مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي 1945 – 1995

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي 19451995م


د. توفيق محمد الشاوي - دار الشروق

إهداء

"إلى ذكرى الأبطال الذين سجلت تضحياتهم وبطولاتهم وجهادهم لتحرير الشعوب الإسلامية جميعها، وإلى من يسيرون على نهجهم، ويواصلون مسيرتهم في طريق الجهاد والفداء الماضي إلى يوم القيامة" دكتور .. توفيق الشاوي

مذكرات "نصف قرن" من العمل الإسلامي "1945 .. 1995م"

استهوتني منذ حداثتي أنباء الجهاد لمقاومة العدوان الأجنبي على كثير من أقطارنا وخاصة ما تعلق منها ببطولات الأمير "عبد الكريم الخطابي" في المغرب والأمير "عبد القادر الجزائري" قبله والشهيد "عمر المختار" بعد ذلك، فضلاً عن تضحيات شهداء المقاومة في فلسطين ضد الاحتلال "البريطاني" ... والعدوان "الصهيوني"، وكنت سعيدًا عندما شجعني إخواني على العمل لجميع قضايا شعوب العالم الإسلامي باعتبارها صورًا متعددة لقضية كبرى هي تحرير أمتنا العريقة، ووحدتها ونهضتها حتى أصبح هذا الاتجاه هواية شخصية عندي والتزامًا عقيديًّا إلى طول حياتي...

لقد قضيت حياتي كلها عاملاً في ميادين الكفاح "الوطني" ممثلاً للفكر "الإسلامي" ساعيًا لتوثيق علاقات التعاون بين "الإسلاميين" وغيرهم من "الوطنيين" و"القوميين" بل و"الاشتراكيين" كما هو واضح في هذه "الذكريات" ... ولم يتوقف تعاوني مع كثير منهم، إلا أخيرًا بعد أن كشفت لي الأحداث أن منهم من أصبح يتبرأ من الإسلام بل يعاديه بعد الاستقلال ولا يتورع عن تنفيذ خطط "أجنبية" للقضاء على دعاته أو تأييد من يقومون بذلك في بلاده أو غيرها...

خلال هذه التجارب الطويلة لاحظت أخطاء كثيرة وعيوبًا لابد من نقدها وأبدأ في الاعتراف بما وقعت فيه من خطأ أو تقصير كانت له نتائجه... فأعتذر لكثير من "إخواني" الذين طالما عابوا "عليّ" التعاون مع من كانوا يعتبرونهم غير جديرين بالثقة التي أوليتها لهم، وأن ولاءهم للإسلام مشكوك فيه... وكانوا يحذرونني من هذه "الثقة" فيمن يرفعون شعارات غير إسلامية وكنت أقنع نفسي أن "الوطنية" تكفي لكي تجمعني بهم في ساحة الكفاح "الوطني"

لكنهم كانوا يردون بأن وطنيتهم ليست كما كانت شعوبنا تعتبرها مجرد مرحلة من مراحل كفاحها في سبيل التحرر الكامل، و"الوحدة الشاملة" و"الأصالة الإسلامية" التي نعتز بها، وأن كثيرين نهم إنما يعتبر شعارات الوطنية و"القومية" و"الاشتراكية" و"الديمقراطية" مجرد بديل عن الانتماء الإسلامي أو مبررًا للتنصل من التزامات "العقيدة" و"الأصالة الإسلامية"، وأنها تمكنهم من معاداة ذلك كله عند الاقتضاء بحجة أن هذا الاتجاه قد فات أوانه، أوأنه لم يعد يصلح لهذا الزمان أو أنه يغضب القوى "الأجنبية" المسيطرة التي نستجدي منها القروض والمساعدات...

الآن اكتشفت أن هذا النقد الذي وجه "إليّ" كان صحيحًا، وأن كثيرًا من "الوطنيين" الذين وثقت فيهم أو عاونتهم... وتعاونت معهم من أجل الاستقلال، لم يكونوا جديرين بهذه الثقة لأنهم قبلوا السير في طريق العداء للفكر "الإسلامي" و"الوحدة الشاملة" لجميع شعوبنا وتحررها الكامل ولكنني بكل أسف لم أعرف ذلك إلا تدريجيًّا بعدما كشفت عنه كثير من المواقف والحوادث بعد "الاستقلال"

وخاصة لدى كثير ممن استولوا على السلطة، وسعوا لاحتكارها بعد كل ما قمنا به من أجل التعاون الشامل وما قدمه "المجاهدون الإسلاميون" من تضحيات... كما نرى في كثير من بلادنا حيث تبنى كثير من الحكام الوطنيين سياسة "خصومة و عداء" للإسلام... وفكره... وتاريخه... ومن يعملون له، مما يثير الفتن التي نشكو منها في كثير من بلادنا...

لقد بدأت أسترجع الأحداث التي عاصرتها، أو شاركت فيها مع من وثقت في "وطنيتهم" من أصدقائي، لأكشف الدلائل التي بينت لي أن من وصل إلى "الحكم" منهم قد انحاز إلى صفوف أعداء الفكر والتيار "الإسلامي" الأصيل، بل إنهم اختاروا هذا الأسلوب ومارسوه فعلاً دون أن ألحظه بعد فوات الأوات...

لذلك فإنني قررت أن أعرض تجاربي خلال هذه "الخمسين عامًا" من "حياتي" لأستكشف أسباب هذه الهزيمة الحزينة التي تقاسيها جماهيرنا المؤمنة بأصالتها، ويواجهها العاملون للإسلام بعد "الاستقلال الوطني" رغم ما قدمناه من تضحيات في سبيله... لأننا اعتبرناه خطوة ضرورية لكي تواصل شعوبنا جهادها للتحرر "الكامل" والوحدة الشاملة...

إنني آمل ألا يعتبر القراء "كتابي" تاريخًا أو مجرد "تسجيل" لأحداث شهدتها، ولا احصاء للأخطاء التي أدت إلى هذا الفشل الذي ناقسي مرارته، وإنما هو قبل كل شيء دروس وعبر استخلصتها لأقدمها للجيل الناشئ، ومن يأتون بعدنا لعلهم يستفيدون منها في تصحيح مسيرة شعوبنا حتى تستطيع أمتنا العربية الإسلامية العريقة الأصيلة أن تحقق النصر الذي وعد به الله –عز وجل- عباده الصالحين.

وعلى أن أعترف بأن الخطأ الذي وقعت فيه، وأعتذر عنه لم يكن خاصًا بي، بل هو نتيجة "ضعف" بشري يؤدي إلى ترجيح الأهداف المباشرة القريبة على حساب "الاستراتيجية" والأهداف البعيدة التي تختلف عندنا عما يسعى إليه من أتعاون معهم ممن يعادون غاياتنا "الأصيلة"، ولا يتورعون عن مقاومتها في سبيل مصالح "وقتية" أو "حزبية" أو "أنانية" بعد الاستقلال...

وهذا "الضعف البشري" الذي أعترف به هو ما يصاب به كثيرون ممن يندفعون وراء مصالح "شخصية" يصفونها بأنها "وطنية" عاجلة أو "وقتية"، ويبررون بها تنكرهم لم نعمل له من أهداف إسلامية بعيدة وصعبة في نظرهم... إننا نجاهد من أجل تحرير جميع الأوطان الإسلامية وتوحيد شعوبنا ليكونوا قوة عالمية لها وزنها في المعترك الدولي ولكنهم يعتبرون "الاستقلال" نهاية الكفاح، وبداية للاستيلاء على السلطة واحتكارها، ويستسلمون للتبعية التي تريد بعض القوى الأجنبية فرضها علينا، وتستخدم ما لديها من "مال" و"نفوذ" لإغراء بعض "الحكام" على تنفيذ خططها البعيدة المدى...

إن كثيرين يرون الآن أن بعض "الأشخاص" أو "النظم" أقدم على التنسيق أو التعاون مع القوى الأجنبية ذات المطامع والأهداف الاستراتيجية المعادية لأمتنا؛ نظير أنها تساعدهم و"أعوانهم الذين يتعاملون معها في بلادنا" في الحصول على مكاسب وقتية عاجلة هي بقاؤهم في السلطة طالما أنها تستفيد منهم في تنفيذ خطوات تحقق لها أهدافها البعيدة.

لقد تبين لي أن أخطر هذه المكاسب الوقتية العاجلة التي استخدمتها بعض الدول الكبرى لإغراء بعض "الوطنيين" أو القوميين هو "الاستقلال" الذي كنا نهتف له، وننادي به في مظاهرات الطلاب ومسيرات الجماهير... وفي حين كنا شبابًا نفهم الاستقلال على أنه شامل لجميع أوطاننا، وأنه تحرر كامل لجميع شعوبنا بلا استثناء، وإيجاد دولة وأمة كبرى تمكننا من الاكتفاء الذاتي في الغداء والإنتاج المدني والعسكري

وإيجاد اقتصادًا كبير يغنينا عن استجداء العون العسكري والمالي ممن يعادوننا لقد تبين لنا الآن أن طائفة ممن يرفعون شعارات الوطنية لا يهمهم من الاستقلال إلى التربع على مقاعد السلطة في قطر صغير، وبلد فقير ضعيف محدود الامكانيات لا يستطيع أن يعيش بدون معاونة الدول الأجنبية، وما يستجديه هؤلاء الوطنيون المسيطرون عليه من بعض الدول الكبرى الطامعة التي لا تقدم قروضًا ولا مساعدات إلا لمن يخضع لما تمليه عليه حكوماتها وخططها الإمبريالية...

إن هذا الصنف من الوطنيين ما زال يواصل الخضوع لتوجيهات القوى "الأجنبية" التي لها خطط بعيدة المدى، وهو يعلم أنها تستلزم في نظرها تفريغ استقلال الدول الصغيرة من محتواه الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، بل والعسكري والسياسي وبقائه محصورًا في نطاق قطري ضيق، يعزل كل شعب من شعوبنا عن الشعوب الشقيقة أو المجاورة، بل ويدخله في خصومات أو معارك إقليمية أو داخلية مع أشقائه وجيرانه لا تنتهي، وبذلك يتحول استقلال كل قطر إلى وسيلة لانفصاله عن كيان الأمة الكبرى العربية والإسلامية، وعن وحدتها التي سادت منطقتنا قرونًا طويلة ومكنتها من أن تبني أعظم حضارة في عهود الإسلام الزاهرة.

هذه النظم تقبر السير فيما رسمته القوى الأجنبية من خطط لاستبعاد الإسلام ذاته من كيان الشعب وذاتيته، وثقافته وقيمه الأصيلة، مقابل بعض المساعدات والقروض والأسلحة والنصائح التي تؤدي إلى التبعية التي تربطها بالقوى الكبرى المهيمنة على النظام العالمي، وتتخذه وسيلة لفرض سيطرتها على شعوبنا بحجة "العولمة" تارة و "الشرق الأوسط تارة أخرى...".

إن هؤلاء يظنون أنهم يستغلون أموال القوى الأجنبية ونفوذها للبقاء في السلطة، وينسونأنها هي التي تستغلهم وتخدعهم وقد رأينا كيف استغل زعماء الثورة العربية الكبرى ما قدمه لهم "لورنس" من ذهب بريطانيا، ومن وعود كاذبة بدعم استقلالهم عن تركيا، بل ووحدة العرب بعد انفصالهم عنها، وتبين أن بريطانيا هي التي خدعتهم واستغلتهم؛ لتنتصر هي وحلفاؤها على الدولة العثمانية وتستولى على الأقطار العربية وتمزق وحدتها...

والذين يظنون أنهم يستغلون مساعدات الدول الكبرى ينسون أن ما يقومون به لاقتلاع جذور الفكر الإسلامي، والقضاء على التيار الإسلامي هو هدف استراتيجي لأعدائنا لأنه يسهل لهم تنفيذ مخطط استراتيجي طويل المدى يحرمون فيه شعوبنا من الوحدة حتى يستغل الاستعمار الأجنبي ثرواتها، ويفرض سيطرته على دولها أطول فترة ممكنة...

إنهم يظنون أن الوطنية الضيقة تقنع شعوبنا بهذا الاستقلال القطري والهزيل ناسين أن هذه النظم القطرية في الدول الصغيرة، ولو وصفت نفسها بأنها وطنية، إلا أنها غير قابلة للبقاء؛ لأنها عاجزة عن تحقيق أهداف شعوبنا في التضامن والتعاون من أجل التنمية الاقتصادية والقوة العسكرية والوحدة السياسية التي تجعل أمتنا الكبرى تحتل المركز اللائق بها في السياسة العالمية وتقوم بدورها الرائد في بناء مستقبل الإنسانية، وينسون أن شعوبنا تتمسك بالأصالة الإسلامية؛

لأنها تريد هذه الأهداف البعيدة، ولابد حتمًا أن تنصرف عن جميع النظم أو الحركات التي تتنكر للوحدة الشاملة للعالم الإسلامي؛ لأنها تجعل هذه الدول القطرية الصغيرة مستضعفة عاجزة عن توفير الغذاء أو مطالب العيش لشعوبها وعاجزة عن الدفاع عن بلادها وعن بناء اقتصاد كبير متكامل يغنيها عن المساعدات التي يتخذها أعداؤها وسيلة لإذلال شعوبنا والاستيلاء على ثرواتها والقضاء على ذاتيتها وأصالتها.

إن زوال النظم القطرية في الدول الصغيرة أصبح في نظر الكثيرين حتمية تاريخية لا جدال فيها، وليس أمام شعوبنا في المستقبل إلا أن تبني وحدتها ومستقبلها على أساس الوحدة الشاملة التي تذيب هذه النظم القطرية وتدمجها في تجمع يتجاوز الساحة القطرية والعربية ويشمل العالم الإسلامي المتحرر كله بدلاً من أن تسير أقطارنا منفردة نحو التبعية الذليلة للطامعين فيها، وتذوب في مستنقع السيطرة الأجنبية التي يريد أعداؤنا فرضها على شعوبنا واحدًا بعد الآخر بواسطة المنظمات التي يسيطرون عليها سواء كانت تحمل طابعًا إقليميًّا أو عالميًّا يمكن أعداءنا من الهيمنة الكاملة على منطقتنا وأمتنا.

من حسن الحظ أن الكثيرين ممن كانوا مقتنعين بالأهداف الوطنية القومية أو الاشتراكية قد حولوا وجهتهم فعلاً إلى الأهداف الإسلامية، وفي مقدمتهم كثير من المفكرين اليساريين والعرب، أو القوميين عامة الذين لم يترددوا في أن يسيروا مع جماهير شعوبهم التي اختارت الطريق الطويل لأنه طريق الوحدة والأصالة الإسلامية رغم ما يحفه من صعوبات ومخاطر.

الخلاصة إذن... أن النظم الوطنية لا يجوز أن تنفذ خطط القوى الأجنبية التي تصرف شعوبنا عن هذه المسيرة الطويلة التي تفتح أمام أمتنا طريق الصحوة الإسلامية والمستقبل الذي يتناسب مع أمجادها التاريخية وجهادها وتضحياتها للدفاع عن ذاتيتها وأصالتها ووحدتها وحضارتها الأصيلة التي يحتاج لها العالم في المستقبل لمواجهة الأخطار التي تهدد الإنسانية...

إن بعض النظم القطرية تسعى لحرمان الشعب من حقه في اختياره للحل الإسلامي الذي لا ترضى به القوى الأجنبية، وهم بذلك لا يعادون التيار الإسلامي كما يدعون، وإنما يعادون شعوبهم ويحرمونها من حرية الاختيار التي هي جوهر الديمقراطية الصحيحة والشورى التي تقوم على مبدأ "السيادة الشعبية" وحق الشعوب في تقرير مصيرها بحرية كاملة، واختيار حكامها بانتخابات حرة...

إن الطريق الذي اخترنا السير في هو طريق التضامن مع الشعوب للدفاع عن حقها في التعبير عن إرادتها الحرة، ومقاومة أعدائنا وهي تستلزم توسيع دائرة التضامن مع جميع شعوب العالم الإسلامي، رغم ما يخشاه آخرون ويتهربون منه؛ لأنه طريق طويل تحفه المخاطر والصعوبات، إن طول هذا الطريق ومخاطره لا تثنينا عن السير فيه؛ لأننا نجاهد من أجل دعوة إنسانية يحتاج لها العالم كله لإنقاذه من مخاطر الفساد الذي تشكو منه بعض المجتمعات المسيطرة على العالم في هذا العصر وتريد فرضه في البلاد التي تطمع في السيطرة عليها.

إن مسيرة الجهاد من أجل الوحدة الإسلامية هي "طريق طويل" تعددت مراحله وتعددت مخاطره، وهي التي فرضت علينا أن نشتغل بقضايانا الوطنية كلها، ابتداء من مصر وفلسطين إلى سوريا ولبنان، وأندونيسيا وباكستان والجزائر وإفريقية الشمالية، بل وغيرها من قضايا شعوب العالم الإسلامي وأفريقيا وآسيا وإذا كان الكفاح "الوطني" قد توقف في بعض الأقطار بسبب استرخاء قادة "ضعاف الهمم وقصار النظر"

ظنوا أن الاستقلال الوطني هو نهاية الطريق في حين أنه في نظرنا ليس إلا مرحلة تليها مراحل أخرى كثيرة، تحتاج إلى كثير من التضحيات والوحدة والتضامن الذي يحقق لشعوبنا وحدتها ونهضتها في جميع النواحي الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية حتى تقوم بدورها كأمة عظمى تحمل رسالة الإسلام وترفع راية حضارته التي عرفها العالم في عصور وحدتنا ومجدنا وتاريخنا الزاهر.

إنني أدعو القارئ لكي يتابع مسيرتي في هذا الطريق الطويل خمسين عامًا، لأنها مسيرة جيل كامل قد أوشك أن تتداعى رموزه واحدًا بعد الآخر وآن له أن يسلم الراية إلى جيل جديد ناشئ جدير بأسلافه الذين تحملوا أعباء الجهاد ومسئولية الكفاح. إن جيلنا قد تحمل أعباء الكفاح الوطني من أجل الاستقلال في جميع أقطارنا وهدفه تحرير شعوبنا وعزتها ونهضتها، وقد شاركه في ذلك كثير من الوطنيين المخلصين من أحزاب وهيئات متعددة ومتنوعة، وسيرى القارئ أنني أنصفتهم وعملت معهم جميعًا دون استثناء لأن غايتنا جميعًا كانت واحدة حتى حققنا الاستقلال الوطني لكثير من شعوبنا؛ لكن أمامنا الآن أهداف أخرى لابد من مواصلة كفاحنا من أجلها...

لكن ذلك لا يمنعني من أن أقول كلمة الحق، وهي أن كثيرًا من الوطنيين الذين شاركونا في مرحلة الكفاح الوطني، قد آثروا السلامة بمجرد أن ظهرت لهم مغانم الاستقلال القطري المحدود، وسارع بعضهم للتخلي عن المشاركة في الطريق الطويل، طريق توجيه العقيدة التي تفرض علينا الجهاد حتى تحقق أمتنا وحدتها الشاملة وتحريرها الكامل الذي لا يتم بدون الوحدة والتضامن بين شعوبها جميعًا...

ومما يؤلم النفس الحرة الأبية أن البعض يتسترون وراء شعار الوطنية القطرية ويعملون لمصالحهم الأنانية والحزبية، ويتعاونون مع عملاء القوى الأجنبية لمطاردة ذوي الفكر الإسلامي والعاملين في طريق الحل الإسلامي وهم يعلمون أنه طريق الجهاد والتضحية الذي لا ترضى عنه قوى أجنبية طامعة تخشى نهضة أمتنا ووحدتها وقوتها وتغري بعض أعوانها لمقاومة الصحوة الإسلامية، وحرمان الشعوب التي تختارها من حقها في "الانتخابات الحرة" التي هي أساس الديمقراطية...

لكن أمتنا الأصيلة العريقة ستظل صامدة مجاهدة؛ لأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة وسوف تتابع أجيال ناشئة ناهضة "في جميع أقطارنا" مسيرة النضال في طريقها الطويل نحو الوحدة الشاملة والتحرر والسيادة الكاملة، رغم كل ما تواجهه من مكائد ومخاطر وما يتحمله أبناؤها الأبرار من تضحيات يحتسبونها عند الله –عز وجل!...

الحركات الوطنية في شمال إفريقية

أقطار المغرب عندنا تبدأ بعد السلوم، وأولها برقة وليبيا، وأغلب من نسميهم مغاربة في مصر هم الليبيون، وأول ما سمعته عن قضايا المغرب الكبير هو قصيدة الشاعر الكبير أحمد شوقي في رثائه للشهيد عمر المختار، وأذكر أن ذلك كان في فناء مدرسة المنصورة الثانوية، وكنت إذ ذاك تلميذًا بالنسبة لي، ولقد لفت نظري مجموعة من التلاميذ يلتفون حول أحدهم وكان يقرأ لهم هذه القصيدة، فاستمعت إلى بعض أبيانها التي رسمت لي صورة رائعة من جهاد الشهيد عمر المختار وكفاح شعب ليبيا ضد الاستعمار الإيطالي

ومازلت أذكر منها هذه الأبيات:

أفريقيا مهد الأسود ولحدها

ضجت عليك أراجلاً ونساء

والمسلمون على اختلاف ديارهم

لا يملكون مع المصاب عزاء

في ذمة الله الكريم وحفظه

جسد ببرقة وسد الصحراء

لم تبق منه رحى المعارك أعظمًا

تبلى ولم تبق الرامح دماء!!

وأول ما عرفته عن الجزائر بالذات أنني قرأت عنها في أحد كتب الأستاذ الشيخ محمد عبده عليقًا على تفسيره لسورة العصر الذي كان منشورًا في كتيب صغير قرأته في مكتبة بلدية مدينة المنصورة، وكنت إذ ذاك تلميذًا بالمدرسة الابتدائية بالمنصورة وكنت مولعًا بالقراءة عمومًا، وبقراءة كتب الإمام الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني بصفة خاصة

وقد كتب في مقدمة هذا التفسير أن الشيخ محمد عبده ألقاه في دروس بعاصمة الجزائر أثناء رحلته في شمال أفريقيا، وفي هذه المكتبة بالمنصورة قرأت بعض ما كتب عن ثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في المغرب وحروبه مع الأسبان والفرنسيين، وقد أثار ذلك في نفسي حماسًا كبيرًا وأعطاني صورة رائعة عن الجهاد وعن أقطار المغرب والمغاربة عمومًا.

أما تونس، فأول معرفتي بقضيتها كانت عن طريق أحاديثي مع الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين أحد كبار علماء الأزهر الشريف، والذي أصبح شيخًا للأزهر في عام 1952م، وقد أسس في القاهرة جمعية تسمى جمعية "الهداية الإسلامية" وكان هو رئيسها وأمينها العام هو الشيخ الفضيل الورتلاني الجزائري وكانت تصدر مجلة اطعلت على بعض أعدادها في مكتبة المقر العام للإخوان المسلمين عندما انضممت إليهم في بداية عهدي بالدراسة بكلية الحقوق ورغم أن المجلة كانت إسلامية عامة إلا أنها كانت تعطي أهمية خاصة لأخبار تونس وشمال أفريقيا

وقد تعددت لقاءاتي مع الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين في الدار وعرفت أنه تونسي المنشأ، وأنه من علماء جامع الزيتونة، ولقيت معه المحرك الأول لجمعية الهداية ومحرر مجلتها وهو الشهيد الشيخ الفضيل الورتلاني الذي كان مواظبًا في الحضور إلى دار الإخوان باعتباره عضوًا في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي الذي أغراني صديقي وزميلي المرحوم عبدالحفيظ الصيفي بأن أنضم إليه معه فيه، وكان معنا المرحوم الأستاذ محمد هارون المجددي من أفغانستان، وإسماعيل بندا من أندونيسيا، وآخرون من أقطار إسلامية أخرى وخاصة فلسطين.

كان قسم الاتصال بالعالم الإسلامي هذا صورة صادقة للأخوة التي تربط بين المسلمين في جميع بقاع الأرض، وكان يجعل لكلمة "الإخوان المسلمين" أو الأخوة الإسلامية مغزى سياسيًّا يشير إلى التضامن الذي يربط بين جميع الشعوب الإسلامية وإلى وحدتهم التي هي ضمان قوتهم وحريتهم وعزتهم وتقدمهم، وعندما كنا نتكلم عن إحدى قضايا العالم الإسلامي فإنها كانت جميعًا في نظرنا قضية واحدة هي قضية الوحدة والحرية للمسلمين جميعًا، وقضية التعاون والتضامن بينهم في الكفاح من أجل تلك القضايا، وكان أولها وأهمها في ذلك الوقت بالنسبة لنا هي قضية فلسطين.

إن كلامنا عن أي قضية من القضايا الإسلامية لم يكن في نظري "بل وفي نظر الإخوان المسلمين عامة" إلا فرعًا من فروع القضية العامة المشتركة بين جميع المسلمين وهي قضية النهضة الإسلامية التي تعتبر أن وحدة العالم الإسلامي هي مفتاح أي كفاح من أجل تحرير جميع شعوبنا وقوتها وعزتها وتقدمها. وقضية فلسطين كانت في نظرنا قضية المسلمين عامة؛ لأن الخطر الصهيوني يهدد العالم العربي والعالم الإسلامي كله – والعدو الصهيوني يعتبر نفسه مخلب قط لكل القوى الأجنبية التي لها مطامع في أي بلد عربي أو إسلامي – وهو لا يعمل وحده بل يستغل جميع القوى المعادية للعرب والمسلمين

ويتحالف معها جميعًا في حدود مطامعه وأهدافه الاستراتيجية والمرحلية حسب ظروف كل منها، فلا يمكن لشعب فلسطين وحده أن يقف في وجه الخطر الصهيوني، ولا يستطيع العرب وحدهم إحراز نصر على هذا العدو الماكر الغادر إلا إذا استندوا إلى كتلة عالمية موحدة تضم العالم الإسلامي الذي يستطيع بوحدته وتضامنه أن يجعل العالم الثالث كله ذا وزن جدي في السياسة العالمية.

ولقد أيقنت منذ بدأت كفاحي مع "الإخوان المسلمين"، والعمل في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي أن أبناء أقطار أفريقيا الشمالية هم أقرب الشعوب العربية إلى فكرة الوحدة الشاملة كما يؤمن بها الإخوان ويعتبرونها هدفهم الاستراتيجي الذي يعني وحدة تضم المسلمين عامة دون تفرقة بين العربي وغير العربي منهم؛

لأنها لا تقبل التمييز بينهم بسبب الجنسية أو الانتماء العرقي أو القطري، وفوق ذلك الهدف الاستراتيجي فإن التيار الإسلامي له أصل عقيدي وتاريخي يستمد منه مقوماته وملامحه، وهذا العمق العقيدي إلى جانب البعد الاستراتيجي لأهدافه الوحدوية يجعله صورة صادقة لشخصية الأمة العظيمة القادرة على مواجهة المطامع التي تهددها والتي تستطيع القضاء على الأقطار الصغيرة إذا واجهتها منفردة.

ومما يؤسف له أننا نجد من يستغلون الشعارات الوطنية أو القومية يدركون أن نظمهم مهددة بالزوال بسبب عجزها عن تحقيق أهداف شعوبهم أو الدفاع عن مصالحها وعجزهم عن مواجهة الخطر الأجنبي الذي يأخذ صورة إقليمية باسم الشرق الأوسط أو صورة عالمية باسم النظام العالمي، لكن بعضهم لا يجد وسيلة لمواجهة هذه الأخطار إلا توجيه سهامهم للتيار الإسلامي بحجة أنه يرشح نفسه ليحل محل التيارات الوطنية ما دام يحظى بتأييد شعبي يجعله أقدر على التجاوب مع رغبات الشعوب وأقدر على صيانة وحدتها ومستقبلها كأن ثقة الشعوب في نظرهم عيب أو خطأ.

بدلاً من ذلك نرجوهم أن يعلنوا أن انهيار هذه النظم إنما هو نتيجة لعيوب في التجزئة التي قامت على أساسها؛ لأنها تجزئة تتعارض مع وحدة المصالح ووحدة الشخصية التي تجمع هذه الشعوب، وأن العلاج الوحيد لهذه العيوب هو توسيع نطاق الوطنية لتشمل العالم الإسلامي كله، وتعميقها لتقوم على أساس مقومات وحدة هذه الأمة وشخصيتها التاريخية.

إنني أعرض تجاربي في مسيرة الكفاح الوطني من أجل قضايا المغرب العربي ليعلم القارئ أن العمل لهذه القضايا كأي قضية أخرى من قضايا العالم الإسلامي يبدأ في نظرنا من فكرة الوحدة الإسلامية باعتبارها المنبع الأول والأساس الفكري والإطار الذي يربط بين جميع هذه القضايا ويوحد منطلقاتها الإسلامية وأنها هي الغاية التي نعتبر الكفاح الوطني مرحلة من مراحلها. هذا النهج الوحدوي يجعل عملنا لهذه القضايا كلها متشابكًا وينتهي إلى هدف مشترك هو وحدة العالم الإسلامي ونهضته وحريته الشاملة.

وسوف يجد القارئ من العرض الذي نقدمه أن دور التيار الإسلامي في حركات التحرر الوطني قد مر بثلاث مراحل:

الأولى: كان فيها الإسلام هو المنبع الذي زود شعوبنا وجماهيرنا بطاقة الجهاد والكفاح والفداء والاستشهاد في المقاومة المسلحة للغزو العسكري الاستعماري.

الثانية: مشاركة الهيئات الإسلامية في الكفاح الوطني ضد الاحتلال الأجنبي باعتباره مرحلة وليس غاية ولا نهاية.

الثالثة: انفصال التيار الإسلامي عن الحركات "الوطنية" التي تكتفي بالاستقلال بسبب تصميمه على مواصلة الكفاح في سبيل الأهداف التي تتجاوز "الاستقلال الوطني" وهي وحدة العالم الإسلامي وتحربر جميع الشعوب الإسلامية بلا استثناء وفي مقدمتها شعب فلسطين.

إن الدور الذي قامت به الحركات الإسلامية من أجل التعاون مع الحركات الوطنية في شمال أفريقيا لم يكن إلا تنفيذًا للخطة الشاملة للحركة الإسلامية، وإن تجاربي في العمل مع الوطنيين في شمال أفريقيا أكدت لي أن التيار الإسلامي أبعد نظرًا، ومع ذلك فإن انحرافات الوطنيين الذين عاوناهم وتعاونا معهم لم تكن تبرر الابتعاد عنهم أو عدم مشاركتهم في نضالهم الذي كان يهدف للاستقلال الوطني لأن انحراف كثير منهم يبدأ عادة بمجرد الاستقلال نتيجة لإغراءات السلطة التي تدفع من يحصلون بها على منانفع الاستقلال إلى التنكر للتيار الإسلامي أو معاداته أو المشاركة في تنفيذ المؤامرات الأجنبية لاضطهاد الإسلاميين ومحاربة الفكر الإسلامي...

إنني واثق أن الإسلاميين عامة، والإخوان خاصة هم الضمانة الكبرى لاستمرار جهاد شعوبنا لتحقيق أهدافها البعيدة في المستقبل، ولكي أعرض على القارئ صورة كاملة لتجاربي من أجل شعوب شمال أفريقيا فإنني يجب أن أعترف بأن الفضل في ذلك يرجع في البداية إلى المرحوم الأستاذ الفضيل الورتلاني الجزائري، ولعهد قطعته على نفسي له عندما ودعته قبل سفري إلى البعثة العلمية في فرنسا أنني سائل في طريق الجزائر، في ذلك اليوم انتحى بي جانبًا

وقال لي:

"إنك "شاوي" ولاشك عندي أن لك أصلاً جزائريًّا، فالشاوية من أهم قبائل شرق الجزائر وهي ليست بعيدة عن سطيف التي أصابتها المحنة التي كتبت عنها في الرسالة وهناك كثيرون يعملون لقضية فلسطين عندكم، فعليك أنت أن تتفرغ لقضية الجزائر من الآن وكن على ثقة من أن كل جهد تبذله من أجل الجزائر سيكون أثره مضاعفًا لصالح فلسطين ولصالح الإسلام كله في المستقبل!"...

ثهم همس في إذني قائلاً:

أوصيك يا شاوي أن تعمل كل ما تستطيع لكي تزور الجزائر وتراها بنفسك وتذهب إلى الشاوية هناك، وستجد أنهم أهلك وإخوانك، وأنهم أكثر الناس حبًا للإسلام وتعصبًا له، رغم أنهم من البربر، لا تتأثر بدعاة الفتنة الذين يحرضون البربر على العرب والعرب على البربر، إن هؤلاء هم عملاء للاستعمار، فاحذروهم، وعندما تذهب إلى الجزائر أرجو أن تبلغ سلامي للشيخ البشير وزملائه في جمعية العلماء الذين يحرسون ثقافة الإسلام وعلومه وعقيدته في بلادنا، ويغذون الطاقة الشعبية التي هي رصيدنا في الجهاد دائمًا إن شاء الله –عز وجل.

البداية كانت فلسطين

أثناء الحرب العالمية الثانية كانت فترة نشاط كبير "للإخوان المسلمين" بالنسبة لقضية فلسطين وكان لدينا آمال كبيرة على أن هذه الحرب ستكشف لدول العالم خطر الحركة الصهيونية "وخططها للسيطرة على العالم" وكانت ألمانيا قد أعلنت سياستها لمقاومة الصهيونية

وكان كثيرون من العرب يظنون أنها سوف تساعد العرب في كفاحهم ضد الحركة الصهيونية في فلسطين التي كانت تئن تحت حماية بريطانيا في ذلك الوقت، وكان أغلب نشاطنا في الحقل السياسي خاصًا بقضية فلسطين وخصوصًا لأن المفتي الحاج أمين الحسيني كانت له علاقة بالإخوان المسلمين عن طريق الهيئات الإسلامية في فلسطين.

منذ عام 1937م عملت في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، وكان العمل فيه يعني متابعة جميع قضايا العالم الإسلامي على أساس أن العالم الإسلامي أمة واحدة؛ فالوحدة الإسلامية عندنا هي المنطلق والقاعدة، وهي حقيقة واقعة ملموسة نراها متجسدة في الأخوة الوثيقة التي تربط بين جميع العاملين في هذا القسم رغم اختلاف مواطنهم أو جنسياتهم والتي تربطنا أيضًا بجميع المجاهدين في سبيل تلك القضايا سواء من يعملون في بلادهم أو من يهاجرون في سبيلها ويضحون من أجلها.

وكان العاملون في القسم يدرسون معًا قضايا العالم الإسلامي، ويتولى كل واحد منهم حفظ ملفات قضية أو أكثر من تلك القضايا ومتابعتها، لقد كان عددنا يتزايد ويتناقص حسب الظروف؛ لأن أغلب العاملين به كانوا من الطلاب الذين يعودون إلى بلادهم عند انتهاء دراستهم، وعندما يغيب أحدنا كان ينوب عنه أحد زملائه من العاملين في القسم أو غيرهم من المتطوعوين من الإخوان سواء كانوا من أبناء وطنه أو من غيرهم، وكانت قضية فلسطين هي الأولى، وكنا جميعًا نسهم فيها كل منا بنصيب، وكانت هي مهمتي الأساسية في مصر.

وعندما كنت أستعد للسفر إلى باريس في البعثة أفهمني الشهيد حسن البنا أن قضية فلسطين ستبقى هي مهمتي الأولى حيث أن المفتي الأكبر الحاج أمين الحسيني معتقل هناك تحت الإقامة الجبرية، وهدفنا هو مساعدته ليقوم بدوره في قيادة الجهاد الفلسطيني الذي كان هو محور نشاط الإخوان في تلك الفترة، وفعلاً كان أهم ما قمت به في باريس في العام الأول في دراستي 1946م هو ملازمة المفتي الأكبر وتوثيق الصلة بينه وبين الإخوان حتى تمكن من الهرب إلى مصر بفضل تعاون عدة أشخاص ليس هناك مجال لذكرهم.

وعندما دعت إلى القاهرة في عطلة الصيف 1947م كان أول ما فعلته هو مقابلة الحاج أمين الحسيني واستئناف العمل معه فترة عطلتي في مصر، وقد كانت القضية الفلسطينية محور مناقشات هامة في هيئة الأمم، وكان لدينا أمل كبير في هذه الهيئة العالمية، ولكنا صدمنا بصدور قرارها بتقسيم فلسطين الذي كان أساسًا لقيام دولة إسرائيل، وبالنسبة لي كانت الصدمة مفاجئة، وعدت إلى فرنسا وأنا في غاية الألم واليأس...

وقد شغلت بذلك بقضية ليبيا التي كانت "هيئة الأمم" تناقش مستقبلها، وكان وزراء خارجية الدول الأربع الكبرى "أمريكا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي" يجتمعون في باريس ليقرروا مصير "المستعمرات الإيطالية السابقة وفي مقدمتها ليبيا، وكانوا يريدون تقسيمها فيما بينهم"؛ لذلك أعددت مقالاً أرسلته إلى مجلة الرسالة التي نشرته، ومن الأفضل أن أعيد نشره بنصه كما نشرته مجلة الرسالة بتاريخ "8 ديسمبر 1947م"...

وأذكر أنه كان المقال الثاني الذي نشرته لي، فقد نشرت لي مقالاً قبل سفري عن فلسطين... نسيت تاريخه، ولم أعثر عليه للآن لإعادة نشره...

وطن الأحرار في سوق العبيد - للأستاذ توفيق محمد الشاوي

"مجلة الرسالة العدد 735 بتاريخ من ديسمبر 1947م"

وقعت الواقعة، وحدث المستحيل: اتفقت روسيا مع أمريكا، لا على صيانة سلم العالم وأمنه من خطر المنافسة بينهما وتوسيع كل منهما لنفوذه على حساب استقلال الأمم الصغيرة، ولكن على تقسيم "فلسطين" وكأن كلا من هذين العملاقين قد شعر بأن فلسطين الصغيرة، العربية الأبية، لن تخضع له منفردًا فآثر أن يتفقا معًا تجاوزًا عن خصومتهما التي ملأت أسبابها كل بقعة على ظهر الأرض

بدلاً من الاعتراف بالعجز والتراجع أمام الإباء العربي والمقاومة الإسلامية، فإن كان في ذلك معجزة فليس بغريب أن تأتي فلسطين بالمعجزات، وإذا كان فلسطين الصغيرة قد حققت تلك المعجزة بفضل تضامن العروبة معها، وهي بعد لم تبدأ المقاومة العملية والتجربة الدموية التي تتأهب لها

فإن العالم سيشهد قريبًا لبطولتها وجهادها بالمعجزة الأخرى؛ وهي أن تنتصر إرادة هذا الشعب العربي الصغير على خطط الصهيونية وحليفيها العملاقين مجتمعين وإذا كتبت فلسطين صحائف بدماء أبطالها، وسجلت العروبة تضامنها بنجدة شبابها، فإن قوى الأرض مجتمعة لن تنال من وجودها واستقلالها، ولو اتفق على ذلك الروس والأمريكان.

إيه يا فلسطين لا تيئسي ولا تترددي، ولا يقولن دعاة الذلة والاستكانة ماذا نفعل أمام جحافل الشرق الروسي والغرب الأمريكي، وأين لنا بالقوة التي تحبط بها إرادة "الأمم المتحدة" فما تلك إلا حجة لجبان يبخل بدمه على مواطن الشهادة، وبراحته على متاعب الجهاد، أما سليل البطولة ومن تجري في دمه عزة العروبة فإنه يعلم أن هذا "الاتفاق" بين أنصار الباطل إنما هو وهم وتضليل يقصد به إرهابك وإضعاف عزيمتك أملاً في أن ينصرف شعبك عن المقاومة ويرغب في الاستكانة

فإذا أنت تشبثت بحقوقك وصممت على الجهاد في سبيل استقلالك فستنهار كل هذه "الاتفاقات" وتتحطم هذه المؤامرات في ميدان العمل، ولعمري إنه ليس بغريب أن اتفق الروس والأمريكان هذه المرة، فمن ذا الذي لا يتفق على اقتسام شعب لا يقاوم؟ ومن ذا الذي لا يتفق حتى مع عدوه على اقتسام عنيمة باردة، ما دام يظن أنها لن تكلفه شيئًا؟ ولكن مثل هه الاتفاقات الرخيصة ستذوب وتتلاشى، وسترين يا فلسطين أن دماء أبنائك كفيلة بمحوها متى أيقن العالم إرادتك قوية وأنك عازمة على الدفاع عن حقك بالدماء.

إيه يا فلسطين، أيتها العربية الأبية، إن هذا الاتفاق الذي يعلنه الصهيونيون نصرًا لهم سيعمل دعاتهم ما استطاعوا ليوقعوا في روع شعبك الباسل أن الأمر قد قضي ولا سبيل إلى المقاومة، والحقيقة أنك قد ارتفعت بهذا الأمر وشرفت به، وإن كل أمريكي من المائة مليون الذي يسكنون الولايات المتحدة ليعلم اليوم أن بلاده قد أقدمت على تضحية كبرى باتفاقها مع الروس هذا الاتفاق

وهو يعرف لماذا أقدمت بلاده على هذه "التضحية" إنه يوقن أنها فعلت ذلك اعتقادًا منها أن ذلك سيجنبها عبء الاصطدام بالمقاومة العربية التي لا تريد مواجهتها، وقد أوهما سماسرة الصهيونية أن هناك شيئًا واحدًا يجنبها هذا الصدام، وهو أن يصدر قرار قانوني من "الأمم المتحدة" ولابد لذلك من رضاء روسيا، فلتحصل عليه بأي ثمن، فانظري يا فلسطين الصغيرة أي ثمن تدفع أمريكا لتتفادى مواجهة مقاومتك وحدها، وهل تظنين أن أمريكا كانت تقبل موافقة روسيا لتفعل شيئًا لو كانت استطاعت أن تفعله وحدها؟ فما بالك إذا أصبحت مقاومتك حقيقة واقعة.

إيه يا فلسطين العزيزة إنك ستحققين هذه المعجزة، وإن أبناء العروبة ليتحفزون للتضحية رهن إشارتك، ويدفعهم إيمانهم بالمثل العيا والمبادئ السامية التي سيكافحون من أجلها، غير عابئين بدعاة الذلة واليأس، الذين يتخذون من "الواقع" حجة لبذر أسباب الجزع والاستكانة، وإن لهم شياطين تعلمهم وتغذيهم بمنطق خادع مضلل

إنهم ليقولون: كيف تطلبون الإنصاف من عالم لا يعرف الإنصاف، وتنتظرون العدل من دول لم تؤسس إلا على الظلم، وبماذا تتسلحون؟ بقوة الروح وعزة النفس في ميدان لا يعرف إلا عدة الحرب وقوة السلاح، والواقع شهيد بذلك، فالأمم الصغيرة تباع اليوم في أسواق السياسة بيع الرقيق وتعرض في مؤتمرات الاستعمار ظاهرها وخفيها عرض السلع، لقد قام مقام الرق الفردي رق جماعي هو الاستعمار بكل صوره من حماية أو وصاية أو انتداب

هو الرق الذي ابتدعه شياطين السياسة ليتحكموا به في رقاب الأمم والشعوب ألا ترون أوطانكم التي بيعت في هذه الأسواب السياسية واحدًا بعد الآخر؟ وما "الأمم المتحدة" إلا سوق جديد من أسواق الرقيق، فإذا استطاع الذهب الصهيوني والنفوذ الأمريكي أن يتما الصفقة، وأن يملك اليهود فلسطين كلها أو بعضها فقد ضاع الحق ولا سبيل إلى استنقاذه، وتأيد الظلم وما هو بجديد... هذا هو منطق الانهزاميين.

إلا إننا نرى الواقع ولكن بغير عين الجبناء الأذلاء، ونعلم منه ما هو أشد إيلامًا وأبلغ بيانًا، نذكر أن الذين باعوا فلسطين والذين يساومون على برقة وطرابلس لم يدخلوها فاتحين وإنما دخلوها حلفاء لأهلها، أصدقاء لشعوبها، بذلوا لهم الوعود وقدموا لهم العهود والمواثيق، فاطمأنوا إليهم وأمنوا لهم، حتى إذا انتهت الأزمة

وزالت عنهم الحرب، نقضوا العهود وتناسوا الميثاق، وباعوا إخوانهم في السلاح وأعوانهم في الكفاح، لا بيع غالب لمغلوب، ولا قاهر لمقهور، ولكنه بيع للصديق، وغدر الرفيق بالرفيق ووضع القيد في يد الحليف دون العدو، تلك والله الكبيرة التي لا يأتيها الوحش في الغابة ولا يجيزها حتى قانون الذئاب المفترسة ولكن يأتيها المستعمر المتمدين ويعاملنا بها الإنجليز الحلفاء...

فما هي القوة إذن، ولكنها الخيانة والغدر، وإذا باع الحليف حليفه، واسترق الرفيق رفيقه، فإنما يبيع أولاً شرفه وكرامته، ويخلع عن نفسه أدميته، فإذا وجد في القرن العشرين دول تقوم على هذه الخطة وتثري من هذه التجارة، فهو انحطاط جديد في الإنسانية قد أصيب به الأقوياء الذين يرضون أن ينزلوا بنفوسهم إلى أحد درجة الإنسانية

وأصبحوا هم أنفسهم عبيدًا لأطماعهم وشهواتهم، ولا يغير من هذه الخطة وتلك الذلة التي يمارسونها أن كانوا في يوم من الأيام أقوياء، وأن تمكنوا بسبب هذه القوة من احتراف ذلك النوع الجديد من "النخاسة" والاتجار بالأحرار، وإذا كان الرق قد ألغى إلى غير رجعة، وعلت إرادة الإنسان أن تخضع لسيد مهما يكن فإن أشد البلاء أن تصيب النكسة قومًا كانوا أول من دعا لإلغائه، ولابد لهم أن يفسروا لنا قيام هذه الأسواق الاستعمارية التي يمارسونها، وأن يقروا معنا أن العبودية وقد انتفت عن الأمم جميعها متى أرادت ذلك وصممت عليه، فإن وصمتها يمكن أن تلقي على عصابة النخاسين الذين يمارسون حرفة قد أبطلتها الإنسانية ومبادئها السامية.

أيها الأحرار لم يعد بينكم وبين الحرية إلا عزيمتكم وإرادتكم، وما العزيمة إلا البذل والتضحية والاستشهاد، لن يضيركم تلك الصكوك الزائفة الباطلة التي يعدها سماسرة "الأمم المتحدة" متى أعلنتم إرادتكم وقوتكم، وستحول دماؤكم هذه الصكوك إلى قصاصات حقيرة وتضعون حدًا لهذه المهزلة التي تمثل على مسرح "ليك سكس" والتي يراد بها بيع وطنكم فلسطين، بيع الرقيق، فإن العالم لم يعد يقر بعد اليوم أن يباع وطن الأحرار في سوق العبيد.

  • توفيق محمد الشاوي - مدرس بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول

هذا هو ما كتبته وأن طالب في باريس عام 1947م وأرسلته لمجلة الرسالة فنشرته... وهأنذا أعيد نشره كما وجدته في أعداد مجلة الرسالة في أرشيف دار الكتب... إنني أعتز به وبكل كلمة وردت فيه... وأعتقد أن كل ما فيه ما زال يعبر عن شعوري الآن!!، وأنه كان تبشيرًا مبكرًا بالانتفاضة التي ما زال العالم معجبًا بها...

"قسنطينة" "وسطيف" وطلائع المجد الطريف

عندما انتهت الحرب العالمية الثانية في مايو 1945م كانت "الجامعة العربية" قد أنشئت في مارس من ذلك العام، ولقد ارتفعت درجة حماسنا للعمل لقضية فلسطين عندما نجحت الجامعة العربية في الدفاع عن استقلال سوريا ولبنان، لكنا فوجئنا بأنباء مقتضبة عن حوادث سطيف وقسنطينة في الجزائر، ولم تلفت نظرنا كثيرًا في أول الأمر

ولكن اهتمامنا بها بدأ عندما وصل إلى مصر "الشاذلي مكي" الذي قدم نفسه لنا على أنه مندوب من حزب الشعب الجزائري، وكان معه ملف كامل عن تعليقات الصحف الفرنسية على تلك المأساة تبين مدى ما لقيه الجزائريون من قسوة وظلم على يد الجيش والشرطة والإدارة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، أدى إلى مصرع عشرات الألوف من الجزائريين واعتقال مئات الألوف من "المجاهدين" في يوم واحد هو 8/5/1945م.

كان الشاذلي مكي مثل الفضيل الورتلاني في قدرته على الخطابة ونشاطه الذي لا يهدأ من أجل التعريف بقضية بلاده، حتى أصبحت قضية الجزائر في فترة قصيرة لا تقل أهمية في نظرنا عن قضايا فلسطين وسورية ولبنان بفضل ما كان يبذله هذان الداعيان من جهد وما توفر لديهما من فصاحة أشاعت فينا شعلة الحماس لقضية الجزائر، ولكي تتصور مدى ما وصل إليه هذا الحماس فإني أقدم للقارئ صورة مقال كتبته وأنا شاب في العشرين من عمري ونشرته لي مجلة الرسالة

وهي كبرى المجالات الأدبية والثقافية في مصر (في ذلك الوقت) أدعو فيه المصريين والعرب لمساعدة ضحايا الجهاد في الجزائر الذين وصفتهم بأنهم "طلائع الجهاد الطريف"، وعندما أعيد قراءته الآن بعد أن مضى على كتابتي له ما يقرب من خمسين عامًا أتصور مدى درجة الحماس الذي أشاعه لدينا هذان الفارسان من فرسان الخطابة والكلام وهذا هو نص المقال الذي نشر بالعدد رقم 630 من مجلة الرسالة بتاريخ 30/7/1945م، قبل سفري في البعثة إلى فرنسا بمدة طويلة.

طلائع المجد الطريف في "أفريقيا الشمالية" ماذا فعلنا من أجلهم

للأستاذ توفيق محمد الشاوي

دعك من حديث ماضينا المجيد الخالد، فإن التاريخ الأمين لن ينسى هذه القرون الطويلة التي حملنا فيها لواء الحضارة، ورفعنا راية الإنسانية السامية، وانتقل معي إلى حديث طريف لا نذكره للتاريخ فحسب ولكن ليسمع كل عربي يؤمن بقوميته وعروبته، وكل مسلم ثابت على عقيدته ورسالته، فينفض عن نفسه غبار الذلة، ويلحق بركب المجاهدين في سبيل دينهم وقوميتهم قبل أن يسجل التاريخ علينا التفريط والعجز.

هذه صورة مجيدة من صور الجهاد العربي في شمال أفريقيا ثغر العروبة وحصنها الغربي، على سفوح جبال الجزائر الشماء، حركة دائبة، تجمع فيها أسود العروبة وأبطال الكفاح يرقبون مطلع نجم جديد يسمونه نجم أفريقيا الشمالية اتخذوه شارة لوحدتهم، وعلامة لاستقلالهم، وقد علموا أنه لا يشرق إلا مخضبًا بالدماء، ولا يسبح إلا في مجرة من نور التضحية والاستشهاد.

من حولهم مدن الجزائر المحبوبة لا يكدر صفوها إلا عبث هؤلاء المستعمرين مستكلبين على شهواتهم، مغرورين بسلطانهم، يحتلفون بما يسمونه يوم "النصر"، النصر الذي لم يستحقوه بجهادهم ولم ينالوه بتضحياتهم، ثم أبوا إلا أن يحتفلوا به أسبوعًا كاملاً أرادت فرنسا أن تبيح لشعبها فيه ما شاءت من طعام وشراب

فبعثت وكلاءها وأذنابها يغتصبون طعام العرب في شمال أفريقيا مستعملين في ذلك أساليبهم الاستعمارية الرجعية، كما أنهم عادوا إلى سياستهم العتيقة لمحو القومية العربية ومحاربة عناصرها من دين ولغة وآداب وتقاليد ووحدة، حتى نفد صبر العرب المجاهدين، وهاهم أولاء يبدءون كفاحهم في يوم "النصر" حاملين سلاحهم العزيز، كما حمله أسلافهم من قبل أمثال عبد القادر وابن عبد الكريم وهذا سيلهم ينساب على مراكز المستعمرين ومراتع لهوهم وعبثهم، فألقوا عليهم درسًا جديدًا في بطولة العرب وإبائهم وشجاعتهم وثباتهم، وذكروهم بأن حرية العربي أغلى من أن تختلس في غفلة، وأن دمه العزيز لا يهدر إلا في ميادين القتال فداء الوطن والدين.

ولا يزال صدى هذه المعارك يرهب الفرنسيين ويقض مضاجعهم، وقد جعلهم يفكرون مرتين قبل أن يقدموا على ما أرادوه من استئناف سياسة الاستعمار الوحشية البالية، وزاد غيظهم أنهم لم ينالوا من المجاهدين نيلاً يروي حقدهم فسلطوا فلولهم على المدن الآمنة والسكان المسالمين فضربوهم بمدافعهم وطائراتهم وقتلوا آلاف المدنيين الذين لا ذنب لهم

وانجلت الثورة عن هالة حمراء من دماء العروبة الزكية أطل منها النجم المرتقب، نجم المجد العربي الطريف، نجم وحدة أفريقيا الشمالية واستقلالها يرقب من بعيد هلال الوحدة العربية في الشرق لعله يستجيب فتجمعهما جامعة العروبة وروح الإسلام في سماء العزة والسيادة العربية في الشرق لعله يستجيب فتجمعهما جامعة العروبة وروح الإسلام في سماء العزة والسيادة. ونحن في المشرق، ماذا فعلنا من أجل هذا النجم العزيز وهذا الأمل المشترك؟ هل مددنا أيدينا إلى هؤلاء العرب المجاهدين في المغرب لنربط جهادنا بجهادهم، ونشد أزرهم في كفاحهم؟

ستجيب "الجامعة العربية" عن ذلك، ولكني أسائل المصريين الكرماء الذين ساعدوا منكوبي الإنسانية من كل جنس ولون: من الحبشة إلى اليونان إلى اليوغسلاف والهولنديين والبلجيكيين بل والروسيين في ستالينجراد، ألم يعلموا أن هذه الثورة العظيمة في الجزائر قد أسفرت عن منكوبين لا يقلون عن خمسة آلاف وأسرهم بين قتيل وجريح وسجين باعتراف الحكومة الفرنسية نفسها

وإن كانوا لا يقلون عن ثلاثين ألفًا في تقدير المصادر المحايدة؟ فأين ذهبت النجدة والكرم، وأين حكومتنا التي تدفع الملايين من الجنيهات لتعمير بلاد أوروبا "المحررة" أليس من الأولى أن نفكر في تحرير أوطان العروبة المستعمرة أو إنقاذ إخواننا المنكوبين في تلك البلاد الشقيقة؟

  • توفيق محمد الشاوي - مدرس بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول

ما كاد هذا المقال ينشر، وأنا في أوج حماسي للعمل لقضية الجزائر، حتى فوجئت بمأزق لم يكن في حسباني، ذلك أن عميد كلية الحقوق (وكان الدكتور محمد مصطفى القللي) أخبرني أن هناك بعثة إلى أمريكا لدراسة الاقتصاد السياسي، وقلت له إنني أفضل ذلك لأن أمريكا في نظر سيكون لها الدور الأول في العالم بعد الحرب العالمية الثانية سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية

كما قلت له إنني كذلك أفضل التضحية بخبرتي ومجهودي الذي بذلته في إعداد رسالتي في القانون الجنائي ودراسة الدبولومات في جامعة القاهرة لكي أبدأ دراسة الاقتصاد السياسي في أمريكا؛ لأن الاقتصاد سيكون هو محور جميع التطورات العالمية فيما بعد الحرب، وعدت إلى منزلي مطمئنًا، وأنا أعلم أن هذا الاختيار معناه أن أبتعد عن تشاطي الذي بدأته في مصر من أجل قضية فلسطين والجزائر ولكني قلت في نفسي إن العمل في أمريكا لهذه القضايا سيكون مجاله أوسع وثمرته أكبر على المدى الطويل.

بدأت أستعد للسفر في البعثة، وأعد نفسي لذلك، وفجأة التقى بي الفضيل الجزائري وأخذ بيدي وسرت معه إلى مكتب المرحوم الشيخ حسن البنا المرشد العام ووجدت معه بعض أعضاء الهيئة العربية العليا لفلسطين التي يرأسها مفتي فلسطين الأكبر المرحوم الحاج أمين الحسيني

وقال لي المرشد العام الشهيد حسن البنا:

إن المفتي كما تعرف لجأ إلى فرنسا وهو الآن في باريس تحت الإقامة الجبرية، وقد عرفت من بعض الإخوان أن هناك بعثات من كلية الحقوق للدراسة في باريس؛ ولذلك أقترح أن تجتهد في تغيير بعثتك من الولايات المتحدة إلى فرنسا لكي تكون قريبًا من الحاج أمين؛ لأن علاقاتنا به تحتاج لذلك.

شرحت للمرحوم الشهيد حسن البنا وجهة نظري في اختيار البعثة إلى أمريكا لدراسة الاقتصاد، لكن الإخوة الحاضرين جميعًا ألحوا علي في أن أضحي بمصلحتي وأهدافي الشخصية من أجل فلسطين... وهذا ما فعلته. لقد غيرت مسيرة حياتي كلها من أجل العمل الذي كلفت به لقضية فلسطين، ونظرت إلى الشيخ الفضيل نظرة فهم منها أنني عرفت دوره في كل ذلك.

طوال مراحل حياتي كنت دائمًا أسأل نفسي: هل ما قمت به في فرنسا من أجل قضية فلسطين والجزائر كان يتطلب هذه التضحية التي فرضتها على نفسي باستجابتي لطلب المرحوم الشيخ حسن البنا ومن معه من الفلسطينيين والجزائريين؟ ولم أكف عن هذا التساؤل إلا بعد أن التقيت بالرجل العصامي المرحوم عبدالحميد شومان مؤس البنك العربي وعرفت منه أن العمل للاقتصاد يمكن أن يقوم به كل إنسان دون حاجة لشهادات من جامعات أمريكية فانطلقت بكامل قواي للمساهمة في إنشاء البنوك الإسلامية وبناء ما يسمى الآن "بالاقتصاد الإسلامي".

الفضيل المورتلاني "الجزائري"

كان الشيخ الفضيل المورتلاني أول المناضلين الجزائريين الذين وصلوا إلى مصر للدعوة لقضية بلادهم قبل الحرب العالمية الثانية، وكان أول من تعاون مع الإخوان المسلمين من رجال الكفاح الوطني في شمال أفريقيا، وأول من انضم إلى جماعة الإخوان حتى أصبح واحدًا منهم، لذلك لم يكن يقصر جهوده على قضايا أفريقيا الشمالية

بل كان يساهم في كفاحنا من أجل جميع القضايا الإسلامية، وفي مقدمتها قضية فلسطين، ولما فتح الإخوان باب التطوع للجهاد في فلسطين سارع بالكتابة إلى أصدقائه في الجزائر وغيرها من أقطار الشمال الأفريقي، وخصوصًا من كان منهم يقيم في فرنسا، يحثهم على التطوع والمساهمة في الجهاد بأنفسهم أو بتشجيع غيرهم على الحضور إلى مصر للذهاب إلى فلسطين ضمن أفواج المتطوعين الذين ترعاهم الجامعة العربية.

