتحرك الأحزاب السياسية لاستغلال عدم النظام.

ورغم الروابط الحركية بين خميس والحركات الشيوعية فقد أكد ضباط عديدون لمسئولي الولايات المتحدة وبريطانيا شكوكهم إزاء وجود أيد وفدية الأمر الذي قاد النخبة العسكرية إلى تنفيذ الحكم على وجه السرعة. وفي نفس السياق كانت استجابة النخبة العسكرية لتقرير معيب التوقيت عن حالات الطرد المتوقع في الجهاز البيروقراطي عاملا مؤديا للتوتر في مركز الإدارة العامة بكفر الدوار وبعد الاضطرابات تناولت جريدة المصري الصادرة كل صباح القضية على مدار يومين.

والأمر المثير للدهشة أنه بدلا من أن مجرد مكالمة تليفونية لأحمد أبو الفتوح كنت ستجعله يتوقف عن سرد القصة ويتراجع بدلا من ذلك اختارت النخبة العسكرية الاستعراض العام للقوة وحاصرت العربات المدرعة مكاتب الجريدة واتهم النظام الجريدة بنشر الشائعات وهدد بإغلاقها.

وباستثناء هذه الحالة السابقة –والتي تعتبر نادرة- اختارت النخبة العسكرية الاعتماد على التغذية الاسترجاعية على الحكومة في إدارة الدولة وتشكيل إصلاحاتها.

وفي سعيهم نحو صنع سياسة متوازنة اعتمد الضباط على تجميع الآراء من مصادر عديدة متنوعة جاء في مقدمتها لفيف من المستشارين المدنيين والذين شكلوا بدورهم ضغوطا متزايدة عملت في ظلها النخبة العسكرية اتخذت قراراتها.

الخوف من التفاصيل والساسة: يعتبر فشل النظام البرلماني خاصة في العامين السابقين على انقلاب الضباط الأحرار أحد العوامل الأساسية التي قادت المثقفين الليبراليين للتعاون مع الانقلاب العسكري بعد 23 يوليو 1952 انطلاقا من أن الجيش ربما أنقذ الأمة بإنعاش الحياة السياسية وخلع فاروق وأن الجيش كسلطة مؤقتة سيقوم بتطهير النظام القديم وإشاعة الاستقرار في النظام السياسي.

وقد انقسم غالبية المثقفين في القبول بوكالة الجيش وتمثيله لهم إلى فريقين اختلفا في تقديرات كل منهما لقدرة ورغبة المؤسسة السياسية في القيام بإصلاح ذات مغزى تحت الضغط من قبل الجيش.

الفريق الأول وافق على فترة قصيرة من وكالة العسكريين على اعتقاد أن تلك الفترة سوف تسهل نقل السلطة إلى المؤسسة السياسية ومن ثم ساند هذا الفريق مطلب الضباط الأحرار بأن تقوم الأحزاب بتطهير نفسها من الزعماء الفاسدين كما طالب بضرورة إعلان عن جدول زمني لإجراء انتخابات برلمانية جديدة ودعا هذا الفريق الضباط الأحرار إلى تحديد دورهم السياسي ومدى سلطتهم بوضوح باعتبار أن ذلك مطلب سابق على الاستقرار الحقيقي.

وقد اقترن ذلك بأحاديث في المصري وروز اليوسف وفي الوقت الذي رأى فيه بعض أنصار هذا الفريق أن الضباط وسيلة يمكن من خلالها تدعيم مراكزهم في أحزابهم مثل أحمد أبو الفتح وأعوانه في اليسار الوفدي ارتأي آخرون أن روابطهم السابقة على الانقلاب بالضباط الأحرار سوف تجعل الآخرين يشاركونها في نفس الأهداف وتمثل هؤلاء في الطليعة الوفدية والحركة الديمقراطية للتحرير الوطني.

أما الفريق الثاني فقد ضغط على الجيش للعب دور أكثر فعالية ليس فقط فيما يتعلق بعملية التطهير وإنما أيضا في تعزيز الإصلاحات المرجوة.

وتميز هؤلاء بعداوتهم للوفد وتزعمهم اثنان من الفقهاء هما عبد الرازق السنهوري وسليمان حافظ علاوة على مصطفى أمين وعلي أمين صاحبي مطابع الأخبار واللذين شكلا ثقلا إعلاميا مضادا لأبو الفتح وإحسان عبد القدوس من الفريق الأول.

ولأن هذا الفريق الثاني قد شارك مباشرة في معركة الحكم العسكري فقد اتهم موقفهم من قبل الوفديين والشيوعيين بدفع مصر نحو الديكتاتورية وبأنهم نافقوا الضباط لترسيخ ولعب دور مباشر أكثر من الشئون الحكومية وإيجاد التبريرات والتسويغات القانونية لتقويض المؤسسات البرلمانية وإيما كان الأمر فإن كلا الفريقين قد شعرا بالدور العسكري كفترة مؤقتة وباعتبارها شرا لابد منه ومن ثم افترشا الأرضية لتعهد الضباط بإجراء بعض الإصلاحات للمؤسسة السياسية.

وفي البداية اصطدم الضباط بمباراتين الأولى مبارات عنيفة مع علي ماهر من أجل إرساء سلطة حقيقية والثانية مع الأحزاب السياسية حول مسألة التطهيرات اللازمة.

ونظرا لعدم سهولة المباراة مع علي ماهر العنيد وذو الخط المستقل عزله الضباط مبكرا في سبتمبر وعينوا محمد نجيب ليحل محله ونظرا أيضا لليأس من قيام الأحزاب السياسية بتظهير نفسها اعتمدت النخبة العسكرية سياسة عدائية هدفت إبعاد زعماء الحرس القديم وكان وقوف الوفد في مركز هذه العداوة أمرا متوقعا.

ونتيجة لسياسية النخبة العسكرية ابتعد الوفديون من الفريق الأول عن النظام كما رأى الضباط انهيار التحالفات القديمة التي عقدوها ومن ثم حاولوا التقرب من الفريق الثاني.

وفيما يتعلق بالمباراة مع علي ماهر فإن الأمر يستلزم بعض الاستطراد وبادئ ذي بدء أكد علي ماهر من جانبه توسيع برنامجه للإصلاح الاجتماعي والبيروقراطي وقد أشتمل برنامجه الإصلاحي على الكثير من الترميمات البيروقراطية الحكومية إذ عقد علي ماهر العزم على تدمير النظام الصوري بانتزاع سلطة تعيين الخدمة المدنية من أيدي الوزراء (الأشخاص) وتشديد تشريع المكاسب غير المشروعة، ومنح لجان التطهير سلطة الحجز والحصول على المعلومات المالية من البنوك.

كذلك كان لإصلاح قانون الانتخابات أسبقية أخرى لدى علي ماهر وأشار ماهر أيضا إلى أن الدستور يحتاج إلى مراجعة ذات دلالة، إن لم تكن مراجعة كلية ونظرا للإحباط الذي تعرض له ماهر في جراء عدم القدرة على الوفاء بالتعهدات السابقة فقد أصبح أكثر تهيؤا للقيام بدور المستبد العادل.. وعلى هذا الأساس رفض المطالبة بعودة البرلمان والإعلان عن الانتخابات مبكرة، وكم فضل استبقاء الأحكام العسكرية وتأجيل الانتخابات لمدة ستة شهور على الأقل كذلك قرر ماهر أنه لو سبب الوفد مشاكل فإنه سيقوم بالقبض على زعمائه.

ورغم أن ماهر شعر بأنه أبحر جيدا فقد عبر عن رغبته في الإبقاء على الاتصالات جيدة مع المسئولين البريطانيين أملا أن يحظى برضاهم كما عرض تأجيل كل المناقشات الخاصة بالعلاقات الإنجليزية المصرية على الأقل لمدة شهرين. وقد قادت سلسلة من الصدمات بين ماهر والنخبة العسكرية إلى ما يشبه الانشقاق بين الطرفين ففي 10 أغسطس وبدلا من الإعلان عن أن الانتخابات سيتم عقدها في فبراير طبقا لتعليمات النخبة العسكرية توجه ماهر إلى الأحزاب السياسي يوبخهم على فشلهم في محاولة التطهير وفي ذات الشهر عاني ماهر من ضغوط الضباط ورغبته في ظهور وجوه شابة في الحكومة وللمراوغة اشتكى ماهر في اتصالاته مع البريطانيين من أن الضباط أعطوه قائمة من المعنيين الذين يرفض العمل معهم وآل الأمر إلى أن يعزله الضباط في 6سبتمبر والنقطة الغاية في الأهمية والحيوية هي أن معارضة علي ماهر الواسعة للإصلاح الزراعي ولدت لدى الضباط قناعة بأن التعاون معه لم يعد ممكنا ولا سيما أنه كان ثريا ومالكا لمساحات واسعة من الأراضي وحيث تعلل ماهر بأن تقسيم العزب الكبيرة وتوزيع مساحات صغيرة على الفلاحين سوف يقلل الإنتاجية إلى حد كبير مدعيا أن ذلك سوف يترتب عليه فوضى اقتصادية وعرقلة للاستثمارات الأجنبية.

وحينما أدرك علي ماهر أنه لن يستطيع الصمود أمام فرض حد أقصى للملكية اقترح تحديد هذا الحد ب500 فدان (لاحظ أن اقتراح النخبة العسكرية لهذا الحد كان يقتصر على 200 فدان). ثم رفض ماهر اقتراحات المصادر وإعادة توزيع الأفدنة الزائدة عن حد الملكية الجديد، واقترح بدلا من ذلك أن يتم فرض ضرائب عليها بنسبة 10 ٪ ويبدو أن ماهر تعهد بأن يجعل الإصلاح الزراعي القضية التي إما أن تتجمد وإما أن تنهى سلطته.

وحينما أدرك ماهر أن النخبة العسكرية لن توافق على ما يصبو إليه قام بنقل هجومه مباشرة إلى هيئة (جهاز) الضباط وظهر هذا ماثلا بوضوح حينما كان يقضي رحلة برية في الصحراء الغربية وتقابل مع مجموعة من صغار الضباط وعبر لهم عن عدم ترحيبه بالتشريع المقترح.

وفور عودته للقاهرة في 4سبتمبر رحب ماهر بتخفظ من كبار الملاك على الوثيق المقترحة للإصلاح الزراعي نظرا لعدم الارتياح إلى مماطلة ماهر قامت النخبة العسكرية بإبلاغ السفير الأمريكي في 5سبتمبر بأنه إذا لم يتخذ ماهر خطوات سريعة في تنفيذ خطتهم فإنه سوف يعزل وبدوره قام جيفري كيفرسون بإطلاع ماهر على الموقف بيد أنه لم يبدي تراجعا وبدلا من ذلك ضم اسمه لوثيقة كتبت بواسطة ملاك الأراضي الذين التقى بهم تحذ من أن الإصلاح الزراعي المتقرح سوف يؤدي إلى تدمير الاقتصاد القومي وأنه سوف يجعل كل فرد فقيرا ولن يربح غني ولا فقير وبدورهم اقترح هؤلاء الملاك 1000 فدان حدا أقصى للملكية بالإضافة إلى 100 للابن أو الزوجة و50 فدانا للابنة.

وهكذا لم تؤد المشاكسات بين ماهر والنخبة العسكرية إلى عزل ماهر فحسب وإنما أيضا إلى استعراض النخبة العسكرية للقوة بصورة دراماتيكية ففي 5 سبتمبر تم القبض على 64 من السياسيين البارزين ورجال القصر السابقين واشتملت القائمة على زعامات من كل الأحزاب السياسية تقريبا وفي اليوم التالي عزلت النخبة العسكرية علي ماهر وأدى محمد نجيب اليمين كرئيس للوزراء وشكل حكومة جديدة في سبتمبر وفي اليوم التالي أصدرت الحكومة أمرا عاليا بالإصلاح الزراعي ويذكر أن الخطة قد حددت 200 فدان كحد أقصى للملكية مع أمكانية استثناء 100 فدان زائدة لأفراد عائلات معينة.

ومن خلال الاستعراض للقوة أعادت النخبة العسكرية التأكيد على سيطرتها على الساحة السياسية وفي نفس الوقت ساد الارتباك عملية تغيير الحكومة فبعض الذين استدعوا لشغل مناصب وزارية أكدوا أنهم تم القبض عليهم والعديد ممن تركوا حقائب وزارية منذ يوم واحد فقط اختاروا عدم البقاء في وزارتهم بينما رضخت النخبة العسكرية لضغط الولايات المتحدة بعدم وجود البعض في التشكيل الوزاري وتحديدا عبد الرزاق السنهوري.

وقد تكون المجلس الجديد من أشخاص لم يتولوا مناصب وزارية من قبل وعدد من التكنوقراط وبعض الشباب من الحزب القومي والتحق عضوان من الإخوان بالمجلس هما الشيخ أحمد حسين الباقوري الذي كان مرشحا في وقت ما لخلافة حسن البنا وقد تولى وزارة الأوقاف والضباط أحمد حسني صديق الذي تولى وزارة العدل.

وعلى خلاف توجههم إزاء ماهر وأعضاء وزارته الذين ارتآهم الضباط عواجيز للغاية وثق الضباط بالوزراء الشباب كما ركز الضباط على أن هؤلاء الوزراء بوصفهم رجالا ينتمون إلى جيلهم فلن يشوبهم ما شاب الكبار من فساد وفي المقابل تعلم هؤلاء الوزراء احترام الضباط حينما أدركوا أن النخبة العسكرية لن تقوم بدور المراجعة لسياستهم بل وفوق ذلك شكل ثلاثة وزراء جددهم (فتحي رضوان ونور الدين شرف وأحمد حسين الباقوري ) دائرة مشورة اعتمد عليها الضباط إلى حد كبير ومن بين هؤلاء كان دور فتحي رضوان هو الأكثر فعالية ودلالة.

وجدير بالذكر أن رضوان كان يجن في أعقاب السبت الأسود ثم أطلق صراحة عقب الثورة ورغم أنه لم يكن يعرف إلا القليل أو حتى لا يعرف شيئا عن الضباط الأحرار فقد لعب دورا متسلطا ارتضاه الضباط ولما لا وقد تحدث في اتهام علي ماهر وأصر على أن الوقت يتطلب رجالا شبابا يحتلون أماكن في السلطة.. وبلغ الأمر غايته حينما صور رضوان نفسه مستشارا رئيسيا للنخبة العسكرية كما لعب دورا واضحا في تشكيل مجلس وزراء نجيب الجديد وكذلك أسس وزارة جديدة أطلق عيها وزارة الإرشاد القومي تولاها بنفسه ثم تولى منصب وزير الدولة من خلال منصبه الأخير قام بابتكار أساليب دعائية للنظام على نطاق واسع.

بقدوم الحكومة الجديدة اعتمد النظام سياسة جديدة صممت لتنحية زعماء الحرس القديم جانبا.. والمعروف أن كلمة التطهير أصبحت كلمة مألوفة في الحديث عن الإصلاح السياسي في مصر بنهاية 1951 وأسس نجيب الهلالي لجان التطهير في مارس 1952 لاقتلاع الفساد من البيروقراطية الحكومية وبعد أن تولى الضباط الأحرار السلطة اتخذت عملية التطهير مغزى ومنحى أوسع وفي اللقاءات التي أجريت مع زعماء الأحزاب تم توبيخهم حتى يقوموا بطرد الأفراد الفاسدين المتعفنين الذين ينتسبون للنظام القديم.

وواقع الحال أن الجيش أعتمد في البداية سياسة معتدلة ولكنه سرعان ما وجه الدعوة للأحزاب لتطهير نفسها مع وعد بأنه إذا تعاونت الأحزاب فسوف تعقد انتخابات خلال ستة شهور إلا أنه طبقا لما قرره علي ماهر كان الضباط على استعداد لصب غضبهم ورغم حديثهم عن الإصلاح الدستوري فإنهم ناقشوا خيار سجن زعماء الأحزاب.. وقد اتخذ التصادم بين الحكومة والأحزاب السياسية منحنيات جديدة فبعد أن أصبح محمد نجيب رئيسا للوزراء دعمت النخبة العسكرية مركزها إلا أنهم حينما أظهروا رغبة في ممارسة القوة كما بدا واضحا في حالة العمل المضربين والشيوعيين ترددوا في الإطاحة بالوفد.

أما الأحزاب التي انقسمت على نفسها فقد فشلت في أن تواجه الحكومة في جبهة موحدة وحتى لو كانوا قد فعلوا ذلك فإن الضباط كانوا يسيطرون على السلطة مباشرة بصورة أكثر تبكيرا عن يناير 1953. ولقد استجاب زعماء الأحزاب لدعوة التطهير بدرجات متنوعة من الحذر وبما يتماشى مع مصالحها فها هو محمد حسين هيكل زعيم الحزب الليبرالي الدستوري يعلن أنه إذا أرادت الحكومة تطهير الأحزاب فإن عليها أن تأخذ زمام المبادرة بوضع خطوط إرشادية لاتباعها بينما أنكر مكرم عبيد الحاجة للتطهير في حزبه الخاص معلنا أن هذا الحزب (الكتلة الوفدية) هو خلاصة تطهير الوفد أما صحيفة السعديين (الأساسي) فقد ساندت تظهير الآخرين في حين وصفت دور السعديين بأنه مسئول وتقدمي واجتماعي ومع ذلك أصبح السعديون هم الأقرب للاضطلاع والقيام بالتطهير وفضل إبراهيم عبد الهادي زعيم الحزب اتباع سياسة التوفيق على اعتقاد منه بأن الضباط سيلجأون للتحالف مع حزب ما وأن هذا الحزب سيكون حزبه وقد بارك على ماهر ومحمد نجيب النموذج التطهيري الذي اتبعه السعديون معولين على أن هذا النموذج يجب أن يحتذى به.

وعلى خلاف نموذج التطهير الذي اتبعه السعديون لم يرض التطهير على طريق الوفد لا النخبة العسكرية ولا رئيس الوزراء ورغم بعض إعلانات التأييد للفكرة فإن زعماء الوفد خافوا من تطبيقات التطهير طويلة الأمد حيث أعلن فؤاد سراج الدين شأنه في ذلك شأن هيكل بالنسبة لليبراليين أن العبء يجب أن يلقى على الحكومة في تحديد أسماء بعينها أو تسليط الضوء على خبايا الانتقادات.

وإذا كانت اللجنة التنفيذية في الوفد قد ارتأت الحفاظ على درجة من الخضوع لمطلب التطهير فإن شيوخ الوفد نظروا إلى الأمر على أنه فرصة للحفاظ على مكاسب قديمة في الحزب وعلى وجه السرعة تشكلت لجنة تطهير قامت في 4أغسطس بطرد 40 عضوا من الهيئة البرلمانية للحزب اتهموا بخيانة الحزب.. وعلق محمد نجيب على ذلك قائلا «أنا لست سعيدا ما زالت عناصر الفساد موجودة بالقيادات الوفدية»... أيضا أثارت الاستبعادات تمردا مفتوحا داخل الوفد ذاته، كما عرض هؤلاء المطرودون قضيتهم أمام العامة مبينين أن جريمتهم الوحيدة هي التشجيع على إصلاح الحزب وفي 10 أغسطس طالب 70مندوبا عن الطلبة الوفديين في بيان لهم محمد نجيب بطرد سراج الدين وآخرين والقيام بإجراء انتخابات جديدة لتحديد زعامة الحزب.

وفي اليوم التالي ظهر عبد السلام جمعة سلف سراج الدين مطالبا اللجنة التنفيذية بعد التعامل مع لجنة التطهير كذلك كان التطهير المزمع إجراؤه سببا في إحداث شقاق بين الهيئة البرلمانية واللجنة التنفيذية وقد قرر الحرس الوفدي القديم أن يقاوم مطلب النظام بالتطهير وأتهم عثمان محرم الزعيم الوفدي السابق ووزير الأشغال في حكومة 1950 بقضايا فساد في حين رفض النحاس واللجنة التنفيذية بصلابة اتخاذ أي تصرف قبل أن تتحدد جريمة وقد خلق الصدام بين جيلي الوفد (الأول والثاني) تحالفا خاصة بين الطليعة الشبانية وأولئك الخلفاء في قيادة الحزب وإذا كان الجيل الثاني لم يؤمن بالضرورة بأفكار الضباط حول من يدير الوفد إلا أن هذا الجيل رحب بالعمل بعيدا عن سراج الدين ومحرم وآخرين ممن وقفوا في طريقهم ووجدت التحالفات الوفدية نفسها في بؤرة توتر زائدة.

وفي هذا السياق رفض أحمد أبو الفتح وإبراهيم تيلات اللذين بقيا مخلصين بثبات لحزبهما اقتراح الضباط الأحرار بتعيين اللجنة التنفيذية للوفد، وفي ذات الوقت لم يخونوا ثقة الضباط الأحرار ويكشفوا عمن يمسك بالسلطة الحقيقية من وراء الضباط.

ويذكر أن أبو الفتح وتيلات قد حثا الضباط الأحرار على التقرب من زعماء الوفد للتناقش معهم بشأن قضية الإصلاح الزراعي.

وبالفعل دعا الضباط سراج الدين في 4 أغسطس لمناقشة القضية ولكنه شأن علي ماهر عارض تحديد ملكية الأراضي وطالب بدلا من ذلك برفع العدل الضريبي على ذوي الملكيات الكبيرة إلا أنه تراجع وقرر قبول الوفد لتحديد الملكية مع إبداء بعض التحفظات التي لم ترض النخبة العسكرية.

وعلى هذا الأساس فإن الاعتقالات التي سبقت التغيير الحكومي في 8سبتمبر والتي كان منبعها إحباط الضباط من درجة الاستجابة لدعوة التطهير الطوعي ومقاومة الإصلاح الزراعي قد ارتكزت بصورة أساسية على الوفد.

وقد شرح محمد نجيب للسفير البريطاني ضرورة معاقبة الوفد لتشدده وإن كان قد أشار على أن عزل حزب الأغلبية يعد خطأ سياسيا وبمقارنة ذلك بما أعلن عنه رئيس الوزراء الجديد في أول يوم له في منصبه من أن الحكومة ليست لديها أية نية لحل الأحزاب السياسية توقع العديدون تغييرا شاملا في الاستراتيجية.

وفي الحقيقة ومع الأخذ في الاعتبار الجدل الذي دار بشأن الإصلاح الزراعي كشف النظام القناع عن سياسة حزبية عدوانية جديدة إذ جدد قانون تنظيم الأحزاب خطوطا إرشادية للتطهير كما منح الحكومة سلطة قانونية للتدخل في هذه العملية وفي ظل القانون حلت كل الأحزاب السياسية وعلقت على إعادة الترخيص بواسطة وزير الداخلية وفي نوفمبر احتفظت الحكومة بالحق في رفض الترخيص لأي حزب.

ونتيجة لهذه السياسة الجديدة أصبح المدنيون المقربون من الضباط الأحرار يروون الأحداث بصور أكثر انتقادا ففي الصفحة الأولى من جريدة المصري انتقد أحمد أبو الفتح الوفد على عدم استجابته لدعوة التطهير التي نادت بها النخبة العسكرية من ناحية ومن ناحية أخرى فقد ألقى بعض اللوم على الضباط الأحرار لعدم الإعلان عن رغباتهم الخاصة.

إلا أن تأييده لزعماء الجيش ظل مستمرا مؤكدا عزنهم على الديمقراطية ورغم تحذيره لبقاء الجيش فوق السياسات فإنه ألقى باللوم على الأحزاب في عدم مساعدتهم للجيش في أن ينجز انتصاراته.

استمر الصراع الداخلي بالوفد ولعبت القيود المفروضة عاملا معرقلا لزعماء الحزب في موضوعات عديدة لكن النحاس دفع الخط الصعب بصلابة ورفض أن يلتقي برئيس الوزراء حينما كان سراج الدين وآخرون سجناء لكنه لميكن ليقوى على مواجهة ضغوط المعارضة الداخلية دون مساعدة.

أما زعماء الحزب الصغار فقد اجبروا على قبول اللوائح الجديدة والتي تمنح الهيئة البرلمانية سلطة اختيار رئيس الوفد واللجنة التنفيذية وأخيرا وفي 16 سبتمبر قام سراج الدين بتقديم استقالته النهائية وغير المشروطة من اللجنة التنفيذية والهيئة البرلمانية.

ومع كل ذلك لم تهدأ الحكومة وهاجمت النحاس شخصيا لأول مرة .. وفي 22 سبتمبر أبلغ سليمان حافظ الوفد من خلال رسالة أن الحكومة ترفض النحاس كرئيس للحزب وكعضو مؤسس ووصفت الرسالة النحاس بأنه ورم في الجسد السياسي.

وفي واقع الأمر فإن النحاس كان بإمكانه فعل الكثير فلو منح موافقته على إصلاح الحزب لكان بإمكانه تجنب الصدام الدراماتيكي وكان سيمنع الضباط من مهاجمته بصورة مباشرة أو سجنه نطرا لما له من شعبية.

وانطلاقا من بيان أعضاء الوفد الصغار وبناء البعض أملا على الفكاك من تبعية سراج الدين كان على النحاس أن يبذل تأثيرا إيجابيا ولكن وجهة نظر زعيم الحزب لم تكن مبنية على أمل من الماضي لقد قدم من أوربا إلى الوطن لإحياء وفده المحبوب والتأكيد على حجب الزعامة الوطنية وإن دلت تصرفاته على شيء فإنما تدل على أنه آثر الارتياح من تعب المعارك القديمة.

ونظرا لأن مصطفى النحاس يعد هو من يمثلهم في عيون الضباط أسوأ ما في المؤسسة البرلمانية ونظرا لأن الضباط يريدون إفساح الطريق لأولئك الذين يبغون الإصلاح وأخيرا نظرا لأن هؤلاء الضباط أرادوا إظهار أنهم لا يؤخذون على غرة فقد أضافوا النحاس إلى القائمة السوداء

ورغم التصريحات الوفدية بعدم التقدم لإعادة الترخيص انطلاقا من رؤية زعماء الوفد بأنه لا وفد دون النحاس فقد تقدم عبد السلام جمعة في 6أكتوبر باستمارة إلى وزير الداخلية اعتبرت النحاس كرئيس شرفي للحزب.

وفي نهاية سبتمبر ذهب محمد نجيب في جولة بالدلتا مركز أراضي الوفديين وعلى مدار 3 أيام قامت الجماهير بتحية في كل خطة كان يخطها وفي أحاديثه الموجزة أكد نجيب على الدور السياسي للجيش حينما قال «إن الجيش هو الأمة وإن كل مصري جندي» كما كرر لجمهور مستمعيه «الصبر الصبر» مضيفا أن الله بني الكون في ستة أيام وأنه يطلب ستة شهور.

وقد وصفت الصحافة الأمريكية هذه الجولة بأنها تمثل انتصارا للضباط على أساس أنها أظهرت مدى الشعبية التي يتمتعون بها.

ونتيجة لقانون تنظيم الأحزاب، وجدت النخبة العسكرية نفسها محاطة (بعد 7 أكتوبر) بخمسة عشر طلبا للترخيص لأحزاب ولم تتم الموافقة إلا على سبعة أحزاب فقط منها وتجدر الإشارة إلى أن محاربة الحكومة للنحاس لم تثن الوفد عن رفع القضية أمام مجلس الدولة وتحديه لشرعية قانون الأحزاب وجرأته على الحديث إلى كل الأحزاب ويومها وقف محاميهم يؤكد أن القضية ليست قضية النحاس أو غيره ولكنها قضية الحياة البرلمانية في مصر.

الضرب بوحشية: لقد كان سقوط أجندة 1952 شيئا اضطراريا بالنسبة للنخبة العسكرية كما كانت سلسلة التغييرات الإجبارية عاملا أساسيا في إعادة تقدير الضباط لدورهم.

فقد تحركوا بحرص كان منبعه خصومهم السياسيين صحيح أنهم كانوا على علم بأن التأييد الشعبي للوفد قد تضاءل لكنهم كانوا خائفين من غضبة الجماهير ونفاد صبرهم كما أن الجدل الزمني الذي وعدوا به وحددوه بستة أشهر ظل له صدى في التصريحات الرسمية في المناسبات فقط لكن الضباط بدأوا يتحدثون عن فترة انتقالية مدتها 3سنوات على الأقل قبل أن تعقد انتخابات برلمانية.

وفي أواخر نوفمبر بدأ نجم النخبة العسكرية يأفل إذا لم يقم الضباط بخطوات إيجابية تجاه لمفاوضات مع البريطانيين كما أن سيطرتهم على أسعار بعض السلع الأساسية ترتب عليها انتقاضات خطيرة حيث رفض تجار التجزئة شراء سلع بأسعار ثابتة وتردد الفلاحون في زراعة الخضر والفاكهة على أساس أنها لا تحقق لهم أرباحا تذكر كذلك واجه الضباط سلسلة من التحديات في المحاكمة وفي الحرم الجامعي بالإضافة إلى قضية سراج الدين ومحرم وساسة آخرين من المحبوسين دون قضايا أو غطاء قانوني وانتشار الشائعات بأنهم يخططون سويا من داخل السجن.

وقد تعاملت النخبة العسكرية مع هذه الأمور بصورة عدائية ففي جامعة القاهرة كانت انتخابات الطلبة تضم متنافسين من الشيوعيين وائتلاف الوفديين والإخوان ونظرا لأن النخبة العسكرية كانت تؤيد الإخوان فقد دفع فوز ائتلاف الوفديين الحكومة إلى أن تقوم بالقبض على قرابة مائة طالب وحل اتحاد الطلبة وإغلاق الجامعة.

وبين 24نوفمبر و 6ديسمبر أطلقت الحكومة صرا سجناء سبتمبر على أساس أن يوم 6 سبتمبر كان آخر يوم يمكن أن يظلوا به بالسجن دون اتهامات محددة ووصف العديدون هذا التصرف بأنه دلالة على الضعف.

وفي اليوم الذي أطلق فيه سراح آخر المعتقلين قام النحاس بزيارة رئيس الوزراء (محمد نجيب ) كما وعد ورد محمد نجيب الزيارة في اليوم التالي ولذا انطلقت الشائعات عن حكومة وحدة وطنية تحت قيادة النحاس.

وفي 9 ديسمبر غازلت النخبة العسكرية في محالة منها لاستعادة الثقة مجلس وزراء نجيب بتعيين عدة وزراء منهم لتولي الشئون الاقتصادية وأعلن وزير التموين خططا لتحرير الأسعار على وجه السرعة وفي 10 ديسمبر احتفلت الحكومة بالذكرى السنوية للدستور وأعلنت عن نيتها لتشكيل لجنة من 50 خبيرا لصياغة مشروع دستور جديد يطرح للاستفتاء الشعبي . ورحب الزعماء السياسيون من كل الاتجاهات بهذا التحرك وبالفعل تشكلت اللجنة المشار إليها في 13 يناير 1953 ممثلة لقطاع عريض من المثقفين بالإضافة إلى عظماء مصر من الفقهاء وممثلين لكل أحزاب الأغلبية شاملة الوفد (5ممثلين) والإخوان (3ممثلين).

والآن ..وبعد غربلة الدستور أزالت النخبة العسكرية كل العوائق القانونية التي كانت تحول دون محاكمة سياسيي النظام القديم.

وفي 22 ديسمبر أعلنت الحكومة عن ابتداع محكمة خاصة محكمة الغدر أو الخيانة للتعامل مع قضايا الضباط والتعسف في استخدام السلطة من قبل سياسيي النظام القديم وفي 1يناير حوكم 6 وزراء سابقين و 7نواب سابقين كلهم وفديون وكان على رأس القائمة فؤاد سراج الدين وعثمان محرم.

ونعود إلى إلقاء اللوم على الوفد مرة أخرى إذ رغم تعسف النظام فقد فشل زعماء الوفد في قراءة الخريطة السياسية حيث استمروا في رؤيتهم للنخبة العسكرية باعتبار أن بقاءهم في السلطة مؤقت ومن ثم لم يطالبوا بالعودة إلى السلطة.

وأما مصطفى النحاس فقد بدا مخدوعا بالود الذي أظهره نجيب وتقديره الخاطئ بالنسبة لقوة الوفد في مواجهة النخبة العسكرية.

أما سراج الدين فنظرا لأنه كان معروفا أنه لن يتعاون مع اللجنة الدستورية المعينة من قبل الحكومة فقد أدرك وآخرون بوضوح مدى التهديد الذي تمثله النخبة العسكرية لكنهم فشلوا في إدراك أن الصراع السياسي للحكام القدامى قد تغير.

كذلك اتصلت بطانة الوفد في أواخر ديسمبر 1952 وأوائل يناير 1953 بالسفارة البريطانية لكسب تأييد البريطانيين إلا أن السفارة البريطانية بل والأمريكية أيضا كانتا على علم بأن وقت الخداع قد ولى وأن النخبة العسكرية ليست لديها نية في إعادة السلطة للوفد حيث أوضح الضباط وشركاؤهم المقربون لمسئولي السفارتين الأمريكية والبريطانية أن هناك 3سنوات على الأقل لترسيخ الإصلاح الدستوري.

كما أكد محمد نجيب أنه لن تكون هناك انتخابات قبل نهاية 1953 مبررا ذلك بأنه «حتى يتم تسليم السلطة إلى ساسة يثق فيهم الضباط»... ثم جاء إعلان النخبة العسكرية حل كل الأحزاب السياسية وبدء حرب السنوات الثلاثة الانتقالية التي سوف يحكم نجيب خلالها.. ومن هنا بدأت الحركة المباركة تصف نفسها بالثورة وبقي نجيب رئيسا للوزراء ولكن سلطته بقيت مرتبطة بمسئولياته كأحد زعماء الثورة.


ورغم أن النخبة العسكرية لم تعلن تغييرا رسميا في اللقب فإنها أصبحت تعرف بمجلس قيادة الثورة كذلك أكدت الحكومة على شرعية القرارات التي اتخذت ما بين 23 يوليو و10 يناير (تاريخ إلغاء الدستور).

وبعدة عدة أيام رفضت محكمة إدارية دعوى أحد الملاك بحق قاضي الدولة في مصادرة أراضيه في ظل قانون الإصلاح الزراعي.

وفي 10 فبراير كشفت الحكومة النقاب عن دستور مؤقت كان يحتوي على 81 مادة ويمنح سلطة سيادية لأعضاء مجلس قيادة الثورة.

وفي وقت إعلان الضباط عن ثورتهم كان هناك القليل الذي يجب عليهم فعله مع المعارضة الوفدية بالمقارنة مع المشاكل السياسية الداخلية التي يجب التعامل معها والغريب أنه بإلغاء النظام القديم ألقى الضباط باللوم على الأحزاب من خلال ما أبدته هذه الأحزاب من مقاومة للتطهير الطوعي وإعادة التنظيم الحزبي ومعارضة الإصلاح الزراعي.

ومن خلال ذلك بدأ الضباط يعلنون عن رؤيتهم الخاصة لليبرالية ويضعون أرضية عمل لثورتهم مؤكدين «أن المصالح الشخصية والحزبية التي أفسدت أهداف ثورة 1919 تعيد طرح نفسها في هذه الأوقات العصيبة من تاريخ أمتنا» كما وصف الضباط الأحزاب بأنها «النظام الرجعي القديم» مؤكدين أنها أساس الشقاق وعدم الاتفاق في مصر معلنين «سنضرب بوحشية كل من يقف في طريق أهدافنا».

السؤال الآن .. هل وضع الضباط نصب أعينهم بناء مؤسسة برلمانية لتغذية إصلاحاتهم؟ كلا في نفس الوقت كان لدى الضباط أمل في أن الأحزاب يمكن حثها على تنقية صفوفها وأن ملاك الأراضي يمكن أن يقبلوا بسقف معين لحيازاتهم ويبدو أن الضباط عزموا على كسر شوكة الساسة القدامى وإن كان عزمهم على المحافظة على السلطة قد أعماهم عن مراقبة شئون الحكومة.

والأكثر أهمية هو أن الضباط وثقوا بالعديدة من شباب البرلمانيين من أمثال أحمد أبو الفتح وحينما ارتبط هؤلاء بالنحاس وجد الضباط ضرورة إعادة تقييم الدور الذي يجب أن يلعبه الأصدقاء في المستقبل.

الفصل الرابع

ارفع رأسك

كافح الضباط خلال عام 1952 والشهور الأولى من عام 1952 والشهور الأولى من عام 1953 لتحديد الأجندة السياسية للثورة وخلق قاعدة للمساندة الشعبية ولقد كانت نيتهم متجهة لأن تكون الثورة موقوتة ومع ذلك كانوا يأملون في إفساد الطريق للتحول في قيادة المجموعة إلا أنهم بدلا من ذلك قلبوا النظام الليبرالي وفي أثناء ذلك أبعدوا العديدين ممن تمنوا أن يشغلوا أماكن في السلطة كما ظلوا يشاركون المثقفين الليبراليين أهدافهم التي تمثلت في: الحكم البرلماني السليم والإصلاح الدستوري، والعدالة الاجتماعية.

وقد عكس تأكيد الضباط على السلطة المباشرة إدراكا واعيا بأن الإصلاح السياسي في مصر يتطلب استراتيجية شجاعة طويلة الأمد.

إن الضباط غامروا بنجاح كبير من خلال حياة سياسية غير مألوفة ورغم أن بذور الشقاق قد ترعرعت داخل وبين الأحزاب السياسية فإن الضباط ظلوا واعين به ومتألمين من فشلهم في إنجاز غالبية أهدافهم ورغم أن الضباط قد شعروا أيضا بأنهم أمنوا سلطتهم فقد ظلوا في موقف دفاعي نظرا لما تعرضوا له من هجوم من قبل المؤسسة البرلمانية التي أزاحوها. ونظرا لأنهم لم يعتادوا على تقلب السياسية فقد ظل الضباط حساسين للغاية تجاه الانتقادات العامة، كما عذبتهم الشائعات عن وجود انشقاق داخلي، وإن كانوا قد اصطبروا على وجود علامات واضحة للشقاق.

وعندما حدثت القلاقل في الحرم الجامعي في أوائل يناير 1953 شنت السلطات حملة اعتقالات واسعة ضد الطلبة وفي نفس الوقت سعت لتخفيف الملامح القمعية للنظام والظهور بمظهر عام إيجابي إذ بدلا من المعتقل تم سجن الطلبة بالأكاديمية العسكرية وعلق نجيب على ذلك قائلا «أنهم سيبقون ضيوفا حتى يتعلموا كيف يتصرفون».

ولقد اعتبرت السنة الأولى للثورة (من يناير إلى ديسمبر 1953) هي الفترة التي قام فيها مجلس قيادة الثورة بإحكام قبضته على السلطة سواء المدنية أو العسكرية إلا أن هذه الفترة بدأت بداية فاشلة وذلك لأن الضباط فشلوا في إضفاء الثقة على حكمهم أو حماسهم للأجندة السياسية التي ظلت غامضة فمن جراء المعرضة الواسعة من قبل الخصوم والفشل في التوصل إلى اتفاقية مع البريطانيين وجد مجلس قيادة الثورة نفسه يتحسس الطريق كما كانت ضغوط الحكم خلال فترة التحول اختبارا لمدى صبره وفي مناسبات عديدة كان ينوي الرجوع عن الحكم بصورة مباشرة ومنح سلطة أكثر للمدنيين ومع ذلك قادة الحماس للانغماس أكثر في الحكم.

ورغم أن الضباط قد تجنبوا في السابق إصطلاح الثورة فقد أصبح هو الوصف الملحوظ لحركتهم إلا أن اصطلاح الثورة حتى ذلك الحين كان يعني به التخلص من ولاية الحكم الملكي الفاسد والأحزاب السياسية واعتدت رؤية الضباط للنظام السياسي المستقبلي على تصعيد وجوه جديدة تدين لهم بالولاء مع إجراء بعض التغييرات البنيوية الجديدة القليلة جدا وبينيهم اتجاها هجوميا ضد النظام القديم نجح الضباط في محاصرة قاعدة المؤسسة البرلمانية كما كانت المحاكمات التي شكلوها تمثل دلالة واضحة على التحسس غير المؤكد للثورة.

جبهة وطنية موحدة: استجابة نفس طبقة المثقفين التي رحبت بحذر بانقلاب يوليو بمشاعر متضاربة لإلغاء الأحزاب السياسية والتأكيد على السلطة المباشرة لمجلس قيادة الثورة حيث دافع عدد قليل من الشخصيات السياسية والمثقفين عن هذه الخطوة العنيفة في حين رحب الإصلاحيون بالدعوة للتطهير الحزبي وقانون إعادة تنظيم الأحزاب كخطوة ضرورية بينما دافعت الأغلبية عن إعادة بناء النظام السياسي من خلال حزبين أو ثلاثة كما ضغط آخرون على الضباط لتشكيل حزبهم الخاص للعمل من خلال النظام السياسي القائم ومن جانبهم وفي أواخر ديسمبر 1952وأوائل يناير 1953 أعاد زعماء الأحزاب التأكيد على نظام تعدد حزبي مفتوح وذلك حينما انتشرت الشائعات بأن النخبة العسكرية ستقوم بحل الأحزاب.

والآن وللتكيف مع الأمر الواقع آثر العديد من الليبراليين أن يكونوا في صف النظام وليس معاداته ومن ثم راهن مجلس قيادة الثورة على أن يلعب على مثل هذه المشاعر ويحرك مساندته شعبيا عبر كيان سياسي جديد تمثل في هيئة التحرير التي تشكلت في يناير 1953.. ويذكر أن الحكومة أعلنت عن ميثاقها في 16 يناير 1953، أي في ذلك اليوم الذي قررت فيه حل الأحزاب السياسية وهو الميثاق الذي مثل امتدادا للأجندة السياسية للضباط، واشتمل على الجلاء البريطاني غير المشروط من وادي النيل وحق السودان في تقرير مصيره.

وقد أعاد النظام التأكيد على التزام مصر تجاه التحالف العربي وتجاه الأمم المتحدة وفي ظل جبهة وطنية أعلن الضباط عن دستور جديد يقوم على الإيمان بالله والوطن والثقة بالنفس وأن تكون العدالة الاجتماعية هي الأساس الذي ينهض عليه الواقع الاجتماعي والاقتصادي بما ينطوي عليه ذلك من التوزيع العادل للثروة وأدوات الإنتاج والحقوق المدنية الأساسية من حرية الفكر والعقيدة الدينية والتأمين الوظيفي والصحي ضد الشيخوخة .. كذلك شجع بيان الجبهة الجديد على الوحدة الوطنية وتردد شعارها الرئيسي «أرفع رأسك يا أخي» بين الفلاحين والعمال.

ويذكر أن النظام قد شكل هيئة التحرير في 23يناير 1953وفي هذا الخصوص تم تقليد أعضاء مجلس قيادة الثورة مناصب ر سمية حيث عين محمد نجيب رئيسا بينما عين ناصر سكرتيرا (أمينا) وقد أثبتت الهيئة فاعلية تامة في تنظيم الكتل الجماهيرية وتعبئتها في الأعياد الوطنية الجديدة.

ورغم تشعب جذور هيئة التحرير كتنظيم سياسي إلا أنها لم تنجح على الإطلاق في تخطي منافسيها خاصة الوفد والإخوان المسلمين إذ لا شك أن العداوة الوفدية للنظام وعدم راحة الإخوان من تشكيل جبهة سياسية منافسة قد عرقل المجهودات التي بذلها منظمو الهيئة لخلق قاعدة مدنية حاكمة لمجلس قيادة الثورة وساعد على ذلك استمرار سيطرة الجيش على الهيئة.

وفي الواقع لم تحظ الهيئة بالقبول المعقول من قبل شباب المثقفين وإذا كان البعض قد اعتبرها تحوى قدرا من الجاذبية مثلما قارنها علي أمين بروح ثورة 1919 وما تميزت به من تشكيل جبهة وطنية موحدة فإن البعض الآخر رأى غير ذلك إذ على سبيل المثال نظر إحسان عبد القدوس للهيئة على أنها ثمرة لنصيحته للضباط بضرورة تأسيسهم لحزب سياسي لتحدي الوفد ومع ذلك فإن هذه الإثارة تلاشت بحل الأحزاب السياسية إذا طبقا لرؤية عبد القدوس «لا نصر دون معركة وليس هناك معركة وليس هناك معركة إذا لم يكن هناك تعاركه» وأضاف عبد القدوس «إن هيئة التحرير لن تكسب شيئا إذا لم تنافس أحزابا أمينة»

أما التوجيهات العامة خلال هذه الفترة فمن الصعب رصدها، خاصة أن النظام أحكم قبضته على وسائل الإعلام وإن كانت تقارير الدبلوماسيين الأجانب تنطوي على رؤية أشمل في هذا الصدد، حيث تذهب هذه التقارير إلى أن الشعور القومي خلال هذه الفترة يمكن وصفه بأي شيء ما عدا أنه كان قابلا للنظام الجديد وقد علق السفير البريطاني ستيفنسون في مايو 1953 قائلا: «لقد بات واضحاأن قطاعات عريضة من الشعب أرهقت من جراء ثورة الجيش» وفي الوقت الذي كانت فيه الصحافة المصرية تمتدح الجولات الناجحة في الدول رصد مسئولو السفارة البريطانية نماذج لعمال يحيون الضباط دون اهتمام وأن الضباط حينما تجولوا في مصانع الدلتا وفي منطقة القناة تم إلغاء العديد من مظاهر الاحتفال والاقتصار على لافتات صغيرة، وحينما زار ناصر جامعة الإسكندرية في أواخر مايو كان رد فعل الطلاب ساخرا.

ومن المعروف أن ساحات الحرم الجامعي والمصانع ظلت مصادر للشقاق وقد توزعت ولاءات طلاب الجامعة السياسيين بين الإخوان المسلمين والوفد والشيوعيين، وبدرجة أقل هيئة التحرير وبينما كان الإخوان المسلمون حلفاء للنظام من قبل فقد شكلوا مصدرا لقلقة منذ أواخر 1953...

أما فيما يتعلق بطبقة العمال فإن عدم رضاء هذه الطبقة جعلها أكثر قابلية للتحرك المضاد للنظام وخاصة الشيوعيين وكانت الحكومة قد أعدت بعض الأشياء لتحسين ظروف العمل مثل قانون التعاقدات الذي تقرر في ديسمبر 1952 والذي أتاح فوائد أعلى وتعويضات للعمال المطرودين وفي نفس الوقت تحرك النظام للسيطرة على الحركة العمالية من خلال تشكيل والسيطرة على اتحاد التجارة وتكبيل التنظيم العمالي.

وفي يوليو 1953 فتحت وزارة الشئون الاجتماعية مكتبا للتوظيف بالقاهرة وآخر بالإسكندرية ومع ذلك استقر معدل البطالة، ولكنه لم ينخفض . وفي إحدى الحوادث المثيرة ألقت القوات القبض على 500 عامل نظموا إضرابا في أحد مصانع النسيج بالجيزة حينما هددهم شبح الطرد. والآن ماذا عن الطبقة الوسطى؟ وما الذي كانت تريده من النظام؟ في منتصف يوليو عقد صلاح سالم (الذي كان بصحبة محرر ومصور من أخبار اليوم) مؤتمرا صحفيا بإحدى المقاهي في ضواحي القاهرة للتعرف على اهتمامات الطبقة الوسطى، ويومها استفسر المنتمون لهذه الطبقة عن الكفاح لإنهاء الاحتلال وعن دور الولايات المتحدة في العلاقات المصرية الإنجليزية وعن البطالة بين المتعلمين والإفراط في الاحتفالات العامة.

وعلي أية حال فقد ظل الاختبار الأصعب لمجلس قيادة الثورة في العقل العام متمثلا في قدرته على تخليص الدولة من البريطانيين وتحسين الظروف اليومية للشعب حيث ظل النقص في الأغذية الأساسية قائما وتسربت شائعات إلى مجلس قيادة الثورة عن توقع حدوث مجاعة داخلية. قضمة قضمة: قام مجلس قيادة الثورة مستترا وراء الفترة الانتقالية من الحكم العسكري بالإعداد لتغييرات هيكلية في النظام السياسي وتدريجيا ركز السلطة في قبضته ففي 21فبراير دعا محمد نجيب لأول جلسة للجنة الـ50 الدستورية تلك اللجنة التي انتخبت علي ماهر رئيسا لها، وبدوره قام ماهر بتشكيل 5 لجان فرعية وانتخاب لجنة الـ5 رجال التنفيذية وفي أواخر مارس استحسنت اللجنة التنفيذية قرارا بإقامة الجمهورية.

وقد نظر الضباط إلى عمل اللجنة بنوع من الضدية إنهم شكلوا اللجنة لتمثيل اهتمامات سياسية ودينية واسعة، وبالتأكيد اتخذوا هذا الهدف بجدية وأعطوا انتباها ملموسا للمناقشات الخاصة بالإصلاح الانتخابي وبصفة خاصة ما يتصل منها بنجاح النظم الجمهورية البرلمانية والرئاسية أضف إلى ذلك أن عمل اللجنة أصبح مسرحيا في عيونهم وبمثابة دواء لتسكين القلق العام من امتداد سلطتهم ولكن حينما اتفقت اللجنة على مبادئ أساسية للتنظيم السياسي بصورة أسرع مما تم تخيله أصبحت شيئا مقلقا وإن كان الضباط قد ظلوا غير متأكدين من أهدافها المحدودة ومن ثم ظلوا محجمين عن تسليم السلطة لمؤسسة برلمانية.

وفي 18 يونيه قام مجلس قيادة الثورة متخطيا اللجنة الدستورية بإلغاء الملكية وإعلان مصر جمهورية وتعيين محمد نجيب رئيسًا وبتمكن مجلس قيادة الثورة من التخفيف من قوة الدفع التي بنتها لجنة الخمسين ارتد إلى المناسبة التي يمكن أن تمثل قوة دفع فعلية، فمع أول ذكرى للثورة شعر الضباط بأن حركتهم تحتم عليهم ألا ينتظروا .. وكان الضباط قد ترددوا في مايو، ولم يقرروا بعد ما إذا كان ينبغي تعيين نجيب رئيسًا.. إذ عرضوا الرئاسة على لطفي السيد وربما على علي ماهر وفي النهاية تطابق إعلانهم مع محاولة أخرى لمجلس الوزراء بعد الفشل في تنصيب وزير تموين بإمكانه اتخاذ إجراءات حازمة بإزاء المخزون الثابت من السلع الأساسية في السوق.

ومع إعلان الجمهورية تقلد أعضاء قيادة الثورة حقائب وزارية لأول مرة، حيث نصب محمد نجيب رئيسا ورئيسا للوزراء، وتولى ناصر نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية في حين أصبح صلاح سالم وزيرا للإرشاد القومي ووزير الدولة لشئون السودان بينما تولى بغدادي وزارة الحربية. وفي أكتوبر التحق زكريا محيي الدين وجمال سالم بمجلس الوزراء كوزراء للداخلية والاتصالات.

وبهذه التعيينات سيطر مجلس قيادة الثورة بصورة كاملة على جهاز الأمن الداخلي وبدأ يحتكر السيطرة على وسائل الإعلام.. وفي ظل ناصر ثم زكريا محيي الدين انضوت أجهزة المخابرات المدنية والحربية تحت قيادة واحدة.

وفي سبتمبر حذر صلاح سالم الصحف من إفشاء الشائعات وهدد بسحب ترخيص أي صحيفة تحيد عن الخط المرسوم، وقد شهدت نهاية العالم سقوط جريدتين يوميتين لهما تقاليد عريقة فجريد الزمان التي كانت مرتبطة تقليديا بالقصر كانت منذ سنوات قليلة وسيلة لآراء المصلحين أمثال راشد البراوي والذي أثرت أعمدته الخاصة بالإصلاح الزراعي على الضباط الأحرار... وجريدة البلاغ التي كانت لسان حال الوفد في ظل النظام القديم رضخت كل مهما الآن لضغوط السوق.

وفي نهاية المطاف بيعت جريدة الزمان للحكومة وقام مدير تحريرها حسين فهمي بتأسيس جريدة الجمهورية اليومية لتصبح أداة للنظام وضم لطاقمه لفيف من الكتاب التقدميين والمثقفين أمثال محمد مندور ولويس عوض وخالد محمد خالد.

وأيما كان الأمر، فإن إذا لم يكن العديدون يدركون بوضوح اتساع التعييرات التي حدثت بمصر أو التطبيقات طويلة الأمد التي أتاحت لمجلس قيادة الثورة الاحتفاظ بسلطة مركزية فإن ذلك يعود بالأساس إلى خداع الضباط وعدم ورغبتهم في التأكيد على السلطة المطلقة في الشوارع والمصانع والجامعات والمساجد لقد تردد الضباط في تعرية سيوفهم وأرادوا أن يخطبوا ود المصريين لا أن يقهروهم وفي الحال دارت الآلة الإعلامية بسرعة تامة مبتكرة أبطالا ومناسبات جديدة للطرب ورغم أن الرقابة على المطبوعات لم تكن دوما كافية أو فعالة فإنها ساهمت في إقامة نظام برلماني مطهر من الحرس القديم فإن ذلك مرده أن مجلس قيادة الثورة سواء في بيانه أو تصرفاته قد ترك هذا الباب مواربا حيث ظهر الأحزاب، ولكنه لم يحل محلها بالبديل السياسي المناسب.

محاكمات النظام القديم وقف الوفد على الأطراف منتظرا العودة، كما شجعت خطوات الضباط غير الواثقة آماله في الانتعاش إلا أن الروح المعنوية التي اتسم بها الوفد خلال المعركة القانونية للدفاع عن النحاس سرعان ما انهارت حينما حظر النظام الأحزاب .. كذلك صودرت أرصدة الوفد وأغلقت مكاتبه، وتمت مراقبة زعماءه، وإحكام القبضة على جرائده التي لم تستطيع التعبير سوى عن القدر الأقل من النقد السياسي.

ومن جراء الإحباطات الناجمة عن الاختلالات والاعتقادات، رأى زعماء الوفد الأحداث على أنها غير مساعدة أو مواتية، وواقعيا اختفى مصطفى النحاس عن الحياة العامة صحيح أن الحكومة أصرت على أنها لم تصدر أوامر بتحديد إقامته في منزله ولكن السلطات كانت دون شك –تراقب تحركاته- أما رجل الوفد الثاني - فؤاد سراج الدين - والذي تم اعتقاله في 19 يناير فقد تدخل البعض لإطلاق سراحه والسماح له بمغادرة البلاد إلا أن مجلس قيادة الثورة رفض وما من شك في أنه دون قيادته القوية لم يكن ليتأتى للوفد مواجهة النظام.

وقد تمثل التكتيك الوفدي الوحيد لمقاومة النظام في عدم الاعتراف بشرعية مجلس قيادة الثورة وهيئة التحرير، وباستثناء أشخاص قلائل أظهروا تأييدهم للهيئة وباركوا اللجنة الدستورية أهمهم محمد صلاح وعبد السلام جمعة فإن الوفديين حقروا من مجهودات النظام لكسب التأييد وباقتراب صيف 1953 أردك الوفد أن النظام يفقد أرضيته.

هذا الصدام قد اشتعل على أثر قرار الحكومة في أواخر مايو 1953 بمحاكمة أشخاص النظام القديم والتعسف في استخدام السلطة وقد جرت المحاكمات تحت رعاية محكمة الخيانة التي تأست في ديسمبر السابق وفي أوائل يناير 1953 اتهمت السلطات 13 وزيرا ونائبا وفديا سابقا ولكن بعد إلغاء الأحزاب ارتأى مجلس قيادة الثورة أن عرض القضايا للمحاكمة قد لا يترتب عليه مكسب يذكر.

والآن غير الضباط آرائهم وتقديراتهم من جراء فشل هيئة التحرير المبكر في امتصاص الحماس العام. أما هذه المحاكمات فقد فشلت في إشعال الروح العامة ولم تؤد بصورة ملموسة إلى مساندة النظام ولم يكن لمحكمة الخيانة سلطة تقرير شروط السجن وكانت اتهاماتها وإداناتها مقيدة بتجريد المذنب نم الحقوق السياسية ومصادرة أملاكه، بالإضافة إلى أن تكوين المحكمة من أربعة قضاه عسكريين وثلاثة مدنيين وافتقارها إلى السوابق القضائية قد أثار الارتباك.

ومع تشكيل محكمة الثورة في سبتمبر 1953 لمح الضباط لأول مرة عن رغبتهم المكشوفة للسيطرة على العملية السياسية وإذا كان قصدهم من تشكيل محكمة الخيانة ومعاقبة سياسي الحرس القديم قد ارتكز على كسب التأييد العام والالتفاف حول الثورة فإن المحكمة الجديدة كان غرضها محاكمة أولئك الذين تأمروا مع القوى الأجنبية لإشاعة الشقاق وهز استقرار النظام الثوري وعودة الحكم الملكي أو الحزبي الفاسد، وعلى خلاف محكمة الخيانة التي تشكلت من مزيج القضاة المدنيين والعسكريين فإن المحكمة الجديدة تشكلت من ثلاثة قضاة أعضاء مجلس قيادة الثورة هم عبد اللطيف البغدادي والسادات وحسن إبراهيم.

وقد جاء خطاب صلاح سالم في 15 سبتمبر عن تشكيل المحكمة إعلاء لرؤية الضباط حيث أعلن الضباط كرسوا أنفسهم للكفاح ضد الإمبريالية والخونة المصريين مؤكدا على أن الإمبريالية الأجنبية التي حكمت مصر مدعومة بالخونة المصريين حتى 23يوليو لن تقوم بحكم مصر ولن تطأ أقدامها الجيش.

وقد طعم سالم خطابه ببعض الفكاهات عن الكيفية التي انتهت بها الأحزاب السياسية إلا لا شيء في سعيها للكسب والحفاظ على السلطة كما سلط الضوء ساخرا على بعض مثالب الحكومة الوفدية وسلوك النحاس –زعيم الحزب- والخاص بتقبيل أيدي الملك. وأضاف سالم لجمهور مستمعيه أن خداع الخونة لم يعد علنيا وإنما يظهر بوضوح في الشائعات التي ينشرونها في كل مكان بغرض زعزعة استقرار الاقتصاد وتشجيع النقد الأجنبي وإشاعة القلاقل في الدولة ودلل صلاح سالم على ذلك بما حدث في الجامعات من اضطرابات.

وكانت الحكومة قد ألقت القبض على 11شخصا من زعامات النظام القديم وكما حددت إقامة النحاس وزوجته وتم استدعاء المحكمة ف 24 سبتمبر لنظر قضية رئيس الوزراء السابق إبراهيم عبد الهادي وقد وجهت المحكمة إليه اتهامات متعددة من الفساد إلى المسئولية الشخصية عن اغتيال حسن البنا واندهشت مصر كلها من تعسف الإجراء القضائي والذي اتبع بحكم الإعدام ذلك الحكم الذي تعدل بعد ثلاثة أيام إلى السجن مدى الحياة.


وفي نفس الوقت شعر العديد من المصريين بالقليل من التعاطف تجاه إبراهيم عبد الهادي وكان النظام قد هدف لأن يكون إبراهيم عبد الهادي أول ضحية لما لذل من دلالة باعتباره رجل النظام القديم، والذي معه شارك المصريون لا سيما المتعاطفون مع الإخوان في العنف وإساءة استعمال الحريات المدنية في أواخر عام 1940 وقد رحب الإخوان باستثناء زعيمهم حسن الهضيبي بمحاكمته بحماس.

وفي الأسابيع السبعة التالية نظرت المحكمة 14 قضية منها الوفدي إبراهيم فراج وقضية كارم ثابت الملحق الصحفي لفاروق ولقي كلاهما حكما بالسجن مدى الحياة ثم خففته المحكمة إلى السجن 15 سنة كذلك حكم على كل من الأمير عباس حلمي ومحمود غانم من رجال القصر – بالسجن 15 سنة.

وبالإضافة إلى المحاكمات السابقة فقد كان لمحكمة الثورة وجه آخر، إذ تمت محاكمة 13مواطنا عاديا اتهموا بأنهم عملاء وشركاء البريطانيين في منطقة قناة السويس وقد كانت محاكمة هؤلاء بمثابة تحذيرا قاطعا للمصريين بالجزاء الذي سيلقاه كل من يتعاون مع العدو، وقد أدين من هؤلاء 11شخصا شنق منهم أربعة بينما تلقى الآخرون أحكاما بالسجن تراوحت ما بين 10و 15 سنة.

وواقع الحال فإن المحكمة الثورية فشلت في تحقيق النجاح الدعائي الكبير الذي كان يأمله مجلس قيادة الثورة، وبدا واضحا لمجلس قيادة الثورة إنه أراد تحقيق نجاح محسوس فإن عليه الإطاحة بشخصيات أكبر وهو الأمر الذي تجسد بوضوح في محاكمة سراج الدين وما اكتنفها من كيل اتهامات وشهادات شهود ودفاعات طويلة والتي كانت نهايتها أن حكم بالسجن 15 سنة.

ويتردد الضباط في استدعاء النحاس أمام محكمة الثورة، وإقرارهم أحكام خفيفة على سراج الدين وآخرين، اتضح أنهم كانت لديهم شكوكًا في شعبيتهم وفي توليهم السلطة في البلاد .. بيد أنهم وفي إثارة غريبة وجهوا اتهامات ضد زينب الوكيل (زوجة النحاس) ولكن شأنها أن سراج الدين قامت بتحدي سلطة المحكمة بشجاعة وانظرا لظروفها الصحية أو هي تعللت بذلك –رفضت المثول أمام المحكمة وفي 7مارس 1954 قامت المحكمة بمحاكمتها غيابيا حيث حكمت عليها بغرامة 10آلاف جنيه... وهكذا وفي وسط صراعات السلطة (فبرايرمارس 1954) لم تتم ملاحظة القضية على نطاق واسع.

والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو.. إلى أي مدى نجحت محكمة الثورة في إفساد الروح المعنوية للمعارضة؟

وللإجابة عن هذا السؤال يمكن القول إن المحاكمات نجحت في كبح الحرس القديم وكسرت مقاومة رؤوس الوفديين من أمثال سراج الدين والغنام وفراج.. بيد أنها لم تفلح في الهجوم على شباب الوفديين المتحالفين مع الأجنحة الشيوعية المعارضة أولئك الشباب الذين لم يذرفون الدمع على سراج الدين ومن دار في فلكه.

سؤال آخر غاية في الأهمية هو.. إلى أي مدى أشاعت المحاكمات عدم الثقة في النظام القديم وهي بصدد بناء الثقة والشرعية بالنسبة لمجلس قيادة الثورة؟ أنه من الصعوبة بمكان قياس رد الفعل بيد أنه يمكن القول إن الأسلوب الذي تمت به المحاكمات قد أبعد الطبقة المثقفة وإن استمر العديد من المثقفين في تأييد الإصلاحات التي شرع النظام في إرسائها والتحرك صوب إنهاء الفترة الانتقالية وفي التقييم العام فإن المحاكمات نجحت في كشف النظام القديم على ما كان عليه مركزة على الفترة السابقة على الثورة... وفي مارس 1954، عندما واجه الضباط اختيارا كاملا من أجل البقاء تمثل في مواجهتهم للقوى المنافسة التي كانت حجز الزاوية في المؤسسة السياسية القديمة فإنهم سادوا بإحلال ثورتهم كبديل وحيد للفساد والسياسة الحزبية الانتهازية للنظام القديم.

لكن الملاحظة الجديرة بالانتباه هي أن زعماء مصر الشباب عبر المحاكمات وغيرها قد نظروا للوراء أكثر من النظر للأمام وبدلا من الاعتزاز بالحقبة الجديدة فقد انصب تركيزهم على الخونة والشائعات المغرضة ..و..و.. إلخ.

لكن .. بعد أن تمكن الضباط بنهاية العام في تقوية مركزهم في السلطة . هل لأن لهم الأمر ودان؟ هذا ما ستفسر عنه الفصول التالية.

في البيان الذي ظهر خلال 1953 والذي بلغ الذروة في محاكمات الخريف عرف مجلس قيادة الثورة حركتهم بأنها مضادة للمؤسسة السياسية القديمة، للقيام بذلك واجه مجلس قيادة الثورة تساؤلات مزعجة عن دمور القوى التي لم تكن تنضوي تحت لواء هذه المؤسسة والتي شاركت أيضا في ازدراء سياسات هذه المؤسسة، ولكنها أصبت الآن تشكل تحديات أيديولوجية للأجندة التنموية الثورية وقواعد بديلة موعودة للسلطة في الدولة لا سيما وأن هذه القوى وتحديدا الإخوان المسلمين والحركة الديمقراطية للتحرير الوطني وبصورة أقل الحركة الشيوعية قد تعاونت مع الضباط الأحرار ولعبت أدوارا محسوسة في انقلابهم ومن ثم واجه الضباط تساؤلين هما: ما هو الدين الذي يجب أن يردوه لحلفائهم؟ وما هو التأثير الأيديولوجي الذي سوف تبذله هذه الحركات في سبيل تحقيق الإصلاح الاجتماعي والسياسي؟

وتضحي الإجابة عن هذه الأسئلة أمرا واضحا من خلال استعراض ما حدث خلال الستة شهور الأولى من حكم النخبة العسكرية إذ بعد أن سيطر الضباط الأحرار على السلطة تملصوا تدريجيا من الإخوان المسلمين وانقلبوا فجأة على الشيوعيين وفي نفس الوقت استمر الضباط في البحث عن المشورة من قبل الأصدقاء من كل المعسكرات وخاصة اليسار.

وكانت النخبة العسكرية قد تقربت من الإخوان في أواخر 1952 بيد أن علاقة الصداقة بين الطرفين ظلت متصدعة وفي السنة التالية (1953) فسدت هذه العلاقة.

وقد عمق الشرخ في العلاقات بين الضباط وحلفائهم جذوره في كل من التوجيهات الأيديولوجية للضباط وتأكيدهم على ضرورة الإمساك بالسلطة السياسية وفي الفترة السابقة على الانقلاب فشل حلفاء الضباط الأحرار في إدراك أن الضباط يريدون الاستقلال بحركتهم كما عكست ردود أفعال الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني والإخوان المسلمين تجاه الانقلاب مشاعر مبهمة سواء بالنسبة للنظام البرلماني أو بالنسبة لفكرة التدخل العسكرية في السياسة.

وفي البداية نظر الجميع إلى الثورة بارتياح حيث كانت عداوة الإخوان للنظام الحزبي دافعا لان يحثوا الضباط على توسيع سلطتهم وعدم التهور والتسرع في إصلاح الحياة البرلمانية أما الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني فقد شجعت على تفعيل سرعة وتيرة الإصلاح السياسي والاجتماعي وتمهيد الطريق للحكم المدني وكلتا الحركتين الإخوان والحركة الديمقراطية للتحرير الوطني توقعت قدرا من التأثير في صنع السياسة في المستقبل.

وانطلاقا من افتراض أن أي نظام سياسي يقوم على أيديولوجية معينة وأنه يمكن فصل السلطة عن الأيديولوجية، فإن رؤية الضباط في الفترة السابقة والتالية على يناير 1953 والتي تمثلت في نظام برلماني نظيف لم تكن مرضية سواء للإخوان أو لليسار حيث ارتأى الإخوان أنها رؤية علمانية أما اليسار فقد خشي من أن الضباط من خلال هذه الرؤية لن تبدوا تسامحا تجاه الماركسية وفي نفس الوقت كان الضباط خائفين مما سوف تمثله هذه القوى من قوة سياسية وطبقا لوجهة نظر الضباط فإن الإخوان من خلال تنظيمهم السري وخلاياهم في الجيش وجهاز البوليس يمكن أن يشكلوا دولة داخل دولة أما الحركات الشيوعية فرغم صغرها نسبيا وانشقاقها فإنها تحظى بتنظيم جيد في الجامعات والمصانع وإنها أيضا كانت متغلغلة داخل هيئة الضباط...

ورغم التعاون بين الضباط الأحرار والحركة الديمقراطية للتحرير الوطني ورغم انجذاب أفراد معينين منهم نحو الماركسية فإن الضباط الأحرار كمجموعة لم يقرروا أن يشركوا الماركسيين في السلطة على الإطلاق بل لم يسمحوا بوجود حركة شيوعية نشطة أيضا رغم تأثر الضباط بالانتقادات الاجتماعية التي أرساها اليساريون ومشاركتهم في العديد من الأفكار والمثاليات والأهداف فإن معظم الضباط الأحرار رفضوا الماركسية كعقيدة مغلقة.

إن السرعة التي تم بها انقلاب النخبة العسكرية على التحالفات الشيوعية أخفق أي تصور لتعاون محتمل وقد لام الشيوعيون من كل الحركات الولايات المتحدة وبريطانيا على سعيهما للضغط على النخبة العسكرية للانقلاب فجأة على اليسار ومع ذلك فإنه حينما ضغطت الحكومتان (البريطانية والأمريكية) على النظام لاتخاذ إجراءات قاسية ضد الشيوعية كانت النخبة العسكرية محتاجة فقط إلى بعض الاقتناع بينما هي كانت لديها الرغبة الواضحة في استئصال شأفة الشيوعية ومن ثم طلبت المساعدة من الولايات المتحدة وبريطانيا حيث كانت تهديد الطبقة العمالية وما نجم عن ذلك من اضطرابات في كفر الدوار دافعا لأن يلوذ الضباط بالسفارتين الأمريكية والبريطانية طلبا للمساعدة في المعركة ضد الخلايا الشيوعية ورغم أن الضباط أخبروا سفارة الولايات المتحدة بأنهم يشكون في تورط الوفد في إثارة الاضطرابات فإن المدانين والذي تقابل محمد نجيب معه كان شيوعيا.

كذلك فإن استفحال العداوة المتبادلة بين الحركات الشيوعية المتباينة قد ألقى بآثاره في صورة انقسام استراتيجي وعقائدي والتنافس من أجل الكوادر كما حرم اليسار من أي فرص حقيقية لتحدي ترسخ الحكم العسكري.

ومن المعروف أن المجموعات الشيوعية رحبت بالانقلاب بدرجات مختلفة وبحذر إلا أنه خلال أسابيع من الانقلاب قامت اثنتان منهم هما الحزب الشيوعي المصري والطليعة العمالية بوصف القائمين عليه بالرجعية.

وكان الأمين العام للحزب الشيوعي المصري فؤاد مرسي قد وصم حركة الجيش بأنها خدعة كبرى.

أما الطليعة العمالية والتي كانت مقربة من اليسار الوفدي فقد نظرت في البداية إلى سياسة النخبة العسكرية تجاه الوفد والإصلاح البرلماني على أنها اختبار لأوراق تقديم الضباط وقد قرر حلمي ياسين أحد زعماء الطليعة أن السجناء الشيوعيين بسجن الهايكستب قد رحبوا بأخبار الانقلاب، ولكن من غير راحة.. وأن أعضاء الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني والذين استقبلوا التفاصيل من الخارج، قاموا بالتهليل وحينما أطلق سراح حلمي ياسين في 28 يوليو بموجب قرار العفو العام نصحه أصدقاءه بالاختفاء حتى تتضح معالم نية الجيش ثم كان قرار النخبة العسكرية بعدم عودة زعماء الطليعة المثيرين للمشاكل بالبرلمان.. ومن هنا وصف الحركة الانقلاب أو بالأحرى النخبة العسكرية بأنها فاشيستية ومحمد نجيب بالديكتاتور.

واعتقدت الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني والتي كان لها عضوان في المجموعة الانقلابية هما خالد محيي الدين ويوسف صديق أن التعاون مع الضباط الأحرار سوف يستمر.


وعندما انقلب النظام على اليسار عامة وعلى الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني خاصة قامت الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني بترشيد نشاطاتها متذرعة بأمل أن الحريات المدنية سوف يتم إقرارها وأن القبض على الكوادر سوف يتوقف حينما تستقر الحالة في الدولة.

وفي الحقيقة فإن الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني قد عانت خلال السنة الأولى من حكم الضباط الأحرار من الهجوم المضاد الذي شنه النظام على الشيوعيين وتحسروا لأن الضباط فتحوا أبواب السجن السياسي.

واستجابة لشكاوي البريطانيين والولايات المتحدة قام الضباط بالقبض على أعضاء الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني في مدينة المنصورة في أوائل أغسطس.

وفي ذات الوقت استمر ناصر وأعضاء آخرون من النخبة العسكرية في الاتصال بقادة الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني كما دعوا أحمد فؤاد لحضور المناقشات الخاصة بالإصلاح الزراعي تلك المناقشات التي حضرها أيضا كل من أحمد أبو الفتح وراشد البراوي كما كلفوا أحمد حمروش بتأسيس جريدة شهريه هي (التحرير) والتي ارتكزت مقالاتها على المشاكل الاجتماعية والأرض والتكدس السكاني والاهتمامات العسكرية والرواتب والشكاوي.

والغريب أن شنق عاملي كفر الدوار لم يتم الاعتراض عليه من قبل كل اليساريين، ولم يثر تغييرا يذكر في اعتقاد الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني تجاه النخبة العسكرية بل أعلنت الحركة أن المضربين عملاء للإمبريالية وأنهم رجعيون ومن ثم وعد الضباط زعماء لحركة الديمقراطية للتحرير الوطني بتخفيف الأحكام، بيد أن ذلك لم يحدث حيث أنه في أول اضطرابات قامت السلطات بالقبض على ما بين 30و 40 فردا من كوادر الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني.

وتدريجيا وجدت الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني نفسها تندفع إلى المعارضة وفي أكتوبر نحى أحمد حمروش من رئاسة تحرير جريدة التحرير وحل محلة ثروت عكاشة الذي تلقى تعليمات بمراقبة النغمة الحمراء في الجريدة بينما شارك حمروش بأحد الأعمدة، كان يوقع عليها بالحروف الأولى من اسمه وأخيرا ارتطمت الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني بالنظام عقب حل الأحزاب السياسية وإلقاء القبض على حمروش وبعض الضباط الساخطين وفي 25 يناير أعلنت الحركة أن محمد نجيب هجر التزامه للشعب وخلع الحجاب ليعلن عن الوجه الفاشيستي عبر شنه سلسلة من الاعتقالات كما أنهم زعماء الحركة النخبة العسكرية بمحاولة تحويل مصر إلى سجن كبير.

وقد استمرت الحرب ضد الشيوعية خلال 1953 وبقي النشاط الشيوعي السياسي محصورا داخل الجامعات ومنظمة اتحاد التجارة والمطبوعات الدعائية السرية وفي 18 يناير صدر مرسوم عسكري بعدم نشر الصحف والجرائد المخترقة بواسطة الشيوعيين وإن ظلت المنشورات وبعض الجرائد تجد طريقها إلى المصانع والشوارع وأحيانا إلى باعة الجرائد.

وخلال هذه الفترة كان الأدب الشيوعي يستند على عدة ثوابت كان أبرزها أن مجلس قيادة الثورة يعتبر بمثابة (ديكتاتورية عسكرية فاشيستية) أو أنه (عصابة فاشيستية) أو (عملاء للإمبريالية).

وقد كانت هناك مخاوف من أن حملات الاعتقالات ومصادر أدوات النشر قد تقابل بمظاهرات شيوعية بين العمال والطلاب وتجدر الإشارة إلى أن غالبية الاعتقالات قد جاءت على موجتين:

ففي مارس وأبريل 1953 وقبل زيارة (دالاس) استهدفت السلطة الحزبية الشيوعي المصري وتعبر هذه هي المرة الأولى التي تورطت فيها الحركة بصورة خطيرة طبقا لما أعلنه أحد مسئولي السفارة الأمريكية .. فقد كانت انشط تحركا في عملها الدعائي.

ووعد ناصر الأمريكيين بأن يكون الدور على الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني وقد وفي بوعده في موجة الاعتقالات التي بدأت في أغسطس واستمرت خلال 1953 والتي ضمت حوالي مائة من كوادر الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني بما فيهم كل أعضاء أمانة الحركة.

وفي الفترة ما بين يوليو 1953 وسبتمبر 1954 عرضت الحكومة معظم هؤلاء المعتقلين للمحاكمة ونظرا للسرية التي أحاطت بإجراءات المحاكمة فلم يكسب النظام سوى القليل من الناحية السياسية حيث نشرت الصحافة بدايات معظم القضايا فقد ولكنها لم تنشر سوى أخبار محدودة عن المتهمين وفي بعض الأحيان كان مراقب المطبوعات يسمح بنشر بعض الأسماء.

وإذا كان الضباط قد قرروا صبغ المحاكمات بالصبغة الشكلية فقط فإن تكتيكات الدفاع الغاضب جعلتهم يعيدون النظر في ذلك وكانت المحاكمة الأولى التي تم الإعلان عنها والتي تتعلق بـ25 عضوا من أعضاء الحزب الشيوعي المصري قد بدأت في 27 يوليو 1953 وقد قام محمد غانم مستشار الدفاع الرئيسي ومساعد سكرتير الوفد بتحدي شرعية المحكمة حينما طلب استجواب محمد نجيب وناصر وأعضاء آخرين من مجلس قيادة الثورة عن السبب في مثول هؤلاء أمام المحكمة بتهمة توزيع المنشورات وهو نفس ما قام به الضباط قبل الانقلاب...

وطبقا لما أوردته الصحافة فقد قرر الضباط في البداية قبول التحدي إلا أنه بدلا من ذلك تم الاستماع إلى شهادة مفتي مصر الذي أعلن أن الشيوعية مدمرة للدين والدولة ومن جانبها عارضت هيئة الدفاع ذلك على أساس أن موكليهم شاركوا النظام قضايا الإصلاح الزراعي والديمقراطية والجماهيرية.

وكرد فعل على تهديد الحكم العسكري طويل الأمد، سعت الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني لخلق جبهة وطنية من الحركات المعارضة بما فيها الوفد ومع ذلك وبسبب عدم مقدرة اليسار على التغلب على الخلافات المذهبية فإن التوحد أضحى هدفا وهميا حتى في مواجهة خصم كبير كما ازداد الانشقاق في ظل القمع الحكومي... ومن جانبها رفضت الحركة الشيوعية المتنافسة دعوة الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني للثقات إذ أن انتقاداتها للأرضيات الأيديولوجية لهذه الحركة سببت مخاوف لدى الأخيرة، هذه المخاوف كان لها ما يبررها في أواخر يونية إذ بعد رفض خيار الجبهة الشعبية دفع الأمين العام للحركة الديمقراطية للتحرير الوطني وبعض زملائه من ذوي النفوذ الحركة إلى تأسيس تنظيم منفصل أطلق عليه (التيار الثوري).

ورغم أن التعاون بين الوفديين والشيوعيين كان له جذوره على المستوى غير الرسمي فإن فكرة التحالف الرسمي بني الطرفين ظلت بعيدة وإن كانت حية. حيث كل حركة شيوعية كانت لها اتصالاتها وأوجه تعاونها مع الوفديين اليساريين.

أما التعاون بين الوفديين والحركات الشيوعية على المستوى العالي فقد تأكد ويمكن الاستدلال عليه من خلال ما أدلى به البعض إذ أعلن ذكي مراد (أحد أعضا أمانة الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني) قبل وفاته عن تشكيل لجنة مشتركة في أبريل 1953 للإشراف على النشاط المضاد للنظام.

وإذا كان إبراهيم فرج قد أنكر إجراء أية اتصالات على مستوى عال من الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني فإن ذلك يتناقض وحقيقة أنه هو ومحمد الغنام قد دافعوا عن الشيوعيين أمام المحكمة العسكرية.

وفيما تيعلق بالتعاون بين الطليعة الوفدية والطلبة الشيوعيين فقد اقتصر نطاقه على مظاهرات الحرم الجامعي والبث الدعائي.. وفي نفس الوقت فقد دافع تحالف الوفد مع الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني عن رد دستور 1923 كذلك فإن منشورا قد ظهر إحياء لذكرى إلغاء المعاهدة المصرية البريطانية (معاهدة 1936) دعم موقف الوفد البطولي وامتدح زعيمه الذي انحنى لإرادة الشعب وأطلق نيرانه ضد الإمبريالية متجاهلا إدانة الوفد أمام المحكمة العسكرية بالخضوع للقصر وإشعال الحريق الذي دمر القاهرة.

على أية حال فإن التحالفات الوفدية الشيوعية لم تمثل تهديدا للنظام إذا ما قورنت بالوفد والإخوان المسلمين.

العلاقات بين الضباط والإخوان المسلمين شقاق أم وفاق؟ إن الصدام بين النظام والإخوان المسلمين مر بعدة مراحل فارقة فخلال الستة شهور الأولى من حكم الضباط آمل الضباط في المحافظة على علاقات ودية مع الإخوان إلا أن ذلك الأمل اقترن بمزيج من الخوف والتفاؤل المشوب بالحذر حيث خافوا من قوة الإخوان في الشارع وأهليتهم للعنف، كما لم يثقوا بزعماء الإخوان الكبار لاسيما حسن الهضيبي ولأن صراعهم مع الأحزاب السياسية قد اشتد عقب ما حدث من سقوط 1952 فقد اتجه الضباط للتقرب من الإخوان على أمل التعاون مع الحركة وتكوين مجموعة من الأصدقاء من داخلها وقد ساعد الشاق داخل حركة الإخوان الضباط على اتباع استراتيجية (فرق- تسد) بصورة مؤثرة ومع ذلك حينما فشل التدخل في دفع تحالف الضباط مع الإخوان قدما أمر مجلس قيادة الثورة تقريبا بعد حوالي سنة من حظر الأحزاب السياسية –بحل الإخوان وقبض على معظم زعمائهم.

والحادث أنه بعد 23 يوليو عبر زعماء الإخوان عن تأييدهم العام للانقلاب لكنهم أنكروا صحة الشائعات المنتشرة ليست كلها بدون أساس عن روابط الإخوان بالضباط أما الهضيبي فشأنه شأن بقية زعماء الأحزاب وقف على الخط ليتقابل مع علي ماهر ومحمد نجيب وبالنسبة لكل منها حث المرشد العام على إطلاق الحريات المدنية وإطلاق سراح السجناء السياسيين والإصلاح الدستوري بالاعتماد بصورة أكبر على الشريعة الإسلامية.

وليس هنا شك أن الإخوان نظروا إلى النظام بفضول وإدراك إذ بعد عدة أيام من رحيل فاروق التقي ناصر بالهضيبي بمنزله ولاحقا أعطت هذه اللقاءات تفسيرات متباينة عكس كل منها إحباطات وشكوك جوهرية حيث قال الإخوان إن ناصر قال للهضيبي إن الضباط لا يعتبرون أنفسهم مدينين بالفضل للإخوان في حين قرر الضباط أن الإخوان اقترحوا تشكيل لجنة سرية لمباشرة صنع سياسة الحكومة الجديدة ذلك الاقتراح الذي رفضته النخبة العسكرية وبالنسبة للهضيبي المحتاط كان هذا الاقتراح بعيد الوقوع مثلما بدا مدلول رسالة ناصر بمثابة فصلا نهائيا للروابط.

وفي الحقيقة أنه خلال الشهور الأولى بعد الانقلاب بذل الضباط جهودا ضعيفة لإخفاء روابطهم السابقة مع محمد لبيب والإخوان ولاحقا لأن الحركات انفصلت فقد قلل الضباط اتصالهم وأخيرا تم طمس أي دور إيجابي للإخوان في التاريخ الرسمي للانقلاب ومع ذلك فإن الهضيبي ورفاقه القلقين من هذه العداوة قرروا العودة إلى الضباط ففي وثيقة عامة كتبت في 1أغسطس صرح مجلس الإرشاد بتأييده لحركة الجيش واقترح وضع أرضية سياسية للحكومة الجديدة كما حث الإخوان الضباط بالشروع في تطهير الأحزاب السياسية وبيروقراطية الدولة كذلك دافعوا عن الإصلاح في تطهير الأحزاب السياسية وبيروقراطية الدولة كذلك دافعوا عن الإصلاح الديمقراطي البرلماني ولكن رهنوا ذلك إلى أن يتم الإصلاح الدستوري معولين على أنه بدون ذلك سيكون الحديث عن أي حكومة تمثيلية (نيابية) لا معنى له..

كذلك حددوا ثلاث قواعد أساسية للتغيير السياسي هي إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإقصاء زعماء الأحزاب السياسية الفاسدين عن الحياة السياسية وتحسين الظروف التي أدت إلى القمع وفي مقدمتها الاحتلال البريطاني.

بالإضافة إلى ذلك فقد قام الإخوان بتوصيف الإجراءات اللازمة طبقا لوجهة نظرهم لتحويل مصر إلى مجتمع إسلامي حقيقي والتي تراوحت ما بين إصلاحات دينية معينة مثل تأسيس المؤسسا ت الخيرية وتحريم الربا وجعل المسجد مركزا للمجتمع وتعليم الدين بالجيش وبين السياسات الاقتصادية لزيادة المرتبات، واستصلاح الأراضي الزراعية والتصنيع.

وقد هلل الإخوان لدعوة الأحزاب للتطهير الطوعي كما أيدوا الإجراءات القاسية التي اتخذت حيال العمال المصريين في كفر الدوار واصفين إياهم بأنهم (أعداء الثورة).


ومع ذلك فإن تحفظات الإخوان على الإصلاح الزراعي وضعت الإخوان في خلاف مع الضباط ففي أغسطس استحسن مجلس الإرشاد فرض حد معين للملكية، وفجأة في أوائل سبتمبر وقبيل أن تصبح المسألة قانونا أبدى الهضيبي تحفظاته مقررا بأن الإخوان يقبلون من حيث المبدأ تحديد حقوق الملكية لكنه اقترح أن يرتفع الحد الأقصى للملكية من 200إى 500 فدان وباتباعه هذا السلوك أصبح الهضيبي في عيون الضباط لا يختلف عن علي ماهر وأصدقائه من ذوي الأملاك والذين يأسوا من الحيلولة دون الإعلان الوشيك عن الإصلاح الزراعي ومن ثم أرادوا أن يقللوا من خسائرهم برفع سقف الملكية.