كان الشيخ الفضيل عضوًا بارزًا في جمعية العلماء المسلمين بالجزائر وأوفدته الجمعية إلى فرنسا للاتصال بالجزائريين وأبناء الشمال الأفريقي المقيمين بها ونشر الدعوة الإسلامية بينهم، ثم أوفدته إلى مصر لإقامة علاقات وثيقة بالحركات الإسلامية فيها، وفي مقدمتها الإخوان المسلمين، وأصبح واحدًا منهم

ووجد في هذه الحركة مجالاً واسعًا للعمل سواء لقضية بلاده أو غيرها من قضايا العالم الإسلامي، وأصبح عضوًا هامًا في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، وكان هو المختص في هذا القسم بقضية الجزائر وشمال أفريقيا الخاضعة للاحتلال الفرنسي، وكان كثير النشاط مهتمًا بالدعاية لقضية الجزائر بالذات وقضية بلاد المغرب كلها بصفة عامة، وكان لا يترك أي فرصة دون أن يتكلم في قضية الجزائر ويدعو الناس للاهتمام بها

وكان له الفضل في أنه لفت نظرنا جميعًا إلى هذه القضية وقد زادت حماسته في هذا الميدان في نهاية الحرب العالمية الثانية عندما أنشئت الجامعة العربية واهتمت بمشكلة سوريا ولبنان التي كانت باكورة نشاط الجامعة العربية بعد إنشائها، وكان العرب وشعوبهم ودولهم وجامعتهم مطالبين باستقلال سوريا ولبنان، ولذلك كان الرأي العام في الإخوان وفي مصر بصفة عام مشحونًا ضد فرنسا التي تقاوم الحركة الوطنية في سوريا ولبنان

وكان الشيخ الفضيل الورتلاني يربط قضية بلاده قضية سوريا ولبنان باعتبار أن الاستعمار الفرنسي هو العدو المشترك للحركات الوطنية في كل هذه البلاد وكان بارعًا في انتهاز كل فرصة ليذكرنا بقضية بلاده، وعندما تكون الاجتماعات خاصة بفلسطين أو ليبيا كان يربط بينها وبين قضية الجزائر باعتبار أن الاستعمار الفرنسي في الجزائر، كالاستعمار الإيطالي في ليبيا، كما استعمارًا استيطانيًا مثل الاستعمار الصهيوني في فلسطين.

وقد توثقت علاقتي بالشيخ الفضيل في بادئ الأمر بسبب تعاوننا في العمل لقضية فلسطين، وحينما اتجه الإخوان إلى الدعوة للجهاد المسلح ضد الصهيونية والاستعمار الإنجليزي بها، وفتح باب التطوع والتدريب على السلاح لمن يريد المساهمة في الكفاح فقد كان أكثر الناس اندفاعًا نحو العمل المسلح والعمل الفدائي كعادة الجزائريين جميعًا بل بدأ يكتب الخطابات ويبعث الرسل إلى أبناء شمال أفريقيا في كل مكان يدعوهم إلى التطوع والتسلح والمشاركة في الجهاد في فلسطين، وكان يعتبر ذلك في نظره استعدادًا للجهاد في الجزائر، وغيرها من بلدان أفريقيا الشمالية في الوقت المناسب الذي كان يراه قريبًا.

بدأن نهتم بقضايا الجزائر وشمال أفريقيا بناء على إلحاحه وإصراره، وكان هو أول من تول هذه القضايا في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي. أذكر أنه بعد إحدى المظاهرات التي اشتركنا فيها لتأييد قضية فلسطين جذبني الشيخ الفضيل من يدي وقال لي إن شابًا جاء من الجزائر مندوبًا عن الحزب الوطني الصيفي وعلينا أن نذهب إليه في دار الشبان المسلمين

وذهبت أنا والأستاذ عبدالحفيظ الصيفي معه، وعندما وصلت إلى هناك وجدنا أنه يدعى "الشاذلي مكي" وقدم لنا ملفًا كاملاً عن حوادث (قسنطينة) (وسطيف) التي راح ضحيتها آلاف من الجزائريين يوم الثامن من مايو 1945م لأن الجيش الفرنسي أطلق النار على المتظاهرين لمجرد أنهم رفعوا راية الأمير عبد القادر الجزائري في موكبهم بمناسبة الاحتفال بانتهاء الحرب

ولم يكتف الفرنسيون برصاص البنادق بل استعملوا المدفعية والطائرات ونيران الأسطول فضلاً عن المعتقلات والسجون التي أصبحت تضم آلافًا من أبناء الجزائر، كأن الفرنسيون أرادوا الانتقام من الجزائريون بسبب موقف الدول العربية المؤيدة لاستقلال سوريا ولبنان، وأن يذكروهم بأنهم ما زالوا أقوياء ومصممين على البطش بهم. تأثرت كثيرًا لهذه الأبناء، وقلت لمن معي إننا لم نستطع أن نحقق شيئًا لفلسطين والآن تفتح لنا جبهة جديدة في الجزائر، قال لي "الفضيل" إن الجزائريين هم الذين سيحررون فلسطين.

حدث بعد ذلك أنه طلب مني أنا والأستاذ عبدالحفيظ الصيفي أن نذهب إلى الفندق الذي نزل به (الحبيب بورقيبة) عندما وصل إلى مصر هاربًا من تونس، وكان اسمه لوكاندة مصر بالعتبة الخضراء، وهناك عرفنا أنه رئيس حزب الدستور التونسي الجديد وذهب بعد ذلك معًا إلى اللواء (صالح حرب باشا) رئيس جمعية الشبان المسلمين في ذلك الوقت نطلب منه أن يأمر باستضافة (الحبيب بورقيبة) بدار الشبان المسلمين

حيث بقي هو والشالي مكي فترة حتى وجد مسكنًا آخر وذهب معنًا أيضًا إلى (عبدالرحمن عزام) لنحدثه بشأن مساعدة الأمانة العامة لممثلي الحركات الوطنية في الجزائر وتونس والمغرب وشملت عناية الجامعة العربية (الزعيم علال الفاسي) رئيس حزب الاستقلال المغربي عندما وصل إلى مصر كذلك الإفراج عنه من المعتقل الذي قضيى فيه تسع سنوات في "الجابون" بغرب أفريقيا.

في كل الحفلات العامة والاجتماعات الخاصة بدار الإخوان المسلمين أو الشبان المسلمين أو غيرها لم يكن الفضيل الورتلاني يترك فرصة دون أن يخطب ويحاضر ويدافع عن قضية الجزائر وخصوصًا بعد انشاء الجامعة العربية واهتمامها بقضية سوريا ولبنان ولذلك كان الإخوان يسمونه الفضيل الجزائري؛ لأن كلمة "الورتلاني" كانت غريبة عليهم.

إن اهتمام المصريين بقضية سوريا ولبنان جعل الجو في مصر مهيأ تهيئة كبرى للدعوة التي بدأها الفضيل الجزائري لتعريف المصريين ولفت نظرهم إلى القضايا الوطنية لشمال أفريقيا خصوصًا بلاده الجزائر فضلاً عن تونس والمغرب وليبيا، وكان أمامه فرصة كبيرة لإثارة حماس الإخوان للدعاية لهذه القضايا والدفاع عنها والدعوة للتضامن معها باعتبارها مكملة لقضايا سوريا ولبنان وفلسطين وقضايا مصر وجميع القضايا الإسلامية

ولم يكن يجد صعوبة في ذلك؛ لأن الإخوان كانوا يتحمسون لجميع القضايا الوطنية في البلاد العربية والإسلامية كما أنه لم يقصر في مشاركتنا في العمل لقضية فلسطين والقضايا الإسلامية الأخرى وبعد الحرب مباشرة كان له معنا دور كبير في الدعاية لقضية أندونيسيا التي بدأت أيضًا عقب انتهاء الحرب وكان الطلبة الأزهريون الأندونيسيون في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي يقومون بجهد منظم ومنسق للدعاية لقضية استقلال أندونيسيا، واشتركنا جميعًا في الدعاية لها رغم أنها أقصى أقاليم آسيا وأبعدها عن مصر وعن شمال أفريقيا وفلسطين.

لما سمع الفضيل أنني رشحت للبعثة في الخارج، وعلم أن آخرين رشحوا للسفر إلى فرنسا ألح علي في السفر إلى باريس وحرض علي آخرين لتأييده في هذه الخطة، ونجح في إقناع المرشد العام الشهيد حسن البنا بأن يلزمني بذلك من أجل قضايا فلسطين والجزائر وشمال أفريقيا، وعندما ذهبت إلى فرنسا في البعثة لم يتركني الفضيل الورتلاني بل كان يواصل الكتابة إلى فترة طويلة يذكرني في خطاباته لي بوعدي لهم في مواصلة العمل لقضية الجزائر وقضايا شمال أفريقيا عامة وبالسفر إلى الجزائر

وكان يقول لي إن باريس هي عاصمة النضال الأفريقي وأن علي أن أبدأ العمل فورًا مع من أجدهم هناك من أجل حرية خمسة وعشرين مليونًا من المسلمين تحكمهم فرنسا بالحديد والنار في أفريقيا الشمالية وتستعبدهم وتحرمهم من حقوقهم ولكنهم الرصيد الأكبر للحركة الإسلامية وللتيار الإسلامي، وللجهاد في سبيل عزة الإسلام ومستقبله. ليس من الممكن لي أن أنسى الفضيل الورتلاني ولا يمكن لأحد من مناضلي الحركات الوطنية في الجزائر وتونس والمغرب أن يتجاهل دوره في إيقاظ عاطفة التضامن لدى جماهير المشرق العربي ومصر بالذات مع قضايا شعوب أقطار أفريقيا الشمالية.

وعندما عدت إلى مصر في عطلة صيف عام 1947م كان الفضيل الورتلاني الجزائري من أول من التقيت بهم وقدمت له تقريرًا عما يجري في باريس، ولكن الموضوع الذي شغلنا أكثر كان هو العمل لفلسطين حيث كانت قضيتها معروضة على هيئة الأمم التي أصدرت قرارها بتقسيم فلسطين أثناء وجودي في القاهرة، وكان الفلسطينيون والإخوان ينظمون المقاومة المسلحة والسياسية للاحتلال الإنجليزي والصهيون في فلسطين

وقد التقينا بالمفتي الأكبر (الحاج أمين الحسيني) في منزله بالقاهرة عدة مرات وكان حديثه كله عن المقاومة المسلحة وأنه لا سبيل أمامنا غيرها وقد استجاب الإخوان لذلك ودربوا أعدادًا كبيرة من المتطوعين وجمعوا لهم الأسلحة في حدود استطاعتهم، بل كانوا يزودون المقاومة الفلسطينية بالسلاح والذخيرة وأرسلوا وفودًا متتالية منهم وكتائب من المتطوعين للقتال في القدس وفلسطين بشكل عام

وكان كل وفد وكل كتيبة يرافقها عدد من العلماء والكتاب الذين كانوا يشاركون في عمليات المقاومة وقد عرفني الشيخ الفضيل بعالم تونسي كبير هو الشيخ (محيي الدين القليبي) الذي جاء مهاجرًا من تونس ومعه عدد من شباب تونس بقصد التطوع للدفاع عن فلسطين وقد حدثني الشيخ القليبي حديثًا طويلاً عن "الحركة الوطنية" في تونس، عرفني أنه كان من أعضاء حزب الدستور القديم الذي أسسه علماء الزيتونة

وعلى رأسهم الشيخ "الثعالبي" رحمه الله، وأن بورقيبه كان من شباب ذلك الحزب لكنه انشق عليه، وتمرد على قيادة العلماء، وأنشأ حزب سماه "الدستور الجديد" الذي يرأسه بنفسه، وجعل هدفه مهاجمة الحزب القديم، وأنه شخصيًّا لم يعد يهتم بهذه الحزبيات القطرية الوطنية، ويرى أن الوقت قد حان لوجود حركة إسلامية شاملة للعالم الإسلامي كله، وأنه اقتنع بأن الإخوان المسلمين هم الذين يمثلون هذا الاتجاه؛

ولذلك فإنه بايع الشيخ "حسن البنا" ، وأنه عمل وما زال يعمل لبعث الاتجاه الإسلامي في تونس بالطريقة التي يتبعها الإخوان، وهي تربية الشباب، وتكوينهم على الأصول الإسلامية لكي يحملوا مسئولية الدعوة هناك، وأنه يعتبر الجهاد في فلسطين هو أول مراحل هذه التربية وجاء إلى مصر لهذا الغرض، ودعا من يستطيع من الشباب لكي يلحقوا به، وقد سألته عن (حزب بورقيبه)

فقال إنه لا يعطي له اهتمامًا كبيرًا؛ لأنه يسير في طريق المفاوضات والمظاهرات والزعامات المتطلعة للسلطة وأن لا تحفظات كثيرة على رئيسه الحبيب بورقيبه الذي كان قد لجأ إلى مصر قبله منذ عام (1945م)، ودخلنا في حوار حول فائدة اتصالاتي مع هذا الحزب وغيره من "الأحزاب الوطنية" في شمال أفريقيا وكان يرى أن ذلك لا فائدة منه لأنهم جماعة انتهازيون أداروا ظهرهم للأصول الإسلامية والتيار الفكري الأصيل

وأن بورقيبه وأمثاله ليس لديهم مانع من التخلي عن هوية شعبهم وأصالته الإسلامية وعروبته إذا كان ذلك يمكنهم من الوصول إلى المناصب والسلطة في بلادهم، وأدهشني أن الشيخ الفضيل قد انحاز إلى هذا الرأي لأنه كان يمثل جميعه العلماء، ولم يكن معروفًا عنها الدعوة للكفاح المسلح – والآن وجدته يعلن أن الطريق الوحيد للعزة والحرية هو طريق العمل الجذري والمقاومة المسلحة لاقتلاع النفوذ الأجنبي

وبأن طريق المفاوضات والحوار مع الاستعمار سيؤدي إلى وجود عملاء من نوع جديد يرفعون شعارات وطنية يكونون أشد بأسًا على شعوبهم من العملاء "التقليديين"؛ لأنهم يتبرءون من الأصول الإسلامية بل ومن العقيدة الإسلامية إذا وجدوا في ذلك مصلحة لأشخاصهم أو أحزابهم.

"عبد الرحمن عزام" من الجامعة العربية إلى التضامن الإسلامي

أنشئت الجامعة العربية في مارس 1945م في الوقت الذي كانت دول الحلفاء تمهد لإنشاء منظمة الأمم المتحدة. ومن حسن حظ قضايا أقطار شمال أفريقيا أن كان (عبدالرحمن عزام) أول أمين عام للجامعة العربية، وكان له دور كبير في توجيه اهتمام الدول العربية لها لأنه له تاريخ في كفاح ليبيا ضد الغزو الإيطالي قبل الحرب العالمية الأولى وأثناءها عندما تطوع للقتال مع المجاهدين الليبيين لمقاومة الجيوش الإيطالية الغازية، وبقي معهم فترة طويلة مكنته من التعرف على كثير من زعماء الجهاد والاقتناع بما يتوفر لجماهير الشعب الليبي من شجاعة وبسالة وقدرة على الصمود والتضحية والفداء.

ولا زالت أذكرت أن مظاهرة توجهت إلى مقر الأمانة العامة للجامعة العربية تهتف لفلسطين وتطالب بالتطوع للجهاد في ميادينها، وكان هتاف المتظاهرين نريد سلاحًا، فخرج (عبد الرحمن عزام) وخطب فينا مشجعًا بقوله: ستجدون السلاح وسوف تتولى ذلك الأمانة العامة للجامعة وعليكم الباقي، وفعلاً كان المتطوعون للجهاد في فلسطين يجدون في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية وفي عبد الرحمن عزام أكبر مشجع وأكبر مورد للمال والسلاح.

التقيت به أول مرة في مكتب أحد أصدقائه وهو الأستاذ أسعد داخر، وهو صحافي ماروني لبناني كان يعمل بجريدة الأهرام وكنت قد ترددت عليه مرارًا لأنه كان قد أنشأ مع عدد من أصدقائه السوريين واللبنانيين جمعية باسم "الوحدة العربية" وكان هدفها الدعاية لقضية لبنان وسوريا قبل استقلالهما وكنت على اتصال بتلك الجمعية وغيرها من الهيئات العربية والإسلامية في مصر للتعاون معها في الدعاية لقضايا فلسطين وسوريا ولبنان، ثم قضايا شمال أفريقيا بعد ذلك.

عندما كنت جالسًا مع أسعد داغر في مكتبه بالأهرام في أحد الأيام دخل عبد الرحمن عزام، وكان ذلك في أوائل عام 1945م قبل إنشاء الجامعة العربية، فقدمني له فرحب بي كثيرًا، وكلما توثقت علاقتي به أدركت عمق اقتناعه بالوحدة العربية، بل الوحدة الإسلامية (قبل إنشاء الجامعة العربية وبعدها)، وطال الحديث بيننا في ذلك اليوم

ثم استمرت علاقتي به بعد ذلك وخاصة أثناء رئاسته للأمانة العامة للجامعة العربية، وكذلك بعد خروجه من الجامعة العربية عام 1953م، وبعد خروجه من مصر واستقراره في بيروت، إذ التقيت به مرارًا في الرياض وبيروت، وقد كنت ممن تألموا لخروجه من الجامعة العربية، ولكنني اقتنعت فيما بعد بأن ذلك قد مكنه من المشاركة في الدعوة للوحدة الإسلامية لدى صديقه "الملك فيصل بن عبد العزيز" الذي أعلن دعوته للتضامن الإسلامي في عام 1965م

ورأي منظمة المؤتمر الإسلامي تؤسس قبل وفاته، ولما سمعت نبأ وفاة غزام كتبت مقالاً في رثائه نشرته الأهرام المصرية، بينت فيه مدى إيمانه بالعلاقة الوثيقة بين الوحدة العربية والإسلامية باعتبارهما أساسًا للجهاد "الوطني" في أفريقيا الشمالية، ولقد كان فكره في نظري أحد الينابيع "الإسلامية" للكفاح في شمال أفريقيا وقد نشر هذا المقال في الأهرام تحت هذا العنوان.

عبد الرحمن عزام والوحدة العربية والإسلامية

لا يمكن أن يذكر عبد الرحمن عزام دون أن تذكر الجامعة العربية، كما أن جلينا الذي شهد مولد الجامعة العربية ونشأتها أن يذكرها دون أ، يمر بخاطره ظل تلك القامة المديدة، والهامة العالية، والسواعد الطويلة التي ترسم أمامه صورة عبد الرحمن عزام باعتباره صاحب فكرة إنشاء تلك المنظمة الدولية وأول أمين عام لها.

وقد شهد جيلنا بعد عشرين عامًا فقد من إنشاء الجامعة العربية مولد فكرة التضامن الإسلامي التي تمثلها الآن منظمة المؤتمر الإسلامي، هناك صورة عملاقة أخرى هي صورة الملك فيصل بن عبد العزيز ترتسم في الذهن كلما ذكر التضامن الإسلامي، وإذا كان كلاهما قد رحل عنا الآن بعد أن قام بدوره التاريخي فقد تركا للجيل الجديد من أبناء هذه الأمة مهمة كبيرة هي بناء وحدة الأمة الإسلامية على أساس التكامل بين هاتين المنظمتين وفي نظري أن كتابات عبد الرحمن عزام ومؤلفاته قد وضعت الأسس الفكرية لهذا التكامل ويكفي أن نذكر هنا كتاب "الرسالة الخالدة" وكتاب "محمد بطل الأبطال".

إن الارتباط والتكامل بين الجامعة العربية والإسلام لا يظهر فقط في كتابات عبد الرحمن عزام بل إنه عنصر بارز خلال تاريخ حياته كلها منذ شبابه حتى وفاته. لقد كان طالبًا بكلية الطب بجامعة لندن عندما دعا الخليفة للجهاد في حرب البلقان قبيل الحرب العالمية الأولى، فلبى الطالب الشاب نداء الجهاد وسارع إلى ميدان القتال تحت الراية الإسلامية في البلقان وعندما ثار شعب ليبيا ضد الاستعمار الإيطالي الذي يهامجمها، وضد الاستعمار الإنجليزي الذي يساعده من قواعده في مصر وكانت الدولة العثمانية الإسلامية تمد ثوار ليبيا وغيرهم بالسلاح والمال والرجال، سارع عبد الرحمن عزام بالانضمام إليهم وحمل السلاح معهم ضد الإنجليز والطليان.

لقد عرفت علاقة عبد الرحمن عزام بالجامعة العربية قبل إنشائها عام 1945م، قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية من حديث دار في مكتب الأستاذ أسعد داغر بدار الأهرام وكان في مجلسه عدد من أصدقائه السوريين والفلسطينيين، وكان حديثنا عن مصير فلسطين بعد انتهاء الحرب بانتصار الإنجليز وماذا سيفعله العرب بعد هزيمة ألمانيا، فقال المرحوم إسحاق درويش أحد قادة الهيئة العربية العليا لفلسطين إن عبد الرحمن عزام يدعو لفكرة جريئة سيكون لها دور كبير في قضية فلسطين، فكرة إنشاء اتحاد عربي يضم جميع الشعوب العربية ومن بينها شعب فلسطين ودولة فلسطين وأنه قدم مذكرة بذلك لعدد من ساسة الدول العربية وخاصة المصريين

وكان واضحًا من حديثه أنه إذا وافقت مصر على المشروع فإنه سينجح، وفعلاً تحمست الحكومة المصرية الوفدية برئاسة الزعيم مصطفى النحاس باشا في ذلك الوقت للفكرة، وأنشئ الاتحاد باسم الجامعة العربية، ولقد علمت منذ ذلك الوقت (قبل أن تنشأ هذه الجامعة) أن صاحب فكرتها هو عبد الرحمن عزام وأنه لهذا السبب قد اختارته الدول العربية فيما بعد أول أمين عام لها.

لكن عمل عزام بالجامعة لم يكن عملاً بيروقراطيا ودبلوماسيًّا فقط كما كان يريد بعض الحكام من العرب، لأنه بقي وفيًّا للمبادئ التي دفعته للتطوع في ميادين الجهاد في البلقان وفي برقة وطرابلس

وأهمها مبدآن:

الأول: أنه لم يفرق بين العمل للعروبة والعمل للإسلام.
الثاني: أنه لم يفرق بين العمل السياسي والجهاد في ميادين القتال.

لاشك أن بعض ساسة العرب وحكامهم الذين عاصروا عبد الرحمن عزام عندما كان أمينًا عامًا للجامعة العربية كانوا بعيدين عن هاتين الفكرتين، كانوا يكررون قولهم إن الجامعة العربية لا علاقة لها بالإسلام وكانوا يقولون إن الجامعة ليست لها شخصية دولية، وليس لها سياسة خاصة بها؛ لأنها ليست دولة فوق الدول وإنما هي جهاز بيروقراطي لتنفيذ سياسة الدول الأعضاء، فلا يمكن أن يكون لها نشاط إلا عن طريق حكومات الدول الأعضاء، وكثير منهم لم يكن يخفي معارضته لمواقف عبد الرحمن عزام وتصريحاته، ومواقفه الجريئة الصريحة، وخاصة بالنسبة لشمال أفريقيا.

ومن المؤكد أن عبد الرحمن عزام لم يقتنع بحجج هؤلاء الساسة والحكام، وأنه استمر أثناء عمله بالجامعة العربية يعتبر نفسه مجاهدًا كما كان قبلها، وكان في جهاده (كما قلنا) لا يفرق بين العروبة والإسلام ولا بين ميدان القتال وميدان السياسة.

ففي بداية عمله بالجامعة بدأت أندونيسيا كفاحها ضد الهولنديين، فسارع إلى مساعدة الحركة الوطنية في أندونيسيا، وبدأ سياسة التقارب مع الهند، التي أدت إلى تكوين كتلة دولية جديدة في الأمم المتحدة تحمل اسم المجموعة العربية الأسيوية، كان هدفها الأول هو الدفاع عن أندونيسيا حتى نالت استقلالها، ولم يسمع لاحتجاجات بعض زعماء العرب الذين قالوا إن أندونيسيا ليست دولة عربية فلا شأن للجامعة العربية بقضيتها، إنه رد عليهم بأنه في حاجة إلى مساعدة جميع الحركات الوطنية

وإلى التعاون مع المجموعة الأسيوية لقضية فلسطين، وأنهم فعلاً تعاونوا معنا في قضية سوريا ولبنان ضد الحكم الحكم الفرنسي التي انتهت باعتراف لقضية فلسطين، وأنهم فعلاً تعاونوا معنا في قضية سوريا ولبنا ضد الحكم الفرنسي التي انتهت باعتراف فرنسا باستقلال الجمهوريتين العربيتين، ولا يمكن أن نتخلى عن التعاون معهم، ومع جميع المدافعين عن الحرية والاستقلال لجميع الشعوب، وقد سار في دفاعه عن أندونيسيا حتى استقلت كما استقلت سوريا ولبنان.

ولم تشغله قضية فلسطين، ولا قضية سوريا ولبنان ولا أندونيسيا عن حبه الأول لأرض ليبيا وشعب ليبيا المكافح، فقد جعل همه الأول عندما أنشئت الجامعة تمويل الحركة الوطنية في ليبيا ومساعدتها ماليا وسياسيًّا، والدفاع عن مطالبتها باستقلال ليبيا ووحدتها حتى استقلت ليبيا كما استقلت سوريا ولبنان وأندونيسيا، ودافع عن الحركات الوطنية في إفريقيا الشمالية

حتى استقلت المغرب وتونس والجزائر فيما بعد، وظهر للحكام والساسة العرب الذين كانوا ينتقدونه ويهاجمونه أنه وإن كان فعلاً قد خرج عن حدود العمل السياسي البيروقراطي الذي رسموه للجامعة وللأمانة العامة، إلا إنه كان فعلاً قد خرج عن حدود العمل السياسي البيروقراطي الذي رسموه للجامعة والأمانة العامة إلا إنه كان أبعد منهم نظرًا وأصدق نبوءة وأن أهدافه وإن كانت سابقة لزمانه إلا إنها في اتجاه سير التاريخ الذي أثبت صحتها. لم يكن خصوم عبد الرحمن عزام من العرب فقط، بل إن أكبر خصومه وأخطرهم كانوا من غير العرب وخاصة الإنجليز والفرنسيين.

لقد كنت معه في باريس عندما زارها لأول مرة عام 1946م وحضرت مؤتمره الصحفي الذي تكلم فيه عن القضايا العربية وسياسة الجامعة العربية إزاءها، ولم يقصر كلامه على قضية فلسطين ولا قضية ليبيا كما كان الفرنسيون يتوقعون، وإنما تكلم عن قضايا تونس والمغرب والجزائر مما أثار عليه الفرنسيين الرسميين وغير الرسميين ولقد تابعت تعليقات الصحف الفرنسية على زيارة عزام وتصريحاته، وكانت خلاصتها أن هذا رجل مخرف جاء لباريس ليتكلم عن شعوب خاضعة للسيادة الفرنسية والاتحاد الفرنسي، وأن على الحكومة الفرنسية أن تلزم هذا الرجل حدوده أو تطرده من بلادها.

بعد خمس سنوات فقط من هذه الزيارة الأولى ذهبت معه إلى باريس في زيارته الثانية في خريف عام 1951م ليدافع عن قضية المغرب أمام الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة وعادت الصحف الفرنسية إلى الهجوم عليه، وحاصرته الحكومة الفرنسية هو ووفد الجامعة العربية (الذي اشتركت فيه) حصارًا شديدًا حتى لا يتصل بأحد من زعماء الحركة الوطنية في أقطار شمال أفريقيا

ولكنه لم يأبه لهذا الحصار، ولهذه الحملات الصحافية، وحضرت حوارًا بينه وبين أحد "العقلاء" من الفرنسيين الذي كان ينصحه بأن تقنع الجامعة العربية بقضية فلسطين ولا تشغل نفسها بقضايا شمال أفريقيا إلا عندما تنتهي من قضية فلسطين، ولكن عزام قال له وأنا أنصح فرنسا بأن تنصف شعوب شمال أفريقيا وتكسب ودهم وصداقتهم لأنهم لا يمكن أن يرضوا بالتبعية الفرنسية وإذا لم تنصفوهم فسوف يلجئون للسلاح، وإذا حملوا السلاح فلن يضعوه حتى ينالوا حقوقهم، إنني أعرفهم أكثر منكم وتجربتي معهم تؤكد لي ذلك، وقد أثبتت الأيام أنه كان صادقًا.

بعد بضع سنوات من هذا الحوار حملت شعوب أفريقيا الشمالية في تونس والمغرب والجزائر سلاحها، وكافحت حتى نالت جميعًا استقلالها، واليوم علم الفرنسيون أن عبد الرحمن عزام كان أبعد نظرًا وأصدق نبوءة من جميع زعماء فرنسا وحكامها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى جاء ديجول وأنهى حرب الجزائر.

ولم يقصر عبد الرحمن عزام نصائحه على الفرنسيين، وإنما سمعت بنفسي نصائحه لزعماء شمال أفريقيا الذين التقى بهم في باريس وفي القاهرة، إن بعضهم ما زال حيًّا ويعلم أن عبد الرحمن عزام كان يقول لهم إن الجامعة العربية لن تحصل لكم على الاستقلال بل عليكم أن تأخذوه بجهادكم وتضحياتكم، وكل ما تفعله الجامعة أو الدول العربية هو أن تساعدكم في جهادكم

وكان أول المساعدين فعلاً، وكان زعماء أفريقيا يعلمون ذلك ويقدرونه، وكانوا يعلمون أن بعض حكام الدول العربية وزعمائها ووزرائها كانوا يفضلون أن يحتفظوا بصداقة فرنسا ولو أدى ذلك إلى التنكر للحركة الوطنية في شمال أفريقيا، وأن هؤلاء كان يهاجمون سياسة عزام ويسعون لإبعاده من الجامعة العربية ونجحوا في ذلك بعد الانقلاب العسكري في مصر عام 1952م، أكثر من ذلك فإن عبد الرحمن عزام قبل إنشاء الجامعة

وقبل الحرب العالمية الثانية دعا مصر إلى إنشاء قوات مسلحة شعبية، وأقنع بذلك علي ماهر عندما كان رئيسًا للوزراء وأنشئت هذه القوات تحت اسم "الجيش المرابط" والمصريون الذين عاصروا إنشاء هذا الجيش يعرفون كيف فزع الإنجليز من هذا الاتجاه الخطر عليهم، كيف سعوا لإلغائه حتى نجحوا في ذلك بإقالة علي ماهر وإخراج عبدالرحمن عزام من الوزارة واضطهاده شخصيًّا في أقصى فترة مرت به في حياته. إن الجيش المرابط في فكر عزام كان في نظره إحياء لفكرة الجهاد الشعبي الإسلامي التطوعي ويقينًا بأن المصريين والعرب لن ينالوا حقوقهم إلا بالجهاد الشعبي ضد الجيوش الاستعمارية.

لذلك سارع بعد ذلك وهو أمين الجامعة العربية بأن سخرها لمساعدة الفدائيين في فلسطين 1947-1948م وطلب من الحكومات العربية أن تسمح لضباط جيوشها بالتطوع لقيادة كتائب الجهاد الشعبية التي تمولها الجامعة العربية، وفعلاً صدر قرار الجامعة بذلك وتطوع كثير من الضباط لقيادة كتائب المقاومة الشعبية، التي كان يقودها الشهيد القائد البطل أحمد عبد العزيز.

بل إن المتطوعين الذين بدءوا العمل الفدائي ضد الإنجليز في منطقة القناة عام 1950م، يعلمون أن عبد الرحمن عزام لم يقصر في تدعيم هذه الحركة الفدائية وتمويلها والدعاية لها حتى اعترفت بها الحكومة المصرية، ودعمتها وشاركت فيها بقوات الشرطة كما هو معروف. وإذا كان عبد الرحمن عزام قد أبعد عن الجامعة العربية فإنه استمر في عزلته يدعو لفكرتين أساسيتين يعتبرهما أهم خصائص الفكر الإسلامي هما؛ فكرة الجهاد والفداء وفكرة الوحدة بين المسلمين جميعًا سواء كانوا عربًا أو غير عرب، ومن كان يريد معرفة مدى عمق الفكرة الإسلامية لدى عبد الرحمن عزام

فعليه أن يقرأ كتاب "الرسالة الخالدة" إن رسالة العرب الخالدة في نظره هي الرسالة الإسلامية كما آمن بها وكما وصورها ورسم خطواتها ودافع عنها في هذا الكتاب، وأول أسس هذه الرسالة أنها لا تقر الاعتزاز بعنصر أو جنس من الأجناس، وأن قيمة الإنسان في عمله، وفي ساحة العمل والجهاد ينعم الجميع بأخوة التضحية ووحدة المصير والتسابق للشهادة.

لقد طلب عزام الشهادة ولم يخش الموت في المعارك وساحات القتال، لكن الموت قد جاءه فحمله إلى دار البقاء ليلقى زملاءه في الجهاد في البلقان أو في أرض برقة وطرابلس، فهنيئًا له ولهم لقد بقي وفيًّا لهم طوال حياته يذكرهم بكل خير وندعو الله أن يجمعه بهم في صفوف الشهداء جزاء على ما قدمه من جهاد وما تحلى به من ثبات ووفاء واستعداد للبذل والتضحية في كل مكان يرتفع فيه راية الجهاد في سبيل الله – عز وجل.

صحيح أن جريدة الأهرام لم تنشر نص مقالي كاملاً كما أرسلته لها؛ ولذلك حرصت على إيراده هنا بنصه الذي كتبته ليعرف القارئ أنني تعاملت مع عبد الرحمن عزام وتعاونت معه طوال حياته موقنًا أنه نموذج فذ لدعاة التيار الإسلامي الذي يعتبرون الوحدة العربية مرحلة في طريق الوحدة الإسلامية الكبرى وأنه قام فعلاً بدور أساسي في تمويل حركة الوحدة العربية إلى حركة للوحدة الإسلامية باسم التضامن الإسلامي...

أمة المستقبل

في السنة الأولى من إقامتي في فرنسا كان لدي قدر كبير من الطموح والأمل في مستقبل شعوبنا وأمتنا، وكانت لقاءاتي مع "الحاج أمين الحسيني"، واتصالاتي بالمسئولين عن الحركات الوطنية وجماهيرنا في فرنسا، تغذي هذا الأمل والطموح، وكنت أواصل مراسلاتي مع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية عن طريق الأستاذ "أسعد داغر" الذي كان مديرًا للإدارة الصحافية بالجامعة العربية، حتى خيل لي أنني أصبحت في موقع يمكنني من توجيه سياسة العرب إزاء فلسطين والصهيونية وشمال أفريقيا أيضًا، وبذلك صرت بعيدًا جدًا عن الواقع...

وأذكر أنني دعيت لألقي محاضرة عن الجامعة العربية على طلاب شمال أفريقيا في ناديهم المعروف (115 شارع سان ميشيل)، وأسرفت في تفاؤلي بمستقبل الجامعة، ودورها في تحرير الشعوب العربية، فتصدى لي عدد من ذوي الاتجاه اليساري وأعلنوا وجهة نظرهم المستمدة من كتابات الصحف الفرنسية عمومًا وصحف اليسار بصفة خاصة، التي كانت تصور الجامعة العربية على أنها لا تمثل شعوبنا، وإنما تمثل عددًا من الحكومات التي تخضع لتوجيهات أمنية بريطانية بطريق مباشر أو غير مباشر.

لقد تصديت لهذه الاتهامات ودافعت عن الجامعة العربية التي أعرف منها عبد الرحمن عزام فقط، ولا علم لي بأحوال الحكومات المشتركة فيها ولا علاقاتها مع البريطانيين أو غيرهم من القوى الأجنبية. لقد كانت علاقة "عبد الرحمن عزام" وثيقة "بالإخوان المسلمين" وبالشهيد الأستاذ "حسن البنا" بصفة خاصة، بسبب ما قام به الإخوان من دعم الجهاد الفلسطيني ومشاركتهم للمجاهدين من أبناء فلسطين في الكفاح المسلح، فضلاً عن دورهم في إبقاء جذوة الحماس في جماهير الشعب المصري لهذه القضية منذ ثورة فلسطين في عام 1936م، وتطوع الإخوان لجمع التبرعات لدعم الكفاح الفلسطيني

ولا زلت أذكر مقالاً كتبه الأستاذ "مصطفى صادق الرافعي" في مجلة الرسالة بعنوان "الأيدي المتوضئة" يشيد فيه بإخلاص شباب الإخوان وإيمانهم بقضية فلسطين، وقد قرأته قبل انضمامي للإخوان وأنا تلميذ بالمدرسة الثانوية، وكان من أهم العوامل التي دفعتني إلى قبول دعوة صديقي وزميلي المرحوم الأستاذ "عبدالحفيظ الصيفي" للانضمام لصفوف طلاب الجماعة عندما كنت طالبًا بالجامعة، كما أنني قرأت كتاب عزام باشا بعنوان "الرسالة الخالدة" وكتابه "محمد بطل الأبطال".

وفي يقيني أن علاقة عبد الرحمن عزام بالإخوان المسلمين وإخلاصه لقضية فلسطين وقضايا شمال أفريقيا كان من أهم الأسباب التي أدت إلى عزله من الأمانة العامة في عام 1953م عقب حركة الجيش مباشرة بدون مبرر معروف حتى الآن... في ربيع "1946م" جاءتني رسالة من الأستاذ "أسعد داغر" بأن الأمين العام للجامعة مسافر إلى لندن وينوي أن يزور باريس، وفعلاً بعد أيام اتصل بي زميلي وصديقي الأستاذ "حسن أبو السعود" وأبلغني بأن أخاه الدكتور "محمود أبو السعود" اتصل بي من لندن وأبلغه بموعد وصول عبد الرحمن عزام إلى باريس، وأنه سيكون في ضيافة السفارة المصرية، وفعلاً وصل عزام ونزل بفندق "باريس" بشارع الأوبرا، ولقيناه ورحبنا به.

قبل مقدمه إلى باريس جاءني أحد الإخوان المغاربة وهو "مولاي عبدالله بن إبراهيم" الذي كان ممثلاً لحزب الاستقلال ويرأس اللجنة الممثلة لحزب الاستقلال – وقد أصبح رئيسًا لوزراء المغرب بعد استقلاله – جاءني في يوم من الأيام ومعه عدد من مجلة فرنسية هي "مجلة السياسة الخارجية" وهي مجلة عالمية متخصصة بالأبحاث المتعلقة بالشئون الخارجية وبها مقال عنوانه "العرب أمة المستقبل" مترجم باللغة الفرنسية

وقد أشار الكاتب إلى أنه هذا المقال هو ترجمة لمقالة نشرها عبد الرحمن عزام في عام 1920م في إحدى المجلات الفلسطينية في القدس، والترجمة الفرنسية لهذه المقالة أعجبت كثيرًا إخواننا المغاربة الذين كانوا يقرءون الفرنسية ويتابعون صحافتها وأهم ما لفت نظرنا هو تعليق المترجم على هذا المقال؛

لأنه قال إنني رأيت أن أترجم هذا المقال للفرنسيين الآن رغم أنه كتب منذ خمسة وعشرين عامًا ليعرفوا ما هي جامعة الدول العربية وما هي أهدافها وما هي حقيقتها، وليرسموا خططهمم على ضوء هذه المعرفة الجدية؛ لأن مسألة الوحدة العربية ليست مسألة مرتجلة ولا عارضة، وإنما هي مسألة شغلت العرب منذ الحرب العالمية الأولى وأنها ليست إلا اسمًا آخر للوحدةالإسلامية ليكون العرب محورها بدلاً من الدولة العثمانية والدليل على ذلك هو هذا المقال...

والحقيقة أن المقال كان بارعًا في أنه عرض أن العرب أمة لها تاريخ، وأمة أصيلة ولها رسالة، وهي رسالة للإسلام؛ ولذلك فإن هذه الأمة سيكون لها دور كبير في مستقبل العالم؛ ولكي تؤدي هذا الدور يجب أن تتحد وأن تتقوى، وأن تكون نواة لكتلة عالمية يكون لها دور في النظام العالمي (في ذلك الوقت) الذي بدأ بإنشاء عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى...

ولما جاء عبد الله بن إبراهيم بهذه المقالة، قال لي إنه يريد أن يترجمها وبالمصادفة بعد أيام قليلة علمنا بحضور عبد الرحمن عزام إلى باريس واتفقت معه على أن أطلب منه الإذن له بأن يقوم بترجمة هذا المقال ونشره باللغة العربية، ولما وصل عبد الرحمن عزام إلى باريس والتقيت به قدمت له نسخة من هذه المجلة وعرضت عليه الفكرة

وقلت له إن إخواننا المغاربة معجبون جدًا بالمقال المنشور بالمجلة ويريدون ترجمته إلى العربية، فضحك من أعماق قلبه وقال: هذه أشياء كتبتها وأنا شاب منذ خمسة وعشرين عامًا، ولكن الفكرة ما زلت لدي وأعتقد أنني ساهمت في تنفيذها بدعوتي لإنشاء الجامعة العربي، والحمد لله قد تم إنشاء هذه الجامعة

قلت له: ولكن أنت تعرف أنه كان هناك دعوة للجامعة الإسلامية قبل الحرب العالمية الأولى وأثناء هذه الحرب، وأن العثمانيين و(السلطان عبدالحميد) بالذات كانوا ينشرون هذه الفكرة ويدعون لها باعتبارها وسيلة لاستعادة الوحدة الإسلامية، فلماذا أنتم تركتم الجامعة الإسلامية وأنشأتم الجامعة العربية فقال لي نحن ندعو للوحدة العربية؛ لأن هذا هو الممكن حاليًا، ونحن نعرف مدى خوف الدول الكبرى من كلمة الوحدة الإسلامية وكلمة الأمة الإسلامية؛

ولذلك ربما يكون الكلام عن الأمة العربية والوحدة العربية يجب أن يسبق المشروع الآخر الأكبر، بل والأضخم لإنشاء الجامعة الإسلامية، والحقيقة أن الأوروبيين لا يفرقون بين العرب وبين المسلمين وكلمة عربي ومسلم في نظرهم مترادفتان، وخصوصًا في فرنسا هنا، لو راجعت الذي كتب عن شمال أفريقيا والإدارة الفرنسية في شمال أفريقيا لوجدتهم يسيرون على أساس أن الكلمتين مترادفتان وعلى كل حال أنا أشرت إلى أن الأمة العربية أمامها دوركبير في مستقبل العالم لأنها أمة ذات رسالة

والرسالة التي قصدتها لكي تعرفها يجب أن تقرأ كتابي الذي نشرته بعنوان "الرسالة الخالدة" وتكلمت فيه عن الإسلام وأنه هو الرسالة الخالدة للعرب؛ لأن العرب هم الملزمون وهم المسئولون عن رفع راية هذه الرسالة ودعوة الناس إليها وتبليغها والعمل من أجلها، أنا في اعتقادي أن الوحدة العربية هي الخطوة الضرورية للوحدة الإسلامية واقتصارنا عليها الآن هو ضروري للتدرج في العمل لذلك، قل لإخوانك المغاربة لا يتعبوا أنفسهم في ترجمة المقال وعليهم أن يبحثوا عن النص الأصلي في المجلة العربية التي نشرته في سنة (1920م)

وكانت تصدر في القدس بفلسطين وكان صاحبها هو الأستاذ (عجاج نويهض) ومن محاسن الصدف أن أحد كبار الكتاب وهو الأستاذ أكرم زعيتر قد أشار لهذا المقال وأعاد نشره في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 26/5/1990م، وأرسلت لها تعليقًا نشرته بتاريخ 1/6/1990م بدلاً أن ننشر المقال كاملاً وتعليقنا عليه فيما بعد.

لقد كان كلامي مع عبد الرحمن عزام في نفس الموضوع الذي كان يدور فيه الحوار بيني وبين الحاج أمين الحسيني (الذي غادر فرنسا قبل وصول عزام) وكان مكملاً له وزاد في تعمقي في هذه الفكرة أنني كنت أواصل قراءة كتب السنهوري عن الخلافة طول هذه الفترة. كانت مشاعري تتولى الربط بين هذه الآراء والأحداث، وبين الإيمان بمبدأ الوحدة الإسلامية وجهاد شعوبنا في سبيل تحررها واستقلالها، ودور الإخوان في المقاومة المسلحة ضد الصهيونية والاستعمار الفرنسي وفي القناة.

عندما حضر إلي إبراهيم معيزة عقب وصول عزام وطلب مني أن أرتب موعدًا للالتقاء بين الأمين العام للجامعة العربية و"مصالي حاج" زعيم حزب الشعب الجزائري اعتبرت أن ذلك أمر سهل وعادي، ولم أكن أدري أن ذلك سيكون قنبلة الموسم في الصحافة والإعلام الفرنسي، الذي ما زال يعتبر الكلام عن استقلال الجزائر خيانة لفرنسا وإهانة لما تضاف الإهانات التي لحقتها باستقلال سوريا ولبنان.

وقد عرضت الأمر على عبد الرحمن عزام فوجدته منشرحًا له ووافق على تحديد الموعد، وفهمت فيما بعد أن عزام قصد من ذلك إثارة انتباه الرأي العام لزيارته؛ لأن المسئولين في فرنسا والصحافة والإعلام كانوا مصممين على تجاهلها، وهو لا يطيق مطلقًا أن يبقى بعيد عن الأضواء، وفعلاً ترتب هذا اللقاء مع "مصالي الحاج" وترتب عليه أن قفزت زيارة عزام إلى الصفحاتا لأولى، وتوالت طلبات الصحافيين للالتقاء مع عزام وزاد في هذه الضجة الإعلامية أنه حدد موعدًا لعقد مؤتمر صحفي في السفارة المصرية استعدادًا لمغادرة فرنسا ساخطًا على ما اعتبره تجاهلاً له من المسئولين الفرنسيين.

لقد حضرت هذا المؤتمر الصحفي كما حضره عدد كبير من أبناء أفريقيا الشمالية فضلاً عن الصحافيين الفرنسيين والعرب، ونجح عزام في إلقاء قنبلته الثانية التي هيجت الرأي العام الفرنسي، وذكرت المسئولين عن سياسة فرنسا أن الجامعة العربية قوة لا يمكن تجاهلها لأن في يدها ورقة رابحة يمكن بها أن تقضي على سلطة فرنسا ونفوذها في أفريقيا الشمالية، ولا يقلل من هذا الأثر الكلمات الحادة التي استعملتها الصحافة الفرنسية للتشهير بالجامعة العربية وعزام وتهديداتها للوطنيين الجزائريين والمغاربة الذين ينخدعون بدعايات العرب ووعودهم ويظنون أن الجامعة قادرة على تحقيق أحلامهم بالاستقلال.

كانت القنبلة التي أعدها وألقاها في المؤتمر الصحفي: أنه لما سئل عن موقف الجامعة العربية من شمال أفريقيا "الفرنسي" وقضاياه قال: إنني شخصيًّا أعرف شعوب أفريقيا الشمالية (يشير إلى تاريخه في الكفاح الليبي ضد الغزو الإيطالي) وهي شعوب عربية مسلمة والجامعة العربية لا تستطيع أن تتجاهلها أو تتخلى عنها ولما سئل إن كان هذا ينطبق أيضًا على الجزائر مع أنها في نظر فرنسا أرض فرنسية وجزء لا يتجزأ من إقليمها

قال نحن نتكلم عن الشعب الجزائري وهو شعب عربي مسلم ولا تستطيع فرنسا أن تنكر عليه ذلك مهما تكن علاقتها بأرضه أو إقليمه، والجامعة العربية ملزمة بمقتضى ميثاقها بأن تقوم بواجبها نحوه ونحو غيره من الشعوب العربية، وكانت هذه العبارات مثيرة للصحف الفرنسية واعتبرتها إحدى الصحف "نكتة الموسم" ومع ذلك فلم تمض عشرون عامًا حتى حصلت الجزائر على استقلالها واعترفت فرنسا، وما زالت تخطب ودها منذ حصلت على استقلالها حتى اليوم...

فارس القضية العربية العرب أمة المستقبل رائعة عزامية

بقلم أكرم زعيتر "نشرت جريدة الشرق الأوسط هذا المقال"

منذ نحو ستين سنة أنشأ في القدس الكاتب الإسلامي "عجاج نويهض" (مترجم كتاب حاضر العالم الإسلامي) مجلة العرب، وقد أرادها لسانًا للحركة الاستقلالية في فلسطين وللحركة العربية في الوطن العربي وللدعوة الإسلامية للوحدة في البلاد الإسلامية كافة، وقد أخذ كتاب كبار من بلاد الرافدين ومن الديار الشامية يرفدونها بمقالاتهم.

وكان في مصر كاتب عربي يتوقد ذكاء ويتأجج إيمانًا بعربيته، جلعني أدعوه فارس القضية العربية اسمه "عبد الرحمن عزام"، فحرصت مجلة العرب على أن تكون له فيها جولة فبادر إلى رفدها بمقال عنوانه (العرب أمة المستقبل) تجاوز حد الروعة وأرسل الأمير شكيب أرسلان إلى مجلة العرب المقدسية مقالاً يحيي فيه عزامًا ويبالغ في الثناء على مقاله، ويقترح طبع مئة ألف نسخة منه وتوزيعها على الأقطار العربية.

وتقضت أربعون سنة، وألمت بعبد الرحمن عزام وعكة ألزمته سكنى بيروت وألا يبرح بيته رعاية لصحته، وكنت سفيرًا للأردن في بيروت فحرصت وصديقي المرحوم الرئيس تقي الدين الصلح على أن نعوده كل أسبوع، وكان لقاء عزام ومحادثته من المتع التي نحرص عليها، وظل في أثناء ذلك على ما نعهده وقدة ذهن ونضج رأي، إلى أن صعقه نعي صديقه الحميم وأبر الناس به، وأحبهم إليه، الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود فضاقت الدنيا به...

وحدث في أثناء ذلك أن عثرت في مجموعة قبساتي على مقال عزام (العرب أمة المستقبل) وعلى رسالة الأمير شكيب في الثناء عليه واقتراحه طبع مئة ألف نسخة منه، وتوزيعها على الناشئة العربية، فبادرت إلى زيارة عزام مصطحبًا المقال العزامي الذي كتبه قبل أربعين سنة والرسالة الأرسلانية في الثناء عليه، وقرأ عزام مقاله ولما اطلع على البيان الأرسلاني تأرجح الدمع في عينيه وأجزل الترحم عليه والحديث عن فضله، وأراني اليوم أجنح إلى اتحاف قراءة "الشرق الأوسط" بمقال عزام، ففيه الغناء كل الغناء عن مقال أكتبه اليوم بقلمي.

عنوان المقال: "العرب أمة المستقبل" قالها عزام قبل ستين عامًا وهذا هو:

يتلقى الساسة في المغرب، وبعض أشباه الساسة في المشرق، الدعوة إلى الوحدة العربية بقليل أو كثير من السخرية والاستهتار على قدر جهلهم بالحقيقة وانخداعهم بالمظاهر وقد كان أمثال هؤلاء الساسة في القرن الماضي يسخرون من الوحدة الطليانية والوحدة الجرمانية بمثل ما يسخرون منها اليوم... ففي إيطاليا كان وجه الشبه مفقودًا بين "الصقلي" أسمر الأديم، أسود العينين نحيف الجسم، حاد المزاج، وبين "البيوفتي" ناصع البيان، أزرق العينين، ضخم الهيكل شمالي المزاج.

كان وجه الشبه بين أقصى الجنوب وأقصى الشمال مفقودًا، وكان تباين اللهجة على نسبة البعد وكان الزعماء والقواد والكهنة والأمراء قد جعلوا من إيطاليا جسمًا محطمًا متناكرًا يستعصي على السابك والناصح فلا يجمعه صهر ولا يولفه لين، كانت إيطاليا على هذا الحال قبل تمام وحدتها بعشر أو عشرين سنة، فكان ساسة أوربا يسخرون من "مازيني" وأضرابه ممن دعوا إلى الوحدة الطليانية عن إيمان وإلهام ونفاذ بصيرة.

كذلك كان الشأن في ألمانيا، تلك البلادا لتي كانت مسرحًا لحرب دينية أهلية، دامت أجيالاً وخلفت في جنوبها قلعة الكثلكة وفي شمال عاصمة المنشقين على الكنيسة الخوارج على السلطة الممثلة في مقام البابوية، كانت ألمانيا بين الكثلكة والبرتستانتية – وما بين هاتين من شيع – فريسة الفرقة الدينية ثم الفرقة السياسية فكان في كل ناحية تاج وعرش، وفي كل تاج معضلة، وكان في كل إقليم بيت ومشكلة، والأمة الألمانية بين التيجان والبيوت تحيا حياة الفتنة فلا ينتظم لها عقد.

كانت ألمانيا على هذا التخاذل، وكان الداعون للوحدة الألمانية في نظر الساسة الأوروبيين قومًا حالمين خياليين، فلما تهيأت بروسيا لزعامة التيجان المتحدة، جاءت حرب 1870م وظهر أن الحالمين الخياليين أبعد نظرًا وأهدى سبيلاً.

منذئذ لم تستطيع أكبر قوى العالم أن ترد ألمانيا للفرقة، وقد ذاقت الجاه والغنى والأمن فتألب عليها العالم، تألبت 28 دولة في الحرب العامة، فلم تستطع أن تحيي ما قضت عليه الوحدة من السخائم المحلية أو السخافات الطائفية، لم تستطع بريطانيا ووراءها خمس الدنيا ولا الولايات المتحدة ووراءها قارة، ولا فرنسا ولها من القوة والملك ما لها، ولا روسيا التي تعبئ في زحف واحد 12 مليونًا من الجنود، ولا العنصر الأصفر ممثلاً ربع البشر، لم يستطع هؤلاء جميعًا أن يمزقوا ألمانيا بعد أربعين سنة من اتحاد شعوبها، وقد كان الاتحاد قبل وقوعه حلمًا وخيالاً عند الساسة الأوروبيين.

هذان مثلان في التاريخ الحديث يجب أن يعيهما العرب، ويجب على دعاة الوحدة العربية أن يضعوهما نصب أعينهم وأن يتخذوا منهما القدوة والعبرة، وليس العرب في العالم أقل شأنًا من الجرمان ولا من الطليان ولا من جهة العدد ولا المميزات الأخرى.

فقد اختص العرب بنصف دائرة البحر المتوسط ويطلون على المحيط الهندي من ناحية والأطلسي من الناحية الأخرى، والعنصر العربي في أقاليم معظمها معتدل وأرض غنية بالنبات والحيوان والمعادن، فيها ثلاثة أنهار من أعظم أنهار الدنيا ومنابع للغاز من أغناها ومناجم للمعادن على اختلاف أنواعها، وهو عنصر أهل لاستثمار ثروات أرضه وكفؤ لإخراج حضارة مادية بجانب الحضارة المعنوية التي امتاز بها من قبل، والعنصر العربي فوق ثراء أرضه وكثرة عدده، له على العموم عدة العزيمة والنشاط والجلد والمغامرة.

ووحداته المكونة له، سواء في آسيا أم في أفريقيا لا تزال فتية لم تمسها الشيخوخة فجميع شعوبه في عنفوان الصبا، غير منهوكة بترف ولا مصابة في أبدانها أو عقولها بشيء من أمراض الأمم القديمة، فإن العنصر العربي مع أنه من العناصر القديمة التي أمدت العالم بحضارات عظيمة، قد انتفع بانتشاره وتجوله فهيأ له ذلك الامتزاج شعوب سوداء، وأخرى تغلب عليها ودمجها في ذاته ثم هضمها

واستوى إلى أصله فأمدته بفتوة وحيويةلا يتمتع بها شعب من الشعوب القديمة، ولا شك أن الوحدة العربية تحت الظروف الحديثة ستبرز العنصر العربي متهيأ بقوى جديدة ومميزات مضافة إلى تلك التي كانت له في ظهوره الأول على الرومان والفرس وأمم المشرق والمغرب منذ ثلاثة عشر قرنًا وسيجد دعاة الوحدة كلما ساروا بدعوتهم إلى الأمام وكلما تغلبوا على الأقطار العربية المرتابة أو المترددة أن أمرهم ظاهر وأنهم على بينة منه، سيجدون أنهم يستندون في دعوتهم على حقائق ثابتة وأنهم يحسبون حسابهم على قواعد رياضية لن تخطئ، سيجدون أولاً سيادة اللغة العربية كاملة في العرب والأمم المستعربة، كسيادة اللغة الألمانية أو الإيطالية أو الإنجليزية وسيجدون اللهجات متقاربة مهما اختلفت إلا في استعمال المترادفات الغريبة

وأن الجميع تربطهم لغة القرآن بلغة الكتابة والأدب ثم سيجدون عرفًا شاملاً وأدبًا متحدًا ومزاجًا منسجمًا واحدًا يرجع إلى دين العرب، أو أدب العرب، أو عادات العرب، فانتشار العنصر العربي من هذه الناحية لم يباعد بين أجزائه، ولم تتلون هذه الأجزاء بصبغات الأمم التي حلت محلها بل صبغت الجميع بصبغتها، وبقي الطابع العربي على اللسان والسيماء والمزاج وإنك لتسير في البلاد العربية من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي

فلا تستطيع أن تقول:

هنا يبتدئ قوم ومن هنا يختلف الناس، نعم لو أنك قابلت بين أطراف العنصر العربي على حدود فارس وحدود فاس لوجدت رجلين على تباين،ولكن ما بين هذين الرجلين من التباين يتلاشى شرقًا وغربًا، وإنما العبرة بالمزاج الوسط الذي هو الأمة العربية، وهذا الفارق بين الأطراف موجود في إيطاليا، وهو كذلك في روسيا من الشرق إلى الغرب، من الشمال إلى الجنوب من البريتون إلى أهل البرينيه، وظاهر كذلك في انتشار العنصر البريطاني. فالوحدة العربية حقيقة واقعة وحقيقة تاريخية ودعاتها أبعد الناس عن الخيال وأمسهم بالعلم.

وتمزيق الأمة العربية إلى شعوب ليس دليلاً على انحلالها ولا على فقدان حيويتها وإنما هو أثر من آثار الجهل ومظهر من مظاهر الغلبة الإفرنجية في الشرق، ولكن لا يحول بين ظهور الأمة العربية بالمكانة التي يستحقها ظهور عنصر ممتاز بالذكاء والشجاعة والنشاط والجلد والصبر، وممتاز فوق ذلك بالذوق السليم والنصفة.

ذلك فضلاً عن ثراء أرضه واعتدال إقليمه، فلا يحول بين هذه الأمة وبين رسالتها في العالم الجهل وقوة المستعمرين، فعلى أبناء العربية أن يقاوموا الجهل ويستبسلوا في مقاومة المستعمرين، وهم إن فعلوا لا يخدمون أمتهم فحسب، بل ينقذ العالم بإنقاذ العرب، ذلك العالم الذي شاخت حضارته، وتكاد تفلس مدنيته، ذلك العالم التي بسطت المادية عليه جناحها منذ أن غربت الحضارة العربية، ثم ها هي ذي حرب الطبقات تقرب قيامته وليس في العالم عنصر يدين بالمساواة كالعنصر العربي، فإذا سادت معه المساواة التامة وهبطت الحياة المادية لتصعد الحياة النفسية، وإذا وهب العرب المساواة والحياة للعالم فقد أنقذوه مما هو فيه وخلقوه خلقًا جديدًا.

فحاجة العرب إلى الوحدة لاشك فيها، وحاجة العالم إلى العرب لا ريب فيها، وإذا وجدت الحاجة فترقب ظاهرة... ترقب أمة المستقبل... أمة العرب.

  • هذا ما كتبه الأستاذ أكرم زعيتر في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 26/5/1990م
أحلام الأمس... حقائق اليوم
تعقيب الدكتور توفيق الشاوي على ما كتبه الأستاذ أكرم زعيتر حول العرب "أمة المستقبل"
  • موجه للأستاذ أكرم زعيتر وجريدة الشرق الأوسط

لقد سعدت بالاطلاع على ما نشرته في جريدة "الشرق الأوسط" العدد 4197 بتاريخ 26/5/1990م بعنوان "العرب أمة المستقبل" تعليقًا على مقال كتبه المرحوم الأستاذ عبد الرحمن عزام الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، نشرته مجلة "العرب" التي أصدرها في القدس في فلسطين منذ ستين عامًا الأستاذ عجاج نويهض.

وإني أشكرك على عنايتك بنشر النص الكامل لهذا المقال؛ لأني كنت أبحث عنه منذ مدة طويلة وقد أشرت إليه في كتاب أعده عن العلاقة بين جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وأشرت إلى حوار دار بيني وبين عزام باشا حول هذا المقال، وذلك في لقاء معه عند أول زيارة له لباريس في عام 1946م.

وتكلمة لتعليقك على هذا المقال أذكر لك أن أحد المستشرقين قد ترجم هذا المقال إلى الفرنسية ونشر في مجلة من أهم المجلات العلمية في فرنسا، وهي مجلة "السياسة الخارجية" في عددها الصادر في فبراير (شباط) 1946م عقب إنشاء جامعة الدول العربية ليبين لهم أهداف هذه الجامعة وأخطارها على نفوذ فرنسا في أقطار شمال أفريقيا.