ورغم تزايد شكوك الضباط في خداع الهضيبي فإن الإخوان كحركة لم تكن مشكلة وقد شعر الضباط بالاقتراب كثيرا من شباب الإخوان المنتمين إلى نفس جيلهم مثل حسن العشماوي وصلاح شادي وقد تعقدت المسائل كثيرا من جراء حقيقة أن هؤلاء الشباب الذين احتفظ الضباط معهم باتصالات كانوا يعدون من المخلصين المقربين من الهضيبي ولهذا السبب لم يحاول الضباط أن ينقلبوا على خصوم وأعداء المرشد العام، وإنما كان لديهم أمل في تقويض سلطة الهضيبي بواسطة العمل من خلا تحالفاته.

وإبداء للمشاعر الطيبة عرضت النخبة العسكرية ضم عدد من الإخوان في مجلس وزراء نجيب الأمر الذي وسع الشقاق داخل الحركة ذاتها وعمق من قلق الضباط وطبقا للتفسيرات الأساسية المتفاوتة ما زال من الصعب تجميع تفاصيل النزاع معا.

بيد أنه من الواضح أن الضباط أخبروا الإخوان بخططهم لطرد علي ماهر قبل ذلك بعدة أيام ولم يعين الهضيبي ولا هو قبل تعيين الضباط لكل من حسن العشماوي ومنير الديلا بالحكومة الجديدة ومن المعروف أن كليهما كان من رجال الهضيبي وفي نفس الوقت أصدقاء للنخبة العسكرية.

وتحت ضغوط المساعدين المدنيين تحديدا سليمان حافظ وفتحي رضوان الذين أقنعا الضباط بأنه لا العشماوي ولا الديلا خبرات مطلوبة لم يسحب الضباط عرضهم ولم يرفضوا ترشيحات الهضيبي.

ومن ثم قام رضوان بترشيح أحمد حسين الباقوري بوصفه زميلا قديما في الممارسة السياسية في الحرم الجامعي في سنة 1930 وباعتباره الشخص الذي كان مرشحا لتولي وظيفة المرشد العام بعد اغتيال حسن البنا وقد استصوب الضباط تعيين الباقوري وزيرا للأوقاف وكما تم تعيين أحمد حسني الذي كان صديقا للإخوان ولكنه لم يكن عضوا إخوانيا وزيرا للعدل.

وقد ترتب على التساؤل حول المشاكل في الحكومة الجديدة انقسام مجلس الإرشاد إذ تحت قيادة الهضيبي صوت المجلس ضد قبول تعيين الاثنين.

ولم يغضب أحد كثيرا لتعيين حسنى لكن تعيين الباقوري المنافسة القوى في مجلس الإرشاد أغضب الهضيبي وتسبب في طرده من الحركة ومن جانبه قبل الباقوري الذي لم يحضر الاجتماع قرار الطرد وألقى بنفسه في حلبة النظام الجديد وبوصفه شخصية دينية كان مقربة من حسن البنا فإن وجوده في الحكومة منح النظام درجة كبيرة من الشرعة حينما شن النظام حربا على الهصيبي والإخوان وسرعان ما التفت المعارضة الداخلية للمرشد العام حول جدلية وضع الإخوان السياسي وكان الهضيبي في مارس 1915 قد أحبط مجهودات أولئك الذين سعوا لعرقلة الانتخابات المخطط لها بواسطة رئيس الوزراء (آنذاك نجيب الهلالي ) والآن انتعش الجدل نتيجة لقانون إعادة تنظيم الأحزاب الذي أصدرته حكومة نجيب في 9 سبتمبر وأصر الهضيبي ثانية على أن الإخوان المسلمين لن يعلنوا عن أنفسهم كحزب سياسي متعللا بأن القيام بفعل ذلك سوف يجعل الحركة تحت الإشراف الحكومي أما خصومه فقد دعوا مؤيديهم إلى جلسة خاصة لمجلس الشورى الذي دعى للانعقاد في أواخر سبتمبر لمناقشة المسألة ثم انبثق تخالف أو تجمع أطلق على نفسه (الإخوان الأحرار) مناديا باستقالة الهضيبي وشركائه، كما اقترح لائحة جديدة مدة المرشد العام بـ3سنوات وفي 6 أكتوبر سلم الهضيبي استقالته وتقاعد بالإسكندرية وبعد يومين وتحديدا قبل ملأ استمارة مع وزير الداخلية لتسجيل الإخوان كحزب سياسي تم الضغط على الهضيبي من قبل مؤيديه.. ومن ثم عاد في الأسبوع التالي ليسحب استقالته متجاوزا مجلس الشورى وخصومة ثم سلم وأتباعه استمارة جديدة للحكومة تعيد تعريف الإخوان كتجمع ديني.

وفي البداية ونظرا لأنه صراع الضباط كان منصبا على الأحزاب فإنه لا طرد الباقوري ولا إعادة الهضيبي لسلطته قد أثر بجدية على الروابط بين النخبة العسكرية والإخوان بل أنه منذ منتصف أكتوبر تحركت النخبة العسكرية للتقرب من الإخوان بصورة أكبر إلى حد المشاركة المطلقة.

وفي 16 أكتوبر قامت الحكومة بالعفو عن كل السجناء السياسيين منذ 26 أغسطس 1936 وحتى 23 يوليو 1952 ولكن تصريح العفو لم يشمل أولئك المتهمين بقضايا كبيرة مثل الحريق الجنائي والاغتيال أو القتل ومع ذلك في بعض القضايا التي ارتكبت بواسطة الإخوان مثل اغتيال النقراشي وعثمان أمين أصدر النظام منها عفوا استئنائيا كذلك أعلنت الحكومة لاحقا إنها ستعيد فتح التحقيق في قضية مقتل حسن البنا.. وفي منتصف نوفمبر قام النظام بمساندة المرشحين من الإخوان في انتخابات اتحاد الطلبة بجامعة القاهرة ووقف ناصر بوصفه مندوبا عن رئيس الوزراء في منصة الخطابة مع حسن دوح مرشح الإخوان لرئاسة الاتحاد.

وفي ديسمبر رحب الهضيبي بإلغاء الدستور وفي يناير حدد النظام ثلاثة من الإخوان للتمثيل في لجنة الخمسين الدستورية اثنين منهم من أتباع الهضيبي هما حسن العشماوي ومنير الديلا، وأما الثالث فهو أحد خصومه ويدعى صالح عشماوي.

وهكذا أصبح من الواضح أن الحركة حققت درجة غير مسبوقة من الشريعة السياسية وقد أيد النظام هذه الوضعية حينما استثنى الإخوان من الانضمام إلى حلبة الأحزاب السياسية، إذ من خلال الطلب الذي قدمه الهضيبي في أكتوبر السابق عرف مجلس قيادة الثورة الإخوان بأنهم تجمع ديني وقد ظهر رد فعل الإخوان السريع في التأييد غير المشروط لاستيلاء الضباط على السلطة مباشرة وعلى أية حال فإن تعاظم تحالف مجلس قيادة الثورة مع الإخوان لم يدوم طويلا حيث أرست قوانين (مراسم) يناير قاعدة جديدة تعرضت العلاقات على أثرها للسوء سريعا إن زعماء الإخوان عبر ما أتيح لحركتهم من وضع اجتماعي سعوا لصبغ علاقتهم بمجلس قيادة الثورة بالصبغة الرسمية ولكن بمجرد سماع أخبار إلغاء الأحزاب السياسية شرع العديد من خصوم الهضيبي في الحركة بالتقرب من الضباط وطبقا للتاريخ الرسمي للنظام فقد اقترح هؤلاء الإخوان مرة أخرى تشكيل لجنة استشارية سرية للإشراف على التشريع بيد أن الضباط رفضوا ذلك حفاظا على مصداقية ثورتهم.. أما مصادر الإخوان فتؤكد على أن قوانين (مراسيم) يناير أخذتهم على غرة وأنهم تقربوا من الضباط بنوايا طيبة لتذكيرهم بأن الإخوان هي القوة الأكثر شرعية وشعبية في مصر وتبصيرهم بمزايا التعاون المشترك حتى لو ظل محجوبا.

وفي المقابل حينما حول مجلس قيادة الثورة إدراج زعماء الإخوان في هيئة التحرير انتقلت العلاقات إلى حالة من التنافس الصامت إذ اعتقد الهضيبي وخصومه على السواء أن الهيئة ما هي إلا تنظيم منافس الغرض منه إخضاع حركتهم لهيمنتها وقد انزعج الإخوان على وجه الخصوص من البيان القومي العلماني لهيئة التحرير.

وقبيل وفاته فسر عمر التلمساني (المرشد العام بعد الهضيبي) الموقف على النحو التالي:«إن تأسيس هيئة التحرير لم يكن في حد ذاته سببا لبرودة العلاقات بين حكومة عبد الناصر وتجمع الإخوان المسلمين وإنما كان السبب مجهودات ناصر المتكررة والدائبة لصهر الإخوان المسلمين في هيئة التحرير وأن الإخوان نصحوه بأن تنظيما مصطنعا (هيئة التحرير) لن يحوز الشعبية التي تنشدها الثورة.. وأنهم اقترحوا عليه أن يساعدوه في تشكيل الهيئة مفهومها وسلوك أعضائها وأن تقيم بنيتها التنظيمية دون عزل التجمع وانصهاره فيها».

وفي أغسطس 1953 أوفد مجلس الإرشاد أحد الأعضاء (البهي الخولي) بوصفه مستشارا دينيا للهيئة، لكن جانبا آخر منهم أخذ تعيين الخولي على أنه أمر خطير.

إن هيئة التحرير ظلت بالنسبة للإخوان رمزا ساطعا على استقلالية النظام وتفريغ الضباط لمحتوى التعاون بين الإخوان ومجلس قيادة الثورة أما الضباط فقد ألهبهم الاستقبال البارد للهيئة من قبل الإخوان ومع ذلك كافح الهضيبي ليحمي التحالف من الانكسار وأن يحتفظ للحركة بمكانتها المتميزة وأحد الأمثلة الدالة على ذلك هو استجابته للعروض البريطانية بمناقشة الشئون البريطانية المصرية في فبراير 1953، وعندما بدا التقارب بينه وبين (تريفور إيفانز) مستشار بريطانيا لشئون الشرق اتصل الهضيبي بناصر ومع قبول ناصر وإعطائه وعدا برفع الأمر إلى مجلس قيادة الثورة التقى الهضيبي و(إيفانز) في أواخر فبراير.

وقد استخدم الضباط هذه الاتصالات مع البريطانيين ضد الإخوان لاحقا حينما تحركوا لحظر حركتهم وتاليا حينما أرادوا تدميرها حيث أولوا الحادث بعيدا تماما عن محتواه كاتمين قبولهم للاتصال ولقاء الهضيبي لإيفانز، كما اتهموا الهضيبي بقبول تنازلات دبلوماسية لم يكونوا على استعداد لقبولها.

وبعد يوليو 1954 وحينما واجه الضباط انتقادا عاما بأنهم هم أنفسهم قدموا تنازلات حاولوا أن يقلبوا المواد على المعارضة معلنين أن الإخوان مساومين ضعاف.

وقد تجنب الهضيبي متحسبا أي ترويج عام يمكن تفسيره على أنه انتقاد للنظام وفي يوما حينما قادت الإحباطات الضباط من جراء عدم إحراز تقدم في المحادثات الإنجليزية المصرية إلى رفع شعار (الرفاهية الكبيرة) من جديد، قام الهضيبي بإحباط مجهوداتهم لجمع خصومه في الحركة تحت قيادة موحدة، وحينما اشتعلت العداوات في أواخر نفس الشهر شن غارة دعائية وأرسل على وجه السرعة فرق التحرير إلى منطقة القناة.

وأثناء امتناع الهضيبي عن الانتقاد العام للنظام كان يحتقر بوجه خاص قيادة الثورة، وهيئة التحرير وتدخل الجيش في الشئون الحكومية ففي مذكرة داخلية وزعت في منتصف العام طالب الهضيبي بوضع نهاية للقانون العسكري والرقابة على الصحافة كما حث الحكومة للاعتماد على التأييد الشعبي وليس إلى قوة القانون وفي مجادلاته مع مسئولي سفارة الولايات المتحدة عبر الهضيبي عن شكوكه في معقولية إعادة تجديد الكفاح المسلح ضد البريطانيين ورغم ذلك فقد أكد على أن الإخوان المسلمين مضطرين للمشاركة كواجب وطني وقد اعتبر الهضيبي الضباط وطنيين حميمين وارتأي أن مصر أن مصر تحت حكمهم أفضل مما كانت عليه تحت حكم الوفد لكنه أيضا عبر عن الإخوان سوف يكونون سعداء حال استبعاد العديد منهم.

ولم يقطع الضباط علاقاتهم مع المقربين لديهم من الإخوان والذين ظل العديدون منهم مخلصين للهضيبي ومع ذلك في أوائل 1953 بدأ الضباط يبنون علاقات مع خصومه مشجعين أياهم على استعادة الهجوم ضده وفي هذا الخصوص ظهر صالح العشماوي نائب حسن البنا والمرشح لخلافته كأقوى صوت معارضة في أصوات هؤلاء الخصوم وقد أتهم العشماوي الهضيبي وأنصاره بالفشل في الاحتفاظ بالسلام والتعامل مع روح حركة الجيش والإصلاح والتطهير الداخلي، وأكد العشماوي أن الحركة تحت حكم الهضيبي أصيب بالتدني والسكون إلى الأبد..

وكالمعتاد ذكر معارضو الهضيبي الإخوان بأن الهضيبي لم يكن ضمن دائرة البنا الداخلية على الإطلاق أو من خاصته كما طلب العشماوي وعبد الرحمن البنا أخو حسن البنا بمراجعة اللوائح للحد من سلطات المرشد العام وخلق الظروف الضرورية للحد من احتكار الهضيبي للسلطة في الحركة .. وفي اجتماع طارئ لمجلس الشورى في أوائل سبتمبر تساقطت الانتقادات على الهضيبي وقد ركز الاجتماع على علاقات الإخوان بمجلس قيادة الثورة وعلو وجه الخصوص أزمة المشاركة في الحكومة وتقرير عدم المشاركة في الحكومة والمناقشات مع المستشار البريطاني لشئون الشرق.

وقد أخبر صلاح سالم تريفور إيفانز أن مجلس قيادة الثورة وضع الهضيبي في موقف دفاعي وتنبأ ناصر بأن أتباع مجلس قيادة الثورة سوف يسيطرون على مجلس الإرشاد أما الهضيبي فقد قاموا اقتراح تحديد مدته بثلاث سنوات وأدى يمين الولاء لمدى الحياة.. ومن ثم أشار ناصر إلى أن نصر المرشد العام يعتبر عقيما معولا على أن مجلس الشورى منح مجلس الإرشاد سلطة نهائية.

وخلال هذه الفترة قام ناصر الذي كان منوطا بتوجيه العلاقات بين مجلس قيادة الثورة تقريبا بمفرده بعمل خطير مزدوج فمن ناحية شجع التنظيم السري على مناهضة الهضيبي من هلال عبد الرحمن السندي زعيم التنظيم السري ومن ناحية أخرى أوعز المستشار البريطاني لشئون الشرق بأن الهضيبي لا يعلم شيئا عن أعمال التنظيم السري وكان يهدف بذلك إلى إشعال الشقاق بين الإخوان بالطبع لصالح مجلس قيادة الثورة.

وكم كان دور ناصر شخصيا متعاظما في إشعال حدة النزاع بين الهضيبي والسندي ففي 19 نوفمبر قتل سيد فايز الرجل الثاني في التنظيم السري والمنقلب حديثا على معسكر الهضيبي من جراء قنبلة كانت موضوعة في علبة الحلوى سلمت إلى منزله وقد تركزت الشكوك في الموالين للسندي.

وكرد فعل على ذلك قام الهضيبي بطرد السندي و3 آخرين من الإخوان بعد 5 أيام وخلال الأسابيع الثلاثة التالية واجه الهضيبي بداية الثورة في حركته وفي النهاية وبتأييد من مجلس الشورى قام الهضيبي بطرد ثمانية من الإخوان تضمنوا صالح العشماوي..

كذلك ظل الهضيبي يكافح حتى يتجنب الشقاق وبعد مقاومة أصوات وأراء انعدام الثقة قدم المرشد العام عروضا إلى مجلس قيادة الثورة بهدف تحسين العلاقات بين الطرفين وفي نوفمبر تحديدا في الليلة السابقة على طرد خصومه قام باستضافة ناصر وآخرين من أعضاء مجلس قيادة الثورة على العشاء وفي الواقع لم يكن الضباط مهتمين بالتقرب من المرشد العام ولا هم كانوا عازمين على أن يروا خصومه يسودون، ويبدو لأول وهلة أنهم كانوا راضين على رؤية الإخوان متخاصمين.

وقد بلغت الانتقادات ذروتها في 28 نوفمبر حينما طوقت القوى المناهضة للهضيبي منزلة مطالبين إياه بالاستقالة وإلى هذا الحد تدخل ناصر الذي استدعى العشماوي وحذره من أن مجلس قيادة الثورة لن يتساهل مع عدم النظام وخاصة من قبل التنظيم السري.

ثم حاول ناصر التوسع في النزاع واقترح على الإخوان تشكيل لجنة من كل الفرق للبت في مظالم الإخوان المطرودين وقد دفع ذلك البعض للجدل بأن تدخل ناصر يهدف إلى تعضيد ومساندة العشماوي والإخواني المطرودين.

ولو كانت استقالة الهضيبي قد جاءت سريعا خلال الأزمة الناشبة فلربما رحب بها مجلس قيادة الثورة على وجه السرعة ولكن لكون الأزمة تم احتواؤها سريعا وأضحت نتائجها غير مؤكدة فقد ظل الضباط بعيدا ولم يساندوا المنشقين حينما حسمت وبدلا من ذلك أمروهم بالانسحاب. إلا أن الأمر الجديد بإثارة الانتباه هو أنه بعد أن أدى الهضيبي يمين الولاء وظل بالسلطة ظلت علاقات ناصر بكل الفرق قائمة.

وهكذا وفي منتصف ديسمبر ناقش مجلس قيادة الثورة لأول مرة خيار حظر الإخوان ولكونهم اعتبروا هذه الخطوة في غاية الخطورة فقد اعتمدوا على سياسة بث بذور الشقاق في الحركة.

أما قرار حظر الإخوان فقد أشار إلى تغيير فجائي في سياسة مجلس قيادة الثورة ويمكن القول إن التغيير في استراتيجية مجلس قيادة الثورة كان نابعا من نجاح الهضيبي في تأمين مركزه في قيادة الإخوان ورغم أن صالح العشماوي استمر في التنديد بزعامة الهضيبي فإن آخرين ممن اعتبرهم الضباط مؤيدين للنظام بدور من الصفوف القريبة خلف المرشد العام.

وعلى أية حال فإن إعادة تثبيت الهضيبي للسلطة حدث في توقيت غير مناسب حيث كان الضباط يخوضون مرحلة جديدة ومتشائمة من المفاوضات الإنجليزية المصرية كما توقعوا عدم انفراج وانتقادات عدائية من خصومهم ومما زاد الطين بلة أن فؤاد سراج الدين كان يدافع عن حزبه كبطل للكفاح الوطني أمام محكمة الثورة.

ولا شك أن مجلس قيادة الثورة كان يعرف بالمحادثات السرية التي جرت بين أتباع الهضيبي والكابتن محمد رياض نيابة عن محمد نجيب الأمر الذي أثار نفوز الضباط.

وتتنوع التفسيرات عن أي الجانبين بدأ المناقشات.. حيث يزعم محمد رياض أن منير الديلا وحسن العشماوي اتصلا بمحمد نجيب الذي أوفده للقائهم أما أحد مسئولي الإخوان ويدعي حسين حمودة فقد شهد أمام محكمة الشعب في نوفمبر 1954 بأن رياض هو الذي نقل في البداية عروض محمد نجيب للهضيبي وعلى كل حال فإن الهضيبي ونجيب لم يتقابلا على الإطلاق وأن المحادثات الاستكشافية بين نوابهم لم تسفر عن أية اتفاق.

ونظرا للتأزم الحادث بين الهضيبي ومجلس قيادة الثورة فقد قام الهضيبي باستبدال رئيس التنظيم السري (السندي) برجله يوسف تيلات، كما بدا واضحا أن الهضيبي لم يعد يرتأى حل النجاح الخاص، حيث دفعه ما تعرض له من ضغوط في إدراك قيمة وجود جبهة منظمة جيدا من الكوادر المخلصة وبالفعل قام صالح أبو ركيك وصلاح شادي بتوجيه الخلايا السرية في الجيش والبوليس كما عهد إلى تيلات بتطهير التنظيم السري من الموالين للسندي وتوجيهه بصورة مناسبة إلا أن الضباط لم يكونوا ليتساهلوا مع جناح مدني سري لا يعرف رئيسه الجديد نوعية اهتمامات الضباط.

وكان الشغب الحادث بين الطلبة الإخوانين وطلبة هيئة التحرير في جامعة القاهرة في يناير قد دفع مجلس قيادة الثورة لاتخاذ خطوات معتبرة.

وتذهب كل التفسيرات إلى أن طلبة هيئة التحرير هم الذين حركوا الحادث حينما قاطعوا اجتماع نظمه طلاب الإخوان لتأبين شهداء الكفاح الوطني من الطلبة ثم هبت العاصفة وأحرقت بعض العربات بما فيها تلك العربات التي كان يستخدمها طلبة الهيئة في مقاطعة التجمع وأشهرت الأسلحة بواسطة الجانبين.

وفي اليوم التالي ألقت السلطات القبض على زعماء الإخوان وقرابة 450 عضوا العديدون منهم كانوا ينتمون للجيش والبوليس وقد نسف السادات فيما كتبه في الجمهورية أولئك الذين يستترون برداء الدين، ومن غير المحتمل أن يكون مجلس قيادة الثورة قد خطط للإثارة إلا أن الضباط أصبحوا على قناعة بضرورة التحرك في اليوم التالي حظرت الحكومة الإخوان المسلمين تحت اللائحة التي حظرت على أساسها الأحزاب السياسية.

وقد كان ما حدث بمثابة غارة دعائية ضد الهضيبي وتحالفاته بصورة أكبر من كونه مجهودا مدبرا لتحطيم الإخوان.

ولذا نجد أن الانتقادات الرسمية والشخصية التي وجهها الضباط قد ارتكز على الهضيبي وسلطته المنحرفة وليس على أهداف الحركة كما ارتسمها حسن البنا وقد زادت اتصالات الهضيبي مع البريطانيين من الاتهامات الموجهة إليه كم تم التأكد على (أن الثورة لن تسمح على الإطلاق للرجعية الفاسدة بأن تراهن باسم الدين ولن تسمح لأحد بأن تراهن باسم الدين ولن تسمح لأحد بأن يتلاعب بقدر الدولة من أجل الطموحات الشخصية ولا استغلال الدين لخدمة الأهداف الذاتية ولا تعتقد أن قرار حل هذا التجمع يهدف إلى حل فكرته.. إطلاقا) كذلك قال حسين الشافعي للعمال في المحلة الكبرى (إن فكرة الدعوة الإسلامية لم تمت ولن تموت على الإطلاق).

وواقع الأمر فإن النظام ترك أبواب التعاون المستقبلي مفتوحة إذ بحلول نهاية شهر يناير أطلق سراح ما يزيد على مائة من الإخوان المعتقلين حديثا .. بيد أن مجلس قيادة الثورة أمر بإلقاء القبض على أولئك الذين كانت لديهم اتصالات بالجيش بما فيهم عبد المنعم عبد الرءوف وصلاح شادي كذلك تم اعتقال أعضاء مجلس الإرشاد الذين كانوا مقربين من الهضيبي وهذه المجموعة الأخيرة اشتملت على العديدين ممن عدهم الضباط وكلاءهم.

وفي 12فبراير الذكرى السنوية لقتل حسن البنا قام ناصر وأعضاء آخرون من مجلس قيادة الثورة بزيارة قبر حسن البنا وهناك وقف معهم عبد الرحمن البنا وصالح العشماوي وعبد القادر عودة، وزعيم التنظيم السري المطرود (السندي)، وهناك أيضا نعي ناصر مؤسس الإخوان المسلمين الذي كرس حياته لتمجيد المبادئ وفائدة الجميع وليس لطموحات دنيوية أو شخصية.

وقد حدد ناصر لزعماء الإخوان غير المسجونين ثلاث أسس لإصلاح الوضع القانوني للحركة هي: حل التنظيم السري والكف عن الدعوة داخل الجيش والبوليس والتطهير الداخلي من الهضيبي وتابعيه ولكن هؤلاء الزعماء لم يبتلعون طعم ناصر كما تجاهلوا عروض مجلس قيادة الثورة، وقاموا على الفور بإعادة بناء الحركة.

ولم تغلق الحكومة مجلة (الدعوة) وفجأة بعد 15 يناير شن صالح العشماوي هجومه على المرشد العام بينما طالب عبد القادر عودة الذي كان طليقا بإصرار بإصلاح الوضع القانوني للحركة وإطلاق سراح الإخوان المعتقلين ورغم أن حل الحركة والاعتقالات الواسعة للإخوان قد أثرت على وضعيتهم الاقتصادية فإنهم طبقا للمراقبين الأمريكيين استطاعوا لم خسائرهم والعودة بفاعلية إلى مشروعاتهم في فبراير أما المخابرات البريطانية فقد سربت شائعات عن وجود صدامات بين الإخوان والبوليس في الدلتا وفي الإسماعيلية حيث كانوا يعقدن اجتماعاتهم السرية.

في تقييم العلاقة بين مجلس قيادة الثورة والإخوان المسلمين والشيوعيين انبنت سياسة السلطة على الأهمية أو الجدوى الكبيرة بصورة أكبر من القرابة الأيديولوجية، ولا يمكن الجزم بأن الضباط الأحرار شاركوا في هذه الحركات أهدافهم، حيث لم يوافق الضباط الأحرار على النهايات المحددة التي سعت إليها سواء حركة الإخوان أو الحركات الشيوعية.

وقد شعر أعضاء الانقلاب المنتمين لهذه الحركات بالروابط الحميمة في حركاتهم بصورة أكبر مما شعر به زملاؤهم ..إذ أن كمال حسين وحسين الشافعي شعرا بروابط قوية تجاه الإخوان وإن لم يمتد هذا الشعور إلى زعماء الإخوان أنفسهم أما خالد محيي الدين ويوسف صديق فقد كانا ينتميان إلى الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني ويذكر أن الأخير كان يرى نفسه ممثلا للحركة الديمقراطية للتحرير الوطني ويذكر أن الأخير كان يرى نفسه ممثلا للحركة الديمقراطية للتحرير الوطني في الانقلاب وانشرخ عن زملائه في يناير 1953 أما خالد محيي الدين فلا.

ومن ناحية أخرى فإن غالبية أعضاء الانقلاب شعروا بقليل من الارتباط إن لم يكن قد شعروا بالعداوة تجاه إحدى أو كل هذه الحركات وذلك لكونهم نظروا إلى خيارات مصر السياسية من خلال إطار ضيق جدا وإذا كانت المؤسسة البرلمانية لم تتمكن من الحكم كما تقرر خلال الشهور الستة الأولى عبد 23 يوليو 1952 فإن الضباط شعروا بأن الجيش يجب أن يحكم الدولة.

وقد شكل الإخوان الشيوعيون تحديات مشابهة فكلاهما انتقد النظام القديم والذي بمشابهته بالضباط الأحرار- غلب خيار الحكم العسكري. أما الضباط فقد شعروا من جانبهم بأن دعوة الإخوان لنظام إسلامي وأخلاقي ودعوة الشيوعيون لتغيير البناء الاجتماعي سوف يؤدي إلى تذويب رسالة ثورتهم وقد مثل نقص تحمس الإخوان للثورة ومعارضة اليسار ضغطا على الضباط لكي يبرهنوا على أنهم حينما يمسكون بالسلطة سوف يستطيعون الإنقاذ في حيث لا يستطيع خصومهم وكان ذلك يعني فوق ذلك وضع نهاية تفاوضية للاحتلال البريطاني والانتقال إلى نظام برلماني نظيف ومستقر والتقدم بإزاء تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء في الدولة.

إن الضباط قرروا التعامل مع التحدي السياسي لكل من خصومهم بأساليب شديدة مختلفة وحينما فشل الضباط في طي الإخوان المسلمين تحت سلطتهم عقدوا العزم على أن يبذروا بذور الشقاق بين صفوفهم ذلك الشقاق الذي طغى على الحركة بالفعل وإذا كان الضباط قد نجحوا في ذلك إلا أن خصومهم الإخوان سرعان ما استردوا قوتهم وحينما قرر الضباط في النهاية حل الإخوان فإنهم لم يفشلوا في تحطيم روح الحركة فحسب وإنما أيضا أشعلوا عداوة الإخوان بصورة أكبر ضدهم.

أما فيما يتعلق بالشيوعيين فقد قام الضباط بشن هجوما سريعا حيث كانت الشيوعية في عيون الضباط تمثل قوة مدمرة حقيقية كذلك ارتأى الضباط أن ثمة أجندة خفية للشيوعية أيا غذت اضطرابات كفر الدوار شعورهم بالتخريب المحتمل من قبل اليسار وأخيرا فإن الضباط كانوا يعرفون أنهم سيكسبون التأييد الأمريكي إذا قاموا بكسر شوكة الشيوعيين ذلك العامل الذي ساهم في زيادة رغبتهم في هذا ولكنه لم يكن الأساس في توجههم المضاد للشيوعية.

إن المعركة ضد الشيوعية عبرت عن المزيد من الإحباط بصورة أكبر مما توقع مجلس قيادة الثورة وكان لطبيعة الحركات –الشيوعية- من حيث صغرها وتشرزمها وكونها أقل تمركزا من الإخوان أثره في أن يكون من الصعب عليها الاصطدام بالنظام وكم كان مفجعا بالنسبة لها أن تم اعتقال العديد من كوادرها وتقويض صحافتها المطبوعة وإلى حد ما فقد نجح النظام في الكيد للعديد من الزعماء الشيوعيين تاركا الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني في شقاق بحلول أواخر 1953.

وفي الحقيقة استطاع مجلس قيادة الثورة في مستهل 1954 تقييم تعامله مع خصومه الشيوعيين والإخوان بدرجة من الرضا إذ بالإضافة إلى تكريسهم لوصف المؤسسة البرلمانية بالرجعية أضاف الضباط فجأة في يناير (تجار الدين)... وقد ظلت الشيوعية تهديدا صامتا إلى حد كبير ولأسباب مبالغ فيها ربما وجدت جذورها في تحريض العمال والفلاحين ولم يقدم النظام على شن هجوما عاما على الشيوعية فقد أشارت التقارير الصحفية إلى المحاكمات والإعلانات الطارئة مثل شهادة المفتي في أغسطس 1953وإلى هجوم الضباط على هؤلاء الأصدقاء القدامى... وحتى قيام مجلس قيادة الثورة بتقويض الوجود للأحزاب السياسية كان على الإخوان أن يتصالحوا عامة وعلى الشيوعيين أن يتحطموا خاصة.

الفصل السادس

سر التسعة

إن صدامات الضباط مع القوى المتباينة شددت من تصميمهم على قرار حكم مصر بأنفسهم حيث دفعت مقاومة الإصلاح الزراعي وإعادة التنظيم الحزبي، وتردد شباب الوفديين في تأييد النظام في مسألة تطهير الحزب من الكبار سنا، والرسائل الصدامية للإخوان المسلمين المنشقين، والمجهودات التي بذلته الحركات الشيوعية في غير كلل في مواجهة القمع دفعت الضباط لإعادة تقييم وتوسيع طموحاتهم السياسية وقد اتخذ الضباط خطوات مبدئية في تحديد دورهم السياسي الجديد بتعيين محمد نجيب رئيسا للوزراء في سبتمبر 1952 وتعيين أعضاء النخبة العسكرية لتولى الوزارات الحكومية ثقة معينة تلك الثقة التي اقترنت بشكوكهم الزائدة في الساسة المدنيين والبيروقراط الأمر الذي جعلهم يقلعون عن الاعتماد على التغذية الاسترجاعية وتدريجيا أصبح الضباط يروون أنفسهم مؤهلين للشروع في إنجاز أجندتهم الإصلاحية.

والسؤال الآن .. ما هو الدور الذي تصوروه للجيش بوصفه كان الأرضية الحقيقية لتسييسهم وبؤرة العديد من المظالم الخاصة تلك المظالم التي أثارتهم للتحرك؟ وما هو الدور الذي تصوروه لحركتهم؟ وإذا كانت اللجنة التنفيذية للضباط فكيف يمكن توقع عودة الضباط للثكنات؟ ورغم شعور الضباط بالتوجيهات المضادة لحكمهم خاصة وأن زعماء حركة الضباط الأحرار قد تعهدوا مبكرا بأن الجيش كمؤسسة لن يشارك في السياسة فإن العديد من الأمور الملحة قد عضدت هذا القرار حيث كان الضباط على علم جيد بمدى انتشار وتنظيم حركة الإخوان المسلمين والحركة الديمقراطية للتحرير الوطني داخل هيئة الضباط وربما اخترقوا حركتهم ذاتها كذلك كان الضباط على علم بصعوبة التسييس المفاجئ لحركتهم.

وفي نفس السياق فإن الكثير من التفسيرات تعتبر غير كافية في تسليط الضوء على العملية التي من خلالها عزلت النخبة العسكرية نفسها عن جهاز الضباط إذ المعتاد في سرد هذه القصة هو سرد العلاقات المتصدعة بين محمد نجيب وزملائه الصغار في مجلس قيادة الثورة في ضوء أزمة فبرايرمارس 1954 حينما هددت الانشقاقات بوضع نهاية لحكم مجلس قيادة الثورة. ولا شك أن تلك النقطة المحورية مفهومة بيد أنه ينبغي تحليل ديناميكية العلاقات بين النخبة العسكرية وجهاز (هيئة الضباط) بصورة أعمق وأشمل تلك العلاقات التي آلت بصورة مباشرة ليس إلا قرار الضباط بتسييس الجيش فحسب وإنما أيضا إلى السيطرة على السلطة بأنفسهم وهذا ما سوف نناقشة في الصفحات التالية.

سر التسعة: في آخر أيام شهر يوليو 1952 أمر محمد نجيب القوات بالعودة إلى الثكنات، وعبر تعيين رئيس وزراء مدني والتقرير بعدم التواجد في الواجهة اختارت النخبة العسكرية في البداية دورا خلفيا للجيش في الحياة السياسية المصرية كذلك ركزت النخبة العسكرية على المظالم التي كانت سائدة بالجيش فيما يتعلق بأمور مثل العلاوات والمعاشات واحتياجات الأكاديمية العسكرية..إلخ.

وفي الشهور التالي ارتأت القيادة العليا الجديدة تقاعد 450 من جهاز الضباط (حينذاك 10٪ من جهاز الضباط) ولإخماد مشاعر الغضب التي سيطرت على هؤلاء المعزولين عين معظمهم في وظائف بيروقراطية في الدولة بينما ابتدعت وظائف للبعض الآخر برتب ورواتب مشابهة لما كانوا عليه الجيش.

وفي منتصف أغسطس طلبت النخبة العسكرية من محمد نجيب وأربعة آخرين هم زكريا محيي الدين وحسين الشافعي وعبد المنعم أمين ويوسف صديق الانضمام إلى صفوفها وقد أيدت اللجنة التنفيذية للضباط الأحرار القرار لتوسيع دائرة أصدقائها الموثوق بهم.

والحادث أن النخبة العسكرية كانت تنظر منذ البداية بعين الحذر لمنافسيها في جهاز الضباط ففي الفترة ما بين أغسطس وديسمبر 1952 كشفت المخابرات الحربية مجموعات عدة من الضباط الصغار والمتقاعدين المدفوعين بأوهام العظمة، وفي أواخر أغسطس تم القبض على حوالي 30 ضابطًا (منهم ضباط كبار متقاعدين) بتهمة تدبير انقلاب نيابة عن اللواء فؤاد صادق (قائد القوات في حرب فلسطين) ذلك الرجل الذي اعتبره الضباط زعيما صوريا ممكنا لحركتهم.

بيد أن النظام لم يقبض على اللواء صادق، الذي اعتقد أنه لا يعرف شيئا عن المؤامرة وإذا كان قد تم اعتقال ثلاثة ضباط كبار اتهموا بإثارة العصيان كإجراء احتياطي.

وفي نفس الشهر عزلت النخبة العسكرية العميد مصطفى كمال صدقي ذو الميول اليسارية، والذي كان قد نظم العديد من الخلايا في أواخر عام 1940.

وفي شهر ديسمبر تم القبض على حوالي 20 من ضباط القوات الجوية المتقاعدين.. وقد بنت النخبة العسكرية حجتها في القبض على هؤلاء الضباط في أنهم مغامرين طائشين تتدافعهم طموحات شخصية.

وفي هذا السياق فقد تزايد الغموض حول علاقة زعماء الضباط الأحرار بحركتهم الخاصة حيث إن الحركة رغم التكهن بكونها تتخذ من الديمقراطية أسلوبا لإدارتها لم تدار بطريقة ديمقراطية على الإطلاق حيث كانت اللجنة التنفيذية تمرر الأوامر بصورة فوقية إلى كل فرع من فروع الجيش كما لم يتخلى زعماء الضباط كلية عن القواعد المعمول بها بين رتب الجيش إلا أن شبكة التفاعل التي تكونت بين الفروع غذت الروح المعنوية للفريق ..وقد زهر هذا ماثلا بوضوح خلال الاجتماعات الطارئة التي عقدها الضباط قبل الثورة بمدة وجيزة، والتي اشتملت على بعض الضباط الذين لا ينتمون سواء إلى اللجنة التنفيذية أو إلى القيادة العملياتية، وما بدا من تنسيق للأنشطة خلال هذه الاجتماعات.... وبعد 26 يوليو أعادت اللجنة التنفيذية سيطرتها ووضعت نهاية مفاجئة لمثل هذا الجمع أما الاتصالات بين خلايا الضباط الأحرار فلم تتوقف رغم اعتقاد بعض أفراد النخبة العسكرية حدوث ذلك.

ولأن معظم أعضاء الثورة كانوا ضباط أركان حرب أو معلمين فإن اتصالاتهم بالرتب كانت محدودة ونتيجة لذلك عقد زعماء الضباط الأحرار العزم على الاتفاق مع طلبتهم الذين يخدمون تحت أمرتهم في فلسطين والذين أصبحوا يقودون وحدات في إقامة حصن الحركة...هذا الصف الثاني من الضباط والذي يصغر في السن عن أعضاء الثورة 5سنوات لعب دورا خطيرا ليلة الثورة حيث قادوا وحداتهم للتحرك بعد يوم واحد فقط من علمهم بخطط الثورة...

وبعد أن استقر الموقف بالإسكندرية وأبحر فاروق إلى نابلي رجعوا بوحداتهم ثانية إلى الثكنات .. ثم دب الاستياء بينهم بعد دخول الضباط الساحة السياسية ذلك الاستياء الذي غذته الشائعات بأن أعضاء النخبة العسكرية يعيشون كالباشوات ويجعلون من أنفسهم مشرفين على الضباط التابعين بالإضافة إلى بعض الأفعال الشائنة التي أشيع أنهم يرتكبونها مثل قيام صلاح سالم بمساعدة أخت فاروق على تهريب مجوهراتها وخطب السادات لود ناهد رشاد زوجة الدكتور يوسف رشاد الطبيب الخاص للملك فاروق.

وقد عبر ضباط الصف الثاني عن شكواهم بصراحة أمام عبد الناصر وآخرين من أعضاء النخبة العسكرية وعندما واجهت النخبة العسكرية هذه الانتقادات الحادة من الضباط التابعين توقفت النخبة عن كل الاتصالات المنتظمة مع خلايا الضباط الأحرار والتي أمرت بحلها.. إلا أن الاتصال بضباط الصف الثاني لم يتوقف كلية لأن قطع العلاقات معهم كان سيمثل أمرا غير حكيم بينما ظل الضباط الساخطون معترضون على سلوكيات أعضاء النخبة.

كذلك كانت مشكلة منبعها مواجهة منافس معروف سمح الضباط بصورة خاطئة بظهوره بعد الثورة وهو العميد رشاد مهنا، والذي كان يتسم بكبر سنة عن زعماء الضباط الأحرار وشخصيته الساحرة الملهمة لرجاله، والذي ساعد الضباط الأحرار في محاولتهم السيطرة على نادي الضباط في يناير السابق. .وعندما عرضوا عليه أن يكون عضوا رسميا في حركتهم امتنع ولذا وصفه الضباط بانعدام الثقة ورهافة القلب ومع ذلك عندما لم يتمكنوا من الاتصال بزملائه في العريش في ليلة 22- 23 يوليو قاموا بإبلاغ رشاد مهننا بعمليتهم فقام بحشد قواته لكنه حينما وصل إلى القاهرة في 25يوليو ووجه باستقبال صاخب من قبل وحدات المدفعية دق أعضاء الثورة أجراس الإنذار وقد اعترف عبد المنعم أمين أحد قادة المدفعية بأن دعاء رشاد مهنا إلى القاهرة ظانا أن الأخير ضمن المخططين للثورة.. ومخافة من دوافعه قامت النخبة العسكرية بتعيينه في مجلس النواب على أمل منحه وظيفة عالية وعزله عن وحداته.

وفي الواقع فإن رشاد مهنا لم يكن راضيا عن الدور الشرفي الذي تلقاه ولكنه اكتسب ميزة من مكانته العامة كما جذب اهتمام وسائل الإعلام، وأمر الذي أثار غيرة أعضاء النخبة العسكرية.

ويذكر أيضا أنه ظل محتفظا باتصالاته السياسية القديمة مع الإخوان المسلمين والحزب الاشتراكي كما ارتآه زعماء أحزاب أخرى شخصية جديرة بأن يتم التعاون معها وأنه رجل عظيم التأثير.

وكان النهج الذي اتبعه مهنا قد أثر على النخبة العسكرية في مسائل متعددة.. .حيث عارض الإصلاح الزراعي مبدئيا مؤيدا خيار ارتفاع المعدل الضريبي الذي اقترحه علي ماهر وفؤاد سراج الدين ورغم أنه أيد في النهاية خطة المائتي فدان فإن الضباط أخذوا موقفه الأصلي كحجة .. وفي منتصف أكتوبر 1952 وعقب الجولة الناجحة لمحمد نجيب في الدلتا اتهمت النخبة العسكرية مهنا بالتدخل في الشئون الحكومية وجزمت بأنه يتحدث عن الجيش ومن ثم قامت بخلعه.

وبسلوكهم هذا ضد مهنا، كان على الضباط أن يستجيبوا للضغوط المتزايدة من الدوائر المدنية المتعاطفة بتنقيح طبيعة دورهم السياسي.

ففي مقالة كتبها إحسان عبد القدوس ذات صلة بخلع مهنا أثار سؤالا أزعج حتى أولئك الذين كانوا يعرفون الإجابة.. هذا السؤال هو.. من المسئول عن حكم مصر اليوم؟ .. ولم يقطع عبد القدوس روابطه الودية بالنخبة العسكرية وإنما آمل بإثارته هذا السؤال بصراحة أن يحث أعضاء النخبة العسكرية أن يمضوا عموما وأضاف الكاتب.. إن قضية مهنا أثارت الارتباك داخل الدوائر الحكومية بخصوص دور النخبة العسكرية والسياسية التي يتبعها الجيش بصورة واسعة... وأن يدعي أنه عضو بالنخبة العسكرية ولو أن الجيش كان قد عاد إلى الثكنات فإنه سيكون شيئا واحدا ولكن لا شركاء محمد نجيب أصبحوا شخصيات سياسية فقد جادل عبد القدوس لأن من حق العوام معرفة هويتهم.

واستجابة لهذه الدعوة وفي حدث أبعد من هز صورة مهنا العامة قام الضباط فجأة بنزع حجابهم وفي اليوم التالي على إعلان النظام عن خلع مهنا كتب مصطفى أمين مقالة نشرت بالأخبار تحت عنوان (سر الضباط التسعة) أعلن فيها عن أن مهنا لم يكن منتميا إلى المجموعة التي نظمت الثورة، ولا هو لعب أي دور في قرارات الضباط المصيرية.

وقد قرر مصطفى أمين أن ناصر طلب المقالة مباشرة واستحسن نصها الأخير وعندما أثار الخبر عاصفة من المعارضة بين دائرة الضباط تراجع ناصر وأعطى مصطفى أمين تعليمات بسحب مقالته من المحررات الأخيرة.

ويوجه عام فإن أسلوب التعامل في موضوع مهنا ونذر التهديد النابعة الجيش ذاته قد وسعت الهوة بين النخبة العسكرية والضباط الصغار وإرساء مرحلة من الصدام الدراماتيكي، وفي أوجه عديدة الصدام التراجيدي بين الضباط الأحرار وزعمائهم.

وبالنسبة لمجموعة ضباط المدفعية الموالين لمهنا مثل طرد مهنا بواسطة النخبة العسكرية كل ما بقي في العلاقات بين القادة العليا وجهاز الضباط الخاص بها ولا شك حقيقة أن اثنين من أعضاء الثورة (صلاح سالم وعبد المنعم أمين) كانا ينتميان لسلاحهم... وقد وصف ضباط المدفعية المقربين من مهنا تبريرات طرد مهنا التي تعلل بها طاردوه بأنها جوفاء وعندما زار كمال الدين حسين المدفعية وتكلم عن مهنا قبل العديدون من الضباط كلمته ويزعم حمزة أدهم أحد المتآمرين قائلا ... «لأنني كنت أثق بكمال الدين حسين بصورة مطلقة فقد صدقت كل كلمة قالها عن رشاد مهنا...» وبالقرب من منتصف أكتوبر بدأ اتجاهه يتغير ففي أواخر أكتوبر بعد طرد منها بدأ أدهم ومحسن عبد الخالق وفتح الله رفعت في الاتصال بالزملاء الذين أعلنوا عدم راحتهم لمسار الأحداث وعلى صعيد آخر بدأت مجموعة صغيرة من ضباط المدفعية في الالتقاء أسبوعيا.

وفي البداية لم يبذل هؤلاء الضباط أي مجهود لإخفاء أنشطتهم وتقربوا علانية من النخبة العسكرية سعيا للتوسيط بين مهنا وخصومه ولأن المجمعة اتسعت فقد بزغت أفكار عن تشكيل العلاقة بين النخبة العسكرية وحركة الضباط الأحرار، واقترحت المجموعة على النخبة العسكرية تشكيل قيادة عامة تتكون من عشرة رجال منهم خمسة دائمون (ناصر- عامر – بغداد – كمال حسين-صلاح سالم) وخمسة منتخبين يمثلون الضباط الأحرار ومن جانبها رفضت النخبة العسكرية الاقتراح لكن ناصر قاد مجموعة ضباط المدفعية إلى تصديق أنه سوف يقبل.

ونظرا لإحباطهم من الوعود الكثيرة بدأت المجموعة في أواخر ديسمبر الحديث عن استخدام القوة وبالبحث عن تحالفات امتدت اتصالات المجموعة خارج سلاحهم وقد أشار عليهم زملاؤهم بسلاح المدرعات بالصبر.

وفي السياق ذاته تقرب محسن عبد الخالق أحد الزعماء من اثنين من الوزراء الوفديين هما: محمد صلاح الدين وعبد الفتاح حسن وعرض عليهما مناصب في مجلس الوزراء في الحكومة المقترحة إلا أنهما لم يكونا مقتنعين أما المناقشات مع الإخوان المسلمين والتي كان بعضها مع الهضيبي شخصيا بدت واعدة لكن مجلس الإرشاد رفض الوفاء بأي التزامات في هذا الصدد، واتهم عبد الخالق الهضيبي بأنه هز ثقتهم في ناصر.

وفي الواقع فقد ظل ضباط المدفعية غير متأكدين من أهدافهم العامة ومنقسمين حول تكتيكات مقبولة، كما أن حديثهم عن العنف اقتراحات إلقاء القبض على أعضاء الثورة وفرض قيادة جديدة تحت إمرة نجيب استبعد بعض أعضاء المجموعة وفي النهاية اتفق هؤلاء الضباط على إرجاء مثل هذه الخطط وبدلا من ذلك حاولوا المغامرة بخوض انتخابات نادي الضباط في يناير 1953 بعد عام من انتصار الضباط الأحرار والذي غلف برئاسة نجيب وعندما فاز مرشح المدفعية بمقعد في مجلس الإدارة قررت النخبة العسكرية أن تتحرك .. ففي 15 يناير تم الأمر بإلقاء القبض على 35 ضابطا اتهموا بالتآمر على قلب نظام الحكم ورغم أن رشاد مهنا لم تكن له اتصالات مباشرة مع الحركة فإن النخبة العسكرية حددت إقامته كنوع من الاحتراس.

وقد قوي هذا المعترك النخبة العسكرية ودفعهم للتأكيد على تسييس الجيش وتشجيعهم على اتخاذ قرارهم بالإعلان عن الثورة.

وبعد يومين من التحرك ضد متآمري المدفعية أعلن النظام عن إلغاء الأحزاب السياسية كما شن غارة السنوات الثلاثة من الحكم العسكري.

وحينما لم تؤد اللائحة الرسمية (القانون الرسمي) إلى إثارة مشاكل بالجيش بالقياس لما حدث من قبل الأحزاب فإن متحدثا باسم الحكومة ربط بين الاثنين.

إن مشهد التمرد بالقوات المسلحة أدى إلى إطلاق شرارة التحرك وقد زج الوفد بالنخبة العسكرية للخلف حتى الحائط بمنازعة قانون إعادة تنظيم الأحزاب في المحكمة وكان على الضباط أن يرجئوا تحركهم المصيري حتى بيت مجلس الدولة في الموضوع (كان مقررا للمجلس القيام بذلك في فبراير) وذلك حتى يتم إتاحة الوقت الكافي لمبايعة هيئة التحرير وتبدأ اللجنة الدستورية عملها وإعطاء أنفسهم فسحة لالتقاط أنفاسهم بيد أنهم عبثا تحركوا بعد أن وصلت الأمور إلى نقطة الغليان.

والآن هل كان هناك تمردا حقيقيا بالجيش؟... في الحقيقة كانت هناك مبالغة واضحة في الاتهامات التي وجهت إلى مجموعة المدفعية بأنها تآمرت للإطاحة بالحكومة لكن النخبة العسكرية كان لديها سبب مشروع في الخوف من المجموعة حيث قرر المستشار البريطاني لشئون الشرق (تريفور إيفانز)... (إن القيادة العسكرية العليا اعترفت بعدم وجود مؤامرة كاملة ومحبوكة، ومع ذلك ليس هناك شك في وجود مشكلة حقيقية تبدت مظاهرها في أن القيادة العسكرية العليا كانت في غاية القلق وأن المؤامرة لم تكن عذرا مناسبا لتذويب الأحزاب).

وبعد 23 سنة قرر عبد المنعم أمين أن: (لم يكن هناك مؤامرة.. وإنما عبر بعض الضباط بصوت مرتفع عن رفضهم لما كان يحدث وأنهم اعتقدوا أن مجلس قيادة الثورة لا يعدو أن يكون من ضباط مثلهم تماما لكن المجلس كان حساسا للغاية وخشية إحراز تقدما قبض عليهم).


وظل زعماء حركة ضباط المدفعية يجادلون بأنفسهم شكلوا لوبي (جماعة ضغط) معلن ولم يخفوا شيئا عن النخبة العسكرية لكن إحساسا متزايدا بأن أعضاء النخبة العسكرية بما فيهم ناصر شخصيا يلاطفوهم قاد بعض أعضاء المجموعة إلى مناقشة التحول إلى قوة.

ويعترف أحمد حمروش الذي لم يكن غريبا عن المؤامرة وأنه نفسه ضحية لما حدث بأن: (عند تحرك الضباط لفرض رأيهم لم تكن الأمور لتبقى داخل حدود المناقشة الديمقراطية بل أنها قادت إلى استخدام القوة).

أسرار اجتماع الست ساعات بين ناصر وسلاح المدفعية: وبعد عملية القبض على متآمري المدفعية واجهت النخبة العسكرية تحديات أكبر لسلطتهم إذ حينما ذاعت أخبار القبض هذه بين ضباط السلاح قام 400 ضباط من ضباط المدفعية بالجلوس في صالة الطعام، ورفضوا أن ينفضوا إلا بعد أن يتدخل ناصر شخصيا ويعدهم بالبحث والاستقصاء ذلك الوعد الذي لم يتم الوفاء به على الإطلاق وتلا ذلك تحديدا في 17 يناير قيام النظام بالأمر بالقبض على العقيد حسني الدمنهوري أحد الضباط الأحرار وقائد وحدات المدرعات في الصحراء الغريبة وقد اتهم الدمنهوري بتحريض سلاح المدرعات على التمرد ومن جانبه اعترف الدمنهوري بأنه خطط للقيام بمظاهرة وقد حكم عليه بالإعدام في جلسة خاصة أعدها أعضاء الثورة.

ومخافة أن يزداد اغتراب الجيش أجل ناصر وزملاؤه إعدام الدمنهوري ثم خفف الحكم إلى السجن مدى الحياة (ظل الدمنهوري بالسجن حتى عام 1958 ).

كذلك فإن 14 ضابطا آخرون تلقوا أحكاما ما بين سنة و15 سنة في ربيع 1953.

ويبدو أن اللين أصبح سمة مميزة لتعامل النظام مع انشقاقات الجيش، فالذين سببوا مشكلة سوف يقضون بعض الوقت بالسجن أو المنفى ثم بعد ذلك يطلق سراحهم ويتولون وظائف مدنية....وقد جاء الاختبار الأول لهذه الاستراتيجية والتي أثبتت نجاحا في شهر مارس 1954 حينما أطلق سراح ضباط المدفعية الذين اعتقلوا في يناير 1953 لكسب التأييد المعنوي في ظل إضراب سلاح المدرعات وفي ظل بداية التمرد في المدفعية وحاول النظام جاهدا البحث عن أي مصادر أخرى للانشقاق في الجيش ظهر هذا جليا في أن أحمد حمروش زعيم خلايا الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني حبس لمدة سبعة أسابيع دون تهمة وقد ألغت عملية القبض عليه قرار الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني بعدم الاصطدام مع النظام كذلك تم تجريد الجناح العسكري للحركة من السلاح بصورة مغالي فيها لدرجة أنه عندما حاول أحمد حمروش الاتصال بزملائه في الجيش فيما بعد وجد أن التنظيم قد انهار .. وبعد فترة وجيزة حلت الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني جناحها العسكرية بصورة كلية.

كذلك كان للشرخ الذي أحدثته المدفعية أثره على النخبة العسكرية في إشعال الصراع ورحيل اثنين من الأعضاء هما يوسف صديق وعبد المنعم أمين حيث آل مصير الأول إلى التقاعد أولا ثم إلى مغادرة البلاد في مارس 1953 أما الثاني فقد عرض الاستقالة من مجموعة الثورة ولكنه قاوم مجهودات إرساله إلى الخارج، وأخيرا وفي شهر أكتوبر قبل منصبا دبلوماسيا في أوروبا.

وفضلا عن إشرافهم على الإدارة الحكومية وقمع المعارضة فإن سلوك النخبة العسكرية بإزاء سلاح المدفعية قد رسخ الاعتقاد لدى مجلس قيادة الثورة بأن حكم مصر يتطلب صبغ القوات المسلحة بالصبغة البوليسية وأن احتكار المناصب القيادية على مستوى القمة سوف يؤدي إلى الحيلولة دون اتفاق الضباط صغار السن حول لواء مشهور، وهكذا يتم تجنب الاضطرابات في الجيش إن زعماء الضباط الأحرار عرفوا من خلال خبرتهم الذاتية الصعوبات التي تواجهها القيادة العليا المنعزلة في محاولة حفاظها على الولاء في ثكنات الجيش وبوصفهم ضباط أركان ومعلمين في كلية الأركان فقد كانت لديهم اتصالات شخصية طفيفة بأعضاء حركتهم في الفترة السابقة على الثورة والآن ظلت زعامتهم قائمة على الصف الثاني من الضباط، ولو أنهم فقدوا هذا الولاء كما حدث عما قريب في المدفعية فإنهم كانوا سيجبرون على السقوط إلى الخلف وغني عن البيان أن ممثلي مجلس قيادة الثورة في المدفعية (كمال حسين، وصلاح سالم، وعبد المنعم أمين) قد فقدوا المصداقية في الثكنات حيث طلب ضباط المدفعية الذين أضربوا في صالة الطعام بعد القبض على زملائهم الحديث فقط مع ناصر، ومن جانبه وعد ناصر بإعادة النظام لكن على خلاف قادتهم قبل عام كان يعلم هو وزملائه أنهم يجلسون في برميل بارود.

ومن خلال إصرارهم على أن يبقى الجيش خارج دائرة السياسة أخبر ناصر وزملاؤه على تعرية حركة الضباط الأحرار من وسائل الدفاع وتزامن مع ذلك حاجتهم لمجموعة من الضباط يمثلون مصدرا للثقة لقيادة الوحدات وكان ذلك يعني في أهم محدداته التحول إلى الأصدقاء القدامى والذين كان العديدون منهم ينتمون إلى الضباط الأحرار كما كان يعني التحول إلى الأشخاص الأقل ملائمة للقيادة كما نجم عن ذلك أيضا سيادة الخصومات والغيرة بين أعضاء من النخبة العسكرية بعينهم.

ففي شهر يونيو صدر أول مرسوم جمهوري بواسطة نجيب بتعيين عبد الحكيم عامر رئيس لأركان القوات المسلحة وهكذا رقى عامر إلى رتبة لواء بجرة قلم وهكذا أيضا ذاع القول بأن عامر تولى منصبه هذا لكونه كان مصدر ثقة لناصر وأن اختياره اختيار أي عضو من أعضاء مجلس قيادة الثورة أحيط بقد من الحنق من قبل الآخرين ونظرا لإدراك أن عامر صديقا ومصدر ثقة لناصر فقد وافقوا على وقف الاتصال بوحداتهم وسلموا السلطة كاملة لرئيس الأركان الجديد.

وقد سبب ترقية عامر تهيجا أكبر لدى الرتب الأعلى: إذ رغم أن القيادة العليا قد قامت بترقية 144 عما قريب (كانت المرة الأولى التي يتم فيه الترقية بعد الثورة) - رغم ذلك فإن الضباط المهنيين كانوا ساخطين من تولي وافد سياسي (عامر) لتولي الإشراف عليهم كما استقال قائد القوات الجوية.. ولتخفيفي وقع ترقية عامر سعى أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى معاملة قادة الأسلحة الكبار باختلاف حيث منحوهم درجة من الاستقلال الإداري.

وفوق ذلك فقد اعتمد مجلس قيادة الثورة على يقظة المخابرات الحربية تحت قيادة زكريا محيي الدين في درء الاضطرابات المستقبلية في الصفوف وبتولية وزارة الداخلية في أكتوبر 1953 استطاع زكريا محيي الدين التنسيق بفاعلية بين المخابرات الحربية والعمليات الأمنية الداخلية وقد تجلى نجاح محيي الدين في الديمقراطية للتحرير الوطني على إعادة تنظيم جناحها العسكري ولكن من مشهد هام آخر غفلت المخابرات الحربية ومجلس قيادة الثورة عن تنامي القلاقل داخل المجلس نفسه بين محمد نجيب والضباط وأثر ذلك على هيئة (جهاز) الضباط.. الأمر الذي جعل تركيز ناصر وزملائه ينصب على الموالين لنجيب عن قرب بينما تم تقليلهم من شأن التعاطف الذي تولد بإزاء نجيب بين الضباط الصغار.

برلمان الإثنى عشر إن الصراع على السلطة بين محمد نجيب وزملائه اشتد في الوقت الذي واجه فيه مجلس قيادة الثورة نتائج قراره بالتأكيد على سلطته المطلقة على الدولة كما أن توسلات إحسان عبد القدوس وغيره بخروجهم من الظل بدت الآن نصيحة إجبارية ومن جانبهم شرع الضباط في خلق هوية سياسية لأنفسهم معولين على أنهم إذا كانوا قد خسروا شعبيتهم لدى جهاز الضباط فإنهم ربما لا زالوا يحظون بهذه الشعبية لدى القطاعات المدنية وأن بإمكانهم الحفاظ على مكانتهم بالجيش ما داموا يتواجدون في مراكز القيادة العامة بيد أن هذا الإيحاء قد تلاشى فيما بعد في ضوء الضغوط التي تعرضوا لها في 1953.

ففي أواخر 1952 فطن المصريون في بادئ الأمر لظهور العديد من أعضاء الثورة في دائرة الضوء العام فبالنسبة للطبقة الوسطى أضحى صلاح سالم بسبب دوره في إدارة شئون السودان براعته الجماهيرية شخصية محورية قبل ناصر... وفي بعثة دبلوماسية إلى جنوب السودان في بداية 1953 كان لظهور سالم بمظهر ابن البلد ومشاركته في احتفال عام أثره في كسبه سمعة سيئة بوصفه (ضابط راقص) وبوصفه متحدثا باسم النظام بعد تعيينه وزيرا للإرشاد القومي في يونية 1953 ظل سالم أكثر شهرة من زملائه. وعندما خصصت المصري صفحتها الأخيرة في نهاية العام لأكثر الشخصيات تأثيرا عفي عام 1953 ظهر كاريكاتيرات سالم وناصر جنبا إلى جنب مع شخصيات مثل إيزنهاور ومولوتوف.

وكان اسم جمال عبد الناصر قد ذاع في دائرة الصحافة منذ 5أكتوبر أي في اليوم التالي لطرد رشاد مهنا من خلال عمود مصطفى أمين عن الضباط التسعة وبحلول شهر نوفمبر بدأت صورة تظهر عادة بجانب صورة نجيب ويشار إلى اسمه في العناوين وتصدر اسمه العناوين الرئيسية لأول مرة في أواخر ديسمبر 1952 بمناسبة انتقاده الحاد للسياسة البريطانية وبحلول العام التالي استطاع ناصر أن يحل محل صلاح سالم بوصفه أبرز عضو في مجلس قيادة الثورة بعد نجيب حيث أصبح صوره تظهر بصورة منظمة كما ألحق بنجيب كرمز للثورة وفي فبراير أصبحت خطبه مناطا للتغطية الصحفية.

وبحلول ربيع 1953 أصبح أعضاء مجلس قيادة الثورة الآخرون معروفين كشخصيات عامة وفي منتصف مارس وعند التبشير بهيئة التحرير أوفد الضباط كمبعوثين شخصيين على أقاليم وطنهم وفي أوائل أبريل شرعوا في القيام بتظاهرات عامة منظمة والتحدث إلى الحشود وفي المساجد وفي بادئ الأمر كان ينتابهم التعلثم أمام التجمعات العامة حيث يقرر بغدادي أنه خلال أحد لقاءات ناصر بالدلتا بصحبته ..(بعد أن تحدث ناصر قال.. ماذا قلت؟ لا أعرف بالضبط ماذا قلت؟.... فقلت له رائع وبعد ثلاثة سنوات كان يستطيع التحدث لساعات لكن في البداية كان هكذا تحدث لمدة 5دقائق وقال كلمتين في جملتين وحينما توجه إلى قائلا إنني لا أعرف بالضبط ماذا قلت قلت له رائع).

ولأن العداوة قد نجم عنها مجموعة من المشاكل فإن الشهرة كادت أن تبلغ مبلغها كما أن الصحافة التي بشرت بتحالفات مجلس قيادة الثورة كانتصارات ابتكرت كاريكاتيرات هجومية ودية عن الضباط ومع ذلك لم يتقبلها الجمهور بحرارة، كذلك تأرجحت الشائعات حول الضباط بين الكفاح والتنافس على قيادة الثورة تلك الشائعات حول الضباط بين الكفاح والتناسق على قيادة الثورة تلك الشائعات التي لم يستطع الضباط السيطرة عليها والتي كانت تنطوي على قدر كبير من المصداقية.

وفي لقاء جرى في أواخر نوفمبر 1953 وصف ناصر مجلس قيادة الثورة بأنه برلمان صغير يتكون من 12 عضوا يحملون ثورة الجيش على أكتافهم كما أكد على أن كل عضو في المجلس له صوت متساو بما فيهم رئيس الجمهورية.

وفي الحقيقة فإن ناصر من خلال قوة شخصيته الصرفة وذكائه السياسي المطرد استطاع السيطرة على رفاقه وقادهم إلى اتجاهات اعتقد أنها الأحكم وكان من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى ظهور انقسامات في نخبة الثورة الحاكمة بما لذلك من دلالة على الفشل في احتفاظهم بتماسك الروح المعنوية وربما كان احتفاظهم بالتماسك ظاهريا مرده الخوف من أن يقوم أعداؤهم.

قصة اعتقال اللواء محمد نجيب: بالنسبة للضباط فإن نجيب الشخص الذي منحوه قيادة حركتهم أصبح شغوفا بالشعبية وتغلبه الرغبة في حكم الفرد وقد أصر الضباط واستمروا مصرون على أنهم هم الذين صنعوا نجيب وأنه انقلب عليهم في محاولة لاحتكار التأييد الشعبي.

أما الإنكار العام فقد بدأ في 25فبراير 1954 حينما قال مجلس قيادة الثورة للأمة أن نجيب الذي لم يلعب دروا على الإطلاق في حركة يوليو سعى الآن لحيازة سلطات ديكتاتورية على المجلس الحاكم وبعد سقوط نجيب في نوفمبر التالي قلل التاريخ الرسمي من دوره إلى درجة انعدام القيمة.

وفي السنوات القريبة أثير الكثير من الجدل حول صورة وشخصية نجيب ما بين فريق يرى أنه اللواء البطل الذي تصدى لميول ناصر الطغيانية وأنه ضحية للخداع والمحارب الوحيد من أجل الديمقراطية والحريات المدنية وفريق آخر يرى غير ذلك ولكن في التقييم العام لا هذا الفريق ولا ذاك يعكس بالضبط الموقف الحقيقي لنجيب في المجموعة ودوره في المسائل الحيوية المتنوعة التي واجهت مجلس قيادة الثورة والتي قادت إلى انعزاله وإقصائه.

إن تقليل الضباط من دور نجيب في حركتهم عكس عدم إحساسهم بالطمأنينة بصورة أكبر من أي مجهود بذله نجيب لكسب ثقة لا يستحقها على تصرفاته وفي الحقيقة فإن الضباط تقربوا من نجيب وعرضوا عليه زعامة حركتهم ثم طعنوه لكن نجيب لم يلعب دروا سلبيا على الإطلاق أنه وافق على قيادة مرشحي المعارضة في انتخابات نادي الضباط في أواخر 1952 كما شارك على الأقل في إحدى الجلسات الاستراتيجية مع زعماء الضباط الأحرار في يناير 1952 وبعد السبت الأسود حينما ناقشوا خططا جادة من أجل القيام بثورة وبرغم من أنه أي نجيب لم يساهم في تنظيم الثورة فقد اتصل به الضباط مقدما لإخباره بخططهم وحينما استعادوا قواتهم ثم اختفاؤه بذكاء بالإسكندرية.

وفي البداية لم تختلف رؤى نجيب السياسية عن تلك الرؤى التي كان يتبناها زملاؤه الصغار ولم يكن نجيب كما يزعم البعض الآن المدافع الثابت عن الديمقراطية إذ عبر مشاركته الضباط الصغار كراهية النظام السياسي لم يكن انعدام ثقته بزعماء المؤسسة بأقل منهم كذلك فإنه قبل دور الجيش الموقوت كأمين على السلطة حتى يعيد النظام السياسي تشكيل نفسه كما لم يمانع عملية إعادة تنظيم الأحزاب أيضا ساند الإصلاح الزراعي وبارك شنق عمال كفر الدوار كما رحب بإقصاء رشاد مهنا الذي لم يكن منافسا له وحده.. وفي يناير 1953 بمباركة كل زملاءه أمر بالقبض على ضباط المدفعية وحل الأحزاب السياسية وقنن حكم إعدام الضباط المنشق (الدمنهوري).

ولا شك أن الاختلاف الجيلي بين نجيب وأعضاء مجلس قيادة الثورة كان له أثره الفعال على تداعيات العلاقة بين نجيب وبنينهم إذ منذ البداية كان نجيب والذي كان يبلغ من العمر 53 سنة بمثابة الشخصية الأبوية للضباط الصغار مثلما كان بالنسبة للأمة كلها.

إن سيرة نجيب وسلوكياته العامة تعكس صورة رجل مهذب ينفخ البايب، ويتسم بالحزم مزهوا بزيه كما أن حبه للبلد منحه صيتا وشهرة وكان يبدو بسيطا متواضعا أمام الجماهير كما كان لطيفا ومحنكا في تعامله مع أشخاص النظام القديم حتى أولئك الذين أمر باعتقالهم منحهم التوقير المناسب باعتبارهم ساسة وذلك على خلاف ما صوره البعض من فظاظة.

وأيما كان الأمر فليس هناك خلاف على أن نجيب قبل الدور الذي خصص له في دعة وليس أدل على ذلك من أنه لم يبذل أدنى درجة من التملق السياسي للإمساك بمنصة العام كما أنه ارتضى حكم الأغلبية من خلال نخبة الثورة كذلك فإن أحدا لم يقل أنه قاوم ظهور الآخرين في دائرة الضوء العام أيضا بلغت ثقة الضباط به درجة لم يبلغها أي من زملائهم القدامى ومع ذلك تبدل الحال وأصبح انعدام ثقتهم في أكابرهم ساسة وضباط حتى قيل أنه زعيمهم الذي اختاروه وقد كان لمحمد نجيب نفسه دورا في ارتسام صورة معينة لنفسه سرعان ما استهجنها زملاؤه الصغار. إن الطموحات الظاهرة للضباط الصغار، وخاصة ناصر عظمت اختلافاتهم مع نجيب وتمثلت خطيئته الكبرى في عيونهم في مقدرته على تدعيم شعبيته بينما كان الوضع السياسي والاقتصادي في الدولة فاسدا صحيح أنه ساهم في التصدي للعمال والطلبة بيد أنه أعلى من صورته العامة إلى الدرجة التي رفعت هذه الصورة فوق الأحداث وجعلته يحاول قدر الإمكان أن يحافظ عليها من الشوائب وهذا وقد ظهر الصراع داخل مجلس قيادة الثورة في ذلك الوقت الذي فشل فيه الضباط الصغار في تحريك التأييد العام وبناء أيديولوجية لثورتهم وتقرير إجراءات أشد قسوة نحو المعارضة.

ولم يلعب نجيب على الإطلاق دورا سلبيا في هذا الصراع وإنما استشعر المعركة مبكرا وبدأ يناور من أجل مكانته وقد أصبحت قضية الزعامة ملهبة بحلول ربيع 1953 حيث بدأ مجلس قيادة الثورة تتبع ومراقبة تحركات وتصريحات نجيب العامة التي كانت تتعارض والمجلس ذاته كذلك فإن نجيب تسبب في إثارة زملائه حينما قال لمراسل أمريكا أنه رغم تصرف مجلس قيادة الثورة منفردا فيما يخص الوفاق الودي فإن القرار النهائي يظل في يده... ففي ضوء ذلك أعطى مجلس قيادة الثورة تعليمات للصحافة بمحو الإشارة إلى خطب نجيب لكونها طبقا لوجهة نظرهم –كانت مضادة للبريطانيين بصورة مبالغ فيها بيد أن نجب لم يقل شيئا لم يقولوه من قبل، ولكن مجلس قيادة الثورة- مع الأخذ في الاعتبار المفاوضات القادمة قد تعهد بالتخفيف من حدة بيانه.

في حين أن نجيب الذي كان يلعب على وتيرة الجمهور لم يكن ليضع نصب عينيه ذلك.

وثقة في شعبيته أضحى نجيب أشجع ما الضباط الذي كانوا قد ترددوا في تعيين نجيب رئيسا فقد أجلوا إعلان مصر كجمهورية في مايو وحينما عارض بارزون أمثال لطفي السيد كان لدي مجلس قيادة الثورة خيارات محدودة، وبالموافقة على تعيين نجيب حاول الضباط دون نجاح إقناع نجيب بالتنحي عن رئاسة الوزراء وفيما أصبح تكتيكا هزليا تملص نجيب من زملائه رافضا مغادرة مسكنه (مجلس الوزراء) حتى لأن الضباط أيضا عارض نجيب دخول أعضاء مجلس قيادة الثورة مجلس الوزراء مثلما عارض مسألة ترقية عامر ولكنه رضخ لهذه الأمور.

وفي شهر أغسطس قام نجيب بالحج إلى مكة.. وطبقا لرواية السفير البريطانية بالرياض قام الحجاج المصريون بلصق صورة في شوارع مكة الأمر، الذي أسف له مضيفوه، وحال عودته وجد زملاؤه في مجلس قيادة الثورة أنه أقل ميلا للخضوع لرغباتهم حيث اعترض على تشكيل محكمة الثورة وحبس النحاس في منزله كما اعترض على حكم الإعدام الذي قنن لإبراهيم عبد الهادي كذلك انتقض قرار محاكمة فؤاد سراج الدين وبعد أن نفذ حكم الإعدام المشار إليه غادر نجيب القاهرة محتجا وقد لحق به كل من ناصر وعامر و زكريا محيي الدين إلى الإسكندرية وأقنعوه بالعودة وفي غيابة عين مجلس قيادة الثورة صلاح سالم و زكريا محيي الدين بالمجلس والذين لم يؤديا اليمين الرسمي أمام الرئيس. وكرد فعل على ما حققه نجيب من صدارة في مكة وسلوكه الاستقلالي الجديد تحرك أعضاء مجلس قيادة الثورة لعزله عن الضباط الموالين له، وكان العقيد أحمد شوقي أول الضباط الذين تحرك مجلس قيادة الثورة ضدهم في الشهور التالية نظرا للصلة الوطيدة بينه وبين نجيب.

ويذكر أن ناصر هو الذي تزعم حشد مجلس قيادة الثورة ضد نجيب وقد بدت كراهيته لنجيب طبقا لرؤية المراقبين في ربيع 1953 إذ خلال هذه الفترة تحرك ناصر لتأسيس سلطته على الحكومة ورفاقه في المجلس الحاكم وفي يونية أصبح نائب رئيس الوزراء ومن خلال عامر وزكريا محيي الدين مارس سيطرة شخصية على الجيش وجهاز المخابرات وبينما استمر مجلس قيادة الثورة في هيكلة برلمان صغير لعب ناصر دورا بارزا ف صنع السياسة بصورة أكبر مما كان عليه في اللجنة التنفيذية للضباط الأحرار .. وكذلك فإن ناصر قام بإدارة علاقات مجلس قيادة الثورة بالإخوان المسلمين وفي الستة شهور الأولى من الحكم عهد ناصر إلى أعضاء آخرين من نخبة الثورة بإجراء اتصالات شخصية مع والولايات المتحدة والبريطانيين وحينما اقترب موعد المفاوضات البريطانية المصرية في مايو 1953 أضحى ناصر في عيون الأمريكيين المحرك الأول للنظام.

وفي صراع الإرادات بين ناثر ونجيب كان من الطبيعي أن يكون تعاطف الضباط الآخرين مع أول خاصة وأنه أقنعهم أن غيرته وحماسه هي من أجلهم.

وفي شهر ديسمبر شرع ناصر في تقرير أمرين هامين في مجلس قيادة الثورة تلا كل منهما الآخر هما تهيئة مركزه في المجلس وعزل نجيب وفي البداية اقترح إمكانية عقد اجتماعات المجلس دون تنسيق مسبق مع نجيب ومن ثم إمكانية مواجهته كجبهة واحدة ثم استطاع ناصر كسب قبول رفاقه على إنجازه قرارات خاصة بصنع السياسة دون استدعاء المجموعة حيث فهم الضباط أنه سوف يسترشد برأي كل فرد على حدة دون الحاجة إلى عقد جلسة رسمية.

وعلى خلاف تعاملهم مع نجيب أعطى الضباط ناصر ثقة منحته مثل هذه السلطة حتى أن معظمهم لم يكن يدرك أن في ذلك تهديدا لمكانتهم وطبقا لرواية البغدادي لم يحتج أحد سواه وصلاح سالم دون تأييد لنجيب أما جمال سالم الذي كان أكثر ميلا لاستنكار احتكار ناصر للسلطة فلربما قبل هذه الخطوة كتكتيك لعزل نجيب الذي شكل تهديدا أكبر في عيونهم.

وقد ظهرت رغباتهم في قبول زعامة ناصر بصورة واسعة من خلال الاجتماعات الليلية التي كان يعقدها مجلس قيادة الثورة وبوصفهم مشرفون على الوزراء أو هم أنفسهم وزراء وقضاه ومحررون وموظفون فقد تكاثرت أعباءهم حتى ناصر بغض النظر عن امتداد بصره للرئاسة كان يشكو من عمل مجلس الوزراء ويفكر في تعيين رئيس مدنيا للحكومة.

وبحلول عام 1954 فإن ناصر الذي كانت الكراهية محتدمة بينه وبين نجيب طبقا لرؤية المراقبين قرر أن يعزل منافسه عبر مجلس قيادة الثورة ويفصله عن المواطنين الموالين له، كما أصبحت العداوة بين نجيب والضباط أقل سترا حيث عارض نجيب الذي كان على اتصال بالإخوان المسلمين بالفعل حل الإخوان المسلمين في يناير وفي فبراير حينما أبدى الضباط احتراماتهم عند قبر حسن البنا قال ناصر لنجيب بحز –ألا يحضر.. وفي هذه المناسبة رضخ نجيب لكنه عرف بأن السقوط وشيك... وفي أواخر فبراير ناقش الضباط بجدية عملية إقصاء نجيب عن الزعامة ففي 21فبراير اكتشف محمد نجيب أن مجلس قيادة الثورة كان منعقدا بدونه، وبعد يومين سلم استقالته وعلى الأرجح فإن بوخز من المقربين منه خمن أن مجلس قيادة الثورة سوف يعيده ثانية.. إن نجيب لم يلعب أوراقه دون تعقل إذ بعد النزال العاصف في 21فبراير قرر الضباط أن يجردوا نجيب من رئاسة الوزارة، بيد أن استقالة نجيب قبلت الموائد عليهم وبنوع من التقهقر اختار الضباط أن ينقلوا قضيتهم للشعب وفي 25 فبراير أعلن مجلس قيادة الثورة أن الرئيس قضيتهم للشعب وفي 25فبراير أعلن مجلس قيادة الثورة أن الرئيس طاغية جوعان للسلطة وقبل استقالته.

لسنا ديكتاتوريين: تعتبر السنة الأولى للثورة هي ميقات البدايات الفاشلة والوهم والإحباط بالنسبة لمجلس قيادة الثورة فهل تم التغلب على النظام القديم؟ يبدو أن الضباط ظلوا غير متأكدين مثل أي شخص .. إن فؤاد سراج الدين وقف أمام محكمة الثورة ولكن من الصعوبة بمكان تمييز المدعي عليه.. كذلك فإن مشهد التراشق الشديد بين سياسي الحرس القديم جعل هناك ضرورة ملحة للقيام بالإصلاح السياسي لكن لم يتم فعل شيء لغرس الثقة في النظام الجديد.

وخلال عام 1953 استمر النظام في وعده بالعودة إلى الديمقراطية وقرر ناصر للمصري في أواخر نوفمبر أن محكمة الثورة أتمت علمها وقضت على الشائعات بأن الحكومة سوف تخفض سقف الملكية إلى 50 فدان قائلا.. (نحن لسنا ديكتاتوريين)... وبعد حوالي شهر قال للعمال في شبرا الخيمة.. (نحن لم نقم بالثورة من اجل أن نحكم ولكن البرلمانية وإعادة السلطة إلى رجال سوف يحكمون لفائدة مصر).

ومع ذلك فإن أفعال النظام أشارت إلى العكس إذا خلال هذه السنة ركز أعضاء مجلس قيادة الثورة السلطة في أيديهم وبحلول نهاية هذه السنة أصبحوا بالفعل برلمانا صغيرا ولكنه ظل معزولا عن القوى المدنية والعسكرية على حد سواء.

كذلك كانت الخصومة مع عامة الشعب دافعا لزيادة عداوة مجلس قيادة الثورة للتأثير الخارجي حتى مع كفاح أعضاؤه لخلق انطباع جيد مع العامة. أيضا كانت هناك مسرحية منح السلطة لنجيب في أواخر فبراير 1954، والتي جعلتهم في مأمن حتى بعد أن خططوا لتنحيته جانبا وما تلي ذلك من اشتعال أزمة مارس.

إن الضباط اصطدموا بالمعارضة في وفاء النظام بتعهده بإصلاح الحكم البرلماني وعدم الثقة في أهداف وطموحات الضباط ولأن الصبر على مجلس قيادة الثورة قد نفذ ولأن الشائعات عن الشقاق في الصفوف قد تفشت فإن المعارضة التفت حول شخص نجيب.

إن صورة نجيب كشخص أبوي وخير وقوي وأنه أول رئيس للجمهورية سيطرت على الوعي العام بينما وقف الضباط على الجانب يذكرون بأوقات الأمة العصيبة والحافة الصعبة للفترة الثورية.

وأصبح المراقبون الأذكياء يدركون حقيقة السلطة في المجلس الحاكم.

ومن جانبهم ارتأى الوفديون واليساريون والإخوان المسلمون والعديد من ضباط الجيش نجيب كشخص مفضل لحكم مجلس قيادة الثورة وفكروا في العمل من خلاله لخلع ناصر وآخرين، وفي فبراير 1954 تهيئوا لتأييد نجيب في مواجهة تصريحات مجلس قيادة الثورة اللاذعة وفي الشوارع تمت الإشارة إلى أن ناصر ورفاقه فشلوا في حشد الجماهير واستطاعوا استبعاد التحالفات السابقة من المثقفين.

والأكثر كارثة أن ناصر ورفاقه أصبحوا وجها لوجه مع حقيقة أنهم فقدوا الاتصال مع زملائهم في الأسلحة المختلفة بالجيش ووصلوا معهم إلى درجة مخيفة من انعدام الثقة كذلك فإن قطاعات عريضة من الجيش وخاصة من سلاح المدرعات وقفوا مع نجيب ورغم سابقة المتآمرين من رجال المدفعية فإن مجلس قيادة الثورة احتال على حراسته.

أيضا وصم المسئولون عن مراقبة الجيش بأنهم صانعوا مشاكل محتملين بين شركاء نجيب المقربين وتم العمل على إقصائهم.

أما الصف الثاني من الضباط فقد عرفوا أن نجيب مدين للحركة التي سيطرت على السلطة في 23يوليو وأن الحركة المباركة كانت حركتهم وليست حركته هو ولكن بالنسبة للعديد من الضباط الذين شعروا أن حركتهم اغتصبت بواسطة زعمائهم ظل نجيب إن لم يكن بديلا لمجلس قيادة الثورة مكونًا وعاملاً ضرويًا.

الفصل السابع

ثوري وليس سياسي

في عام 1954 نجح مجلس قيادة الثورة في تثبيت سلطته على الدولة ومهد لأن يكون البديل الوحيد للنظام القديم... وفي هذا الخصوص تمثلت اللحظة الحاسمة في أزمة مارس حينما واجه مجلس قيادة الثورة المعارضة المشتركة للأحزاب السياسية القديمة، في القوات المسلحة تلك المعارضة التي عكست بصورة أو بأخرى فشل الضباط في كسب التأييد العام لثورتهم من ناحية ومن ناحية أخرى عدم فاعلية ما نادوا به من تطهيرات وإصلاحات.

وقد كان خلع محمد نجيب بمثابة عود الثقاب الذي أشعل الأزمة وحينذاك تعالت الأصوات مطالبة بعودة السلطة إلى المدنيين وعودة الضباط إلى الثكنات بما كان يعني في أهم محدداته انتهاء الثورة. ومن الواضح أن أزمة مارس مثلت اختبارا لإرادة الضباط السياسية ودلالة أكيدة على أن الشعارات والرقابة على المطبوعات واحتكار وسائل الإعلام وحتى الاعتقالات الانتقائية لن تنفذ حكمهم وأنه بعد عامين من التردد وقف الضباط الآن ساندين ظهورهم على الحائط...

وهكذا تعتبر أزمة مارس النقطة المحورية في أي تفسير جوهري لتلك الفترة ويصف الذين عاصروا الأزمة بأنها كانت مواجهة بين التقدمية والرجعية ... ويقبل المؤرخون لسيرة ناصر وتلاميذ الناصرية الصغار بصورة كبيرة رواية النظام للأحداث فالبعض يصور الضباط على أنهم ممارسون أذكياء للتأثير في الرأي العام بينما ذهب البعض الآخر إلى أن التشوش الحادث داخل مراكز وإدارات مجلس قيادة الثورة انعكس في الشوارع.


وفي الحقيقة فإن غالبية هذه التفسيرات تضع المعارضة في دائرة الضوء الخافت كعائق لعملية والترشيد والصحوة السياسية.

وفي منتصف عام 1970 التصحيحيون للأزمة من منظور توصيف ديكتاتورية ناصر، وقد أعاد هؤلاء فتح كل الجروح القديمة من خلال إجبار كل الشخصيات وإعطاء تفسيرات لتصرفاتهم .. كذلك أنعش هؤلاء الجدل الدائر بشأن الديمقراطية النيابية.