لذلك فإن كثيرًا من إخواننا العرب المقيمين في باريس في ذلك الوقت من أبناء المغرب العربي، قد أعجبوا كثيرًا بهذا المقال وطلبوا مني أن أبحث لهم عن النص العربي الأصلي كما كتبه المرحوم عزام، وتصادف أن جاء المرحوم عبد الرحمن عزام إلى فرنسا في أول زيارة له لباريس عام 1946م بعد إنشاء الجامعة العربية بصفة خاصة

وضد العرب جميعًا بصفة عامة، وذلك بسبب حصول سوريا ولبنان على استقلالهما بعد شكوى قدمتها الدول العربية إلى الأمم المتحدة، وحظيت بتأييد عالمي لم تستطع فرنسا في ذلك الوقت أن تواجهه واضطرت إلى الاعتراف باستقلال هذين القطرين العربيين وكان ذلك أول إنجاز حققته الجامعة العربية بعد إنشائها.

ولقد كان نشر النص الفرنسي لهذا المقال في ذلك الوقت جزءًا من الحملة الإعلامية الموجهة ضد العرب، وضد الجامعة العربية في فرنسا. وكان من أهم آثارها أن عبد الرحمن عزام لم يلق من الحكومة الفرنسية والإعلام الفرنسي الترحيب الذي كان يستحقه في ذلك الوقت، ولقد كنت أول من التقى بالمرحوم عبد الرحمن عند وصوله إلى باريس بناء على طلب صديقنا المرحوم أسعد داغر، الذي كانت لي به علاقة شخصية

وكان مدير دائرة الأعلام في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في ذلك الوقت وقد عرضت على المرحوم الأستاذ عبد الرحمن عزام النص الفرنسي المنشور بمجلة السياسة الخارجية الفرنسية، فأطلق ضحكة من أعماق قلبه وقال هذا ما كتبته في العشرينات، وما زال هذا هو رأيي حتى الآن وأنني مصر عليه، رغم أن بعض الفرنسيين الذين التقى بهم قد سألوه إذا كان حقًّا ما زال يعتبر شعوب شمال أفريقيا جزءًا من الأمة العربية التي يعمل لتوحيدها وأنه أجابهم بأن رأيه لم يتغير في هذا الموضوع.

وفهم بعد ذلك أن إصراره على رأيه كان حائلاً دون فتح أي حوار بينه وبين المسئولين في فرنسا لأن أحدًا في فرنسا كلها لم يكن يتصور أن تخرج من تونس والمغرب والجزائر كما خرجت من سوريا ولبنان ولا أن تنضم هذه الشعوب إلى الجامعة العربية كدول مستقلة وإننا نحمد الله على أن عبد الرحمن عزام قد شهد تحقيق توقعه باستقلال أقطار المغرب العربي جميعًا عن فرنسا وإيطاليا وانضمام ليبيا والمغرب وتونس والجزائر إلى الجامعة العربية وهو على قيد الحياة.

وندعو الله لك ولنا أن نشاهد توقعه الثاني وهو تحقيق وحدة الأمة العربية أمة المستقبل كما وصفها عبد الرحمن عزام؛ لأن حاجة العرب لهذه الوحدة لا شك فيها وحاجة العالم إلى العرب لا ريب فيها.

مفتي فلسطين "الحاج أمين الحسيني"

أهم ما كلفني به الشهيد "حسن البنا" عندما ودعته قبل مغادرة القاهرة إلى باريس هو زيارة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، الذي كان لاجئًا في باريس بعد هروبه من ألمانيا، وقد حملت له رسالة من المرشد وهدايا منه ومن أصدقائه وزملائه من الفلسطينيين

وأعددت نفسي لأكون حلقة الاتصال بينه وبين مرشد الإخوان وأصدقائه المقيمين في مصر بناء على تكليف المرحوم الشيخ "حسن البنا"، وكان أول ما فكرت فيه هو كيفية الاستدلال على محل إقامته والاتصال به، وكان المفتاح الوحيد الذي أرشدني إليه أصحابه في مصر وهو أحد العاملين بإحدى السفارات العربية في باريس، ولما ذهبت إليه أخذ عنواني ووعد بالاتصال فيما بعد...

وفي أحد الأيام عدت إلى غرفتي بالحي الجامعي فوجدت بطاقة باسم الدكتور محمد معروف الدواليبي يطلب مني الاتصال به تليفونيًّا بناء على رسالة وصلت من مصر ودعاني للغداء معه في منزله، ثم ذهب معي بسيارته إلى إحدى ضواحي باريس وهي قرية "بوجيفال" ووجدنا المفتي بانتظارنا، وجلسنا معه فترة للتعارف

ثم اتفقنا على أن أزوره أسبوعيًّا في موعد معين وأن ألتقي بأحد أعوانه في محطة القطار ليصحبني إلى منزله وأتغدى معه، وسبب هذه الترتيبات أن حوله حراسة مشددة ولا يسمح لأحد بالدخول إليه إلا لأعوانه المعروفين لدى وزارة الداخلية الفرنسية، وهكذا تكررت زياراتي وأحاديثي مع الحاج أمين الحسيني عدة شهور. في هذه الفترة كنت قد عثرت على كتاب الخلافة الذي ألفه السنهورري، وكان موضوع الكتاب وهو "مبدأ وحدة الأمة الإسلامية" أهم مادة من مواد حواري مع الحاج أمين الحسيني في لقاءاتي المتكررة معه.

كان الحاج أمين الحسيني يؤمن بالوحدة الإسلامية وكان يعتقد كما نعتقد نحن بأن العالم العربي وحده ليس بقادر على مقاومة الحركة الصهيونية التي تدعمها أوروبا وأمريكا والعالم العربي على العموم، بل والشيوعية أيضًا، ولذل كان في نظرنا أن العالم العربي يجب أن يوسع نطاق نشاطه لوحدة العالم الإسلامي، وأن الوحدة الإسلامية ستكون ضرورية وحتمية لتحرير فلسطين ومقاومة الصهيونية، وإذا كانت المقاومة الفلسطينية لها دورها والعالم العربي له دوره، فإن العالم الإسلامي له دور لا يقل أهمية عن دور فلسطين ودور العرب.

هذه كانت الفكرة التي تجمع بيننا وبين الحاج أمين الحسيني، وهذه الفكرة كانت الصهيونية تخشاها أكثر مما تخشى الأفكار الوطنية أو الأفكار القومية العربية، وفي نظري أنه كان من أهم الأهداف الاستراتيجية للحركة الصهيونية والاستعمار الأوروبي هو توجيه الحركات الوطنية لدفع الجماهير نحو الشعارات القومية والقطريةومقاومة الاتجاه الإسلامي لصرف الشعوب عن الوحدة الشاملة، ولسد الطريق على التيار الإسلامي مهما يكن لونه ومهما تكن أهدافه، لأن بناء الوحدة الإسلامية أو وجود الأمل في استعادتها أكبر عقبة في سبيل السيطرة الصهيونية على العالم العربي.

كان أول حديث المفتي معي عن مصر مشيرًا إلى حبه لها واعتزازه بصداقة كثير من قادتها زعمائها، وأمله في أن تكونمركز الإشعاع لجميع العاملين من أجل حريتهم واستقلالهم وثقته بأنها ستكون دائمًا رائدة للعرب والمسلمين في طريق الوحدة التي يحاربها أعداؤنا جميعًا.

لقد توسع في حديثه عن العلاقات التاريخية والجغرافية بين مصر وفلسطين، ولم ينس أن يذكرني بأن مطامع الصهيونية في مصر أكثر منها في فلسطين وأنهم يعتبرون أنها هي وطنهم ووطن سيدنا يوسف – عليه السلام - وفيها بعث، وأن إسرائيل هو والده الذي انضم إليه في مصر وكان له ولأبنائه نفوذ كبير في مصر، ثم إن سيدنا موسى ولد في مصر وبعث فيها وكان هدفه تحرير بني إسرائيل من طغيان فرعون، وأنه توفي ودفن في مصر، ولم يذهب بنو إسرائيل إلى أرض فلسطين إلا بعد وفاته، وبعد أن قضوا في "التيه" أربعين عامًا في صحراء سيناء...

لقد كان يحرص على إقناعي بوجهة نظره في أن المعركة ليست بين الصهيونية والشعب الفلسطيني، بل إنهم يحاربون الإسلام ذاته ويهدفون للقضاء عليه منذ دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم - مهاجرًا إلى المدينة المنورة فكفروا به رغم أن كتبهم تشير إلى بعثته وتفرض عليهم الإيمان به ومؤازرته، ولكنهم من أجل مصالحهم المالية في "يثرب" حاربوه وكفروا برسالته وتحالفوا مع أعدائه وحرضوهم عليه وعلى المسلمين جميعًا، وما زالوا يفعلون ذلك حتى الآن.

كل ذلك كان تمهيدًا لبيان وجهة نظره الثابتة من أن مفتاح النصر على العدو الصهيونية هو الصحوة الإسلامية والنهضة والوحدة الشاملة للعالم الإسلامي كله، وأنه لذلك يعتبر نفسه من "الإخوان المسلمين" وله أمل كبير في نجاح الحركات الإسلامية كلها وأنه يعتقد أن الشيخ حسن البنا ومن معه من الإخوة هم الذين سيكون النصر على يديهم إن شاء الله.

لم يكن المفتي رحمه الله داعية فقط، بل كان منظمًا من الطراز الأول، لذلك اتفق معي منذ أول لقاء على خطة كاملة لاتصالي به، وزيارتي له مرة كل أسبوع، وحدد لي تفاصيل دقيقة عما يجب أن أعمله لأنقل له ما يصل إلي من إخوانه وأصدقائه في مصر ومن "الشيخ حسن البنا" ذاته، فضلاً عما نتفق عليه فيما بعد من مهمات أخرى.

لا أريد أن أعرض ما أذكره عن هذه الزيارات واللقاءات، ولكن يكفي أنها كانت أحب الأشياء إلى نفسي، ولا زلت أذكر عبير الأشجار والأزهار في الغابات التي يجتازها القطار من باريس إلى (بوجيفال) أو الضاحية المجاورة لها (لوفسين) حيث أن مسكنه كان يتوسط بين الضاحيتين، وأذكر كذلك السعادة التي كنت أحس بها عندما اكتشفت أن كل ما يقوله هو ما أؤمن به وما يتداوله الإسلاميون جميعًا في مصر وغيرهما ممن عرفت.

وفي أحد لقاءاتنا قال لي الحاج أمين:

إنك تذكرني دائمًا "بالشهيد الكتور مصطفى الوكيل" في مثابرته وإقدامه على العمل وحبه للبذل والتضحية، وقص علي قصة علاقته بهذا الشاب المصري الذي تطوع للجهاد معه حيثما كان، ورافقه في تنقلاته بين البلدان هربًا من مطاردة الإنجليز والصهيونيين له، وأنه حينما اشتدت الغارات على برلين نصحوا جميعًا بمغادرتها
وأمروا بذلك أمرًا، فتركوها إلا هو فإنه أصر على أن يبقى في المركز الإسلامي ليكون مع من تبقى هناك من إخواننا العرب والمسلمين الذين لا يستطيعون مغادرة برلين، وأنهم سمعوا بعد ذلك بأنه استشهد ومات تحت أنقاض مبنى المركز الذي دكته قنبلة مباشرة، رحمه الله، ثم قال مستطردًا وهو في غاية التأثر: إنني أذكره كلما رأيتك وأحمد الله أنه يقيض للإسلام دائمًا مجاهدين يعملون له في صمت وثبات وإيثار وأنه بعثك إلي لتعوضني عن كثير من إخواني الذين فقدتهم أو لا أستطيع أن أراهم أو يروني في هذه البلاد.

كان يشكو مما يحيط به من مؤامرات يعتقد أن الصهيونية تدبرها للقضاء عليه، ولكنه قال لي مرة إنه واثق أنهم لو نجحوا في مؤامراتهم فإن الله سيقيض للإسلام من رجال هذه الأمة من يحملون الأمانة ويؤدون الرسالة، وكان ذهنه مشغولاً بالوسائل التي يقاوم بها خطط الصهيونيين والأمريكان والإنجليز، بل والفرنسيين، أو على الأقل فريق منهم لأن الأمر في فرنسا لا تملكه جهة واحدة، فهناك اتجاهات متعددة وخططم متضاربة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

حكي لي كثيرًا مما لقيه في ألمانيا أثناء لجوئه إليها، وشكا مما لقيه منهم من مراوغة وخداع وأنه كان عندهم كثير من الحقد على الإسلام، حتى إنه قال لي مرة:

"ألا تعلم يا توفيق أنه أثناء الحرب العالمية الأولى عندما كانت الإمبراطورية العثمانية متحالفة مع ألمانيا ضد بريطانيا وفرنسا، وكان المسلمون يضحون برجالهم ومستقبلهم من أجل انتصار ألمانيا ومع ذلك عرفت أنه عندما دخلت الجيوش الإنجليزية القدس واحتلت فلسطين أمرت بعض الهئيات المسحية بدق أجراس الكنائس في جميع أنحاء ألمانيا احتفالاً بانتصار المسيحية على الإسلام واستيلائها على القدس الشريف"...

وقال لي إنه لجأ إلى ألمانيا مضطرًا بعد أن فر من العراق وإيران وتركيا، ولم يبق أمامه إلا الالتجاء للألمان، وكان عنده أمل أن يؤيد المسئولون في ألمانيا خططه لتحرير الشعوب العربية والإسلامية وتوحيدها لكنهم كانوا دائمًا يتهربون من مجرد التفكير في ذلك، وأنه تكلم مع هتلر شخصيًّا في ذلك مرتين، وطلب منه مجرد بيان يعد فيه العرب والمسلمين بالحرية والحدة

لكنه كان يحتج دائمًا بأنه لابد من إقناع موسوليني حليفه بذلك أولاً ويطلب مني أن أذهب للقاء الدوتشي لإقناعه، وهو يعلم مقدمًا أطماع موسوليني وأهدافه بل إنني واثق أنهما كانا متفقين على توزيع مناطق النفوذ ولا يرغب أي منهما في التعهد بشيء لصالح الشعوب العربية أو الإسلامية حتى في شمال أفريقيا التي كانوا يحتلون فيها ليبيا وتونس، ويستعدون للهجوم على الجزائر ومصر...

عندما ذكرت له ما أعجبني في كتاب "الخلافة" الذي قدمه السنهوري في عام 1936م كرسالة دكتوراه، ودافع فيه عن وحدة الأمة، وأنه مبدأ تفرضه العقيدة والشريعة ذكر لي تفصيلات كثيرة عن مشاركته مع قادة الفكر والرأي في العالم الإسلامي من أجل الدعوة لإعادة بناء الوحدة الإسلامية

وأشار إلى علاقته الوثيقة برئيس جمعية "الخلافة" في الهند "مولانا محمد علي" الذي توفي في لندن أثناء حضوره مؤتمر المائدة المستديرة مع "المهاتما غاندي" عام 1931م، وأنه هو الذي أقنع شقيقه وزوجته بدفنه في القدس برهانًا على التزام كل من يعمل للإسلام بالدفاع عن القدس الشريف ومذكرًا لهم بأن طريق الوحدة يمر بالقدس وفلسطين

وأن الشاعر الكبير أحمد شوقي سجل ذلك في قصيدة رثائه له بقوله:

أفتى بدفنك عند سيدة القرى

مفت أراد الله في إفتائه

فقد عشت تنصره وتمنح أهله

عونًا فكيف تكون من غربائه

حكي لي أن عددًا من زعماء العالم الإسلامي حضروا للقدس في هذه المناسبة وأنه بالتعاون مع كثير منهم وفي مقدمتهم "الشيخ عبد العزيز الثعالبي" زعيم الدستور التونسي دعوا لمؤتمر إسلامي في القدس عام 1931م، وعقد هذا المؤتمر للتشاور في شئون المسلمين وحالتهم في ذلك الوقت وأصدر قرارات عملية

وشكل لجنة تنفيذية مقرها القدس وأنه يعتقد دائمًا أن الوحدة الإسلامية هدف شعبي يجب أن تكافح من أجله جميع الحركات الإسلامية وعليها مسئولية الجهاد من أجله، أما دور الحكومات والدول فإنه يكون نتيجة ذلك. لم يكن أحد من زملائي وأصدقائي المصريين أو من أبناء أفريقيا الشمالية يعلم شيئًا عن زياراتي للحاج أمين وعلاقتي به.

وفي يوم من الأيام جاءني أحدهم يحمل صحيفة فرنسية باريسية في يده وهو يصرخ قائلاً ألم تعلم بهروب المفتي الأكبر.. هذه هي الصحيفة الفرنسية وعلى صفحتها الأولى هذا الخبر الذي تلقته من القاهرة...قلتله متجاهلاً: هل كنت تعلم بوجوده في باريس قبل ذلك؟ قال: لا، هذه أول مرة أسمع فيها هذا الخبر، قلت مبتسمًا: لست وحدك الذي كنت تجهل ذلك...

مؤمنون ومسلمون والوحدة الإسلامية والخلافة "الجديدة" للسنهوري

في ديسمبر عام 1945م، كنا ثلاثين طالبًا مصريا على سفينة فرنسية قادمة من فيتنام تسمى (ساجبتير) حجزت لنا أمكنة فيها من بورسعيد إلى مرسيليا؛ لأنها أول سفينة تغادرها إلى فرنسا بعد الحرب، وكان عدد المبعوثين كبيرًا؛ لأن إرسال البعثات العلمية إلى الخارج كان متوقفًا طول مدة الحرب، خسم سنوات منذ عام 1940/1945م، لذلك كانت هذه البعثة أكبر بعثة علمية في تاريخ مصر

وكان من حظنا أن السفينة التي ركبناها كانت أبطأ سفينة في عبور البحر الأبيض المتوسط منذ اختراع السفن البخارية، فقد ركبناها في بورسعيد يوم (25/12/1945م)، ولم نصل إلى مرسيليا إلا يوم (10/1/1946م)، وكان ذلك لأسباب عديدة: أولهما أنها كانت سفينة شحن توقفت بنا أولاً في أحد مواني قبرص (ليماسول) ثم توقفت مرة أخرى قبالة ميناء طرابلس اللبناني حيث وضع عليها صناديق من البرتقال والليمون، وبعد ذلك وقفت بنا في ميناء بيروت لتحمل كمية أخرى من الفواكه والمواد الغذائية مشحونة إلى فرنسا.

وقد صرح لنا بالنزول إلى البر في بيروت يوم وصولنا، وأذكر أنني دخلت إحدى المكتبات لشراء بطاقة بريدية أرسلها إلى مصر، ولما لم أجد طابع بريد تقدم إلي أحدا لواقفين يحييني عندما عرف أنني مصري قادم من بورسعيد، وقدم لي طابع بريد من حافظته، وحياني وحيا مصر

وأشاد بموقفها في تأييد كفاح اللبنانيين والسوريين من أجل الاستقلال الذي حررهم من الاستعمار الفرنسي الصليبي، واعترافًا منه بفضل مصر فإنه يقدم لي هديةهي نسخة من كتاب أخذه من المكتبة وسلمه لي فإذا به بعنوان (المستشرقون والاستعمار) تأليف الدكتور عمر فروخ وزميل له، فكان رفيقي في السفر، وكان لذلك أحسن هدية تلقيتها طوال مدة البعثة؛ لأنني تمتعت بقراءته، وقبل أن أفارقه قدم لي بطاقته وإذا هو الدكتور عمر فروخ مؤلف الكتاب فزاد به اعتزازي.

أما السبب الثاني لطول مدة الرحلة فهو أنه في اليوم الذي كان مقررًا لكي تغادر سفينتنا ميناء بيروت فوجئنا بأنهم سينزلوننا إلى أحد الفنادق بالجبل قرب "بكفيا" بحجة أن عمال السفنية بدءوا إضرابًا عن العمل غير محدد المدة؛ لأن لهم مطالب نقابية من الشركة التي تملك السفينة، وبقينا في الفندق ليلتين أعادونا بعدهما للسفينة لأن الإضراب قد انتهى وفي اليوم التالي تحركة السفينة ببطء للخروج من الميناء ووقفنا جميعًا على ظهرها نودع بيروت

وقد بدأت أضواء السماء توقد في كثير من مبانيها، ولكن فجأة توقفت السفينة ولاحظنا حركة غير عادية، عرفنا من بعض الركاب الفرنسيين أن الشرطة اللبنانية صعدت لتفتيشها ثم أمرت بعودتها إلى الميناء؛ لأن بها شحنة مهربة من البضائع أنزلوها إلى البر، وعرفنا أنها أكياس من "الفلفل الأسود" الذي ارتفع ثمنه في فرنسا بسبب الحرب وأن المهربين تواطئوا مع بعض المسئولين من طاقم السفينة لشحنها دون الحصول على إذن التصدير

ودون أن يدفعوا للحكومة اللبنانية ضريبة التصدير، وأنهم كانوا يستعدون لإنزالها في مرسيليا مهربة لتباع في السوق السوداء هناك، وأن إضراب العمال كان مقصودًا به إخراجنا من السفينة لإفساح المجال لشحن هذه البضائع المهربة بالتواطؤ مع ربان السفينة وبعض ملاحيها، وترتب على هذه القصة حجز السفينة للتحقيق بضعة أيام أخرى، وهكذا قضينا في بيروت أسبوعًا كاملاً كان أنيسي فيه كتاب الدكتور عمر فروخ رحمه الله وجزاه خيرًا.

كان معنا بالسفينة ثلاثة من أساتذة الحقوق الفرنسيين وعائلاتهم، الذين لم يستطيعوا العودة لبلادهم طول مدة الحرب، فكان لدينا وقت كبير للحوار معهم والتعرف إليهم، وأذكر أن أحدهم البروفسور "لوبال" أستاذ القانون المدني كان فيه كثير من ملامح الغرور الاستعماري، ذكرتني بما كتبه عمر فروخ في كتابه عن المستشرقين

وعندما صعدنا إلى الجبل في بكفيا فاجأته واقفًا على ربوة بجوار الفندق مع زوجته وهو ينظر بإعجاب "وتأثر يكاد يصل لحد البكاء" إلى الغابات والقرى الجميلة في جبل لبنان ثم يلتفت إلى زوجته ويقول لها "كل هذا كان لنا ولما رآني نظر إلي كأنه يقول: وأنتم أخذتموها منا إلى حين" ... أثناء وقوفنا على ظهر السفينة في يوم من الأيام مر بنا رجل سنغالي يلبيس ملابس عسكرية فرنسية، فقال أحد زملائنا إن زوجته التي تجلس معه في صالة الطعام هي مصرية على ما يظهر، فانتهزت فرصة وجوده منفردًا وسلمت عليه فحياني بابتسامة وقال لي: أنت مصري فقلت له: وأنت سنغالي.

قال: نعم، قلت له وزوجتك التي رأيناها معك على مائدة الطعام مصرية قال: نعم، قلت: أنتما مسلمان، قال معترضًا: أنتم مسلمون أيها المصريون أما نحن في السنغال فإننا "مؤمنون" لأن شعبنا آمن بالإسلام على يد الدعاة ولم يفتح المسلمون بلادنا، بل جاءونا تجارًا ومعلمين ودعاة. لقد فوجئت بإجابته وتبسطت معه في الحديث عن حال المسلمين في غرب أفريقيا فقال إن أكثرهم من "التيجانية" وهو منهم وهناك المريدون وغيرهم من الطرق الصوفية وكلنا مؤمنون والحمد لله.

لقد شرحت له أننا كذلك مؤمنون ولا يجوز أن تنكر علينا الإيمان بحجة أننا مسلمون؛ لأن ذلك إهانة كبرى، إن الآية التي خاطبت الأعراب بأنهم مسلمون وليسوا مؤمنين عللت ذلك بأن الإيمان لم يدخل في قلوبهم، أي أنهم كانوا منافقين، أما الآن فكل مسلم في العالم الأصل أنه مؤمن ولا يجوز إنكار ذلك عليه بحجة أن الجيوش الإسلامية فتحت بلاده

ثم قلت له: إن الجيش الإسلامي الذي فتح مصر لم يكن يحارب المصريين بل كان يحارب الرومان الذين كانوا يحتلون مصر كما يحتل الفرنسيون بلادكم، وكيف تقبل الجندية في الجيش الفرنسي الاستعماري وأنت مؤمن؟ قال: إنني كنت أحاربفي الهند الصينية وأهلها وثنيون وعلى كل لقد أنهيت عقدي مع الفرقة الأجنبية بالجيش الفرنسي، وسأعود إلى أهلي وبلادي وأرضي وربي وضميري وأطلب المغفرة، وكادت عيناه تدمعان، وقمنا للصلاة معًا، وبعد الصلاة طال بنا الحديث عن الأخوة التي تربط بين المسلمين جميعًا في وحدة دائمة رغم اختلاف بلادهم وأفكارهم...

بعد أيام قليلة من وصولي إلى باريس كنت أتجول في أحد شوارع الحي اللاتيني حيث توجد مكتبات كثيرة دخلت إحداها وصرت أتأمل الكتب الخاصة بالإسلام، ففوجئت بكتاب عنوان بالفرنسية "الخلافة وتحولها إلى عصبة أمم شرقية" والمؤلف هو "عبد الرزاق أحمد السنهوري"، وتصفحت الكتاب فعرفت أنها رسالة دكتوراه قدمها السنهوري لجامعة ليون عندما كان يدرس فيها عام 1936م

وحصل بها على دكتوراه في العلوم السياسية فاشتريت الكتاب وعدت به سريعًا إلى غرفتي أتصفحه فأعجبت بالفكرة الجديدة التي دعا إليها المؤلف وهي إنشاء منظمة دولية تحل محل الدولة العظمى التي كانت تقوم بمسئولية الخلافة الإسلامية وأعجبني أكثر من ذلك دفاعه عن مبدأ الوحدة الإسلامية، وأن الفقه الإسلامي يعتبرها واجبًا دينيًّا على جميع المسلمين الالتزام به

وبدأت فعلاً في ترجمة بعض صفحاته ثم انشغلت عن ذلك بدروسي لإعداد دبلومات الدراسات العليا بكلية الحقوق وبإعداد رسالتي للدكتوراه وأجلت متابعة الترجمة إلى أن أنتهي من رسالتي ودراستي، ولكني كنت من حين لآخر أرجع إلى ما فيه وجعلته محور أحاديثي مع الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين أولاً، ومع عبد الرحمن عزام الأمين العام لجامعة الدول العربية عندما جاء في زيارة قصيرة إلى فرنسا.

وفي صيف عام 1947م عدت في عطلة لمدة شهرين إلى القاهرة، والتقيت مع المرحوم الدكتور السنهوري وقلت له عن مشروعي بشأن ترجمة كتاب الخلافة فألح علي بسرعةنشر هذه الترجمة؛ لأنه كان يتمنى أن يقوم بنفسه منذ عاد إلى مصر، ولكنه اشتغل بأشياء أخرى وخصوصًا أنه تحول من القانون الدستوري والقانون الدولي إلى تدريس القانون المدني وهو بحر لا قرار له ولم يستطع أن يجد الوقت لترجمة هذه الرسالة وقلت له: إنني سأقوم بالترجمة.

لكن بكل أسف ما حصل له قد حصل لي، فكنت كلما تقدمت في الترجمة توقفت لانشغالي أولاً برسالتي لإعداد الدكتوراه في باريس، وبعد الرسالة عدت إلى مصر وغرقت في تدريس القانون الجنائي كما غرق السنهوري في تدريس القانون المدني، وكلاهما لا يترك للإنسان فرصة ليكتب كتابًا في القانون الدستوري والقانون الدولي مثل الخلافة والذي جعلني أتأخر وزاد في صعوبة مهمتي في ترجمة الخلافة أنني وجدت أنها تحتاج إلى تعليقات كثيرة؛

لأن السنهوري كتبها وهو شاب طالب يدرس الدكتوراه، وفي ظروف صعبة كانت فيها كلمة الخلافة تثير الرعب في أوروبا كلها وفي فرنسا بالذات لذلك كان في منتهى الحذر في كتابه فحرص على أن يحصر موضوعه في عرض أحكام الخلافة كما هي في الفقه الإسلامي بكل دقة أي أنه كان شارحًا وناشرًا للقواعد والأحكام الموجودة في الفقه الإسلامي، ولكن بأسلوب عصري مقنع

ومع ذلك قدم فكرة جديدة في خاتمة الكتاب عندما تكلم عن المستقبل وهذه الخاتمة هي أهم أجزاء الكتاب في نظري؛ لأنها هي التي قدم فيها السنهوري فكرته التي هي ابتكار أوحت به الظروف التي عاصرها حيث أنه في عام 1925م أنشئت في جنيف أول منظمة دولية عالمية تحمل اسم "عصبة الأمم" وكان متألمًا لانهيار الخلافة وتفرق المسلمين، فأسعفته عبقريته الفتية

فاقترح أن يبدأ المسلمون فورًا بإنشاء "عصبة أمم إسلامية" كخطوة انتقالية في المرحلة الحالية التي مزقت فيها الأمة الإسلامية إلى أقطار مختلفة، وأصبح كل قطر هدفه أن يحصل على استقلاله القطري وينشئ دولة قطرية في الحدود الضيقة المسموح له بها، والتي رسمتها الدول الاستعمارية الأوروبية دون معرفة رأي شعوبها، ولو سئلت الشعوب فإنها لا ترضى بهذه التجزئة ولا تختارها بل تريد الوحدة وإن كانت لا تستطيع بناءها الآن

ولابد أن تمر فترة طويلة قبل أن تستطيع هذه الدول القطرية أن تتحول إلى دولة كبرى موحدة أو دولة اتحادية وفي نظره أنه قبل أن تنشأ هذه الدولة الموحدة أو الدولة الاتحادية يجب علينا أن نعمل لإنشاء منظمات دولية إسلامية تضم هذه الدول المستقلة أو شبه المستقلة، وهذه الدول عليها أن تتعاون في إطار هذه المنظمة الدولية التي سماها "عصبة الأمم الإسلامية" أو "الشرقية" أسوة بمنظمة الدول الأمريكية

على أن يكون بجانبها منظمة دينية تعني بتدعيم الوحدة الثقافية والشرعية والاجتماعية بين الشعوب الإسلامية جميعًا، سواء في ذلك الشعوب المستقلة أو التي لم تحصل على استقلالها أو الأقليات الإسلامية في الدول الأجنبية، والظاهر أنه استفاد من وجود عصبة الأمم في جنيف؛ لأنه لاحظ في ذلك الوقت أن الدول الأوروبية بالذات مشغولة بإنشائها، وإن كان قد اعتبرها في الحقيقة ليست عصبة عالمية، وإنما كانت أوروبية لأن أمريكا رفضت الاشتراك فيها والاتحاد السوفياتي لم يشترك فيها، والدول الإسلامية والأفريقية لم يكن أغلبها قد حصل على استقلاله، فهي كانت منظمة أوروبية وكان يتنبأ لها بالفشل والانتهاء إذا لم توجد منظمات إقليمية تدعمها

وقال إن المنظمات الإقليمية مثل منظمة الدول الأمريكية والاتحاد السوفياتي يجب أن يضاف إليهما منظمة أوروبية تمثل أوروبا الموحدة ومنظمة لدول الشرق الأوسط أو الشرق الإسلامي، وهي التي يمكن أن تقوم بدور الخلافة فيما بعد في حدود معينة رسمها وكتبها بمنتهى الدقة التي تدل على عبقرية وإيمان بمستقبل الأمة الإسلامية واستقرت الفكرة عندي من خلال حواري مع الحاج أمين الحسيني وحواري مع عبد الرحمن عزام فيما بعد، أما حواري مع السنهوري فكان من خلال كتاب الخلافة الذي كان موضوعه الوحدة الإسلامية، ومن حسن الحظ كانت هذه الوحدة أساس العمل الإسلامي والهدف الأول لجميع الحركات الإسلامية.

وكان أهم ما استفدته من كتاب الخلافة أن وحدة الثقافة واللغة هي أهم مقومات الوحدة الشاملة، وأن أهم عنصر في الثقافة الإسلامية هو الفقه والشريعة بصفة عامة ومعنى ذلك أن نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية هو بداية الطريق العملي للمحافظة على وحدة الأمة وكيانها، ومن حسن الحظ أن القرآن الكريم تكفل طوال تاريخ شعوبنا بأن يكون مفتاح الوحدة والثقافة واللغة، وفضلاً عن أنه مستودع العقيدة والشريعة

وأذكر أنني عندما كنت أستعد للذهاب لمصر في عطلة صيف 1947م أعددت مذكرة بعنوان "الحركات الوطنية في شمال أفريقيا"، وهذه المذكرة شرحت فيها موقف كل حركة من هذه الحركات وكل حزب من هذه الأحزاب، وموقف فرنسا من تلك البلاد واحدة بعد الأخرى، وانتهيت إلى أن الدول العربية ملزمة بالدفاع عن عروبة هذه البلاد وعن الإسلام فيها

وأعددت برنامجًا لمساعدة الأحزاب الوطنية في نشر اللغة العربية والدين الإسلامي والدفاع عن عقيدة الشعوب وشخصيتها التاريخية والإسلامية والعربية، وعندما ذهبت في عطلة إلى مصر في صيف (1947م) قدمت هذه المذكرة إلى الأمانة العامة للجامعة العربية ثم إلى السنهوري باعتباره وزيرًا للمعارف في ذلك الوقت

وقلت له إن الحقيقة أنني أريد منك أن تهتم وتستعمل نفوذك في مجلس الوزراء في المجالات السياسية للفت نظر المسئولين في مصر والدول العربية لمسئولياتها إزاء شعوب شمال أفريقيا وفيما يخصني أنا بالذات فإنني سوف أعمل في موضوع نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية وأريد منك أن تساعدني في ذلك وأقترح أن تشجع هذه الحركات الوطنية لفتح مدارس لتعليم اللغة العربية والثقافة الإسلامية لأبناء الجاليات العربية في فرنسا، وخصوصًا أطفال المسلمين الجزائريين والمغاربة والتونسيين، فأخذ المذكرة وقرأها ولما عدت إليه قال لي إن هذه المذكرة ليست لوزير المعارف إنها يجب أن توجه لوزير الخارجية

وأنا أعرف صديقي وكيل وزارة الخارجية وهو كامل بك عبد الرحيم وأريدك أن تذهب إليه وتقدمها له وكلمه أمامي هاتفيًا في ذلك، فوعد باستقبالي، فقال عليك أن تذهب إليه وتقدم له هذه المذكرة، أما فيما يخص موضوع اللغة العربية فتأتي إلي قبل أسبوع من السفر لنتكلم في هذا الموضوع، وفعلاً ذهبت بالمذكرة إلى كامل بك عبد الرحيم وكيل وزارة الخارجية في ذلك الوقت وقدمتها له، وناقشني فيما عرضته عليه

وقال لي إنني سوف أدرسها باهتمام، وكل ما أذكره أنه بعد عودتي لباريس وصلني عن طريق السفارة خطاب بتوقيع السيد كامل عبد الرحيم وكيل وزارة الخارجية يشكرني فيه على اهتمامي بقضايا شمال أفريقيا وعلى المذكرة التي سوف تهتم وزارة الخارجية وتعمل ما يلزم للاستفادة بها، أما السنهوري فقد لقيته قبل سفري وقلت له إنني أريد أن أشجع الحركات الوطنية في شمال أفريقيا الموجودين في فرنسا بإنشاء مدارس لأبنائهم وأبناء الجاليات الإسلامية عمومًا في تلك البلاد، وقلت له إنك تستطيع على الأقل أن تعطيني المناهج والكتب وأنا سأتولى الباقي، فأمر فورًا بإعطائي جميع الكتب اللازمة

واستدعى المسئول عن المخازن ليذهب معي لأختار الكتب التي يمكن أن نستفيد منها، وفعلاً ذهب معي أحد الموظفين إلى المخازن وكتبت قائمة بالكتب التي تلزم لنشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية لأبناء المسلمين المقيمين في بلاد أجنبية، وطلبت كميات ضخمة من هذه الكتب، فأمر بإرسالها فورًا عن طريق المستشار الثقافي بالسفارة المصرية في باريس لكي يسلمها لي

وفعلاً وصلت هذه الكتب بعد بضعة شهور واستدعاني الملحق الثقافي الذي كان يشرف علينا باعتبارنا طلبة للدكتوراه وقال لي: إن هذا شيء عجيب هذه أول مرة تأتي طرود بها كتب إلى السفارة المصرية وتكلف السفارة بتسليمها لطالب من طلاب البعثة للتصرف فيها، مع أننا نحن أولى بأن نقوم بهذا الدور، قلت له أي دور تريدون أن تقوموا به؟ أنا أريد أن أفتح مدارس، هل عندكم استعداد لفتح مدارس عربية في باريس؟

إذا كان عندكم استعداد تقدموا وأنا أساعدكم؟ قال: لا هذا شيء يحتاج إلى إذن الحكومة الفرنسية، وهذا ليس من عملنا والحكومة الفرنسية لا أعتقد أنها ترحب بأي فكرة من هذا القبيل، فقلت له أما نحن فسنطلب من الحركات والهيئات الوطنية أن تنظم دروسًا وحلقات أو دورات لأطفال أعضائها لهذا الغرض، فوافق وسلمني الكتب وأذكر أنني استدعيت اثنين أحدهما يمثل حزب الشعب الجزائري والثاني يمثل حزب الاستقلال المغربي وتسلما الكتب

أما الحزب التونسي فلا أعتقد أنه كان لديهم جالية تستحق هذا، فاكتفيت بتقسيمها بين المغاربة والجزائريين مع إعطاء الأهمية للجزائريين وقلت في نفسي إن السنهوري دعا لتأسيس "الخلافة الجديدة" في صورة عصبة أمم، لكن علينا ألا نكتفي بالدعوة وأن نعمل من البداية، والبداية في نظري هي وحدة الثقافة واللغة ومناهج التعليم، وهذا يستلزم حركة شعبية لإنشاء نماذج جديدة للمدارس الإسلامية وهكذا بدأت أفكر في إنشاء "مدارس إسلامية" لنشر اللغة العربية وثقافة القرآن بين المسلمين في جميع أنحاء العالم وخاصة الأقليات الإسلامية في الدول الأجنبية.

ولما ذهبت إلى المغرب بعد الاستقلال لاحظت أن كثيرًا من أصدقائي ممن شاركوا في مقاومة الاحتلال الفرنسي يرسلون أبناءهم إلى المدارس الفرنسية، ولما اعترضت على ذلك قالوا لي إنهم لا يجدون مدارس وطنية في المستوى المناسب وأنهم لذلك مضطرون إلى إدخال أولادهم في مدارس أجنبية، واقترح بعضهم أن نبدأ بالتعاون في إنشاء مدارس عربية وطنية راقية يدخلها الأطفال الذين يرغب آباؤهم في توفير مستوى معين للتعليم لا يتوفر في نظرهم في المدارس الحكومية.

ولما انتقلت إلى الجزائر وجدت الحال أسوأ؛ لأن المدارس الحكومية ذاتها كانت خاضعة للسلطات الفرنسية ومناهجها فرنسية وسوف يستغرق تعريبها مدة طويلة وزاد اقتناعي بضرورة قيام الأفراد أو الهيئات الشعبية بدور كبير في هذا الصدد، ولكن لم أستطع أن أبدأ في هذا المشروع في المغرب ولا في الجزائر لانشغال الجميع بالقضايا السياسية لكن الله وفقني إلى البدء في إنشاء مدارس إسلامية عربية أهلية راقية باسم (المنارات) في المملكة العربية السعودية بعد أن انتقلت إليها

ولم يتم ذلك إلا في عام 1970م بالتعاون مع الأمير محمد الفيصل، وبدأنا خطة لنشر هذا النوع من المدارس الأهلية الإسلامية في جميع البلاد وأنشأنا لذلك مؤسسة عالمية في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي في عام 1976م، وسميناها "الاتحاد العالمي للمدارس العربية الإسلامية الدولية" وهدفه هو تدعيم المدارس الإسلامية الأهلية في جميع أنحاء العالم...

جمعية "أصدقاء فلسطين العربية"

في بداية إقامتي في باريس، أعلن أنه سيعقد اجتماع لوزراء خارجية الدول الأربع الكبرى (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا) وأنهم سيبحثون في مصير المستعمرات الإيطالية السابقة: ليبيا والصومال وأريتريا، وجاء أحد الليبيين المقيمين في إيطاليا وطلب أن يتعاون معنا في القيام بحملة إعلامية للدفاع عن استقلال ليبيا والصومال وأريتريا، وكان هذا هو موقف مصر والجامعة العربية بإجماع أعضائها

كان أول اجتماع عقدناه بشأن قضية ليبيا، وطبعنا منشورات للدعاية لهذه القضية، وكانت هذه أولى نشاطاتنا في باريس، وواصلنا العمل لقضية ليبيا والصومال وأريتريا، وكان لموقف الدول العربية والأفريقية والأسيوية أثره في توجيه الأمم المتحدة لإعلان استقلال ليبيا والصومال تتويجًا لكفاح هذين القطرين العربيين، ولم يكن سهلاً.

أما قضية أريتريا فقد تعثرت؛ لأن الدول المعادية للإسلام اتفقت على أن تفرض عليها أن تدخل مع الحبشة في "اتحاد كونفيدرالي" بدلاً من الاستقلال التام، ومما يؤسف له أن الدول العربية وافقت على ذلك بتحريض من حكومة مصر وإلحاحها؛ لأنه قيل آنذاك إن الملك فاروق خدعه وسطاء السوء وأفهموه أن النجاشي سيؤيد وحدة السودان مع مصر إذا ساعده في اتحاد الحبشة مع أريتريا

وأنه من ناحية أخرى يعد ببقاء الكنيسة الحبشية جزءًا من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ومركزها مصر، فأمر الحكومة المصرية بإقناع دول الجامعة العربية بأن مصلحة مصر تستلزم إجماع هذه الدول على التصويت في الأمم المتحدة لصاحل مشروع اتحاد فيدرالي يضم أريتريا مع الحبشة، وبعد صدور هذا القرار لم يلتزم به النجاشي بل إنه أعلم ضم أريتريا لتصبح جزءًا من الحبشة، واستبعد الحكم الذاتي الذي كانت تتمتع به أريتريا طبقًا لقرار الأمم المتحدة.

لكن عملنا الأصلي كان هو الدعاية لقضية "فلسطين العربية"؛ لأن الصهاينة كان لهم جميعات كثيرة تعمل في فرنسا للدعاية لوجهة نظهرهم، فكان علينا أن نجد الوسيلة لمقاومة هذه الدعاية الصهيونية. في أحد لقاءاتي مع المفتي "الحاج أمين الحسيني" ذكر لي أنه توجد في باريس "جميعة أصدقاء فلسطين العربية" وقد أنشأها بعض العرب أثناء الحرب بتوجيه منه للدفاع عن قضية فلسطين، وكان هدفها مقاومة الدعاية الصهيونية ضد العرب وضد فلسطين

وأنه كان يرأسها طالب لبناني يدعى "نجيب صدقة" الذي ألف كتابًا بالفرنسية للتعريف بقضية فلسطين العربية، قدم لي الحاج أمين نسخة منه، وقال لي إن رئيس الجمعية اللبناني قد عاد إلى بلاده وهي لذلك مجمدة ولكنها موجودة قانونًا وطلب مني أن أجمع بعض أعضائها وأتولى رئاستها وأستأنف نشاطها، وقد فعلت ذلك...

كانت هذه الجمعية أولى نشاطاتي العلنية لقضية فلسطين في باريس، وعن طريقها تعرفت بكثير من العرب والمسلمين الذين يتحمسون لقضية فلسطين وفي مقدمتهم كثير من المسئولين عن الحركات الوطنية في شمال أفريقيا، أذكر منهم إبراهيم معيزة وشوقي مصطفى ومحمد يزيد الذين كانوا ممثلين لحزب الشعب الجزائري، و"مصالي حاج" زعيم الحزب وعبد الرحيم بو عبيد وعبد الله إبراهيم وعبد اللطيف بن جلون، من اللجنة المثملة لحزب الاستقلال في المغرب، وجلولي فارس ومحمد الميلي والحبيب بورقيبه الابن من اللجنة الممثلة لحزب الدستور التونسي.

وكانت هذه الجمعية هي المجال الذي نلتقي فيه ونعمل معصا لقضية فلسطين أولاً وبعد ذلك قضايا شمال أفريقيا، وبذلك استقر لدينا جميعًا وحدة القضايا الإسلامية جميعًا وارتباطها كما يعتقد الإخوان المسلمون، ومن خلال عملي في هذه الجمعية أدركت أن إخواننا الجزائريين أكثر الناس انضباطًا وثباتًا في مجال العمل وخصوصًا أن الحزب الوطني (حزب الشعب) حزب نضالي

وكان أكثر الأحزاب تنظيمًا، وكان له جمهور كبير في فرنسا من العمال الجزائريين وقد زادت قوته بوجود "مصالي حاج" في فرنسا وفي باريس بالذات أما المغاربة فقد كان عندهم عدد كبير من العمال ولكن الحزب لم يكن مسيطرًا عليهم كما هو الحال بالنسبة للجزائريين، وبالنسبة للتونسيين فقد كان عددهم قليلاً، وكان الحزب يعتمد على الطلبة الذين يمثلونه ولا يوجد له جمهور من العمال.

ولقد اعتمدت أساسًا في كل نشاطاتي على المسئولين الممثلين للأحزاب الثلاثة: حزب الشعب الجزائري، وحزب الاستقلال المغربي، وحزب الدستور التونسي، أما الجمهور فكان من الجزائريين في عمومه، ولابد أن أذكر أنهم كانوا هم المواظبين على حضور الاجتماعات التي نعقدها للدعاية لقضية فلسطين، فكنا كلما عقدنا اجتماعًا كان الجزائريون هم الذين يحضرون بالآلاف، وكان لهذه الاجتماعات في نظرهم وفي نظر الفرنسيين أهمية كبرى

وأذكر أن الفرنسيين انزعجوا جدًا عندما تكررت هذه الاجتماعات وطلبوني للتحقيق، وقال لي الضابط المحقق: أنت إذا كنت تقوم بنشاط فلابد أن تقتصر على المصريين، أما الجزائريين وأبناء شمال أفريقيا فلا شأن لك بهم، قلت له: إنها اجتماعات عامة ونحن نتمنى حضور الفرنسيين وجميع الأجانب المقيمين بفرنسا، وأنا أستعمل حقوقي طبقًا للقانون الفرنسي، فإذا وقعت مني أي مخالفة فحاكموني بالقانون، أما فيما عدا هذا فلا شأن لي بكم، ولكني أدركت فيما بعد أنهم يدبرون لي كمينًا...

لم تمض مدة حتى استدعيت لأحد أقسام الشرطة، وهناك تقدم لي ضابط شابا وقادني إلى مكتبه ثم قدم لي مظروفًا مفتوحًا بداخله خطاب مكتوب على الآلة الكاتبة بلغة فرنسية ركيكة فيه تهديد لرئيس الجمهورية الفرنسية بسبب عدم تأييد فرنسا للقضية الفلسطينية وكان التوقيع "جمعية عرب فلسطين" بدون بيان اسم شخص معين

وقال لي الضابط أنت رئيس هذه الجمعية قلت: لا، قال: كيف وعندي بيان باسم جمعيتك التي ترأسها، وهي جمعية مسجلة قانونًا ومعترف بها، قلت: إن اسم جمعيتي هو "أصدقاء فلسطين العربية" وليس هذا هو اسم الجمعية الموضوع في نهاية الخطاب، ففوجئ بهذا الرد وأفحم، فأضفت بأنني أدرس الحقوق وأعرف أن مثل هذا العمل جريمة

والمعتاد أن أي شخص يقدم على هذا العمل لا يضع اسمه عليه ولا اسمًا يوصل إليه، ولا شك أن هذه مكيدة من بعض الصهيونيين الذين يريدون الإيقاع بيننا وبين الفرنسيين، في حين أن هدفنا هو تعريف الجمهور الفرنسي بحقوقنا وليس لنا أي مصلحة في الإساءة لهم أو لرئيس جمهوريتهم، فبدا عليه الاقتناع وأذن لي بالانصراف، ولكني كنت واثقًا من أنهم سوف يعاودون الكرة للإيقاع بي...

وشاء القدر أن يقع صديقي الدكتور "حسن أبو السعود" في هذا "الكمين" كان الدكتور حسن أبو السعود أقرب زملائي في البعثة إلي، وكنت على اتصال دائم به، دون أن يشاركني في أعلم عمل يخص "الإخوان المسلمين"؛ لأنه لم يكن منهم، وإن كان أخوه المرحوم الدكتور "محمود أبو السعود" من كبارهم...

لكني في أحد الأيام بعد أن شاركته في التعاون مع عزام باشا أثناء زيارته في باريس ذكرت له نشاطنا في جمعية أصدقاء فلسطين واقترحت عليه أن يذهب معنا إلى بعض الاجتماعات الخاصة بها، فحضر فعلاً، بل ذهب معي عدة مرات لحضور اجتماعات عامة نظمتها بعض الجمعيات الصهيونية، وكنا نستغل حضورنا في تلك الاجتماعات العامة لإسماع صوت فلسطين العربية طالما أن لنا الحق في حضور هذه الاجتماعات لأنها عامة.

وعندما كثرت الاجتماعات العامة التي تعقدها الجمعيات الصهيونية حضر إلي مندوب حزب الشعب الجزائري واقترح علي أن نقوم بعملية لتعطيل هذه الاجتماعات بأن يدعو عددًا كبيرًا من المسلمين ليملئوا القاعة قبل الموعد وبذلك لا يستطيع اليهود دخولها وانتهزنا فرصة الإعلان عن اجتماع عام في إحدى القاعات بميدان "الجمهورية"

وأبلغت الجزائريين بالموعد لاستدعاء أكبر عدد من جمهورهم للحضور، واقترحت على أخي أبو السعود أن يذهب معي فرحب بذلك، وعندما وصلنا إلى ميدان الجمهورية وجدناه مملوءًا بأعداد ضخمة من الجزائريين حتى إننا وصلنا إلى القاعة بشق الأنفس فوجدناها مملوءة تمامًا بإخوانننا الجزائريين وطبعًا لم يكن يوجد فيها واحد يهودي أو فرنسي؛

لأنهم لم يستطيعوا الوصول إلى القاعة أو البقاء فيها بسبب الزحام، وحضر منظمو الاجتماع في الموعد، فوجدوا القاعة مملوءة فاستدعوا الشرطة فحضر أحد الضباط ووقف على مقعد وقال أيها السادة أنا من ضباط الشرطة وأطلب منكم إخلاء المكان؛ لأن اليهود استأجروه لعقد اجتماع لهم، فرددنا عليه بأن هذا الاجتماع مفتوح للجمهور، ونحن حضرنا للاستماع ونحن جالسون لذلك وهذا حقنا

فسأل إن كان هناك مسئول يتحدث معه، فقدمنا حسن أبو السعود وذهبت أنا معه فوقف معنا جانبًا يقول إن هؤلاء الأفارقة لم يحضروا للاستماع بل لمنع الاجتماع، فلا يعقل أن يعقد الاجتماع دون أن يكون بالقاعة فرنسي ولا يهودي واحد، قلنا له نحن على استعداد لإخلاء عدد من المقاعد لنشاركهم في الاجتماع، قال: هل تستطيعون التفاهم مع "هؤلاء" قلنا نعم، فاقترح أن نخلي نصف القاعة

فقلت: هذا ليس بعدل أن نخرج من جاءوا مبكرين ليقعد المتأخرون، ونخشى أنهم لن يقبلوا منا ذلك لأنهم أحق بالجلوس؛ لأنهم سبقوا ومن جاء بعدهم عليه أن يقف، وقلنا له نعتقد أننا نستطيع فقط إخلاء ثلث القاعة لكي يبدأ الاجتماع؛ لأننا فعلاً جئنا لنسمع ما يقولون فاقتنع بذلك وذهب للتفاوض مع اليهود وطالت المدة ثم عاد ونادانا وقال لقد عرضت عليه اقتراحكم فرفضوه

وقلت لهم إنني لا أستطيع أن أفعل أكثر من ذلك لأنكم على حق إذ إن الاجتما عام مفتوح للجميع وليس لي الحق في إخراج أحد منه دون مبرر ثم قال: إنهم أبلغوني بأنهم ألغوا اجتماعهم وعادوا إلى منازلهم وأنا أرجوكم أن تطلبوا من "هؤلاء" إخلاء القاعة لأن صاحبها الذي أجرها للجمعية الصهيونية يخشى من حدوث اضطرابات داخلها تضر بما فيها من أثاث

فوافقنا على ذلك بعد أن حضر صاحب القاعة وتعهد بأن يغلقها فور إخلائها، وفي دقائق معدودة خرج جميع من في القاعة بناء على أمر من (لجنة النظام) التابعة لحزب الشعب الجزائري وبقى ضابط الشرطة مذهولاً لهذه الدقة والطاعة، واستبقانا حتى خرج الجميع وطلب منا أن نقدم له بطاقاتنا الشخصية لإتمام محضر بالواقعة وبعد أن ردها إلينا قال لنا: أريد أن أعرف بصراحة أنتم مصريون فما هي علاقتكم "بأبناء شمال أفريقيا" قلت له: ألا تعرف أن مصر تقع في شمال أفريقيا؟

قال إنني أقصد شمال أفريقيا بالمعنى السياسي أي البلاد الخاضعة لفرنسا، وهي المغرب والجزائر وتونس. قال له حسن أبو السعود: إن موضوع الاجتماع هو قضية فلسطين ونحن لنا جمعية أصدقاء فلسطين العربية وهي جمعية مسجلة عندكم في وزارة الداخلية، ويشارك في تأييدها ونشاطها جميع العرب والمسلمين في فرنسا، ومن حقنا أن نحضر جميع الاجتماعات العامة التي تتعلق بفلسطين سواء نظمها الفرنسيون أو اليهود أو المسلمون

فسأل من هو رئيس الجمعية فقلت: "أنا هو" فطلب مني الحضور إلى مكتبه بأحد أقسام الشرطة بعد يومين، فذهبت له في الموعد وكان كل ما طلبه هو التوقيع على المحضر الذي كتبه بعد أن قرأته، وغادرته وعدت إلى منزلي مسرورًا وكان معي بعض أصدقائي في انتظار نتيجة الاستدعاء، ومع ذلك كنت واثقًا أن شيئًا سيدبر لي...

نتيجة لذلك رأت الجمعيات الصهيونية أن تجعل اجتماعاتها "خاصة" لا يدخلها إلا من يحمل بطاقة دعوة وبعد أسبوعين أعلنوا في مجلتهم عن اجتماع في أكبر قاعة في باريس وهي قاعة "واجرام" قرب الشانزليزيه ومن يريد الحضور عليه أن يحصل على بطاقة من مكاتب حددوها وكنا نتابع نشاطهم عن طريق الحصول على مجلة دورية يصدرونها وكنا نستعين ببعض أصدقائنا الفرنسيين ليحضرها لنا، فطلبت منه أن يحضر لنا بعض بطاقات الدعوة وفعلاً أحضر لنا أربع بطاقات

وذهبت إلى حسن أبو السعود أقترح عليه أن يذهب معي فوافق على ذلك وتحمس له لدرجة أن اثنين من "مريديه" من أعضاء البعثة قررا أن يذهبا معنا، أذكر منهما المرحوم الدكتور أحمد مسلم وفعلاً ذهبنا في الموعد (وكان ليلة الأحد) إلى القاعة وقدمنا البطاقات فعرفنا المشرفون على نظام الاجتماع من أعضاء الجمعية الصهيونية الذين شاهدونا في اجتماعات سابقة

وحاولوا منعنا من الدخول فأصررنا حتى جاء رئيس الاجتماع فأمرهم بالسماح لنا بالدخول وقادنا إلى مكان اختاره، وأخلى لنا عدة مقاعد فجلسنا، وبعد ذلك لاحظت أنهم أخلوا الصف الذي خلفنا تدريجيًّا وأجلسوا فيه عددًا من "البلطجية" وقبل أن يبدأ الاجتماع وقف رئيس الاجتماع على المنصة وقال: يسرني أن يحضر بالقاعة عددًا من "أصدقائنا" العرب ممثلين لعرب فلسطين ولما كان هدفنا هو التعايش مع العرب في فلسطين

فإننا رحبنا بهم بل إنني سوف أعطي الكلمة لواحد منهم ليعرض وجهة نظرهم إذا شاءوا وفعلاً تقدم حسن أبو السعود وألقى كلمة قصيرة قال فيها: "إننا أيضًا نريد التعايش السلمي مع اليهود الموجودين في فلسطين، لقد عاشوا معنا سنين وقرونًا من قبل، لكنا نرفض هجرة يهود آخرين لا تتسع لهم فلسطين، وهجرتهم تهدد الفلسطينيين في وطنهم"...

وفجأة تململ الجالسون خلفنا، ووقفوا ينشدون أحد الأناشيد العبرية، فوقف كثير ممن بالقاعة ولم نقف فجذبني واحد ممن يجلسون خلفي واشتبكت معه فتجمع منهم عدد كبير للاعتداء علينا، وفجأة ظهر شاب جزائري واحد كان بالقاعة مصادفة ولم نعرف كيف حضر فتصدى لهم جميعًا لحمايتنا بعد أن أصابتني عدة لكمات طبعًا، وحضرت الشرطة وفرقتنا وفضلنا مغادرة القاعة، وخرج معي هذا الأخ الجزائري ومر بنا على إحدى الصيدليات حيث ضمدت جرحًا في وجهي، ثم عدنا إلى منزلنا مكتئبين لما حدث.

بعد فترة قصيرة حضر إلى مندوب الجزائر في باريس وأخبرني أنه سمع من بعض المترددين على وزارة الداخلية أن ملفي أنا وحسن أبو السعود محل دراسة وأنه يعتقد أنهم سيدبرون لنا أمرًا فاتفقت مع حسن أبو السعود على أن نوقف نشاطنا وخصوصًا أن عطلة الصيف قد قربت وكنا عازمين على قضائها في القاهرة... معًا...

في ذلك الوقت جاءني خطاب من المفتي الحاج أمين الحسيني بأنه سيرسل إلى باريس ممثلاً للهيئة العربية العليا التي يرأسها وسيكون معه خطاب، وطلب مني معاونته في مهمته، وفعلاً حضر بعد ذلك "الدكتور يعقوب خوري" ومعه خطاب المفتي وكنت عرفته في القاهرة أثناء عملي لقضية فلسطين وهو فلسطيني مسيحي يماريس مهنته كطبيب أسنان مقيم بالقاهرة، وكان من مؤيدي الهيئة العربية العليا، وكان المفتي رحمه الله حريصًا على وجود أعضاء مسيحيين ضمن هذه الهيئة التي كان يرأسها، وكان على رأسهم السيد إميل خوري الذي بقى طول حياته إلى جانب الحاج أمين الحسيني.

وصل الدكتور يعقوب خوري واستأجر مكتبًا باسم الهيئة وفهمت أن المفتي يرى أن وجود مسيحيي يمثله في باريس سيكون أكثر نفعًا للقضية، ولذلك سلمته كل شئون الجمعية قبل مغادرتنا إلى القاهرة معًا أنا والدكتور حسن أبو السعود ... وهناك كان ينتظرنا عمل آخر.

دكتور حسن أبو السعود وإبعاده من فرنسا

مشروع قانون لمكافحة الصهيونية في مصر

كان أقرب أصدقائي المصريين في باريس هو زميلي الدكتور "حسن أبو السعود" وكانت معرفتي به قبل البعثة عن طريق أخيه الأستاذ الدكتور "محمود أبو السعود" الذي كان أحد كبار المسئولين في "جماعة الإخوان المسلمين" ورغم أن حسن لم ينضم "للإخوان" إلا إنه كان دائمًا يثني عليهم ويحترمهم ولا يخفي إعجابه بمواقفهم

وكان محمود أكبر منه سنًا، ولذلك فإن حسن كان يعلل عدم انضمامه للإخوان بأن هذا من اختصاص أخيه الأكبر، كأن هناك تفاهمًا بينهما على ألا يتدخل أحد منهما في نطاق اختصاص أخيه، وكان أبوه قاضيًا شرعيًّا بالسودان فترة طويلة وولد "حسن بالسودان"، وكان لوالده أبناء كثيرون وعاش "رحمه الله" حتى دفن ابنه حسن بيديه ونحن في معتقل سجن مصر "قرة ميدان" عام 1956م.

كان حسن أكبر مني بثلاث سنين، وقد تخرج في كلية الحقوق عام 1937م، لكنه عمل في القضاء، ورشحه الدكتور "عبد المعطي خيال" للتدريس في كلية الحقوق ببغداد وانتهز فرصة الترشيحات للبعثة بعد الحرب، فرشحه لدراسة القانون الجنائي، فكان هو الوحيد من بين زملائنا أعضاء البعثة الذي يشاركني هذا التخصص

وكانت له شخصية قوية تجذب إليه جميع أعضاء البعثة وتجعلهم يلتفون حوله ويستعذبون حديثه وقد زادت معرفتنا به في الفترة الطويلة التي قضيناها على ظهر السفينة من بورسعيد إلى مرسيليا، فكنا نلتقي دائمًا على ظهر السفينة نتمتع بشمس الشتاء كلما كان الجو صحوًا، أو في صالونات السفينة عندما تغيم السماء أو تنزل الأمطار، وكان يمتعنا بقراءة القرآن بصوته الرخيم الحنون

وكان يضع يده على خده ويغمض عينيه ويسترسل في التلاوة غير ناظر لمن حوله، وكان أحد الأستاذة الفرنسيين يعشق السماع إليه وهو "يغني بالقرآن" حسب تعبيره، وذات مرة فتح حسن عينيه فوجد المسيو "لوبال" ينصت إليه فأوشك أن يسكت، ولكن الأستاذ الفرنسي قال له أرجوك أن تستمر، كان كل أعضاء البعثة الثلاثين يلجئون إليه لحل أي مشكلة أو معرفة بعض المعلومات؛ لأنه كان أكبرنا سنًا، وأكثرنا خبرة...

في باريس انشغل بدراسته عما كنت أشغل نفسي به من الاتصالات وتحركات لا يعرف عنها شيئًا، إلى أن جاء عبد الرحمن عزام في ربيع عام 1946م فجاء إلي وأخبرني أن أخاه الدكتور محمود "الذي له علاقة بالجامعة العربية" كلمه هاتفيًّا من لندن وأعلمه بموعد وصول عزام لباريس وطلب منه أن يخبرني فذهبنا معًا لاستقباله، ولازمه حسن أبو السعود كسكرتير له طول مدة إقامته

وكنت أتولى الاتصالات مع أعضاء الجالية المصرية وأبناء أفريقيا الشمالية وغيرهم من العرب والمسلمين الذين كان يرغب عزام في رؤيتهم أو يوافق على طلبهم باستقباله لهم، وأذكر أن أول من طلب عزام البحث عنه كان طالبًا ليبيا كان أبوه قد هاجر من ليبيا واستقر في تونس وهو "محيي الدين الفكيني"، ولم أكن قد عرفته أو التقيت به

ولكني استطعت التوصل إليه عن طريق أصدقائي التونسيين وحضر لمقابلة عزام الذي رحب به وحمله رسائل لوالده وغيره من الليبيين عندما أصبح المهاجرين في تونس... وقد التقيت مع الدكتور الفكيني مرة أخرى بعد استقلال ليبيا عندما أصبح رئيس وزرائها وقابلته مرة ثالثة بعد أن ترك الوزارة وكان ذلك في الطريق الصحراوي من القاهرة إلى الإسكندرية في استراحة الطريق، وكان قادمًا من ليبيا بسيارته ومعه أسرته وذاهبًا إلى القاهرة وكنت متوجهًا إلى الإسكندرية...

بعد سفر عزام تكرر لقائي مع حسن أبو السعود وتوثقت علاقاتي به أكثر من ذي قبل، وفي صيف عام 1947م عدت إلى القاهرة لقضاء العطلة بها، وكان الدكتور حسن أبو السعود ممن عادوا في ذلك الصيف، وكانت فترة عطلتي بالقاهرة مملوءة بالنشاط بسبب تابع أحداث المقاومة الفلسطينية ومناقشة قضيتها بهيئة الأمم التي انتهت بصدور قرار التقسيم الذي اعتبرناه كارثة؛

لأنه يدل على نجاح الأمريكان والصهيونية والإنجليز في اتخاذ هيئة الأمم أداة لتنفيذ خططهم، وأكذر أنني قلت لحسن أبو السعود مرة قبل صدور هذا القرار ما رأيه فيما يحدث لو نجح أعداؤنا في مشروع التقسيم، فقال لي بكل هدوء إن صدور القرار أو عدم صدوره لا يغير من الأمر شيئًا؛ لأن المعركة الحقيقية هي في فلسطين لا في نيويورك...

كان مفتي فلسطين قد هرب من فرنسا ولجأ إلى القاهرة في عام 1946م وكان وجود الحاج أمين الحسيني في مصر سببًا في نمو التعاون بين الإخون وبين المقاومة الفلسطينية المسلحة بجميع فصائلها، فكان للإخوان متطوعون هناك، وكانوا في مصر يزودون الجميع بالسلاح الذي برعوا في الحصول عليه من جهات متعددة

وأذكر أنني اطلعت في قسم الاتصالات بالعالم الإسلامي على خطابات متعددة مرسلة من شركات ومكاتب وهيئات كثيرة في أوروبا تعرض على الإخوان صفقات أسلحة وكلها تعرض أن تتولى هي نقلها وتسليمها في أي مكان يحدده المشترون، وكانت مهمتي هي المساهمة في ترجمة تلك الخطابات ولم يكن لي شأن بما يتم بشأنها...

وذات يوم كنت أتابع مناقشة بعض القضايا الجنائية المرفوعة على عدد من المتهمين بالشيوعية وفقًّا لأحكام في القانون الجنائي وضعت لهذا الغرض في عهد إسماعيل صدقي، فخطر لي أن يصدر قانون في مصر لمكافحة ترويج الصهيونية أو التعاون معها؛ لأنني بعد ما تتيعت نشاط الصهيونيين في فرنسا عرفت أن من أهم أساليبهم هو تجنيد مواطني البلد الذي يعملون به لتحقيق أغراضهم، وكنت واثقًا من أن نشاطهم في مصر سيسير في هذا الاتجاه، وقد حصل ذلك فعلاً كما تبين من قضية "لافون" الشهيرة التي شاهدت أحداثها فيما بعد...

كنت على اتصال دائم بصديقي الدكتور حسن أبو السعود فعرضت عليه اقتراحي فتحمس له، ووافق الأستاذ المرشد على أن نقوم بإعداد مسودة للمشروع وأنه سوف يطلب من أحد النواب أن يقدمه للبرلمان، وفعلاً قضينا عدة أيام نعمل معًا في إعداد هذا المشروع ومذكرته الإيضاحية وسلمناه بأمر المرشد الشهيد إلى الأستاذ محمد عبد الرحمن نصير

وكان إذا ذاك عضوًا بالبرلمان ممثلاً للحزب السعدي وإن كان يعتبر نفسه صديقًا للإخوان أو مؤيدًا لهم، وعرفنا أنه قدمه فعلاً إلى رئيس المجلس وأحيل إلى مقبرة هناك تسمى لجنة الاقتراحات وطبعًا لم يتم شيء بشأنه رغم أن بلادنا جميعًا والعالم العربي كله موبوء بعملاء الصهيونية سواء في ميدان الإعلام أو السياحة أو الفن أو السياسة، ولا يوجد أي نص لمقاومة هذا التيار الصهيوني

وعلى العكس من ذلك بدأت كثير من الدول تزود نفسها بترسانة من القوانين الجنائية لمقاومة التيار الإسلامي، وهناك معامل ومراكز أجنبية تزود بعض الحكومات بالمشروعات التي تقاوم بها التيار الإسلامي وكل من يدعو له، ولم يوجد حتى الآن أي نص في أي بلد عربي أو إسلامي يدين الصهيونية أو يعاقب من يعملون لترويجها

بل إن الدول العربية حصلت في فترة من الفترات على قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة الصهيونية على أساس أنها حركة عنصرية، لكن أمريكا انتهزت فرصة المفاوضات التي نظمتها بين العرب وإسرائيل لإلزام الجمعية العامة للأمم المتحدة بإلغاء ذلك القرار بل وصوتت بعض الدول العربية لتأييد هذا الإلغاء...

وأذكر أنني في باريس حصلت على نص بيان لمجموعة من رجال الصحافة والفكر والفن في فرنسا يؤيدون فيه مطالب اليهود في فلسطين، ويدعون الشعب الفرنسي لمساعدة الصهيونية، وأرسلت صورة من هذا البيان الذي يتضمن أسماء الموقعين إلى السيد أسعد داغر رئيس إدارة الصحافة بالجامعة العربية، وطلبت منه أن تتولى الجامعة الاتصال بالحكومات العربية لتتخذ إجراءات معينة تشعر هؤلاء الموقعين بأن عملهم هذا فيه استفزاز للدول العربية وتحد لها

وعقب ذلك مباشرة نشرت الصحف أن أحد هؤلاء الموقعين على البيان ولا أذكر اسمه الآن مدعو إلى مصر لإلقاء محاضرات أو القيام بنشاط ثقافي، فكررت مطالبتي للجامعة العربية ومع ذلك لم يكن لهذا الطلب أي نتيجة، وهناك أمثلة كثيرة لمثل هذه الرحلات يقدمها اليهود لمن يساعدونهم ليؤكدوا لهم أن التعاون معم لا يؤثر في مصالحهم مع العرب، بل في كثير من الحالات يكون مفيدًا لهم؛

لأن الصهيونيين عندهم "لوبي" في كل بلد عربي يسخرونه للحصول على مكافآت ومزايا لمن يؤيدونهم من بعض الجهات العربية التي ليس لديها أي جهاز لمتابعة ناشطات الجماعات الصهيونية والهيئات والأفراد المؤيدين لها، مما جعلهم يصدقون الدعاية الصهيونية بأن التعامل معهم وتأييدهم لها يجلب لهم منافع في البلاد العربية ولا يسبب لهم أي خسارة... وهذا يصدق على الدول الأجنبية كلها

فإنه لا توجد دولة واحدة أيدت الصهيونية وشعرت بأن مصالحها في العالم العربي قد تضررت بذلك قط، وأن تصريحات الزعماء والحكام وصراخ الصحافة والمظاهرات الشعبية شيء والمصالح الفعلية وخصوصًا الاقتصادية والسياسية والعسكرية شيء آخر لا يرتبط بها بقدر ما يرتبط بتأثير اللوبي الصهيوني ونفوذه لدى كثير من المسئولين في العالم العربي...

إن دفن مشروعنا لإصدار قانون لمكافحة الصهيونية كان في نظري دليلاً وضاحًا على مدى تأثير اللوبي الصهيوني في جميع الحكومات والمجالس النيابية والأحزاب السياسية سواء كان ذلك بطريق مباشر أو عن طريق الشركات والمنافع المالية والاقتصادية ونوادي الماسونية وما يتفرع منها مثل "الروتاري" و"لويدز" وغيرها...

إن هذه الحقائق المؤلمة لم تكن واضحة في ذهني خلال العطلة التي قضيناها في القاهرة أنا وحسن أبو السعود، بل عدنا إلى باريس متفائلين متحمسين لمتابعة نشاطنا آملين أن يصلنا من القاهرة نبأ صدور قانون لمكافحة الصهيونية بإجماع أصوات البرلمانيين على اختلاف اتجاهاتهم وأحزابهم... أما في باريس فقد اعتمدنا على نشاط مندوب الهيئة العربية العليا بشأن قضية فلسطين واتجه الدكتور أبو السعود للمسارعة في إعداد رسالته واتجهت أنا إلى قضية الجزائر وشمال أفريقيا...

ومع ذلك تكررت تحذيرات إخواني من الجزائريين بأن شيئًا يدبر لنا، فأبلغت أخي حسن أبو السعود الذي كان مستغرقًا في إعداد رسالته، وقررت أن آخذ احتياطاتي فانتهزت فرصة إعلان عن رحلة تنظمها إحدى الهيئات إلى بروكسل واشتركت فيها "في عيد الفصح" وقضيت عطلة عيد الفصح في عاصمة بلجيكا، وتخلفت في نهاية الرحلة لأذهب إلى جامعة بروكسل وكلية الحقوق بها

وقابلت عميدها وشرحت له أنني كنت موجهًا في الأصل لدراسة القانون الجنائي لديهم ولكنني فضلت تحويلها إلى باريس لأكون بصحبة زملائي وإنني الآن أعتقد أن في مصلحتي أن أتمم رسالتي في بلجيكا إذا كانوا مستعدين للاعتراف بالدبلومات التي حصلت عليها من باريس، فأحالني إلى رئيس قسم القانون الجنائي بالجامعة ولا أذكر اسمه الآن، وقابلته فرحب بي ترحيبًا كبيرًا

وقال: إنه يحب مصر والمصريين لأنه كان قاضيًا في المحاكم المختلطة عندنا، وأكد لي أنني إذا رغبت في الانتقال إليهم فإنه سيقدم لي جميع التسهيلات، وسوف يشرف على رسالتي وشجعني على ذلك، ووعدته بأن أكتب له في الوقت المناسب، وكان الوقت مناسبًا في نظري عندما يقرر الفرنسيون إخراجي من فرنسا.

لكن بمجرد وصولي لباريس عائدًا من بروكسل جاءت المفاجأة التي كنت أخشاها وهي أن أخي حسن أبو السعود وقع في فخ نصبته له "المخابرات الفرنسية" ... كان الدكتور حسن أبو السعود أثناء عطلته في مصر على اتصال دائم بي، وكنت أذكر له شيئًا عن الخطابات التي ترد من الخارج وفيها عروض لبيع السلاح للمقاومة الفلسطينية والمتطوعين الإخوان

ولم نكن نعطي لهذا الموضوع اهتمامًا كبيرًا لأنه ليس من اختصاصنا لكنه في باريس كان يحيط نفسه بحاشية من المصريين والفرنسيين يأنسون له ويتمتعون بحديثه وكان يسكن في أحد منازل الحي الجامعي هو مبنى الأقاليم الفرنسية، وكانت إدارة المنزل والمدينة الجامعية يعطونه رعاية خاصة بناء على توصية "المسيو لوبال" من الأساتذة الفرنسيين الذين كانوا معنا على السفينة

وكان يجيد عمل القهوة التركية لكل من يزورونه، ومن سوء حظه أن أحد الفرنسيين الذين تعرفوا عليه أغراه بمقابلة مندوب ادعى أنه يمثل إحدى الشركات التي ترغب في توريد أسلحة للمقاومة الفلسطينية عن طريق الجامعة العربية، خصوصًا أنهم عرفوا أنه كان مرافقًا لعزام باشا في زيارته لباريس، وكان هذا المندوب المزعوم عميلاً للاستخبارات الفرنسية وأعطاه موعدًا في مقهى السلام بميدان الأوبرا

وذهب إليه حسن أبو السعود وجلس معه هناك فسجل له كلمات تغضب الفرنسيين، وفي اليوم التالي جاءه مندوب يستدعيه إلى قسم الشرطة فذهب معه، وتصادف أن لقيه أحد زملائنا وكان الدكتور سعد زغلول فعرف منه أنه مستدعي لقسم الشرطة وأنه يشك في الأمر، فحضر إلي الدكتور سعد زغلول ولما تأخر حسن في العودة قلقنا وأبلغنا السفارة المصرية، ولم نكن نعرف أين نجده ولا كيف نستدل عليه...

وفي ساعة متأخرة تمكن حسن من إعطاء أرقام هواتف بعض أصدقائه لأحد المسجونين الجزائريين الذي تصادف وجوده معه في سجن الاستقبال المعروف في باريس باسم "La sante" واتصل هذا الجزائري وأبلغنا بمكان اعتقال الدكتور أبو السعود دون أن نعرف عنه شيئًا، ولا أن نعلم كيف ولا من أين اتصل بنا، وفعلاً تبين للسفارة المصرية أن حسن أبو السعود معتقل في هذا السجن لابعاده من فرنسا...

وكان من حسن الحظ أن وزير خارجية مصر وصل باريس في ذلك اليوم وهو المرحوم "خشبة باشا" فتدخل لدى وزير الخارجية الفرنسي الذي وعده بالإفراج عن حسن أبو السعود وتأجيل إبعاده شهرين حتى ينتهي من مناقشة رسالته التي كان قد أتمها، ثم مدد الأجل بعد ذلك وخرج حسن أبو السعود بعد ذلك من فرنسا بعد أن حصل على الدكتوراه

لكنه خرج مبعدًا، وبقي أثر هذا القرار عقبة في سبيل دخوله إلى فرنسا حتى جاءت حركة الجيش وعين وكيلاً لوزارة الإرشاد وأخبرني أنه التقى مع السفير الفرنسي في إحدى الحفلات وأخبره بالموضوع وأنه اتصل به فيما بعد وأبلغه بأن الأمر قد سوى نهائيًّا، ولكنه رحمه الله توفي قبل أن يرى فرنسا مرة ثانية...

ولا أنسى يوم علمت بوفاة صديقي المرحوم حسن أبو السعود في أوائل عام 1956م عندما كنت معتقلاً في سجن مصر وكان أخوه المرحوم محمود أبو السعود معتقلاً معي، وفوجئت باستدعائه للإدارة وعاد ليخطرني بأنهم أبلغوه بالوفاة المفاجئة لأخيه الدكتور حسن نتيجة ذبحة صدرية مفاجئة رغم ما كان يبدو عليه من صحة جيدة...

وبسبب وفاة المرحوم الدكتور حسن أفرج عن الدكتور محمود، وبقينا نحن في سجن مصر... كان آخر لقاء لي مع صديقي المرحوم حسن أبو السعود قبل وفاته بشهور معدودة في جلسة المحكمة العسكرية التي حاكمتني، ووجدته بجانبي يدافع عني رغم أن كثيرين من زملائي تخلوا عني، رحمه الله وجعل الجنة مثواه...

صورة شهيد جزائري

أذكر حادثة لها مغزى كبير في عام 1947م: لما بدأت الحرب في فلسطين بدخول الجيوش العربية والتحامها مع العصابات الصهيونية، أصدرت هيئة الأمم بالتواطؤ مع أمريكا وحلفائها الغربيين قرارًا بوقف القتال وكان الهدف من وقف القتال إعطاء اليهود فرصة لترتيب شئونهم واحتلال أكبر قدر ممكن من فلسطين وإعطاء الإنجليز فرصة للضغط على الحكومات العربية لدفعها إلى الانسحاب...

كان أول ما تضمنه قرار وقف إطلاق النار فرض حظر على توريد الأسلحة إلى دول المنطقة ابتداءً من موعد معين، في ذلك الوقت كانوا يعرفون أن الدول العربية لم يكن عندها أسلحة كافية، وسارعت بريطانيا التي كانت المورد الرئيس لها إلى وقف شحن الأسلحة للبلاد العربية، أما اليهود فكان عندهم الترتيبات لتخزين الأسلحة والحصول عليها بطرق غير رسمية من مصادر أخرى؛

لأنهم كانوا عصابات قبل أن يكونوا دولة معترفًا بها، فلم يتأثروا من الحظر، وكانت الحكومة اللبنانية لها علاقة وثيقة بفرنسا التي باعت لها شحنة من الأسلحة كانت معدة لشحنها إلى لبنان وقد اتصل بي السفير اللبناني الشيخ أحمد الداعوق وكان من اللبنانيين المسلمين المعروفين ومن أسرة كبيرة، وقال لي إنني أريدك في أمر عاجل جدًا

ولما ذهبت إليه قال لي أريد مساعدتك في أمر هام هو أن شحنة أسلحة اشتريناها من فرنسا موجودة الآن في الميناء في مرسيليا، ويجب شحنها قبل اليوم المحدد من قبل هيئة الأمم لمنع تزويد الدول العربية بالسلاح، والحكومة الفرنسية معنا، ولكن اليهود لهم نفوذ في النقابات فحرضوا العمال على الامتناع عن شحن هذه الأسلحة وأصدرت النقابات قرارًا يلزم العمال بالامتناع عن شحنها

وهي ملقاة الآن في ميناء مرسيليا وليس أمامنا إلا (48) ساعة لوضعها في السفن فإذا لم توضع فإن الحكومة الفرنسية ملزمة بأن تستردها ولا ترسلها، قلت له ماذا تريد أن أفعل؟ قال إن هناك عمالاً كثيرين من الجزائريين والمغاربة في مرسيليا وإذا استطعت أن تحضر معي لإقناعهم بأن هذه قضية عربية وإسلامية وتطلب منهم أن يتصدوا للنقابات ويخالفوا قرارها الذي يلزمهم بالإضراب عن شحن هذه الصناديق تكون قد أديت لنا خدمة كبيرة

ولبنان ستعترف لك بهذا الفضل، فاتصلت فورًا بمندوب حزب الشعب الجزائري بباريس في ذلك الوقت، وطلبت منه أن يقوم بهذه المهمة مع السفير، ورحب واتصل بأصحابه هاتفيًّا في مرسليا فورًا، وذهب مع السفير بسيارته ليلاً حتى وصلوا إلى مرسيليا في الصباح وفي الساعة الثامنة صباحًا قبل أن يفيق أي أحد كان العمال الجزائريين محتشدين في الميناء ويحملون الصناديق إلى السفينة مخالفين قرار النقابات وتحدوا المسئولين عن النقابة

وتصدوا لمن يعارضهم بالأسلحة والسكاكين، وكان معروفًا أن مسألة السكاكين عندهم سهلة جدًا، وطردوا العمال الذين كانوا يمثلون النقابات أو يريدون أن ينفذوا قرار النقابة، وتم الشحن قبل الموعد المحدد له، وعاد السفير اللبناني إلى باريس سعيدًا، وقال لي: إنني أريد أن أكافئ إخواني الجزائريين فماذا تقترح لهذا، فقلت له: إن الجزائريين قاموا بهذا بسبب حماسهم لقضية فلسطين فالمكافأة التي ينتظرونها هي معاونتكم للفلسطينيين في جهادهم البطولي...

ولكي نعرف الفرق بين موقف الأفراد والشعوب، وسياسة بعض الدول والحكومات أذكر أنه بعد هذه الحادثة التي وقف فيها هؤلاء الجزائريون هذا الموقف البطولي، حضر إلى غرفتي بالمدينة الجامعية أحد هؤلاء العمال الجزائريين وقال لي: إنني أعمل في فرنسا منذ بضع سنوات، وقد سئمت الحياة مع هؤلاء الفرنسيين

وفكرت في أن أبحث عن بلد عربي أعيش فيه بين المسلمين، وكل ما ادخرته من مال دفعته إلى أحد المكاتب الذي ينظم رحلات الحج إلى الأراضي المقدسة، فهل تستطيع أن تجد بلدًا عربيًّا تسمح لي بالإقامة فيه بعد الحج وأنا على أتم الاستعداد لكي أقوم بأي عمل من الأعمال فقد مارست مهنا كثيرة وما زلت مستعدًا لأتعلم أي مهنة أو أؤدي أي عمل...

عند ذلك تذكرت مقالة السفير اللبناني عن رغبته في مكافأة الجزائريين لما أظهروه من حماس لتحدي النقابات الفرنسية التي أمرت بعدم شحن الأسلحة إلى لبنان وما قدموه لحكومة بلاده من خدمة لا تنسى، وتوجهت له فورًا وعرضت عليه مطلب هذا الشاب، فرد علي بالأسف الشديد لأن مسألة الإقامة في لبنان ليست في يده ولا يستطيع أن يساعد فيها

ولكن كل ما يمكنه عمله هو أن يعطيه خطابًا إلى رئيس شرطة الميناء في بيروت لكي يسهل التوجه إلى سوريا حيث يكون أمامه فرصة أكبر للإقامة هناك، وأخذت منه الخطاب وسلمته لصديقنا الجزائري الذي وعد بالذهاب إلى مرسيليا حيث يستقل سفينة تحمله إلى بيروت وهناك سيأخذ سفينة تركية للحجاج قادمة من الأناضول متجهة إلى جدة وفي العودة بعد الحج سينزل في بيروت ويذهب إلى سوريا...

بعد أسبوعين فقط من سفر هذا الصديق، وقبل أن ينتهي موسم الحج فوجئت به يدق علي الغرفة ودهشت لسرعة عودته، وقال لي: إن الحج ضاع عليه؛ لأن السفينة التي حمتله من مرسيليا إلى بيروت مرت بالإسكندرية وتوقفت هناك مدة، ولما وصلوا إلى بيروت أعلنوهم بأنه لا يسمح لهم بالنزول إلى الشاطئ؛

لأن السفينة التركية التي كانوا سيركبونها إلى جدة قد غادرت الميناء قبل وصولهم، وعليهم أن يعودوا على السفينة التي جاءوا بها من حيث أتوا، ولما سألته لماذا لم يتوجه بالخطاب إلى رئيس الشرطة، قال إن البولي منعهم من النزول إلى الميناء حتى بقصد النزهة والسياحة، وذلك لأنه كان على السفينة نعش قالوا إن به جثمان الأمير شكيب أرسلان

وكان يحيط به عدد كبير على السفينة وعدد أكبر على الشاطئ ينتظرونه وأن ضابط الشرطة بالميناء أمر بمنع نزول ركاب الترانزيت "وهو منهم" إلى الشاطئ دون سبب يفهمونه رغم إلحاحه وإلحاح زملائه الذين كانوا متوجهين معه للحج، وفاتهم الحج وفرض عليهم العودة على نفس السفينة التي جاءوا بها من مرسيليا...

لقد تألمت جدًا لما سمعته عن مغامرات هذا العامل الجزائري الشاب، وما أصابه من إحباط رغم أنه كان عندي أمل كبير في أن أسهل له مشروعه، وكان عندي أ/ل في أن هذه المساعدة كانت أقل ما كان يجب على سفير الدولة التي قدم لها الجزائريون هذه الخدمة الجليلة، رغم أن السفير كان رجلاً طيبًا وعميق الإيمان، وكان صادقًا في رغبته في المساعدة...

ولما رأى الشاب ما أصابني من ألم قال لي: إنني غير نادم على قيام بهذه الرحلة، يكفي أنني عندما رست بنا السفينة في ميناء الإسكندرية سمعت أذان الفجر في جوف الليل من مآذن هذا البلد المسلم، وهذا هو الشيء الوحيد الذي استفدته من الرحلة، لقد كنت أمني نفسي بأن أعيش في بلد إسلامي حر مستقل أسمع فيه هذا الأذان بعد أن سئمة المعيشة في فرنسا، وما زال عندي أمل أن يتم ذلك في يوم من الأيام، قلت له يأ أخي إن الطريق إلى بلاد الإسلام وإلى الإسلام ذاته وإلى الحرية والاستقلال يمر بميدان الجهاد ضد الاستعمار في الجزائر، وإن هذا المؤذن لم يكن يدعوك للإقامة في بلد معين، ولكنه كان يدعوك إلى الجهاد في سبيل الله وفي سبيل شعبك واستقلال بلادك...

بقي هذا الشاب يتردد علي إلى أن عاد إلى الجزائر، وعدت إلى مصر، وبعد ذلك علمت أنه كان من أوائل الذين استشهدوا في ميادين الجهاد أثناء الثورة الجزائرية... ليس هذا الشهيد إلا نموذجًا لآلاف المجاهدين من المؤمنين الذين بذلوا أرواحهم في مقاومة الاحتلال الأجنبي، إنهم كانوا مجاهدين في سبيل الله مدافعين عن الإسلام ودار الإسلام...

إن شعوب شمال أفريقيا لا تفصل بين الإسلام والعروبة، بل إن الاستعمار الفرنسي نفسه يخلط بين الأمرين، فكلمة عربي ومسلم مترادفتان في كتابات المستشرقين ورجال الفكر والسياسة الاستعمارية وعندما كانوا يحتلون تلك البلاد لم يكونوا يصفون الأهالي بأنهم مغاربة أو جزائريون أو تونسيون، بل يسمونهم المسلمين وكذلك كان الأهالي المسلمون لا يصفون الفرنسيين إلا بوصف واحد هو أنهم النصارى

وكذلك كانوا يصفون الأسبان والبرتغاليين منذ بدأت غاراتهم الاستعمارية على شواطئ أفريقيا الشمالية بعد أن لجأ إليها مسلمو الأندلس الذين فروا من حملات الإبادة التي واجهوها في الأندلس بعد استيلاء الأسبان عليها، ولذلك فإن كفاحهم الوطني كان وما يزال في نظرهم جميعًا جهادًا إسلاميًّا ضد الاستعمار والعدوان الأوربي الذين كانوا يعتبرونه تكرارًا للحملات الصليبية، وما زالوا حتى الآن يعتبرون سياسة الدول الأوربية المعادية للإسلام سياسة صليبية...

ولذلك فإن من يتخذون الشعارات الوطنية ستارًا لسياسة التبعية للقوى الأجنبية يجدون صعوبة كبيرة في إقناع الجماهير بالسير في طريق المهادنة مع الدولة المعادية للإسلام التي تستخدم نفوذها لدعم النظم الوطنية التي تسير نحو التنكر للإسلام واضطهاد الحركات الإسلامية في هذه الأقطار... وفي هذه الفترة عرفني أحد الطلبة التونسيين بعالم تونسي كبير هو الأستاذ الشيخ الفاضل بن عاشور الذي كان يزور مصر كثيرًا، وكان في طريقه عائدًا من مصر، وجلسنا معه مرارًا وشكا من الأحوال في تونس وأبدى شكوكه في مستقبل تونس فيما يتعلق بمن يتزعمون الحزب الدستوري الجديد وبالسيد الحبيب بورقيبه بالذات

وتمنى أن توجد في تونس حركة مماثلة للإخوان المسلمين، ويرى أن تبدأ كفاحها في تونس على الأصول الإسلامية على يد شباب من التونسيين المخلصين، وأعرب عن أمله في أن يرسل الغخوان دعاة إلى تونس وتمنى أن أستطيع زيارة تونس أثناء إقامتي في باريس حيث أن الطريق من هنا مفتوح على حد قوله ووعد بأن يساعد من يرسله الإخوان من الدعاة

ويساعدني أيضًا إذا ذهبت إلى تونس بأن يعرفني ببعض تلاميذه وطلبته الذين يتمنون السير في هذا الاتجاه الإسلامي الأصيل وهنا أيد صديقي هذا الاقتراح وقال: إنكم يجب ألا تنحصروا في مصر وفلسطين بل لابد من الاهتمام بأفريقيا الشمالية وقلت له: إن مهمتي هي التعاون مع الأحزاب الوطنية، أما تربية الشباب وتكوينها سواء في مصر أو غيرها، فهي من اختصاص قسم الدعوة

فقال: إن واجب الإخوان الأول دعوتهم في جميع البلاد العربية والإسلامية بلا استثناء، وإن تعاونهم مع الأحزاب الوطنية ليس معناه ألا يكون لديهم دعاة في كل البلاد، وقلت له إنني أعتقد أن هذا هو المبدأ الذي سار عليه الإخوان، كل ما هنالك أنهم قرروا أن يكون عمل الدعاة من اختصاص المركز العام في مصر

وألا يتدخل فيه من يكلفون بمهمات خاصة مثل التعاون مع الأحزاب الوطنية أمثالي وأن تكون مهمة هؤلاء هي إقناع ممثلي الأحزاب الوطنية وقادتها بأنه لا تعارض مطلقًا بين تعاون الإخوان معهم في عملهم الوطني وبين قيام دعاتهم بنشر الفكر الإسلامي وتدعيم التيار الإسلامي في المجتمع وخاصة في أوساط الشباب والطلاب.

أمير البيان "شكيب أرسلان" مفجر الحركة الوطنية المغربية

أمير البيان "شكيب أرسلان" مفجر الحركة الوطنية المغربية لمقاومة السياسة البربرية الفرنسية

في أحد لقاءاتي مع "مصالي حاج" 1946م بادرني بقوله إنه يريد مني خدمة عاجلة هي أن أكتب على لسانه خطابًا بالعربية إلى الأمير شكيب أرسلان في سويسرا يبلغه فيه تحياته وتمنياته ورغبته في أن يزوره في أقرب فرصة ممكنة متى استرد حريته في الحركة إذ إنه ما زال تحت الإقامة الجبرية وقص علي قصة أول لقاء له معه، حيثتوجه إليه مع بعض رفاقه وزاروه في منزله بعد أن علموا باتصاله مع بعض رجال المغرب الأقصى، وما نشره من مقالات ضد الظهير البربري الذي أصدرته الإدارة الفرنسية بالمغرب قصد حرمان البربر من تطبيق الشريعة من تعلم اللغة العربية

وخطتهم لإحياء اللغات واللهجات البربرية وتحويلها إلى لغة قومية تمهيدًا لإيجاد ما يسمونه قومية بربرية منفصلة عن الإسلام ذاته ومناقضة لقومية أخرى يسمونها القومية العربية يحاولون أن يجعلوها كذلك منفصلة عن الإسلام مثل ما فعله الكماليون في تركيا عندما تخلوا عن الإسلام كدين للدولة وأنشئوا لأنفسهم قومية تركية لا دينية ودولة علمانية...

قال لي إنه سعد كثيرًا بالحديث مع هذا الأمير الشرقي الذي يعيش في منفاه بأوروبا وأن لقاءه معه كان نقطة تحول في حياته؛ لأنها وجهته للتحول من العمل النقابي إلى الكفاح الوطني، على أساس أولوية الواجب الديني للدفاع عن الإسلام على العمل النقابي؛ لأن الاستعمار إنما يهدد الإسلام في بلاده، وليس فقط حقوق الأفراد، قال إنه كشف له أن العقيدة الإسلامية هي مصدر القوة ومنبع الطاقة الهائلة التي تمكن شعبنا من النصر على الاستعمار وإنها هي الضمان الوحيد لصمودنا وثباتنا واستعدادنًا للبذل، وصبرنا على المحن حتى يمن الله علينا بالنصر أو الشهادة...

ولقد قال لي: إنه منذ ذلك التاريخ بدأ بإنشاء جمعية نجم أفريقيا للدفاع عن الإسلام فيها جميعًا، وكان يبعث للأمير بتحياته من حين لآخر مع بعض المسافرين إلى سويسرا وأكثرهم كانوا من أبناء المغرب الأقصى الذين أيقظت كتاباته فيهم روح المقاومة للسياسة الاستعمارية الفرنسية، بعد أن كشف لهم بكتاباته ورسائله أن فرنسا تخطط للهجوم على الإسلام واقتلاع عقيدته وشريعته من شمال أفريقيا لتكون أرضًا جرداء تغرقها فرنسا بلغتها وثقافتها بعد أن سيطرت عليها بجيوشها وإدارتها...

لقد كتبت الرسالة للأمير ووقعها مصالي حاج وأضاف لها عبارات فرنسية بخطه، وحصلت على عنوان الأمير شكيب من إحدى السفارات العربية بباريس، وأرسلتها إليه، وبها خطاب آخر عرفته فيه بنفسي وبأنني من الإخوان المسلمين بمصر، وأنني متشوق لزيارته والتعرف به وفوجئت بعد أسبوعين برسالة منه باللغة العربية مكونة من ثلاث صفحات يفيدني بتسلم رسالتي ورسالة مصالي، وبما علمه من عودة مصالي حاج، واحتمال زيارته له ويوصيه فيها بمتابعة الاتصال به وإبلاغ تحياته إلى جميع المجاهدين من أبناء الجزائر والمغرب الأقصى الذين يتابعون الاتصال به والكتابة إليه، وكان معها رده على رسال مصالي أوصلته إليه...

ولقد قال لي مصالح حاج إنه مقتنع بأن ما بدأه الفرنسيون في المغرب باسم السياسة البربرية التي وضعوا قواعدها في هذا الظهير المشئوم الذي أصدروه عام 1930م ليس إلا نتيجة تجاربهم التي بدءوها في الجزائر التي تعمل الإدارة الاستعمارية فيها على تشويه صورة الإسلام وتعطيل أحكامه وعزل المجتمع كله عن شريعته وقرآن ولغته العربية وما زالا يسيرون على هذا المنهج، وإن كانوا يتفادون ذكر كلمة القومية البربرية أو العربية الآن؛ لأنهم يخططون لادماج الجميع في القومية الفرنسية باعتبار الجزائر امتدادًا لفرنسا وراء البحار...

ومنذ ذلك التاريخ تابعت تطور السياسة البربرية التي تسير عليها فرنسا وتأكد لي أنها ما زالت تسير عليها حتى بعد استقلال تلك البلاد، بل إنها زادت ورصدت لها أموالاً باهظة تغري بها بعض ضعاف النفوس من المثقفين بالثقافة الفرنسية الذين لا يعرفون كثيرًا عن الإسلام ولا عن اللغة العربية، وأصبحت اللغة والثقافة الفرنسية هي أداة السياسة البربرية وطريقا لها؛

لأن التعليم الفرنسي قد أنشأ أجيالاً ممن لا يعرفون اللغة العربية ولا يحصلون على قدر كاف من ثقافة الإسلام وعقيدته، وعندما تصبح اللغة الفرنسية لغة ثقافتهم وتفكيرهم يعتزون بها ويبدءون بالتحيز لها ضد الثقافة العربية؛ ولذلك فإن عملاء فرنسا عندما يدعون البربر للتشبث بلغتهم ولهجاتهم، يدعونهم لكتابتها بالحروب اللاتينية ويدعون للثقافة الفرنسية وقد استعدت فرنسا لذلك بتخصيص عدد من مفكريها وعلمائها لدراسة تلك اللهجات وإعداد قواميس لها وكتب لتعلمها بالحروف اللاتينية...

وأذكر أنني أثناء سيري على شاطئ نهر السين في باريس أتسلى بالوقوف أمام الأكشاك المنتشرة على سوره لبيع الكتب المستعملة والمستحدثة، فوجئت بكتاب ضخم مطبوع طباعة جيدة وعنوانه "قاموس اللغة الشاوية" وكان معي صديقي سألني ما إذا كنت من الناطقين بهذه اللغة الشاوية وعن انتمائي لهذه القبائل الشاوية وما زال كثيرون يوجهون لي هذا السؤال في الجزائر نفسها، وفي المغرب كذلك، حيث يوجد إقليم كبير يسمى إقليم الشاوية جنوب الدار البيضاء...

وطوال مدة إقامتي في فرنسا، وفي المغرب أو الجزائر بعد ذلك كان كثيرون ممن أتعرف عليهم يعاملونني في أول الأمر على أنني من المنتمين إلى قبائل الشاوية وإقليمها في الجزائر أو المغرب وتكرر ذلك حتى كدت أن أقتنع شخصيًّا بهذا الانتماء، وزاد في هذا الشعور أن الدكتور المهدي بن عبود كان من أعز أصدقائي المغاربة، وكان دائمًا يناديني يا خالي، ويقول لي أنا مصر على مناداتك بهذه الصفة لأن أمي شاوية...

وحدث أثناء إقامتي بالمغرب أنني كنت متجهًا مع أحد الأصدقاء بالسيارة من الدار البيضاء إلى مراكش خلال إقليم الشاوية، وبعد اجتياز هذا الإقليم فوجئت بلافتة تشير إلى الرحامنة فسألت عنها فقال لي إنها إحدى قبائل البربر فأبديت دهشتي لأن القرية المجاورة لنا في ريف دمياط وفارسكور بمصر تسمى قرية الرحامنة، وما زالت تحمل هذا الاسم حتى الآن ومنذ ذلك التاريخ لم أعد أستبعد وجود علاقة بين أسرتي في مصر وقبائل الشاوية في شمال أفريقيا...

مما يؤسف له أنني لم يتح لي زيارة الأمير شكيب قبل وفاته، ولم أتمتع بالحديث معه، وأن مصالي نفسه لم يتمكن من زيارته بعد ذلك؛ لأنه بقى طول حياته تحت الإقامة الجبرية منذ خرج من سجن لامبيز إلى حين وفاته في فرنسا دون أن يسمح له بالعودة للجزائر... وفي عام 1947م قررت سوريا إعادة جثمان الأمير شكيب أرسلان من المقبرة التي دفن فيها في سويسرا ليودع في مقبرة تليق به في وطنه تكريمًا له، وأخبرني أحد الجزائريين الذين سافروا من مرسيليا إلى بيروت بإحدى السفن الفرنسية أنه علم من ركاب السفينة أنها تحمل رفات الأمير شكيب أرسلان...

إن دور الأمير شكيب أرسلان في إنشاء الحركة الوطنية بالمغرب الأقصى والجزائر هو نموذج للدور الذي قام به الإسلاميون، وذوو الثقافة العربية والإسلامية الذين تعاون معهم الإخوان في بعث روح الجهاد ضد الاستعمار في جميع الأقطار العربية والإسلامية، وإذا كانت بعض الحركات الوطنية قد أخذت صورة أحزاب عصرية في هذه الأقطار فإن الجماهير التي أيدتها لم تكن تعتبر الوطنية إلا إنها فريض توجبها العقيدة والشريعة الإسلامية

وكان ذلك دليلاً على أن هذا الفكر قادر على التلاؤم مع الظروف التاريخية التي فرضت التجزئة على أقطار العالم العربي والإسلامي وشعوبه، وإذا كان هناك انتهازيون قد رفعوا شعارات وطنية أو قومية منفصلة أو معارضة للإسلام بل إن بعضهم اتخذوها شعارًا لمقاومة التيار الإسلامي في بلادهم بعد الاستقلال كما حدث في تونس فإن ذلك لم يخدع الشعوب عن أصالتها وهويتها الإسلامية، والصحوة الإسلامية الحالية في جميع أقطارنا أكبر دليل على ذلك...

لقد قمت بزيارة إلى تونس في صيف عام 1948م وهي البلد الوحيد في شمال أفريقيا التي استطعت دخولها بدون تأشيرة، وكانت مجازفة ومخاطرة كبيرة سأذكر قصتها فيما بعد، لكن يكفي هنا أنني خرجت بيقين واضح هو أن بورقيبه وبعض قادة حزبه يسيرون في اتجاه بعيد عن الفكر الإسلامي، وأن التيار الإسلامي يجب أن يبدأ في تونس خارج ذلك الحزب، وسوف يحظى بتأييد كامل من جماهير الشعب التونسي عندما يكتشف حقيقة الاتجاه اللاديني والعلماني لبورقيبه وحزبه صحيح أن بورقيبه وحزبه نجحوا في القضاء على حزب الدستور القديم وقياداته التي كانت تضم علماء من جامعة الزيتونة ذوي الثقافة العربية والإسلامية

لكن جيلاً جديدًا من شباب التيار الإسلامي الذين تتلمذوا على الحركة الإسلامية في مصر وسوريا الذين أنشئوا تنظيمًا جديدًا على نمط الإخوان المسلمين يحمل اسم الاتجاه الإسلامي، وحركة النهضة التي تحظى بتأييد كامل من جماهير الشعب التونسي، ومعنى ذلك أن منظمات الإخوان المسلمين في مصر وسوريا أتمت ما بدأه الأمير شكيب أرسلان في توجيه الحركة الوطنية في شمال أفريقيا نحو الجهاد الإسلامي...

والمشكلة التي تواجهها شعوبنا الآن هي الانفصال الذي أبعد الحكومات والأحزاب الوطنية القطرية عن التيار الإسلامي إلى حد أن بعض أقطارنا المستقلة أصبحت ميدانًا لمعركة عنيفة بين حكام يرفعون شعارات وطنية وبين جيل من الإسلاميين يصرون على مواصلة الجهاد الإسلامي ويطلبون الشهادة في سبيل الله –عز وجل...

بعض الوطنيين الذين وصلوا إلى السلطة في بلادنا "بطريق مشروع أو غير مشروع" يعتبرون أن الكفاح الوطني والجهاد الإسلامي قد انتهى عهدهما بإعلان الاستقلال ولكن الشباب الذين يرفعون شعارات الجهاد الإسلامي يرون أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة وأن من يعملون للإسلام ويموتون في سبيله عليهم أن يواصلوا تضحياتهم في مقاومة كل من يقفون في وجه التيار الإسلامي...

والمأساة التي نشكو منها في بعض أقطارنا أن فريقًا من الحكام يعلنون أن هدفهم هو اقتلاع الفكر الإسلامي وإبادة من يرفعون شعارات إسلامية أو يطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية، وهم بهذا يفرضون على جيل من الشباب أن يتصدى لهم ويعتبر مقاومتهم أول أهداف الجهاد الذي يؤمنون به، وهذه هي الفتنة الداخلية التي لابد من اقتلاع جذورها... فهل هناك طريق لذلك؛ وهل تستطيع شعوبنا أن تستعيد وحدتها وتوجه كل قواها ضد العدو الأجنبي وتتجاوز مرحلة الفتن الداخلية التي تستنزف طاقاتها وتعطل مسيرتها نحو الوحدة والنهضة الشاملة؟!!

الحركة الإسلامية في ميادين الكفاح الوطني

كانت الحركة الإسلامية سابقة على الاحتلال الأجنبي، وكان هدفها الأول إصلاح مجتمعنا وتطهيره من عوامل التخلف والفساد السياسي والخلقي والعجز الاقتصادي والعسكري الذي شجع الاستعمار على مهاجمة أقطارنا ومكنه من احتلالها؛ ولذلك كانت بدايتها حركة إصلاحية داخلية في أهدافها وغاياتها وما زالت بعض الحركات الإسلامية في أقطار معينة ترفع شعار الإصلاح الاجتماعي "كما في الكويت والإمارات بل وفي الجزائر" وتتميز بأنها تصر على أنها دعوة إسلامية وتتفادى صفة الحزب أو الحركة السياسية...

الأصل إذن في الإصلاح الاجتماعي أنه هو المهمة الأولى للحركة الإسلامية في بلاد لها كيان سياسي مستقل يسمح للشعوب بالاعتماد على الدولة القائمة في مواجهة الخطر الأجنبي والتهديد الاستعماري، وهذا الإصلاح يتركز حول تطهير العقيدة من الخرافات وعوامل الشعوذة والتخلف، وأحسن نماذج هذا النوع هو الدعوة الوهابية بسبب تحالفها مع الدولة السعودية الذي يقضي بأن تترك لها العمل السياسي...

أما في البلاد التي واجهت الاحتلال الأجنبي أو السيطرة الاستعمارية فإننا نرى الحركة الإسلامية تتجه إلى الجهاد ضد العدو لمقاومة الغزو العسكري والسيطرة السياسية الأجنبية؛ لأن الجهاد في هذه الحالة يصبح فرض عين في شريعتنا، وأحسن نماذج هذا النوع من حركات الجهاد الإسلامي هو حركة المهدي في السودان وعبد الكريم الخطابي في المغرب وعبد القادر في الجزائر...

وهناك حركات بدأت صوفية إصلاحية ثم فرض عليها الاحتلال أن تمارس المقاومة المسلحة والجهاد لصد الغارة الأجنبية مثل الدعوة السنوسية التي كانت حركة الشهيد عمر المختار امتدادًا لها... كل هذه الحركات كانت تعمل وحدها في الميدان، وكانت حركة جهاد إسلامي وكفاح وطني في نفس الوقت، ولم يكن هناك أحزاب أو حركات ترفع شعارات القومية أو الوطنية...

ولكن نجاح القوى الأجنبية في تمزيق أقطارنا وفرض الحكم الاستعماري المباشر أو غير المباشر على كثير منها عقب الحرب العالمية الأولى، اضطر دعاة الإسلام إلى أن يواجهوا هذا الواقع باستراتيجية طويلة الأمد بإنشاء حركات إسلامية عصرية شاملة أولها حركة الإخوان المسلمين، وهدفها إعادة بناء جيل ومجتمع إسلامي قادر على قيادة الأمة نحو التحرير الكامل على مراحل متتالية...

أولها: مرحلة الكفاح الوطني التي يمارس فيها الإسلاميون دور التوجيه والتدعيم الذي لا يشغلها عن مهمتها الأساسية مهمة "التربية" لإصلاح المجتمع ولبناء هياكل وقيادات قادرة على مناهضة الغزو الفكري والتحدي الحضاري "الذي كانت السيطرة العسكرية والسياسية والنفوذ الأجنبي في نظرها سلاحًا لتنفيذ أهدافه" وتظهر أهمية ذلك في المرحلة التالية بعد الاستقلال الوطني الذي تم في نطاق التجزئة القطرية التي فرضتها الدول الاستعمارية وقصدت منها أن تكون الدول القطرية عاجزة عن مواجهة الغزو الحضاري، وأن تصبح فريسة للتبعية الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية...

الحقيقة أن الكفاح الوطني بدأ دائمًا صورة من صور الجهاد الإسلامي في مرحلة معينة للقضاء على الاحتلال العسكري الأجنبي الذي يمكن أعداء الإسلام من تنفيذ مخططاتهم الاستيطانية لغرس مستوطنين أجانب في أقاليم عربية وإسلامية "كما كان الأمر في الجزائر وفلسطين وليبيا" أو تكوين طبقات مستغربة عميلة "في مصر وغيرها من الأقطار"

تتولى تنفيذ مخططات القوى الأجنبية الرامية إلى فرض التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية على أمتنا بواسطة حكومات وطنية لا تستطيع البقاء إلا في ظل هذه التبعية وتفرض عليها أن تمارس العلمانية التي تسوقها نحو الانفصال عن التيار الشعبي الإسلامي، وتؤدي إلى تورطها في السير في طريق القمع والاضطهاد لرموز هذا التيار وقياداته الفكرية والهيئات والمنظمات التي تعبر عن هذا التيار الشعبي...

إن الوضع قد تغير عندما تم في بعض الأقطار تصالح الأحزاب والحكومات الوطنية مع القوى الأجنبية، ووصل التصالح إلى درجة قيام بعضها بالتعاون مع تلك القوى الأجنبية ومساعدتها في تنفيذ مخططاتها بعد الاستقلال، بل جعل بعض هذه الدول القطرية وحكوماتها عاجزة عن توفير أسباب الاكتفاء الذاتي في النواحي الاقتصادية والدفاعية، وجعلها تستجدي المال والسلاح من القوى الأجنبية مقابل أن تسير في ركابها وتقل ما فرضته عليها من التنكر لمقومات الأمة وأصالتها وعقيدتها ووحدتها ومقاومة دعاتها بحجة فصل الدين عن الدولة أو رفع شعارات علمانية لا دينية تزعم أنه لا دين في السياسة.

هنا بدأت الحركة الإسلامية في الانفصال عن الحكومات الوطنية الحزبية أو الدكتاتورية التي انحرفت عن الأهداف الإسلامية الشاملة التي تؤمن بها القاعدة الشعبية، وعارضت الحكام الذين ساروا في طريق الدكتاتورية لفرض الشعارات المستوردة والاتجاهات اللادينية أو العلمانية أو القومية العنصرية، كما فعل أتاتورك ومن سار على نهجه وهذه هي المرحلة الثانية، مرحلة الانفصال بين الحكم الوطني الذي يتجه نحو العلمانية القطرية والتيار الإسلامي الذي يدافع عن الأصالة والوحدة الإسلامية التاريخية الشاملة...

ويكفي أن نشير إلى بداية هذه المرحلة في تركيا، فقد كان المسلمون جميعًا يؤيدون أتاتورك ويشيدون به عندما كان يقود الجيش التركي لإخراج القوات اليونانية والمتحالفة من الأراضي التركية، لكن الرأي العام والإسلاميين جميعًا انفصلوا عنه وتصدوا له بالقول والدعوة لمعارضته ومقاومة سياسته اللادينية، وعندما استعمل ضدهم العنف والقوة والحكم العسكري بدأت المرحلة الثالثة وهي مرحلة المجابهة والمقاومة الإسلامية لما يسمونه الكمالية وكل نظام يسير على منهاجها في تركيا وغيرها فيما بعد...

وقد أبدع أمير الشعراء "أحمد شوقي" في تصوير مشاعر الذين تضامنوا مع أتاتورك عندما كان وطنيًّا يقود دفاع الجيش التركي عن الأناضول، ولكنهم يلومونه ويعارضونه عندما دفعه غروره وسلطته الدكتاتورية إلى الإلحاد والإباحية باسم العلمانية واللادينية وهذه مقتطفات من قصيدته المنشورة بعنوان "خلافة الإسلام":

أستغفر الأخلاق لست بجاحد

من كنت أدفع عنه وألاحي

مالي أطوقه الملام وطالما

قلدته لمأثور من امداحي

أأقول من أحيا الجماعة ملحد

وأقول من رد الحقوق "إباحي"

أدوا إلى الغازي النصيحة ينتصح

إن الجواد يثوب بعد جماح

إن الغرور سقى الرئيس براحه

كيف احتيالك في صريع الراح

هم أطلقوا يده كقيصر فيهمو

حتى تناول كل غير مباح

غرته طاعات الجموح، ودولة

وجد السواد لها هوى المرتاح

لاشك أن الانتقال من مرحلة التضامن بين التيار الإسلامي والحركات التي ترفع شعارات وطنية "صدقًا أو كذبًا" إلى الانفصال بينهما ثم إلى حالة المجابهة والتحدي بين بعض الحكومات الوطنية وشعوبها لمجرد أنها تؤيد الاتجاه الإسلامي... لم يتم في يوم واحد، ولا في ظروف واحدة في جميع الأقطار، بل كان يختلف باختلاف ظروف كل قطر عن الآخر من حيث مدى تغلغل النفوذ أو السيطرة الأجنبية ومدى نضج الحركة الإسلامية وقوتها ومدى الانحراف الذي انساق إليه الحكام الوطنيون...

إن الانحراف يبدأ عادة بالخضوع لضغوط أجنبية وتهديدات استعمارية تجعل الحكم الوطني يظهر في أول الأمر معذورًا أو مضطرًا، ويقنع أتباعه بذلك لأنه لم يكن يعلم خضوعه لتلك الضغوط أو يعترف بها، بل يبرر مواقفه بأنه يسير نحو مجاراة تيار التحديث أو التقدم بل يتهم من يعارضون العلمانية بأنهم رجعيون، ويتحدى مشاعر الشعوب معتمدًا على استبداده بالسلطة وغروره بتزييف الإعلام وأكاذيبه، وبأسلحة القمع والإرهاب والدكتاتورية.

في عملنا مع الحركات الوطنية كنا على بينة من أن هذا ليس هو الأسلوب الوحيد للعمل، وأن العمل الشعبي في الدعوة إلى الإصلاح الداخلي والتربية الإسلامية لا يقل أهمية عن العمل السياسي الوطني، ذلك أننا نعتبر أن العمل في الدعوة والتربية هدفه إحياء روح الجهاد لدى الأفراد ودعوة الشعوب للتشبث بولائها للإسلام عقيدة وشريعة ومنهجًا شاملاً كاملاً للحياة الفردية والاجتماعية

وأن من يربون على هذا الأسلوب هم الذين تعتمد عليهم الحركات الوطنية عندما تدخل في مرحلة المقاومة المسلحة أو عندما تضطر إلى ذلك، فالدعوة والتربية كانت الاحتياطي الشعبي الضروري لنجاح الحركات الوطنية وإمدادها بقوة كافية عند المجابهة مع قوى الاستعمار الطاغية التي لا تتورع عن استخدام القتل والإرهاب والجيش والشرطة وغيرها من أدوات القمع

ولو راجعنا قائمة المجاهدين الذين استشهدوا في ميادين المقاومة الجزائرية أو التونسية "الفلاجة" والمغربية، فسوف نجد أن في مقدمتهم الأبطال الإسلاميين الذين لا يعرفون إلا الجهاد والاستشهاد، وإن كانت الزعامات الوطنية هي التي نالت ثمرة هذا الاستشهاد بعد ذلك في صورة مناصب ومنافع ومشاركة في الحكم في تلك الأقطار بعد أن دخلوا مرحلة المفاوضات والمساومات مع القوى الأجنبية وحصلوا على ما اعتبروه استقلالاً وطنيًّا... هذا الاستقلال الوطني القطري هو الذي فرق بين الإسلاميين ومن سموا أنفسهم وطنيين "صدقًا أو كذبًا"...

المنصف باي زيارة إلى "بو" و"لورد" 1946م

أثناء الحرب العالمية الثانية احتل الألمان والطليان تونس، وكان على عرش "البايات" في ذلك الوقت "المنصف باي" وكان رجلاً محبوبًا من عامة شعبه؛ لأنه لم يكن أداة طيعة في يد الفرنسيين قبل الاحتلال الألماني، وعندما انتهت الحرب بهزيمة الألمان وعاد الاحتلال الفرنسي لتونس، كان أول ما فعلوه هو عزل المنصف باي، ونفيه إلى فرنسا؛ بحجة أنه تعاون مع الألمان أثناء احتلالهم لبلاده، وقد زاد ذلك من تعلق الشعب به، حتى أصبحت عودته للعرش مطلبًا شعبيًّا إجماعيًّا...

وعندما وصلت باريس عام 1946م علمت من بعض أصدقائي التونسيين أنه موضوع تحت الإقامة الجبرية في مدينة بوسط فرنسا هي "بو" قرب جبال البرانس، وأن عددًا من التونسيين يأتون من بلادهم لكي يزوروه من حين لآخر، وعلمت أن الحزب البورقيبي لم يكن يعني كثيرًا بقضيته، بل شعر الجميع أنه لا يتحمس لعودته لتونس وعرفت أن الطلاب الذين لهم علاقة بالاتحاد التونسي للشغل وزعيمه فرحات حشاد هم الذين يتصلون به ويزورونه ويهتمون بقضيته، ومنهم محمد بن صالح وأخوه أحمد بن صالح، وغيرهم ممن ليس لهم علاقة وثيقة بحزب بورقيبة، وفي عطلة الصيف تطوع بعضهم لترتيب زيارة لي لمقابلته

وفعلاً ذهبت إلى "بو" وتوجهت إلى القصر الذي يقيم فيه تحت الحراسة، ورحب كثيرًا بزيارتي، وجلست معه طويلاً، وأصر على أن أتناول الغذاء معه، وقدم لي أفراد أسرته المقيمين معه، وكان من بينهم بنتان صغيرتان التقيت بإحداهما بعد خمسة عشر عامًا في الرباط عام 1961م عندما كانت مع زوجها الذي عين سفيرًا لتونس هناك، وذكرتني بهذا اللقاء عندما كانت طفلة صغيرة...

كان حديث المنصف باي شكوى من الفرنسيين الذين اعتدوا عليه، وعلى تونس التي تعهدوا بحمايتها بمقتضى معاهدة دولية، قال: إن معاهدة الحماية رغم أنها فرضت علينا بالقوة والاحتلال إلا إنها كانت في ذاتها اعترافًا بكيان الدولة التونسية وسيادتها، وإذا كانت تلك المعاهدة المفروضة قد حدت من سيادتنا الوطنية وقيدتها، فإن ذلك كان يقابله التزامهم بالدفاع عنها

ولكنهم عجزوا عن هذا الدفاع وتخلوا عنه، وتركونا فريسة للطليان والألمان، فهم الذين وضعوا حدًّا للحماية واحتلالهم وأخلوا بالتزاماتهم بمقتضى معاهدة هم الذين كتبوها وفرضوها علينا، وبعد أن تخلوا عن التزاماتهم ومسئولياتهم، وتركونا وحدنا لنواجه الاحتلال الألماني والإيطالي، يدعون أنني تعاونت معه

فكيف يريدون أن نواجه احتلالاً موجودًا ومفروضًا على بلادنا، يريدون أن نقوم نحن بمقاومة هذا الاحتلال الذين عجزوا هم عن مواجهته، وتخلوا عن واجبهم بمقتضى معاهدة الحماية في "صده" إنهم حرمونا من وجود جيش أو قوة عسكرية لنا بحجة أنهم سيتولون الدفاع عنا والآن يلومننا لأننا لم نقاوم عدوا هم عجزوا عن مقاومته، رغم أنهم هم المسئولون عن عجزنا وعدم وجود جيش وطني لنا نلجأ إليه بعد أن انسحبت جيوشهم، وتركتنا تحت الاحتلال الألماني...

إنهم يظنون أن الغطرسة والاعتداء علينا ينسيهم مرارة فشلهم في حماية بلادنا ومسئوليتهم عن احتلال الألمان والطليان لبلادنا، ومسئوليتهم قبل ذلك عن احتلال بلادنا وفرض سيطرتهم عليها وعلينا... إنهم يتجاهلون أنهم احتلوا بلادنا قبل أن يحتلها الألمان، وأنهم هم الذين حرمونا من كل قوة عسكرية وطنية تقاوم هذا الاحتلال الثاني، إن احتلالهم لبلادنا هو الذي فتح الطريق للألمان، إنهم فعلوا ما فعله الألمان عندما احتلوا بلادنا قبل الحرب

وعادوا الآن بعد الحرب إلى ذلك، ثم إنهم يتعمدون دائمًا أن يحولوا الحماية إلى حكم استعماري مباشر يستبيحون به خلع رئيس الدولة واعتقاله وإبعاده، ووضعه تحت الإقامة الجبرية كما ترى... لم يكتف المنصف باي بذلك، بل إنه شكا من أن بعض الوطنيين أهملوا قضيته ولا يقومون بأية مبادرة للمطالبة بعودته التي هي المطلب الأول لشعب تونس الذي يعتبر الاعتداء عليه إهانة له وانتقاصًا من كرامته فضلاً عن أنها اعتداء على كيانه ودولته...