هذا السجل العام للأحداث أكتمل من خلال المواثيق الأجنبية حديثا والتي ألقت ضوءا جديدا على أزمة مارس 1954 وتحديدا فيما يتعلق بدور مجلس قيادة الثورة وعلى هذا الأساس فإن المعضلات التي واجهها الضباط خلال المراحل المتباينة للأزمة، والاقتراحات التي تم تداولها والإجراءات التي تم اتخاذها يجب إعادة تقييمها الآن بإحساس أعمق لماهية الخيارات التي واجهها الضباط والدروس التي تعلموها وانعكاسات ذلك على تركيزهم للسلطة في أيديهم.

إن الأزمة مرت بثلاثة مراحل هامة .. بدأت الأولى في 23 فبراير حينما استقال نجب وانتهت في 1مارس حينما فرح بانتصاره في العودة إلى منصبه أما في المرحلة الثانية والتي بدأت من 5مارس وانتهت في 25 مارس فقد حاول نجيب من خلال اللعب خلف الأبواب المغلقة حاول دون نجاح انتزاع سلطات أكبر من الضباط وتشكيل مكانة مسيطرة لنفسه في مجلس قيادة الثورة وخلال المرحلة الثالثة (من 25 مارس إلى 31مارس) حرك مجلس قيادة الثورة قوى الشارع المخلصة له الهزيمة مؤيدي نجيب.

وقد أشارت مظاهرات الشارع في أواخر مارس والتي كانت نيابة عن مجلس قيادة الثورة إلى نقطة فارقة في الأزمة وفي الحقيقة فإن أشد المراحل الثلاثة سالفة الذكر بالنسبة للضباط الأحرار خطر كانت هي المرحلة الأولى حينما هدد سلاح المدرعات أن يتمرد نيابة عن نجيب. أما المرحلة الثانية والتي استطاع الضباط خلالها التعامل سريعا مع بوادر التمرد وتأمين مجلس قيادة الثورة لتأييد الجيش فقد قوت من رغبة الضباط لترسيخ سلطتهم صحيح أنه لم يكن لديهم استراتيجية طويلة الأمد إلا أنهم أظهروا توقدا وهمة من أجل إعلاء رغبتهم في السيطرة على السلطة.

أشعل إعلان أخبار خلع نجيب في 25 فبراير مظاهرات في الشوارع ورغم الشائعات المنتشرة عن وجود شقاقات في مجلس قيادة الثورة فإن الجمهور لم يكن مستعد لهذا الطرد أو الخلع المفاجئ أو لفتح باب لكراهية موجهة ضد نجيب كما استمرت المظاهرات لمدة ثلاثة أيام.

وفي هذا السياق أعلن مجلس قيادة الثورة في أول تصريح له: «إن هدف الثورة ليس إحلال محل أي فرد أو جماعة في السلطة وأن نجيب استقال بعد فشله في فرض شروطه الديكتاتورية على مجلس قيادة الثورة، وأن علاقته بالضباط الأحرار أضحت هامشية إن الضباط جعلوه رئيسهم لكنه سعى لحيازة سلطة شخصية أكبر).

والآن فإن ناصر المعروف بأنه الزعيم الأصلي للضباط الأحرار، أعلن أنه قائد الثورة.

ماذا حدث في لقاء الست ساعات الثاني: عندما أخذ مؤيدو نجيب طريقهم إلى القاهرة طلب الجيش انتباه مجلس قيادة الثورة.. ففي 26 فبراير تجمع قرابة مائتي ضابط من سلاح المدرعات في ثكناتهم لمعارضة خلع نجيب وارتفعت شعارات الديمقراطية والحرية.. وحينذاك ذهب حسين الشافعي قائد السلاح لسماع مظالمهم فطالب الضباط بإلغاء القرار الذي اتخذه مجلس قيادة الثورة وإعادة نجيب إلى منصبه كما هدوا برفض أي أوامر يتلقونها عن أخذ وحداتهم للشوارع لإخماد المظاهرات العامة .. كذلك أضافت رسالة المعارضة المشابهة بين وحدات الإسكندرية زخما لأزمة وحينما فشل الشافعي في إقناعهم ذهب ناصر إلى الثكنات الأمر الذي أعاد إلى الأذهان المقابلة العاصفة في سلاح المدفعية منذ سنة مضت.. وطلبوا منه حل مجلس قيادة الثورة، وعودة أعضاءه إلى الثكنات وتعيين قائد عام بالأقدمية، لأن عبد الحكيم عامر كان برتبة صاغ ورقى إلى رتبة اللواء دفعة واحدة كما طلبوا عودة الحياة النيابية.

وفشل لقاء ناصر والذي استمر حوالي ستة ساعات في 27 فبراير في تهدئتهم ومن ثم قبل ناصر مطلبهم بعودة محمد نجيب إلى منصبة كرئيس كذلك وعد بأن يتم تعيين خالد محيي الدين رئيسا للوزراء وحل مجلس قيادة الثورة وقد وافق خالد محيي الدين وأقنع نجيب بسحب استقالته.

وفي الوقت الذي وقف فيه قادة سلاح المدرعات خلف نجيب تحرك قادة بعض الوحدات للدفاع عن مجلس قيادة الثورة حيث تجمع زملاء الضباط المقربون كمال رفعت أوب الفدا الجيزاوي وجيه أباظة على صبري ومرؤسيهم في مركز القيادة العامة وحينما علموا بقرار استقالة مجلس قيادة الثورة حاولوا أن يتولوا إنقاذ الموقف بأيديهم حتى أن ضابطين قاما بخطف نجيب من منزله إلى أحد ضواحي القاهرة.

وبلغ الأمر غايته حينما وحد قادة وحدات المدفعية مدافعهم صوب ثكنات المدرعات في الوقت الذي كانت تحوم طائرات القوات الجوية عاليا.

وتحت ظهور بوادر حرب أهلية بين صفوف الجيش لبى مجلس قيادة الثورة مطلب بقائه في السلطة وبعد تجديد الثقة استدعى ناصر قادة المدرعات لمقابلته في مركز القيادة بينما كان قد تم العزم على اعتقالهم ولم يتم إطلاق أية نيران.

ونظرا لأن سلاح المدرعات كان يقف بمفرده فقد سمح ذلك لناصر ورفاقه بالتحرك سريعا لنزع سلاح المتمردين أما ولاء وحدات المشاة والقوات الجوية والمدفعية فربما كان منبعه قناعتهم بأن مجلس قيادة الثورة كان حتما سيحكم وأن العمل مع محمد نجيب لن يكون مجديا بالقياس للعمل مع مجلس قيادة الثورة.

أما الضباط الذين تحركوا ضد سلاح المدرعات نيابة عن مجلس قيادة الثورة فقد شعروا بنوع من التبرير أنهم أنقذوا النظام في 26، 27 فبراير، وفي تفسيراتهم للقصة يصفون أعضاء مجلس قيادة الثورة بأنه ليس عليهم إلا الشعور بالانفعال والإنهاك وبعد 30 سنة شعر أعضاء مجلس قيادة الثورة بأنهم أكثر حرية في الاعتراف بحقيقة ذلك.

وبعد أسبوع من الحادث قال ناصر لجيفرسون كيفري بهدوء بان وعده بتعيين خالد محيي الدين رئيسا للوزراء كان حيلة لاستغلال الانقسامات في الصفوف (علمت أن الجيش لن يقبل هذا التعيين لكن منذ الوقت الذي تحدثت فيه مع فرقة الفرسان أعددت هذه الحيلة لتعرية خالد).. وأكد ناصر (لقد كنت مندهشا فقط للكيفية التي تم بها رد فعل الضباط). بيد أن نعمة ناصر التطمينية فشلت في إزالة الشعور السائد بالهزيمة والارتباك الذي أطبق على مجلس قيادة الثورة هذه الليلة.

وبعد انقضاء ليلة 26 فبراير واجه مجلس قيادة الثورة قضية ماذا يفعل مع محمد نجيب وخالد محيي الدين؟ وفي مساء 27 فبراير قرر ناصر إعادة محمد نجيب كرئيس وقد فعل ذلك بدفع من صلاح سالم، وعرف الآخرون بالقرار عندما أعلنه سالم بالراديو أما فيما يتعلق بخالد محيي الدين فقد انقسم الضباط على كيفية التعالم معه وقد قبل ناصر حجة زكريا محيي الدين وآخرين بأن خالد لم يسئ استغلال منصبة في قيادتهم وعلى هذا الأساس قام ناصر بحث زملاءه على التركيز على مشكلة التعايش مع نجيب بدلا من ذلك.

ثم جاءت صورة نجيب وناصر والابتسامة تعلو وجهيهما واقترن ذلك بالإعلان عن أن الضجيج كان زوبعة صيف وتكذيب ما يعرفه الجميع جيدا وحال سماع خبر عودة نجيب خرجت حشود المؤيدين إلى شوارع القاهرة والإسكندرية ومراكز المديريات.

وفي الصباح التالي الموافق 28 فبراير حينما وجد الطلاب أبواب الجامعة مغلقة توجهوا بإزاء قصر الرئاسة وقد حاول البوليس منع طلاب جامعة القاهرة من عبور كوبري قصر النيل بوسط القاهرة وأسفر ذلك عن إصابة البعض وجرح البعض الآخر

وعند القصر طالبت الحشود برأس ناصر واستقالة مجلس قيادة الثورة كما نددت بإلغاء الإخوان المسلمين كذلك شجبت استخدام القوة ضدهم على الكوبري وفي خطاب راتجالي وعدهم نجيب بإجراء تغييرات كبيرة وإجراء تحقيق في وحشية البوليس ضد المتظاهرين ثم تبع ذلك حطاب لعبد القادر عودة أحد زعماء الإخوان الذي عاتب مجلس قيادة الثورة على أن نجيب بعد كل ما حدث ما زال محجوبا.

ومن جانبه عكف مجلس قيادة الثورة حينما بدأت المظاهرات على التفكير في احتمالية تعطيل النظام المدني بل وتناثر الحديث عن الاستقالة وكان لدى الجميع قناعة بأن نجيب المنتصر والمدعوم من الجمهور أصبح أمرا لا يطاق.

وفي خضم هذا الارتباك خاص مجلس قادة الثورة جلسات ساخنة وخبرات لا نهاية لها واقترح أعضاء مختلفين من المجلس استقالة جماعية تمهيدا للحكم المدني بينما طالب آخرون بإجراء مباشر للحفاظ على سلطتهم في حين كان رأي فريق ثالث يتغير من يوم ليوم حتى أن ناصر نفسه تأرجح بين العلاج التكتيكي والجذري واتفق أعضاء المجلس على شيء واحد مؤداه أنهم إذا كان عليهم التعايش مع نجيب حتى لو لفترة وجيزة فإنه يجب أن يكون فقط الرئيس وأنه لم يعد رئيسا للوزراء أو رئيسا لمجلس قيادة الثورة.

وفي سبيله للبحث عن أفضل الأساليب لاحتواء زخم المعارضة الجماهيرية كيف مجلس قيادة الثورة استراتيجيات متناقضة من الهجوم والمصالحة ففي 2مارس أمر مجلس قيادة الثورة إلقاء القبض على 118 من الرجعيين أغلبهم من الإخوان المسلمين والاشتراكيين تم اتهامهم بتهييج الحشود الجماهيرية في 27و28 فبراير وتصدر القائمة كل من عبد القادر عودة (الزعيم الإخواني) وأحمد حسين (رئيس الحزب الاشتراكي) الأول من جراء خطابه الذي ألقاه بعد أن خاطب نجيب الجماهير في القصر والثاني من جراء خطاب أرسله إلى ناصر يحثه فيه على إصلاح الحياة البرلمانية.

وتاليا في 5مارس وسيرا على وتيرة الإصلاح الذي وعد به نجيب أعلن مجلس قيادة الثورة استعداداته لإجراء انتخابات في يوليو ودفع الجمعية التأسيسية لإنهاء الدستور وتمهيد الطريق لإجراء الانتخابات الجديدة وتأكيدا على حدوث الانتخابات في مناخ من الحرية الكاملة أعلن مجلس قيادة الثورة وضع نهاية لكل القيود المفروضة على الصحافة والإلغاء الوشيك للقانون العسكري.

وفي الفترة من 6 إلى 25 مارس أطلق النظام سراح ما بين 200و 300 سجين سياسي أغلبهم من الإخوان المسلمين.

وفي ضوء ما اعتبره نجيب انتصارا حول نجيب تأمين سلطة أوسع على مجلس قيادة الثورة ففي 7 مارس رفع رؤساء تحالفاته السياسية الثلاثة (سليمان حافظعبد الرزاق السنهوري- عبد الجليل الإمري) قائمة مطالبة التي دارت حول حقه في الاعتراض على كل قرارات مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء وسلطته المنفردة في تعيين قادة الجيش حتى مستوى قادة الكتائب وإجراء انتخابات رئاسية عامة قبل التصديق على الدستور وعودة ضباط مجلس قيادة الثورة وهيئة التحرير إلى الصفوف وفي اجتماع مشترك مع مجلس قيادة الثورة وهيئة التحرير إلى الصفوف .. وفي اجتماع مشترك مع مجلس قيادة الثورة وافق نجيب على أن يبحث مطالبه في حالة إعادة تنصيبه رئيسا للوزراء .. ورغبة منهم في الإحجام عن إعادة فتح باب العداوات قبل الضباط الاتفاق.

وفي هذا السياق قالت مصادر غير مسماة للأمريكيين بتأكيد: إن مجلس قيادة الثورة كان يعد لمحاكمة نجيب أمام محكمة الثورة لولا وقفته الثابتة.

وواقع الحال فإن نجيب ومسانديه ركزوا على المظاهرات في الشوارع متجاهلين الإيماءات السائدة في ثكنات الجيش والتي تنذر باعتلال طموحة المتنامي أنهم اعتقدوا أن مجلس قيادة الثورة لا يواجه بديلاً وإنما يواجه عزله.

وفي أوائل مارس أطلق مجلس قيادة الثورة سراح المتآمرين من سلاح المدفعية في مقابل تلقي وعد بتأييده.. والملاحظ أن مجلس قيادة الثورة رفض العفو عن رشاد مهنا لكن الذين أطلق سراحهم كانت لديهم قناعة كافية بإمكانية قبول مجلس قيادة الثورة للأخذ والعطاء.

وفي مساء 9مارس نظم مجلس قيادة الثورة لقاء جماهيريا بنادي الضباط لحشد التأييد، وأمام جمهور من المستمعين يتراوح ما بين 1500و 2000 أمر مجلس قيادة الثورة أعضاءه بالوقوف موحدين أمام أعدائه (الإمبرياليون والرجعيون) رافعين شعار أن القوات المسلحة فكر واحد، وممثل واحد، وذات هدف واحد يتمثل في العمل من أجل مصر ومصر وحدها.. ذلك الشعار الذي رفعه عامر.

وبعد ذلك تحدث ناصر، الذي خلط الدعوة بالصمود بتعهد شخصي بالثبات كما ذكر بأنهم هم الذين صنعوا الثورة وأقسم على أنها سوف تستمر قائلا (أعدكم هنا، الآن بأنني لن أخونكم أو أخدعكم).

أما نجيب الذي تحدث فيما بعد فقد فشل في تحريك جمهور مستمعيه إنه رسم صورة للضعف وطلب من الجيش أن يدع المشاجرات جانبا كما لم يتحدث عن الثورة وإنما عن حركة الجيش مبينا للجمهور وقع المناسبة ومضيفا أن الدموع تملأ عينيه اعترفا بالجميل.

وبعد تصريحات نجيب طلب جمهور المستمعين أن يتحدث الآخرون والذين أدلى كل منهم بكلمات عشوائية وهكذا كان اللقاء الذي ترك انطباعًا لدى ضباط مجلس قيادة الثورة بسيطرتهم على الجيش نقطة تحول في معركتهم مع نجيب.

ورغم اطمئنان مجلس قيادة الثورة لولاء الجيش رغم فطنته أيضا من استغلال ضعف المعارضة فإنه ترنح من جراء الانتقادات العامة... وقد أزال الضباط القيود المفروضة على الصحافة في 5مارس من ناحية لقياس مدى التأييد الذي يحظى به النظام ومن ناحية أخرى لمعرفة الأصدقاء من الأعداء، إلا أن الضباط اندهشوا وأحبطوا من جراء الانتقادات التي وجهت إليهم بصورة سريعة ومن ثم استمروا في حرب القبضة الحديدية دون تقرير أي شيء.

وفي منتصف مارس قرر الضباط تشكيل حزب سياسي لخوض الانتخابات وظلت الفكرة حبيسة بعض الوقت وعندما ظهر خبر هذه الخطة في الصحافة سئل ناصر عن طموحاته السياسية المستقبلية فأجاب (إنني ثوري ولست سياسي).

ومصداقا لقوله قرر ناصر أن يسيطر على المبادرة وأن يمتلك زمام الأحداث وتعاون مع العديد من زملائه في مجلس قيادة الثورة وآخرين من خارج المجلس وقد وافق كل المجلس على كل الاستراتيجيات والقرارات ومن أجل استبقاء الأزمة، فإن عدد قليل من العقول الموثوق بها من قبل ناصر –مثل زكريا محيي الدين، صلاح سالم السادات- هم الذين عملوا على تغذية مناخ الأزمة لخلق حالة مشابهة لتلك الحالة التي سادت قبل يوليو 1952 والتي بدا فيها الجيش هو البديل الوحيد للفساد والفوضى.

وفي هذا الخصوص قامت جريدة الجمهورية تحت إشراف السادات بالعمل على سيادة الارتباك من خلال سرد قصص عن أشخاص النظام القديم الذين عارضوا لاستبقاء الفساد وتحدوا الإصلاح الزراعي.

وفي 20مارس انفجرت 6قنابل بأماكن متفرقة بالقاهرة... وقد دون البغدادي في مذكراته التصميم الكبير من ناصر على احتفاظ مجلس قيادة الثورة بالسلطة.. ويذكر أن الانفجارات لم تستفز البغدادي وضباط آخرون من مجلس قيادة الثورة، فقط قام نجيب المطالبة بالاستعداد لإجراءات الطوارئ وبعد ثلاثة أيام أخبر ناصر (باركر هارت) بأن الدولة تحتاج إلى درس، ورغم أنه لم يقرر خطة معينة للتحرك فقد أوعز بأنه سوف يسمح بفساد الموقف لمدة شهر أو اثنين.

وفي 25مارس أدهش مجلس قيادة الثورة الأمة حينما أعلن أنه سوف يرفع الحظر على الأحزاب السياسية ويعيد الحقوق السياسية لأولئك الذين حوكموا بواسطة محكمتي الخيانة والثورة واقترن بذلك الدعوة لإجراء انتخابات عامة للجمعية التأسيسية كما وعد في 5مارس والتي سوف تمارس الآن سلطات برلمانية كاملة وأخيرا أعلن مجلس قيادة الثورة عزوفه عن تشكيل حزب سياسي بل وأنه سوف يجل نفسه في 24 يوليو ويعلن انتهاء الثورة.

ولعد توقعهم بأن الأزمة سوف تطرح نفسها خلال الفترة الوجيزة التالية قام المتآمرون في مجلس قيادة الثورة بالتكاتف من أجل دوران المعركة من جديد بينما وافق كل مجلس قيادة الثورة على القرار ومن جانبه توقع ناصر ومسانديه في مجلس قيادة الثورة ضجة ضد قرارهم بالانسحاب من السياسية.

وفي الحقيقة فإن ضباط الجيش والبوليس تم حفزهم بواسطة العديد من أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين عارضوا استراتيجية 25 مارس وقدموا عرائض تطالب مجلس قيادة الثورة بحسب قراره.

إن قرارا 25 مارس هز مص فالأحزاب السياسية القديمة سرعات ما شعرت في إعادة التنظيم واللعب بذكاء بين أيدي الضباط وسادت سياسية الأسلوب (النموذج) القديم وبعد سلسلة من اللقاءات المتصلة أنذر زعماء أحزاب الأقلية السابقة بتشكيل جبهة موحدة لنزال الوفد ونظرا لعرقلة الوفد من جراء عرقلة أهم زعيمين له حيث ظل النحاس حبيس المنزل رغم دعاوي النظام المغايرة بينما كان سراج الدين بالمستشفى فقد تحرك ببطء أكثر ومع ذلك ولكون الوفد كان مسيطرا عليه بواسطة أعضاء متمرسين فقد كانت هناك طرق أخرى للتفعيل السياسي.

كذلك كان للغارة ضد مجلس قيادة الثورة صدى بالنسبة للمثقفين حيث أعلن طلبة الجامعة عن تشكيل ائتلاف (اتحاد) وطني.

وتعالت الأصوات من كل حدب وصوب منددة بأفعال مجلس قيادة الثورة ومطالبة بالقبض على أعضاءه بل وحتى إعدام الضباط وشاجية العمل بالأحكام العسكرية والارتكاسة التي أصابت كرامة الإنسان والحقوق المدنية واعتقالات وأوائل مارس خاصة فيما يتعلق بالتلمساني وعودة (من الإخوان) وأحمد حسين (زعيم الحزب الاشتراكي).

بيد أن رائحة هذا النصر -بالنسبة للمعارضة- لم تكن سوى زوبعة في الهواء إذ بع د3 أيام أدار مجلس قيادة الثورة وعاود الظهور كسلطة مسلم بها الدولة حيث من خلال الاحتكار الناجح لوسائل الإعلام وتجريد الإخوان المسلمين من تأثيرهم القوي وإلقاء الرعب بين القوى المناوئة للنظام عبر العنف المنظم بالإضافة إلى زعامة محمد نجيب غير الفعالة استطاع الضباط ترسيخ انتصارهم.

إن مجلس قيادة ارتسم لنفسه صورة معينة مؤداها إنه بدون مجلس قيادة الثورة لن يتكون هناك تقدم أو إصلاح، وبدون ذلك ستعاد عقارب الساعة إلى الوراء حيث النظام القديم وقبل عدة أيام من 25مارس بدأت الجمهورية تنشر تقارير عن اتصالات بين الزعماء الحزبيين السابقين، وقد أعلنت الجريدة عن زيارة لإبراهيم عبد الهادي قام بها مسئولون حكوميون وحلفاء لنجيب «الأميري وسليمان حافظ» وقد وصفت هذه الرسالة بالإرهاب لماذا.؟ ... ربما كان إبراهيم عبد الهادي يحلم بالعودة إلى الباشوية والزي المزركش والبوليس السياسي، وحتى حقبة الإرهاب أما جريدة مصطفى أمين فقد تبنت خطا معينًا بعد 25مارس لا يقل قوة عن الأداة الحكومية.

ففي 27 مارس نشرت أخبار اليوم صورة طبق الأصل من محادثة تليفونية جرت بين نجيب والنحاس مررها مجلس قيادة الثورة إلى الجريدة وفي هذه المحادثة استفسر نجيب عن صحة زعيم الوفد ووعده برفع أمر تحديد إقامته في المنزل وقد وصف الصحفيون أصحاب التوجهات الحزبية المتباينة ذلك بأنه انقلاب في العلاقات العامة بواسطة النظام.

وفيما يتعلق بالإخوان المسلمين فإن ميثاقا عقد بين الطرفين (النظام والإخوان) أراح النظام من خصم مثير للمشاكل وربما خطير وكانت هذه مقامرة جسورة جاءت في ضوء دور الإخوان في القوى التي حشدت للقاء نجيب منذ شهر.

وكان عبد القادر عودة و44 من الإخوان قد تم إلحاقهم بزملائهم المسجونين منذ يناير ... وفي 16 مارس نشرت المصري خطابا مفتوحا أرسله الهضيبي من خلف القضبان إلى محمد نجيب يشجب فيه حل الإخوان المسلمين... وقد تبع ذلك أن أرسل ناصر مبعوثين للتفاوض مع الهضيبي... وفي 25 مارس أمر مجلس قيادة الثورة بإطلاق سراح الهضيبي وكل أعضاء مجلس الإرشاد وحوالي 220 من الإخوان. وبعد أن تناول ناصر العشاء مع الهضيبي تلقى الأخير وعدا من ناصر بإصلاح الوضع القانوني للحركة وفي المقابل وقف الهضيبي موقفا مبهمًا تجاه شرعية الأحزاب السياسية. وعلى هذا الأساس تم إطلاق سراح 300 آخرين من الإخوان ولذا لوحظ بوضوح غياب الإخوان في معارك 26- 28 مارس.

وعلى هذا الأساس أيضا مثلت درجات التآلب التي استخدمها مجلس قيادة الثورة نقطة فارقة في سعيه لتثبيت نفسه والإمساك بالسلطة وقد أثبتت هيئة التحرير أخيرا أنها ذات قيمة حيث اقترح الضباط القائمون عليها دعوة قواتهم إلى الشوارع، وارتضى ناصر ذلك باعتبارها فرصة لتوظيف عدم النظام لمصلحته ولمدة يومين 26و 27 مارس حدثت المعمعة (الحشود المتزامنة) وفي 28 مارس اتسعت دائرة التآلب والعنف البوليسي ونجحت القوات الموالية للنظام في تخويف المعارضة وإجبار مجلس قيادة الثورة في الاستجابة للصيحات المرتفعة المنادية ببقائه في قيادة الدولة.

وقد شجع ممثلو مجلس قيادة الثورة الجماهير التي اجتمعت خارج مركز المجلس بالهتاف (لا أحزاب سياسية ولا ديمقراطية) (تحيا الثورة) (لا تتركنا يا جمال) (إلى الأمام يا جمال.. إلى القتال) وقد بارك البوليس رشق مبنى (المصري) بالحجارة والزجاجات.. كما أن تحركا نظمه البوليس الحربي هاجم مجلس الدولة ورئيسه السنهوري وربما مثل وصول صلاح سالم في الوقت المناسب حاملا طبنجة في يده إنقاذا لحياة السنهوري ذاتها.

واصطحب ذلك إضراب عام أعلنه زعماء اتحاد التجارة في 27 مارس وقام الصاوي أحمد الصاوي زعيم عمال النقل بالتخطيط وتنظيم إضراب بالتعاون مع القائمين على اتحادات التبغ والبترول وبدأ واضحا اقتراب الصاوي من إبراهيم الطحاوي الذي نقل الفكرة إلى ناصر وبدوره وافق ناصر مع تحفظه بأن مجلس قيادة الثورة لن يقوم رسميا بتنظيم الإضراب إ،هم رفعوا مطلب الإضراب العام لإجبار مجلس قيادة الثورة على فض قراره بعودة الأحزاب السياسية والانسحاب من الحياة العامة.

وفيما بعد تباهي ناصر بأنه اشترى الطبقة العاملة بـ 4000جنيه، وفي الحقيقة فإن ما اشتراه ناصر كان هو صمود العمال مع النظام كذلك فإن اتحادات عديدة لا سيما تلك الاتحادات الخاضعة لقيادات شيوعية وقفت ضد مجلس قيادة الثورة وفي هذا السياق تميز المعارضة في الإسكندرية ومدن الدلتا، أما طليعة مجلس الثورة المؤيدة فقد جاءت من قبل الاتحادات التي أثارت بفاعلية معظم العمليات اليومية بالقاهرة، وفي مقدمتهم عمال النقل ثم عمال محطات الغاز وموظفي السينما والبنوك وإذا لم يتم تقرير الأمور بحلول 29 مارس لكان عمال الكهرباء والغاز والمياه والتروللي أضربوا عن العمل بما كان سيترتب على ذلك من شل حركة الدولة.. إلا أن ناصر لم يتولى الإشراف مباشرة على أنشطة المضربين ولكن راقب الموقف عن كسب.. وحينما التحق عمال الميناء بمنطقة القناة بالإضراب مهددين بذلك المرور الدولي أصدر أمرا سريعا بأنه سيتم إيقافهم عن العمل.

ورغم ما اتسمت به القوى المعارضة من روح المقاومة فإن قوتها لم تكن لتضارع بالقوى القهرية للدولة، وخوفا من العنف فإن بعض الصحف النقابية لغت اجتماعات جمعياتها العمومية وفي التاسع والعشرين من شهر مارس أعلن الضباط عن نيتهم في تولي المسئولية كاملة من أجل استعادة النظام ووضع الثورة في مسارها ولأجل كل النوايا والأغراض انتهت الأزمة فقط ظل طلاب الجامعة يناضلون رغم تضاؤل عددهم بسبب عدم شمولهم طلاب الإخوان حتى طردهم البوليس خارج الحرم الجامعي في الأسبوع الأول من أبريل.


وفي الواقع فإن الثقة الزائدة، والنقص العام في الحنكة والتأييد السياسي هي أمور قادت إلى السقوط الشخصي لمحمد نجيب وجعله منبوذا بوصفه معاديا للثورة خاصة وأنه وقع في الفخ الذي نصبه له مجلس قيادة الثورة وقد نصحه الأصدقاء والمستشارين بمعارضة عودة الأحزاب السياسية وأن يتبنى بدلا من ذلك برنامجا يتيح إمكانية إصلاح النظام والتمهيد للحكم البرلماني دون اللجوء لقوى النظام القديم ولكنه أصر على أن الظروف غير ممهدة لانتعاش الأحزاب السياسية وكان أيضا غافلا عن تجريد مجلس قيادة الثورة للإخوان المسلمين من قوة تأثيرهم كما فشل في الاتصال بأي من زعمائهم حتى عد إطلاق سراحهم من السجن.. وبعد أن فات الأوان وفي الوقت الذي فتح فيه عبد الناصر أبواب سجنهم شعر نجيب بالتأزم وأسرع في الاتصال بالهضيبي الذي فشل في تلبية مطلبه.

وحينما بلغت الأزمة ذروتها فشل نجيب في اتخاذ قرار معين كذلك .. عارض اقتراحات الضباط الموالين له بالاندفاع بوحداتهم إلى الشوارع والقبض على مجلس قيادة الثورة بيد أنه احتج على ذلك مدافعا عن النظام وطلب أن يقوم مجلس قيادة الثورة بحل مشاكله.. وعندما اجتمع مجلس قيادة الثورة بمركز القيادة في 28 مارس دخل نجيب بصورة غير رسمية من الخلف في الوقت الذي كان فيه زملاؤه المنتصرون يعتلون أكتاف أولئك المجتمعون بالخارج احتفاء بالنصر ومن جراء الضغوط النفسية والذهنية والبدنية انهار نجيب في اليوم التالي، ومكث بعد ذلك بالمستشفى عدة أسابيع وقد كانت الصورة التي نشرتها الصحافة عن ظروفه العجزة أكبر تجسيد لفشله.

الطريق إلى الاستقرار: لقد كان لأزمة مارس مذاقا مرا سواء بالنسبة للفائزين أو المهزومين وعلى خلفيتها تعلم الضباط دروسا عن طبيعة السلطة وكيفية الحفاظ عليها أما أولئك الذين قادوا المعركة ضد مجلس قيادة الثورة في مارس فسوف يدفعون ثمنا غاليا.

ففي هجوم كاسح تحرك الضباط للسيطرة على كل مراكز المعارضة السياسية ومد سيطرتهم بصورة منظمة على الجيش والبيروقراطية الحكومية وتجميع السلطة في أيديهم.

وفي خطبهم ومقابلاتهم وتصريحاتهم أكد الضباط على حاجة مصر لطرح الأزمة والنظر إلى الأمام وملأت المشروعات والخطط الصحافة كما فكر مجلس قيادة الثورة في إنشاء مجلس شورة وطني وتدارس إمداد القرى بمياه الشرب وكذلك تدارس بناء المستشفيات والمساكن لعمال الصناعة هذا من جانب إلا أنه من جانب آخر وفي وضوء أخذهم بالثأر في الشهور التالية على استيلائهم على السلطة تحدث الضباط عن إعادة التطهير بلهجة أشد قوة تحت أطر جديدة لم يكتم الضباط غضبهم من أولئك الذين أسرعوا في الإعلان عن أخطائهم وفي عمود تحت عنوان (أخطاء الثورة) كتب أنور السادات إن الخطأ الأول للنظام كان هو إبداء النوايا الطيبة تجاه الأحزاب السياسية والصحافة.

أما محمد نجيب فقد مكث ولكن الآن دون حراك أو صيت.. ففي أواخر فبراير كانت صوره والابتسامة تعلو وجهه تملأ الجرائد ولكنها سرعان ما اختفت ولم تعد تظهر سوى في المجلات لا الجرائد اليومية، وإن ظهرت في الأخيرة كانت تظهر بصورة متقطعة لتذكر الشعب بأنه ما زال موجودا.

وفي أواخر أبريل صور نجيب وهو يقف بجوار ناصر الذي كان يقوم الترام كرمز للثورة وبعد شهر صور ناصر كباني الهرم (كان الهرم يرمز للديمقراطية) وجلس صلاح سالم يدرس الخطط في الوقت الذي كان نجيب يمسك ميزان البناء.

وفي أوائل يونية صور ناصر وهو يقود وابور زلط يمهد به الطريق للاستقرار أما الآخرون فكانوا يعملون بالكوريك والمعول في حين لم يظهر نجيب بينهم.

ودفعه خالد محيي الدين ثمن دوره في الأزمة وكان خالد قد غاب عن الأنظار عدة أيام بعد احتجاج المدرعات في أواخر فبراير بناء على نصيحة زكريا ثم عاد إلى القاهرة سريعا بعد 5مارس دون أن يقوم بدور في قرار إعادة الحريات المدنية وفيما بعد عقد العزم على أن يساعد – بحذر- مجلس قيادة الثورة في إتمام وعوده.. وقد قرر خالد أن عدة ضباط مدفعية تقربوا منه وطلبوا منه أن يقود انقلاب الأمر الذي رفضه هو.

وفي 27 مراس غادر القاهر للاختباء بالإسكندرية وقبل مغادرته طبقا لما قرره نصح نجيب ضد الوحدات الموالية المحتشدة ضد مجلس قيادة الثورة وبعد محاولات فاشلة من ناصر وعامر للاتصال به عاد خالد إلى القاهرة في واحد أبريل ووافق على الذهاب للخارج ضمن وفد تجاري كان مرسلا لأوروبا وعلى أية حال فإن مشاركته مع ناصر كانت واعية ولكنها لم تكن خالية من الندم.

وأملا في مجلس قيادة الثورة في نزع فتيل الأزمة بين صفوف الجيش، عامل مجلس قيادة الثورة الجيش الثورة الجيش بأيد أبوية.

فبعد انتهاء الأزمة تم إطلاق سراح معظم المدرعات الذين تم القبض عليهم في 27 فبراير وفي الأسبوع الأول من أبريل تم استبدال حسين الشافعي بضابط أكبر منه إرضاء للضباط الكبار والصغار على حد سواء ولإقناع العامة برحيل خالد فقد عينه النظام رسميا مندوبا لمجلس قيادة الثورة بالخارج مزيلا بذلك الانطباع بأن غيابه سوف يكون موقوتا.

ويعتبر البعض قد خدعوا أخمدوا ففي 28 أبريل ألقى مجلس قيادة الثورة القبض على 16 من ضباط المدرعات ووجهت إليهم اتهامات الإطاحة بالحكومة والإعداد لانقلاب في 1مايو والعديد منهم كانوا من الضباط الأحرار سابقا ويقال أن تسعة منهم كانوا من أولئك الذين تم القبض عليهم في فبراير ثم أطلق سراحهم.

وبدوره قام بعرقلة الاتصالات بين هؤلاء الضباط والعناصر المدنية.

وواجه الضباط محاكمة عسكرية في يونية، وحيث تلقى منهم 9 أحكاما بالسجن لمدد تتراوح بين سنة واحدة و 15 سنة وفي الأسبوع التالي حكم على العقيدة أحمد شوقي المقرب من محمد نجيب بـ15 سنة.

وتلال ذلك تحرك مجلس قيادة الثورة على وجه السرعة لتنصيب ضباط موالين لهم ففي شهر يولية أمر عبد الحكيم عامر بتغييرات وتنحيات واسعة في سلاح المدرعات طبقا لتقدير المخابرات الحربية البريطانية كانت كافية بهز مكانة السلاح كسلاح مقاتل.. وفي أوائل أكتوبر أمر عامر بترقية حوالي 200 ضابط من كل الأفرع بينما أحيل ضباط كبار إلى التقاعد المبكر.. وفي نظر المحللين البريطانيين أنجزت هذه الترقيات وتنصيب الضباط الموالين لمجلس قيادة الثورة مراكز قيادية أعلى أنجزت هدفا سياسيا وقوت من قبضة مجلس قيادة الثورة على الجيش لكنها بالطبع كانت على حساب الخبرة العسكرية.

كذلك تحرك مجلس قيادة الثورة للسيطرة على الحكومة بصورة مباشرة وبلغ الأمر غايته حينما تم طرد أعضاء مجلس الوزراء المؤيدين لنجيب وكان كلا من سليمان حافظ المهندس القانوني للمعركة المبكرة ضد الأحزاب وعبد الجليل الإمري وزير المالية قد استقالا في أواخر مارس وفي منصف أبريل تولى ناصر رسميا وظيفتي رئيس مجلس الوزراء والحاكم العسكري لمصر، وقام بتعيين أعضاء مجلس قيادة الثورة في مناصب وزارية باستثناء عامر والسادات وفي 31 أغسطس راوغ مجلس وزرائه محلقا الاثنين الأخيرين مشكلا لأول مرة حكومة يتقلد فيها كل أعضاء مجلس قيادة الثورة حقائب وزارية وهكذا أصبح المجلس يتكون من عشرة ضباط وعشرة مدنيين.

وفي الفترة التالية على اضطرابات مارس قرر الضباط اتباع نهجا سياسيا مستقلا بإزاء وسائل الإعلام والتنظيمات المهنية والحرم الجامعي ففي 14 أبريل أصدرت الحكومة مرسوما بتجريد زعماء الوفديين والأحرار الدستوريين وحزب السعديين من حقوقهم السياسية واحتوت القائمة التي كانت تضم 39 اسما مكرم عبيد ونجيب الهلالي والوفديين السابقين اللذين شهدا بحماس ضد فؤاد سراج الدين أمام محكمة الثورة كما فقد اثنان من الذين كانوا يحتفظون بعلاقات ودية مع مجلس قيادة الثورة حتى مارس حقوقهما وهما عبد السلام جمعة ومحمد صلاح الدين أما عبد الرازق السنهوري فقد وجد اسمه ضمن الـ39 اسما ثم حكم عليه بعدم اللياقة في أن يخدم بمجلس الدولة وطرد من وظيفته.

ورغم ذلك لم تتضمن القائمة أيا من المستقلين حيث على ماهر الذي هاجمه ناصر بالاسم ظل متمتعا بود النظام.

وقد اتخذ النظام خطوات مشابهة ضد الصحافة معلنا أن وسائل الإعلام ما هي إلا سلاح لخداع الكتل الجماهيرية.

أما الحرم الجامعية والتي أعيد الاستيلاء عليها بالقوة في أبريل فقد ظلت مراكز تكتيكية للشقاق فجامعة القاهرة، والتي فيها استمرت المعركة بين البوليس والطلبة حتى 2أبريل فقد أعيد افتتاحها في 10 أبريل لطلاب السنة الرابعة فقط أما جامعة الإسكندرية فقد نظفها البوليس أخيرا في 6 أبريل وبعد أسبوع أعلنت الحكومة التعطيل غير المحدد للفرق المتباينة في كليات الحقوق والهندسة والعلوم والصيدلة باستثناء طلاب السنة النهائية بكلية الطب.

وفي هذا الخصوص قرر مجلس قيادة الثورة الحصار الكامل لأنشطة الطلاب والكليات لكنه مارس الرفق كما قبض البوليس على زعماء الطلبة وأمر بطرد ثمانية أساتذة وقد ظلت الجامعات هادئة نسبيا بسبب دخول الامتحانات والعطلة الصيفية وقبل بدارية امتحانات الدور الثاني اتخذت الحكومة عدة خطوات لمنع تكرار الاضطرابات.

وكانت مظالم الطلبة قد ارتكزت بالإضافة إلى السياسة الوطنية على مسائل أكاديمية معينة وزيادة المصروفات والامتحانات حيث طالب الطلبة بضرورة إعادة التقنين الإداري فيما يتعلق بامتحانات الربيع التي رسب فيها عدد غير عادي. ومن جانبها تحركت الحكومة لتهدئتهم مقررة تخفيض المصروفات نسبة 30٪ كما قدمت منحا دراسية لأولئك الذين حصلوا على 60٪ من مجموع الدرجات على الأقل كذلك قامت الحكومة التي ظلت متوجسة في منتصف سبتمبر بتقرير تأجيل الدور الثاني.

ومؤخرا في نفس الشهر أمرت وزارة التعليم بتأجيل مشابه في المدارس الثانوية وقد حاول وزير التعليم جاهدا تعديل هذه الخطوات حتى يتم السماح للطلاب بتكملة الامتحانات أما وزير الخارجية حينذاك محمود فوزي فقد أخبر البريطانيين بأن المدارس لن يتم إعادة افتتاحها حتى يتم توقيع اتفاق بريطاني مصر جديد.

وقد باشرت وزارة التعليم تعديلات جوهرية في مجالس إدارات الثلاث جامعات الرئيسية (القاهرة –عين شمس – الإسكندرية) وأمرت بتنحية 14 أستاذا من الذين شاركوا في الأنشطة المضادة للنظام خلال شهر مارس.

كما سلبت الكليات العديد من اختصاصاتها الأساسية مثل تعيين العمداء ونوابهم بل وعينت مندوبا عن الدولة في مجلس كل جامعة وكان من الطبيعي أن تستثير هذه التجاوزات سواء الطلاب أو الكليات وحينما فتح الجامعات أبوابها في أوائل نوفمبر كانت إجراءات البوليس قد بلغت 3 أضعاف.

وفيما يتعلق بطبقة العمل والتي ساندت مجلس قيادة الثورة في الأيام الأخيرة الحرجة من مارس فقد قدم النظام عروضا حذرة.. ففي ظل انتصارهم قدم الضباط مظاهرة النصر في صالات الاتحاد واستضاف عددا من الوفود العمالية في مركز قيادة الثورة وفي مثل هذه المناسبات أعلن الضباط عن رسوخ العلاقة فيما بينهم وبين الطبقة العاملة مؤكدين على دور العمال في حماية الثورة.. وفي نفس الوقت سعى الضباط لكسر حدة حماس الاتحادات آملا إحباط أي أفكار خاصة بتحقيق هذه الاتحادات لمكاسب سياسية في الأجل الطويل.


أن مجلس قيادة الثورة كان على وعي بأن استطاع شرخ القوى التي كان من الصعوبة بمكان السيطرة عليها وبسبب الانشقاقات التي تعرضت لها الحركات الشيوعية زادت سطوة القائمين على هيئة التحرير تدريجيا على العديد من الاتحادات التي وقفت مع نجيب في مارس فقد دللت على المثابرة على المعارضة... وإذا كان قانون العمل الصادر 1953 قد كرس الأمن الوظيفي من ناحية فإنه من ناحية أخرى منح الإدارة سلطات واسعة وحتى الاتحادات التي أبدت الضباط في مارس استمرت في المطالبة بحق الإضراب وبدلا من تلبية ذلك المطلب تحدث النظام عن حاجة الحركة العمالية لتطهير نفسها من العناصر الرجعية وعبر عن وقوف النظام موقف القاضي العادل بين العمال والموظفين.