من حين لآخر كان يلمح لي إلى أن لديه أملاً في أن تهتم الجامعة العربية بقضية تونس وقضيته، وأن أمله قد نما، وتأكد عندما ساعدت الدول العربية السوريين واللبنانيين في تحرير بلادهم والحصول على استقلالهم، وأنه يعتبر زيارتي له تأكيدًا لتضامن المشرق العربي مع المغرب في كفاحه، ومع تونس في نضالها من أجل استرداد حقوقها وسيادتها...

قلت له إنني لا أتحدث باسم الدول العربية ولا حتى الجامعة، ولكني من أبناء مصر الذين يجاهدون من أجل تحريرها، وتحرير جميع شعوب العالم العربي والإسلامي وخاصة تونس التي لها تاريخ مجيد في نشر علوم الإسلام وثقافته من خلال جامعة الزيتونة وعلمائها الأفذاذ، وإنني فوق ذلك من الإخوان المسلمين الذين يعتبرون قضية الإسلام واحدة في جميع الأقطار، وأنها تفرض عليهم مقاومة الاستعمار في كل مكان...

ودعت المنصف باي وأسرته في نفس اليوم، وقد كان في نيتي العودة إلى باريس حتى لا أبيت في تلك المدينة خوفًا من المراقبة والتتبع، لكن أغراني بعض الفرنسيين وشجعوني على زيارة لورد؛ لأنهم جاءوا من باريس خصيصًا لحضو المهرجان الذي يقام سنويًّا فيها وما دمت قد وصلت إلى بو فمن السهل علي أن أذهب منها إلى لورد لحضور المهرجان والعودة في المساء دون حاجة للمبيت هناك نظرًا لاستحالة وجود محلات للمبيت فيها في ذلك اليوم...

لقد زرت لورد وشاهدت المهرجان هناك، ولا أذكر منه سوى الزحام الذي ذكرني بالموالد في بلادنا، وأن اسم لورد أصبح مقترنًا باسم بو، وكلاهما يذكرني بالمنصف باي وخاصة عندما سمعت نبأ وفاته بالمنفى دون أن يحظى من الوطنيين بما يستحقه من إنصاف...

وفي طريق عودتي بالقطار إلى باريس تعمدت زيارة جميع المدن التي توجد بها قلاع في وادي نهر "اللوار" الشهير وهو الوادي الذي يقترن اسمه "بجان دارك" والحروب بين الفرنسيين والبريطانيين، وفي إحدى هذه القلاع فوجئت "معلقًا على الحائط بإحدى قاعاتها" بصورتين زيتيتين لشخصيتين جزائريتين، قرأت تحت إحداهما أنها صورة الأمير عبد القادر الجزائري بطل المقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسي

وقد كتب تحتها أسماء المعارك العديدة التي خاضها ضد الفرنسيين لمدة سبعة عشر عامًا انتهت باستسلامه لفرنسا التي اعتقلته في هذه القلعة مدة طويلة... أما الصورة الثانية فهي صورة وزيره الذي اعتقل معه، وشاركه ألام المنفى كما شاركه في نضاله السياسي والعسكري، ولقد استغرقني التأمل في هاتين الصورتين، وقراءة ما كتب تحتهما من بيانات، ذكرتني بأنني ما زلت في طريقي إلى الجزائر...

فيما بعد تكرر العدوان الفرنسي على "باي" تونس بعدوان مماثل على سلطان المغرب الذي عزلوه ونفوه إلى جزيرة إفريقية بعيدة في المحيط الهندي، وإذا كان الجامعة العربية لم تقم بواجبها في إثارة قضية باي تونس والاعتداء عليه، فإنها عوضت ذلك برفع قضية سلطان المغرب لهيئة الأمم لسبب واضح هو أن الحركة الوطنية المغربية تبنت هذه القضية واعتبرتها قضيتها الأولى، بخلاف حزب الدستور التونسي البورقيبي الذي لم يبد أي اهتمام جدي بقضية "المنصف باي"...

جامعة القرويين في فاس مبعث الكفاح الإسلامي ضد الاستعمار التنصيري

في ربيع عام 1946م أخبرني أصدقائي المغاربة في ناديهم أن وفدًا من حزب الاستقلال وصل إلى باريس للاتصال بالمسئولين في فرنسا، وبالأوساط الصحافية والسفارات العربية والأجنبية للدعوة لقضية بلادهم والمطالبة بالإفراج عن زعيم الحزب السيد "علال الفاسي" الذي اعتقل ونفي إلى الجابون منذ تسع سنوات.

كان الوفد مكونًا من ثلاثة من قادة الحزب هم "الحاج عمر بن عبد الجليل" رئيس الوفد، و"عبد الكريم بن جلون"، و "أحمد حمياني"، وقد التقيت بهذا الوفد وتكررت زيارتي لهم، وأحاديثي معهم، ومجتمعين ومنفردين، وتوثقت علاقتي بالحاج عمر بن عبد الجليل، وعبد الكريم بن جلون واكتشفت من محادثاتي معهما أن العاطفة الإسلامية لدى كل منهما هي المحرك الأول للعمل الوطني عندهما، وعند جماعير القاعدة الشعبية في المغرب الأقصى، وفي جميع أقطار أفريقيا الإسلامية سواء في منطقة الشمال المطلة على البحر الأبيض المتوسط، أو المنطقة الكبرى المطلة على المحيط الأطلسي والصحراء الكبرى.

كان الوفد ينزل بأحد فنادق العاصمة، وكانوا يجلسون لاستقبال زوارهم وأصدقائهم من المغاربة والعرب والفرنسيين في صالون الفندق، وكنت حريصًا على ملازمتهم أغلب الوقت ومتابعة أحاديثهم مع جلسائهم من العرب أو الفرنسيين مما مكنني من معرفة الكثير عن أحوال المغرب الأقصى، وعن الحركة الوطنية التي يقودها حزب الاستقلال الذي يتزعمه علال الفاسي وهو عالم من جامعة القرويين في فاس، التي تعتبر قاعدة الثقافة الإسلامية، وتقوم في المغرب، وفي غرب أفريقيا كله بالدور الذي يقوم به الأزهر في مصر والمشرق.

وقد ذكر لي "عمر عبد الجليل" أن جامعة القرويين في فاس هي مهد الحركة الوطنية، وأن أغلب قادة حزب الاستقلال من علمائها، وأنها بدأت في صورة معارضة للظهير البربري الذي أصدره الفرنسيون في عام 1930م، واعتبره العلماء إعلان الحرب الاستعمارية على الإسلام وشريعته، وعلى وحدة الشعب المغربي وأنهم بدءوا هذه المعارضة بعد أن قرءوا مقالات الأمير "شكيب أرسلان" في مهاجمة الظهير البربري التي كشفت لهم أبعاد المخطط الاستعماري الفرنسي وأهدافه الصليبية للقضاء على الإسلام في أفريقيا.

ولقد ذكر لي "عبد الكريم بن جلون" صديق "الحاج عمر بن عبد الجليل"، وزميله في الوفد، أن المغاربة يعتزون كثيرًا بتاريخهم، الذي كان جهادًا متواصلاً ضد الهجمات الصليبية التي قامت بها أسبانيا بعد خروج المسلمين من الأندلس، ولجوء كثير منهم إلى المغرب وما زالت كثير من العائلات المغربية في المدن المغربية الكبرى وخصوصًا "فاس وتطوان وسلا" تعتز بأنها من نسل الأندلسيين المهاجرين من أسبانيا بعد احتلال الصليبيين للأندلس...

وذكر لي "عمر عبد الجليل" و"عبد الكريم بن جلون" كثيرًا عن الغزوات والهجمات العسكرية التي قام بها البرتغاليون والأسبان، وبعدهم الفرنسيون على شواطئ الغرب، وأن احتلال فرنسا للمغرب الذي بدأ في عام 1913م، قبيل الحرب العالمية الأولى كان في نظر المغاربة جميعًا في سلسلة الهجمات الأوروبية الصليبية التي لم تتوقف منذ انتصار الأسبان على المسلمين وطردوهم من الأندلس

ولذلك فإن المقاومة المغربية لهذه الغزوات كانت دائمًا مقاومة مسلحة يقودها السلاطين والملوك وغيرهم من أبناء الشعب مثل عبد الكريم الخطابي وأن مقاومة هذه الغزوات الصليبية لا يمكن أن تمحى من ذاكرة أهل المغرب، وهي أساس الحركة الوطنية الاستقلالية، وإن كانت الحركة تستخدم أساليب النضال الجماهيري، والوسائل السلمية، بسبب سيطرة الفرنسيين العسكرية على البلاد، واحتلالهم لها، وفرض حمايتهم عليها...

وأضال الحاج "عمر بن عبد الجليل" أن هذا التوجه الإسلامي للحركة الوطنية المغربية هو الذين ميز الحركة الاستقلالية بظاهرة يعرفها الجميع، وهي تضامن الشعب الملك لأن "محمد الخامس" رجل متدين، وقد تأكد له أن الفرنسيين يخططون لنزع الصبغة الإسلامية عن المغرب، ويتآمرون لاقتلاع القيم الإسلامية من المجتمع المغربي

ويحاولون إيجاد طابور خامس من العملاء لتنفيذ سياستهم الاستعمارية في الإيقاع بين العرب والبربر وأن معارضته للسياسة البربرية لا تقل عن معارضته لإجراءات القمع والاعتقال والسجن التي تتخذها الإدارة الفرنسية ضد الوطنيين، حتى إن كثيرين يظنون أنه هو المحرك الفعلي للتيار الإستقلالي في المغرب؛ لأن الحركة بدأت بعريضة وقعها قادة الحزب موجهة للملك يطالبونه فيها بإعلان استقلال المغرب وحماية وحدة الشعب وهويته الإسلامية من السياسة الاستعمارية الصليبية الفرنسية.

وقد فوجئت في إحدى زياراتي للوفد المغربي، بوجود بعض رجال الكنيسة المسيحية، ودار بين الحاضرين من المغاربة تهامس، وتبادلوا النظرات والإشارات التي لم أفهمها في أول الأمر ولكن أحد أصدقائي همس في أذني مشيرًا إلى أحدهم قائلاً: هذا هو "الأب عبد الجليل" مشيرًا إلى أحد الرهبان وقص علي قصة غريبة يعرفها جميع المغاربة وإن كانوا يتفادون إثارتها أو الكلام بشأنها، وهي قصة وقعت للأخ الأكبر للحاج "عمر عبد الجليل" واسمه "محمد"، الذي كان يدرس في فرنسا ثم استطاع المبشرون أن ينصروه بل إنه التحق بسلك الرهبان المسيحيين، وسمي "الأب عبد الجليل".

وقال محدثي إن "الأب عبد الجليل" ما زال رغم تنصره يكاتب أسرته ويدافع عن نفسه بأنه لم يرتد عن الإسلام، ولكنه اكتشف أن الرهينة هي الطريق إلى وحدة الأديان والسلام وأنه يعتبر نفسه من المتصوفين، وإن كان كثيرون ينكرون عليه ذلك وأنه جاء اليوم لمقابلة أخيه "الحاج عمر بن عبد الجليل"، ومعه بعض أصدقائه من الرهبان ليعلنوا له تأييدهم الشعب المغربي واستعدادهم للتوسط بين وفد حزب الاستقلال، وبين السلطات الفرنسية، التي يريد الوفد المغربي الاتصال بالمسئولين عنها، وشرح قضية بلادهم وعرض مطالب الشعب والحزب عليهم.

وقد لاحظت أن عددًا من المغاربة الذين كانوا موجودين بدا عليهم الحزن وا لألم والامتعاض، وأن آخرين قد انسحبوا في صمت حتى لا يشهدوا هذا اللقاء الأليم ولا يشتركوا في الحوار مع هذا المارق من دينه، المتنكر لأمته.. إلى آخره. وقد حرصت على ألا أتحدث مع الحاج "عمر" في هذا الموضوع، بعد أن تأكدت أنه أدرك أنني اطلعت على تفاصيل المأساة، وأنه يعرف حقيقة شعوري نحوه بل إن إدراكي لعمق آلامه التي يحاول التغلب عليها قد زاد من رغبتي في الحديث معه وتوجيه الحوار حول دور الإسلام في المعركة التي يخوضها المغاربة ضد الاستعمار الفرنسي.

وكان أهم ما عرفته أن بعض زعماء حزب الاستقلال ما زالوا يراسلون الأمير "شكيب أرسلان"، وأنه يزودهم بالنصائح، ويرسل إليهم بعض الكتب والمجلات التي يتلقاها من المشرق ويتخاطفها المثقفون باللغة العربية، وهم الأغلبية الساحقة من إطارات الحزب وأنهم يعتبرونه الأب الروحي للحركة الوطنية في المغرب الأقصى.

وقال إن زعيم الحزب السيد "علال الفاسي" قد اعتقل، ونفي إلى الجابون تحت الإقامة الجبرية هناك، وإن مراسلاته معهم تخضع للرقابة، وإن كان قد استطاع أن يرسل لهم خفية بعض الرسائل عن مشاهداته في تلك البلاد، وأن التنصير الذي يقوم به المبشرون هو محور السياسة الاستعمارية الفرنسية هناك كما هو الحال في المغرب وأن من أهم مطالبهم الآن هو الإفراج عنه وعودته إلى بلاده وقد ذكرت له قصتي مع الدكتور "عمر فروخ" في بيروت وأعطيته كتابه عن التبشير والاستعمار ليعرف أننا في المشرق نعرف كثيرًا عن هذه السياسة الاستعمارية التنصيرية.

بعد استقلال المغرب ذهب صديقي المرحوم الكتور "محمود أبو السعود" ليقيم هناك ويبدأ مشروعًا تجاريًّا، والتقى بالسيد "عبد الكريم بن جلون" الذي كان وزيرًا للعدل فسأله عني وطلب منه أن يكتب إلي الأخضر للمغرب لأتعاون معه في اعداد القوانين المغربية الجديدة، ولما جاء وطلب منه أن يكتب إلي لأحضر للمغرب لأتعاون معه في إعداد القوانين المغربية الجديدة

ولما جاء رئيس الوزراء السيد "عبد الله إبراهيم" لزيارة القاهرة، طلب منه أن يقنعني بذلك، وفعلاً توسط لدى المسئولين في الحكومة المصرية للسماح لي بالذهاب للمغر وغادرت مصر للعمل بالمغرب في عام 1959م، حيث عينت مستشارًا بالمجلس الأعلى للقضاء الذي يقوم بعمل محكمة النقض في مصر.

وكان السيد "عمر عبد الجليل" أول من احتفي بي، وسر بلقائي، وعلمت منه أن أخاه "الأب عبد الجليل" قد تاب، ورجع إلى الإسلام، وغادر فرنسا وعاد إلى بلاده وأسرته التي احتفلت بذلك، وتلقت التهاني من جميع الجهات لهذه المناسبة. بعد ذلك علمت بأن المشكلة تعقدت مرة ثانية، ويظهر أن اتصالات "الأب عبد الجليل" مع أصدقائه الفرنسيين والنصارى القدامى قد أثرت على حالته النفسية، فأصيب بالاكتئاب، واضطر إلى دخول مصحة للأمراض النفسية، ولا أعرف مصيره بعد ذلك...

كل هذا يدل على أن المجتمع المغربي كان يعتبر المقامة ضد الاستعمار، صورة جديدة لمقاومة الحملة التنصيرية والهجمات الصليبية على بلاده، ولذلك كانت مقاومة الظهير البربري هي بداية الحركة الوطنية في المغرب وكان الفكر الإسلامي "الذي كانت جامعة القرويين تحمل رايته" هو أكبر رصيد للكفاح الوطني في "المغرب الأقصى".

المغرب الأقصى بين محمد الخامس وعبد الكريم الخطابي 1946-1950م

كان الدكتور "المهدي بن عبود" يدرس الطب في باريس، ولكنه كان يقرأ في كتب الفلسفة والتصوف أكثر مما يقرأ في كتب الطب، ومع ذلك أتم دراسته، وبدأ التدريب عندما تعرفت به في نادي الطلبة المغاربة بشارع "الثعبان Rue Serpente" وسعدت كثيرًا بالحوار معه، فقد كان واسع الاطلاع في علوم الإسلام والفلسفات العصرية، وكان إسلامه نموذجًا علميًّا وقلبيًّا ومنذ أول لحظة تعرفت إليه فيها إلى اليوم

وهو يدعوني "يا خالي، لأن أمه شاوية" ولم تكن هذه هي الرابطة الوحيدة التي تربطني به، بل كان الإيمان بالوحدة الإسلامية "المصير المشترك لجميع شعوبنا" هو الرباط الفكري الذي يجمع بيننا، وعن طريقه تعرفت بجميع أعضاء اللجنة الممثلة لحزب الاستقلال في المغرب وهم "عبد اللطيف بن جلون" (وكان طبيبًا). و"مولاي أحمد العلوي إبراهيم" (وكان يدرس الآداب) "وعبد الرحيم بو عبيد" وكان يدرس الاقتصاد، و"مولاي أحمد العلوي" (وكان يدرس الطب)...

لقد كنت أتردد عليهم من حين لآخر في النادي والمطعم الخاص بهم، وكنت أعاتبهم على هذه الانعزالية التي جعلتهم ينفصلون عن الجزائريين والتونسيين في نادي "سان ميشيل 115"، وفهمت أن السبب في ذلك أن الممول لناديهم هو "الملك محمد الخامس"، عن طريق بعض قادة حزب الاستقلال، وأنهم يتميزون عن الجزائريين لأن لهم دولة، ويختلفون عن التونسيين في أن لهم ملكًا يحبونه ويحبهم، ويدعم الحركة الوطنية ويعتبرون تعاونه مع حزب الاستقلال ضمانة كبرى لنجاح الكفاح الوطني. وقد كان هذا الفهم هو الذي أكده لي وفد حزب الاستقلال، الذي جاء إلى باريس، وقدمني إليه أصدقائي المغاربة، واستفدت كثيرًا بأحاديثي ولقاءاتي معهم ومع من كانوا يترددون عليهم من المغاربة والمسلمين أثناء هذه الزيارة التي تحدثت عنها تفصيلاً.

لقد سمعت من أصدقائي المغاربة كثيرًا عن إعجابهم "بالملك محمد الخامس" وثقتهم فيه، وأنهم يعتبرونه الزعيم الحقيقي للحركة الوطنية، وأن إيمانه بالإسلام والتزامه به يجعله في صف أئمة المسلمين الأوائل، وأن الفرنسيين يكرهونه كرهًا عميقًا لهذا السبب وقد فشلت كل المحاولات التي قاموا بها لإبعاده عن الوطنيين أو إبعادهم عنه، أو الإيقاع بين الطرفين.

وفي أوائل الصيف عام (1946م) فوجئت بصديقي التونسي "محمد الميلي" يقتحم علي باب الغرفة، وهو يكاد يطير من الفرح، وبيده صحيفة فرنسية بعنوان ضخم "عبد الكريم يفلت من الفرنسيين، ويلجأ إلى القاهرة"، وعرفت تدريجيًّا قصة هذا الهروب، وأهم ما لاحظته هو أن هذه أول مرة يقوم فيها بعض الوطنيين الجزائريين والمغاربة والتونسيين المشتركيين في مكتب المغرب العربي بالقاهرة بعمل مشترك

يدل على تضامن الحركات الوطنية في الأقطار الثلاثة ووحدتها، إذ إنهم علموا بأن سفينة فرنسية قادمة من شرق أفريقيا سوف تعبر قناة السويس، متجهة إلى مرسيليا بفرنسا وأن على ظهرها "الأمير عبد الكريم الخطابي" وأسرته فسارعوا إليها جميعًا، وصعدوا إلى السفينة في السويس عند مرورها بالقناة، والتقوا به على ظهر السفينة، وأعطوه معلومات عن سير الحركات الوطنية في شمال أفريقيا

وعن اتحادهم في إطار مكتب المغرب العربي الذي يمثلها بالقاهرة، الذي تدعمه وترعاه الجامعة العربية والحكومة المصرية، وأن هذه الحركات متضامنة ومتعاونة وهم الذين اقترحوا عليه أن يلجأ إلى مصر ويستريح من الأسر الذي فرضه الفرنسيون عليه منذ أن اعتقلوه في المغرب بعد نهاية ثورة الريف المشهورة التي قادها، والتي ما زالت جميع شعوب أقطار شمال أفريقيا تفخر بانتصاراتها وتعتز بقائدها الذي أسره الفرنسيون.

وقد سر الأمير بهذه الصورة البراقة التي عرضها عليه وفد مكتب المغرب العربي وأسر لهم بأنه على استعداد للالتجاء إلى مصر إذا أبلغته الحكومة المصرية رسميا بموافقتها على ذلك، وفعلاً اتصل الوفد "بعبد الرحمن عزام" الأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي كان يحظى بتأييد شخصي وثقة كاملة من الملك فاروق وحكومته في ذلك الوقت

فكلفت محافظ القناة لمقابلة الأمير على ظهر الباخرة في الإسماعيلية وإبلاغه تحيات "الملك فاروق" وحكومته وترحيبهما به إذا أراد الإقامة بمصر، وعندما شكره الأمير وأبدى رغبته في مغادرة السفينة أصدر المحافظ لقائد السفينة أوامر الحكومة بتسهيل مغادرته لها، ولما كانت السفينة تجارية في المياه المصرية، فإن قائد السفينة لم يستطع أن يعارض في تنفيذ عملية نزول الأمير وحاشيته الذين رغبوا في مغادرتها للالتجاء إلى مصر.

كانت تعليقات الصحف الفرنسية تميل إلى مهاجمة الحكومة الفرنسية، بحجة تقصيرها في الاحتياطات اللازمة في مثل هذه الحالة، إذ كان يجب على الأقل أن تكون السفينة حربية حتى يستطيع قائدها أن يتمسك بحصانة السفن الحربية، أو ألا تمر بقناة السويس وتأخذ طريقًا آخر، وظهر من التعليقات أن الحكومة الفرنسية كانت مطمئنة إلى أنها كان تقدم للأمير الأسير فرصة كان يترقبها منذ عشرين عامًا للخروج من الأسر في جزيرة أفريقية إستوائية نائية

لكي يحظى بالإقامة على الشاطئ الأزرق "الكوت دازور" على البحر الأبيض المتوسط، قرب مدينة نيس في قصر كان يملكه أكبر مارشال في فرنسا وهو "بيتان" الذي كان له دور كبير في القضاء على ثورة الأمير عبد الكريم وأسره، بل أكثر من ذلك كان البعض يلوحون لملك المغرب "محمد الخامس"، وربما أيضًا "الأمير عبد الكريم" نفسه أنه إذا استمر الملك في عناده ودعمه لقادة حزب الاستقلال والوطنيين المغاربة

ومعارضته لخطط المقيم العام الفرنسي، فإن فرنسا لديها بديل جاهز ليحل محله، وهو الأمير "عبد الكريم" الذي كانوا يعتقدون أنه سيكون سعيدًا إذا عرض عليه الفرنسيون عرش المملكة المغربية بدلاً من "محمد الخامس" الذي سيكون مصيره أن يحل محله في معتقله الأفريقي في إحدى الجزر الفرنسية النائية... كان شباب الحركات الوطنية في المغرب وتونس والجزائر المقيمين في باريس سعداء بما يطالعونه في الصحف الفرنسية من صرخات تعبر عن أسفهم لفشل المخطط الفرنسي، الذي كشف نيته في عزل "محمد الخامس"، كما عزلوا "المنصف" باي تونس من قبل.

لكن لم يمض بضعة أعوام حتى نفذ الاستعمار الفرنسي خطته، وعزل محمد الخامس، ووضع مكانه أحد أفراد أسرته العلوية باسم السلطان "ابن عرفه"، وفتحوا بذلك للحركة الوطنية بابًا جديدًا للكفاح من أجل استقلال المغرب الأقصى، وعودة الملك المخلوع وكان ميدان هذه المعركة هو القاهرة، حيث الحكومة المصرية، و "عبد الرحمن عزام" وجامعة الدول العربية، وكان لي دور في هذه المعركة بعد عودتي للقاهرة عب انتهاء البعثة.

كان نبأ هروب "الأمير عبد الكريم"، بعد فترة من هروب الحاج "أمين الحسيني" مفتي فلسطين، وتحررهما من الأسر والمنفى والإقامة "الجبرية" التي فرضتها السلطات الفرنسية والتجاؤهما للقاهرة، مادة لتعليقات الصحف الفرنسية الغاضبة أشد من تعليقاتها المهاجمة للجامعة العربية بعد نجاحها في الدفاع عن استقلال سوريا ولبنان لأنها في ذلك الوقت كانت تعزي نفسها باتهام الإنجليز بأنهم وراء ذلك كله أما في هاتين الحادثتين فلم يكن هناك مجال لاتهام بريطانيا، بل كانوا يلوحون بعدائهم القديم للإسلام أو بالمعارك التي خاضها العرب والمسلمون في القضاء على دولته، والسيطرة على شعوبه وأمته

وهذه الحملات الإعلامية ذكرتنا بآمال المسلمين في جميع أنحاء القارة الأفريقية والآسيوية، الذين كانوا يتلقون أنباء انتصارات "الأمير عبد الكريم" على الأسبان والفرنسيين بفرح وابتهاج خفف عنهم هول الكارثة التي نزلت بالدولة العثمانية لهزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وتحكم العسكريين الكماليين الذين نفذوا مطالب الدول الأوروبية بإلغاء الخلافة والتخلي عن الإمبراطورية الإسلامية

وتحويل تركيا إلى جمهورية وطنية لا دينية علمانية وقد أدى ابتهاج كثيرين بانتصارات "الأمير عبد الكريم" في ذلك الوقت، إلى أن تراودهم الآمال بأن يتولى الخلافة، وتحمل مسئولياتها التي أعلن الأتراك عجزهم عن مواجهتها، وكانت نسبته إلى أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" مبررًا آخر لترشيحه لخلافة عربية تحل محل الخلافة العثمانية.

لقد سمعت كذلك بعض التعليقات من طلاب أفريقيا الشمالية التي تشير إلى آمالهم في أن يعود "الأمير عبد الكريم" إلى بلاده، وإلى شبابه مقاتلاً ثائرًا، لا ملكًا متوجًا ليقود ثورة جديدة ضد الاستعمار لطرد الفرنسيين لا من المغرب فقط، بل من الجزائر وتونس وكان بعض الشباب الذين لا ينتظمون في الأحزاب الوطنية يرون أن التفاف العاملين بمكتب المغرب العربي في القاهرة حول "عبد الكريم"، سيكون بداية حركة وطنية وحدوية شاملة تتجاوز نطاق الأحزاب القطرية، وترفع شعار الوحدة بين هذه الشعوب، بل ورعا تتجاوزها إلى وحدة العالم الإسلامي كله.

مرت على ذهني كل هذه الصور، عندما زرت "الأمير عبد الكريم الخطابي" في القاهرة وجلست أستمع إلى حديثه عن الجهاد، وإصراره على أن هناك سبيلاً واحدًا للحرية هو القتال المسلح، وكل ما عدا ذلك مما تتكلم عنه تلك الأحزاب الوطنية هو عبث وضياع للوقت وكنت أرى من خلال حديثه صورة البطل الشاب الذي بدأ حياته قاضيًا شرعيًّا في "مليلة"

ثم نهض ليقود جيوش المتطوعين من أبناء الريف ليحطم بهم جيوش أسبانيا في معركة بعد أخرى، ثم يحارب أسبانيا وفرنسا معًا بلا تردد ولا رهبة بل كنت أرى في الجهة الأخرى صورة الأمير عبد القادر بطل الجزائر الذي ورث العلم عن أبيه الشيخ واتجه إلى مقاومة قوات فرنسا الغازية في الجزائر قبل ذلك بمائة عام

ومن بعده الشيخ الوقور "عمر المختار" في "برقة وليبيا"، الذي كان يعلم القرآن لأطفال شعبه، ثم نهض لقتال الطليان وأذكر كذلك ما قاله لي الحاج "أمين الحسيني" كلما قابلته وما كان يقوله لجميع من يلتقي بهم من الإخوان من أن المقاومة المسلحة هي الوسيلة الوحيدة للتحرر من الاستعمار الذي لا يفهم إلا لغة القتال...

كان الحاج "أمين الحسيني" يقول لي دائمًا:

إن القتال المسلح مع اليهود والإنجليز لا مفر منه، وإذا نحن لم نقدم عليه، فسوف يلاحقوننا به ويضطروننا إليه ويضربوننا ونحن آمنون في بيوتنا، فخير لنا أن نواجههم في ميادين القتال، من أن يأخذونا على غرة ونحن مستسلمون خاضعون... لقد رأيت في "الأمير عبد الكريم" كل هذه الصور مجتمعة، ورأيت فيه شخصية المغرب الأقصى، وجبال الريف، وقبائل الأطلس، التي لا ينال منها الزمن ولا تضرها الأيام وأتذكر قول صديق لي عاش في المغرب عندما قال لي: إن الزمن لا وجود له هناك!

ومنذ ذلك الوقت أيقنت أن المغرب سُمي الأقصى؛ لأنه يفصل بيننا وبينه بعد المكان، ومشقة السفر، وهو أيضًا يمثل بعدًا زمانيًّا في تاريخنا، إذ نرى فيه صورة كاملة لجميع عصور التاريخ الإسلامي التي لا نراها في بلاد أخرى بما في ذلك عصور الأندلس الزاهية التي ما زلنا نراها حية، بل نراها مجتمعة في صعيد واحد بهذا البلد العريق، وكلما تذكرت ذلك زاد شوقي إلى المغرب الأقصى وأملي في رؤيته...

ثورة اليمن الأولى ومحاولات الدول الكبرى تمزيق العالم الإسلامي "1948"

في شتاء عام 1948م، عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة دورتها العادية في باريس، وكان من بين الوفود العربية في هذه الدورة وفد يمثل اليمن برئاسة "سيف الإسلام عبد الله بن الإمام يحيى"، وفوجئت باتصاله بي عن طريق المستشار الثقافي المصري وطلب مني أن أكون مساعدًا له في اجتماعات الأمم المتحدة

وعرفني أنه زار مصر مرارًا والتقى بعدد من الإخوان المسلمين ومنهم "الفضيل الورتلاني"، وأنه معجب بهم، وأن "السنهوري" زكاني للعمل معهم في دورة الجمعية العامة في باريس؛ ولذلك كان يريدني أن أتعاون معه، وقد عملت مع الوفد اليمني طول فترة وجوده في باريس، وتوثقت علاقتي "بالأمير عبد الله" رئيس الوفد، لدرجة ملحوظة لفتت أنظار بعض أفراد حاشيته وقبل نهاية دورة الجمعية العامة فوجئنا بأنباء صحفية عن ثورة العلماء في اليمن ضد والده "الإمام يحيى بن حميد"؛

بسبب تعيينه لابنه الأكبر "سيف الإسلام أحمد" وليًّا للعهد وفي هذه مخالفة لمبادئ الشريعة التي توجب "حسب فقه المذهب الزيدي السائد في اليمن" أن يكون اختيار الإمام حرًّا بمعرفة أهل الشورى، وليس بوصية أو ولاية عهد، تكون وسيلة لبقاء الولاية في أسرة واحدة، وتحول الإمامة إلى ملك وراثي، وقد نجحت الثورة، واختار العلماء أحدهم وهو "ابن الوزير" إمامًا جديدًا، وأعلنوا الجمهورية على أساس الشورى

وجاء في الأنباء أن الإخوان المسلمين في مصر هم وحدهم الذين يؤيدون النظام الجديد لأنه ألغى ولاية العهد، وتبنى المبدأ الشرعي الذي لا يعترف بالوراثة كأساس لولائة الأئمة ولا يقر الملكية الوراثية، وكان هذا تهديدًا خطيرًا لبعض النظم الحاكمة في البلاد العربية في ذلك الوقت، وخاصة مصر "في عهد فاروق" و"العراق" في عهد الأمير "عبد الإله"، وذلك جعل بعض الملوك ينتفقون فيما بينهم على إنشاء حلف مقدس ضد الإخوان المسلمين، وضد الثورة اليمنية، وأيدوا الإمام وساعدوه حتى قضى على النظام الجمهوري.

وفي إحدى جلساتنا مع "سيف الإسلام عبد الله"، قال أحد أفراد حاشيته، وكان لبنانيًّا يعمل مترجمًا للوفد إنه سمع أنني من الإخوان المسلمين، فقلت نعم، وإذا كان هذا يتعارض مع عملي مع الأمير فإنني منسحب من الآن، وأترككم، فاعترض "سيف الإسلام عبد الله"، وقال لي: بل نحن نريدك أن تبقى معنا

وفعلاً بقيت معهم حتى انتهت هذه الدورة وعاد "سيف الإسلام عبد الله" إلى بلاده، وتعاون مع أخيه "الإمام أحمد" فترة وأخيرًا بعد عدة سنوات قليلة علمت أنه هو أيضًا ثار على أخيه وأن أخاه حكم عليه بالإعدام وتكريمًا له قرر أن يقتله بيده هو، سواء كانوا من أقربائه من عائلة الإمام، أو من غيرهم وكان من بينهم بعض الوزراء الذين حضروا إلى باريس وتعرفت بهم

وعلى كل حال فإن هذه الفترة في عام 1948م، قد أتاحت لي فرصة التردد على الأمم المتحدة، واطلعت على كثير من الإجراءات التي تسير بها اجتماعات هيئة الأمم، والقضايا التي تناقش فيها وقضايا الأمم المختلفة وعلى الأخص شاهدت المعركة الحامية بشأن الثورة الشيوعية في اليونان، وهذه الثورة كانت الدول الغربية كلها تقاومها

وكان الاتحاد السوفياتي يؤيدها في أول الأمر وبعد ذلك عندما اختلف "ستالين" مع "تيتو" زعيم يوغوسلافيا، ظهر واضحًا أن روسيا نفضت يدها من الدفاع عن الثوار الشيوعيين في اليونان وتأييدهم، وأن يوغسلافيا قررت أن تستأثر بالسيطرة على هذه الثورة، وبقيت يوغسلافيا وحدها هي التي تدافع عن هذه الثورة، وتعارض خطط الدول الغربية للقضاء عليها

وكان من الصدف أن مندوب يوغسلافيا كان يجلس إلى جانبي في اللجنة السياسية حيث إن اسم يوغسلافيا يأتي بعد اسم اليمن مباشرة، وكان اسمه المستر "ببلر"، وكانت لي معه أحاديث طويلة، وخصوصًا فيما يتعلق بمشاكلهم مع الاتحاد السوفياتي، وسخطهم على النظام السوفياتي وانتقاداتهم له وكان أشد سخطًا على الاتحاد السوفياتي، وعلى "ستالين" في ذلك الوقت، وأكثر نقدًا له من مندوي الدول الأوروبية الغربية، لكن نقده كان مبنيًّا على أن الاتحاد السوفياتي تنكر للمبادئ الشيوعية، وتحول إلى رأسمالية الدولة، وأن يوغسلافيا هي التي تمثل الاشتراكية العلمية، والشيوعية الحقيقية.

وقد أفادتني تجربتي مع وفد الأمم المتحدة عام 1948م كثيرًا عندما عدت مع وفد الجامعة العربية لحضور دورة الأمم المتحدة، التي عقدت في باريس مرة ثانية في شتاء عام 1951م، حيث كانت تناقش شكوى مصر والجامعة العربية ضد فرنسا بسبب ضغوطها على ملك المغرب "محمد الخامس"، كما أنها ناقشت موضوع استقلال ليبيا ووحدتها التي كان البريطانيون والغربيون عمومًا يعارضونها.

كما أن هذه الفترة مكنتني من متابعة محاولات الدول الغربية، لتوزيع المستعمرات الإيطالية السابقة فيما بينها، ومقاومة الدول العربية لهذه الخطط الاستعمارية التي كانت تريد إحلال الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والأمريكي والأثيوبي محل الاستعمال الإيطالي في ليبيا وفي الصومال وأريتريا، وكان الاتحاد السوفياتي وكثير من دول أمريكا اللاتينية والدول الآسوية والأفريقية يؤيدون مطالبة مصر والدول العربية باستقلال هذه الأقطار العربية.

ولما بدا واضحًا أن الأغلبية في الأمم المتحدة ستكون في جانب مبدأ الاستقلال، حاولت الدول الاستعمارية تفريغ الاستقلال من محتواه، بحجة تطبيق النظام الفيدرالي ليكون كل قطر مشتملاً على عدة أقاليم لها استقلال داخلي، يسمح للدول الاستعمارية أن تتدخل في شئونه، وتتخذ التفرقة بينها وحرمانها من وحدتها سلاحًا لحرمانها من مزايا الاستقلال وقد استخدمت الملك السنونسي وبعض الوطنيين الليبنيين في تحقيق هذا الهدف.

لقد كانوا ابتكروا فكرة الوصاية الجماعية، وقدموا لهيئة الأمم مشروعًا بأن الدول الكبرى تشترك في الوصاية، وسعوا لإقناع الاتحاد السوفياتي بذلك، وحاولوا إغراءه بإعطائه نصيبًا في الوصاية، ولكن الاتحاد السوفياتي كان أكثر منهم دهاءً وعارض ذلك وأذكر أنني حضرت المناقشات في هيئة الأمم المتحدة التي عقدت عام 1948م، وكان منظورًا فيها قضية ليبيا والمستعمرات الإيطالية

وكان يرأس وفد الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت وزير الخارجية وهو المستر "فيشنسكي"، وكان خطيبًا بارعًا تهتز لخطابته أرجاء الأمم المتحدة، وجميع من يستطيعون من الجمهور الفرنسي دخول الأمم المتحدة كانوا يبحثون عن الجلسة التي يكون فيها "فيشنسكي"، وقد سمعت أحد هذه الخطابات بشأن قضية ليبيا والمستعمرات الإيطالية على العموم، وأذكر أنه بدأ قوله بأن في بلادنا روسيا هناك مثل يقول: إن الطفل الذي له أربع مرضعات يموت من الجوع، فأنتم تريدون أ، تكون هذه الشعوب تحت وصاية أربع أو خمس أو ست دول...

يشير بذلك إلى محاولاتهم لاستدراج الاتحاد السوفياتي للموافقة على هذه الخطة، بالمشاركة في الوصايا الجماعية، هو وإحدى الدول الأخرى وغالبًا كانت إيطاليا وهذه الخطة تكشف عن أن الاستعمار يعتبر التجزئة التي يفرضها على أقطارنا وشعوبنا هي أكبر ضمانة لاستمرار سيطرته ونفوذه

وسنرى كيف أن إعلان الاستقلال من جانب "الملك إدريس" وحكومته كان سلاحًا رفعه أعوان الدول الغربية ضد مطالبة الدول العربية بالاستجابة لقرار أغلبية الشعب الليبي الذي يصر على أن تكون ليبيا دولة موحدة، في حين كان "السنوسي" تحت الضغوط الإنجليزية قد أعلن نفسه أميرًا على برقة، وقبل أن تكون ليبيا دول إتحادية تتمتع فيها "برقة" بالحكم الذاتي مثل "طرابلس" "وفزان"

على أن تتمتع كل من المناطق الثلاثة بحكم ذاتي أو استقلال داخلي، مما شجع الإنجليز والفرنسيين والأمريكيين على أن يظهروا بمظهر المؤيدين للاستقلال في ليبيا، بشرط أن يكون على أساس فيدرالي يضمن التجزئة، لكي يبقى للإنجليز ونفوذهم في "فزان" (لإبقاء سيطرتهم على الجزائر وتونس المجاورين لها) وتصبح "طرابلس" فريسة النفوذ الأمريكي الذي يسعى لاستخراج البترول منها.

وفي "الصومال" كانت الدول الاستعمارية، تحاول أيضًا وضعها تحت الوصاية وكانت مصر تعارض في ذلك، وكان لمصر مندوب في غاية الحماس والنشاط، لتأييد مطالبة الصوماليين بالاستقلال، وقد فوجئنا بنبأ اغتياله في "مقديشيو" على يد عملاء القوى الاستعمارية، ولكن جهوده كان لها أثرها في تقرير مبدأ استقلال الصومال

ولذلك فإن الصوماليين بعد الاستقلال قد كرموه، وأقاموا له تمثالاً في عاصمتهم مقديشيو كما علمت وإن كان الغربيون قد نجحوا في اغتياله، كما نجحوا في اعطاء أثيوبيا جزءًا من الصومال هو إقليم أوجادين، الذي ما زالت مشكلته قائمة، وقد خاضت الصومال حربًا طويلة مع أثيوبيا بشأنه ولكنها لم تنجح للآن...

وقصة الاتحاد الفيدرالي استعملها الإنجليز والغربيون عامة بصورة أخرى، لحرمان "أريتريا" من حقها في الاستقلال؛ لأن الشعب الأريتري عربي مسلم، طالب باستقلاله وأيدته الدول العربية، أما الدول الاستعمارية وحكامها فكانوا قد خططوا سياستهم بقصد وقف النفوذ العربي والإسلامي في أفريقيا، ويتخذون أثيوبيا قاعدة لتنفيذ سياستهم الاستعمارية على حساب استقلال شعوب أفريقيا العربية

وخاصة "أريتريا والصومال"، كما اتخذوا "أثيوبيا" قاعدة لتوسيع نطاق المد المسيحي في جنوب السودان وإشعال العرب الأهلية التي ما زالت عبئًا على الشعب السوداني وحكومته وكل ذلك ضمن خطة استعمارية شاملة لسد الطريق على النفوذ العربي والإسلامي في القارة الأفريقية... ولم يكن تأييد الاتحاد السوفياتي لاستقلال تلك الشعوب مقصودًا به مصلحتها، بل إنه كان يخطط للتسلل إليها، وفرض نفوذه على حكامها تحت شعار الاشتراكية، وقد نفذ هذا بواسطة حكام انقلابيين، ومما يؤسف له أنهم جعلوا هدفهم الأول اقتلاع جذور الاتجاه الإسلامي في تلك البلاد

وقد نجحوا أولاً في استغلال انقلاب "زياد بري" الذي طارد كل ذوي الثقافة العربية، والفكر الإسلامي في الصومال وفرض النظام الديكتاتوري باسم الاشتراكية واستدرجه السوفيات للدخول في معركة عسكرية مع أثيوبيا، ليزداد اعتماده على مساعداتهم العسكرية، وفي نفس الوقت كانوا يعدون انقلابًا شيوعيًّا في أثيوبيا

وعندما نجحوا في فرض الديكتاتورية الموالية لهم في أثيوبيا تخلوا عن حكومة الصومال، فتعرضت للضغوط الأمريكية والأوروبية القاسية، التي أذلت الشعب، وفرضت عليه الجوع والبؤس الذي أدى إلى الوضع المأساوي الذي تردى فيه الصومال، كما أن الشيوعيين نجحوا في ضرب حركة تحرير "أريتريا"، واستولوا على الثورة الأريترية باسم الجبهة الشعبية التي تتعاون مع كل من يقاومون التيار العربي الإسلامي في أريتريا، بما في ذلك إسرائيل كما هو معروف.

إن موقف الدول العربية من قضية "أريتريا"، كانت له قصة عجيبة إذ أيدت الدول العربية بالإجماع حقها في الاستقلال أول الأمر، لكن بعد ذلك فوجئوا بمصر تغير موقفها، ويقال إن "الملك فاروق" اتجه شخصيًّا لتأييد الإمبراطور "هايلاسلاسي"، الذي كان يطالب باتحادها مع الحبشة مقبال وعد بتأييد وحدة السودان مع مصر تحت التاج المصري...

لقد كان هناك اتفاق بين الدول الاستعمارية على منع استقلال الأقطار العربية التي احتلوها نتيجة هزيمة إيطاليا في الحرب؛ لأنها كانت جميعها أقطارًا إسلامية وهي "ليبيا والصومال وأريتريا" استمرارًا للسياسة التوسيعة الاستعمارية على حساب العرب؛ لأنهم يعتبرون العروبة بداية للاتجاه الإسلامي، ورمزًا له، منذ الحروب الصليبية

والتي يعتبرون أنها لم تنجح إلا عندما دب الضعف في الدول العثمانية التي كانت تخضع لها جميع الأقطار وكانت هزيمتها في الحرب العالمية الأولى في نظرهم نجاحصا للحملات الصليبية، كما صرح بذلك "اللنبي" عندما دخل القدس وتمكنت الدول الأوروبية الاستعمارية من تجزئتها، وفرضت سيطرتها على الأقطار العربية والإسلامية

واستمرت هذه السياسة بعد الحرب العالمية الثانية والدليل على ذلك مسارعة هذه الدول الاستعمارية لتأييد استقلال الحبشة بالإجماع دون تردد، بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية؛ لأنها دولة مسيحية، بل وزادوا على ذلك بأن أعطوها "أريتريا" كلها، وإقليم "أوجادين" في الصومال، في حين أن استقلال ليبيا لم توافق عليه الأمم المتحدة إلا على أساس أنها دولة اتحادية فيدرالية

كما اشترطت الدول الاستعمارية، لكي تفرض نفوذها على كل جزء من أجزائها كما أن استقلال الصومال لم تعترف به الأمم المتحدة إلا على أساس إعطاء الحبشة إقليم "أوجادين" الصومالي للحبشة ومحاصرة الصومال حتى تلجأ إلى الاتحاد السوفياتي الذي تولى فرض ديكتاتورية اشتراكية تقوم بمهمة اقتلاع جذور الثقافة العربية الإسلامية من تلك البلاد.

بعد أن شهدت هذه المعركة على مسرح الأمم المتحدة عام 1948م، واصلت مهمتي في متابعة الدعايات الاستعمارية في الصحافة الفرنسية والأجنبية حتى عام 1950م، وإبلاغ الجامعة العربية بتقارير عنها من جهة الأستاذ "أسعد داغر" حسبما اتفقت معه وفي ذلك الوقت كان "الفضيل الورتلاني" قد انهمك في تيار "الإخوان" الذين تحالفوا مع علماء اليمن في معارضتهم لاتجاه ملك اليمن لتحويل الإمامة الإسلامية القائمة على الاختيار الحر، إلى ملك وراثي "عصري"

كما تم ذلك في دول أخرى قبل ذلك وبعده، وسمعت بعد ذلك أن ثورة العلما قد فشلت في اليمن بسبب "الحلف المقدس" بين ملوك الدول العربية جميعًا، الذين ساعدوا ولي عهد "الإمام يحيى" وهو ابنه الإمام "أحمد" للقضاء على الثورة وقتل زعمائها، ليبقى الملك الوراثي شرعية الواقعة المفروضة، وهرب "الفضيل الورتلاني" اليمني الجزائري، العالم المسلم المجاهد، بعد فشله إلى عدن

ومنها ركب السفينة يريد العودة إلى مصر أو غيرها من الدول العربية أو الإسلامية، لكن جميع الدول رفضت التجاءه إليها، وأخيرًا سمعت بعض الجمعيات الإسلامية لدى حكومة لبنان، فسمحت له بالنزول إلى بيروت وكان يرأس حكومة لبنان في ذلك الوقت "رياض الصلح"، ولم أعلم بذلك إلا بعد عودتي إلى مصر عام 1950م، ولم تتح لي أي فرصة للقائه منذ أن تركت مصر في صيف عام 1947م، إلى أن توفي رحمه الله.

لكني كنت دائمًا أذكر وعدي له بزيارة الجزائر، وتعهدي له بعمل كل ما أستطيع لأرى شعب الجزائر في بلاده، وأستكشف ما لديه من طاقات للعمل الإسلامي والجهاد في سبيل الله، ولكني لم أر الجزائر إلا بعد استقلالها في عام 1962م، كما سيأتي.

الأهم من ذلك أن اتصالي مع الشيخ "الفضيل"، وعلاقتي معه من خلال قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، جعلت عملي لقضايا أقطار أفريقية الشمالية يقوم على قاعدتين:

الأولى: أننا كإسلاميين نشارك في العمل الوطني على أساس أننا نعمل للإسلام ونهضته ومستقبله في كل قطر من أقطارنا، فالعمل الوطني كان دائمًا في نظرنا جهاد للإسلام ودفاعًا عن أمته ورسالته، وأصالته وعقيدته.
الثانية: أن ذلك الجهاد يعتمد على العقيدة والشريعة الإسلامية التي تفرض الجهاد ولذلك فإن الدعوة للإسلام هي البداية الضرورية لجهاد عامة شعوبنا وشبابها ضد القوى الاستعمارية وأن ثمار هذه الدعوة لن تتحقق إلا بعد فترة طويلة، وتجارب عديدة وأن الجماهير المسلمة التي قاست من الاستعمار أكثر من غيرها هي التي سيكون لها الدور الأكبر في ذلك وفي مقدمتها الشعب الجزائري الذي تحمل عبء الكفاح ضد العدوان الاستعماري مدة تزيد على قرن كامل لذلك فإن الجزائر، هي أولى من غيرها من الأقطار لكي تجعل الكفاح الوطني صورة صريحة للجهاد الإسلامي...

"الفتنة" 1950 .. 1952م

كان المبدأ الذي أعمل على أساسه مع الأحزاب الوطنية هو أن أكون على اتصال مع الجميع، وأسعى بكل الوسائل للتوفيق بينهم، ومساعدتهم على التغلب على مشاكلهم الداخلية سواء داخل كل حزب أو مجموعة، أو فيما بين الأحزاب المختلفة بل وفيما بينهم من الإخوان المسلمين أيضًا، فيما عدا علاقتهم بالحكومات والدول، فلا شأن لي بها ولا أسال عنها، ولما عدت لمصر بعد نهاية البعثة واصلت عملي على هذا الأساس.

بعد عودتي لمصر، وصل "محمد خيضر" وبعده وصل "أحمد بن بللا"، و"حسين آية أحمد"، وعرفت أن الآخيرين هاربان من السجن أو الاعتقال. أما "محمد خيضر" فقد جاء قرب نهاية الدورة البرلمانية التي كان يشترك فيها مع جماعة M.G.L.D، وهو الذي قدم لي "أحمد بن بللا"، الذي عرفته قبل سفري للبعثة والذي بقي ممثلاً للحزب في مصر، وكانوا جميعًا مشغولين بالخلاف بين "مصالي" واللجنة المركزية

ولكن "الشاذلي" كان أميل إلى "مصالي" الذي حضر إلى مصر في طرقة لأداء فريضة الحج، ورافقه "الشاذلي" في رحلته، وقدمه لبعض الجهات الرسمية في مصر وغيرها لكن ولاءها "لمصالي" لم يمنع صلته "بخيضر" والآخرين لأنهم كلهم كانوا يعتبرون أنفسهم أعضاء ومسئولين في الحزب، وكانوا يسعون لكي يرأبوا الصدع في الحزب.

وتوالت الأنباء عن ازدياد حدة الخلاف الذي وقع بين "مصالي حاج" وبين المسئولين عن اللجنة المركزية للحزب في الجزائر، وفهمت من ذلك أن الفرنسيين استطاعوا أن يخترقوا صفوف الفريقين، ويكون لهم أعوان يعملون للإيقاع بينهم، ويدفعون كلا من الجانبين لمهاجمة الجانب الآخر، ولقد بقي "مصالي" أسيرًا طول حياته في فرنسا لا يستطيع العودة لوطنه

ومع ذلك يصر على أن يمارس سلطاته كرئيس للحزب، بواسطة رسل يترددون عليه، ونسي أن كثيرًا من المخلصين لا يسمح لهم الفرنسيون بالوصول إليه، وأنهم يسعون لكي يحيطوه ببعض المنافقين والعملاء حتى لقد شكا لي ذات يوم قبل أن يبدأ هذا الخلاف من إسراف بعضهم في مدحه والإطراء عليه وقال لي: "إنني أشعر بالخجل عندما أسمع كلامه ولا أستريح لرؤيته، ولكنني لا أستطيع منعه؛ لأنه من مناضلي الحزب، بل من المسئولين عنه".

ومن الناحية الأخرى فإن اللجنة المركزية في الجزائر منذ أن رشحت نوابا لدخول مجلس "الاتحاد الفرنسي" أصبحوا هم وكثيرون من جماهير حزبهم يشرعون بالتناقض بين عدم اعتراف الحزب بالاحتلال الاستعماري، والسلطة الفرنسية، وبين مشاركتهم في الانتخابات للمشاركة في برلمان فرنسي، وكانوا يعللون ذلك بأنهم يقصدون إبعاد حزب البيان الذي يرأسه "عباس فرحات" عن ادعاء تمثيله للشعب الجزائري

هذا التناقض أوجد في اللجنة وإطارات الحزب تيارين: أحدهما يستريح للاتصال بالإدارة وعملائها وسماسرتها ويكون ذلك غالبًا بقصد رفع بعض المظالم عن الشعب وعن الأفراد، والآخر يصر على المقاطعة الحازمة للإدارة الفرنسية في الجزائر احترامًا لمبدأ الحركة في عدم الاعتراف بالسلطة الفرنسية المحلية، ومن الطريف أن نواب "حركة انتصار الحريات الديمقراطية" الذين كنت ألقاهم في باريس، كانوا أشد الناس تطرفًا في مبدأ مقاطعة الإدارة في الجزائر ولا يعتبرون أن وجودهم في البرلمان الفرنسي خروجًا على هذا المبدأ؛

لأن مهتمهم في باريس هي مهاجمة الحكومة الفرنسية مستعينين دائمًا بأحزاب المعارضة الفرنسية التي تسلك جميع السبل لنقد سياسة الحكومة، ومهاجمة الحكومة بقصد إسقاطها، لا يقصد تحرير الجزائر لكنها في سبيل إسقاط الوزارة كانت بعض أحزاب المعارضة تستمع إلى شكاواهم وآرائهم وتستفيد من معلوماتهم، وتشجعهم وتؤيدهم في بعض الأحيان وهم يعتبرون هذا نجاحًا لهم ولقضيتهم في ذلك الوقت الذي كانوا يواجهون فيه حصارًا كاملاً في بلادهم.

وكانت هناك جهات كثيرة من المخابرات الفرنسية وغيرها تستغل هذا الخلاف داخل حزب الشعب، وتغذيه بالإشاعات والأكاذيب والاتهامات المتبادلة مثل إشاعة أن "مصالي حاج" في رحلته للحج حصل على معونات مالية احتفظ بها ورفض تسليمها للجنة المركزية الذين كان يصفهم بأنهم "باشوات الحزب"، وكنت أرقب ذلك كله بألم وأسى، ولا أستطيع أن أفعل أكثر من النصح والتهدئة

ومع ذلك بقيت أتعلق بالأمل في رأب الصدع وإعادة الوفاق، ولم يكن ذلك مقصورًا على حزب الشعب، فقد شاهدت الخلاف بين "بورقيبه" و"صالح بن يوسف" داخل حزب الدستور الجديد التونسي، كما رأيت الشقاق بين "ابن بركه" وأصحابه، والسيد "علال الفاسي" وجماعته، وكان الجميع أصدقائي حتى آخر لحظة ولم يدع أحد منهم أنني تدخلت في الخلاف أو أبديت تحيزًا لأحد الفريقين في حين أن جهات أخرى ساعدت في الخلاف، وشجعت عليه، بل استغلته لصالحها ولأهداف خاصة بها.

وفي مصر، كان مكتب المغرب العربي يضم الإخوة الجزائريين جميعًا، ويعملون بالتعاون مع الإخوة التونسيين والمغاربة في هذا المكتب، وكانت الجامعة العربية تعاونهم وتساندهم وأذكر أن "حسين آية أحمد" وهو من أصل بربري، كان على درجة كبيرة من الثقافة، وقد لاحظت أنه يحاول أن يرسم لنفسه خطًّا متميزًا عن الآخرين، وفي يوم من الأيام أبلغني بأنه سيتزوج، وأن زوجته ستحضر إليه مع والدها الذي سيحضر للحج

وبعد ذلك جاء لي "محمد خيضر"، وقال: إنني أرغب في الزواج، وأن "حسين آية أحمد"، قال إن زوجته التي خطبها في الجزائر قبل مغادرتها، لها أخت وستحضران مع والدهما، وعندما تحضر أخت الزوجة أعتقد أنني سأخطبها ونتزوج في حضور والدهما وفعلاً في موسم الحج حضر والد الفتاتين إحداهما "جميلة" التي خطبها "حسين آية أحمد" ومعها أختها وهي "فطة" أو "فطمة" التي يريد "خيضر" أن يخطبها

وفعلاً اتفقوا على الزواج، وحددنا موعدًا لعقد القران وتحدد موعد العقد في منزل أحد أصدقائهما في "جاردن سيتي"، وكان معهم عدد من الجزائريين، واستعدوا لهذا الزواج، وحضر جميع أعضاء مكتب المغرب العربي وقدموا الحلوى وتبادلوا التهاني، وجاء المأذون ليعقد القران وفي أثناء كتابة العقد سأل "محمد خيضر" عن مكان مولده، فقال له في الجزائر

فقال له في أي المحافظات توجد هذه البلدة؟ قال له هذه البلدة ليست في مصر، ولكن في المغرب العربي أي في شمال أفريقيا، قال له إذًا أنت لست مصريا، قال له أنا لست مصريا أنا جزائري قال له: أنا لا أملك أن أعقد العقد إلا للمصريين وبالتالي فأنا لا يمكن أن أتمم هذا العقد، وعليكم أن تتجهوا إلى القاضي، والقاضي وحده هو الذي يملك عقد هذا العقد، ودهش خيضر وإخوانه

وفوجئوا بهذا ولم يخطر لهم ببالٍ أن المأذون سيرفض كتابة العقد، وطبعًا قال أحدهم بأن القاضي سوف يطلب منهم خطابًا من سفارتهم يثبت جنسيتهم، ومعنى ذلك أ، يلجئوا للسفارة الفرنسية، وهذا مستحيل وأن المسألة ستتعقد وستطول ووالد الفتاتين جاء للحج، ومضطر للسفر للحج بعد أسبوع فكان المسألة ستتعطل وتتأخر وكان أحد الحاضرين هو السيد "علال الفاسي"، فقال لهم لا تنزعجوا الآن

إن هذا العقد نعقده طبقًا للشريعة الإسلامية، والمأذون والقاضي ليس حضورهم شرطًا لصحة العقد في الشريعة الإسلامية، والعقد الشرعي يكفي فيه شاهدان، فأنا أكتب لكم هذا العقد طبقًا للشريعة الإسلامية، والعقد الشرعي يكفي فيه شاهدان، فأنا أكتب لكم هذا العقد طبقًا للشريعة الإسلامية وأشهد عليه أنا و"توفيق الشاوي"، وفعلاً كتب العقد "علال الفاسي"، وشهدت عليه أنا وآخر، وأعتقد أنه هو "علال" نفسه، وتم العقد، والمأذون هرب؛

لأنه خاف أن يتهم بأنه عقد عقدًا لغير مصري، أو عقدًا عرفيًّا، وهذه مخالفة إدارية قد تعرضه للمجازاة – هذه هي قصة طريفة في تاريخ الحركة الجزائرية، وقد بقي "خيضر" و"حسين أحمد" بهذا العقد العرفي الشرعي الذي حرره علال الفاسي وشهدنا عليه حتى تم الزواج وولدت لهم أولاد، وقد سمعت فيما بعد أن هذا العقد العرفي قد سبب لهم مشاكل كثيرة وخصوصًا بعد وفاة المرحوم "محمد خيضر" دون أن يوثق عقدًا رسميًّا بعد عودته للجزائر.

ولم تكن الخلافات الداخلية أو الإدارية هي المشاكل الوحيدة التي واجهت هذه الأحزاب، بل كانت هناك المشاكل المالية، وكان الأصل أن كلاً منهم كان يعتمد على ما يرسله له أقاربه أو أصدقاؤه أو المسئولون في حزبه من مال بطريقة أخرى، وخلال مدة إقامتي في باريس كان كثيرون يطلبون مني مساعدتهم في إيصال مبالغ يرسلونها لمن يعرفون في مصر.

لكن "عبد الرحمن عزام" بصفته الأمين العام لجامعة الدول العربية، كان يقدر المصاعب التي تواجهها مثل هذه الحركات من هذه الناحية، لذلك عندما اقترح عليهم أن يكونوا "مكتب المغرب العربي" ليكون منطلقًا للتعاون بين هذه الحركات بل والاتحاد بينها في المستقبل، قرر تشجيعًا لهم صرف مرتبات لمن يعملون في هذا المكتب ومن يرشحونه من المناضلين اللاجئين في مصر.

وبعد إخراج "عزام" من الجامعة العربية بقرار من الحكومة العسكرية التي تولت السلطة بعد حريق القاهرة، وحركة "الجيش" في يوليو عام 1952م، فوجئت في يوم من الأيام بزيارة من "علال الفاسي" و"محمد خيضر"، وذكرا لي أن هناك أزمة تواجههما لأن الأمانة العامة للجامعة العربية قد أبلغتهما بأنها ستوقف المعاشات التي كانت تدفع لهما شهريًّا من ميزانية العامة العامة

وهما لا يعرفان السبب في ذلك، وطلبا مني أن أعمل جهدي لمساعدتهما في هذه المحنة وقد اتصلت فورًا بالدكتور "محمد صلاح الدين" الذي كان وزيرًا للخارجية في مصر، لغاية عام 1950م، والتقينا أنا وهو، و"علال الفاسي"، واتفقنا على أن أذهب أنا معه إلى الأمين العام الجديد السيد "أحمد لطفي حسونة"، لبحث الأمر معه وحثه على مراجعته نظرًا لأهمية هذا الموضوع

وفعلاً ذهبنا إليه في مكتبه بناء على موعد سابق، وقلت له إننا لا نعرف سببًا لإجرائه، ونعتقد أنه يضر كثيرًا بالحركات الوطنية في شمال أفريقيا؛ لأن هؤلاء لاجئون إلى مصر، وإن من عادة مصر أن تؤي اللاجئين السياسيين وترعاهم، طالما هم فيها، وألا تخرجهم أما أن تحرمهم من الطعام والمعاش فهذا أمر عجيب وليس له سابقة في تاريخ مصر ومعناه إلزامهم بالخروج من مصر، فنرجو أن يبحث هذا الموضوع ويراجع هذا القرار فأبدى أسفه وقال أنا لا أستطيع حتى أن أعدكم ببحثه لأني لست إلا منفذًا، ولا أستطيع تغيير هذا القرار بأي وجه من الوجوه؛

لأنه ليس من عندي، فعدنا بدون نتيجة وأبلغنا إخواننا الجزائريين والمغاربة بأنه لا أمل في تغيير هذا القرار وفهمت بعد ذلك من اتصالاتي معهم ومع غيرهم أن سياسة الحكومة العسكرية ومخابراتها في مصر لا تريد أن تتعامل مطلقًا مع الأحزاب الوطنية القائمة في الجزائر وتونس والمغرب وأنهم يريدون أن يستبعدوها ويعملوا هم بطريقهم المباشر إذا اقتضى الأمر مع من يريد أن يتعاون معهم بصفة فردية وفي حدود مصالحهم وسياستهم فقط

أما أن يدعموا حركة تكون قيادتها في بلادها خارجة عن سلطانهم فهذا ما لا يريدونه وفهمنا بالتدريج على فترات معينة بأنهم اتصلوا ببعض أفراد من العاملين بمكتب المغرب العربي أو اتصل بهم بعض الأفراد وأبدوا استعدادهم للعمل مباشرة مع الحكومة العسكرية عن طريق جهاز الاستخبارات وأعتقد أن أول هؤلاء هو "أحمد بن بللا" وقد عرفت ذلك مؤخرًا بعد أن بدت له ظواهر وعلامات أكدت لي ذلك بالتدريج فيما بعد

من بينها عدة وقائع وقرائن عندما كان معتقلاً في فرنسا وزرته في المكان الذي كان معتقلاً فيه هو وإخوانه، فطلب مني أن أحمل رسالة إلى سفير مصر في جنيف السيد فتحي الديب وكان أحد رجال المخابرات، وفهمت أنه وضع في جنيف ليكون هو ممثل المخابرات المصرية في الاتصال مع الجماعة الجزائريين المعتقلين في فرنسا ومنهم "ابن بللا"، و"محمد خيضر"

ويظهر أن "محمد خيضر" سار في هذا الاتجاه بحكم صداقته مع "أحمد بن بللا"، دون أن يكون هو الذي يقوم بالاتصال المباشر كما ظهر لي بعد ذلك عندما وقع الخلاف بينه وبين "بن بللا"، كذلك فيما يتعلق بالتونسيين سار في نفس الاتجاه الأمين العام لحزب الدستور وهو "السيد صالح بن يوسف"، وترتب على هذا أن أوقف تعاونه تدريجيًّا مع "الحبيب بن بورقيبه" الذي كان رئيس الحزب في ذلك الوقت وانحاز له أغلبية الحزب

وبقي الأمين العام وحده في مصر، ولكن "بورقيبه" دبر اغتياله في إحدى رحلاته للخارج في أحد فنادق مدينة فرانكفورت بألمانيا بعد ذلك، وكان معه بعض الأشخاص الذين لم يكونوا من قيادات الحزب، وأعتقد أن منهم كان المرحوم "إبراهيم طوبال"، فهؤلاء كانت لهم علاقة شخصية على أسس جديدة مع الحكومة العسكرية في مصر عن طريق الاستخبارات

وكذلك فيما يتعلق بالمغرب الأقصى قد استطاعت الحكومة العسكرية المصرية أن تستقطب "بن بركة" وزملاءه وأعتقد أنهم هم الذين دفعوهم لكي ينشقوا عن حزب الاستقلال بحجة أنهم يريدون الاشتراكية، وأن "علال الفاسي" وقادة حزب الاستقلال من علماء القرويين محافظون ونتيجة هذا الاستقطاب أنهم تمردوا عليه، وأنشئوا جماعة أو حزبًا، بقي إلى اليوم باسم اتحاد القوى الشعبية، ثم تحول إلى الاتحاد الاشتراكي وما زال يحتفظ بهذا الاسم برغم أن هذه التسمية قد اندثرت في مصر نفسها، وفي السودان، وفي غيرها من البلاد التي كانت تدور في فلك الحكم الناصري.

على كل حال الذي أوكده أنني لم أقطع علاقتي بأي جهة من الجهات، ولم يدر في خلدي أن سألهم عن حقيقة هذه العلاقات، ولا عن سببها؛ لأن مهمتي كانت المساعدة والتعاون مع العاملين في حقل الكفاح الوطني، طالما هم في حاجة لمساعدتي وراغبون في ذلك.

في عام (1952م)، أحد أيام الصيف، فوجئت وأنا بالشقة التي أسكنها بالدقي بزيارة غير متوقعة من الدكتور "حافظ إبراهيم" الذي تعرفت عليه في رحلة "الحج في أسبانيا" وقضيت معه ومع أسرته فترة سعيدة لا أنساها، وزاد من وقع هذه المفاجأة أنه أحضر معه أكبر أبنائه توفيق وكانت سنه إذ ذاك تقرب من السابعة

وقال لي: لقد قمت بحج في أسبانيا، وقد رأيت أنا أن أقوم بحج إلى "الشرق" لأرى مصر لأول مرة في حياتي وقد أحضرت معي "توفيق"، لكي أدخله مدرسة يتعلم فيها العربية والثقافة الإسلامية ويتمتع بالعيش في بلد عربي إسلامي، لقد سعدت بلقاء "حافظ" وابنه، وكانت لنا لقاءات عديدة وفجأة قرر أن يقوم بزيارة لبعض معارفه في البلاد العربية المجاورة، وترك لي ابنه توفيق لأقوم بمهمة إدخاله مدرسة مناسبة...

مرة ثانية أجد الحاجز الثقافي يمزق وحدة الأمة، ويهدد نهضتها، وألمس مدى تقصيرنا في النهوض بتعليمنا العربي في بلادنا، لقد بحثت عن مدرسة بها قسم داخلي وتعلم اللغة العربية في الصيف ليستفيد توفيق من عطلة الصيف، في تعلم لغتنا لكي يبدأ دراسته في بداية العام الدراسي باللغة العربية وبحثت في القاهرة كلها عاصمة مصر وقلب العالم العربي والإسلامي وبلد الأزهر، فلم أجد مدرسة واحدة توفر مثل هذه الدروس خلال عطلة الصيف

وكان يساعدني في البحث صديقي الأستاذ "محمد هارون المجددي" الذي كان زميلي في قسم الاتصال بالعام الإسلامي للإخوان المسلمين فترة طويلة وشارك معي في دراسة كثير من القضايا الإسلامية ولكنه مسافر إلى الإسكندرية في الصيف مع أسرته ووالده الرجل العظيم الشيخ "محمد صادق المجددي" سفير أفغانستان في مصر الذي كانت له معنا جولات وصولات في كثير من شئون الإخوان وقضايا المسلمين التي نعمل من أجلها.

بعد أيام قليلة اتصل بي هارون المجددي، وقال إنه وجد في الإسكندرية مدرسة تستقبل التلاميذ في الصيف، وتهيئ لهم إقامة داخلية، لكنها للأسف مدرسة إنجليزية، وبعد تردد ذهبت مع "توفيق" وأودعته بتلك المدرسة حتى ينتهي الصيف وننقله للقاهرة وعندما عاد الدكتور "حافظ" من جولته في بعض البلاد العربية وافق على إلحاقه بالمدرسة الإنجليزية في مصر الجديدة بالقسم الداخلي

حتى تكون لديه فرصة أكبر لإتمام دراسته بالخارج، ولقد اضطررت إلى ذلك نظرًا لأنني لاحظت أن الأمور غير مستقرة بين الحكومة والإخوان المسلمين ومعنى ذلك أن وجوده معي في المنزل قد يترتب عليه إزعاج له أو توريط له، أو لوالده في قضايانا الداخلية وقد حصل ذلك فعلاً إذا اعتقلت في العام التالي (1954م)

وبقيت بالسجن الحربي عامين لم يستطع "توفيق" أن يزورني خلالهما، أو يتصل بي كعادته، وأكثر من ذلك عندما بدأ العدوان الثلاثي على قناة السويس انزعج والده ووالدته وحضرت والدته للاطمئنان عليه، ثم حضر والده، وقرر أن يأخذله لمدريد معه؛ لأنه وجد في طنجة قريبًا منه مدرسة أمريكية يمكنه أن يلحقه بها...

وأثناء وجود "حافظ" بالقاهرة جاء إليه اثنان من أعضاء حزب الاستقلال في ذلك الوقت، وهما "عبد الرحمن اليوسفي" الذي كان مرافقًا لي في باريس عام 1951م، أثناء اشتراكي في وفد الجامعة العربية لدورة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي نوقشت فيها شكوى مصر والدول العربية ضد فرنسا دفاعًا عن المغرب وملك المغرب (الذي كان يكرهه الفرنسيون) وكان معه "الفقيه البصري"، وهو أحد كبار المسئولين في الحزب، وكان له دور في المقاومة بعد عزل الملك.

وقد تردد هذان الصديقان على بعض المسئولين في مصر في ذلك الوقت، ولم يذكرا لي موضوع المقابلات ولا هدفها ولم أسألها عن ذلك، ولكني لاحظت أنهما متفائلان بما لقياه من ترحيب وحسن استقبال، ويظهر أن العلاقات توطدت فيما بعد بينهما وبين حكام مصر العسكريين وأن "ابن بركة" هو الذي تزعم هذا الاتجاه الذي أدى إلى انشقاق هذه المجموعة على حزب الاستقلال بتأييد وتحريض من أجهزة الحكم العسكري في مصر

وأنشئوا حركة سموها اتحاد القوى الشعبية، ثم الاتحاد الاشتراكي تيمنًا بالاتجاه الناصري وقد ظهرت بوادر التأييد الناصري لهذا الانفصال في الإعلام الحكومي في مصر، فبينما كان "علال الفاسي" يستعد للعودة إلى وطنه نشر "هيكل" رئيس تحرير الأهرام في ذلك الوقت مقالاً مطولاً في إحدى المجلات المصورة، لا أذكر إن كانت "آخر ساعة" أو "المصور"، أو غيرها

تهجم فيه على "علال الفاسي" دون أي مناسبة تستدعي ذلك ونسب فيها إليه ما اعتبره "السيد علال" قذفًا وسبًا في حقه، فاتصل بي وطلب مني أن أنوب عنه كمحام في تقديم شكوى للنائب العام وفتحت النيابة تحقيقًا سمعت فيه أقوال السيد "علال الفاسي"، ثم استدعت المشكو في حقه لإبداء دفاعه وأجل التحقيق لهذا الغرض عدة مرات، وكلما ترددت على رؤساء النيابة أبدوا أسفهم؛

لأنهم لا يجدون وسيلة لإحضار المدعى عليه (السيد هيكل)، ولما كانوا كلهم زملائي وتلاميذي فقد آثرت التخلي عن الموضوع ولا أدري كيف انتهى التحقيق لأن "علال الفاسي" آثر أن يغادر مصر ويستقر في طنجة التي كانت في ذلك الوقت مدينة دولية لا تخضع للسلطات الفرنسية أو الأسبانية ولا المصرية...

تونس ثغرة في الحائط العربي الإسلامي

عندما أنشأ ممثلو الأحزاب الوطنية في المغرب وتونس والجزائر، المقيمون بمصر، مكتبًا مشتركًا لهم بالقاهرة، اختاروا له اسمًا يربطه بدول "المشرق العربي" فسموه "مكتب المغرب العربي" لتمييزه عن "دولة المغرب"، ولكي يشيروا إلى اتجاههم نحو التعاون مع الجامعة العربية ودول المشرق التي أنشأتها، وهنا نرى إصبع "عبدالرحمن عزام" الذي نعتبره أول من عمل لتوسيع نطاق الجامعة العربية

لتشمل جميع أقطار شمال أفريقيا ابتداءً من ليبيا وما يليها من الأقطار المغربية إن عزام هو الذي وجه هؤلاء الوطنيين إلى وجوب التعاون والتنسيق فيما بينهم، ليكون ذلك تمهيدًا لاتحاد هذه الحركات يؤدي في النهاية إلى توحيد أقطار الشمال الأفريقي بصورة أو بأخرى وكذلك ارتباطها جميعًا بتيار العروبة الذي تمثله جامعة الدول العربية، التي تجسد في نظره فكرة الوحدة العربية...

إلى عهد قريب كنا في مصر، نصر على تسمية "الدولة المغربية" باسم "مراكش" لأن تلك المدينة كانت عاصمة الدولة مدة طويلة، قبل أن تنتقل العاصمة إلى "فاس"، ثم إلى "الرباط" بعد الاحتلال الفرنسي، وقد جرى عرف المؤرخين العرب على إطلاق اسم العاصمة على الدولة كلها، "فتونس" عاصمتها مدينة "تونس"، و"الجزائر" عاصمتها "الجزائر"، لكن في العصر الحديث خرجت "دولة مراكش" عن هذه القاعدة وسميت دولة "المغرب" والاسم الإسلامي لها كان "المغرب الأقصى"

وتبعًا لذلك كانت "الجزائر" هي المغرب الأوسط أما "تونس وليبيا" فهما المغرب الأدنى، وقد عادت دول الشمال الأفريقي أخيرًا إلى الإقرار بأن هناك عدة مغارب، وليس مغربًا واحدًا ولذلك سموا حركة الاتحاد بين تلك الدول باسم الاتحاد "المغاربي" الذي اتسع لكي يضم ليبيا وموريتانيا إلى جانب المغرب والجزائر وتونس.

إن فكرة الوحدة بين أقطار المغرب قبل استقلالها، بدأت في مصر بتشجيع الجامعة العربية، وأمينها العام "عبد الرحمن عزام"، إن منبعها كان قلب "عبد الرحمن عزام" وفكره وكان الموضوع بالنسبة لنا في القاهرة، وللإخوان المسلمين "بصفة خاصة" أمرا بديهيًّا؛ لأننا في الواقع لم نتصل بهذه الحركات الوطنية إلا انطلاقًا من مبدأ الوحدة الإسلامية

وقد تأكدت هذه الفكرة بعد إنشاء هذا المكتب الموحد للمغرب العربي وكان الفرق بيننا وبينهم أن الوحدة العربية هي مرحلة في طريق الوحدة الكبرى، في حين أن كثيرًا من الوطنيين كان يعتبرها غاية في ذاتها بل إن البعض يرى أنها كانت مجرد وسيلة للاستقلال الوطني "القطري" الذي كان هو الهدف النهائي في نظر بعض الزعماء، فكان كل قطر من هذه الأقطار الثلاثة له قضيته وله حزبه أو أحزابه

وله واقع يميزه بل يفصله عن جيرانه، كما يفصل ممثليه عن ممثلي الأحزاب الوطنية الأخرى، وقد كان هذا الواقع منشأ صعوبات كثيرة واجهتها عندما كنت أدعو المسئولين عن تلك الأحزاب الوطنية لضرورة العمل الجدي، للتعاون على أساس الوحدة أو الاتحاد أو التعاون على الأقل ولكن عندما يعرفون أنني من الإخوان المسلمين الذين يدعون للوحدة الإسلامية الشاملة كان كلامي عن الوحدة والاتحاد مفهومًا ومقبولاً على أساس الإلسام وهو هدف غير مستبعد، حتى من جانب دعاة الاستقلال "القطري" المحدود في شمال أفريقيا فيما عدا بورقيبه وجماعته الذين يكونون ثغرة في حائط الكفاح العربي الإسلامي.

وكان الإسلام هو النقطة الأساسية التي يلتقي عندها قادة الكفاح الوطني وهو الذي يطبع هذه الشعوب بطابع وحدوي رغم اختلاف الظروف السياسية، إن الاستعمار نفسه لم يكن يصف أهالي تلك البلاد جميعًا إلا بصفة واحدة هي أنهم "المسلمون"، وكان يتفادى وصفهم بأنهم مغاربة أو جزائريون أو تونسيون خشية إثارة فكرة القومية لديهم لأن خطته كانت تهدف لتوطين أكبر عدد من الفرنسيين والأوروبيين في جميع هذه البلاد وتمكينهم من احتكار المال والإدارة والسلطة والسيادة فيها

وإبادة شعوبها الأصلية الإسلامية أو استبعادتها وإذابتها لتصبح مستعمرة أوروبية للاستيطان على نمط المستعمرات الاستيطانية التي أصبحت شعوبًا ودولاً "أمريكية"، بعد أن أبادت السكان الأصليين أو إذابتهم في مجتمعات المهجرين والمستوطنين الأوربيين، والذين فرضوا على العالم وصفهم بأنهم أمريكيون، سواء في أمريكا الشمالية أو الجنوبية

وكان المعمرون والمستوطنون الفرنسيون والأوروبيون عمومًا في شمال أفريقيا يسيرون في هذا الاتجاه، حتى إنهم كانوا يتباهون بتسمية أنفسهم جزائريين، أو "ماروك – مغاربة"، أو تونسيين، أما السكان الأصليون فيصفونهم بأنهم "المسلمون"، وهم طائفة فقط من طوائف المجتمع مصيرها إلى الإبادة، أو الذوبان في مجتمع أوروبي استيطاني.

وإذا لاحظنا النجاح الذي حققه المشروع الاستعماري في أمريكا واستراليا بإبادة السكان الأصليين، وقارنا ذلك بما حدث في أفريقيا الشمالية، حيث كانت المقاومة العنيدة الصامدة الناحية التي مكنت شعوب تلك الأقطار من مقاومة مشروع الاستيطاني في بلادهم وهزيمته، رغم أنها كانت أقرب الأقاليم إلى فرنسا وأوروبا فإن مرجع ذلك في نظر الأوروبيين هو العقيدة الإسلامية، التي كانت العروبة في نظرهم تعبيرًا عنها

إن كلمة "المسلمين" وكلمة "العرب" كانتا دائمًا وما زالتا مترادفتين في قاموس الاستعمار الأوروبي، بل وفي نظر جماهير شعوب تلك البلاد ذاتها، وما زال الأمر كذلك حتى الآن، رغم محاولات الدعوة لفصل القومية العربية عن الإسلام التي يروج لها القوميون وعملاء الاستعمار وحلفاؤه ممن يعارضون الوحدة الإسلامية ويتخذون القومية العربية سلاحًا لعزل شعونا عن الإسلام وعن كل دعوة للأصالة الإسلامية...

لازلت أذكر وقائع كثيرة تقطع بأن تلك الشعوب لا تفرق بين الإسلام والعروبة فهم كانوا يصفون الفرنسيين والأوروبيين جميعًا بأنهم "النصارى"، وكانوا يصفون أنفسهم بأنهم "المسلمون" أو العرب، والكلمتان مترادفتان، ولم يستعملوا كلمة الأوروبيين مطلقًا وإلى عهد قريب كانوا يبدون دهشتهم عندما نقول لهم إن عندنا في مصر وفي سوريا وفلسطين عربًا غير مسلمين

وإذا كان بعض المثقفين الذين عاشوا في الخارج قد اقتنعوا بذلك أخيرًا فإن مواطنيهم في الداخل كانوا يجهلون ذلك وينكرونه ويصعب إقناعهم به، بل كلهم مسلمون على مذهب الإمام مالك لذلك فإنه فيما يتعلق بالإسلام فإن الوحدة بين الشعوب في شمال أفريقيا بل بينها وبين الشعوب الإسلامية (العربية وغير العربية) في آسيا وأفريقيا لم تكن قط محل شك، وهذا هو ما سهل مهمتي إلى حد كبير في هذه الناحية

ولكنني لاحظت أن "تونس" فيها ثغرة يمكن أن تكون سبب ضعف مسيرة الوحدة، وأنها مرشحة من قبل بعض القوى الأجنبية لكي تقوم بدور في تعطيل الوحدة بين شعوب المغرب العربي إن تونس في نظرهم ستكون لبنان المغرب العربي، إنهم يريدون أن تقوم البورقيبية في تونس بدور بعض عناصر المارونية في لبنان، التي تسعى لعزلها عن العروبة، ويفضلون علاقتهم بفرنسا الأم، والفرانكفونية التي تربطهم بها...

لقد كانت المهمة أسهل في علاقاتي بالطلبة التونسيين في باريس، لكن الأمر كان يزداد صعوبة عندما كنت أتكلم في ذلك مع كبار المسئولين في الحزب البورقيبي، الذين التقيت بهم في القاهرة أو باريس، وأذكر مثالاً لذلك مناقشاتي المطولة بباريس مع السيد "جلولي فارس" عضو المكتب السياسي للحزب الدستوري الجديد، وقد بعثه المكتب السياسي إلى باريس ليكون ممثلاً له في فرنسا، وبقي كذلك طوال مدة إقامتي في فرنسا

وكانت لي فرصة للحوار معه حول هذه النقطة أكثر من أي مسئول آخر، وكان منذ وصوله إلى باريس لم يستأجر مكتبًا يعمل فيه بل كان محله المختار هو قهوة بالحي اللاتيني في شارع "سان ميشيل"، وكانت تسمى "لاماسكوت"، ولما زرت باريس مؤخرًا وجدت أن اسمها قد تغير وأنها تسمى "لوكسمبورج"؛

لأنها تطل على حديقة لكمسبورج الشهيرة، وكان يجلس هناك ويستقبل أصدقاءه من التونسيين والعرب والمسلمين والفرنسيين أيضًا، ومنهم بعض الصحفيين ولذلك كنت ألتقي به يوميًّا تقريبًا، وكلما ذهبت إلى كلية الحقوق القريبة من حديقة لوكسمبورج وكان في الأصل كما أخبرني معلمًا للغة العربية، ومن أعضاء حزب الدستور الجديد، وأنه من الجنوب من بلدة (واحة) تسمى "الحامة"، وتقدم في إطارات الحزب حتى أصبح عضوًا بالمكتب السياسي، ولذلك اختاروه ممثلاً لهم في باريس وكانت صلتي الشخصية به في باريس وثيقة جدًا؛

لأن الشعور الإسلامي عنده أصيل حي وكنا نتكلم عن الإسلام والمسلمين كلامًا عامًا صريحًا، ولكني لم أحاول مطلقًا أن أخرج في كلامي عن نطاق عملي في الحزب الوطني أو أدعوه للتعاون مع الإخوان، بل كان كل حديثنا عن حزبه والأحزاب الأخرى وقياداتها وكانت نقطة الخلاف بيني وبينه دائمًا هي مسألة التعاون بين الأحزاب الوطنية الثلاثة حزب الاستقلال في المغرب، وحزب الشعب في الجزائر، وحزب الدستور الجديد في تونس

وكان يقول إن كل بلد منها له ظروفه، ومسألة التعاون هذه غير مجدية لأن كل واحد منا خاضع لقيادة حزبه في بلده، وهذه القيادة هي التي تقرر مبدأ التعاون ونظامه، وحسب ما يوجهوننا فنحن ملتزمون به، وكنت ألمح من خلال حديثه أنه حتى إذا كان لابد من حوار حول هذه الوحدة أو التعاون فلابد أن يكون على مستوى القيادات الحزبية، وأن ممثلي حزب الشعب وحزب الاستقلال في باريس حاليا هم من الطلبة؛

ولذلك لا يمكن أن يناقش هذه النقطة معهم لأنه هو عضو بالمكتب السياسي لحزوبه، وإذا كان هناك محل للحوار فيكون بينه وبين زعماء الأحزاب الأخرى، أو أعضاء بالمكتب السياسي بها، وفيما يخص "مصالي حاج" فقد كان يبتعد عن الحديث عنه طالما هو تحت الإقامة الجبرية، ولا أذكر إن كان قد التقى معه أم لا ومع ذلك أقنعته بأنه من الممكن أن يكون هناك لقاء وتنسيق بين ممثلي الأحزاب في باريس للتشاور وتبادل المعلومات، والتنسيق في العمل وتنسيق بين ممثلي الأحزاب في باريس للتشاور وتبادل المعلومات

والتنسيق في العمل المحلي هنا، حتى لا يوجد شقاق أو تعارض واتفقنا على هذا التعاون "في الإطار المحلي فقط" مثل حضور اجتماعات بشأن قضية فلسطين أو غيرها من القضايا وهذا أمر كان يتم فعلاً من قبل على مستوى القاعدة دون حاجة لقرار من الحزب أو ممثليه، وبالنسبة للحزب الدستوري التونسي الجديد كان هو يشعر بأنه ليس له قاعدة بين العمال التونسيين في فرنسا، وأن نشاط الحزب في باريس محصور في محيط الطلبة

ولجنة الطلبة هي التي كانت تعمل قبل حضوره والآن تعمل معه وعملهم كان وما يزال الطلبة فقط، وكلهم طبعًا من تلاميذ المدارس والجامعات الفرنسية وليس فيهم عدد في نطاق الطلبة فقط، وكلهم طبعًا من تلاميذ المدارس والجامعات الفرنسية وليس فيهم عدد كبير من ذوي الثقافة العربية والإسلامية حتى إن صديقي "الطاهر جيجة" لم يكن يعرف عنه شيئًا كثيرًا؛ لأنه معتزل عن الطلبة التونسيين ويعمل في طريقه مع الجزائريين

ولم يكن هذا الأمر محل نقاش معه، وكنت أحدث السيد "جلولي فارس" بما يصلني من أخبار القاهرة هذا الأمر محل نقاش معه، وكنت أحدث السيد "جلولي فارس" يما يصلني من أخبار القاهرة وكان تأتيه بعض الرسائل من "الحبيب بورقيبه" وزملائه في القاهرة، وقد بقي "جلولي فارس" مدة طويلة يمثل الحزب في فرنسا حتى إنني حينما تركت فرنسا عائدًا إلى مصر بقي هو فيها

وكان زعماء الحزب الآخرون مستريحين لذلك؛ لأنه لم يكن لديه طموحات في منافستهم على الزعامة، والغريب أن "تونس" كانت أول أقطار شمال أفريقيا التي استطعت دخولها في عام 1948م، وهي تحت الاحتلال الفرنسي والحماية الفرنسية، وقد أراد الله أن تهيأ لي الظروف كي أشاهدها من أقصاها إلى أقصاها في ذلك الوقت، وأكون صداقات كان لها دور كبير في المستقبل

ولذا أصبحت صورة "تونس" كبلد وكشعب أقرب صورة لشمال أفريقيا في ذهني، في حين كانت قضية الجزائر والحركة الوطنية الجزائرية هي أهم ما يشغلني من قضايا شمال أفريقيا، وكنت أسمع أن الفرنسيين كانوا يعتبرون أن قضية تونس والمغرب ليستا إلا فرعًا مكملاً لقضية الجزائر لأنهم احتلوها قبل تونس بخمسين عامًا، وقبل المغرب بمائة عامًا تقريبًا

وكان هدفهم من احتلال تونس والمغرب هو تأمين بقائهم في الجزائر، وهذا هو الأمر الذي تعبت في شرحه لأخينا "جلولي فارس"، ولغيره من التونسيين، ومن المغاربة، وهم كانوا لا يريدون أن يفهموا أن قضية الجزائر هي القضية الأم، ونسوا أن بعض الساسة الفرنسيين كانوا يقولون إن المغرب وتونس ليسا إلا "قرطين" في أذني الجزائر

ومعنى ذلك أن قضية الجزائر هي القضية الأساسية في شمال أفريقيا في نظرهم، وأن الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا، يعتبر قاعدته الأولى هي الجزائر وعندنا أمل في أن تكون هي القاعدة الأخيرة وإن تحررها يعني تحرر شمال أفريقيا ويعني تحرر أفريقيا كلها.

ونظرًا لأنني أعتبر التعاون بين الحركات الوطنية الثلاث أمرًا جوهريًّا، فقد بذلت كل جهدي لدفعهم جميعًا نحو هذا التعاون، ولاشك أن الجزائريين كانوا أكثر العناصر استعدادًا لذلك ورغبة فيه، وكان الآخرون يعلمون ذلك، ولكنهم كانوا يعللونه بأن الجزائريين يشعرون أنهم في حاجة إليهم؛ لأن ظروف تونس والمغرب أفضل بكثير من ظروف الجزائر وأملهم في التحرر والاستقلال ليس محل شك أو جدال

وهي مسألة وقت فقط أما الجزائر فإن المبدأ نفسه "مبدأ الاستقلال" ليس متفقًا عليه حتى بين الجزائريين أنفسهم وكانوا يستدلون على ذلك بوجود حزب البيان الذي يرأسه "عباس فرحات" الذي يعلن رفض هذا الشعار ويتبرأ من هذا الهدف، وكان ردي على ذلك أن استقلال تونس والمغرب لا يمكن أن يتحقق فعلاً إلا إذا قويت الحركة الوطنية في الجزائر، وأصبحت تهدد وجود فرنسا بها

وأنه عندما يشعرون بأن الحركة الوطنية الجزائرية تهدد وجودهم في الجزائر فعند ذلك فقط يحاول الفرنسيون إرضاء المغاربة والتونسيين، وصرفهم عن التضامن مع الثورة الجزائرية أولاً، لإخراجهم من ميدان الكفاح، حتى يتفرغوا للقضاء على الحركة الجزائرية، أما إذا بدأت تونس والمغرب بالابتعاد عن الكفاح الجزائري، فإن مركزها سيكون ضعيفًا أمام فرنسا، بل هم يحققون لها هدفًا استراتيجيًّا دون مقابل.

كان التونسيون والمغاربة كأفراد مقتنعين بذلك، لكن من كان منهم ملتزمًا بقيادة حزبه لم يكن يجرؤ على أن يتخذ أي مبادرة نحو التعاون مع الجزائريين، أما من تضعف صلتهم بالحزب مثل غالبية الطلبة التونسيين، فكانوا يعملون في هذا الاتجاه، وكان أحسن مثل لذلك عندي هو "الظاهر جيجة"، الذي لا يخفى التزامه القاطع بالعمل في إطار الحركة الوطنية الجزائرية

وكذلك "محمد الميلي" الطالب التونسي الذي كان يهاجم الطلبة الملتزمين بقيادة الحزب الدستوري الجديد، ويشكو من عجزهم، ويؤكد أنهم منفصلون عن القاعدة الشعبية لأن المنصف باي من ناحية ونقابات العمال التونسين من ناحية أخرى، لديهم شعبية كبر بكثير من قادة "حزب الدستور الجديد"، ولذلك كان يلمح إلى أن بعض قادة الحزب الدستوري "الجديد" لديهم غيرة من كل نفوذ يكسبه "المنصف باي" أو زعيم نقابات عمال تونس "فرحات حشاد"

ويعتقدون أن شعبية هذين الزعيمين كانت على حساب نفوذهم وشعبيتهم وقد سمعت هذه الملاحظة من عدد من المعلقين الفرنسيين أنفسهم، وخاصة عندما جاءنا وفاة "المنصف باي" ونبأ اغتيال الشهيد "فرحات حشاد" فيما بعد، حتى إن بعضهم كان يصرح بأن الحزب كان مسرورًا لوقوع هذا الاغتيال، ولمح بعضهم إلى أن بعض قادة الحزب كانوا متواطئنين مع من دبروا الحادث.

وكان "محمد الميلي"، وكثيرون غيره يعتقدون أن الحزب يحصر نفسه في دائرة المثقفين بالثقافية الفرنسية، ويهاجم بشدة علماء الزيتون وخريجيها، وجميع أصحاب الثقافة العربية والإسلامية، وأن الصحافة المحلية في عهد الاحتلال كانت تغذي هذا الاتجاه وهي في عمومها تحت سيطرة الإدارة الفرنسية والماسونية اليهودية التي لها نفوذ كبير في الاقتصاد والمجتمع التونسي

وأن هذه الصحف قامت بدور كبير في توسيع الهوة الفاصلة بين الحزب وعلماء الزيتونة وطلبتها، وجميع من يرفعون شعارات إسلامية، وحجة "بورقيبه" وأمثاله في ذلك أن هذه الشعارات تثير فرنسا، وتجعل حصولهم على الاستقلال أكثر صعوبة، فهم يسعون إلى استقلال تمنحه فرنسا باختيارها، إذ إن كثيرًا من هؤلاء الزعماء كانوا يعتقدون أن تونس بسبب صغر مساحة إقليمها، وقلة عدد سكانها

يجب أن تسعى للحصول على حريتها أن تونس بسبب صغر مساحة إقليمها، وقلة عدد سكانها، يجب أن تسعى للحصول على حريتها عن طريق المفاوضات مع الحكومة الفرنسية، وكانوا يستبعدون أي تفكير في المقاومة المسلحة ولذلك كانوا يصرون على عدم "التورط" مع الحركة الوطنية الجزائرية التي تعد نفسها دائمًا للمقاومة بجميع الوسائل بما في ذلك استخدام السلاح ولذلك فإن بورقيبه زعيم الحزب بعد اتفاقه مع فرنسا على صورة متواضعة من الحكم الذاتي

فوجئ بأن هناك مقاومة تونسية مسلحة باسم "الفلاجة"، يحركها ويؤيدها بعض الإسلاميين، فسارع "بورقيبه" إلى معاونة الفرنسيين للقضاء عليهم، وقتلوا من قبض عليه منهم، وواصلوا هجومهم الإعلامي على العلماء "التقليديين"، وعلى كل الإسلاميين الذين سموهم فيما بعد بالأصوليين.

استمرت زعامة الحزب البورقيبي في التنديد بالعلماء، والتهجم عليهم اعتقادًا منهم بأن ذلك يزيد في رصيد الحزب لدى الرأي العام الفرنسي، ومراكز القوى الإدارية والمالية وخاصة من اليهود والأجانب في تونس، وبسبب ذلك خسر الحزب جانبًا كبيرًا من المثقفين بالثقافة العربية، وأصبح لا يمثل جمهور الشعب التونسي لأن شطرًا كبيرًا من هذا الشعب من المؤمنين بالمقومات الإسلامية

كما أنه كان يوجد به طائفة كبيرة من ذوي الثقافة العربية والإسلامية، نتيجة وجود الجامعة الزيتونية والمركز الاجتماعي الذي يحتله خريجوها بين المؤيدين للاتجاه الإسلامي الذي لا يمكن أن ينضموا للحزب البورقيبي أو يؤيدوه وبقوا طاقة مجمدة أو معطلة في انتظار من يقودهم في الاتجاه العربي الإسلامي، وتذكرت ما سمعته من الشيخ "محيي الدين القليبي"، و"الشيخ الفاضل بن عاشور"، وقبلهم من "الشيخ محمد الخضر حسين" عن تعطش التونسيين للفكر الإسلامي والثقافة العربية

واستعدادهم للسير في طريق الدعوة الإسلامية بمجرد أن يجدوا القيادة الشابة الفتية التي ترفع هذا الشعار وقد فهمت منهم في مقابلاتي العديدة لهم في القاهرة في صيف 1947م، أن عددًا كبيرًا من الشباب التونسي، قد جاءوا إلى مصر للانضمام إلى صفوف الجهاد في فلسطين ثم علمت بعد ذلك أن كثيرًا منهم قد اعتقلوا في السلوم

وأعيدوا لبلادهم، فبدءوا في تأسيس خلايا وأسر تعمل للدعوة الإسلامية بعيدًا عن صفوف الحزب وقياداته وأن جميع الطلبة التونسيين في مصر أو غيرها من البلاد المشرقية يسيرون في هذا الاتجاه، ولا يمثلون الحزب البورقيبي ولا يعملون باسمه، وقد لمست هذا بنفسي في مصر، وكان هؤلاء هم نواة الاتجاه الإسلامي الذي أصبح فيما بعد يسمى "حركة النهضة" التي ما زالت إلى اليوم تحمل لواء العمل الإسلامي في تونس...

رغم كل ما سمعته من هؤلاء عن عدم جدوى التعاون مع حزب "بورقيبه" ومعارضتهم لاتصالي بقادته، فإنني بقيت مصرا على أن أتعامل مع هذا الحزب على نفس الأسس التي أتعامل بها مع حزب الاستقلال المغربي وحزب الشعب الجزائري وتركت لمن بالقاهرة أن يواصلوا عملهم مع العناصر الخارجة على الحزب أو المعارضة له، مع إيماني بأن المستقبل لهم، وازداد التزامي بهذا المبدأ بعد زيارتي لتونس في عام 1948م، التي كان لها أثر كبير في علاقتي بها؛ لأني استطعت أن أجد ثغرة في داخل الحزب في تونس نفسها عرفتني بكثير ممن أصبحوا فيما بعد قواعد التيار الإسلامي وإطارته.

زيارة تونس تحت الحماية

في عام 1948م كان قد مضى عام على عودتي من عطلتي بالقاهرة، كنت خلاله أتابع تطورات قضية فلسطين، بعد صدور قرار التقسيم، لكن ميدان العمل لها كان في مصر، حيث يقيم المفتي، وحيث بدأ الإخوان عملية إرسال المتطوعين إلى القدس وغيرها من مناطق فلسطين وتزويدهم بالسلاح والمؤن

وكان من بينهم متطوعون من شباب شمال أفريقيا، وانشغلت في باريس بإتمام رسالتي للدكتوراه، ولكني كنت حريصًا على ألا أعود إلى مصر، إلا بعد أن أبذل أقصى جهدي لزيارة الجزائر "كما وعدت الشيخ الفضيل"، وكذلك جميع أقطار الشمال الأفريقي. طرقت جميع الأبواب، أولها باب المستشار الثقافي الذي طلبت منه أن يعطيني خطاب توصية للسلطات المختصة في باريس، لكي يسمحوا لي بزيارة الجزائر من أجل الحصول على معلومات تتعلق برسالة الدكتوراه، وكان يقول: إنك تدرس الحقوق ولا توجد "حقوق" هناك، وصمم على أن ينصحني بعدم التفكير في ذلك؛

لأن هذا غير ممكن، وكنت قد طلبت من صديقي التونسي "محمد الميلي" أن يبحث لي عن وسيلة لزيارة تونس، وقلت له: إن الشيخ الفاضل قال لي إن الباب مفتوح للحصول على التأشيرة من باريس، ولكني علمت فيما بعد أن كل محاولة في هذا الاتجاه كانت تجد الأبواب موصدة تمامًا بالنسبة لتونس، كما هو الأمر بالنسبة للجزائر والمغرب، ولكن ما سمعته عن الانشقاق بين حزب الدستور الجديد، وعلماء الزيتونة، وذوي الثقافة الإسلامية عامة جعلني ألح على صديقي بأن يرتب لي زيارة إلى تونس.

وقبل بداية الصيف في عام 1948م، أخبرني "الميلي" بأنه قرأ إعلانًا عن رحلة إلى تونس وأبدى استعداده ليرافقني إلى الجمعية التي تنظم هذه الرحلة، وكانت إحدى الجمعيات المهنية للعاملين في حقل التعليم، ذهبنا إلى مقرها، وطلبنا معلومات عن الرحلة فأبدوا ترحيبًا بنا، وسألتهم إن كان يمكن أن أذهب معهم، مع أنني لست فرنسيًّا، وإنما أنا مصري وأنا طالب

ولكني سأكون أستاذًا فيما بعد، فقالوا نحن نرحب بك معنا إذا رغبت في المشاركة في الرحلة، قلت إنني أحتاج إلى تأشيرة دخول لتونس فقالوا هذا ممكن وسوف نأخذ جواز سفرك، ونحن سنتولى كل شيء للحصول لك على تأشيرة الدخول في الوقت المناسب، بعد أن تدفع اشتراك الرحلة، فتركناهم مسرورين، وودعني "محمد الميلي"

وهو يقول: مبروك "ياشاوي" سوف ترى تونس، وسوف أعطيك عناوين بعض أصدقائي، وعدت للجمعية بعد ذلك، وأتممت إجراءات الاشتراك في الرحلة، وقبل الموعد المحدد بشهر تقريبًا عدت إليهم، وسألت عما تم بشأن سفري وتأشيرتي، فطلبوا مني جواز السفر فأعطيته وقد وعدوني بأنهم سيكاتبون مندوبهم في تونس وتأتي التأشيرة، وبعد أسبوع عدت إلهيم فأبدوا أسفهم بأنه لم يأت لهم رد من تونس

وطلبوا مني مهلة أخرى، وصرت أتردد يومًا بعد يوم إلى أن أقرب موعد السفر، ولم يبق إلا أسبوع واحد، فلما عدت إليهم قالوا لي، إلى الآن لم يأت لنا رد، واليوم سنرسل استعجالاً آخر لأن مندوبنا هناك لم يرد علينا، ولم يقل لنا إن الطلب مرفوض، ولذلك لا تنزعج، فإن رئيس الرحلة رجل ممتاز وهو سيتكفل بكل إجراءاتكم، سواء أثناء الرحلة أو قبل الرحلة، وفعلاً قدموني إلى المشرف على الرحلة، الذي سيرافقها طوال المدة فحياني

ورحب بي كثيرًا وقال إنني سأرسل اليوم تلكس آخر للحصول على التأشيرة، ولكن أنا أطمئنك إذا لم تأت التأشيرة ولم يأت رد برفضها، فإنني أستطيع عند وصولنا هناك أن أدبر لك الأمر وأحصل لك على التأشير من الميناء، وهذا حقك، فأبديت بعد التردد، وقلت له ماذا يحصل إذا لم تنجح في الحصول على التأشيرة في الميناء؟ هل يقبضون علي؟

قال: كلا إنهم لن يحبسوك ولكن كل ما يفعلونه حسب القانون هو أن يعيدوك على نفس المركب إلى مرسيليا وهذا لن يكلفك شيئًا؛ لأن أجرة سفرك مدفوعة ذهابًا وإيابًا، وزيادة لاطمئنانك، فإن لنا معسكرًا صيفيًّا في جنوب فرنسا على البحر الأبيض المتوسط قرب مدينة نيس، وسوف أحصل لك على خطاب بالاشتراك فيه، وإذا عدت إلى مرسيليا، ما عليك إلا أن تركب سيارة وتذهب إلى مخيمنا هناك، ومعك هذا الخطاب

وتبقى به المدة المحدودة، وبعد ذلك تعود معنا أو معهم في نهاية المدة إلى باريس أو الخطاب، وتبقى به المدة المحدودة، وبعد ذلك تعود معنا أو معهم في نهاية المدة إلى باريس أو بدوننا، فأراحني هذا الترتيب، واستعددت للسفر وأخبرت السيد "جلولي فارس" مندوب الحزب الدستوري بذلك، فلم يأخذ الأمر مأخذ الجد، وقال على كل حال إنها نزهة، وسترى أن تونس جميلة

وتستحق هذا فقلت له: هذا هو هدفي وإذا كنت تريد شيئًا من هناك فأنا على استعداد وفعلاً مررت عليه قبل السفر بأيام، وأخذت منه رسائل للسيد "المنجي سليم" المسئول عن الحزب هناك وبعض المسئولين الآخرين، وطلبت منه أن يبقى الأمر بيني وبينه، وألا يعلم أحدًا بسفري.

عندما جاء اليوم الذي حددوه لنا لبدء الرحلة، اجتمعنا في مقر الجمعية مساءً وتوجهنا إلى محطة ليون، وركبنا القطار إلى مرسيليا، وفي مارسيليا أركبونا سفينة متجهة إلى تونس وكان عدد أفراد الرحلة ثمانين تقريبًا أغلبهم من الفرنسيين، ولكن يوجد إلى جانبهم بعض البلجيكيين وغيرهم من بعض الدول الأوروبية المجاورة، وفي السفينة أركبونا على ظهرها؛ لأن الأجرة كانت قليلة، وكنا نعرف ذلك، ولم نعترض عليه؛

لأن الوقت كان صيفًا، والسفينة أعتقد أنها تأخذ المسافة في ليلة واحدة أو ليلتين على الأكثر وقالوا لنا إن النوم على ظهر السفينة سيكون ممتعًا، لأن القمر ساطع والجو دافئ، وفعلاً لم يشتك أحد من الثمانين أي شكوى، وكان كثير منهم من النساء والعائلات ووصلنا إلى ميناء تونس، وهنا تقدم رئيس الرحلة وقال لنا إن مندوب الجوازات صعد إلى الباخرة ليتم إجراءات التأشيرات

وقد قابلته، وقلت له إن كان من معي لا يحتاجون إلى تأشيرات لأنهم فرنسيون أو أوروبيون، فقال لا داعي لأن يمروا علي، واكتفى بأن ينزلوا وحدهم بعد نزول جميع الركاب طابورًا، وما عليهم إلا أن يقدموا بطاقات إقامتهم وهنا وقعت في المأزق لأن بطاقات الإقامة للفرنسيين كانت حمراء، أما بطاقتي فكانت زرقاء؛ لأنني أجنبي فكيف أمر وسيكتشف الجندي الواقف أنه ليس معي بطاقة، فتطوع أحد الزملاء وأخذ بطاقتي ووضعها في داخل بطاقته، ومر على الجندي الواقف

وأشار له علي قائلاً: "إن بطاقته معي، ها هي ذي"، ولم يفتحها، ومررنا بسهولة، ونزلنا وحصل كل منا على حقيبته، وأوقفونا في ساحة واسعة، وكان في استقبالنا شاب تونسي باعتباره مندوبًا للجمعية التي نظمت الرحلة، وعرفت فيما بعد أنه يهودي، وأثناء وقوفنا دعانا السيد مندوب الجمعية للاستماع إلى تعليماته، وقال إن عندنا اثنتين من سيارات الأتوبيس وسنضع أربعين في كل سيارة

ويهمنا أن نكون مستريحين، ولذلك قد قسمت الرحلة إلى قسمين، وسأنادي أسماء الزملاء الذين سيكونون في الأتوبيس الأول، وأسماء الذين في الأتوبيس الثاني، ومن أراد منكم أن يغير أتوبيسه ليركب في الآخر؛ لأن له أصدقاء أو أقارب أو زملاء يريد أن يركب معهم، ما عليه إلا أن يحضر إلي لأنقله، وعندي الوسائل لذلك، وأثناء نداء الأسماء فوجئ باسمي بين المشتركين في الرحلة

ولكنه لم يظهر شيئًا وبعد أن انتهى من التوزيع قال إنكم سيتنزلون في المدرسة العليا للمعلمين بساحة الغنم في المدينة القديمة، وهي ليست بعيدة، ومن أراد أن يركب السيارة إلى المكان الذي سيتنزلون فيه، فإنه يقف في انتظار السيارة أما من يرغب منكم أن يسير على قدميه من هنا حتى هناك فهذا سيكون ممتعًا لتروا المدينة في طريقكم، وهذا جزء من السياحة وما عليكم إلا أن تسيروا معًا من هنا إلى المكان الذي ذكرته، وسيكون معكم أحد الأدلاء ليرشدكم إلى الطريق، وكنت أنا من بين من فضلوا المشي.

ولكن فوجئت بهذا السيد يستدعيني، ويقول لي يا سيد "شاوي" أنا مسرور بأنك وصلت، وبالطبع حصلت على التأشيرة؛ لأنني سبق أن كلفت بطلبها، ولكنهم رفضوا طلبي، قلت هذا من شأن رئيس الرحلة، وما عليك إلا أن تسأله فهو الذي يتولى هذه الأمور والجواز معه وتركته وانصرفت مع الماشين نحو المدرسة، واخترقنا الطريق من الميناء إلى المدرسة من داخل المدينة حتى وصلنا إلى ساحة الغنم، ودخلنا المدرسة وبالطبع كان مندوب الجمعية (ومعه رئيس الرحلة) قد حمل الحقائب في السيارة

وسبقنا إلى المدرسة ووقف وأمامه الحقائب، ليسلم كل شخص حقيبته، وبمجرد أن دخلت إلى ساحة المدرسة لاحظت أنه ترك موقعه، ودخل إلى أحد المكاتب، وبعد دقائق كنت قد تقدمت للبحث عن حقيبتي فإذا به يعود مستعجلاً ويناديني يا سيد "شاوي" هل لك أصدقاء هنا؟ قلت: لا. قال: إنهم يطلبونك على الهاتف، قلت له أنا ليس لي أصدقاء ولا أحد يعرف شيئًا عني قال: تعال انظر من يناديك، ودخل أمامي، وأمسك بالسماعة وقال ها هنا السيد "شاوي" أقدمه لك

فأمسكت بالسماعة، وإذا بالمتكلم يقول لي نحن هنا نقطة بوليس الميناء وقد أخبرنا مندوب الجمعية أنك مررت من الجمرك دون أن تختم جواز سفرك، قلت له جواز سفري ليس معي، وإنما هو رئيس الرحلة ولم أعرف إن كان قد قام بالإجراءات المطلوبة أم لا. فقال: إذا كان جواز سفرك لم يختم فما عليك إلا أن تحضر غدًا صباًا للقسم هنا لنختمه لك، فقلت له إن اليوم هو السبت مساءً، وغدًا صباحًا هو الأحد، فهل تعملون يوم الأحد؟ قال: لا.

الأفضل أن تحضر يوم الاثنين وهكذا بكل بساطة، فعرفت أنه في يوم الاثنين عندما يكتشفون أن جواز سفري ليس عليه تأشيرة، وأن المسألة ليست مسألة ختم الجواز فقط، وإنما تأشيرة الدخول فإنهم في الغالب سيعيدونني إلى السفينة التي تحملني ثانية إلى مارسيليا، وتألمت كثيرًا أن تنحصر الرحلة في يوم واحد، ولكنه على كل حال كان فرصة عظيمة لم أكن أحلم بها.

ولذلك تسلمت حقيبتي، ووضعتها في المكان الذي سأبيت فيه مع آخرين، ونزلت إلى ساحة المدرسة، وكان السيد اليهودي قد تركنا وشأننا وخرج ليقوم بترتيبات الطعام، وكنت في حيرة من أمري، ووقفت في ساحة المدرسة قرب الباب أفكر ماذا أستطيع أن أفعله في هذه الفرصة وهذه الساعات المعدودة التي سأقضيها في مدينة تونس من السبت مساءً إلى الاثنين صباحًا ، وفجأة وأنا واقف أقبل علي أحد الطلبة التونسيين الذين يدرسون في فرنسا وكان قد عرفني من ترددي على نادي الطلبة ومطمعهم في (115) شارع سان ميشيل فأقبل علي مرحبًا

وقال: "يا شاوي" من جاء بك، وكيف جئت، فقلت له: أنا جئت والمهم أن تساعدني، قال لي كيف أساعدك، قلت له: تعرف "الطاهر جيجة" قال: نعم أعرفه. قلت: عليك أن تذهب إليه، وتبحث عنه، وتحضره إلي، قال من حسن الحظ أن منزله قريب جدًا من هذا المكان، تعال معي، فذهبت معه إلى المنزل ومن حسن الحظ أننا وجدنا "الطاهر جيجة" في منزله

ودهش لرؤيتي، ورحب بي ودخلت معه لمنزله وانصرف زميلنا وقد سبق أن قلت إن الطاهر جيجة كان تونسيا، ولكنه كان يعتبر نفسه عضوًا في حزب الشعب الجزائري، وكان مثلي يحب الجزائريين ويتعاون معهم، وحالته شبيهة بحالتي من عدة وجوه ولذلك كنت أثق فيه...

في الجنوب التونسي الإسلام يوحد "البربر" مع "العرب"

سعدت جدًّا بلقاء "الطاهر جيجة" في منزله، وقلت له: إنني جئت زائرًا، وذكرت له القصة، وقلت له الآن عندي أربع وعشرون ساعة فقط لكي ألتقي ببعض الإخوة المسئولين في حزب الدستور؛ لأن هناك احتمالاً كبيرًا بأن أغادر تونس الاثنين.

قال لي من تريد أن تلقاه؟ قلت له: إنني أريد أن ألقى السيد "المنجي سليم" المسئول عن الحزب، وأبلغه رسالة من "جلولي فارس" من باريس، ومن "الحبيب بورقيبه" بالقاهرة، قال: إذن سأذهب وأرد عليك، وما عليك إلا أن تعود إلي غدًا في الصباح وعدت إلى المدرسة، والتقيت بنخبة من أصدقاء الرحلة، وتعشيت معهم، ونمت وأنا أتحسب ماذا سيحمله لي الصباح

وفي الصباح توجهت إلى منزل "جيجة" فقال لي: إنني عملت ترتيبًا مع "منجي سليم" لكي يلقاك في هذا الصباح وسيرافقك أحد أعوانه وهو "الطيب السحباني" وأنت تعرفه وهو من أعضاء الحزب وسيحضر لك هنا، وفعلاً جاء "الطيب السحباني" في الموعد وأخذني إلى منزل قريب في ساحة الغنم أيضًا والغريب أن كل ذلك لم يخرج عن الساحة التي نزلت فيها

ولذلك ذهبنا على أقدامنا إلى أحد المنازل وفتح الباب بمفتاح كان معه، وكان البيت ليس فيه أحد من السكان وجلس معي بعض الوقت، وبعد وقت قصير دق الباب، ودخل "المنجي سليم" ولم أكن عرفته ولا رأيته من قبل، وقدم لي نفسه وحياني وقال إنني سمعت عنك من بعض طلابنا في فرنسا، وهم يعرفونك هناك، ويعرفون اهتمامك بقضايانا، ولذلك أنا سعيد بلقائك، وسلمته الرسال التي أحضرتها.

وبعد أن بلغته الرسائل الشفوية التي كلفت بها، قلت له هناك موضوع آخر يهمني أيضًا أن آخذ رأيك فيه، قال ما هو هذا الموضوع، قلت له إنك تعرف أنني من الإخوان المسلمين، وهدفنا هو نشر الدعوة الإسلامية، وخصوصًا بين الشباب والطلاب، وحيث إنني مكلف بالتعاون مع الأحزاب الوطنية في تونس والجزائر والمغرب، فإنني لا أستطيع أن أقوم بأي نشاط لصالح الدعوة

وخصوصًا إذا كان يؤدي إلى دعوة الشباب للعمل مع الإخوان، إلا بموافقة هذه الأحزاب والاتفاق معها، وأنا شخصيًّا أعتقد أنه من المصلحة أن تكون لي فرصة للاتصال ببعض الطلبة أو الشباب هنا، أو في باريس لكي أنشر بينهم فكرة الإخوان المسلمين، وهي لا تتعارض مطلقًا مع الحركة الوطنية، ولا مع أهدافها ولا مع التزامهم نحو الحزب، فقال لي: هذه مسألة مهمة

ولا أستطيع أن أعطيك الجواب لأنني لابد أن أرجع إلى المكتب السياسي وأستشيره، وقلت له: أنت تعرف أن أمامي الآن مهلة 24 ساعة فقط وهناك احتمال كبير بأنني سأضطر إلى الخروج يوم الاثنين صباحًا فهذا اليوم، وهو يوم الأحد هو الوحيد الذي سأضمن وجودي في تونس خلاله، فقال لي من حسن الحظ أننا سنجتمع اليوم وسأرسل لك الرد عن طريق "الطيب السحباني" في المساء قبل الغروب، وما عليك إلا أن تتفق معه على الموعد والمكان...

بعد أن تمتعنا بالحديث عن أحوال تونس، وأعمال الفرنسيين وبطشهم، والظلم الواقع على الشعب التونسي كله ورغبته في التحرر والاستقلال، وبعد أن طمأنته على أحوال السيد "الحبيب بورقيبه" ومن معه في القاهرة، وعلى السيد "جلولي فارس" في باريس، ودعته، وعدت إلى المدرسة وقد صحبني "الطيب السحباني" جزءًا من الطريق واتفقت معه على الالتقاء في ساعة معينة بعد العصر في منزل "السيد جيجة" ، وأن عليه هو أن يبلغه ذلك

وعدت إلى المدرسة كأن لم يحصل أي شيء، ووجدت زملائي في الرحلة ما زالوا يستعدون للخروج إلى الأسواق والتفرج على العاصمة والسياحة فيها، وخرجت معهم، وقضينا النهار، وتغدينا في أحد المطاعم الشعبية بداخل المدينة، وفي العصر انفصلت عنهم، وذهبت مباشرة دون أن يشعر بي أحد إلى منزل السيد "طاهر جيجة" القريب من المدرسة فوجدته في انتظاري

وحضر "الطيب السحباني" في الموعد وخرجت معه وركبنا سيارة أجرة، وتوجه بي إلى أحد المقاهي المطلة على خليج تونس في حلق الواد، ووجدنا في انتظارنا أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب في ذلك الوقت وهو "السيد باهي الأدغم"، وعرفني به، وقدمني له، وجلسنا معًا نتجاذب أطراف الحديث.

وأذكر حادثة طريفة، أثناء جلوسنا جاء شاب ممن يمسحون الأحذية، فقلت له: أرجوك أن تنظف لي حذائي، فنظر إلى الحزاء وقال لي أنت مصري، فقلت له: من قال لك إنني من مصر، قال: لأنك قلت لي نظف "الجزمة" وهذه كلمة مصرية، وليست من كلمات تونس، وقلت له من قال لك إنها ليست من لغة المغرب أو سوريا أو غيرها، قال: لا إنها من مصر

وقد عرفتها من الأفلام المصرية التي أشاهدها في السينما فقلت له: إن هناك بلاد أخرى مثل سوريا، وهي تستعمل هذه الكلمة، وتدخل الجالسون معي وصاروا يحدثونني عن أثر الأفلام المصرية في تونس، وأنها تظهر بمظهر لا يعجبهم وقال أحدهم من المدهش أن نرى في الأفلام كثيرًا من المصريات المنتسبات إلى الطبقة الراقية يستعملون كلمة "ميرسي"، وغيرها من المصطلحات الفرنسية، ويظهر فيها مشاهد للمسلمات يرقصن مع الرجال على الطريقة الإفرنجية التي تتعارض مع تقاليد المسلمين وشكوا لي كثيرًا من الأثر السيء الذي تتركه بعض الأفلام المصرية.