والآن.. ماذا بخصوص دور الجماهير في أزمة مارس؟ .. في الحقيقة فإن الجماهير وقفت بعيدا للغاية فيما يتعلق بأزمة مارس فهي لم تلبي نداء زعماء النظام القديم كما لم يتدافعها الحماس لتأييد الحرس الجديد.. هذه السلبية سهلت لمجلس قيادة الثورة عملية سيطرته على الشوارع وإن كانت هناك ثمة شعور بالأسى على أقول نجم نجيب والذي منح النظام صورة أشعرت معظم المصريين بالراحة.

وفي ظل الخوف وزخم الحياة اليومية وضغوط العيش التي كان يكابدها المواطنون كان من الطبيعي أن تهتز ثقتهم بالوعود المستقبلية التي حدثتهم عنها الثورة.

وفي الواقع فإن النظام فشل في كسب التأييد العام ورغم المحاولات التي بذلها الضباط لإشعال الحماس تجاه حكمهم والتي منها على سبيل المثال لا الحصر تلك الزيارات التي قاموا بها للريف ووزعوا خلالها الأراضي على الفلاحين وكد أنطوى بيانهم على قدر كبير من السلبية إنهم تحدثوا عن موضوعات بالية وأكدوا على انتشار القوى الرجعية والحاجة إلى تطهير النظام السياسي كما ألقوا بعبء الفساد في الحياة السياسية على الأحزاب شأنهم في ذلك شأن الملك مشيرين إلى أنه حتى الوفد عارض الإصلاح الزراعي أيضا رسم النظام صورة للقوى المعارضة كما لو كانوا متآمرين من الخارج تهدوا بإشاعة الفوضى وتقويض البنية الاجتماعية وفي أواخر أبريل أنهم الشيوعيين بالتواطؤ مع الصهاينة وقرن ذلك بزعيم الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني المنفى هنري كوريل وظل يكرر هذا الاتهام طيلة فصل الصيف وفي أواخر أغسطس أضاف الإخوان المسلمين إلى صفوف المتآمرين. وتوحي كل الدلائل بأن الضباط فشلوا في قمع الشائعات المدينة لهم وأن موقفهم تجاهها كان موقفا دفاعيا مصرفا وأن الاحتفالات التي تقام في الأعياد الوطنية طبقا للمراقبين الدبلوماسيين الأجانب كانت منظمة جيدا ومحاطة بإجراءات أمنية زائدة ولكنها كانت تفتقر إلى الحماس في فترة تولي محمد نجيب.

في حين أنه بعد عامين من المشاحنات مع البريطانيين وإنجاز مجلس قيادة الثورة لاتفاقية معهم آمل الضباط أن تقدم لمصر كانتصار قومي علم الضباط أنه من الصعوبة بمكان بيع هذه الاتفاقية للجمهور ومن ثم نظمت التظاهرات إلا أن المراقبين البريطانيين وصفوها بأنها كانت تفتقر إلى كل من الحماس والاتساع معا.

وبوجه عام، فإن الضباط بتمديدهم المطرد لسلطتهم عبر الجيش والحكومة واختراقهم لاتحادات العمال والتنظيمات المهنية وتكميمهم للصحافة قد تمكنوا من هجر موقفهم الدفاعي وتبنوا بدلا من ذلك هجوما مفتوحا ضد أعدائهم الشيوعيين والإخوان المسلمين.

الفصل الثامن

الجدل الدائر بشأن هيكلة النظام السياسي

وفي الخامس من شهر مارس 1954 وعلى أثر الهزة التي انتابت مجلس قيادة الثورة بسبب صدمة مظاهرات الشارع والتهديد والتمرد في سلاح المدرعات أعلن مجلس قيادة الثورة عن اتخاذ خطوات لإنهاء فترة الحكم الانتقالي تسهيل عودة الحياة البرلمانية وقد تواكب مع ذلك أيضا إعلان مجلس قيادة الثورة إنها الرقابة فورا على المطبوعات الصحفية في اليوم التالي.

وفي الفترة من 6 إلى 28 مارس حينما استعاد الضباط سلطتهم الكمالة على الدولة شهدت مصر فترة وجيزة من الانفتاح السياسي حيث خلال هذه الأسابيع الثلاث انتعش الجدل حول المستقبل السياسي للدولة في جو يسوده الأمل والتوقع ودون أدنى درجة من استعراض القوة، وتعتبر أزمة مارس بمثابة عود الثقاب الذي أشعل محطات المعركة الأيديولوجية، تلك المعركة التي استطاع القليلون مقاومتها. وبالنسبة للعديدين كان مارس لحظة مشرقة حينما ارتفعت الأصوات منادية بإرساء الحقوق المدنية والسياسية وعودة الديمقراطية النيابية.

وقد شجع الشعور بضعف مجلس قيادة الثورة معارضة حماسية حاصرة العديدين من المؤيدين السابقين للنظام واستباق الفرصة لإنهاء الحكم العسكري الميئوس منه وبالنسبة لآخرين فإن بعث قوى النظام القديم والعودة إلى سياسات الحقبة الليبرالية دون إرساء الإصلاحات المطلوبة كان يعني في أهم محدداته العودة إلى فترة ما قبل 23 يوليو ورغم عدم التأكد من التوجه الذي يتبناه مجلس قيادة الثورة في اقتياد مصر فقد كان الأمل يحدوهم على الدوام بأن ثمة نظام برلماني سليم ومنقح سوف يظهر وعلى هذا الأساس فقد اختاروا الوقوف إلى جانب الضباط وتأييد النظام.

إن استقراء مارس يسفر عن الكثير من التحول في العقل السياسي للمصريين الذين عاشوا قرابة عامين في ظل الحكم العسكرية واستعادوا ذكريات النظام القديم، وأدركوا مدى التحول إلى نظام سياسي جديد كما ساد الحديث في أوساط المثقفين عن الكيفية التي من خلالها يمكن لمجلس قيادة الثورة تنقيح وتنقية ثورته وبوجه عام فإن الجدل السياسي قد ارتكز على قضيتين أساسيتين أولهما: الهيكل المستقبلي للنظام السياسي والخطوات السابقة على تشكيله

وثانيهما: مستقبل الثورة نفسها والدور السياسي والخطوات السابقة على تشكيله وثانيهما: مستقبل الثورة نفسها والدور السياسي المستقبلي لمجلس قيادة الثورة.

ورغم أن بعض المدنيين فضلوا البقاء الممتد للضباط في السلطة فإن البعض الآخر اعتقد جازما بأن الضباط سوف يطرحون (يرفضون) الفعالية السياسية أرضا وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل قضية محولة تملق الضباط للعودة إلى الثكنات أو بصورة أكثر واقعية اقناعهم بالتنحي عن رتبهم والحكم كمدنيين.

أما المثقفين الذي كانوا لا زالوا منقسمين على أنفسهم فقد تشابهوا في رغبتهم في إنهاء الحكم العسكري والإفراج على الأقل- عن بعض المعتقلين السياسيين وإقرار الحكم المدني وإن ظلت الهواجس تنتابهم فيما إذا كان الوقت مناسبا للعودة للحكم البرلماني.

وواقع الحال فإن الجدل الذي ساد حينذاك قد غطى العديد من القضايا السياسية الملحة، كما ظلل مناورات مجلس قيادة الثورة للتشبت بالسلطة ومن خلال الرخصة التي حصل عليها المثقفون لمناقشة القضايا بحرية فقد عبروا عن المزايا المقارنة للجمعية التأسيسية المنتخبة أو المعنية والعدد المناسب للأحزاب السياسية في نظام برلماني صحيح والحقوق السياسية للمرأة كل ذلك ف الوقت الذي عمل فيه مجلس قيادة الثورة من وراء الستار لقبر القوى التي بدأت التحرك ولأن بجهة المعارضة كانت دون استراتيجية حقيقة فإنها سرعان ما انهارات أمام قوى القهر الكائنة في يد الدولة.

إن وعد مجلس قيادة الثورة في 5مارس غذى الآمال بالتقدم إزاء دستور جديد وقانون انتخابي جديد، وخلال الشغب الذي ساد في أواخر 1953 وبدايات 1954 استمرت لجنة الخمسين المعينة بواسطة النظام في يناير 1953 في العمل في رسم مسودة الدستور .. وبعد نوع من الضجة والتغطية الصحفية اختفت لجنة الخمسين عن المشهد العام والتقت خمس لجان فرعية بصورة نصف منتظمة.

وكان قرار اللجنة في ربيع 1953 بتفضيل لغاء الملكية وتأسيس الجمهورية نذيرا بتحرك النظام غير المدروس وإصدار الأمر العالي أخيرا في يونية ومن ثم فإن اللجنة التي دافعت عن الجمهورية البرلمانية ظلت بمثابة دليلا على إحراز بع التقدم بإزاء الفترة الانتقالية.

وفي 5مارس أعلن على ماهر أنه تم إعداد المسودة الأولية، وأن النص المنقح سوف يكون جاهزا لتقديمه إلى الجمعية التأسيسية بحلول يوليو في حين ظلت النصوص الدستورية الخاصة بالقانون العسكرية نقطة ملبدة تحتاج إلى مداولة أكبر وأعلن ماهر أن اللجنة توقفت لحين البت في منح الرئيس سلطة اتخاذ إجراءات الطوارئ دون موافقة البرلمان.

وبعد 5مارس انتقل التأكيد إلى مناقشة الوسائل المناسبة لكتابة والتصديق على الدستور الجديد وقد عارض البعض فكرة الجمعية التأسيسية في حين أن أولئك الذين جادلوا بأن الحكومة لم تذهب بعيدا فقد ضغطوا على الحكومة لمنح الجمعية التأسيسية سلطات برلمانية كاملة.

وها هو إحسان عبد القدوس قد رفض فكرة أن الدولة تحتاج إلى دستور قبل إقرار البرلمان وقد أكد على «أنني أكتب بسرعة ليس كخبير قانوني ولكن بوصفي واحد من الأغلبية التي تريد أن تستقر الحالة على وجه السرعة).

وفي هذا السياق جادل البعض من أعضاء لجنة الخمسين بأن لجنة الخمسين يجب أن تسلم مسوداتها مباشرة إلى برلمان منتخب للتصديق وبفعل ذلك يمكن لمصر تجنب القيام بخوض انتخابات مرتين في عام واحد.. كذلك اقترح أحدج الوزراء الوفدين السابقين (عبد المجيد عبد الحق) الإبقاء على ميثاق 1923 وانتخاب برلمان جديد لتعديله طبقا لنصوص الميثاق.


والذي حدث أن اختيار الجمعية التأسيس وما إذا كان يجب تعينها أو انتخابها قد أثار بدوره جدلا واسعا أيضا إذا ارتأى فريق ضرورة انتخاب أعضائها، في حيث ارتأى فريق ثاني ضرورة تعيينهم من ذوي الخبرة ووقف فريق ثالث موقفا وسطا إذا ارتأى ضرورة انتخاب الأعضاء مع تعيين بعضهم كذلك كانت قضية كيفية بناء نظام تعددي وتجنب مصيدة التجربة البرلمانية المصرية قضية أكثر جدلية حيث الأحزاب التي تقدمت باستمارات لاعتمادها في أكتوبر 1952لا سيما التجمعات والأحزاب الصغيرة قد ضربت في الغالب على وطر ضعيف النظام.

ومنذ يناير 1953 أعلن المتحدثون باسم النظام أن السياسة الحزبية قرينة الفساد بما تجسده من مصالح شخصية ومن ثم ساد الحديث عن أن الحزب الواحد هو الضمان الأساسي للاستقرار خلال الفترة الانتقالية كذلك قرر الشيخ الباقوري (لو أن نظام الحزب الواحد ليس هو النظام الإسلامي فإن الأقرب إلى روح الإسلام).

وباستثناء قلة فإن المدافعين عن الأحزاب السياسية تم إبعادهم عن وسائل الإعلام لكن أبطال الديمقراطية النيابية تصدوا للخط الحكومي بإثارة حيث رفضوا ديمومة دولة الحزب الواحد مدللين على ذلك بالفشل الذي تعرض له الحزب الشيوعي السوفيتي وحزب أتاتورك في تركيا والفاشيستي الإيطالي وكان الحل في تقديرهم يكمن في تأسيس الأحزاب على المبادئ لا على الشخصيات ولا شك أن هذا كان مجرد أقوال لم تخرج إلى حيز التنفيذ العملي...

أيضا ارتأى البعض ضرورة وضع ضوابط قانونية في النصوص بإمكان قادة الأحزاب مراعتها...

كما نظر العديدون إلى انجلترا والولايات المتحدة على أنهما نموذجان للديمقراطية والاستقرار حيث تنهض الأنظمة السياسية في هذه الدول على حزبين أو ثلاثة أحزاب تنافس في العملية الانتخابية.

إن فكرة تحديد عدد الأحزاب في مصر أثارت الحفيظة بصورة معتبرة حيث اتهمها الخصوم بأنها اصطناعية وغير ديمقراطية وكان بعد الرزاق السنهوري قد قدم خطة في شهر ديسمبر 1953 كانت مثارا للجدل كما اتخذت زخما إضافيا أثناء أزمة مارس.. هذه الخطة تقضي بأن ينهض النظام على ثلاثة أحزاب يعكس كل منها أحد الأيديولوجيات الغالبة لدى المصريين حزب المحافظين، وسوف يدافع عن العودة إلى ميراث الأجداد .. حزب الأحرار، وسوف يدافع عن التقدم الهادئ والحريات الاقتصادية والفردية وأخيرا الحزب الجمهوري الاشتراكي ذلك الحزب الذي أيده السنهوري دون خجل وسوق يتولى السهر على الشريعة التي ورثتها الدولة من خلال الثورة هذه الشرعية اشتملت على سياسة اجتماعية نشطة كان أبرز أمثلتها طبقا لرؤية السنهوري الإصلاح الزراعي.

وقد وصف البعض هذه الخطة بالسذاجة والسطحية والاستبدادية كما اشتكى عبد المنعم مراد بأنهم يعني حزب السنهوري أخذوا اللحم لأنفسهم وتركوا للآخرين العظام والأحشاء.

وإذا كان لخطة السنهوري أخطاءها فإن مبدأ تشريع عدد محدد من الأحزاب قد لقي قبولا واسعا وجادل سيد صبري بأن الرأسمالية والاشتراكية تمثلان الأيديولوجيتين الغالبتين على مستوى العالم كما اقترح خطته ذات الثلاثة أحزاب متمثلة في حزب المحافظين والحزب الاشتراكي وإشاعة التوازن بينهما من خلال حزب الأحرار المركزي فيما يشبه النظام القائم في بريطانيا...

أما محمد صلاح الدين (من الوفد) فقد وافق على أن ثلاثة أو أربعة أحزاب تعتبر كافية .. بينما أبدى وحيد رأفت معارضته لحزب شيوعي في حين اعتقد صالح حرب الزعيم السابق لجمعية الشبان المسلمين أن حزبين يكفيان حزب للثورة وآخر للمعارضة وأثناء ما كان الجدل محتدما في صفوف المثقفين حول شكل النظام المستقبلي انبثقت قضية المشاركة الانتخابية للمرآة، تلك القضية التي شغلت الرأي العام وكانت لجنة الخمسين الدستورية قد رفضت حق النساء في التصويت في انتخابات الجمعية التأسيسية وبعد يومين قامت درية شفيق وسبعة أخريات من حركة بناء النيل بإضراب عن الطعام بمقر نقابة الصحفيين وهددت المضربات بعدم تناولا الطعام حتى يتم منح نساء مصر كامل حقوقهن الدستوري دون قيد أو شرط كما طالبن بتمثيل المرأى في الجمعية التأسيسية.

إن حركة بنات النيل كانت تصب اهتمامها في البداية على قضايا تتعلق بالسياسة والاقتصاد والوضع الاجتماعي للمرأة كما أبدت تأييدها لثورة يوليو، على أمل أن وعود الضباط بالإصلاح السياسي سوف تشتمل على منح المرأة حقوقا أوسع كما منحت (حركة بنات النيل) ترخيصا في ظل قانون إعادة تنظيم الأحزاب...

وقد طالبت درية شفيق التي رحبت بإلغاء دستور 1923 بوصف ذلك أنها للعهود المظلمة بالسماح للمرأة بالتمثيل في لجنة الخمسين ومن جانبه عبر علي ماهر وآخرون عن تأييدهم لطموحات المرأة ولكن لم يتم للسيدات ما أرادوا.

والآن ومن جراء الإحباط الذي أصاب مجهوداتهن اختارت درية شفيق وزميلاتها الاستفادة من مناخ الأزمة بالدولة.

وقد استمر الإضراب ثمانية أيام، وفي اليوم التالي أعلنت مجموعة من السيدات بالإسكندرية إضرابا حادا، كما تلقت مضربات القاهرة سيلا من التعاطف وسعى علي ماهر ومحمد صلاح الدين وسليمان حافظ وآخرون لإقناعهن لإنهاء احتجاجهن كذلك تلقين وفودا من طلبات الجامعة الأمريكية .. وكان اليوم الرابع للإضراب (15مارس) قد شهد التفاف 130 من طالبات الجامعة الأمريكية حول قصر الرئاسة وفي 17 مارس تم نقل اثنتين من المضربات إلى الهلال الأحمر، وفي اليوم التالي نشرت تقارير متواضعة عن أن أربعة منهن في حالة مرضية خطيرة ثم تم نقل الثمانية إلى المستشفى وفي 19 مارس أنهت النساء إضرابهن بعد أن تلقين رسالة من محمد نجيب يتعهد فيها برف مظالمهن إلى لجنة خاصة.

وواقع الحال فإن الإضراب قد سبب إثارة معتبرة ونشرت الصحف يوميا صورا للمضربات كلهن كن من السيدات في منتصف العمر أو أكبر من ذلك ولكن نظراتهن كانت حادة هذه الصورة بالإضافة إلى صور تظاهرات طالبات الجامعة الأمريكية أشعلت العزة بين السيدات تلك العزة التي امتزجت بمشاعر العطف والرعب لدى الرجال وصفت الصحيفة الأسبوعية الجديدة الموسومة (الجيل الجديد) والتي كان على رأسها الإخوان مصطفى أمين وعلي أمين أن طالبات الجامعة الأمريكية اللاتي تظاهرن تضامنا مع المضربات بأنهن أسوأ فتيات الجيل الجديد وكذلك واجه المضربات العديد من الانتقادات من قبل بعض الرموز أمثال طه حسين وكان من الطبيعي أن تكون الكلمة الأخيرة لمجلس قيادة الثورة وفي أعقاب أزمة مارس قرر أنور السادات أن السيدات اللاتي أضربن أسأن استغلال حالة الأزمة ولم يفسحن المجال لأن تناقش القضية بصورة رشيدة... وأيما كان الأمر فإن المطالبة السيدات بالحقوق الانتخابية شأنها شأن كل القضايا الدستورية الأخرى ثم إهمالها إلى المستقبل المنظور.

إعطاء السم لرجل مريض: بادئ ذي بدء فإن الحركات الشيوعية السابقة على مارس 1954 ظلت في إطراد ثابت حيث أنه بحلول أواخر 1953 قام النظام باختراق الهيكل الحاكم للحركة الديمقراطية للتحرير الوطني وبدأ في فك النسيج السري المحيط بالحزب الشيوعي المصري والطليعة العمالية .. كما استمرت الانشقاقات الداخلية وانعدم الثقة بين الحركات الشيوعية المختلفة في شل اليسار.

ولأن الشيوعية ظلت جريمة سياسية فإن انتقادات اليساريين للنظام لم تظهر سوى في المنشورات السرية ومع ذلك فإن نشر الرسالة ظل قويا.

وبعد أن فشلت مجهودا التعتيم الإعلام فيما يتعلق بمحاكمة الزعماء الشيوعيين في ربيع 1953 أضحت السوابق القضائية تحت الأضواء حيث نشرت الصحف المحاكمات وفي بعض الأحيان أسماء المدعي عليهم لكنها لم توالي نشر التفاصيل عن القضايا ولا عن تقارير الدفاع .

ثم كانت غارة أزمة مارس التي لم تترك سوى تأثير محدود على المواقع السياسية التقليدية داخل الحركات الشيوعية . .وقد رأى الحزب الشيوعي المصري النزاع بين ناصر ونجيب على أنه صراع من أجل السلطة وتنافس لخدمة الليبرالية وسحق الشعب كذلك ظلت القوى اليسارية الأكبر والأكثر انغلاقا على العقيدة الشيوعية تقاوم بصلابة التعاون مع أي قطاع من القوى الأخرى.. ورغم ذلك حينما بلغت الأزمة ذروتها في أواخر مارس فإن الموالين للحزب الشيوعي المصري تظاهروا ضد مجلس قيادة الثورة أما الطليعة العمالية التي ظلت صغيرة ولكن منظمة داخل المصانع فقد حشدت تابعيها منذ البداية ضد النظام.

وقد طرح منشورا بتاريخ 8مارس ينادي العمال إلى المعركة لهزيمة ما سمي بالعصابة العسكرية في انتخابات الجمعية التأسيسية والدفاع عن الاستقلال والسلام والديمقراطية وقد أكد زعماء الحزب الشيوعي المصري على أنه إذا وقف الشعب والطبقة العامة متوحدين فإن مصر أمامها فرصة عظيمة لطرح الديكتاتورية العسكرية .. كذلك طالبت الحركة مجلس قيادة الثورة بحل نفسه وحل هيئة التحرير كما دافعت عن تشكيل حكومة ائتلافية تحت زعامة وفدية لمباشرة انتخابات برلمانية حرة.

ولكونها ابتليت أكثر من حركة أخرى بكم من الاعتقالات والردة والانشقاق فقد دخلت الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني أزمة مارس مفتقرة إلى قيادة مركزية موحدة، إذ بعد اعتقالات نوفمبر 1953 والتي اشتملت على معظم أعضاء لجنتها المركزية الداخلية آلت زعامة الحركة إلى أيدي أعضائها من الشباب بينما ارتأى أولئك المعكوفين في السجن أو بالمنفى هؤلاء الزعماء الشباب على أنهم زعماء مؤقتون على أفضل تقدير ورغم ذلك فإنه بحلول منتصف يناير 1954 استعادت الحركة تجمعها كما أعادت بناء شبكتها الدعائية وعاودت هجومها ضد النظام وإذا كانت الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني فقد افتقرت إلى القيادة المركزية القوية والتوجه الأيديولوجي فإن أعضاءها ظلوا يلعبون دورا هاما للغاية في الجامعات والمصانع وقد ظهر هذا جليا في أحداث فبراير ومارس ورغم كل ذلك فإن الزعامة القديمة قد أذهلت الحركة من خلال تفضيلها للتعاون مع مجلس قيادة الثورة حيث أوضح خطاب وقعه حوالي 20 من أعضاء الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني المعتقلين إلى مجلس قيادة الثورة هذا الانقلاب الدراماتيكي مادحين ما اعتبروه توجها جديدا من قبل مجلس قيادة الثورة في الصراع ضد الإمبريالية وطالب الموقعون على (بيان السجن العسكري) بإعادة تقييم العلاقات بين النظام والشيوعيين وقد أرست سلسلة من المقابلات أجريت بين الضباط والشيوعيين المعتقلين مرحلة جديدة من هذا التحول الدراماتيكي.

طبقا للعديد من الموقعين فإن الضباط الذين تقربوا إليها حجبوا أن مجلس قيادة الثورة كان مذعنا لإعادة التقييم هذه وأن المبعوثين من قبل النظام أخبروهم بأن أعضاء الانقلاب العسكري حاربوا الشيوعيين من أجل الرغبة في كسب تأييد الولايات المتحدة ضد بريطانيا والآن رأى مجلس قيادة الثورة هذا بمثابة أمل مفقود، بالإضافة إلى ذلك فإن مبعوثي ناصر أكدوا على الإجراءات التقدمية التي بدأ النظام في القيام بها، وفي مقدمتها الإصلاحي الزراعي وأهداف الضباط القومية والتي اقتضت ضرورة استبقاء إجراءات الطوارئ ومن جانبهم ناقش زعماء الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني المسألة بين أنفسهم واتفقوا على أن تحول ناصر وديا وأنه رغم الطبيعة الديكتاتورية للنظام فإنه على وشك تبني سياسة خارجية تكفل التأييد الشيوعي.

ومن الواضح أن سلوك ناصر بإزاء الشيوعيين كان مصطنعا وخادعا إذ أن ناصر كان يأمل في إحداث شقاق بينهم وترويض قوي الشراع المضادة للنظام وقد نجح في ذلك بالفعل في حالة الإخوان المسلمين رغم عدم تشكيل زعامتهم في إخلاصه وبفشله في مؤامراته أشعل زعماء الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني الانقسامات في الصفوف العليا لحركتهم وفشلوا في حشد فرقهم، في حين سحق اللجنة المركزية النشطة (بيان السجن) وفي النهاية اختار ناصر ألا يطلق سراح الزعماء المعتقلين وعلى أفضل تقدير اكتسبوا تحسينا في ظروف السجن وواجه العديد منهم محاكمات وأدينوا في السنة التالية وتم الحكم عليهم بالسجن لمدد تتراوح ما بين 5سنوات و10 سنوات.


وإذا كان لدى الحركة الديمقراطية من بطل فهو يوسف صديق عضو نخبة الثورة سابقا إذ بعد استقالته في يناير 1953 أرسل صديق إلى أسوان وفي شهر مارس من نفس العام غادر صديق البلاد، ثم عاد سرا بعد عدة شهور، وظل مختفيا في قريته ومن هناك اتصل بمحمد نجيب (ربما ليعرض عليه التحالف).

وفي أواخر عام 1954 دخل الدوامة السياسية وقام بكتابة خطاب مفتوح إلى نجيب نشرته المصري قبل يوم م قرار مجلس قيادة الثورة بالعزل ففي عبارة شجاعة كتب صديق يقول: (إن استمرار الحكومة الحالية في السلطة والتنظيم الذي أسسته بعد أن أصدر الناس حكمهم يعني الاستمرار ف ذات السياسة بما يترتب على ذلك من فشل وخطر وما دامت الحكومة قررت أن تترك الناس يقررون شئونهم الخاصة فليس لها الحق في فرض أو اقتراح أي شيء إننا تحركنا في 23 يوليو لسماح للناس بتقرير شئونهم الخاصة دون وصاية تفرض عليهم).

وطبقا لرؤية صديق فقد كان لدى الحكومة خياران: إما أن تعيد البرلمان المنحل في يناير 1952 أو تشكل حكومة ائتلافية تضم كل الأحزاب والتجمعات السياسية المعروفة في الدولة الوفد والإخوان المسلمين والاشتراكيين والشيوعيين واقترح أن يتولى وحيد رأفت رئاسة الوزراء بصورة مؤقتة وأن أي حل آخر يشبه إعطاء السم لرجل مريض .. كذلك كان دفاع صديق المفتوح عن مشاركة الشيوعيين في الائتلاف الحكومي بمثابة هزة لقاعدة الحكم العسكري وبخصوص عدم اعتقال أو تكميم صديق على وجه السرعة فلربما كان ذلك يعكس قرارا ماكرا باستقصاء وبحث اقتراحه لاسيما فيما يتعلق بالنقطة الخاصة بمشاركة الإخوان والشيوعيين في الائتلاف الحكومي وحينما سئل خالد محيي الدين عن اقتراح صديق شعر خالد محيي الدين بأن مضطر لتوصيفه بأنه لا معنى له.

والأكثر أهمية من الاقتراح أن دور صديق المعروف كعضو سابق في المجلس الثوري كان أمرا يهدد نزاهة النظام ففي البداية أحجم صديق عن مناقشة مشاركته سواء في الثورة أو في النخبة العسكرية التي قادت هذه الثورة وتاليا كتب صديق بطلاقة عن انشقاقه بعد أن أعلن مجلس قيادة الثورة عن نيته للاستقالة ففي مقالاته التي نشرت بالمصري وروز اليوسف اتهم صديق النخبة العسكرية بأنها تخلت عن أهداف ثورتها كما أشار على وجه الخصوص إلى تأييده لضباط المدفعية الذين اعتقالهم في يناير 1953 وكذلك دفاعه عن الجبهة الوطنية إنه لم يتوقف عن النشاط السياسي حتى مع ظروف تحديد إقامته كما أنه قرر أنه سوف يستمر حتى يقوم مجلس قيادة الثورة بإعادة الحريات المدنية ويعود الجيش للثكنات ولذلك بعد فترة وجيزة أمر مجلس قيادة الثورة بالقبض عليه.

سوف تستمر الثورة: لقد كان قدر مجلس قيادة الثورة أن يقف في قلب الجدل الدائر حول كيفية استعادة الحكم المدني وقد شجع مرسوم 5مارس على المضاربة حول الدور المستقبلي للضباط.. وحتى حطم ناصر آمالهم ارتأى العديدون إمكانية قيام مجلس قيادة الثورة بتشكيل حزب سياسي جديد واقترح آخرون أن يستمر مجلس قيادة الثورة في لعب دور استشاري أما أولئك الذين اقتربوا من الموضوع بصورة رزينة فقد فشلوا في ملاحظة عدم حقيقة التوقعات القائلة بإمكانية عودة الضباط إلى الثكنات.

ومن جانبه وقف إحسان عبد القدوس في منطقة وسط وتساءل في عموده المعنون (المجتمع السري الذي يحكم مصر) والذي نشر في 22 مارس عن هل يستطيع ناصر أن يقف ثانية أمام لواء ويعطيه التحية؟ كما تعرض عبد القدوس لمسألة فقدان الثقة من قبل الناس في زعامتهم وأصر على أنه قد حان الوقت لوصول مصر إلى نهاية كذلك دعا مجلس قيادة الثورة لأن يحل نفسه.

وعكس بيان المعارضة في مارس قوة متهورة ونظرا لتناس القوى السياسة الكبيرة في اللعبة أعلن العديدون عن الانتصار قبل أن تتم الجولة النهائية كذلك فإن سير الأحداث في فبراير –تحديدا حينما أجبر الضغط الشعبي مجلس قيادة الثورة على عودة نجيب- قد غذى التوقعات غير الحقيقية للمعارضة بالعودة سريعا للسلطة أيضا فإن التحول بعيدا عن هيئة التحرير من جانب أولئك الذين تدافعتهم الرغبة في المشاركة قد أشار إلى درجة جديدة من التفاؤل بين أكثر سياسي الحرس القديم، في حين ذهبت عناصر وفدية –رغم كونها ليست زعامات تقليدية- أبعد حينما دعت أعضاء مجلس قيادة الثورة للانضمام للحزب وعرضت زعامة الحزب على ناصر.

وبعد حدث 25 مارس اتخذ المعارضون سلسلة من القرارات تدعو الضباط إلى التنحي عن السلطة في الحال والعودة إلى الثكنات ولأول وهلة بدا للعديدين أن مجلس قيادة الثورة قد انتهى وتوقع القليلون أن ينتحي الضباط دون تعارك بينما تنبأ البعض بإقدام الجيش على حرب أهلية طرفاها الموالين لنجيب والوحدات الموالية لناصر.

وواقع الأمر فإن الذين هاجموا مجلس قيادة الثورة مباشرة شان عبد القدوس أظهروا شجاعة وسذاجة في آن واحد إذ في الأيام الأخيرة من شهر مارس أدرك خصوم النظام أنهم أساءوا تقدير حساباتهم وأن الوقت قد أضحى متأخرا للغاية للوراء كما ألقت الجولة الأخيرة م الأزمة الرعب في صفوف المعارضة...

إن العديدين رحبوا مهللين بإعلان مجلس قيادة الثورة في 26مارس بأن الثورة قد انتهت وفي هذا الخصوص كتب محمود عبد المنعم مراد (إن القرارات الهامة التي اتخذها مجلس قيادة الثورة تركت أفضل انطباع لدى الناس).

ولكن عبثا تغير هذا الانطباع بعد يوم وحذر مراد من تصاعد الموقف وبحلول 28 مارس شاع الرعب لدى المعارضة الليبرالية وكتب أحمد أبو الفتح صارخا (إن المؤتمرات تحاك للشعب من قبل السوقة المعضدين للنظام، وأن الشعب لا يمكن أن يقبل باستمرار القانون العسكري أو أن يظل ذويهم معتقلين دون وجه حق).

وفي 3 نداءات للعمال فجر محررو المصري عدم مسئولية أولئك الذين فكروا فقد في المكسب الشخصي واعتقدوا خطأ أنهم تصرفوا باسم مجلس قيادة الثورة وفي ذلك اليوم بينما وقف البوليس يراقب هجوم الغوغاء على مكاتب الجريدة. وفي الوقت الذي قفز فيه خصوم النظام للهجوم تبنى آخرون موقفا توفيقيا.

وبدلا من تبني نفس النغمة العدائية التي تبنتها المعارضة والتأكيد على أخطاء النظام قام هؤلاء بامتداح الضباط والاحتفال بإنجازاتهم حيث كتب مصطفى أمين في 6مارس اليوم (اليوم لأول لعودة حرية الصحافة) .. (اليوم نحن لا نهنئ الشعب وإنما نهنئ الزعماء الذين أعادوا السلطة للشعب) وبعد أسبوعين قرروا (لقد علمنا أن الثورة سوف تستمر وإن الذين يحدثون عن عودة النظام القديم إنما أساءوا فهم القرارات التي اتخذها مجلس قيادة الثورة) وفي عمود له ترافق مع عمود عبد القدوس (المجمع السري) دعا مصطفى أمين الضباط لأن يخطوا إلى الأمام وأن يقوموا بالدور المناسب بوصفهم ساسة في قيادة مصر إلى الاستقلال والتقدم.

إن الذين أيدوا النظام ارتأوا الأزمة على أنها صراع بين التقدم والرجعية ودافعوا عن الإصلاح الحريات المدنية وعودة الحياة الديمقراطية بصورة ليست أقل من خصوم مجلس قيادة الثورة كما أنهم لم يرضوا بالضرورة عن نغمة مجلس قيادة الثورة التي تكرس أن أنصار الملكية والإقطاعيين يتربصون بمنجزات الثورة إلا أنهم تخوفوا من أن يكون البديل الوحيد للوضع القائم هو عودة الليبرالية غير الأمينة التي كانت سمة النظام القديم.

كذلك امتدح هؤلاء الإجراءات التي تم اتخاذها منذ 23 يوليو معولين على أنه إذا سقطت الثورة فإنها لن تسقط وحدها ولكنها ستأخذ معها كل ما حققه الشعب من مكاسب على أنهم حثوا الضباط على إنجاز خططهم المزمعة بإرساء الجمعية التأسيسية والسير قدما بإزاء فتح العملية السياسية.

وفي نفس السياق شكك البعض في جدوى عودة الحياة البرلمانية في الأجل القصير على الأقل إذ تساؤل مصطفى الشوربجي وزير العدل السابق وعضو لجنة الخمسين الدستورية عن قيمة الحياة البرلمانية آنذاك إذا كانت ستتسبب في انقسام الأمة إلى تحزبات وتشجيع الغيرة وتمزيق الثورة وكسر صفوف الأمة إما حافظ رمضان رئيس الحزب (القومي) الوطني فقد عول على أن الأرض المحتملة يمكن أن تؤدي حزبا واحدا ورأيا واحدا كما أعتبر انتخاب الجمعية التأسيسية أمرا غير ضروري وأنه حينما يحين الوقت المناسب سوف يتم تشكيل الأحزاب وانتخاب البرلمان كما أنه فضل تأجيل مثل هذه الخطوات حتى يتم جلاء البريطانيين عن مصر.

أيضا قرر فكري أباظة إن مصر تسعى إلى الاستقرار بغض الطرف عمن يسد طالما أن قاعد العدالة ملحوظة وطالما أن النظام عادل وصالح إلا أنه غير موقفه إلى حد ما فيما بعد.

في حين أن أحمد بهاء الدين كان حينذاك محررا صغيرا بروز اليوسف –لم يكن أقل انتقادا لمجلس قيادة الثورة من إحسان عبد القدوس ولكنه نصح رئيس تحريره بعد نشر عمود (المجتمع السري) شاعرا بأن نغمته استفزازية للغاية وبدلا من ذلك تبنى بهاء الدين سياسة هادئة يحدوها الأمل بتشجيع الضباط على اتخاذ خطوات نحو الديمقراطية وآخرون راقبوا الأمر بانتباه ولكن بصمت من على الحدود بينما بدا الحرس السياسي القديم المستقل (علي ماهرحافظ عفيفي، نجيب الهلالي ) غائبا ومحتاطا وإذا كان قد اعتقد أن ماهر كان وراء نجيب فإنه ظل حصيفا وكتوما بما فيه الكفاية إلا أنه تسبب في خطأ معروف في منتصف مارس حينما قررت الصحافة الأجنبية أنه فضل الارتباط بالغرب لكنه أنكر ذلك في بيان رسمي.

وبالنسبة للإخوان المسلمين فإنهم بسحبهم وقواهم من الشارع والترفع عن الجدل العام قد سمحوا للضباط بتجريدهم من قوة تأثيرهم إذ بعد إطلاق سراح حسن الهضيبي نحي جانبا الأسئلة الخاصة بتوجيه الإخوان بإزاء الأحزاب السياسية أو ميلهم للجدل بشأن الانتخابات.

رجال الأعمال الكبار أيضا فرضوا سياجا وجلسوا يراقبون الأحداث من مسافة آمن على سبيل المثال عمل أحمد عبود في الحال على التقرب من النظام الجديد.

وفي البداية حياة النظام كوطن قادم مصر إلى الحقبة الصناعية وكان عبود قد عرض على بعض الضباط وظائف ذات رواتب عالية في الإمبراطورية الاقتصادية بعد فترة وجيزة من الانقلاب وفي شهر مارس حينما بدا كما لو أن مجلس قيادة الثورة سوف يحل نفسه قام عبود بمعاودة عروضه السابقة.

أزمة المثقفين: بعد الأزمة بفترة وجيزة ذكر أحمد بهاء الدين قصة أبو هريرة (الصحابي وراوي عدد كبير من الأحاديث) وما كان يتسم به من روح مرحة وطبقا لرواية أحمد بها كان يأكل في معسكري معاوية لأن الطعام في معسكر معاوية أكثر وفرة واختفى في يوم المعركة لكون البعد عن المعركة أكثر أمنا... وتسائل بهاء الدين .. كم الدنيا من أبو هريرة في مصر

وواقع الحال فإن الحكم على طرف بأنه أكثر شجاعة وطرف ما بأنه أكثر ذكاء أو الحكم على طرف بأنه أكثر حماسا وطرف ما بأنه أكثر انتهازا للفرص هو أمر يختلف بتوالي الأجيال في مصر وبسبب التقلبات السياسية التي شهدتها الحقبة الناصرية والتقديرات الماضية للمواقف السياسية للخصوم والأنصار والتي تميل إما إلى الغلظة أو التبرير فإن العديدين من أولئك الذين وقفوا مع مجلس قيادة الثورة في ظروف غير سهلة أعلنوا انشراخهم الأخير في مارس ودفعوا الثمن السجن أو النفي أو حتى فقدان حياتهم والبعض مثل إحسان عبد القدوس صنعوا سلاما لاحقا مع النظام في غير سهولة وآخرون مثل أحمد أبو الفتوح فضلوا المنفى حتى رحيل ناصر، أما العديدون مثل علي ومصطفى أمين والذين احتفظوا بثقة النظام إلى ما بعد مارس فقدوا هذه الثقة لاحقا وعانوا من نفس المصير الذي آل إليه منافسوهم في مارس.

وفي عام 1961 كتب محمد حسنين هيكل عن مارس 1954 بوصفها (أزمة المثقفين) والأزمة كما حددها هيكل تشير إلى فشل المثقفين الأحرار في تأييد الثورة ونتاجا لذلك أضحى المثقفون أكثر اغترابا عن الجماهير وقد كان لجدل هيكل هذا صداه بالنسبة للتاريخ الرسمي المعلن عنه بواسطة النظام والذي كان هيكل أكثر معضديه ويعد تحليل هيكل صحيحا إلى حد كبير، إذ أن أولئك المثقفين الذين تم تضمينهم في المناقشات الخاصة بالجمعية التأسيسية المنتخبة والعدد المناسب من الأحزاب تلك المناقشات التي ثبت أنها لم تكن في محلها في النهاية أولئك المثقفين فقدوا الاتصال حقيقة بالحقائق السياسية.

كذلك فإن أولئك الذين مثلوا ما يمكن أن نطلق عليه معارض تقدمية فشلوا في غرس الانطباع لدى الجمهور بأن يدافعون ليس عن عودة النظام القديم وإنما عن نظام اليبيرالي جديد وكما كتب فكري أباظة في خضم معمعة مارس إن المصريين أرادوا الاستقرار فوق أي شيء آخر، ففي فبراير فضلت الدولة زعامة(قيادة) نجيب على قيادة ناصر وبعد مضي شهر بدا الاختيار بين مجلس قيادة الثورة والأحزاب السياسية غير المأسوف علها ولقي الضباط تأييدا كافيا يسمح لهم بالتغرير بخصومهم.

وإذا كنت أزمة مارس 1954 حقيقة تعكس (أزمة المثقفين) فإن هذه الأزمة يجب أن تطوق سواء أولئك الذين أيدوه، حيث كل التجمعات قد غذت طموحات الضباط بأ، يحكموا فالذين تحركوا في ركب المعارضة اتهموا بالمبالغة في تقدير قوتهم السياسية والفشل في إدراك آليات مجلس قيادة الثورة، وحتى في استقراء أن الضباط عقدوا العزم على أن يسودوا في الأجل الطويل.

وفي الوقت الذي كان فيه مجلس قيادة الثورة يسند ظهره على الحائط قامت المعارضة بتشريع وتيرة الأحداث ليس إلى العودة إلى الحياة البرلمانية ولكن إلى تحذير اعتلاء الضباط للسلطة أما أولئك الذين وقفوا مع الضباط في مارس، فإنهم سرعان ما منيوا في الشهور التالية بتحرك النظام صوب الاستقلالية رؤيته، وأدركوا أ، تملق الضباط نحو الإصلاح أو ما أطلق عليه الحريات الطبيعية بدا أكثر تعتيما بعد انتصار الضباط.

في خضم أزمة مارس تصدر التوصل إلى اتفاقية جلاء مع البريطانيين قائمة أولويات مجلس قيادة الثورة إذا آمل الضباط بتوقيع اتفاق أن يستمروا في الإصلاح السياسي بغية إنهاء الفترة الانتقالية وهكذا أمسى الاختيار النهائي لشرعية النظام السياسي الجديد يتجسد في القضية الوطنية بيد أنهم لم ينظروا إلى المفاوضات بتفاؤل وخلال العامين الأولين من حكم الضباط لم تسفر المناقشات مع البريطانيين عن شيء ذي مغزاه بسبب ظهور العديد من قضايا الخلاف سواء كانت أساسية أو رمزية.

ورغم محاولة الولايات المتحدة للقيام بدور الوساطة ظل الطرفان المصري والبريطاني ساكنين حتى ربيع 1954 وأخيرا في يوليو 1954 وقعت كلا من مصر وبريطانيا على مسودة اتفاق وفي أكتوبر التالي وقع الطرفان بالأحرف الأولى.

وتجدر الإشارة أن التقدم الثابت نحو اتفاق نجم عنه شعور قوي في واشنطن وإحساس متنام في لندن بأن الضباط يميلون ناشدين تحقيق أهداف عادية سواء كانت استراتيجية أو داخلية وتجدر الإشارة أيضا إلى أن زعماء مصر الجدد أعلنوا عن نيتهم الواضحة في دفع الإصلاح الاجتماعي وقمع الشيوعية في الداخل والأكثر أهمية أنهم أبدوا التزامهم بالمصالح الاستراتيجية الغريبة.. وكان دبلوماسيو الولايات المتحدة وبريطانيا قد أدركوا أن الضباط يعرضون وعودا عريضة للتوصل إلى حل عن أي شركاء وتفاوضيين سابقين أما من جانب الضباط فقد امتدت أبصارهم إلى الولايات المتحدة وبريطانيا نظرا لوعيهم بعدم خبرتهم السياسية والقيود التي كانوا يعملون في ظلها وإن كانت نظرتهم إلى بريطانيا فيما يتعلق بتأييدهم قد أحيطت دوما بدرجة كبيرة من الشك في تغذية إقرار الحكم العسكري ... وتتمحور التساؤلات في هذا الصدد في التساؤل عما إذا كان الأمريكيون على علم بحركة الضباط الأحرار وهل تم تشجيعها على تحقيق طموحاتها السياسية فيما قبل 23 يوليو 1952 إن اليساريين المصريين خاصة يرون أن ثمة أيدي أمريكية وراء ثورة الضباط وإمساكهم بزمام السلطة في حين تشير التقارير و الرسائل الدبلوماسية الأمريكية والبريطانية إلى مسئول الخارجية في واشنطن ولندن والقاهرة لم يكونوا يعلمون سوء القليل أو حتى كانوا لا يعلمون شيئا عن خطط الضباط إلى ثمة شيء ذو أهمية برهن صحة هذه السجلات يتمثل في الروابط بين سفارة الولايات المتحدة بالقاهرة والنظام الجديد والإقرار البريطاني المبكر من قبل الدبلوماسيين البريطانيين بمصر باتباع قيادة الولايات المتحدة.

ومن خلال المصلحة الفنية والسياسية بالإضافة إلى النذر اليسير من التأييد المعنوي ساعد الدبلوماسيون الأمريكيون والبريطانيون بالقاهرة الضباط على كسب الثقة خلال الفترة الحرجة من حكمهم كما ارتضى الطرفان ضمنيا توسيع الضباط لسلطتهم وفي بعض الأحيان شجع الطرفان الضباط صراحة على القيام بفعل ذلك.

كذلك تظهر هذه السجلات مدى التغيير الملحوظ الذي شهدته السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وانحسار الدور البريطاني في العالم العربي.

وواقع الحال أنه لا يمكن للعلاقات المصرية مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا أن تكون بمعزل عن محتوى سياسة التحالف الأنجلو أمريكي حيث الانتقال إلى السيطرة الأمريكية بناء على رغبة لندن أنتج تصدعات بين الحلفاء وكذلك فإن التردد الأمريكي المبدئي تولدت عنه إحباطات بريطانية وتاليا شعر البريطانيون بالحنق حينما أربكت الولايات المتحدة النظام العسكري الجديد وضغطت على بريطانيا للتنحي عن سلطتها في منطقة القناة وقد ارتأى صانعوا لسياسة البريطانيين أن الأمريكيين يتخذون من الضباط الصغار أداة للحصول على مكاسب إقليمية غريبة في حين ارتأى الأمريكيون أن البريطانيين المتشبثين بالإمبراطورية كانوا عددوا غريبا.

والجدير بالذكر أن معاهدة سنة 1936 المصرية البريطانية كانت قد سمحت بتواجد قوات قوامها عشرة آلاف شخص ولكن خلال الحرب العالمية الثانية اعتبرت مصر بمثابة أهم قاعدة بريطانية وبعد الحرب طلبت مصر رسميا بالتفاوض بشأن معاهدة 1936 ثم قامت بإلغائها فيما بعد.

وواقع الأمر فإن ثمة حجرين عثرة تسببا في أن تؤول كل المحادثات إلى الفشل هما: مطالبة مصر بالسيادة على السودان حيث طالبت مصر أن يكون الاعتراف بذلك شرطا مسبقا على التناقش بشأن قاعدة القناة.. ومطالبة مصر بانسحاب القوات البريطانية من مصر.

وحتى قرر صانعوا السياسية البريطانيون في وزارتي الخارجية والحرب والسفارة بالقاهرة أن التكاليف السياسية والعسكرية والإبقاء وعلى القاعدة لم تعهد لها ما يبررها) أيد البعض التوافق مع التطلعات الوطنية المصرية وقد حاول البريطانيون ولكن دون نجاح الضغط على الحكومات المصرية المتعاقبة وعلى إقناعها بأن الأمن القومي المصري يقوم على وجود قوات أجنبية بمنطقة القناة وبينما شعر العديدون بالقاهرة ولندن أن الوطنية المصرية ليست سوى مؤامرة أو خدعة من قبل الباشوات لتحويل الانتباه عن فشلهم.

وتحت إدارة ثلاث وزارات مختلفة للخارجية بين 1950و 1951 افتقرت وزارة الخارجية البريطانية إلى السياسة المناسبة وبحلول أواخر عام 1950 استنتج أرنست بيفن أنه لا خيار أمام بريطانيا سوى الجلاء عن مصر آملا الاحتفاظ بعلاقات صداقة معها والحصول على فترة انتقالية معقولة (اعتمد بيفن أن هذه الفترة سنتين) وأن تحتفظ بريطانيا بالحق في إعادة احتلال منطقة القناة في حالة حدوث حرب كذلك اقترح بيفن أن تقوم بريطانيا بتدريب القوات المصرية التي ستحل محل القوات البريطانية.

أما هربرت مور ليسون الذي شغل مكان بيفن فقد تبنى موقفا أقرب إلى ذلك الذي تبناه أنصار الخط العسكري الساخن من جانبهم رفض المصريون الاقتراحات التي ارتسمها مجلس الوزراء البريطاني في أبريل أما انتوني أيدن وزير الخارجية المحافظ بعد أكتوبر 1951 ترنح تحت ضغوط زعماء الحزب بين قبول الانسحاب البريطاني وقد أفزع نقص زعامته الواضح بعض رفاقه المقربين الذين نصحوه بتحدي زعماء الحزب.

وفي نفس الوقت لم تخلو العلاقة بين السفارة والإدارة البريطانية من التوتر ثم بدأ سير رالف الذي كان قد أشرف على المحادثات الأنجلو مصرية بالقاهرة خلال صيفي 1951 في حث صانعي السياسة البريطانية على قبول الجلاء عن مصر وهكذا بدأ التحول الذي سوف يتطور خلال عذابات الشهور الأولى من عام 1952.

أما فيما يتعلق بضغوط الولايات المتحدة على بريطانيا وعلى وجه الخصوص مسألة منح فاروق السيادة على السودان فقد أثار حفيظة لندن وقد حذر البريطانيون الذين احتجوا على ذلك الولايات المتحدة ضد السماح للمصرين باستغلال الخلافات بين الأصدقاء وقد انعكس الإحباط فيما شهدته منطقة القناة من حدة الأخذ بالثأر في 25 يناير 1952 في اليوم التالي –السبت الأسود- لحرق المؤسسات الأجنبية.

وفي ضوء السبت الأسود تميزت السياسة البريطانية بالتراجع حيث رحبت لندن بخلع النحاس وضغطت على حكومة ماهر الجديدة بإدانه حكومة الوفد على إهمالها في منع الشغب ومع بذلك فإن سياسات حكومة ماهر الجديدة من المحتمل تطويرها.

حيث اتصل أنتوني بسفيره قائلا "أنه لمكسب التخلص من الوفد" أما ماهر الذي تولى رئيسا للوزراء حاول أن يصل إلى اتفاق انجلو مصري خلال 3شهور ولذلك فد سعى لترميم العلاقات مع لندن وفي نفس الوقت اقترح تشكيل جبهة وطنية تشمل الوفد (كان ذلك خطأ لا ينسى في عيون البريطانيين) وإلى هذا الحد قاوم ضغوط القصر والبريطانيين بإدانة حكومة النحاس على فشلها في 26 يناير.

وقد فضل البريطانيون سياسة الهلالي حينما علق المفاوضات أثناء ما كان يقود التطهيرات ضد الوفد كذلك هددت استقالته بما أطلق عليه البريطانيين كانوا يأملون الضغط على فاروق بالاشتراك مع بعض الثقاة الوطنيين في حثه على عدم قيام من يرشح لرئاسة الوزراء بتشكيل حكومة جديدة أيضا أطلعت وزارة الخارجية البريطانية واشنطن بأن تعطي تعليمات لسفيرها (كيفري) بالتحدث مع الملك عن الحالة في مصر وحثه على تطهير شلته.

ورغم أن البريطانيين عرفوا بالتذمر داخل الضباط فإن ثورة الضباط الأحرار باغتتهم وكذلك رغم علم المخابرات البريطانية بأن الضباط الصغار تدربوا وحاربوا في غير كامل لياقتهم وتنظيمهم في فلسطين عام 1948 وفي منطقة القناة في عام 1951 إلا أنها أي المخابرات البريطانية فشلت بوضوح في إدراك سواء تغلغل الحركات المضادة في الجيش أو دلالة تحدي الضباط الموالين للملك من خلال توزيع المنشورات في الثكنات ويذكر أن تقرير وزارة الحرب في ديسمبر 1951 وصف الجيش بأنه سيس ولكنه مخلص وموال للملك وكما أبدى ستيفنسون اهتمامه بالروح المعنوية في الجيش المصري ولكنه شأنه شان العديدين لم يدرك التهديد السياسي المباشر للجيش.

إن تقارير السفارة البريطانية المبدئية عن الثورة توضح حالة الفقر التي كانت تعاني منها المخابرات البريطانية وكان ميشل كريزويل المسئول عن الشئون البريطانية معتمدا في حصوله على المعلومات على مرتضى الموافق الذي عين وزيرا للداخلية في حكومة الهلالي الجديدة قد أبلغ أن الضباط المنشقين اقتيدوا بواسطة العقيد مصطفى كمال صدقي ذو الميول اليسارية المعروفة منذ عام 1940 كذلك تم التقرير بأيلولة الحركة إلى كل من الشيوعيين والإخوان المسلمين.

وفي نفس القوت تمت محاولة إقدام الضباط المتردين على برنامج شوري حث مريز ويل لندن على وضع القوات في منطقة القناة في حالة تأهب طيلة الـ24 ساعة وسرعة وصول أسطول البحر المتوسط للإسكندرية ووافق وزارة الخارجية على وضع وحدات القناة تحت المراقبة لكنها لم تتخذ أية خطوات لتأمين فاروق ورجع ستيفنسون ليلقي نجيب والسادات وجمال سالم وفي 29 يوليو أكد ستيفنسون للضباط أن حكومته ليست لديها أية نية للتدخل.

وبناء على الفهم الواضح للكيفية التي أخطأت بها السياسة البريطانية حول صانعوا السياسة الأمريكية تطوير حقائق ما بعد الاستعمار بما يتواءم والمصالح الاستراتيجية الغربية.

وفي الاتفاقية الثلاثية والتي عقدت في مايو 1950 تعهدت حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بالحد من المساعدات العسكرية للدول العربية وإسرائيل واقتران ذلك بروية الولايات المتحدة واحتفاظ بريطانيا بنفوذها في مركز الأراضي العربية ومع ذلك فبحلول نهاية السنة بدأ هذا التقدير يتغير.

وعندما تصاعد الوضع العسكري في منطقة القناة في أكتوبر 1951 سعت الولايات المتحدة للعب دور الوساطة بين الغرباء وأثناء ما كان الأمريكيون يشاركون البريطانيين كرههم للوفد ارتأى صانعوا السياسة الأمريكية عدم وجود بديل بل وترددوا في الإطاحة بالحكومة الوفدية نظرا لعدم مقدرة الملك طبقا لرؤيتهم على إيجاد من يحل محلها.

إن فاروق استحث الأمريكيين على التوسط ذلك الدور الذي رفضته واشنطن ورغم ذلك كانت الولايات المتحدة مع فكرة منح مصر السيادة على السودان وبوجه عام أدرك الأمريكيون التكتيكات الجزائية البريطانية في منطقة القناة بوصفها نتاجا مضادا وتدخل كيفري مرات عديد لكبح ما أطلق عليه الثأر البريطاني وفي النهاية فشلت الولايات المتحدة في هذا الخصوص.

وهكذا فإن صانعي السياسة الأمريكية الذين ظلوا محجمين عن الضغط المباشر سواء مع المصريين أو البريطانيين قد راقبوا الأزمات الأخيرة للنظام القديم بعد السبت الأسود بإحساس متزايد من الكآبة.

وأيما كان الأمر فإن الأمريكيين استمروا في الضغط على لندن لاتخاذ الخطوة الأولى في كسر الجمود الدبوماسي فقط قبل حدوث انقلاب الضباط الأحرار بيوم قررت واشنطن الإقدام إلى مبادرة سياسية شاملة بيد أن الوقت كان قد ولى ويؤكد بعض الأمريكيين على أنه لو أن واشنطن حققت سيادة فاروق على السودان فلربما توافرت الرغبة لدى المصريين بعدم الإصرار على الاعتراف البريطاني كشرط مسبق على المفاوضات.

والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو هل علم الأمريكيون بأن الثورة كانت وشيكة في يوليو 1951 يشر اقتراح (باي رود) في اليوم السابق على الثورة بأنه لا هو ولا زملاؤه في الإدارة الأمريكية كانوا يعلمون.

وكان هناك تساؤل عما إذا كان الجيش سوف ينجز فعلا الثورة ضد الوفد إذا أمر بذلك؟ وفيما دون ذلك فإن ثمة القليل من الدلائل التي تشير إلى أن السفارة الأمريكية أعارت الجيش انتباها حتى أواخر يوليو عندما ساد الارتباك انتخابات مجلس إدارة نادي الضباط وفي يناير أدرك كيفري تضاؤل قدرة القصر على حفظ النظام.

كذلك قدم ميلز كوبلاند دليلا إلى أولئك الذين شجبوا المؤامرة الأمريكية إذ رغم أن كوبلاند لم ينكر التقاء كرميت روزفلت بالضباط الأحرار ثلاث مرات في مارس 1952 إلا أنه يؤكد على أنه لم يلتقي بناصر نفسه وعلى الجانب المصري استنتج البعض مثل حمروش عدم قيام اتصالات شخصية بين ناصر وروزفلت في فترة ما قبل الثورة كما ينكر أعضاء اللجنة التنفيذية للضباط الأحرار أي اتصالات بين حركتهم والمسئولين الأمريكيين في الفترة السابقة على 23يوليو وليس من المعقول أن يكون ناصر قد رد على عروض روزفلت دون معرفة الآخرين.

المهم أنه بعد حركة يوليو، كان لابد أن يعلم الأمريكيون بها .. ففي صباح 23يوليو 1952 أوفدت اللجنة التنفيذية للضباط الأحرار اثنين من ضباط القوات الجوية هما علي صبري وعبد المنعم النجار لإبلاغ السفارة الأمريكية بأن الضباط الأحرار استولوا على مركز القيادة العام وكان اتصالهما مع مساعد الملحق الجوي الكولونيل ديفيد إيفانز الذي عرفاه من خلا العمل الرسمي وهكذا كان الأجنبي الأول الذي أبلغ بالثورة ومن ثم أصبح بمثابة الحامل الأساسي للمعلومات من نخبة الثورة إلى سفارة الولايات المتحدة في الأسابيع التالية على الثورة.. ومن جانبهم كان دبلوماسيو الولايات المتحدة متباطئين في معرفة توجهات أولئك الذين سيطروا على السلطة وفي أواخر أغسطس عندما قررت السفارة لأول مرة أن تسعه ضباط يباشرون الأمور كان اسم السادات هو الوحيد الذي تم الاستشهاد به.

ورغم أن مسئولي الولايات المتحدة قد قدروا أن نجيب هو واجهة للضباط الشباب فإن ناصر لم يظهر كزعيم منظم إلا في مرحلة تالية حين قرر أنه أقوى عضو في نخبة الثورة وأكثرهم اعتدالا في وجهات نظره.

السقوط مع الباشوات: قبل أن يصبح أعضاء الثورة تنظيما بفترة طيويلة أدرك المسئولون الأمريكيون والبريطانيون سريعا أن الضباط يمثلون القوة السياسية الوحيدة التي يمكن أن يتفاوض معها البريطانيون بخصوص جلاءهم من خلاله يتم الحفاظ على المصالح الغربية في المنطقة وقد رجب البريطانيون بثورة الضباط مع التفاؤل الحذر أما الأمريكيون فقد أمدوا الضباط بالتأييد المعنوي الذي عضد النخبة العسكرية خلال الفترة الأولى من الحكم.


ومنذ البداية لم تدع النخبة العسكرية سرا فيما يتعلق بتوجيهاتها السياسية حيث عندما التقى كيفري مع الضباط ف 25 يوليو أكدوا له أن ليس لديهم طموحات سياسية وأنهم سوف يتركون الحكم لرئيس الوزراء علي ماهر وأنهم سوف يقمعون الشيوعيين وسوف يرتقون بمصر إلى دور قيادي في منطقة الشرق الأوسط.

وخلال الأسابيع الستة الأولى ونظرا لانشغالهم بتشكيل سياسة معينة تجاه الأحزاب السياسية والإصلاح الزراعي وعدم إمكانية عملهم مع علي ماهر امتنع الضباط عن أية مبادرات دبلوماسية.

وفي شهر سبتمبر وتحديدا بعد فترة وجيزة وتنصب نجيب زعيما للحكومة أخبرت نخبة الثورة سفارة الولايات المتحدة بأنها جاهزة لمناقشة الشئون الخارجية وفي هذا الخصوص وصف الضباط أنهم كانوا أقل تعنتا من أنظمة مصر السابقة بيد أنهم أصروا على الجلاء البريطاني كشرط مسبق لأية مناقشات عن الترتيبات الدفاعية المستقبلية وأن تقوم بريطانيا بإظهار حسن النوايا بإبداء تنازلا مبدئية أما فيما يتعلق بالتأييد الإيجابي للضباط من قبل البريطانيين فقد نما ببطء ليس بسبب الطبيعة العدائية في العلاقات الأنجلو – مصرية فحسب إنما أيضا بسبب الخلافات بين وزارة الخارجية وسفارة القاهرة وحينما وجد السفير البريطاني والأمريكي قد اكتسب ثقة الضباط على وجه السرعة قام هو بقصر اتصالاته على علي ماهر وسعيا ومنه لكسب أفضلية لدى البريطانيين اشتكى ماهر من أن الروابط الحميمة من الأمريكيين والضباط شجعت الآخرين على الاعتقاد بأنهم يجضون بالتأييد الأمريكي فيما يتعلق بكل أنشطتهم وأفكارهم.

وفي ضورء ما سبق اقتراح السفيران الأمريكي والبريطاني مساعدات عسكرية موقوته لمساندة الضباط على الصمود وثم ضغط ستيفسون على لندن لتسريع وتنمية المساعدة العسكرية.

وهكذا وأثناء ما كان صانعو السياسية البريطانية يتصرفون بحذر تحرك الأمريكيون لنباء علاقات مع نخبة الثورة وقد أثرت الأهداف السياسية للضباط على سفير الولايات المتحدة الذي وصف حكام مصر الجدد ومن عبارات متوهمة حينما أعلن «أن نخبة الثورة تهدف إلى ثورة اجتماعية سليمة للقضاء على التخبط واستئصال شأفة الشيوعية وإذا نجحت الحركة في تحقيق ذلك فإن الآمال المعقودة على الاستقرار العربي في مصر والشرق الأوسط سوف تضحي قابلة للتحقيق.

إن الاستقرار بالنسبة لكفيري كان يعني الإصلاح وقمع الحركات المعادية وكما حدث فإن الحكومتين البريطانية والأمريكية علمتا بخطط الإصلاح الزراعي بما كان لذلك من دلالة على سقوط الباشوات ونهوض الفلاحين كما تم إرسال المستشارين على وجه السرعة للعمل مع المصريين بيد أن كلا من كيفري وستيفنسون حذرا الضباط بألا يتركوا توقعات الفلاحين تذهب بعيدا وكما عارض كلاهما إطلاق سراح المعتقلين السياسيين في أواخر يوليو وكذلك نصحوا نخبة الثورة بالتصدي للشيوعيين وهو ما يظهر جليا بوضوح في أنه حينما استثنى الضباط الشيوعيين من العضد العام قرر سفير الولايات المتحدة أن الضباط لم يطلقوا سراح 14من روؤس الشيوعيين لأنه طلب منهم القيام بفعل ذلك.

وأخيرا فإن الحكم العسكري قد برر على أنه أفضل خيار ممكن لمصر، حيث تحدثت رسائل كيفري في الفترة التالية على الثورة عن استمرار الوضع القائم من حيث تواجد الجيش كشريك في الحكم وكذلك يرى السفير الأمريكي صحة المشاركة بين علي ماهر ونخبة الثورة ومع ذلك بحلول منصف أغسطس وبناء على محادثة جرت بينه وبين الضباط تنبأ بأن الجيش ربما يجد أن تولي السلطة مباشرة أمرا لا مفر منه بحلول نهاية الشهر حينما دفعت معارضة علي ماهر للإصلاح الزراعي الضباط لأن يقروا خلعه.

وحينما علم كيفري أن نخبة الثورة يخططون لتعيين رئيس مجلس الدولة عبد الرازق السنهوري رئيسا للوزراء أبدى اعتراضه الشخصي.

كذلك أبدى كيفري اعتراضه على تعيين راشد البراوي مهندس الإصلاح الزراعي ووصفه بأن شيوعي وبناء على نصيحة كيفري رفضت نخبة الثور سواء تعيين رجل القضاء أو رجل الاقتصاد وعينت محمد نجيب رئيسا للوزراء وعندما علم الأمريكيون بتعيين رجل عسكري رئيسا للوزراء ارتأى كيفري أن هذا التعيين يدعم استقرار النظام مقررا «إن نموذج الإشراف العسكري يعد ملائما للوجود على الأقل حتى يتم إجراء انتخاب وربما أطول» وفي هذا السياق قرر كيفري بعد ثمانية أسابيع من الثورة أنه بات من الواضح أن النظام الجديد في مصر في طريقه للتبلور وأنه يواجه بمشكلات ماثلة وجماعات معارضة قوية لكنه صمم برنامجا وأسلحة وليس من السهل قلقلته أو إثنائه عن أهدافه وأصبح من الواضح أن ثمة مطلب وحيد موقوت يتمثل في ضرورة اختيار الغرب إما تأييد أو معارضة النظام».


قرر كيفري «إن لديه مهمة أساسية في التعامل الدبلوماسي إذا كان لابد أن تفهم كل الاقتراحات التي تبديها الحكومة الغربية بكل جدية يتم تقيمها بصورة مناسبة من قبل هؤلاء الضباط فيجب التعامل معهم كساسة تحت التمرين ليس لديهم فكرة عن حل المشاكل التي يريدون حلها».

وفي الشهور التالية بدت العلاقات الأمريكية المصرية الخاصة ثابتة ففي خريف 1952 وصل كرميت روزفلت إلى مصر، وبعد فترة وجيزة أوفدت cia معلمين لتدريب ضباط المخابرات المصرية.

ولقد جعلت نخبة الثورة سفارة الولايات المتحدة على علم بالتطورات أولا بأول حيث تم إبلاغ كيفري بإلغاء الدستور وخلع يوسف صديق وتشكيل هيئة التحرير وقد كتب جون فوستر دالاس في فبراير 1953 «من الضروري تماما بالنسبة لمصالحنا أن يبقى نجيب في السلطة أو يتم تشجيعه للتعاون مع الغرب»

نقص تام في الثقة نظرا لانعدام الثقة في البريطانيين قاوم الضباط الضغط الأمريكي لإعادة الثقة في البريطانيين عند إعادة المفاوضات خلال 1952 وبدلا من لك استداروا إلى قضية سادة السودان وهي النقطة الثانية في النزاع المصري – البريطاني.

وكانت الحكومة المصرية قد وقعت اتفاقا مع السودان في أكتوبر يختار السودانيون بمقتضاه إما الاستقلال أو الاندماج مع مصر.. وفي يناير 1953 أبدت كل الأحزاب السودانية القيادية موافقتهم الضباط في اتجاه تقرير مصيرهم، وفي 12 فبراير عقدت مصر وبريطانيا اتفاقا مماثلا.

وبتوقيع اتفاقية السودان بواسطة كل الأحزاب وافق مجلس قيادة الثورة على التحرك صوب قضية القناة، وفي أواخر مارس سحب الضباط مطلبهم الخاص بالجلاء كشرط مسبق للمحادثات وكما استطابوا اللهجة المضادة للبريطانيين في بيانهم وفي أواخر إ[ريل عرض مجلس قيادة الثورة معادلة بدت بالنسبة للأمريكيين أنها تقدم خلاصة ما تريده القوة الغربية الاحتفاظ بقاعدة القناة والبدء في وضع برنامج من أجل الدفاع عن الشرق الأوسط والذي سوف يتطور ليأخذا الصبغة الرسمية.

من خلال المخططين الأمريكيين والبريطانيين قد وافق الضباط على الاحتفاظ بالقاهرة مثلما وافقوا على منح بريطانيا فترة معقولة للجلاء كذلك وافقوا على بقاء الفنيين لتدريب المصريين الذين سيحلون محلهم أيضا أبدوا استعدادهم لمنح بريطانيا حق التدخل في حالة تعرض مصر أو أي دولة عربية حليفة للعدوان وفوق ذلك عبروا عن رغبتهم في مناقشة وسائل تنسيق الخطط العسكرية مع التلميح بالانضمام لمعاهدة أمنية إقليمية مشتركة.

وهذا بدأت المفاوضات في 27 أبريل وتعطلت خلال عشرة أيام وقد أبدى الضباط تصلبا في نقطتين هما: رفض النظام تركيا بوصفها أمه سوف تشجع مصالحها الأمنية على إعادة الاحتلال البريطاني والإصرار على عدم ارتداء الفنيين البريطانيين زيا عسكريا أما الأمريكيون الذين حاولوا التوسط فقد منيوا بالإحباط حيث صرح جون فوستر دالاس الذي زار مصر بعد فترة وجيزة من تعثر المفاوضات بالافتقار إلى الثقة بين الأطراف بما يعرقل أي تقدم كما عبر لسفيره عن غيظه من البريطانيين وعلى أثر لك اشتعل الموقف في منطقة القناة وشن المصريون غاراتهم على القواعد البريطانية ورد عليهم البريطانيون.

وفي سبتمبر أقنع الأمريكيون مجلس قيادة الثورة بأن يحدد موقفه عبر ثلاث قضايا قواعد وشروط عبور قناة السويس ومدة الفترة الانتقالية للجلاء.. والشروط التي من أجلها يعيد البريطانيون احتلالها للقاعدة.

ومن جانبهم شعر الضباط بأنهم أبدوا الكثير من التنازلات بالفعل وفي هذا السياق قال ناصر لكيفري «لو ظللنا نتنازل فإننا سوف نشنق في الشوارع يوما ما»

ومع ذلك ورغم ممارسة مجلس قيادة الثورة لخياره العسكري فإنه اعتنى ببقاء القنوات الدبلوماسية مفتوحة حتى منتصف نوفمبر فوصف المفاوض العسكرية الجنرال بريان روبتسون ناصر بأنه مفاوض صلب لكن له كل احترام وأن حوالي 85٪ من النقاط متفق عليها لكنه لاحظ أن هناك بعض المسائل البارزة من الصعب الوصل منها إلى نتيجة على أساس «أن بعض الناس في لندن فشلوا في إدراك أهمية التسوية لكل من البريطانيين والمصريين» وبعد مضي شهر وعد الضباط بتحجيم التوترات في منطقة قناة السويس ووفوا بوعدهم ورغم عدم انقطاع الحوادث العدائية حتى عودة المفاوضات الرسمية في الربيع التالي إلا أنها كانت أقل انتظاما كما لم يعد النزاع المسلح يعرقل التقدم بإزاء الاستقرار أو التسوية الفعلية.

إلا أن العملية سرعان ما اكتنفها التعطيل إذ بعد ثلاثة أيام من عودة ستيفنسون إلى مصر في منتصف ديسمبر التقى ناصر وصلاح سالم بصورة غير رسمية وبعد لقائه الثاني بناصر في 28 ديسمبر وصف ستيفنسون مزاجه الشخصي بأنه أكثر كآبة عن زي قبل.. أما ناص فقد اقترب من الطور الجديد بهلع كما احتاج إلى إبلاغ الأمريكيون بأن المحادثات مع بريطانيا ستستمر فقط احتاج النظام إلى الوقت لمعرفة ما ستفسر عنه الأحداث الداخلية.

وقد أضحى الوقت مناسبا للاتفاقية لاسيما أنه بعد انكسار الإخوان المسلمين بدأ النظام في غاية قوته وقادرا على التصدي لأي هجوم من قبل الجماعات والمعارضة يهدف إلى تقديم صورة سيئة عن الاتفاقية للشعب.

أيضا قرر كيفري بعد أن انجلت أزمة مارس، أن ناصر يعد الرجل الوحيد في مصر الذي يتمتع بالقوة الكافية لعقد اتفاقية مع البريطانيين.

وعلى نفس الوتيرة، قابل البريطانيون انتصار مجلس قيادة الثورة وإحلال ناصر محل نجيب بتفصيل ففي أبريل ستيفنسون لندن بفتح حلقة جديدة من المحادثات ورغبة في مساعدة مجلس قيادة الثورة لكسب الثقة العامة بدأت وزارة الخارجية تحوم حول ها الموضوع.

وبحلول منصف مايو قرر سفير الولايات المتحدة في لندن أن نجاح ناصر الواضح في تثبت مكانته وحفظ النظام يمثل عطية لصانعي السياسة البريطانية وأضاف أن مقدرة ناصر على إشاعة الاستقرار الداخلي له أهمية سياسية عظيمة في إرساء اتفاقية نوظرا لتعبير كل الأطراف عن اهتماماها الجاد من ناحية وعدم وجود أي عوائق سياسية في الأفق من ناحية أخرى اكتسب التقدم بإزاء اتفاقية زخما إضافيا وفي أوائل يونية أخبر ناصر كرميت روزفلت أنه يريد اتفاقية بحلول 23 يولية.. وخلال أسبوع تعشى ناصر وعامر وزكريا محيي الدين مع السفير البريطاني وعدد من مسئولي السفارة في بيت تريفود إيفانز وفي أواخر يوينو أبلغ كيفري واشنطن «لا زلت على اتصال بالمصريين لعقد اتفاقية مع البريطانيين لكنهم أصبحوا أكثر جموحا.

وفي 243يوليو طار وزير الدولة البريطانية للحرب إلى القاهرة بعد ثلاثة أيام توصل الممثلون والبريطانيون إلى رؤوس اتفاقية بجلاء البريطانيين خلال عشرين شهرا من التصديق على الاتفاقية ومنح البريطانيين الحق في إعادة التدخل حال تعرض تركيا أو أي دولة عربية حليفة للعدوان كذلك الحق في بقاء المستشارين الفنيين البريطانيين تحت قيادة مصرية أيضا أعلنت مصر الدفع السريع لكل الضوابط المفروضة على تحرك القوات البريطانية في منطقة القناة وفي الشهور الثلاثة التالية توصلت الوفود المصرية والبريطانية إلى المسودة النهائية... ووقع الاتفاق في 19 أكتوبر 1954.

صفحة جديدة بيضاء بعد التوقيع على الاتفاقية الأنجلو- مصرية لاحظ كيفري إمكانية قيام العلاقات بين الدولتين في أجواء مزدهرة مقررا «إن البريطانيين بإمكانهم فتح صفحة جديدة بيضاء لرسم سياسة المستقبلية تجاه مصر كما أن باستطاعتهم عمل الكثير في مصر من أجل المصالح الغربية "وأضاف" إن الخطأ العظيم الذي يمكن أن ترتكبه بريطانيا أو نحن يتمثل في إجبار المصريين على المشاركة في ترتيبات أمنية بالمنطقة تشمل على قوى غربية إنني على قناعة بأن ذلك سيتم لكن المصريين والمصريين وحدهم هم الذين بإمكانهم أن يقرروا ذلك حينما يكون الوقت مناسبا».

حال استعداده للتقاعد ومغادرة مصر عبر كيفري عن أمله في أن يكون قد وضع الأساس للتقارب المصري الأمريكي.. بيد أن تداعيات الأحداث التالية لم تمكن لهذا الأمل أن يعانق الواقع خاصة فيما يتعلق بموضوع المساعدات العسكرية والاقتصادية التي أحجمت الولايات المتحدة عن إمداد مصر بما كانت تريده منها مما حدا بالأخيرة إلى اللجوء إلى الاتحاد السوفيتي... وهكذا لا يمكن القول إذن كما قال منتقدو النظام بأن الضباط الأحرار كانوا خاضعين للمصالح الأجنبية أو مسيرين بواسطة قوى خارجية وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة إذ ليس هناك دليل دامغ أو مقنع على ذلك وأن ما قرره البعض من أن الولايات المتحدة شكلت حركة الضباط الأحرار أو أنها عقدت أي اتفاق معهم بأن يستولوا على السلطة فهو أمر مشكوك في مصداقيته إن الولايات المتحدة في الفترة السابقة على 23يوليو راقبت انهيار النظام المصري القديم عن بعد بيد أنها التي بدورها أظهرت أنها ستقدم أكثر من القصر والباشوات.

فماذا كان عسى الولايات المتحدة أن تفعل بين البريطانيين وبين المصريين وما صنعوه أنهم أعطوا الضباط الخبرة الفنية بصورة أكثر من التأييد المعنوي في الفترة التي كانوا يواجهون فيها المستقبل بأهداف مخلخلة وطموحات غير مؤكدة وقد دعم ذلك من عنثر الثقة لديهم وكما كان أثر ذلك ملموس على رغبتهم في السيطرة الواسعة على العملية السياسية وفي نفس القوت التحرك نحو أرضية ثابتة وسط في محادثات قاعدة السويس.

لقد ضغط الدبلوماسيون الأمريكيون والبريطانيون على الضباط لاتباع سياسات خارجية تتوائم والمصالح الغربية أو سياسات داخلية فيما يتعلق بتفعيل الإصلاح الاجتماعي «قمع الحركات الشيوعية والالتزام بمعاهدة دفاع إقليمي وبالقياس إلى الأهداف الأخرى بالنسبة للضباط الأحرار والولايات المتحدة والأصدقاء البريطانيين أضحى إرجاع المؤسسات الديمقراطية أمل أكثر إلحاحا وعائقا يجب تجنبه وإن كان الأمل قد ظل معقودا على تحقيق الديمقراطية.

الفصل العاشر

كل منكم يجب أن يكون جمال

أخيرا وبعد ثلاث سنوات من حكم الضباط الأحرار بدأت ثورتهم تتشكل ففي الفترة السابقة على مارس 1954عرف الضباط ثورتهم في ضوء الصراعات السياسية الداخلية وخارج هذه الصراعات تولدت الرغبة في حكم مصر .. ونظرا لجواز الاعتقاد بأن مجلس قيادة الثورة وحده هو الذي بإمكانه منع الدولة من الانزلاق إلى هوة السياسات الحزبية للنظام القديم بعد أزمة مارس، فقد ترك الضباط إصلاح الحياة الديمقراطية في الأجل القصير كذلك فإن المعارضة التي لا تهمل من قبل الشيوعيين والإخوان قاد قاومت تركزهم للسلطة.

ولم يتردد النظام في استخدام البوليس لحفظ النظام كما أثارت محاولة اغتيال ناصر بواسطة أحد أعضاء الإخوان مجلس قيادة الثورة لقمع الخصوم بحدة، ومع قمع الإخوان في 1954 نظف النظام الطريق من أجل حكم ديكتاتوري طويل الأمد.

وتمثل محاولة اغتيال ناصر والتي تعرف في التاريخ المصري بحادث المنشية بداية حكاية نصار مع شعبه وتقدمه الخاص كرجل قوي في مجلس قيادة الثورة إذ أن الفترة التالية على مارس أثناء ما كان مجلس قيادة الثورة يحكم قبضته على زملائه دون ملاحظة أو انتقاد بيد أن الصراعات المألوفة في المفاوضات المصرية البريطانية بالإضافة إلى الدعاية المضادة جعل مجلس قيادة الثورة يحفظ تماسكه.

المعارضة المدمرة: في حين أنهى الإخوان المسلمين هدنتهم مع النظام في يوليو شكل الشيوعيون معظم الصوت المعارض لحكم مجلس قيادة الثورة إذ بعد مارس ركزت كل الحركات الشيوعية انتقاداتها على مجهودات النظام للحصول على المساعدات المالية والعسكرية من الغرب وهاجم الشيوعيون في منشوراتهم وصحفهم السرية رد الإخلاص للمعسكر الأمريكي والخضوع الجديد للإمبريالية الأمريكية كما صورت صحفهم جيفرسو كيفري والعم سام يحلون محل تشرشل وجون بول، والدولار كعلامة على السيطرة الإمبريالية كذلك أبان كتيب الحركة الديمقراطية للتحرير والوطني والذي نشر في أغسطس الخطوط العريضة للاتفاق كمعاهدة وللفضيحة والعار والغدر والإمبريالية والحرب وحثت الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني الفلاحين والعمال على الإضراب والمظاهرات في الشوارع وكل المواطنين لحمل السلاح واللحاق بالصراع.

ويمثل التغير الذي طرأ على موقف الحزب الشيوعي المصري في أن زعماءه أثناء الأيام الأخيرة من مارس قرروا دخول المعركة ضد مجلس قيادة الثورة نتيجة لذلك فقدت الحركة أفضل عناصرها بسبب الاختراقات البوليسية بينما عكف فؤاد مرسي سكرتير الحزب على تجنيد أنصار جدد من قاعدته من الإسكندرية.

وإيما كان الأمر فإن الحزب بعد مارس وتحديدا أوائل أبريل راجع تفكيره مشجعا على حكومة وحدة وطنية تتكون من الوفديين والاشتراكين والشيوعيين والإخوان ورغم محدودية التعاون بين الإخوان والشيوعيون وعدم إجازته من قبل زعماء الإخوان رسميا فإنه قاد إلى درجة من تغيير المشاعر في نهاية أزمة مارس وحتى بعد أن وافق زعماء الإخوان خوض المعركة ضد السلطة السياسية بدا واضحا أن درجة التعاون غير الرسمي بين الإخوان والطلبة اليساريين غير كافية لتغيير المخرجات وإن كانت كافية لإبداء قدر من التوحيد الفعال المضاد للنظام وجاء في بيان بتاريخ 8 يوليو بمناسبة احتفال تحالف مارس ما يلي:

«في الحقيقة وقف الإخوان الوطنيون جنبا إلى جنب مع زملائهم الشيوعيين في خوض المعارك الوطنية التي حدثت في نهاية مارس إذ وقف الإخوان في ثلاث جامعات جنبا إلى جنب مع الشيوعيين ضد عبد الناصر وعصابته، حقيقة لقد خاضوا المعركة في جبهة موحدة».

وهكذا فقد تعاون الشيوعيين والإخوان في قيام كل منها بتوزيع منشورات الأخر والتخطيط والتنسيق للمظاهرات ونتاجا لذلك مثل العديد من الإخوان أمام المحكمة العسكرية لسماع دعوى قضايا الشيوعيين بتحدي النظام في أواخر مارس من خلال الاستعداد المشترك للمؤسسات الليبرالية القديمة وعد ناصر الإخوان بالإعلان عن شرعية حركتهم وقد ترتب على ذلك أن بنى الإخوان إخلاصا سلبيا تجاه النظام وبعد أن ظهر مجلس قيادة الثورة منتصرا أعاد حسن الهضيبي المرشد العام تأكيد رغبة الإخوان في تنقية النظام البرلماني وعدم عودة الأحزاب السياسية القديمة والدعوة إلى الصحافة الحرة ولكن المسئولة في حين أحبط الهضيبي وأنصاره مجهودات ناصر لتقييم أفراد النظام السابق من خلال الحركة.

وفي أبريل ودون إعلان قدم النظام عددا من الضباط المنتمين للإخوان الذين كان قد وعد بإطلاق سراحهم للمحاكمة وجاء في مقدمتهم عبد المنعم عبد الرءوف أحد الضباط المؤسسين لحركة الضباط الأحرار ذاتها وكرد فعل على ذلك وجه الهضيبي خطابا مفتوحا لناصر يطالب فيه من مجلس قيادة الثورة الرجوع عن وعده بإعفاء الإخوان من القضايا الموجهة ضدهم كما جدد دعواه بإصلاح الحريات المدنية والحياة البرلمانية ونظرا لعدم نشره في الصحافة وجد الخطاب طريقة إلى الشارع كمنشور وقبل أن تحكم المحكمة على عبد المنعم عبد الرءوف هرب من السجن ولقد كان الهضيبي يقامر بإعلان الاتفاق في محاولة لأن يجبر ناصر على الوفاء بكلمته حينما فشل قرر أن يذهب للخارج بدعوى زيارة المجتمعات الإسلامية في الدولة العربية المجاورة وقبل رحيله في أواخر مايو رفض الهضيبي الالتقاء بعبد الناصر لكنه أخبر مجلس قيادة الثورة بأمله حال حضوره في أن تسنح الفرصة لتحسي علاقات النظام بالإخوان.

ولقد أشارت المعارضة اللفظية من قبل الإخوان في نهاية الحركة مع الحكومة حيث أعلن الهضيبي عن الاتفاق في صحيفة لبنانية وقد ذكر الإخوان النظام أن معاهدة 1936 سوف تنقضي في غضون 20 شهر أخرى بمنح بريطانيا الحق لمدة سبع سنوات أن تعيد احتلال قاعدة قناة السويس في حالة حدوث عدوان على العالم العربي أو تركيا .. واتهم الإخوان الحكومة بأنها أمدت التزام مصر التعاهدي 5 سنوات أخرى.

وفي أواخر شهر أغسطس شن مجلس قيادة الثورة هجوما مضادا ففي خطاب عبد الناصر في 21أغسطس وصف ناصر الإخوان والذين يتحدث عنهم لأول مرة مع الشيوعيين والصهاينة بالمعارضة المدمرة وفي 22 أغسطس بدأت الحكومة في شن هجوم إعلامي يومي استمر لمدة ستة أسابيع وكررت الصحافة موضوعات تنادي بحظر الإخوان واتهامهم بالمتاجرة بالدين من أجل السلطة كما ركزت على أن الهضيبي هو الجاني رقم واحد.