وبعد أن شربنا الشاي الأخضر بالنعناع، وتحدثنا طويلاً قال لي السيد "الباهي الأدغم" إن الاقتراح الذي عرضته على "السيد المنجي سليم" ليس مناسبًا في الوقت الحاضر وإن الإخوة أعضاء المكتب السياسي يرون أن هذا قد يتسبب في انشقاق داخل الحزب وأنه يحسن تأجيله، وربما يأتي وقت آخر تكون الظروف أفضل إن شاء الله، وشكرتهم وعدت إلى المدرسة كما كنت، وأنا أهيئ نفسي وحقيبتي للذهاب غدًا إلى نقطة البوليس في الميناء لأعرف مصيري

وقلت لرئيس الرحلة: إن الأمر جد، وأنا الآن مطلوب للشرطة في الميناء وماذا سأفعل؟ قال لي حسبما اتفقنا، ولكن لا تورطني، وتظاهر بالجهل والسذاجة ولو طردوك فستذهب إلى نيس كما اتفقنا، وسأرسل معك اثنين من أعضاء الرحلة ليبلغوني ما تم في شأنك، وهذا خطاب شخصي لرئيس المخيم الصيفي هناك وفعلاً حضر معي اثنان من المسافرين في الرحلة، وذهبنا إلى الميناء، ومعي جواز السفر ودخلت على الضابط النوبتجي

وكان فرنسيًّا، وقلت له: أنا فلا، وعرفتهم بالموضوع فأخذ جوازي وأدخلني عند أحد أمناء الشرطة وكان تونسيا، وأذكر أن اسمه كان عبد الكريم، فأخذ الجواز ليختمه على اعتبار أن المسألة هي مسألة أنني مررت بدون ختم ولم يدر بخلجه أنه لم يكن هناك تأشيرة دخول ففتح الجواز ليبحث عن التأشيرة، ثم نظر إلي مندهشًا، وقال أنت ليس عندك تأشيرة، فكيف نختم جوازك؟

فقلت له: أية تأشيرة؟ قال: تأشيرة الدخول إلى تونس، أنت تعرف أنه لابد من الحصول على تأشيرة دخول لأي بلد من البلاد، قلت له: أنا أعرف ذلك، لكنني الآن مقيم في فرنسا وفرنسا هنا، وفرنسا هناك، وإنني جئت مع الفرنسيين، ونحن كلنا أصدقاء، وقد تعهدوا بالإجراءات ولم أكن أعرف إن كانت التأشيرة من ضمن الإجراءات أم لا، فقال: لا، هذه مغالطة وأنت تعرف أن هذه البلاد ليست فرنسية وأنها تحت الحماية فقط

ونحن هنا في تونس لنا شخصية دولية مثل مصر وغيرها من البلاد ولابد لدخولها من التأشيرة، وبما أنك لم تكن لديك تأشيرة فحسب القانون لابد من طردك من تونس، وعليك أن تنتظر هنا، وتركني وذهب إلى رئيسه الفرنسي، وبعد فترة عاد واستدعاني لمقابلته، وكان معي الأصدقاء الفرنسيون من أعضاء الرحلة أيضًا، ودخلنا عند الضابط الفرنسي، وكان غاضبًا في غاية الغضب

وقال لي: كيف تجرؤ على دخول هذه البلاد بدون تأشيرة وبدون موافقتنا، قلت له: إن الجمعية التي اشتركت فيها هي التي وافقت، وهي تعرف أني لست فرنسيًّا، وأنا سلمتهم الجواز، وهم المسئولون عن ذلك قال سواء كان الغلط منك أو منهم فلابد من عودتك من حيث أتيت فورًا قلت له: إن العودة لباريس أحسن كثيرًا؛ لأن ظروف هذه الرحلة ليست مريحة، ويكفي أنهم أركبونا على ظهر السفينة

وأن المدرسة التي أنزلونا فيها ليس فيها "أسرة" تكفي حتى للنساء في الرحلة ونحن ننام على الأرض، فهدأ بعض الشيء، وأمسك التليفون وطلب الشركة التي تتبعها السفينة في مكتبها بالميناء وهو قريب وسألهم عن السفينة – وكان اسمها على اسم أحد جنرالات فرنسا ولا أذكره الآن – التي جاءت أمس من مرسيليا، وكان عليها راكب بدون تأشيرة، وسنعيده إليكم ليعود عليها كما جاء؛ لأنه لا يسمح له بالدخول بدون تأشيرة، ولم أسمع الرد

ولكن فهمت أنهم قالوا له إن السفينة جاءت أول أمس السبت وأنها غادرت أمس الأحد فبدا عليه الاندهاش؛ لأن الرد لم يكن يعجبه وامتعض قليلاً وفكر ثم ألقى الجواز على المكتب وقال يؤسفني أنك لن تستطيع أن تعود على السفينة التي حضرت عليها؛ لأنني أخبرت أنها غادرت الميناء أمس وهو الأحد، وأنكم جئتم يوم السبت قلت: نعم جئنا يوم السبت وأعتقد أن المسألة هينة وأستطيع أن أذهب على أي سفينة أخرى على حساب الجمعية لأنني طالب كما تعرف وليس معي نقود، فقال: انتظر حتى أسأل، وسألهم متى ترجع هذه السفينة؛ قالوا: ترجع يوم السبت القادم.

قال زملائي إنه طبعًا من الأفضل أن ينتظر هذه السفينة؛ لأن أجرته مدفوعة عليها وليس عند المسئول عن الرحلة نقود لدفع تذكرة لأي سفينة أخرى، والمسألة بسيطة ونحن طلاب وهذا زميل لنا، وكل أعضاء الرحلة سعداء بصحبته، ولا نرى أن هناك ضررًا في أن يبقى حتى يوم السبت، قال يمكنك أن تبقى ليوم السبت بشرط أنه في كل صباح تحضر هنا لإثبات حضورك لأنك تحت الإقامة الجبرية حتى ترجع من حيث جئت، وأعطاني الجواز

وخرجت مع زملائي، وقضيت اليوم معهم كالعادة نتسوق في الأسواق ونتفرج على معالم تونس وفي صباح اليوم التالي توجهت وحدي إلى مكتب الشرطة ومعي جوازي لإثبات حضوري وفعلاً أثبت حضوري، وكذلك في اليوم الذي بعده وهو الأربعاء، وفي مساء الأربعاء كان رئيس الرحلة ينبهنا أنه غدًا سنتوجه بالسيارات إلى الساحل الجنوبي بتونس

وهذه هي الرحلة الحقيقية من الوجهة السياسية وبعد أن أعطى التعليمات قلت له ماذا تفعل معي وأنا مكلف بالبقاء هنا حتى يوم السبت، فوجئ بهذه المشكلة، وقال هذه مشكلة فقلت له: لا يمكن أن تفكر أنني سأبقى وحدي في هذه المدرسة، فلابد أن أنزل في فندق وليس معي نقود، وهذه غلطتكم، وأنتم لابد أن تجدوا لي فندقًا أنزل فيه حتى أعود يوم السبت.

قال: أنا سأذهب معك غدًا إلى الشرطة وأحاول محاولة أخيرة، وفعلاً في يوم الخميس صباحًا توجهنا معًا إلى نقطة بوليس الميناء، وذهب معي بنفسه إلى رئيس النقطة وهو فرنسي طبعًا ودخل عنده وحده، وتكلم معه وأعطاه الضمانات بأنه يتعهد بحسن سيري وسلوكي، وأنني طالب مستقيم وليس بوجودي معهم أي متاعب، بالعكس هم يأنسون بي ويفضلون أن أبقى معهم، ولا داعي لأن تقطع رحلتي

وهذا سيسبب له مشاكل مالية لأنه المسئول عن الرحلة ولا يعرف كيف يدبر لي الأمر، وهكذا، وطلب منه الموافقة على أن أذهب معهم بالسيارة وقال له الآن أنتم تريدون أن تعيدوه يوم السبت القادم، ونحن مقرر عودتنا السبت الذي بعده، فالرحلة كلها أسبوعان فما دام أنه بقي أسبوعًا، فلا ضرر أن يبقى أسبوعًا آخر، وأن وجوده معنا أفضل من تركه هنا وحده ولا يعرف أحد ماذا سيفعل فاتفق معه على أن يتولى هو الرقابة علي

وأن عليه أن يوجهني إلى كل قسم من أقسام الشرطة التي نمر بها بالسيارات ليثبت حضوري معهم، ويطمئنهم على أنني لم أغادر المجموعة ولم أكن في حاجة قط لمغادرتها؛ لأن جيجة وأصدقاءه في تونس تكفلوا بإخطار أصدقائهم في كل مدينة أمر بها ليك يقابلوني ويتعرفوا بي دون حاجة لأن أنفصل عن القافلة وفعلاً ذهبنا اليوم التالي بالسيارات إلى الساحل

وغادرنا تونس وبدأنا الرحلة البديعة في الساحل التونسي ابتداء من حمام "لنف" وشاطئ الحمامات الجميلة ومدينة وميناء المهدية الذي خرج منه أسطول يحمل جيش "جوهر الصقلي" لفتح مصر للفاطميين وبعد ذلك نزلنا في كل مدن الساحل وشواطئها السياحية بما فيها مناستير موطن بورقيبة وغيرها وبتنا ليلتين في الطريق، ولم يكن المبيت مريحًا؛ لأننا كنا ننزل في مدارس، وكانت مبانيها مهجورة وغير نظيفة ومهملة إهمالاً شديدًا

لكن مع ذلك كانت الرحلة ممتعة، وكنا نفضل النوم في الهواء الطلق، وكل واحد منا يحمل مرتبة وبطانية ويضعها على ظهر الأتوبيس وعندما نصل إلى المكان المحدد للمبيت كل واحد ينزل بطانيته ومرتبته وينام عليها، وبعد ذلك صباحًا يعيدها إلى الأتوبيس كما كانت، فكانت رحلة طويلة، وفيها من الخشونة ما تعودنا عليه في الإخوان المسلمين، ولم يكن هذا غريبًا علي حتى الطعام كان الفرنسيون يشكون من سوء الطعام ولم أشاركهم الشكوى

وكان دليلنا يهوديًّا يذهب بنا إلى مطاعم شعبية تونسية متواضعة وطبعًا لاحظ البعض أن أغلبها يملكه اليهود، والفرنسيون كانوا يتهامسون بالنقد للمسئول عن الرحلة (مندوب الجمعية) ويقولون إنه كان يستغلنا لصالح اليهود، ويرفعون أصواتهم بالشكوى والاحتجاج في حين كان عدد من رفقاء الرحلة يحرصون على صحبتي، ويتشوقون لرؤية أصدقائي التونسيين الذين كانوا يظهرون من حين لآخر ويتطوعون لتقديم الشاي، بل وطعام "الكسكسي" في بعض الأحيان لي، ولمن أختاره من رفقاء الرحلة الذين ازدادوا ثقة وسعادة بصحبتي.

وصلنا إلى جزيرة "جربا ومدينين" وهناك أخبرنا بأننا سنذهب إلى الجنوب الصحراوي، وهذه المنطقة الجنوبية، كانت منطقة عسكرية لا يدخلها أحد إلا بإذن من السلطة العسكرية، وذهب رئيس الرحلة وطلب الإذن، وحصل عليه على أساس أننا فرنسيون وطلبة، والطريق قفر، والجو قاس شديد الحرارة، لذلك فإنهم بصفة استثنائية صرحوا لنا بدخول هذه المنطقة، وتمتعنا بالختراق الصحراء في الجنوب التونسي حتى توقفنا في مكان مقفر، وقالوا هنا قرية لا نرى منها شيئًا؛

لأنها فوق الجبل، وهي من قرى "البربر" وتسمى "دويرت" ، ونزلنا في هذا المكان، وإذا بالقرية معلقة فوق الصخرة وأدخلونا في نفق يشبه المغارة، وهو قاعة الاستقبال الخاصة برئيس القرية أو العمدة وأجلسونا هناك للراحة، وقدموا لنا الماء، وجاء عامل يقدم لنا القهوة، وعندما مد إلي فنجان القهوة قلت له شكرًا، فنظر لي باندهاش، وقال أنت عربي، قلت نعم أنا مصري فقال "تحيا مصر" بصوت عال أدهش الجميع حولي

وشرحت لهم أن هذه العلاقة الحميمة بين مصري جاء من مصر، وتونسي جاء من الجنوب التونسي بدوي في قلب الصحراء، والتي جعلته يهتف بحياة مصر سببها الإسلام والعروبة، رغم أن هذه منطقة بربرية؛ لكنهم يتكلمون العربية لأنها لغة القرآن، وشرحت لهم أننا أمة واحدة؛ لأننا مسلمون وقد أحسوا بذلك منذ بداية الرحلة من الترحيب الذي كنت ألقاه في بعض المدن التي فيها الطلبة التونسيين الذين عرفوا بوصولي، واستعدوا لاستقبالي.

عدنا بعد ذلك إلى لتونس من طريق "جفصة" وقد استمرت رحلتنا بين الساحل والجنوب أسبوعًا فقط عدنا بعدها في يوم الجمعة إلى تونس على أساس أننا سنغادرها في نهاية الرحلة يوم الأحد القادم؛ لأن السفينة ستحضر السبت وتغادر بنا الأحد، وقد التقيت "بجيجة" لأقدم له تقريرًا عن رحلتي، ولأودعه للمرة الثانية، وكنت قد طلبت منه أن يرشدني قبل سفري إلى بعض الأصدقاء في العاصمة الذين أريد أن ألتقي بهم

وذكرت منهم الشيخ الفاضل "بن عاشور" الذي التقيت به في القاهرة، وتواعدت معه على الحضور هنا، فاتصلنا به هاتفيًا، ورحب بي ودعاني إلى منزله فورًا وقال لي "جيجة" إن مسكنه في ضاحية "المرساة" ، ولابد أن تركب القطار، وتذهب إليه، وكان ذلك يوم السبت وذهبت إليه وركبت القطار وحدي وجلست معه في منزله، وتغديت معه

وقضينا وقتًا طويلاً، وقلت له خلاصة ما تم بيني وبين "المنجي سليم" واتصالاتي بالطلبة التونسيين وإنني أرى أنه طالما أنا مكلف بالتعاون مع الأحزاب الوطنية، وإنني لا أستطيع أن أقوم بأي عمل خارج نطاق هذا التعاون، وما دام أنهم رفضوا السماح لي بأن أقوم بهذا العمل بالتعاون منهم، فلن أقوم بشيء

وكل ما أفعله أن أنصح من عرفته هنا بالاتصال بإخوان القاهرة، وإنني سأبلغ الإخوان في القاهرة أن يتصرفوا هم بالطريقة التي يرونها، أما أنا فقد أتممت مهمتي، ولم أعد في حاجة إلى أن أتكلم مع أحد في شيء بخصوص الدعوة في تونس، فهذا أمر يختص به الإخوان في القاهرة، ومن يتصل بهم من شباب تونس وشيوخها، وإذا كان لديه ما يمكن أن يقوله للإخوان في هذا الشأن فإنه من الأفضل أن يتصل بهم في القاهرة، وودعته على أساس أنني سأغادر تونس في اليوم التالي.

لكنني عندما عدت إلى تونس وجدت هناك هرجًا ومرجًا بين أعضاء الرحلة، وأخبروني بالخبر السار، وهو أن رئيس الرحلة أنبأهم بأن السفينة التي كانت ستقلنا غدًا لم تحضر في موعدها هذا الأسبوع، وبالتالي فإن الرحلة ستمتد أسبوعًا آخر، وبالطبع كعادة الفرنسيين في الشئون المالية أصروا على أن تكون إقامتهم على حساب منظم الرحلة، ولا يخسرون مليمًا واحدًا وكان الجميع في فرح؛

لأنهم سيقضون أسبوعًا مجانًا زيادة عن الأسبوعين المقررين، وبالطبع كنت أنا أكثر فرحًا منهم لأمر خاص بي وكما هو ظاهر إذ إن المسئول عن الرحلة كان سعيدًا بابتعادي عنهم حتى أخفف عنه ما يدفعه لطعامي وكذلك استفدت من هذا الأسبوع في أنني بعد أن ودعت الشيخ "الفاضل بن عاشور" اتصلت به والتقيت به مرة ثانية، وقلت له قد أعطيت مهلة أسبوع آخر، ولا مانع عندي من أن أتعرف على بعض طلابه وزملائه من العلماء، مجرد المعرفة والصداقة

وكذلك التقيت مع "الطاهر جيجة" الذي قدمني لبعض أصدقائه من الطلاب التونسيين وقضيت أغلب أوقاتي معهم، وحرصت على أن يكونوا ممن لا يحضرون إلى باريس، وقلت له إنني لا داعي لأن ألتقي بالذين عرفتهم في باريس، ولكنني يهمني من تثق فيهم من الطلبة التونسيين الذين يهتمون بقضية الجزائر وفلسطين، وغيرها من القضايا الإسلامية

وفعلاً قدمني لبعض أصدقائه وزملائه ولم أتكلم مع أي منهم في شأن سوى قضية فلسطين وقضية الجزائر أما قضية تونس فكان كلامًا أنني أؤيد القضية وأؤيد الحركة الوطنية، وأتعاون معها، وأدعوهم جميعًا أن يتعاونوا معها إلى أن تنال تونس استقلالها، ويخرج الفرنسيون منها

وقد شكا لي كثير منهم أن عددًا من المتطوعين التونسيين ذهبوا إلى مصر للانضمام إلى كتائب المجاهدين في فلسطين، لكنهم اعتقلوا في السلوم وأعيدوا لبلادهم ولم تعاملوهم السلطات المصرية بما يستحقونه من ترحيب وتشجيع، وأن الإدارة "الوطنية" في مصر لم تكن أفضل من الإدارة الاستعمارية في تونس أو ليبيا.

"الحج" في أسبانيا والدكتور... حافظ إبراهيم "1949"

في الوقت الذي أوشكت فيه على الانتهاء من رسالتي في أواخر عام 1948م، وفي أوائل 1949م، وتواردت أنباء سيئة من مصر عن حملة الاعتقالات والاضطهاد التي تقوم بها حكومة "إبراهيم عبد الهادي" ضد الإخوان المسلمين في مصر، ومن بين هذه الأنباء اعتقال أخوي الصغيرين "محمود وعمر" اللذين كانا في السنة الأولى في الجامعة وتوالت هذه الأنباء السيئة حتى شعرت بشيء من الضيق والألم

وترددت في إتمام رسالتي لأن كثيرين كتبوا إلي، بأنه من الأفضل ألا أستعجل في العودة إلى مصر في هذه الظروف لأنني إذا حضرت فلاشك سوف أعتقل، وليس هذا مناسبًا في الوقت الحاضر ولذلك قل ترددي على الأستاذ "هوجينيه" المشرف على الرسالة، وكنت قد وعدته بأن أقدم له النص الأخير لاعتماده، وتحدد الموعد بيني وبينه، وفي الليلة التي كنت فيها عازمًا على أن أذهب إليه في الصباح التالي، فكرت في أنه أليس من المناسب أن أقدم له الرسالة؛

لأن معنى ذلك أن أنهي دراستي وأعود إلى مصر، وصرت محتارًا في هذا الموضوع هل أقدم الرسالة وأعود أو أماطل وأتأخر؟ ولا أعرف إن كان ذلك مصادفة، أو أن هذا الاكتئاب والتردد قد أحدث عندي حالة نفسية سيئة فشعرت في منتصف الليل بمغص كلوي حاد، وقاسيت منه تلك الليلة مقاساة لم أعرفها قبل ذلك لكني اضطررت إلى أن أبقى في غرفتي أقاسي آلامي للصباح، وفي الغد عندما ذهبت إلى أحد الأطباء أمر بإجراء أشعة

وتبين أن عندي حصوة في الكلية في الجانب الأيسر، وأعطاني أدوية وقال إذا لم تنزل الحصوة في خلال أسبوع أو أسبوعين، فيحسن إجراء العملية، وبقيت في المنزل أسبوعًا ولكن المغص والآلام اشتدت بي، فعدت إلى الطبيب، فأمر بإدخالي إلى المستشفى وكان يسمى مستشفى "القديس جان" قرب "ممبارناس" ، وقرر أن يجري لي عملية جراحية وبعد العملية الجراحية بأيام قليلة، وأنا ملقي على فراشي في المستشفى في الصباح فتحت جهاز الراديو المجاور لي، ففوجئت بخبر اغتيال المرحوم "حسن البنا" فزاد هذا من اكتئابي، ومن آلامي، وطالت مدة إقامتي في المستشفى.

كان ذلك في شهر فبراير 1949م، وفوجئت وأنا في هذا المستشفى بزيارة من الأستاذ "هوجينيه" ، وفهمت منه أنه لما تأخرت عن الموعد الذي حددته معه، ذهب إلى الفندق الذي أقيم به، بعد أن أخذ العنوان من بعض زملائي، وذهب بنفسه هناك فقالوا له إنني في المستشفى وأعطوا له العنوان، وجاء لي بالمستشفى

وكانت هذه بادرة إنسانية من هذا الأستاذ العظيم، مما زاد تعلقي به واحترامي له، واعتبرته نموذجًا فذًا للأستاذ والإنسان المخلص لعمله ومهنته وتلاميذه، وقد أفهمني بأنه يجب علي أن أهتم بصحتي وأترك موضوع الرسالة حتى أنتهي من العلاج، وفعلاً خرجت من المستشفى، وبقيت في فترة نقاهة أستقبل الأنباء السيئة من مصر، والتي صدتني عن العمل في رسالتي

وفي يوم من الأيام كنت أسير في أحد شوارع الحي اللاتيني، وفوجئت بإعلان ضخم عن رحلة "للحج" إلى الأماكن المقدسة في أسبانيا، وكان الإعلان من جمعية كاثوليكية في فرنسا، والكاثوليك في فرنسا لهم كيان متميز عن البروتستانت، وهناك تنافس بين الطائفتين ونظرًا لأن أسبانيا كلها كاثوليكية فقد كانوا على ولاء تام مع نظام "فرانكو" في أسبانيا، وكنت أعرف من مطالعاتي في الصحف أن الدول الغربية

ومن بينها فرنسا وبريطانيا كانت تقود حملة شديدة ضد نظام الحكم الأسباني (نظام فرانكو) بعد انتهاء الحرب بحجة أنه كان حليفًا لألمانيا وإيطاليا وأن مساعدتهما له أثناء الحرب الأهلية هي التي مكنته من الاستيلاء على السلطة في أسبانيا بعد انتصاره على الحكومة الاشتراكية اليسارية، وكانت فرنسا بعد الحرب قد زاد فيها نفوذ الحزب الشيوعي والاشتراكي لذلك

فإن الحكومة الفرنسية قادت الحملة ضد نظام "فرانكو" في ذلك الوقت، وفي المحافل ا لدولية بالتعاون مع الدول الغربية وقد نجح الحلفاء الغربيون في الحصول على قرار من هيئة الأمم المتحدة التي كانت في ذلك الوقت (وما زالت) أداة طيعة في يد الحلفاء الغربيين، بعد هزيمة المحور، وإبعاد دول المحور وأعوانها بما فيهم أسبانيا من تلك المنظمة الدولية، وأصدروا قرارًا بدعوة جميع الدول للمقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية لنظام فرانكو حتى يستسلم.

لقد التزمت دول كثيرة بقرار المقاطعة، وترتب على ذلك تدهور في الأوضاع المالية والاقتصادية، ولاحظنا في كثير من الأماكن مظاهر البؤس والفقر، مثل كثرة المتسولين الذين يضايقون السياح والمتنزهين، وكثرة بائعي اليانصيب وماسحي الأحذية، بل وحاملي "القلل" الذين يبيعون الماء وينادون عليه "أكوا فريسكا" Aqua Fresqua بل والترمس وهو يحمل هذا الاسم في لغتهم Eltormos فضلاً عن باعة الفول السوداني واللب إلخ. كل ذلك كان يترتب عليه ضوضاء في كثير من الأماكن المزدحمة والشوارع الضيقة.

لقد نفذت هذه المقاطعة كثير من دول أوروبا والمتعاونين معهم، لكن الدول العربية، وبعض دول أمريكا اللاتينية رفضوا تنفيذها، وقد فهمت من مراسلاتي مع الإخوة مندوبي الأحزاب الوطنية المغاربية في مصر أن الجامعة العربية بإيعاز من عبد الرحمن عزام واقتراحه، وبناء على إلحاح من الوطنيين المغاربة قد اتخذت هذا الموقف؛

لأنهم كانوا قد وجدوها فرصة سانحة للانفتاح على نظام "فرانكو" ، والحصول منه على بعض المزايا للحركات الوطنية التي كانت تستعد لبدء المقاومة ضد فرنسا في شمال أفريقيا، وفعلاً كان رفض الدول العربية تطبيق هذا القرار له أثر كبير في أسبانيا وكان الأسبانيون سعداء جدًا بذلك؛ لذلك ساعدوا كثيرًا من العرب الذين كانوا في ألمانيا وفروا منها عقب الحرب، ولجئوا إلى أسبانيا، على الإقامة في بلادهم، وتمكنوا بعد ذلك من الالتجاء إلى مصر أو إلى المنطقة الشمالية بالغرب الخاضعة لأسبانيا.

قبل مغادرة باريس وفي أثناء لقاء لي مع بعض إخواني المغاربة، وهو السيد "الهادي الديوري" الذي كان أحد التجار المغاربة في باريس، وكانت علاقته وثيقة بحزب الاستقلال، وكان يعتبر أحد المفاتيح لعلاقتهم مع الملك محمد الخامس، وكثيرًا ما ذكر لي أنباء عن علاقته بالملك وحزب الاستقلال

وكنت أتردد عليه من حين لآخر، سمعت منه أن أحد التونسيين الذين كانوا في فرنسا أيام الاحتلال الألماني قد هاجر إلى أسبانيا بعد الحرب خوفًا من الفرنسيين، وأنه يقيم هناك، وأنه على علاقة وثيقة به، وفي نفس الوقت وصلتني رسائل من "أحمد بن المليح" وهو رئيس لجنة الطلبة المغاربة الممثلة لحزب الاستقلال في مصر بأن السيد "علال الفاسي" يقيم في ذلك الوقت في مدينة طنجة، وبعث لي بعنوانه لأراسله.

وعندما قرأت ذلك الإعلان عن رحلة "الحج إلى أسبانيا" تذكرت أن هذه فرصة إن أمكن لي أن أزور أسبانيا، وربما استطعت أن أذهب إلى طنجة لزيارة "علال الفاسي" هناك، وفعلاً ذهبت إلى الجمعية الكاثوليكية التي تنظم هذا "الحج" ، وقلت لهم إنني مصري وإنني مسلم، ومع ذلك فإنني أريد أن أشترك معهم في هذه الرحلة إن لم يكن عندهم مانع، وعلى أنها رحلة سياحية وفوجئت بأنهم رحبوا بي ترحيبًا كبيرًا لأنهم كانوا حريصين على أن تضم الرحلة أكبر عدد ممكن لأنها في نظرهم مظاهرة للتأييد والتشجيع الأدبي والاقتصادي والمالي لنظام فرانكو الذي يساندونه ضد التيار الشيوعي والاشتراكي في فرنسا وأسبانيا

ودفعت لهم الاشتراك، وقلت لهم إنني في حاجة إلى تأشيرة فقالوا لا تشغل نفسك بهذا فنحن سنحضر تأشيرة جماعية لجميع أعضاء الرحلة في كشف دون الحاجة إلى جوازات أو خلافه، لكنني فكرت في أنني ربما أنفصل عن هذه المجموعة في أسبانيا لكي أذهب إلى طنجة، وقررت أن أحصل على تأشيرة شخصية على جواز سفري من باب الاحتياط وذهبت إلى المستشار الثقافي

وطلبت منه خطابًا إلى السفارة الأسبانية ببأني طالب وأريد أن أقوم ببعض الأبحاث العلمية الخاصة برسالتي في أسبانيا، وأريد الحصول على تأشيرة لدخول أسبانيا، ولأول مرة منذ أن ذهبت إلى فرنسا وافق المستشار الثقافي على أن يعطيني خطابًا، رغم أنه رفض قبل ذلك طلبًا للسفر إلى شمال أفريقيا؛ لأن الموضوع خاص بأسبانيا، ولا يؤثر على علاقاتهم مع السلطات الفرنسية.

وكانت أول مدينة زرناها تسمى "برجوس" ثم "أفيلا" وكانت تمتاز بأن لها سورًا يحيط بها وقد تجولنا بها، ولاحظت قوة الشعور الديني في أسبانيا في كل مظاهر المجتمع وخاصة في هذه المناسبة والتي تسمى عندهم "الأسبوع المقدس" الذي يقع فيه "عيد الفصح" في الدول الأوروبية وفي أسبانيا يحتفلون طوال الأسبوع في جميع المدن، سواء في المقاهي أو الشوارع أو ما إلى ذلك وانتقلنا إلى مدينة "سلمنكا" وزرنا فيها الكنائس الهامة والمواقع السياحية، وبعدها وصلنا إلى مدريد.

كان أول ما فعلته في مدريد أنني اتصلت هاتفيًّا بالدكتور "حافظ إبراهيم" الذي عرفني به أخي "الهادي الديوري" فحضر إلي فورًا، ورحب بي كثيرًا وسعد بلقائي لأنه قال لي إنه يقاسي من العزلة في هذه البلاد، وطلب مني أن أترك الرحلة وأنزل في ضيافته فقلت له سوف أتركها، ولكن عندما يغادرون مدريد؛ لأنه بقي لنا زيارات في الإسكوريال حيث المكتبة الشهيرة، وفي "طليطلة" التي كانت عاصمة الأندلس – وما زالت تحمل الطابع العربي في شوارعها ومبانيها وأسواقها رأينا مسجدها الذي حول إلى كاتدرائية مسيحية تحمل اسم "سانتابلانكا"

والقصر العربي القديم الذي دارت حوله معركة فاصلة بين قوات "فرانكو" والقوات الحكومية – وفي غيرها من ضواحي مدريد، وأنا قد دفعت تكاليف الرحلة ومن حقي على الأقل أن أستفيد من نصف الرحلة مقابل هذه النقود، وسأتصل بك عندما يقررون مغادرة مدريد عائدين إلى فرنسا.

وفعلاً عندما قرروا العودة إلى فرنسا كان ذلك عن طريق برشلونة، وبرشلونة بلدة سياحية جميلة، ولم أرها للآن بكل أسف وضحيت بزيارتها، وقلت لهم سوف أتخلف وطبعًا هم لم يهتموا كثيرًا بهذا وأنا مطمئن؛ لأن عندي تأشيرتي في جوازي، واتصلت بالدكتور حافظ إبراهيم وحضر إلي، وأخذني إلى منزله وكان يقطن في فيلا في أحد الأحياء السكنية وكان يدير فيها في الدور الأرضي والبدروم معملاً للمواد الكيماوية

والحقيقة أن الدكتور حافظ إبراهيم درس الطب في فرنسا وأتم دراسته وتدريبه في باريس أثناء الحرب وعندما جاء هاربًا من فرنسا بسبب خوفه من الفرنسيين بحجة أنه تعاون مع الألمان، لم يحضر معه أوراقه واضطر أولاً أن يعمل في أي عمل حتى يحص على أوراقه، وعندما حصل على أوراقه طلب أن يصرح له بمزاولة مهنة الطب، قال لي إنهم رفضوا ذلك؛ لأنهم ليسوا محتاجين لأطباء، وواضح أنه هناك بعض التعصب منهم؛

لأنه مسلم كما يقول، وعرفني الدكتور "حافظ إبراهيم" بزوجته وأولاده، وكان ابنه الأكبر (من حسن الحظ) اسمه "توفيق" ، وأكثر من ذلك أن ابنه الثاني اسمه "عمر" ، وكاني أخي الأصغر اسمه "عمر" وكان لهذه المصادفة تأثير كبير في تعميق الود والتعاطف وقضيت معه أيامًا معدودة، وقلت له أريد أن أذهب إلى الأندلس لزيارتها و "الحج" إليها حجًا إسلاميًّا بعد هذا الحج المسيحي الذي اشركت في نصفه

وقال لي من حسن الحظ أن أسبوع الاحتفالات في أسبانيا كلها، وفي الأندلس بصفة خاصة بمناسبة الأسبوع المقدس وكل المدن تقيم المهرجانات والاحتفالات والكنيسة تنفق أموالاً ضخمة من أجل هذا، وخصوصًا في الأندلس نظرًا لأن الجو هناك أكثر ربيعًا وجمالاً، والطبيعة جميلة جدًا هناك وقال إنه لم يزر الأندلس للآن، ولذلك فهو سينتهز فرصة حضوري ونذهب معًا لزيارة الأندلس، وحجز لنا في إحدى الطائرات من مدريد إلى أشبيلية، وكانت هذه أول مرة أركب فيها الطائرة في حياتي؛ لأن سفرنا من مصر لفرنسا كان دائمًا في ذلك الوقت على ظهر السفن.

خلال فترة إقامتي مع "حافظ إبراهيم" بمدريد شعر باهتمامي بقضايا شمال أفريقيا وسره ذلك لكنه صرح بعد ثقته في الأحزاب الوطنية التي أتعاون معها، فبالنسبة لتونس مثلاً ذكر لي أن زعماء الدستور الجديد هؤلاء لهم علاقات مشبوهة مع بعض اليهود في تونس وأنهم يتبرءون من الأصول الإسلامية التي يعتز بها الشعب ويعادون العلماء، وكل من يكون له اتجاه إسلامي

وبالنسبة للجزائر فإن حركة "مصالي" حركة نقابية لا تعرف شيئًا في السياسة ونشأت في باريس بعيدًا عن الوطن دون أن تعرف كثيرًا عن الواقع الاستعماري هناك، ولم يقتصر على ذلك بل كانت له انتقادات كثيرة على جميع الزعماء المغاربة ومنهم "علال الفاسي" وكان هذا السخط ينسحب حتى على العرب غير الزعماء وفهمت من تاريخ حافظ إبراهيم أنه قد قاسى كثيرًا من العزلة التي فرضت عليه في أسبانيا

وجو الخوف والرعب الذي مر به في فرنسا بعد خروج الألمان منها، وكان الفرنسيون يعتبرون أن العرب جميعًا الذين بقوا في فرنسا بعد احتلال الألمان لها، قد انحازوا للألمان أو على الأقل كانوا فرحين؛ لأن فرنسا ركعت وهزمت أمام الألمان، وكانوا يعتبرون هذا انتقامًا إلهيًّا منهم بسبب ظلمهم للشعوب التي تقاسي من الاحتلال، ومن الظلم الفرنسي وهذا شعور حقيقي وطبيعي، وخصوصًا منجانب أبناء شمال أفريقيا الذين يقاسون سوء المعاملة والظلم على يد الفرنسيين في بلادهم، وفي فرنسا

ولا يمكن أن يلاموا عليه، وهذا شعور بالفرح لهزيمة فرنسا، كان الفرنسيون يصفونه بأنه تعاون مع الألمان، وهم يعاملون العرب كأنهم فرنسيون لا يجوز لهم أن يتعاونوا مع الألمان، ولا يعرفون أو على الأقل ينسون أن الفرنسيين في نظرنا أيضًا هم أعداء، بل أكثر عداوة لنا من الألمان، والتعاون معهم جريمة إذا كان لابد من الكلام عن الجرائم؛ لأن الفرنسيين أعداء في نظرنا؛ لأنهم يحتلون شمال أفريقيا

ولذلك فهم أعداء حقيقيون، أما الألمان فهم أعداء لفرنسا، ولكن على الأقل لم يظهروا عداء صريحًا لبلاد المغرب العربي أثناء الحرب، وكان العرب جميعًا في شمال أفريقيا، بل حتى في مصر أيضًا، لا يخفون شعورهم من السرور، مما يلاقيه الحلفاء من هزائم أمام الألمان وليس هذا تأييدًا للألمان؛ ولكنه كان شعورًا طبيعيًّا بالسخط على الاحتلال الإنجليزي والفرنسي، والاستعمار الأوروبي على وجه العموم وإذا كان الألمان ظالمين، فإن الله سلط ظالمًا على ظالم.

إن حافظ إبراهيم كان كتلة من السخط على العالم كله، وعلى العرب بصفة خاصة، فهو يخشى العودة إلى بلاده؛ لأن بلاده ما زال يحتلها الفرنسيون، وشمال أفريقيا كله يحتله الفرنسيون والمشرق بعيد عليه، وأسبانيا ولو أنها (آوته) إلا أن الكاثوليكية في أسبانيا ما زالت تعتبر كلمة "مسلم" معناها عدو، وهو يشعر بهذا من تعامله مع الإدارة هناك، ولذلك عندما وصل إلى أسبانيا كان مضطرًا للعمل في أي مهنة يلقاها

رغم أنه طبيب ومؤهل للطب، لكنهم لم يعطوا له رخصة للعمل في مهنته، واضطر إلى أن ينشئ مشروعًا للاتجار في المواد الكيماوية التي يستوردها من ألمانيا وسويسرا وإيطاليا، ثم بعد ذلك يصنع منها المواد اللازمة للصيدليات ويبيعها، وقال لي إن له عملاء كثيرين في جميع أنحاء أسبانيا، وأن من بين أهداف جولته في الأندلس أن يلتقي مع عملائه في كل بلد منها، وعلى كل حال نجح في هذا المشروع، وأصبح يتمتع بثقة الأسبان

ويتعامل معهم تعاملاً إنسانيًّا وسمى شركته "الشركة الأسبانية الشرقية" Hispano Oriente ، وأنه كان مستريحًا ولكن طبعًا اضطر إلى أن يعلم أولاده باللغة الأسبانية، فضلاً عن اللغة الفرنسية؛ لأنها لغة أمهم الفرنسية، ولم يتعلموا شيئًا من العربية، وأنهم كافحوا حتى أقاموا لهم وطنًا في وسط هذا الوطن الأجنبي، ويتمنى أن يتمكن من تعليم أبنائه للغة العربية، لكن لا أمل له في أن يتيسر ذلك له في تونس.

هذا هو في نظري السبب الأكبر فيما يشعر به صديقي حافظ من سخط، وطبعًا لا يظهر سخطه على المجتمع الأسباني الذي آواه، وأفسح له مكانًا، ولكن يا يخفى سخطه علىالعرب بحجة أنهم لا يحسنون الدفاع عن بلادهم، وأنهم استسلموا للاحتلال في شمال أفريقيا ولايقون العذاب والهوان، ليس في شمال أفريقيا وإنما في العالم العربي كله، ويقول إن كثيرًا من هؤلاء الزعماء يضيعون وقتنا في حركات وأحزاب سياسية لا فائدة منها إلا تضييع الوقت، لأن الفرنسيين لا يعرفون إلا لغة الحرب والقتال

ولا يمكن أبدًا أن يتحرر أي شعب عربي أو شعب أفريقي تحررًا حقيقيًّا إلا بالقتال، وكل ما يحدث دون ذلك هو غش في غش وسترون أن ما يسمى بالاستقلال الذي يحصل عليه هؤلاء هو الاستعمار بعينه وكان يعتبر هذه الانتقادات مبررًا لعدم تعاونه مع هذه الأحزاب إلا إذا اقتحمت ميدان الكفاح المسلح، وأشهد أنه قام بدور كبير في تدعيم الثورة الجزائرية وإمدادها بالسلاح، وكان بين بيللا يتردد عليه كثيرًا كلما جاء لأوروبا قبل اعتقاله وسجنه.

زيارة الأندلس 1949م

أول مدن الأندلس التي زرناها كانت أشبيلية، وهي عاصمة الأندلس في الماضي والحاضر، وأكبر مدنها، وكانت عاصمة كبيرة في العصر الإسلامي، وما زالت تحتفظ بطابعها كمدينة عربية، والأسبانيون قد عنوا بها عناية شديدة، بحيث أعتقد أنه فيما عدا مدينة فاس بالمغرب التي زرتها فيما بعد، لا تجد في العالم كله مدينة تحتفظ بالطابع العربي في مبانيها وعمارتها وشوارعها مثل مدن الأندلس التي شاهدتها

وأولها مدينة أشبيلية وأهم ما في أشبيليا المسجد الكبير، وفيه "الصومعة" الكبيرة التي يسمونها "الخيرالدة" وهي مئذنة المسجد الكبير، وقد زرناه وما زال يحتفظ بطابعه الإسلامي من الخارج ومن الداخل فيما عدا أنه في داخله وضعت بعض الحواجز لإقامة كنيسة بداخله أو كاتدرائية، ولكن ذكر لي الدكتور حافظ إبراهيم أن مظاهر الإقطاع ما زال يشهد بها ما يتمتع به الأغنياء من ترف، وما يظهر على الفقراء من بؤس وفاقة

ولم يستطع الاشتراكيون تغيير شيء من ذلك، ولكن النظام الاشتراكي والشيوعي الذي حكم أسبانيا قبل فرانكو كان ضد الكنيسة وضد الكاثوليكية، ولذلك كان مهتمًا جدًا بالعناية بالآثار الإسلامية والعربية أهداف سياحية، وأيضًا إزالة الطابع الكنسي من أسبانيا، وتقليل المظهر الكاثوليكي في المدن الأندلسية بقدر المستطاع، وقاموا بجهد كبير في ترميم الآثار العربية، والمحافظة على طابعها الإسلامي والعربي

فما زالت الآيات القرآنية مكتوبة على الأبواب النحاسية والمحاريب والحوائط عليها النقوش العربية بالخط العربي الجميل، كما كان حالها في العهد الإسلامي، صحيح أنهم لم يزيلوا الكنائس التي وضعها الأسبان داخل المسجد وشوهت صورته، وهذا التشويه كان لصالح الآثار العربية الإسلامية؛ لأن السياح جميعًا الذين عندهم ذوق فني في العمارة والنقوش كانوا يقارنون بين مقدار تقدم الفن الإسلامي

والبعث الذي يتمثل في الفن الكاثوليكي في الكنائس التي أقحموها على المساجد لتفسد رونقها وطابعها الفني والمعماري، ويوجد أيضًا في أشبيلية قصر مشهور، وهذا القصر لم يبين (كما قرأنا في المنشورات) في العصر الإسلامي؛ ولكنه بنى في العصر الانتقالي الذي يسمونه عصر المداهنين (المداخرين) وهم المسلمون الذين لم يستطيعوا الهرب من أسبانيا وأفلتوا من القتل والتعذيب

وذلك بسبب حاجة الأسبان إليهم فيما يتعلق بالمهن والتخصصات الراقية والعلمية التي كانوا يتميزون بها، وأبقوا عليهم ليستخدموهم في مشروعاتهم، وخاصة فيما يتعلق بالعمارة والتدريس في الجامعات، وما إلى ذلك من العلوم التي انتقلت بعد ذلك من أسبانيا العربية إلى أوروبا، وكانت هي بداية للنهضة الأوروبية بسبب انتقال العلوم والفنون التي برع المسلمون فيها

وكانوا أساتذتها حتى بعد أن فرضوا عليهم النصرانية إذ لم يبقوهم على قيد الحياة إلا بعد أن أعلنوا تنصرهم بصورة علنية وإن كانوا قد أبقوا إسلامهم في قلوبهم مدة طويلة؛ ولذلك كانوا يسمون هذا الجيل، جيل "المداهنين" أو "المداخرين" أو "المنافقين"، الذين أظهروا المسيحية خوفًا من القتل ومن محاكم التفتيش، ولكنهم بقوا مسلمين أجيالاً طوالاً حتى اندثروا، وتحولت الأجيال التالية من أبنائهم وأحفادهم إلى النصرانية

بل الآن يعتبرون أكبر شعوب العالم تعصبًا للكاثوليكية التي فرضت عليهم فرضًا بحد السيف والتعذيب في عهد محاكم التفتيش، وما زال الكثير من الأسر الأسبانية يفخرون بأنهم يحملون أسماء عربية، وطبعًا حرفت كثيرًا، وقد أشار لي حافظ إبراهيم إلى كثير من المحلات التي لها أسماء أصلها عربي، وحرفت طبعًا جرت عليهم مصائب في الماضي، ولكن في العهد الحاضر أصبحوا يفتخرون بها ويعتزون بانتمائهم إلى البربر والعرب والمسلمين

وقال لي "حافظ إبراهيم" إن هناك شاعرًا من المهاجرين في إحدى دول أمريكا الجنوبية كتب قصيدة باللغة الأسبانية ذكرها لي، ولكني نسيتها، وهي تبدأ: "بأنني من الأصل العربي من هؤلاء الذين ملكوا كل شيء، ثم فقدوا كل شيء؛ لأنهم يحبون الخمر والقيثارة والغناء والرقص" ، هذا هو الشاعر الذي لا يعرف الآن من عروبته الأصيلة إلا اللهو ومفاسده التي قضت على مجد العرب في الأندلس.

من أشبيلية توجهنا بالقطار إلى مدينة قرطبة الفريدة المهانة، ذات الشمس الساطعة القوية، قرطبة التي كانت عاصمة الخلافة، إذ أصبحت إحدى قرى الأقاليم، بعد أن كانت عاصمة الخلافة الأموية في الأندلس، والتي تظهر عليها حتى الآن آيات الإجلال مع معالم الحزن والأسى والبكاء والبؤس، وقريبًا منها ضاحيتها الشهيرة مدينة الزهراء التي كانت مثل فرساي بالنسبة لباريس وتضم قصور الأمراء والأثرياء

وقال فيها ابن زيدون "إني ذكرتك بالزهراء مشتاقًا" ، وكانت مظاهر الترف فيها سببًا في أنها أحرقت عدة مرات ممن يقاومون الترف والفساد، ولم يبق منها إلا ما غطاه التراب ولاحظنا أن مصلحة الآثار تجري حفريات لكشف جدران القصور المحروقة ونقوشها وتبذل في ذلك جهودًا وأموالاً كثيرة

ومن بين ما كشفوه القنوات التي كانت تحمل المياه من أعالي الجبال وتوصلها إلى حدائق القصور ونافورات المياه، وكذلك موقع قصر السلطان والقصور المحيطة به، أما بقية المدينة فيغطيها التراب، وتنبت فوقها الأعشاب، وقد لاحظنا أن أسراب الخنازير ترعى وتمرح وقال حافظ إن هذا التراب يضم بقايا أجساد أجدادنا، وهذه الخنازير تبول عليهم بعد أن صاروا ترابًا

وردد لي حافظ إبراهيم القصيدة المشهورة في رثاء الأندلس التي فيها:

لكل شيء إذا ما تم نقصان

فلا يغر بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول

من سره زمن ساءته أزمان

حتى المحاريب تشكو وهي جامدة

حتى المنابر تبكي وهي عيدان

ويصف الشاعر ما حصل عندما نكب المسلمون في الأندلس، من أن المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر تبكي وهي عيدان، وخاصة بعد أن تحولت كلها إلى كنائس وصارت مآذنها تحمل الصلبان والنواقيس، وهكذا أشكر لحافظ إبراهيم أنه كان حافظًا حقيقة ليس للشعر العربي فقط، وإنما للشعر الأسباني والفرنسي، في كل مناسبة كان يقرأ علي هذه القصائد

وقد عثرنا على كتاب باللغة الأسبانية يتضمن ثلاث قصائد مشهورة من قصائد الشعر الأندلسي، وترجمتها باللغة الأسبانية، واشتريت هذا الكتاب، ولا أدري أين هو الآن وكتاب آخر عن مأساة "أبي عبد الله" آخر ملوك المسلمين الذي سلم غرناطة للمسيحيين ولم يشفع له ذلك بل وضعوا في رقبته طوقًا حديديًّا، ووضعوا صورته على غلاف الكتاب وفي رقبته هذا الطوف.

في قرطبة أهم ما هناك المسجد الكبير، المسجد الأموي الشهير بقرطبة أعظم مآثر الإسلام في أسبانيا، الذي ينافس في فنه وشهرته المسجد الأموي في دمشق وبناه الخلفاء الأمويون، وهو تحفة في فن العمارة لا مثيل لها في العالم كله تزداد قيمتها وعظتها كلما مر عليها الزمان، وما زالت المنشورات والكتب السياحية التي ينشرها الأسبان تتصدرها صورة هذا المسجد، ويصونه بأنه المسجد الكاتدرائي؛

لأن المسيحيين عندما استولوا عليه وأبطلوا فيه الصلاة، قد حجزوا جزءًا في وسطه، وأقاموا فيه كاتدرائية شوهت منظره وأصبح كل سائح يتألم مما فعله المسيحيون الذين أفسدوا هذا المسجد ونموذجه الرائع بهذه الكنيسة أو الكاتدرائية التي أقاموها في وسطه، وطبعًا الاشتراكيون والشيوعيون لم يستطعوا إزالتها ولكن كل ما عملوه أنهم حافظوا على مباني المسجد وعمارته شاهدة بالفن العربي الأصيل

وعندما دخلت هذا المسجد تأثرت كثيرًا؛ لأنه ما زال بساحته الصهريج الذي يأتيه الماء من الجبال من أيام العرب للوضوء، وما زال الماء يجري ويسمع خريره كأنه يشكو من انقطاع المصلين، وهو ماء نقي بارد، ما زال يجري حتى الآن، ويتجمع في حوض كبير يحيط به مقاعد للمتوضئين، وعندما يراه الإنسان يكاد يرى المصلين الذين كانوا يتوافدون على هذا المسجد في أيام عزه في العصور الإسلامية

وقفنا نتأمل الحوض والماء يجري فيه وبالقرب منه شجرة زيتون عريقة معمرة، وأشجار برتقال مزهرة، وأشار حافظ إلى مكان قال إن ابن رشد كان يجلس فيه ليقي دروسه في الفلسفة، وقد سارعت بالوضوء وصليت ركعتين وحافظ إبراهيم يحرسني خوفًا من أن يأتي الأسبان ويعتدوا علي في هذا المكان. وفي الحقيقة بقدر ما سررنا من زيارتنا لأشبيلية، ومشاهدتنا للمهرجانات في الأسبوع المقدس هناك، لكن بعد ذلك في قرطبة كانت أيام أسى وحزن، وكنت كلما مررت على مسجد من المساجد المهدمة أو أثر من الآثار العربية وخاصة أطلال القصور التي أصبحت خرائب أو تحولت إلى دكاكين وساحات عامة

وكنت أقول في نفسي هل يمكن أن يحصل ما حصل في الأندلس في بلد عربي آخر، وكنت أفكر في ذلك الوقت في فلسطين وما حصل فيها، وكانت إسرائيل قد استولت على الجزء الأكبر منها وتسير في خطة تهويده كما سارت المسيحية في الأندلس، وكنت قد قرأت ما فعلوه في مسجد "حسن بك" في يافا ويفعلونه في المساجد الأخرى، وما يفعلونه في أمة العرب والمسلمين الذين يصرون على إبادتهم

كما أباد الكاثوليك العرب والمسلمين في أسبانيا، وتذكرت بعد ذلك بسنوات عديدة أ، اليهود تعمدوا أن يجروا العرب إلى المفاوضات الذليلة في مدريد بمناسبة مرور خمسمائة عام على طرد العرب من أسبانيا وأن تجري عملية إبادة المسلمين في البلقان في هذا الوقت بالذات، وهم يعرفون أهمية هذه المناسبة، ونحن لا نجرؤ على ذكرها...

عظمة الحضارة العربية

هذه كانت حالتي النفسية في قرطبة، ومنها ذهبنا إلى غرناطة بالقطار، وكان قطارًا قذرًا بطيئًا يهاجمه المتسولون كلما توقف، ولاحظنا أن الراهبات المسيحيات كن يركبن بجوارنا في الدرجة الأولى، وليس عليهن أي مظهر للزهد أو التقشف، ولا يزعجهن منظر المتسولين كأنه أصبح أمرًا عاديًّا، وكان طريق القطار يشق سهلاً خصبًا غنيًّا بالمزارع وخلفه جبال عالية هي "السبيرا"

والزراعة على مدرجات تفصل بينها خطوط هندسية تذكرنا بالنقوش العربية، وغرناطة مشهورة بقصور الحمراء التي يعتبرها السياح أكبر تحفة معمارية في العالم تشهد بروعة الفن المعماري العربي والإسلامي وتشغل مساحة كبيرة من الأرض مملوءة بالحدائق الجميلة التي عُني بها المسلمون وقد زرناها عدة أيام...

ما فعله الأسبان في أشبيليا وقرطبة فعلوه في غرناطة، ولكنهم حافظوا على القصور للسياحة وقد بنى الملوك الكاثوليك قصرًا على الطراز المعماري الأوروبي، وكان آية في السخف والحمق ولا يستسيغه أي ذوق، وكان وجوده إلى جانب قصور الحمراء وما يزال أما الناس جميعًا أكبر شاهد على تفوق العرب والمسلمين في فن العمارة وفي غيرها من الفنون

وحدائق الحمراء نفسها تشهد بالذوق العربي في العناية بالورود والزهور ومجاري المياه وتزويد المساجد بالماء للوضوء، وشاهدنا قريبًا من غرناطة سلسلة الجبال المشهورة التي تحمل اسم "سيرانفاده" ، وقد قرأت بعض الكتب الأسبانية باللغة الفرنسية يقولون إن أحد جبالها اعتصم به أحد الفرسان العرب أو بعضهم بعيدًا عن الأسبان

وعاشوا به أجيالاً عديدة كان الأسبان يخشون بأس هذا الفارس، أو هؤلاء الفرسان العرب الملثمين الذين يحتمون بالجبال ويغيرون من حين لآخر على القرى ولا يستطيع أحد أن يقف في وجوههم وهناك قصص كثيرة عن هذا الجبل، وعن الفارس العربي الذي عاش فيه مدة طويلة وطبعًا هذه القصص فيها شيء من الحقيقة، ولكن فيها كذلك بعض المبالغات كما في قصص أبي زيد الهلالي، وغيره من القصص الشعبية عندنا..

وتمتاز غرناطة عن قرطبة بأنها مملوءة بأماكن اللهو والغناء والرقص الغجري Gipsy وفي قصور الحمراء تلك الحدائق الشهيرة التي ما زال الأسبان يعنون بها، وكانت تحمل في العهد العربي اسم (جنان العريف) وحرف هذا الاسم فأصبح بالأسبانية Jenea Alrfe.

وبعد غرناطة توجهنا إلى "ساحل الشمس" وهو الساحل الجنوبي لأسبانيا أو الأندلس، وعاصمته هي "ملقا" وهو اسم عربي بالطبع، وهي ميناء على البحر الأبيض المتوسط يحيط بها في الشمال وفي الجنوب، كلها شواطئ سياحية أصبحت قبلة لجميع السياح من جميع أنحاء العالم، وما تزال حتى اليوم، ومنهم الكثير من العرب الذين اشتروا أملاكًا هناك

وبعد زيارة "ملقا" ذهبنا جنوبًا إلى الجزيرة الخضراء، هذا هو اسمها العربي الذي تحمله حتى اليوم وهي آخر مدن أسبانيا المطلة على خليج جبال طارق وتحتفظ باسمه العربي حتى الآن إنما ينطلق بالأسبانية (الخزيراس) وقد عقدت فيها معاهدة مشهورة في تاريخ المغرب، بين المغرب ودول أوروبا

وفي هذه المدينة الجميلة المطلة على جبل طارق وقفت أتأمل مضيق جبل طارق الذي عبره الجيش الإسلامي من ساحل أفريقيا إلى أوروبا وذهبنا إلى زيارة مدينة جبل طارق التي يحتلها الإنجليز وغيروا معالمها وأبادوا الأسبان منها "كما أباد الأسبان المسلمين" وحملوا إليها مهاجرين من كل جنس ولون، وأغلبهم من الإنجليز ومستعمراتهم وخاصة من الهنود واليهود

وهي مدينة ضيقة وتزداد ضيقًا كلما مر عليها الزمن، وأسبانيا تطالب بها، وما تزال حتى الآن، ولكن الأسبان كأفرادي يعتبرونها منطقة حرة للتسوق، يخرجون لشراء الأشياء التي لا يجدونها في بلادهم وكذلك السياح لأنها عبارة عن صخرة لا يسمونها مدينة، بل يسمونها صخرة جبل طارق، وفيها حصون من أيام العرب وفيها حصون أيضًا جديدة استحدثها الإنجليز فضلاً عن الميناء الحربي الذي تأوى إليه البوارج والسفن الحربية الإنجليزية التي تستغل هذا المضيق على حساب الأٍبان وعلى حساب العرب أيضًا؛ لأنه كان في الأصل مضيقًا عربيًّا من شطريه وما زال مضيقًا عربيًّا على الأقل من الشاطئ الأفريقي.

ومن جبل طارق رأينا الشاطئ الأفريقي، شاطئ طنجة، بل وسبتة أيضًا وهنا قلت لحافظ إبراهيم إنني أريد أن أعبر البحر إلى طنجة، وقد جئت من أجل هذا ففزع وقال كيف تريد أن تذهب إلى طنجة وأنت إذا خرجت من هنا لا تجد تأشيرة للعودة إلى أسبانيا، وكيف تذهب من طنجة إلى مرسيليا أو إلى فرنسا، وهذه تعقيدات أنت غير مستعد لها، وصار ينصحني بالعدول عن هذه الفكرة

ويقول ستجد مشاكل ومشاق ولا تعرف ماذا يفعل بك الأسبان والفرنسيون في طنجة، وأنا أنصحك أن تعود معي، وصار يزين لي العودة إلى مدريد معه، ويعدني بأن نتمم الجولة السياحية، ولكنني قلت له إنني صممت على أن أذهب إلى طنجة لزيارة السيد "علال الفارسي" وإخوانه هناك. صممت على أن أترك صديقي "حافظ إبراهيم" يعود وحده إلى مدريد، وأجتاز وحدي جبل طارق إلى مدينة "طنجة" وأحرق مراكبي، كما حرق "طارق بن زياد" مراكبه عندما عبر من الاتجاه الآخر من الشاطئ الأفريقي إلى الشاطئ الأسباني لم يكن معي تأشيرة للعودة إلى أسبانيا، ولا أعرف كيف أعود إلى باريس إذا لم يعطني الأسبان التأشيرة للعودة بالقطار

رغم ذلك كله فقد كنت سعيدًا في أنني ركبت هذه السفينة التي تخرج بي من أوروبا إلى أفريقيا، وأن أذهب إلى أحب البلاد الأفريقية إلي وهي شمال أفريقيا وأولها مدينة طنجة ولا أخفي أنه كانت تراودني فكرة أن أحاول أن أتسلل من طنجة إلى داخل المغرب الأقصى تحت الاحتلال الأسباني والفرنسي كما تسللت من قبل إلى تونس بل وربما الجزائر تنفيذًا للوعد الذي قطعته على نفسي...

على ظهر السفينة كانت لي فرصة أن أستذكر ما سمعته من "حافظ إبراهيم" عن حياته في تونس وفرنسا ثم أسبانيا، كان قد ولد بإحدى قرى تونس واسمها "أكودة" ، وكان يردد هذه الكلمة: "إن أكودا هي أحسن بقعة في العالم كله؛ لأن أمي قد دفنت فيها" وكان يحب أمه وأباه الذي كان من شيوخ الزيتونة، ويسمى الشيخ راجح إبراهيم وقد سماه حافظ إبراهيم؛ لأنه كان أيضًا أديبًا، ويحب الشعر، وتيمن باسم "حافظ إبراهيم"

وفعلاً كان حفاظ أديبًا رغم أنه ذهب لدراسة الطب في فرنسا إلا أنه كان يعني بالشعر العربي، وبالأدب العربي والفرنسي، ثم الأسبان فيما بعد، كما يعني بالموسيقى أيضًا والموسيقى الكلاسيكية كان يحبها، ويعجب بها، ويقول العرب يقضون تاريخهم كله في القتال والفتح، والأوربيون سبقونا في الموسيقى مع أنها من أهم الأمور في حياة الإنسان وهكذا كان يتلمس من حين لآخر الأسباب لنقد العرب

ويؤكد أن أنانية الأفراد وجشعهم وحبهم للترف واللهو، كان السبب في انهيار دولتهم بالأندلس وكان كل نقده للماضي أما الحاضر فكان بينه وبين حاجز هو حاجز العزلة التي فرضت عليه في أسبانيا، وكان يذكر لي أن بعض زملائه من التونسيين الذين كانوا يقيمون في فرنسا معه قد ذهبوا إلى ألمانيا أثناء الحرب، وتعاونوا مع المفتي الحاج "أمين الحسيني"، وكان عندهم آمال كثيرة في أن الألمان سوف يعلنون استقلال أفريقيا الشمالية بعد احتلال فرنسا

وكان المفتي عنده هذا الأمل، ولكن بكل أسف الألمان غلبت عليهم الغطرسة الجرمانية، والنزعة الصليبية أيضًا لأنهم ما زالوا صليبيين مثل غيرهم من شعوب أوروبا، فرغم أنهم احتلوا فرنسا، وفرضوا عليهم الهدنة، إلا أنهم لم يقولوا كلمة واحخدة تلد على أنهم يؤيدون مطالب الشعوب العربية في الاستقلال، وكان هذا أسوأ ما لاقاه العرب الذين غرتهم الدعايات الألمانية وتفاءلوا لانتصالات الألمان على الغربيين

وقال إن هؤلاء التونسيين وعلى رأسهم (الحبيب تامر) من أصدقائه وزملائه، جاءوا أيضًا هاربين إلى أسبانيا، ولكنهم كانوا في طريقهم إلى مصر بوساطة الجامعة العربية، وعبد الرحمن عزام بالذات، وقال إنهم حاولوا إقناعه بالذهاب إلى مصر معهم، ولكنه رفض أن يترك البلاد التي آوته، وعاش فيها آمنًا، ولا يعرف ماذا سيحدث له في البلاد التي ما زالت تحت الاحتلال، وستزداد الصعوبات لمن يلجأ إليها وازدادت الصعوبات فعلاً بعد نهاية الحرب

والشاهد على ذلك هو ما يحدث في فلسطين وما سيصيب الفلسطينيين وكل من أيدوهم أو تعاونوا معهم أو نصروهم، وبالطبع تكلمنا عن الإخوان المسلمين وكانت معلوماته عنهم حدودة جدًا، ولم يسمع عنهم كثيرًا لأن هذا الموضوع لا يرد في الصحافة الأسبانية، وإنما كانت بعض الصحف الفرنسية تصله وكان فيها بكاء الفرنسيين على زوال الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان، ورغم سخطه على العرب إلا إنه كان يسر بكل ما يصيب الفرنسيين من هزائم، ويتمنى أن تزول فرنسا من على ظهر الأرض.