وسرعان ما ساد التوتر مخلفا من جديد أزمة حيث حاصر البوليس في 27 أغسطس مسجدا بالروضة (مركز نشاط الإخوان بالقاهرة) أثناء صلاة الجمعة وبعد الخطبة تحركوا لإلقاء القبض على الخطيب ويدعى حسن دوح بما ترتب على ذلك من تهور وشغب .. وقررت الحكومة أن الحادث إثارة متعمدة من قبل الإخوان بينما أعلن حسن دوح أن خطبته رغم كونها تنتقد الحكومة إلا أنها لم تكن مثيرة للاشتعال وثمة حادث مشابه في طنطا في 8سبتمبر بعد أن أعلنت الحكومة أنها ستتولى الإشراف على محتوى كل الخطب وفي حادث أكثر إثارة للاشتعال في 23 سبتمبر جردت الحكومة 5 من الإخوان كانوا مبعوثين إلى سوريا من مواطنتهم.

ولأن التاريخ توقيع اتفاقية الجلاء كان قد اقترب فقد طوق الطرفان المشكلة وفي الفترة الفاصلة ما بين حادثتي الروضة وطنطا رجع الهضيبي من رحلاته واختبأ بالإسكندرية وأعلن مجلس الإرشاد أنه في أجازة لمدة غير معروفة ناصر أيضا توقف عن الظهور حتى طمأنه المرشد العام في خطاب آخر «يمكن أن تمشي بدون حارس نهارا أو ليلا دون خوف من أن ترتفع أيد أحد الإخوان المسلمين ضدك» وعلى هذا الأساس قام ناصر غير المتجاهل للتحدي العام باستعادة جدوله المعتاد، لكن السلطات وضعت حراسة إضافية حول المباني العامة والمساجد.

وفي أكتوبر بدأ مجلس قيادة الثورة يعيد تنظيم الوظائف الإدارية العليا ووظائف البوليس وأصدر قانونا جديدا يمنح سلطات مباشرة أكثر للحاكم العسكري لمصر تلك الوظيفة التي كان يشغلها ناصر حينذاك وكان النظام قد اقترب من نهاية اتفاقية الجلاء دون أدنى درجة من درجات الهلع وقد وصفت المصادر البريطانية رد الفعل العم بأن متبلد بينما وصفته المصادر الأمريكية على أنه ارتياح وبينما احتشدت الجماهير في مساء 26 أكتوبر بالمنشية بالإسكندرية لمشاهدة ومتابعة خطب الاحتفالات تدافعت مجموعات هائجة مرددة أغاني مضادة لمجلس قيادة الثورة فأزاحها البوليس مفسحا الطريق أمام العربات التي كانت تقل العمال المرددين لهتاف التأييد فاخترق رجل يدعى محمود عبد اللطيف من الإخوان المسلمين بالقاهرة الحشود حتى وصل إلى مقدمتها وما كاد ناصر يبدأ خطابه حتى أطلق عليه ثمانية رصاصات.

بيد ن ناصر استمر في خطابه قائلا: «رجل وطني.. ومن فداء لكم وفداء لمصر أنني أعيش من أجلكم وأموت من أجل حريتكم وشرفكم ودعوهم يقتلوني فإن ذلك لن يهمني طالما أن ذلك يخلق منكم عزة وشرف وحرية وإذا مات جمال عبد الناصر فإن كلل منكم يجب أن يكون جمال عبد الناصر» وفي اليوم التالي قامت الحشود بتحية ناصر وإسداء أطيب التمنيات إليه بمجرد وصوله إلى محطة القطار بالقاهرة.

وعبر المدينة نظمت حشود الجنود لإطلاق النيران على مواقع الإخوان ثم شكل النظام محكمة الشعب لمحاكمة الجاني وزعماء الإخوان كشركاء في الجريمة.

إن المسئولية عن محاولة اغتيال ناصر أثارت جدلا واسعا إذ قال الإخوان المسلمين وأصروا على أن مجلس قيادة الثورة رتبها كذريعة لشرخ حركتهم بيد أن حججهم تبقى بدون دليل ومكرسة للسرعة التي اكتنفت رد فعل النظام.

وفي عام 1978 ألقى حسن التهامي المقرب من ناصر والسادات من بعده بالوقود على النار حينما أعلن أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية) أمدت ناصر بصديري واقي من الرصاص على خلاف ما قيل من أن الجني تلقى تعليمات بعد إصابة الهدف أو أن مسدسه كان لا يحتوي على رصاصات تبقي الحقيقة الأساسية بأن الجاني كان ينتمي إلى الإخوان وأن ناصر اتخذ احتياطات وأن مجلس قيادة الثورة وقف جاهزا للضرب وأن ليس هنالك وسيلة للتثبت من أن النظام احتاج لصباغة الحادث بالصبغة المسرحية.

والتساؤل الحقيقي هو من في الإخوان أمر عبد اللطيف بقتل ناصر؟ ولماذا يثير هذا التساؤل بدوره العديد من الأسئلة الحيوية حول ليس فقط علاقة الإخوان بمجلس قيادة الثورة ضد الانقلاب وإنما أيضا عن طبيعة المشاكل الداخلية التي واجهت قيادة الثورة ضد الانقلاب وإنما أيضا عن طبيعة المشاكل الداخلية التي واجهت الإخوان منذ صغود الهضيبي ليشغل وظيفة المرشد العام في 1951 وبمعنى أكثر تحديدا منذ تجميعه للسلطان في يده في1953 وللإجابة عن هذه الأسئلة يجب تمحيص الديناميكيات الداخلية للحركة على مستويين الجهاز الحاكم للإخوان متمثلا في مجلس الإرشاد والذي ثارت من خلاله المعارك المستمرة للإشراف على الحركة والتنظيم السري الذي أعيد تشكيله بواسطة بعض الموالين للهضيي في يناير 1954 بعد طرد عبد الرحمن السندي.

وفي نهاية السنة استمعت محكمتان فرعيتان لقضايا كوادر التنظيم السري لأقل مستوى وبالاعتماد على سجل المحاكمة ورغم شكلياته، نجد أن محكمة الشعب تعاملت مع قضيتها دون تردد أو توخي للعدالة مقررة حقوق قانونية للحكومة الثورية لم يشهدها التاريخ المصري وبقدر ما ابتعته المحكمة من وحشية حصلت بسهولة على اعترفات واستملت أولئك الذين وقفوا أمامها لخيانة زملائهم ويظهر سجل أن الصراعات الداخلية التي انتبات حركة الإخوان بعد مقتل حسن البنا كانت لصالح مجلس قيادة الثروة وحال عودة الهضيبي من الخارج واجه تحديا حادا من الخصوص في مجلس الإرشاد والذين طالبوه بالإجابة على القضايا التي تمت تسويتها بواسطة النظام.

وأثناء سقوط 1954 استهجنت مجلة الدعوة اللسان التقليدي للتكتل المضاد للهضيبي والتي ظلت صامته وعند وجوده بالسجن استهجنت هجوم النظام على المرشد العام وتعتبر رحلة الهضيبي إلى الإسكندرية في جزء أساسي منها استجابة لمعركته الداخلية وهي التي أنتجت فراع الزعامة وذلك الفراغ الذي شجع المنافسون للسيطرة على مجلس الشورى ففي الاجتماع السنوي للمجلس في بداية سبتمبر حاول خصوم الهضيبي أن يحدوا من اختصاصات المرشد العام وكان لغياب الهضيبي أن ساعد على التأجيل ثلاثة أسابيع بما سمح للمخلصين له أن يشنوا هجوما مضادا وفي الجلسة السرية التي كانوا يمثلون فيها أغلبية أقسموا له وأكدوا على مكانته مدى الحياة.

وتلى ذلك فترة أشبه بالفوضوية . .فالقوى المضادة للهضيبي أصدرت وثيقة تأييد لمجلس قيادة الثورة وأرسلت على وجه السرعة سلسلة من الوفود إلى الضباط وفي المقابل توقف مجلس قيادة الثورة عن الغارة الإعلامية ورغم أنه بدا واضحا أن الهضيبي استعاد سيطرته على مجلس الإرشاد فإن خميس حميدة الذي سعى للتوقف بين الهضيبي ومنافسيه مال إلى المعسكر الأخير إذ في 20 أكتوبر قام حميدة بالاشتراك مع عبد الرحمن النبا بتحريك تمرد داخل مجلس الإرشاد وشكل الاثنان هيئة جديدة سرعان ما حلت محل الهضيبي ما أثار ضجيجا من قبل الأعضاء الذين تم طردهم في أواخر 1953 وتدافع الأمل خصوم الهضيبي أن يكونوا صانعي سلاما بين الإخوان والنظام ولكن سرعان ما ضاعت مجهوداتهم على أرضية محاولة اغتيال ناصر.

وأثناء المحاكمات التالية سعت المحكمة إلى تورط الهضيبي وإلقاء المسئولية النهائية عليه فيما يتعلق بالتنظيم السري ومن جانبهم أنكر أعضاء مجلس الإرشاد أي معرفة بوجود التنظيم واسم زعيمه باستثناء عضو واحد هو محمد فرغلي ويبدو ذلك حقيقة إن الغالبية أشارت إلى أن الهضيبي هو المسئول النهائي بينما اعترف الهضيبي بهذه المسئولية فيما يتعلق بالجناح الخاص ولكنه أنكر أنه له علم بتنظيمه أو عمله وأصر على أنه أمر بتطهير صفوفه من أعلى إلى أسفل كما اعترف بأن القوى بقيت مسلمة لمحاربة البريطانيين ويبدوا أن كل ذلك حقيقة ومع ذلك قرر الهضيبي أنه عين زعيما جديدا للجناح هو يوسف تيلات بناء على توصية الآخرون وأصر على أنه لم يكن يعرفه من قبل وهو أمر واضح كذبه وإن أمسك الهضيبي لسانه أمام المحكمة عن اعترافه بالدور المسيطر الذي لعبه التنظيم السري في الإخوان وحينما طرد السندي في أواخر 1953 أعاد الهضيبي تشكيل الجهاز السري م خلال رجال التزموا بزعامته.

وقد عمل قادة الأجنحة الثلاثة.. تيلات (المدني) وصلاح شادي (البوليس) وأبو المكار (الجيش) بصورة مستقلة ذاتيا عن الهضيبي ومجلس الإرشاد وقد قبض على الثلاثة في يناير ودفعهم السجن إلى تقرير المعركة مع النظام.

وبعد فترة وجيزة من إطلاق سراحهم شكلوا لجنة عليا غير رسمية للتنسيق بين أنشطة الأجنحة الثلاثة قامت بطبع ونشر المنشورات التي هيبت مجلس قيادة الثورة وأرعبت أعضاء مجلس الإرشاد الذين تم تصالحهم وبحلول منتصف الصيف بدأ الأعضاء الأكثر حماسا في التنظيم السري تحويل أبصارهم عن الدعاية السرية والتوجه بصورة أكر نحو التكتيكات المتعصبة وترنحت المناقشات بين المظاهرات السلمية وزيادة التسلح واغتيال أعضاء مجلس قيادة الثورة ومن أبرز المظاهر الدالة على ذلك اقتراح عبد المنعم عبد الرءوف اجتياح مجلس الوزراء بواسطة مجموعة كوماندوز وأثناء محاكمة الهضيبي اعترف يوسف تيلات بأنه أعطى عبوة المتفجرات إلى إبراهيم الطيب رئي جناح القاهرة قبل 26 أكتوبر ببضع أيام وأخبر تيلات المحكمة أنه تآمر على ناصر فعليا شارحا أنه لم يعط أمرا نهائيا للقيام بمثل هذا الفعل وألقى العبء على عبد الرءوف والطيب وبينما شهد الأخير بأنه تلقى الأوامر من تيلات أما هنداوي دوير قائد منطقة إمبابة والذي أعطى المسدس للجاني فقد قرر أن الطبيب أخبره بأن الهضيبي هو المتسلطة على عملية القتل.

ومن جانبها أكدت الحكومة أن المرشد العام شخصيا أمر بالاغتيال الأمر الذي أنكره هو، في حين عكف آخرون على أن محاولة الاغتيال تؤول بالأساس إلى زعماء التنظيم السري المستقلين عن الهضيبي ومجلس الإرشاد وإن كانوا قد ألقوا بمسئولية انتهاج نهج العنف على الهضيبي.

وأثناء ما سعى خصوم الهضيبي لكسب السيطرة على مجلس الإرشاد تقهقر إلى التسلح بالموالين من الذين يديرون التنظيم السري وحينما ذهب الهضيبي إلى الاختباء في سبتمبر 1954 أحاط نفسه بأناس ذوو ملامح مدافعة عنه وأيما كان الأمر فإن موقف الهضيبي من العنف يكتنفه الغموض ويثير الكثير من علامات الاستفهام خاصة وأنه لم يستطيع أ، يحجم أنصاره المتحمسين عن استخدام العنف كما ربط نفسه بأولئك الذين شنوا حربا على مجلس قيادة الثورة ضد أولئك الذين سعوا للسلام في يأس.

بعد حادث المنشية تحرك النظام على وجه السرعة لتدمير الإخوان المسلمين ففي اليوم التالي على المحاولة تحركت المحافل المنظمة بواسطة هيئة التحرير للاعتداء على مقر قيادة الإخوان المسلمين بالقاهرة وفي الأيام التالية تعرضت المحلات والمكاتب المملوكة للمتعاطفين مع الإخوان المسلمين في مدن القناة للهجوم وفي 29 أكتوبر تحدث إلى الآلاف في ميدان الجمهورية بأن لا يشعر بحقد أو ضغينة تجاه من أراد اغتياله معتبرا إياه ضحية ومعلنا أن الهضيبيالإخوان المسلمين- يقسم في لهجة عدائية بأنه سوف يقدم على ثورة دموية قبل أن يرض بالهزيمة.

كذلك أطلق النظام أداته الدعائية ضد الإخوان المسلمين والتي لم تركز على الهضيبي بالعدد الذي ركزت به على قوة التنظيم السري، والإعلان عن خطط الإخوان للإطاحة بالحكومة وفرض نظام إسلامي جامد على مصر أيضا صورت الحكومة الإخوان على أنهم متعصبون يكرسون على العنف والإرهاب معيدة بذلك إلى أذهان الأمة ما حدث خلال عامي 1947و 1948 وفي 4ديسمبر أصدرت محكمة الشعب أحكاما بالإعدام على كل من الهضيبي وعبد اللطيف وعودة وتيلات وإبراهيم الطيب وهنداوي دويار ومحمد فرغلي كما تلقى اثنان أحكاما بالسجن لمدة 15 سنة بنما تلقى عبد الرحمن النبا واثنان آخرون من أصدقاء النظام أحكاما بالبراءة إلا أن المحكمة سرعان ما خففت الحكم على الهضيبي بالسجن مدى الحياة على أنه كان واقع تحت تأثير مستشاريه بينما أعترف صلاح سالم للمسئول بالسفارة الأمريكية بأن مجلس قيادة الثورة أنقذ حياة الهضيبي حتى لا يمكن اعتباره شهيدا وأن الضباط ناقشوا الحكم الذي وقع على الجانب وإن ظل هذا الحكم قائما وكانت للنهاية في 9ديسمبر حينما تم تطبيق أحكام الإعدام الستة.

وهكذا وبفاعلية نجح النظام في تدمير القوة المسلحة للإخوان وقد قرر زكريا محيي الدين «أنها المرة الأولى التي نكون فيها قساة معهم» وجدير بالذكر أنه خلال ثلاثة أسابيع من محاولة الاغتيال طوق قرابة ألف من الإخوان فيما لا يشبه يناير السابق امتدت غارات النظام إلى ما وراء القاهرة والإسكندرية حيث مراكز الأقاليم بيد أن ناصر ومجلس قيادة الثورة وقف تدفق الدم انطلاقا من أن تعدد أحكام الإعدام أكثر خطرا في الأجل الطويل من استعمال الرأفة.

وفي 13 ديسمبر أسقط النظام أحكام بالإعدام على 5 من زعماء التنظيم السري كانوا قد أدينوا وحكم عليهم في اليوم السابق.

وأثناء ما كان النظام يقوم بتجريد الإخوان من تهديدهم المسلح تحرك أيضا الاستئصال جذور تأييدهم ففي 10 ديسمبر –اليوم التالي على أحكام الإعدام الستة- فرض وزير الشئون الاجتماعية رقابة إدارية على مراكز الترفيه الإخوانية بحجة أنها واجهة للأنشطة الإرهابية الخفية وقد أشرا سفير الولايات المتحدة إلى الواقع الحقيقي متمثلا في قطع منابع تأييدهم ومصادر قوتهم في المناطق الريفية وتحجيم شعبيتهم في هذه المناطق.

إن محاولة الاغتيال كانت بمثابة فرصة للقيادة الثورية لتضيق الخناق على محمد نجيب لأنه كان لا يزال رئيسا لكن بعد مارس 1954 اهتزت مكانته رغم ترددهم في خلعه وفي بداية مايو قرر أحد مسئولي السفارة البريطانية أن «كل المظاهر تشير إلى أن اللواء ارتضى لنفسه دور الرئيس الشكلي».. بيد أن صبر نجيب كان لابد وأن ينفذ ... ففي 11يونية 1954 الذكرى الأولى لإعلان الجمهورية سمح له الضباط بعقد مؤتمر صحفي شريطة عدم اتخاذ صور وحينما حاول نجيب أن يسلخ نفسه عن موضوع الجمعية التأسيسية أعاد صلاح سالم التأكيد على سلطة الرئيس النهائية في صنع القرار إلا أن الحادث لم يتم تغطيته بأي حال في الصحافة المصرية.

وفي 15 نوفمبر أعلن مجلس قيادة الثورة إعفاء محمد نجيب من كل مهام منصبه وانطلق هذا الإعلان من شهادة أدلى بها أمام محكمة الشعب قررت أن نجيب على علاقة بالإخوان وفوق ذلك اعترف أفراد قياديون في التنظيم السري بأنهم كانوا سيسلمون السلطة إلى محمد نجيب بعد تنحية مجلس قيادة الثروة بيد أنه بعد أسبوع من خلعه أعلن النظام أنه لن تتم محاكمة نجيب.

وأيا كان الأمر فأن الانكسار الأخير في مصر قد سبب رد فعل قليل الوضوح حيث ذهب نجيب إلى فيلا صحراوية بضواحي القاهرة كانت مملوكة لزوجة النحاس وظل هناك جليسا قرابة 20 عاما ونظرا لأن مجلس قيادة الثورة كان مازال قلقا من رد الفعل العام فقد عرض الرئاسة على لطفي السيد بيد أن الفيلسوف والمعمر والمثقف وأبو القومية المصرية تمايل في ضوء ظروفه الصحية تاركا المنصب شاغرا على هذا الأساس منح مجلس قيادة الثورة السلطات التنفيذية لناصر.

وفي منتصف 1954 بدأ النظام يدين العدو الصهيوني بصورة متزايدة بغيه تعبئة الجماهير غير الراضية عن اتفاقية الجلاء المقترحة وأن أنشطة عملاء إسرائيل الهادفة إلى قلقلة استقرار الحرب الكلامية بين القاهرة والقدس .

وفي يوليو أدت ثلاث حوادث متفرقة إلى القبض على ثلاثة من اليهود والمصريين اتهموا بأنهم عملاء لإسرائيل ففي 2يوليو انفجر طردان بريديان بمكتب بريد الإسكندرية وفي 14 يوليو وجدت عدة قنابل في عبوات كتب تم اكتشافها في سفارة الولايات المتحدة والقنصلية بالإسكندرية ثم في 23يوليو ألقى البوليس القبض على رجل يجري خارج م سينما الإسكندرية كان يحمل بجيبه جهاز تفجير وتين أنه كان شريكان وهذا وفي أكتوبر اتهم 30 يهوديا في قضايا تجس وخيانة عظمى وقد استغلت الحكومة الإسرائيلية القضية لتصوير ناصر بوصفه تهديدا خطيرا لليهود المصريين والأمن الإسرائيلي ومن جانبهم اتأى مراقبو السفارتين البريطانية والأمريكية أن المحاكمة كانت عادلة حيث أولى اثنان من المتهمين باعترافات تافهة بينما انتحر الثالث في السجن وخلال المحاكمة التقى بأعضاء يهوديين من مجلس العموم البريطاني الذين أشادوا بتعاطف الزعيم المصري مع الاهتمامات الدولية.

وفي 27 يناير 1955 حكم على اثنين من المتهمين بالإعدام وتلقى اثنان أحكاما بالبراءة بينما تلقى الآخرون أحكاما بالسجن لمدة تتراوح ما بين 7، 15 سنة لقد كان اكتشاف شبكة تجسس إسرائيلية نذير أمد النظام بالعذر المناسب لتعبئة المعارضة ضد تهديد دائم وفي الوقت الذي تزداد فيه حساسية الانتقاد لاتفاقية الجلاء وهكذا كان لابد من نفاذ القرار الخاص بأحكام الإعدام في 31 مايو وربما كان ذلك راجعا في أهم محدداته إلى إخماد مؤيدي الإخوان والذي خشي النظام إدانتهم.


أعلن مجلس قيادة الثورة أن الانتخابات البرلمانية ستجري في يناير 1954 وفي نفس الوقت أعلنوا أنه من الصعوبة بمكان أن يعودوا للتكتيكات وفي منتصف أكتوبر أخبر مجلس قيادة الثورة السفارة الأمريكية أنهم سيقيمون هذه الانتخابات تحت لواء حزب جمهورية ويسمحون للأحزاب الأخرى بالتواجد أيضا في ديسمبر 1954 وعد ناصر بالدستور بحلول يناير 1956 لكنه لم يقل شيئا عن الانتخابات وتعتبر محاولة اغتيال ناصر نقطة فارقة في حياته حيث انطلاقا من الثقة في مقدراته وإحباط التزايد من عبء عملة صنع القرار بصورة جماعية بدأ ناصر يعزل نفسه عن رفاقه في مجلس قيادة الثورة خلال الأيام الشاقة من مارس.

ولأول وهلة فإن هيمنة ناصر الشخصية على السلطة سبب قيودا خطيرة على أعضاء مجلس قيادة الثورة فها هو بغدادي يعلن أنه أنجز العديد من المشروعات التي منحت القاهرة وجها حديثا سواء فيما يتعلق بكرنيش النيل وميدان التحرير وكذلك فإنه اكتسب شهرة كإداري متمكن ومع ذلك عوقب بإقصائه عن مركز عملية صنع القرار.

أما صلاح سالم فقد نشبت مشاكل حادة بينه وبين ناصر على خلفية أنه في شهر أغسطس 1954 عارض تدخل ناصر في وزارته وزارة الإرشاد القومي وهدد سالم بالاستقالة وأثناء محادثات أجرها مع الزعماء العراقيين ف بغداد في أوائل سبتمبر بالغ سالم ي معاهدة عربية أمنية وحال عودته كان مزمعا إقصائه ولكن بعد مؤتمر استمر 4ساعات مع ناصر استعاد سالم مهام منصبه.

ثم أواخر ديسمبر وفي تصريحات للصحفيين السوريين أخذ سالم على أن مصر لن تقيم سلاما مع إسرائيل إلا أن وزير الخارجية سرعان ما أنكر التصريح.

وبوجه عام وخاص فإن ناصر قد زرع صورة أنه على خلاف زملائه ففي سبتمبر نشر فلسفة الثورة وفيه أظهر رؤيته لمصر كدولة كانت تبحث عن بطل ذلك الدور ارتأى نفسه يشغله الآن ورغم الانتقادات التي وجهت لفلسفة ناصر الثورية لا سيما من قبل أناس مثل رالف ستيفنسون (السفير البريطاني ) فإن العديدين لا ينكرون الرؤية الواسعة والإنسانية والمثالية التي استكملت بها هذه الفلسفة وفي سلسلة العمدة التي نشرتها الجهورية في يناير 1955 أشار السادات إلى مجلس قيادة الثورة بصورة روتينية على أنه «عبد الناصر ورفاقه» وقد عكس هذا الوصف نفسه على علاقات ناصر الشخصية مع أعضاء مجلس قيادة الثورة حيث استنكر صلاح سالم الذي كان يصحبه ناصر إلى مؤتمر دول عدم الانحياز في باندونج في أبريل 1955 اعتماد ناصر على علي صبري ووزير الخارجية محمود فوزي كذلك فإن جمال سالم الذي عينه ناصر للقيام بأعمال رئيس الوزراء أثناء غيابه تلقى هجوما حينما فشل في تلقي محورية إذ بعد عودته لم يعد جمال حتى بالنسبة لشركائه المقربين فإنهم أصبحوا ينادونه أن (ياريس) ثم أصبح يشار إليه بـ (سيدي الرئيس) وهكذا فإن الصدف التافهة قد صنعت فجوة بين ناصر ورفاقه وأثناء ما كانت الفرقة الموسيقية تعزف السلام الوطني وهو يعلو منصة الخطابة أثناء الاحتفالات بالعيد الثالث للثورة أقلع ناصر على أن يطلب من رفاقه التصدي للقبول الجماهيري ومنذ ذلك الحين أصبح ناصر يسعى ليس فقط إلى تثبيت مكانه زعيم منفرد للدولة وإنما أيضا على إعادة صياغة المجلس الثوري... إذ بعد فترة وجيزة من مؤتمر باندونج بدأ ناصر مناقشاته مع مجلس قيادة الثورة حول مستقبل المجلس ومن المعروف أن ناص قد حدد يونيو 1956 تاريخا لإنهاء الفترة الانتقالية وعلى هذا الأساس نمى النزاع بين أولئك الذين سعوا للحفاظ على استمرارية المجلس وبين أولئك الذين ساروا في فلك دعوة ناصر إلى إلغاء ومن جانبه فإن ناصر الذي ظل يعتبر قيمة مجلس رفاقه القدامى فقد أبدى رغبته في أنهم سوف يبقون كمستشارين ووزراء وفي خريف 1955 أبدى الاهتمام بالشئون الخارجية إلى تنحية المناقشات عن مجلس قيادة الثورة جانبا وفي يناير من نفس العام اختراع ناصر لجنة دستورية وألغت المسودة التي رؤى طرحها للاقتراح العام مجلس قيادة الثورة وفي نفس اليوم لقيت مذكرة إعلان ناصر رئيسا قبولا وعبر توصيفه على أنه جدد للديمقراطية شن ناصر حلمة دعائية ناصر رئيسا قبولا وعبر توصيفه على أنه مجدد للديمقراطية شن ناصر حملة دعائية ضد رفاقه الذين علموا أنهم يمكن تصويرهم للجمهور على أنهم أنصار لاستمرار الديكاتورية وباستثناء صلاح سالم الذي ترك الحكومة في أغسطس السابق قبل الآخرون دعوة ناصر للانضمان إلى حكومته وطبقا لما يقضي القانون استقالوا من الجيش.

وبوجه عام فإن ناصر حكم مصر كما كان يحكم اللجنة التنفيذية للضباط الأحرار م خلال قوة شخصيته والذين عرفوا ناصر في شبابه يصفونه بأنه شخص لم تكن يتكلم كثيرا وإنما كان مستمعا جيدا يستدرج من يتحدث معه حتى يخرج كل ما عنده ونادرا ما كان ناصر يسوق رفاقه من خلال تنحية وجهات نظرهم وإنما كان يشعرهم بأنتهم شاركوا في عملية صنع القرار وفي أواخر 1953 كانوا يسعون لصنع قرارات تنفيذية فناصر دوما كان يقدر مشورة الآخرين كانت لديه رغبة ضئيلة في عرض المسائل للتصويت العام.

ونظرا لبراجماتية ناصر بعد الثورة فقد تحرك الذين كانت تتدافعهم الكاريزما والعاطفة ومال بصورة متزايدة صوب أصحاب الأعصاب الحادة وغير المتشبثين بالأحلام وأخبر إلى أولئك الذين ارتضوا السلطة دون جدال ثم كان حدث تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956 الذي أصبح ناصر على أثره سياسيا تاما ولكن عضوا في طريقة للديماجوجية.

خاتمة الناصرية

الماضي- الحاضر – المستقبل

وفي أواخر شهر أكتوبر 1954 علق جيفرسون كيفري بأن ثورة الضباط الأحرار لم يعد بالإمكان وصفها بأنها مرحلة انتقالية حيث تطلع الضباط للمستقبل بتفاؤل وجدية في التحرك وارتأى سفير الولايات المتحدة أنه لم يكن متوقعا على الإطلاق وأقدار الثورة التي قطعت شوطا طويلا في تنمية مصر وبعد بضع شهور من قمع الإخوان المسلمين ابتهج الضباط بنصرهم كذلك صور غلاف روز اليوسف شنق زعماء الإخوان في الأسبوع التالي على عملية الشنق بأنه موت للإرهاب مجسدا ذلك في جثة حسن البنا وطربوشه ولحيته من ناحية ومن ناحية أخرى وقف المصري أفندي بوصفه رمزا للأمة خلال الحقبة البرلمانية ولكنه الآن يرتدي زيا عسكريا.

كما رأينا في متن الكتاب فإن الجماهير الغاضبة صرخت معترضة في نوفمبر 1924 على تدخل القصر في الشئون البرلمانية مرددة (سعد أو الثورة) وقد غرس هذا الإحساس والذي تزايد أواخر عام 1940 بأن الثورة شبحا لعدم الاستقرار وزيادة حدة السخط الاجتماعي والميل إلى الشيوعية وهو الإحساس الذي غرس لدى التقدميين أو المحافظين ولعل هذا هو السبب الأساسي الذي جعل الضباط الأحرار يتجنبون استخدام مصطلح الثورة قبل وبعد 23يوليو 1952 إذ لمدة ستة شهور قضوها في السلطة أطلق على الضباط «القيادة العامة»ووصفوا حركتهم بأنها حركة الجيش أو «الحركة المباركة» وكذلك ركز الضباط في بيانهم على «التطهير – الإصلاح – التنظيم» دون التركيز على مفهوم الثورة.


وكان من الطبيعي أن يثير ذلك جدلا واسعا بين أولئك الذين يرون أن حركة الضباط الأحرار تمثل ثورة وأولئك الذين يرونها لا تعدو كونها انقلابا عسكريا.

وحتى حينما أعلن الضباط عن حركتهم كثورة في أوائل 1953 فإن المفهوم لقي تطبيقا أقل بكثير من ترسيخ قاعدة الحكم العسكري وإلغاء الأحزاب السياسية وذلك رغم تأكيد مجلس قيادة الثورة على الحرية والتقدم صوب إصلاح الحكم الدستوري.

بيد أنه في مارس 1954 وحينما أشار مجلس قيادة الثورة إلى أن الثورة تمثل بديلا للنظام الرجعي السابق ثار الصياح بخصوص البرلمان والديمقراطية وفي خضم هذه الأزمة سعى الضباط هذه المرة للتحريك فيما وراء البيان الدفاعي الذي سيطر على دعواهم طيلة الفترة السابقة والمرتكز بالأساس على جرائم النظام القديم ومهاجمة القوى الرجعية مركزين الآن على الحديث بتأكيد أكبر من المشروعات الكبيرة مثل السد العالي في أسوان واستصلاح مديرية التحرير والبنية الأساسية الحديثة في القاهرة والدستور الجديد ومع كل ذلك ظل حكام مصر ينظرون بعصبية فوق أكتافهم مضطرين للإجابة بثورة بطيئة على القضايا التي أثارها المثقفون والخصوم.


لقد تحدث الضباط عن الأمن والثورة البيضاء في حين حذروا خصومهم من الدموية والثورة الحمراء كذلك اعترف ناصر في فلسفة الثورة الذي نشر في خريف 1954 بأنه لم يقدم فلسفة معين ولا برنامجية محددة وإنما تحدث عن الثورات المصرية الجارية الثورة السياسية التي ساعدتهم على حكم أنفسهم والتخلص من الطاغية الذي فرض نفسه عليهم والثورة الاجتماعية والصراع الطبقي الذي انتهى بالعدالة الاجتماعي لكل السكان في الدولة كذلك ارتسم ناصر دورا لمصر في دوائر التأثير الثلاث الإفريقية والإسلامية دون تقديم تفاصيل أو برنامج محدد في هذا الخصوص أيضا وصف ناصر مصر بأنها تبحث عن بطل ومع ذلك اعتقد هو وزملاؤه أنهم أبطال يبحثون بوضوح عن ثورة محددة.

وفي سلسلة المقالات التي كتبتها أنور السادات في الجمهورية في أوائل 1955 سلط الضوء على أن الثورة كانت بلا دماء وكما أكد على أنها لم تنهض بالأساس على أيديولوجية معينة ووصف السادات الثورة ووصف السادات على أنها كانت خطوة نحو الديمقراطية تلك الديمقراطية التي سوف تستقر طبقا لرؤية السادات حينما حكم الناس أنفسهم وليس بواسطة الهضيبي أو البدراوي أو النحاس أو سراج الدين أو أي شخص آخر أو مجموعة من الفترة السابقة على 23يوليو 1952 وفي البيان الناصري مثلت الخلفيات السابقة أساسا للتاريخ الرسمي للنظام عبر التحكم في وسائل الإعلام وقمع خصوم السياسة بما فيهم الجماعات المخربة في الجيش بدعوى الاستقرار والتأكيد على أنه في مصر على الأقل لا يجب أن تنتشر المعارضة بصورة واسعة بالإضافة إلى ذلك فقد سيطرت على الخبرة الناصرية عدة قضايا حيوية تتمثل في التوجه بإزاء الوحدة العربية والوحدة الأفريقية وسياسة عدم الانحياز والاشتراكية العربية وذلك بغرض كسر عزلة الماضي السياسية.

نتيجة هام أخرى تم التوصل إليها تتمثل في أن السيطرة على النظام السياسي بواسطة الجيش بالتعاون مع مدنيين غبر مسيسين لم يكن أمرا حتميا أو إلزاميا حيث بالمقارنة امتلك الجيش زمام المبادرة السياسية في الدول العربية المجاورة (العراق في منتصف 1930 وسوريا في أواخر 1940) وعندما تعاون مع أحد فلم يتعاون مع مدنيين غير منتمين سياسيا وإنما تعاون مع الأحزاب السياسية القائمة أو القوى الجديدة الأكثر راديكالية مثل البعث.

كما اقترح الكتاب أيضا أسبابا مختلفة للكيفية التي يمكن من خلالها قلبهم للنظام البرلماني وجعلهم من أنفسهم نواة النظام السياسي الجديد وأن انهيار الليبرالية في مصر خلق حالة من الاضطراب في الدولة وصراخا من أجل الإصلاح السياسي والاجتماعي وأن الاقتصار على المعارضة القوية جعل من الجيش القوة الوحيدة المؤهلة للاستيلاء على السلطة حينما وجد نفسه مضطرا بأخذ وحداته للشوارع.

أما العامة وعلى نطاق واسع فمن جراء استشراء الفساد والعنف السياسي في أواخر 1940 وأوائل 1950 ألقوا بتأييدهم الإيجابي وراء الضباط الأحرار مقتنعين بمصداقيتهم كمصلحين كما أن التأييد النشط من قبل الشباب الصغير شجع الضباط على تأمين إمساكهم بالحكومة والدولة.

وفيما يتعلق بالأدوار الخارجية فيمكن القول بوجه عام إن القوتين الأجنبيتين المسيطرتين في مصر حينذاك (بريطانيا والولايات المتحدة) قد ساعدتا الضباط الأحرار على أنه من العسير على المصريين أو الدارسين في مصر أن يعلموا أن الولايات المتحدة ساندت مساعي الضباط الأحرار وسوف يجدون صعوبة في البرهنة على أن الضباط الأحرار كانوا مرتبطين CIA (وكالة المخابرات الأمريكية) في الفترة السابقة على الثورة ولكن ما يظهر بوضوح من خلال السجلات بالإضافة إلى عنصر المصلحة ويعتبر دليلا على مدى ما قامت به السفارة الأمريكية من مساندة للضباط الأحرار وتدعيم لحكمهم وتأييد لنفسيتهم مع بريطانيا والمثير للدهشة بالنسبة للعديدين سوف يكون مدى انصياع البريطانيين وقبولهم لضغوط واشنطن ودبلوماسيها بالقاهرة حتى تم التوصل إلى اتفاقية جلاء تلك الاتفاقية التي اعتبرها الضباط هدفهم الأول حين اعتبرها العديدون تنازلاً.

إن الضباط إذا كانوا قد استولوا على السلطة دون أجندة محددة فإنما فعلوا ذلك لإحساسهم بالعبث وقد قوت مواجهتهم للقوى السياسية المناوئة قناعتهم بأن النظام السياسي يحتاج إلى تطهير وأن ستة شهور من الحكم العسكري ليست كافية.

وأنهم أحسنوا التحول إلى الديمقراطية كذلك فإن رفضهم لأية أيديولوجية قد سمح لتوجههم السياسي الخاص بأنه ينمو إلا أنه لكون هذا التوجه قد نما بإزاء السيطرة العسكرية على الدولة منذ كانت النتيجة هي العرض السريع والانفكاك عن حركة الضباط الأحرار بل والاستياء الشعبي كما حدث في مارس 1954 أطمئنت السلطة بصورة متزايدة إلى القائمين على الأمن الداخلي والجدير بالإشارة أن الضباط الأحرار كانوا قد أحجموا عن تحويل ثورتهم إلى ثورة حمراء رغم ذلك أعدم النظام 14 مواطنا بين 23 يوليو 1952 و31 يناير 1955 ( عاملان من كفر الدوار و4 لمساعدتهم البريطانيين في قناة السويس و6 من الإخوان المسلمين و 2من الجواسيس الصهاينة) وقد ترصد مجلس قيادة الثورة الرأسماليين المتعاملين مع النظام القديم بالمحاكمة الثورية والإخوان المسلمين بالمحاكمة الشعبية وعبثا بقيت السجون المصرية مليئة بخصوم النظام ففي الشهور الأولى من سنة 1955 ظهر حوالي 867 من الإخوان المسلمين أمام ثلاثة أفرع لمحكمة الشعب وقدم 254 للمحاكمة أمام المحاكم العسكرية وأول أكتوبر 1955 وطبقا لمصدر مقرب من النظام كانت المعتقلات المصرية تضم حوالي 2.943 سجينا سياسيا وواقع الحال، فإنه إذا كان الجيش قد أصبح أرضية تدريبية للنخبة الجديدة فإن جسده بقي معزولا عن السياسية.

وأثناء أزمة السويس ولد نظام سياسي جديد وعلق مراقبون أمثال إحسان عبد القدوس بأن الثورة دخلت مرحلة جديدة سيطرت فيها الشئون الخارجية وفي 1956 صدق المصريون على دستور جديد واحتفظ ناصر بالرئاسة بعد أن حقق شهرة شعبية كاسحة وكان على أعداء النظام أن يضعوا سلاما مع الثورة بل الأصدقاء والزملاء القدامى مثل إحسان عبد القدوس وخالد محيي الدين وثروت عكاشة وأحمد حمروش أصبحوا مرة أخرى أشخاصا بارزين في النظام بينما تقاعد اثنان من الزملاء المثيرين للمشاكل عن الحياة هما عبد المنعم أمين ويوسف صديق ومن جانبهم أعاد الشيوعيين في السجن تقييم موقفهم وألقوا بتأييدهم للنظام بعد السويس وكان من نتاج ذلك أن أطلق سراح العديدين منهم.

خلال العقد التالي أختار اليساريون التعاون على أمل التأثير على عملية التحول الاجتماعي في مصر وبالنسبة للإخوان المسلمين فقد أيد العديدون من مؤسسي الحركة النظام بل إن الشيخ الباقوري كانت له باع طويلة في تحويل الأزهر إلى جامعة مدنية في حين بقي الإخوان الذين تعرضوا للمحاكمة بالسجن حتى بعد وفاة عبد الناصر بفترة وجيزة.

أما معظم سياسي الحرس القديم والذين قبض عليهم في أواخر 1953 فقد ظلوا في السجن حتى أواخر 1955 وإن كان مجلس قيادة الثورة قد أفرج عن ذوي المشاكل الصحية مثل إبراهيم فرج وحافظ عفيفي وفؤاد سراج الدين .

وأثناء أزمة السويس وما تلاها من الانفصال السوري عن الجمهورية العربية المتحدة حاصر النظام العديد من الحرس القديم كبعد احتياطي ثم أطلق سراحهم بعد فترة في حين بقي النحاس متحفظ عليه حتى وافته المنية 1965 .

وفي السياق ذاته بقي صديقان سابقان استثناء لقاعدة التعاون أو رد الاعتبار هما رشاد مهنا ومحمد نجيب حيث أطلق النظام سراح رشاد مهنا قبل حرب السويس ثم أصب بالضعف والهزال وظل حبيس منزله حتى أوائل 1970 أما نجيب فقد شكل مصدر للخجل أكثر من كونه كان مصدر تهديد لأولئك الذين حكموا مصر اليوم يدور الجدل بين المصريين بشأن طبيعة حكم ناصر وما إذا كان يتسم بالديكتاتورية أم لا. وأيا ما كان فإن الناصرية أشارات الحكم من خلال حزب مركزي واحد ونظريا تحرير الطليعة الثورية من القيود التي تفرضها تعددية النظام.

ولقد خلق ناصر أحزاب جماهيرية متتالية تمثلت في جبهة التحرير (1953) والاتحاد القومي (1957 ) والاتحاد الاشتراكي (1962 ) ومع كل منها قام بتصفية النظام والحفاظ على قبضته القوية على الدولة.


لكن في نفس الوقت يحاول البعض القول إن الناصرية كان لها أكبر الأثر في تغيير وجه المجتمع المصري عبر اقتلاع الطبقة القديمة المالكة لمساحات شاسعة من الأراضي وإعادة توزيع الثورة وزحزحة النفوذ الأجنبي وتوفير فرص تعليم لكل المصريين والتعجيل بالتحول إلى الصناعة ومنح مصر السيادة على مواردها.

كذلك فإن قمع الخصوم السياسيين كالإخوان وتحويل الأزهر إلى جامعة مدنية إنما كان الغرض منه عدم الربط بين الأنشطة السياسية والدين وضرورة فصل الجامع عن الدولة.

وبخصوص الوحدة العربية وعدم الانحياز واستعداء الإمبريالية فمنها أمور ساعدت إلى حد كبير في تغيير الطريقة التي كان المصريون ينظرون بها لأنفسهم ولجيرانهم إذ أصبحت مصر تحت حم ناصر زعيمة العالم العربي وحاملة لواء التحرير بين الاستعمار والحكم الملكي والصهيونية وهكذا ما زال الجدل بشأن الفترة الناصرية مستمرا حتى الفترة الراهنة وهو الجدل الذي يلقى بآثاره دون شك على مصر الماضي والحاضر والمستقبل.