رغم سعادتي بصحبة صديقي "حافظ إبراهيم" وحبي لأحاديثه، وإخلاصه في نصحيته لي بعدم المغامرة بالخروج من أسبانيا إلى طنجة، وتوقعه أن يجر ذلك علي مشاكل ومتاعب أنا في غنى عنها، إلا أن ذلك كله لم يمنعني من الإصرار على هذه المغامرة، وكانت مغامرة فعلاً كما تبين لي فيما بعد، لكني والحمد لله ما زلت أعتز بها، وأحفظ لها أعز الذكريات التي أرجو أن يشاركني القارئ في التمتع بما أذكره له عنها؛ لأنني كان عندي الأمل الذي كان يبلغ قرينة اليقين في أنني سوف أزور أرض المغرب، وأرى شعب المغرب في بلاده كما رأيت تونس وشعبها من قبل، ولا يبقى بعد ذلك إلا أن أزور الجزائر.

ركبت السفينة التي تجتاز مضيق جبل طارق لتنقلنا من أوروبا إلى أفريقيا ذكرتني بالسفينة التي ركبناها من مرسيليا إلى تونس قبل عامين، لكنها كانت أصغر، وكنت وحيدًا بعدما تركت صديقي حافظ إبراهيم غاضبًا علي، وكانت المسافة التي يقولون إنها ثلاثة عشر كيلو مترًا فقط، ومع ذلك قطعتها في ساعتين ونصفًا، كان عندي فرصة لاستعادة كثير من الذكريات شغلتني عن التفكير فيما سوف أفعله بعد وصولي، كنت أشعر أنني مسير يستهويني نداء في نفسي لكي أزور أفريقيا، بعد أن رأيتها من الشاطئ الأسباني...

علال الفاسي وطنجة (المدينة الدولية) 1949

نزلنا في ميناء "طنجة" ، وكان الجو جميلاً، والمنظر رائعًا، وكان كل شيء حولي يبشر برحلة ممتعة، ووقفنا طابورًا أمام شرطة الجوازات، وعندما وصلت وقدمت جواز سفري فوجئت بأن مندوب الجوازات طلب مني أن أنتحي جانبًا، واحتجز جواز سفري، وقال انتظر حتى النهاية فذهبت أنتظر في ركن قصي، وأنا أتأمل الركاب الآخرين يدخلون المدينة واحدًا بعد الآخر، وأنا لا أعرف ما السبب في وقوفي دون غيري وبعد ذلك جاء أحد السياح

وكان يبدو عليه أنه من إحدى دول جنوب أمريكا اللاتينية وعرفني بنفسه، وأخبرني بأنه حجز جواز سفره كذلك، وأمر بالانتظار، ففهمت أن حالته مثل حالتي، ولم يكن هو يعرف السبب، ولا أنا كذلك، بعد ذلك جاء آخرون حتى بلغ عددنا سبعًا، وانتظرنا بقلق حتى انتهى طابو الركاب الذين نزلوا من السفينة وأغلبهم من السياح بالطبع، وبعد ذلك استدعى رفيقي إلى مكتب الجوازات وبقي هناك فترة يتحاور معهم

ورأيته يحتج عليهم، وهم يهدئونه، وأنا أتأمل كل ذلك، ولا أفهم شيئًا حتى عاد وعرفني بأن سبب حجز جوازه أنه ينقصه الإشارة إلى أنه صالح لزيارة طنجة أو المغرب، وهذا شرط من شروط الدخول، وأنهم قالوا له إنهم سيمنعونه من الدخول لأن جوازه غير صالح، وقال إنه احتج عليهم، وطلب أن يوصلوه بقنصل بلاده، وفعلاً اتصل به، وقرر أن يرسل له جوازه ليضيف إليه البيانات الناقصة، وانتهى الإشكال بالنسبة له، وأنه سيذهب مع حارس إلى القنصلية لإتمام الإجراءات، وكذلك فعل الآخرون، وكنت أنا الأخير.

ولما استدعوني قالوا لي: إنك ستعود إلى المركب لترجع إلى أسبانيا، قلت لهم كيف أعود إلى أسبانيا، وأنا ليس معي تأشيرة، وقد خرجت من أسبانيا، وانتهت تأشيرتي لدخولها وما هو السبب، فقالوا لي إن جوازك مكتوب عليه إنه صالح للدول الأوروبية ويعني ذلك أنه ليس صالحًا للبلاد الأفريقية، وأنت الآن في أفريقيا، وطنجة من أفريقيا ومن المغرب فلو كان جوازك صالحًا للمغرب كنا أدخلناك

قلت: وما العمل، وهذا اللاتيني الذي كان في نفس حالتي قد سمحتم له بالذهاب إلى قنصليته، قالوا نعم، هذا ذهب إلى قنصليته، ولكن أنتم المصريين ليس لكم قنصلية هنا، فيجب أن ترجع، فكرت برهة ثم قلت، ولماذا تقولون إنه ليس لي قنصلية هنا، وإذا كانت مصر ليس لها قنصلية في طنجة، فليس معنى هذا أنه لا توجد قنصلية ترعى شئون المصريين، كما في أي بلد في العالم عندما لا توجد قنصلية أو سفارة مصرية تكلف إحدى القنصليات أو السفارات الصديقة برعاية شئون المصريين في ذلك البلد، وأعتقد أن القنصلية البريطانية هي التي تتولى المسئولية في الوقت الحاضر، وأطلب منكم أن توصلوني بالقنصل البريطاني.

عند ذلك ترددوا، وتشاوروا، ثم اتصلوا بالقنصلية البريطانية، وقيل لهم إن القنصلية البريطانية مغلقة؛ لأن اليوم هو السبت ولا يوجد أحد بها، وطلبت منهم أن يوصلوني بالقنصل في منزله، وفعلاً بعد تردد دقوا الهاتف في منزل القنصل، وأجاب أحد الأشخاص بأن القنصل غير موجود، وقال هو غالبًا في النادي الآن يلعب تنس، وأعطوني هاتف النادي وطلبت من موظف الجوازات أن يوصلني بهذا الرقم

وأنا عندي احتمال كبير وشك، بأنه حتى إن كان موجودًا بالنادي، فسيكون بالملعب، ومن الذي سيناديه من الملعب ليكلمني وفعلاً أجابني أحد العاملين في النادي، وقلت له إنني أستاذ مصري وأريد أن أكلم ا لقنصل الإنجليزي لأمر هام وعاجل؛ لأنني محجوز في الميناء، ولا يمكن أن أنتظر، فأرجوك أن توصلني بالقنصل، ومن حسن الحظ وبالصدفة البحتة، كان القنصل ما زال موجودًا في الصالون وأجابني بسرعة

فشرحت له الموقف، وقلت له لابد أنك ترعى شئون المصريين في هذا البلد قال: نعم، قلت له إذن أنا مصري، جئت لأسبانيا وزرتها، والآن جئت إلى طنجة لأزورها وأعود إلى فرنسا، وأنا في بعثة مصرية هناك، وأنا أستاذ مساعد في الجامعة، وقالوا لي إن جواز سفري ينقصه أن يكون صالحًا للمغرب؛

لأنه مكتوب فيه إنه صالح للدول الأوروبية فهل يمكنك أن تضيف عليه هذا البلد، قال نعم يمكنني بكل بساطة أن أضيف لك هذا، بعد أن تدفع الرسوم، ولكنه عاد وقال: اليوم لا يمكن؛ لأن القنصلية مغلقة وغدًا أيضًا غير ممكن لأنه عطلة الأحد فلابد أن تنتظر إلى يوم الاثنين صباحًا، قلت له ولكنهم يريدون أن يعيدوني الآن للسفينة التي جئت عليها، فقل لهم حتى يتركوني أدخل، وأحضر لك يوم الاثنين

وطلبت من رئيس الجوازات أن يكلمه، فكلمه فعلاً، وفهمت من الحديث بأنه يقول له إن السفينة ستسافر غدًا، ولا يمكنه أن يتركني إلى يوم الاثنين إلا إذا رجع لمدير الشرطة، وهو الذي يمكنه أن يسمح بذلك، أما هو فكل ما يمكن أن يفعله إرضاء للقنصل سيتركني أذهب إلى فندق في المدينة على أساس أن يبقى جوازي معهم حتى ميعاد سفر السفينة غدًا بعد الظهر وعلي أن أبحث عن مدير الشرطة

وأعرض الأمر عليه، وإذا لم أحصل منه على الموافقة على بقائي إلى يوم الاثنين بناءً على وساطة القنصل لتصحيح جواز السفر، فلابد أن أعود مع السفينة يوم الأحد، وقال لي رئيس الجوازات بلطف وبكل أدب: إكرامًا لك، وللقنصل لن نصر على أنك تعود إلى السفينة

وسوف نتركك تذهب إلى أحد الفنادق حتى ترجع إلى مدير الشرطة لتعرف رأيه، ولكنا لن نسلم لك جواز سفرك، بل سنرسله لرئيس الشرطة فإذا كان يسمح لك بالانتظار إلى يوم الاثنين بناء على وعد القنصل سوف يسلم لك جواز سفرك وإلا فإنه سوف يعيدك إلى السفينة وأنت وشأنك مع الأسبان عندما تعود إلى الجزيرة الخضراء... والآن ستذهب إلى الجمرك لتحمل حقيبتك، وتذهب إلى أقرب الفنادق للميناء وفعلاً أرسل معي مندوبًا من الشرطة ومعه جواز السفر، ومعه تعليمات بعدم تسليمي جواز سفري، وتسليمه لمدير شرطة مدينة طنجة، وهو الذي يتصرف بما يراه.

وركبنا التاكسي، وذهبنا إلى الجمرك وكان بعيدًا، ولا أدري السبب في هذا، وهناك نزلت من السيارة إلى الجمرك، ووجدت كل الحقائق قد أخذت وبقيت حقيبتي، وقالوا لي لابد أن تنتظر لتفتيش حقيبتك؛ لأن الموظف غير موجود الآن، لذلك أعطيت التاكسي أجرته وانصرف، وانتظرت مندوب الجمرك لتفتيش الحقيبة، ولما جاء لم يكن مجاملاً

بل تمادى في التفتيش، وفتح الأشياء كأنني مهرب، فثرت عليه، وقلت له أنتم تمنعونني من الدخول والآن تفتشونني كأنني مجرم، هذا لا يليق ولا يصح، فهدأني وقال لي هذه إجراءات عادية عندنا ولا مناص منها، وأثناء هذا التفتيش فوجئت بسائق التاكسي الذي كان مغربيًا وقد فهم من حديثي مع مندوب الجوازات الذي ركب معنا أنهم يضايقونني ويمنعونني من دخول البلاد

وكان قد شارك في هذا الحديث، وعرف مني أنني مصري فقال إننا نحب مصر والمصريين، ولو كنت أستطيع المساعدة لساعدتك ثم فوجئت وأنا داخل الجمرك بأنه عاد إلي، وكان يحمل معه آلة تصوير "الكاميرا" التي كانت معي، وقد نسيتها في التاكسي وذهب بها، ولما عثر عليها عاد يبحث عني، رغم أنه لا يعرف اسمي ولا أي شيء عني، وكان كل ما عرف هو أنني في الجمرك وقد فرحت جدًا بهذه المبادرة من جانب سائق مغربي فقير عثر على هذه الكاميرا

وكان سبب سروري أكثر أنها ليست لي، بل استعرتها من صديقي التونسي السيد "محمد الميلي" لأنني لم أكن أملك كاميرا، وكنت سأتألم إن كانت ضاعت مني وطلبت منه أن يذهب بي إلى الفندق وركبت معه بعد انتهاء التفتيش وذهبت معه إلى أقرب الفنادق بجوار الشاطئ وهو فندق (الريف) وطلب مندوب الشرطة أن ينزلوني، وأن يحتفظوا بالجواز ولا يسلموه لي؛ لأنهم سيحضرون لأخذي لأعود ثانية للسفينة غدًا ظهرًا إذا لم يحدث قرار من طرف الشرطة بتسليمي الجواز.

كان ذلك في عصر يوم السبت، ووجدت نفسي في نفس الحالة التي وجدت نفسي فيها في تونس عندما دخلت بدون تأشيرة، وطلبوا حضوري للشرطة، وكنت أتوقع أن يقرروا إعادتي من حيث جئت، وأمامي الآن أقل من (24) ساعة فقط، وفضلاً عن ذلك فقد كنت أفكر فيما سأفعله إذا أعادوني إلى الباخرة

فعندما كنت في تونس كانت الباخرة ستعيدني إلى مرسيليا وأعود إلى فرنسا دون مشاكل، أما الآن فأمامي مشكلة كبرى إذ إن الباخرة ستعيدني إلى الجزيرة الخضراء وهي ميناء أسباني، وسوف يقولون لي ليس على جوازك تأشيرة دخول إلى أسبانيا، وليس لي حق الدخول أو المرور فيها بدون تأشيرة فماذا سأفعل؟

بقيت محتارًا، وقلت على الأقل عندي الوقت لأزور "علال الفاسي" في منزله إذا وجدته، وكان معي عنوانه، وأعود إلى الفندق أنتظر ما يقرره مدير الشرطة، وبدأت أعد في ذهني ما أقوله له، ثم توجهت إلى المدينة أبحث عن منزل السيد "علال" وأذكر أنه كان في طريق "حسنونة" وسرت أسأل، وكان بعيدًا ولكني كنت أمشي وفي نفس الوقت أتفرج على المدينة لاعتقادي أن هذه هي فرصتي الوحيدة

وغالبًا سأغادرها غدًا، وعندما سألت أحد المغاربة في الطريق تطوع أن يوصلني إلى العنوان، وكان وصولي بعد صلاة المغرب وأرشدني إلى المنزل، وسأل بنفسه عن الشقة التي يسكنها السيد "علال الفاسي" وطرقت الباب وقالوا لي بكل أسف إن السيد علال ليس هنا الآن ولابد أن يكون في المسجد الكبير لصلاة المغرب وصلاة العشاء، فإذا أحببت أن تعود إليه بعد صلاة العشاء يكون أفضل فقلت لهذا المغربي الذي دلني على المنزل إنني أرجوه أن يذهب بي إلى المسجد الكبير

وذهبت إلى هذا المسجد ودخلت، فوجدت حلقة كبيرة من المصلين يستمعون إلى درس، وكان يلقي الدرس السيد "علال الفاسي" فجلست جانبًا حتى لا يراني أثناء الدرس ويقطع الدرس وكنت أستمع إليه وكان يفسر بعض آيات القرآن الكريم وأذكر أنه كان يشرح لهم هذه الآيات: "يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين".

وأذكر أنه قال لهم: إن وصفهم بأنهم لم يكونوا من المصلين يقصد به أنهم لم يكونوا يؤدون واجباتهم الشرعية في العبادات أما قوله إنهم لم يكونوا يطعمون المسكين فإشارة إلى أنهم لم يكونوا يقومون بما يفرضه عليهم التضامن الاجتماعي من واجبات إزاء شركائنا في الإنسانية والأرض ومعنى ذلك أن الأساس في الحياة الاجتماعية في الإسلام هو التكافل والتضامن الاجتماعي وأن من يقصر فيه يكون كمن يقصر في العبادات ذاتها...

لقد أعجبني تفسيره؛ لأنه كان يتكلم كزعيم سياسي يشرح برنامج حركته الإسلامية، حتى إنن استطردت في شريط من الخواطر عن مستقبل التيار الإسلامي عندما يجد قادة بهذا الفكر وهذا الفهم... وقد انتهى الدرس بعد أن أذنت العشاء، وقمنا جميعًا للصلاة، وبعد صلاة العشاء خرج السيد "علال الفاسي" وحوله عدد من المصلين المغاربة يحيطون به، ويصحبونه إلى المنزل، وأنا أتبعهم من بعيد حتى لا أقطع حديثه معهم

حتى وصلوا إلى منزل السيد "علال" ووقف يودعهم ويسلم عليهم واحدًا بعد الآخر، وعندئذ كنت قد اقتربت منه فرآني رغم أن الشارع كان مظلمًا، وصرخ... توفيق... توفيق!!، ما الذي جاء بك إلى هنا، وأقبل علي معانقًا ومرحبًا، وكان هذا كافيًا لكي أنسى كل الصعوبات التي لاقيتها وطلب مني أن أصعد معه إلى شقته، وبدأت أقص عليه القصة، وأفهمته بأنني مهدد بالخروج غدًا في الصباح بالعودة إلى أسبانيا

ولا أعرف ماذا أفعل، وأنا ليس معي تأشيرة في أسبانيا وهل يقبلني الأسبان بدون تأشيرة، وغدًا الأحد ولا يوجد أحد في القنصلية ولا أعرف كيف أتصرف، فقال لي نتعشى أولاً، وأثناء العشاء أحضر الجبن المغربي وقال لي أرجوك أن تأكل هذا الجبن المغربي وتذهب وتخبر قريبك "شبانة" الذي يصنع الجبن في دمياط والذي يزعم أنه يصنع أحسن جبن في العالم

وتقول له إن جبن المغرب خير من جبن دمياط (لأنه عندما كان في مصر كان يزورني في منزلي وكان في بعض الأحيان يلتقي بالحاج "عبد الرءوف شبانة" ابن أختي الذي يعتز بمصانع جبنته في دمياط، ويتندر منعه، ويقول له ليس في بلدكم جبن كهذا؛ لأن هذا أحسن جبن في العالم)، أكلنا والحمد لله، وفي هذه الأثناء أرسل إلي أحد أعوانه من سكان طنجة وهو الحاج مصطفى خليفة وكان عضوًا بارزًا بالمجلس البلدي في المدينة

والمجلس البلدي كانت الإدارة الدولية في طنجة تعتبره المجلس النيابي للمدينة، وكان يحضره ممثلون منتخبون من سكان المدينة وكان أغلبهم من المؤيدين للسيد "علال" وحزب الاستقلال وللحركة الوطنية عمومًا، ومن بينهم السيد "خليفة" الذي حضر إلينا وحكيت له القصة، وقال إنه سيذهب في الصباح إلى مدير الشرطة في منزله؛ لأن غدًا عطلة الأحد، وهو بلجيكي وله علاقة به بحكم منصبه في المجلس البلدي، وبينهما ود

وأنه يستطيع أن يجد معه حلاً لهذه القضية ويحضر إلي قبل الظهر في الفندق، وسهرنا طويلاً مع السيد "علال" وكنت أطيل السهر على اعتقاد بأنني لابد أن أغادر طنجة غدًا في الصباح، وهذا احتمال كبير فقلت أستفيد من الوقت أكثر استفادة، وحكيت له قصصًا كثيرة عن أخبار مصر

وخصوصًا ما يحدث للإخوان في هذا الوقت، وعزاني في وفاة الشهيد حسن البنا الذي كان يعرفه وكان يقدره كثيرًا ويتعاطف معه باعتباره من علماء القرويين في المغرب، وكان هو أيضًا يتعاطف مع الإخوان ويتعاون معهم عمومًا، وكنت دائمًا على صلة به في مصر وفي المغرب بعد ذلك وكانت صداقتنا أخوية وفكرية؛ لأن أفكارنا كانت متشابهة إلى حد كبير.

وانتقلنا في حديثنا من الحالة في مصر إلى الحالة في فرنسا التي كنت أقيم بها، وكذلك زيارتي لأسبانيا وحافظ إبراهيم الذي ظهر أنه لم يعرفه ولم يلتق به، وودعته وليس عندي أمل كبير في أن أعود إليه قبل مغادرة طنجة، وذهبت مع صديقه الذي أصر على أن يرافقني إلى الفندق، وبقيت فيه حتى الصباح، ولم يكن النوم مريحًا ولا كافيًا، لقد دخلت غرفتي بالفندق بعد منتصف الليل، ولكني لم أستطع النوم، وزاد في قلقي شدة الريح التي تقرع زجاج النافذة من حين لآخر، لكن القلق الأكبر كان بسبب ما سألاقيه من مصير مجهول إذا لم يوافق مدير الشرطة على بقائي...

صحوت في الصباح قلقًا، لكن الجو كان جميلاً، والفندق كان يطل على الخليج وعلى الشاطئ، فوجدت السيد "خليفة" قادمًا بطربوشه الطويل وعصاه التقليدية في يده، وحياني قوال لي لقد اتصلت برئيس الشرطة وقد بعث لرسوله ليأخذ جوازك ويطلع عليه، وسنذهب إليه معًا لنعرض عليه القضية، وعندي أمل كبير في أن يستجيب لطلبك بعد ذلك مشينا على أقدامنا في الطرقات الخالية؛ لأن اليوم كان عطلة الأحد

وقد نسيت كل متاعبي لأن رئيس الشرطة قد استقبلنا بلطف وترحاب ووافق على طلبي بعد أن قلت له إنني في الواقع أستاذ في الجامعة، والآن في بعثة دراسية في فرنسا، وقد جئت إلى أسبانيا وفي نيتي أن أزور طنجة وهي منطقة دولية ومفتوحة للجميع، وفوجئت بهذا النقص العارض في الجواز وأعتقد أن هذه مسألة شكلية لا تحتاج إلى مجهود كبير وأنني اتصلت بالقنصل الإنجليزي، وأنه مستعد أن يضيف المطلوب فأرجوك أن تتصل به الآن وفعلاً اتصل شخصيًّا بالقنصل الإنجليزي في منزله (وكان لا يقل شهامة ولا إنسانية عن مدير الشرطة)، وأكد له موافقته على تصحيح الجواز

وعند ذلك قال لي الآن خذ جوازك وأنت حر في طنجة وتغادرها متى تشاء، وأخذت الجواز وودعته شاكرًا ومسرورًا، وذهبت مع أخي المغربي الأستاذ "خليفة" نتجول في أنحاء المدينة وصعدنا إلى القصبة، في انتظار صلاة الظهر لنلتقي في المسجد مع السيد "علال الفاسي" الذي سر بهذه النتيجة، وأصر على أن أتغدى معه في منزله. في اليوم الأول من إقامتي بطنجة بعد أن تناولت طعام الغداء مع "علال الفاسي" وبعض أصدقائه رافقنا علال في جولة بالقصبة، وصعدنا إلى جبل موصي الذي يشرف على المدينة وعلى المحيط الأطلسي، وذهبنا معه للمسجد لصلاة المغرب والاستماع إلى درس آخر من دروسه.

في اليوم التالي كنت أتجول في المدينة ومعي أحد رفقائي من المغاربة الذين عينهم "علال الفاسي" لهذا الغرض، وأثناء مرورنا على أحد محلات بيع الكتب والأدوات المكتبية وإذ بنا نرى أمامنا الأستاذ عبد الخالق الطريسي قاعدًا على مقعد أمام هذا المحل، وفوجئ برؤتي، وأقبل علي يعانقين ويتساءل مندهشًا: "أنت هنا، أنا والله لا أصدق عيني، من أين جئت وكيف، ولماذا، وماذا حصل؟"

ولم تكن دهشتني لهذه المفاجأة أقل من دهشته لأن آخر لقاء بيننا في القاهرة كان في عام 1945م، وهكذا وقفنا نتحدث بعض الشيء في الطريق فقال لي متى تذهب إلى تطوان، قلت له أنا بصعوبة دخلت طنجة، وتريدني أن أذهب إلى تطوان، قال نعم لابد أن تذهب إلى تطوان، وقلت له هذا هو ما قسم الله لي: فإني استطعت أن أدخل رسميًّا إلى طنجة بأسى وتعب، وحصلت على جوازي بعد صعوبات كثيرة

وقد ذكرت له ملخصها، فقال: ولكن لابد من زيارة المنطقة الخليفية (بشمال المغرب) الخاضع للسيطرة الأسبانية، وقلت له وكيف أستطع ذلك، قال أنا مستعد لأن أضعك في الأتوبيس الذاهب إلى تطوان، وتعود منها ولا يتعرض لك أحد ونحن عندنا وسائل كثيرة لذلك، قلت لابد أولاً أن أحصل على تأشيرة للعودة لأسبانيا، قال إذا حصلت على تأشيرة لكي تعود إلى أسبانيا فيمكنك أن تعود عن طريق "سبتة" بدلاً عن طريق طنجة قلت له هذا مستحيل

فكيف أدخل منطقة المغرب الشمالي بدون تصريح، ومن يعطيني هذا التصريح، إنهم لم يصرحوا لي بدخول "طنجة" إلا بعد صعوبات كثيرة ومشقة، قال لي لابد أن تحاول، وعندما تقرر الذهاب إلى هناك سأعمل لك كل الترتيبات، ويمكنني إعطاؤك عناوين أصدقائنا، وهناك تلقاهم، وفكر جيدًا في الموضوع

وأنا مستعد لكي أرتب لك الأمر حتى إذا كنت تريد الدخول خلسة فهذا أمر سهل!! فتركته بعد أن عرف مكاني ووعد بزيارتي، ومشيت حتى أتممنا جولتنا في البلد، وأفكر في هذا الموضوع دون أن أجد له حلاً؛ لأن دعوة عبد الخالق الطريس أن أذهب خلسه وبدون تصريح، كنت أتردد بشأنها خشية مواجهة مشاكل جديدة، ولكن إلحاحه كان له أثره.

في يوم الاثنين كان أول ما فكرت فيه هو الذهاب لقنصلية أسبانيا لأطمئن على تأشيرة العودة إلى أسبانيا، وأول ما يجب عمله هو أن أطمئن إلى الحصول عليها لكي أعود منها بالقطار إلى فرنسا، لأن تأشيرتي التي حصلت عليها من باريس قد انتهى معفولها بخروجي من مدينة الجزيرة الخضراء، وذهبت فعلاً إلى القنصلية الأسبانية لأطمئن على هذه التأشيرة وطلبت منهم إعطائي تأشيرة ترانزيت فقط للمرور من أسبانيا في طريقي إلى فرنسا

وهذا كان سهلاً طالما أن لي إقامة في فرنسا، وطلبوا مني الحضور لتسلمها في اليوم التالي وقالوا إن هذا التأشيرة لا تعطي حق البقاء مدة طويلة في أسبانيا، فقلت نعم، وأعطيتهم الجواز وتعمدت أن أذهب في اليوم التالي في الساعة الواحدة، وقد أحضر الموظف المختص الجواز وختمه، وقلت له إنني كنت أريد السفر اليوم، ولكن المركب الآن قد فات ميعادها وأريد أن أذهب غدًا

وقالوا لي إن هناك سفينة ستذهب غدًا من سبتة فهل يمكن أن أذهب بالسفينة من سبته بدلاً من طنجة، قال نعم، قلت له إذن أعطني الإذن بذلك، فأضاف إلى التأشيرة "عن طريق سبتة" قلت له أنا أذهب اليوم إلى سبتة وغدًا أركب المركب قال نعم، وأخذت الجواز وفهمت منه أن مدة الترانزيت سبعة أيام من يوم دخولي إلى المنطقة الشمالية إلى أن أغادر أسبانيا إلى فرنسا

والمهم أنني حصلت على الإذن بدخول المنطقة الخليفية في شمال المغرب التي تسيطر عليها أسبانيا، ولكن بطريق غير مباشر، وقد سعد بذلك الأستاذ عبد الخالق الطريس أكثر مني. ونمت سعيدًا لأول مرة في غرفتي بالفندق، وفي الصباح خرجت مبكرًا منشرحج الصدر متفائلاً، وقد نسيت كل ما لقيته وما شاهدته من مظاهر الاحتلال والسيطرة الأجنبية.

وقفت على شاطئ البحر أرقب أمواجه تتسابق إلى الشاطئ في عزم وإصرار وتتابع لا نهاية له، وقلت في نفسي إن أجيال المجاهدين الصامدين العاملين لتحرير أوطاننا سوف تتوالى ولن تتوقف عن مسيرتها، وكلما انتهى جيل سوف يليه جيل آخر، إنه هذه الأمة باقية طالما بقي هذا البحر وهذه الأرض، وسوف تحيا وتجاهد دائمًا، ولن تتوقف أجيالها عن الجهاد ثم سألت نفسي هل هذه مجرد أماني وآمال؟ أم هو يقين المؤمن الصابر الصادق الذي يرى مستقبل أمته كما يريده ويعمل له؟

تطوان والمغرب الشمالي

سر صديقنا عبد الخالق الطريس، عندما أخبرته بأنني حصلت على التأشيرة التي تمكنني من أن أذهب إلى "سبتة" عن طريق "تطوان"، وأنني سأذهب غدًا في الصباح الباكر دون حاجة للدخول خلسة، وأعطاني رسائل لبعض إخوانه، وعناوين بعضهم وبعض الرسائل الشفوية، وودعت إخوان في طنجة، وفي الصباح ركبت سيارة أتوبيس عادية التي تسير من طنجة إلى تطوان.

وعلى حدود المنطقة الأسبانية اطلعوا على جوازي، وسمحوا لي بالدخول دون أي سؤال أو اعتراض، ووصلت إلى تطوان ونزلت في أحد الفنادق وذهبت بنفسي إلى أحد العناوين التي أعطاها لي عبد الخالق الطريس، وكان عنوان مطبعة ومكتبة يديرها أحد المغاربة الذين تعلموا في الأزهر، وهناك التقيت به وتعرفت إليه، وقلت له عن الرسائل التي أحملها من طنجة، فسر سرورًا عظيمًا، وذهب معي إلى بعض إخوانه ودعوني إلى أن ألتقي بهم في بيت أحدهم، وسهرنا سهرة كبيرة ضمت جميع المثقفين والأعيان من أهالي "تطوان".

و"تطوان" بلدة صغيرة تشبه دمياط في تقاليدها وفي التواصل والتواد بين أعيانها ومثقفيها، فهم يكونون مجموعة متجانسة، ويميلون إلى الثقافة العربية أكثر من غيرهم نظرًا لأن كثيرًا منهم يرسلون أولادهم إلى مصر، بل إلى سوريا وفلسطين للدارسة هناك وكلهم يعودن إلى بلادهم ويحبون المشرق ومصر خاصة، وكثير من سكان طنجة يقولون إنهم من أصل أندلسي

وكان آباؤهم وأجدادهم من المسلمين الذين فروا من الأندلس وهاجروا إلى المغرب، ومنهم "الطريس" نفسه، الذي علمت أنه يوجد في أسبانيا الآن من يحملون هذا الاسم من الكاثوليك، وكانت جلسة طيبة، وتبادلنا فيها الأحاديث عن أحوال العالم العربي وقضايا شمال أفريقيا وفرنسا وأسبانيا، ومستقبل الحركات الوطنية وتحدثنا عن حزب الإصلاح الذي يرأسه عبد الخالق الطريس وحزب الاستقلال الذي يرأسه "علال الفاسي" والكفاح الوطني في المغرب ومستقبله وما إلى ذلك من الأحاديث

وبالطبع أثيرت قضية الإخوان المسلمين وبعضهم سمع بما تلقاه الآن في مصر من اضطهاد واغتيال الشهيد حسن البنا، وقد تأثروا تأثرًا بالغًا بهذا الحادث، ومعرفتهم بالإخوان من خلال الرسائل والاتصالات مع أقاربهم الذين يذهبون إلى مصر للدراسة أو للحج أو كلاجئين سياسيين...

والحقيقة أن عبد الرحمن عزام استطاع أن يستفيد من التقارب بين البلاد العربية وأسبانيا بناسبة المقاطعة المفروضة على نظام فرانكو، فاقترح على الحكومة الأسبانية أن ترسل على نفقتها بعثة من الطلاب من المنطقة الشمالية للدراسة في مصر في مختلف المعاهد العليا وخاصة الأزهر، وفي الكليات الجامعية، وهؤلاء يعودون إلى بلادهم في العطلة، ويحكون لهم أخبار المشرق، وأخبار مكتب المغرب العربي

وكنت قد التقيت بكثير منهم في مصر عندما قضيت علطتي هناك عام 1947م، كما التقيت "بعلال" و"الطريس" ، وأذكر أن أحدهم ولا أذكر اسمه الآن، كان من الذين استشهدوا في حادث الطائرة الذي استشهد فيه الزعيم التونسي الدكتور "الحبيب تامر"، ونقد ألح التطوانيون على أن أقضي معهم يومين آخرين ولذلك غادرت تطوان في يوم الجمعة التالي متجهًا إلى "سبتة" ، ومن سبتة أخذت السفينة إلى الجزيرة الخضراء

وطبعًا سبته هي مدينة مغربية ما زال يحتلها الأسبان حتى الآن بحجة أنهم قد احتلوها قبل احتلالهم للمنطقة الشمالية في المغرب، وأصروا على أن يبقوا فيها بعد خروجهم من المنطقة الشمالية من المغرب بل إنهم يعتبرونها جزءًا من إقليمهم؛ ولذلك بقيت مشكلة كبيرة بين المغرب وأسبانيا بشأن هذا الميناء وميناء آخر هو "ميليلية" وهاتان المدينتان تصر أسبانيا على البقاء فيهما بحجة أنهما جزء من أراضيها

واستطاعوا أن ينقلوا إليهما أعدادًا كبيرة من الأسبان، واستقروا فيهما، ويزاحمون العرب، ويعملون كل الوسائل لإخراجهم منهما، حتى أصبح الأسبان هم الأغلبية كما فعلوا في أمريكا الجنوبية حيث احتلوها كلها، وملئوها بالأسبان الذين كونوا الدول الموجودة الآن في أمريكا الوسطى، وأمريكا الجنوبية، والتي تسمى لهذا السبب أمريكا اللاتينية، وكلها تتكلم اللغة الأسبانية ما عدا البرازيل التي تتكلم اللغة البرتغالية، و"سبتة" ميناء صغير يزدحم بالسكان

ويشبه إلى حد كبير جبل طارق كل ما هنالك أن جبل طارق مرتفعة مشرفة على البحر، وأما هذه فهي أرض سهلة مبسوطة ولكنها مثلها تضيق بالسكان الذين يعملون بالتجارة والنقل، وتعتبر سوقًا حرة يذهب إليها المغاربة ويدخلونها ليشتروا مستلزماتهم كما يفعلون بالنسبة لطنجة كذلك، وكما يفعل الأسبان في جبل طارق.

وأنا على ظهر السفينة التي أقلتني من سبتة إلى الجزيرة الخضراء، ثم القطار من الجزيرة الخضراء إلى مدريد، وهي مسافة طويلة، وكنت أسترجع الأحاديث التي سمعتها من "علال الفاسي" وزملائه المغاربة في طنجة، ومن الأستاذ عبد الخالق الطريس، ومن إخواننا التطوانيين الذين التقيت بهم مرارًا في اليومين اللذين قضيتهما في تطوان

كانت الأحاديث كلها تدور حول آمالهم في الاستقلال وتصميمهم على متابعة الكفاح، وشكواهم من القمع الفرنسي والأسباني الذي كان يزداد يومًا بعد يوم في غفلة من العالم كله، وكذلك كانوا يشيرون إلى آمالهم في أن تساعدهم الدول العربية المستقلة والجامعة العربية، كما ساعدت سوريا ولبنان وكما تساعد الآن ليبيا للحصول على الاستقلال الوطني، وأسلوب الكفاح الوطني كان وما زال في نظرهم هم الأسلوب التقليدي في المظاهرات والمنشورات والخطب والصحف، عندما يكون ذلك ممكنًا، والاجتماعات والدعوة بكل الوسائل بين جميع طبقات الشعب للنهوض في وجه الاحتلال الأجنبي...

لم يكن علال الفاسي قد عاد بعد إلى بلاده، رغم أنه بقي في الاعتقال تسع سنوات وأفرج عنه، ولكن لم يسمح له بالعودة إلى المغرب، وقد جاء إلى طنجة ليرى أسرته التي ابتعد عنها هذه السنوات الطويلة، وكانت علاقاته مع إخوانه في المغرب تتم عن طريق المراسلات والرسل الذين كانوا يتوافدون على طنجة بوسيلة أو بأخرى

وأذكر أنني عندما عدت إلى المغرب بعد استقلاله وكنت أذهب إلى طنجة، وكانت ما زالت منطقة دولية منفصلة عن المغرب، كان بعض المغاربة من أعضاء الحزب، والذين ساهموا في الحركة الوطنية الذين يرافقونني في السيارة يشيرون إلى الطرق التي يسلكونها للذهاب خلسة إلى المنطقة الدولية في طنجة لبعض الأهداف المتعلقة بالحركة الوطنية

وخصوصًا الاتصال بعلال الفاسي عندما كان هناك، أو تسريب بعض الرسائل إلى العالم الخارجي أو مقابلة بعض الناس الذين لا يستطيعون دخول المغرب، أما عبد الخالق الطريس، فكان حزبه في المنطقة الشمالية، وكانت تسمى بالمنطقة "الخليفية" ؛ لأن الذي كان يحكمها نظريًّا هو أحد أفراد الأسرة المالكة المغربية بصفته خليفة أو نائبًا لسلطان المغرب، وكان الخليفة رجلاً طيبًا، ويثقون فيه، ولكنه كان محرومًا من كل سلطة فعلية، لا يملك من الأمر شيئًا

ويملي عليه الأسبان كل ما يريدون كما يفعل الفرنسيون مع السلطان في بقية مناطق المغرب التي يحتلونها، وكان الاضطهاد الأسباني أكثر شراسة من الاضطهاد الفرنسي، وخصوصًا بعد ثورة الأمير عبد الكريم إلا أنه في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها ابتدأت قبضة الأسبان تخف نظرًا لأن فرانكو كان في حرب أهلية ضد حكومة أسبانيا، وقد جعل المنطقة الشمالية في المغرب هي قاعدة جيشه

وكان جيشه فيه نسبة كبيرة من المغارب الذين جندهم بالسلطة وبالقانون، وبعد الحرب عندما بدأت الدول الغربية المنتصرة تتحرش به وتقاطعه وتدعو لمحاصرته، ابتدأ يخفف قبضته على المغرب الشمالي ليكون منفذًا له إلى قلوب العرب في المشرق الذين قامت جامعتهم العربية بالانفتاح عليه، ورفضت تنفيذ المقاطعة، وذلك مقابل أن يخفف أو يعدل من سياسته إزاء المنطقة الشمالية في المغرب التي زرتها

وكان يعد بالخروج منها إذا خرجت فرنسا من المغرب كله، وطبعًا كان واثقًا أنها ستبقى، وأنه لذلك من حق أسبانيا أن تبقى في شمال المغرب، طالما بقيت فرنسا في المغرب، وفي هذه المنطقة كان الحزب الوطني يرأسه عبد الخالق الطريس وكان يسمى حزب الإصلاح، إذ إنه كان لا يطالب بالاستقلال؛ لأن الاستقلال معناه الانفصال عن المغرب الذي يحتله الفرنسيون وهم لا يريدون الانفصال عنه

وكل ما كان يريده الوطنيون هو استقلال المغرب كله موحدًا لتكون المنطقة الشمالية جزءًا فيه، فهو كان يدعم حزب الاستقلال في المغرب ويتعاون معه، وقد بقي هذا التعاون إلى أقصى حد ممكن حتى بعد الاستقلال؛ لذلك كان حديثه دائمًا عن التعاون مع حزب الاستقلال، ومع الحركات الوطنية وكان يترك لحزب الاستقلال كل ما يتعلق بالاتصال العالم العربي، والعالم الخارجي

وإن وكان له ممثلون في القاهرة من الطلاب الذين كانوا يدرسون هناك من أبناء هذه المنطقة، وكان هناك حزب آخر في المنطقة الشمالية أنشأه الشيخ "المكي الناصري" وكان اسمه حزب الوحدة، ولذلك لما استقل المغرب وتوحد أعلن تصفية حزبه؛ لأن غرضه الذي أنشئ من أجله قد تحقق...

والذي لا أنساه أيضًا هو الأتوبيس الذي نقلني من طنجة إلى تطوان، وكان سيارة من سيارات الأتوبيس العادية التي تعمل بين المدينتي، وكانت تشبه إلى حد كبير الأتوبيسات التي تنتقل بين المدن والأرياف في مصر من حيث الزحام، ومن حيث عدم توافر أسباب النظافة، وما إلى ذلك من العيوب التي تشوه صورة المجتمع العربي في كل مكان سواء في مصر أو في غيرها

حيث أن الجمهور يغلب عليه الجهل والفوضى وعدم النظام، ولم أشاهد أي أثر للحركة الوطنية بالمنطقة التي زرتها في المغرب، سوى هذه اللقاءات بين النخبة المثقفة التي اجتمعت بهم، وفي الحقيقة سواء في فرنسا أو في المغرب، بل وفي تونس كانت الدائرة التي اتصلت بها دائمًا هي دائرة المثقفين والنخبة الذين يعملون في إطار الحركة الوطينة، فيما عد الاجتماعات الجماهيرية التي كنا نعقدها في باريس، ويحضرها العمال الجزائريون للسماع والهتاف وما إليه، وينصرفون بعد الاجتماع

وكانت كل صلتنا بهم عبارة عن الخطب والإجابة عن الأسئلة، ولم تتح لي فرصة أن أعيش معهم، حتى في تونس إذ إن الرحلة التي قمت بها بقيت في دائرة مجموع السياح التي كنت منضمًا إليهما وإذا كنت خرجت عن طاق هذه الرحلة خلسة، لكي أتصل ببعض التونسيين، فإنهم كانوا من الطلبة أو من النخبة المثقفة أو المسئولين عن الحزب الوطني أو من الهيئات الإسلامية وكان ذلك ضروريًّا حتى لا أثير لنفسي مشاكل أكثر من اللازم.

تعتبر تجربة الركوب في السيارة من طنجة إلى تطوان تجربة فريدة في ذاتها، لم تتح لي حتى في فرنسا نفسها، إذ أنني لم تتح لي فرصة ركوب سيارات الأرياف؛ لأن تنقلاتنا دائمًا كانت في القطار؛ لأن المسافات طويلة بين المدن الكبرى، فاتصالي بالجمهور المغربي في هذا الأتوبيس قد أطلعني على المدى الطويل الذي يفصل بيننا وبين الحياة الحرة الكريمة التي نريدها لشعوبنا، والتي نريد أن نبنيها بعد الاستقلال

لذلك فإن فكرتي دائمًا كانت أن مفتاح كل إصلاح يجب أن يبدأ بالتحرر من السيطرة الأجنبية والحصول على الاستقلال وكنت أعتقد أنه بالاستقلال سنصبح نحن المسئولين ونتحمل مسئولية العمل للإصلاح والنهوض بهذه الجماهير، وليس هذا هو الوقت لكي أتكلم عن خيبة أملنا فيما تحقق لشعوبنا في ظل الاستقلال، فقد أشرت مرارًا إلى ذلك...

وفي عودتي إلى أسبانيا توقفت في مدريد يومًا واحدًا لزيارة أخينا الدكتور حافظ إبراهيم ولأقص عليه مشاهداتي ومغامراتي في طنجة والمغرب الشمالي، بالرغم من أنه كان قد عارض بشدة ذهابي إلى هناك خوفًا علي من نتائج هذه المغامرة، إلا أنه كان سعيدًا جدًا في أنني استطعت أن أعود بعد هذه الجولة التي وفقني الله فيها لكي أرى أرض المغرب الأقصى ولو في الجزء الشمالي منه؛ حتى لا أعود لبلادي بعد أن قضيت في باريس أربع سنوات دون أن أرى وطننا الإسلامي في بلاد شمال أفريقيا المكافحة المناضلة ولكني صرحت له أنني سأعود إلى مصر، وفي نفسي ألم كبير لأنني لم أستطع رؤية الجزائر، أو زيارتها.

من مدريد عدت إلى باريس، وأنا عازم على أن أتفرغ تمامًا لدراستي، وأن أعود لمصر بالدكتوراه، مهما تكن الظروف، ومهما تكن النتائج، وقلت لنفسي لن تكون المغامرة في مصر أكثر من المغامرات التي قمت بها في تونس وفي المغرب الشمالي، لكني لما وصلت إلى باريس بكل أسف كان تعب الرحلة قد أنهك صحتي

وفوجئت في إحدى الليالي بمغص كلوي شديد جدًا، بعد أن كنت أظن أنني تحررت منه نهائيًّا بعد العملية الجراحية التي استخرجت بها الحصوة، لكن المغص في هذه المرة كان في الجانب الأيمن أما في المرة الأولى فكان في الجانب الأيسر الذي أجريت به العملية لاستخرج الحصوة واضطررت أن أذهب إلى الطبيب الذي عالجني المرة الأولى

وبعد عمل الأشعة اكتشفت أن هناك حصوة أخرى في الجانب الأيمن وقال إنها على كل حال أصغر من الحصوة السابقة، ويمكن معالجتها بالأدوية حتى تخرج إن شاء الله، ووصف لي الأدوية اللازمة وقال إذا أردت أن تعجل بالشفاء فمن الأفضل أن تذهب إلى إحدى المدن للاستشفاء لتستجم هناك، وتتناول المياه المياه المعدنية المناسبة، وقال لي أن اختار بين مياه "أفيان" ومياه "فيتيل" ، وقد اخترت "أفيان" لما وصف أنها قريبة من سويسرا وأنها تطل على بحيرة جنيف

وأنها أقرب إلى البحر الأبيض المتوسط وجوها أقرب إلى جو بلادنا، وقررت أن أذهب إلى هناك لتجربة المياه المعدنية لاستخراج هذه الحصوة، وقضيت في "أفيان" مدة طويلة أنتظر أخبارًا من مصر عن تغيير الأحوال أو تحسنها، ولم تأت الأخبار بما يسر، فآثرت بعد نهاية الصيف العودة إلى باريس وذهبت للطبيب فقرر إجراء عملية ثانية في الجانب الأيمن، وأثناء ذلك جاءت أنباء من مصر بتغيير الحكومة فاتصلت بالأستاذ "هوجنيه"

واتفقت معه على أن يحدد لي موعدًا للمناقشة ومن حسن الظن أنه في هذه الأثناء تأكدت الأنباء عن أن الحكومة الجديدة ستكون حكومة الوفد وأنها وعدت بالإفراج عن المعتقلين، وتغيير السياسة تجاه الإخوان المسلمين لذلك فإنني بعد أن تمت مناقشة رسالتي في (شهر ديسمبر 1949م) قررت أن أعود فورًا إلى مصر وقد أتممت مهمتي التي اعتبرتها مهمة علمية من جميع النواحي؛ لأن المعلم في نظري – كما هو عند الإخوان المسلمين – ليس في الكتب فقط، وإنما هو في ميادين العمل والكفاح.

ولابد أن أذكر شيئًا عن أستاذي البروفسير "هوجنيه" الذي كان أكبر أساتذة القانون الجنائي في باريس في ذلك الوقت، وكانت سنه فوق السبعين، وقد تعلمت منه كثيرًا فهو يتميز بالانقطاع للعلم والبحث، لا يعرف غير العلم والكتب، وأذكر أنني زرته في منزله فوجدته يسكن في شقة صغيرة تكاد تكون عادية في إحدى العمارات العالية التي تعتبر مساكن شعبية أو اقتصادية على مشارف الطريق الدائري لمدينة باريس

وكان يسكن وحده وقال لي وهو في غاية التأثر إن زوجته قد ماتت منذ سنوات، وكان له ابن طيار، وتوفي في حادث طائرة، وقال إن هذا الابن كان قد مر في مصر في إحدى رحلاته، وأرسل له بطاقة رأى فيها جمال مصر ومزاياها، ومنذ ذلك الوقت يحب مصر والمصريين وأخرج البطاقة وأراني إيها بخط ابنه المتوفي، وأضاف إن له طلبة من المصريين الأوفياء وقد ذكر لي اسم أحد طلابه من أبناء الصعيد الذي كان يدرس في باريس في عام 1925م

وقال إنه يشتغل في المحاماة ويكتب إليه من حين لآخر، وفي إحدى المرات قال لي إن هذا المحامي المصري يصر على أن يرسل له هدية من السكر والأشياء التموينية التي لا توجد في فرنسا بعدما علم عن الأزمة ا لتي نقاسيها بسبب الحرب، وطلب منه أن يعطيه عنوان أحد المصريين في فرنسا ليرسل الأشياء باسمه؛ لأن هذا يسهل له شحن مثل هذه الأشياء، واستأذنني في أن يعطي له عنواني، وفعلاً وصل الطرد وسلمته له...

وقد فوجئت عندما سألته عن رقم تليفونه لأتصل به، فأجاب إنه لا يستعمل التليفون، ولم يكن لديه تليفون في يوم من الأيام، ولا يريده في منزله؛ لأنه يعطله عن العمل كما قال لي إنه اختار هذا المسكن؛ لأنه قريب من محطة "المترو" ، وأنه يركب المترو دائمًا إلى الكلية، وإنه سعيد لأن الخط مباشر من المنزل للكلية، ولا يحتاج إلى تغيير القطار، وصحبته يومًا من الكلية إلى محطة المترو

وهناك وقف وقال لي إنني أحب هذه المحطة لأنه يعقد فيها كل أسبوع سوق متنقل للخضر والفاكهة والمواد الغذائية وأنه تعود طول مدة الحرب أن يشتري ما يلزم له منه، ويحمله إلى منزله وأنه لم يملك سيارة طول حياته ولا يريد ذلك؛ لأن المترو تغنيه عن كل ذلك، وبدأت أذكر حالة المعيدين وشباب المدرسين عندنا في مصر، وفي البلاد العربية الذي لا يستريحون بعد تعيينهم إلا إذا كان لديهم تليفون وسيارة!!

هذا هو أستاذي العظيم "هوجنيه" ، وقد كان سعيدًا إذ كتب إلى بعد عودتي إلى القاهرة يهنئني؛ لأن رسالتي قد حازت جائزة أحسن رسائل لذلك العام من جامعة باريس بناء على تزكيته ولما قررت كلية الحقوق بالقاهرة، طبع رسالتي على نفقتها بعثت إليه أطلب منه أن يكتب لي مقدمة لها نشرت في النص الفرنسي لرسالتي، ويكفي قراءتها لمعرفة عمق العلاقة بيني وبينه، أما ترجمة رسالتي للغة العربية ونشرها، فلم يتم للآن ولذلك أسباب عديدة ليست كلها راجعة إلى تقصيري.

شكوى المغرب أمام هيئة الأمم (ديسمبر 1951م)

بناءً على طلب "عبد الرحمن عزام" والقسم القانوني بالأمانة العامة للجامعة العربية قمت بإعداد مذكرة مطولة عن قضية المغرب، وعلاقة المغرب كدولة بفرنسا، والمعاهدات التي تربط المغرب بفرنسا، التي تؤكد تمتعها بالشخصية الدولية طبقًا للقوانين الدولية، ومحاولات عزل "الملك محمد الخامس" ، وقدمتها إلى الأمانة العامة، وطلب مني "عبد الرحمن عزام" أن أذهب مع الوفد الذي سيتوجه إلى منظمة الأمم المتحدة في اجتماع الجمعية العمومية في باريس

ووافقت الجامعة على سفري، وسافرت إلى باريس مع أعضاء الوفد الآخرين، ونزلنا في أحد الفنادق قرب الشانزليزيه، وكان قريبًا أيضًا من قصر شايو الذي تعقد فيه الجمعية العمومية، وسبق أن عقدت فيه اجتماعها في عام 1948م، وهي الدورة التي حضرتها مع الوفد اليمني برئاسة "سيف الإسلام عبد الله" نجل الإمام يحيى في باريس.

كانت هناك لجنة تمثل حزب الاستقلال المغربي في فرنسا، وكان يرأسها عبد الرحيم بوعبيد وكان معه عبد الله إبراهيم وطلبة آخرون، وكنت على اتصال دائم بهم وقدموا لي أحد طلاب الحقوق في فرنسا في ذلك الوقت، وهو الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي ليكون حلقة اتصال بيني وبينهم، وقد بدءوا يزودوننا بالمواد التي تفيد في شرح قضية المغرب بما في ذلك نصوص بعض المعاهدات والكتب والوثائق الرسمية

وكان من أهم ما قدموه لنا نص الخطاب الذي أرسله أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية بعد استقلالها – وهو جورج واشنطن – موجهًا إلى سلطان المغرب يشكره فيه على تفضله باعترافه باستقلال الولايات المتحدة وانفصالها عن بريطانيا، وتكوين دولة مستقلة، وكانت المغرب هي ثاني دولة في العالم اعترفت بهذه الاستقلال بعد فرنسا، وهذا كان فضلاً كبيرًا من المغرب وإشارة ودية إلى بداية عهد من العلاقات بين الدولتين اللتين تعتبران في حكم الجارتين إذ لا يفصل بينهما إلا المحيط الأطلسي وكان هذا الخطاب مكتوبًا باللغة الإنجليزية

ولكنه صيغ بعبارات فيها كثير من الورد والتلطف والمجاملة التي يبديها رئيس دولة ناشئة مكونة من عدة مستعمرات بدأت استقلالها، وتسعى لاعتراف دول العالم بها، وتشكر دولة عظيمة عريقة في الاستقلال بل هي إمبراطورية المغرب في ذلك الوقت، لذلك كان يرجوه فيها أن يتوسط لدى أصدقائه الذين يحكمون في شواطئ الجزائر وليبيا

لكي يمنعوا القراصنة من مهاجمة "السفن الأمريكية" التي تجتاز البحر المتوسط والمحيط الأطلسي وقد قدمنا هذا الخطاب للسيد أحمد الشقيري الذي كان الأمين المساعد للجامعة، والذي تولى إلقاء خطاب حماسي قوي في الجمعية العامة باسم الجامعة العربية دفاعًا عن ملك المغرب ودولة المغرب والحركة الوطنية المغربية، وكان خطابًا مؤثرًا تحمس له كثير من الحاضرين؛

لأنه وجه كلامه إلى الأمريكان الذين كانوا يحضرون في الجمعية العامة ويقول لهم لماذا تنسون صداقتكم لملك المغرب الآن من أجل مساعدة فرنسا، التي غدرت بهم وبشعبه وتسعى لمقاومة التيارة الوطني الذي دفعكم أنتم من قبل أن تثوروا ضد الإنجليز الذين كانوا يستعمرون بلادكم، وتحاربونهم للحصول على استقلالكم، ولماذا طلبتم الاستقلال لأنفسكم وتساعدون إحدى الدول الاستعمارية الآن لحرمات الدول الأخرى من استقلالها

وهذه فرصة لكم لتصححوا موقفكم وهكذا توالت الخطابات المؤيدة لقضية المغرب ولكنها كانت طبعًا محصورة في دائرة الدول العربية، وبعض الدول الأسيوية ودول أمريكا اللاتينية، وكان الفرنسيون يقومون بحملة شديدة جدًا في الصحافة ضد الجامعة العربية وضد الحركات الوطنية لشمال أفريقيا وضد مصر والدول العربية التي رفعت الشكوى، وقالت إنها تريد إهانة فرنسا في بلادها وإذلالها أمام المجتمع الدولي وإن ذلك نتيجة نجاحهم في سوريا ولبنان، ويريدون تكراره في المغرب وهذا أمر خطير

وكانوا يوجهون التهديدات والتحذيرات للدول الغربية وخصوصًا بريطانيا في أنها سوف تشرب من نفس الكأس إذا استمرت في تشجيع الحركات الوطنية في شمال أفريقيا أو الدول العربية طبعًا، وكان اليهود يقومون بدور التنسيق بين الدول الاستعمارية وكان لهم تأثير في شراء الأصوات المؤيدة لفرنسا، وانتهت المناقشة برفض الشكوى؛ لأن الدول العربية لم تكن تحظى بالأغلبية ولم يؤيد الشكوى إلا سبعة عشر عضوًا فقط منهم ستة من الدول العربية

والدول الشيوعية أيضًا كانت مؤيدة للشكوى، ولكن المهم أنه في هذه الفترة كانت هناك علاقات دائمة بيننا وبين ممثلي الحركات الوطنية الأفريقية، والوطنيين من أبناء شمال أفريقيا الموجودين في باريس، ومنذ أول لحظة أرس إلي "مصالي حاج" أحد النواب الجزائريين بطلب إقامة حفل للاجتماع مع وفود الدول العربية في الضواحي خارج باريس؛

لأنه ممنوع من دخولها وقمت بإقناع "عزام" وبعض رؤساء الوفود العربية الذين وافقوا على حضور حفل شاي يقيمه لهم في أحد الفنادق في الضاحية التي فرضت عليه الإقامة الجبرية فيها خارج باريس الكبرى وتبعد عنها بمائة كيلو متر وفعلاً ذهب عدد كبير من أعضاء الوفود، ولكن رؤساء الوفود العربية لم يذهبوا كلهم وبعضهم أبدى أعذارًا متعددة خوفًا على علاقات بلادهم مع فرنسا

وفي الحقيقة كان أول الحاضرين رئيس وفد باكستان وهو "ظفر الإسلام خان" الذي ألقى خطابًا عن الوحدة الإسلامية والإسلام والتضامن الإسلامي والأمة الإسلامية إلى جانب الخطابات التي ألقاها "مصالي حاج" و"عبد الرحمن عزام" ، وغيرهما من رؤساء وأعضاء الوفود العربية وطبعًا كان من بينهم الدكتور محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر في ذلك الوقت، باعتباره رئيس وفد مصر الذي رفع الشكوى ضد فرنسا من أجل ملك المغرب متحديًا بذلك فرنسا

والتي كانت نتيجتها أنها تآمرت مع بريطانيا وبعض عملاء الاستعمار في مصر لإحداث حريق القاهرة الذي اتخذه "الملك فاروق" مبررًا لطرد الحكومة الوفدية في الوقت الذي كنا فيه في باريس بجوار الدكتور "محمد صلاح الدين" واضطر "صلاح الدين" أن يأخذ حقائبه ويعود إلى مصر بعد أن زالت عنه صفة الوزارة

وكانت هذه فرصة لكثير من الشامتين من طائفة "العقلاء" الذين كانوا يعتبرون أن سياسته المعادية لبريطانيا سواء في ليبيا أو في المغرب أو في القضية المصرية نفسها، كانت تهورًا يستحق أن يلقى جزاءه الذي حصل فعلاً، وقد رأس الوفد في ذلك الوقت بعده الدكتور "محمود فوزي" الذي اعتقد أنه عين وزيرًا للخارجية في الوزارة التي جاءت بعد حكومة الوفد.

إلى جانب هذا اللقاء مع "مصالي حاج" حدثت لقاءات كثيرة مع مندوبي الاستقلال بالمغرب، ونواب الحزب الجزائري في باريس، أما التونسيون فكانوا بعيدين عنا مشغولين بالتفاوض مع الفرنسيين؛ لأنهم كانوا يطمعون في أن يستثمروا مسلك الاعتدال ليحققوا بعض المكاسب من فرنسا.

إن منطق الاعتدال كان دائمًا في صالح الذين يبدون استعدادهم لكي يتعاونوا مع القوى الأجنبية ضد الأحزاب الوطنية، وهو الآن حجة جميع الوطنيين القطريين سواء رؤساء الأحزاب أو ممثلي بعض الحكومات الذين يضطهدون التيار الإسلامي – الذي يدعو إلى اعتبار الوطن شاملاً للعالم الإسلامي كله على أساس وحدة الأمة الإسلامية التي تفرضها الشريعة – تجاوبًا مع الضغوط الأجنبية

ويحتجون بأنهم معتدلون وضد "التطرف"، إن شعار الاعتدال يرفعه دائمًا الذين يظنون أنهم يقدمون للقوى الأجنبية ما يرضيها، وعليهم أن يعترفوا بأن المنطق الوطني سوف يجعلهم يقفون في منتصف الطريق إن كانوا صادقين وأن هذا المنطق نفسه يؤدي إلى أن يطردهم الاستعمار وأعوانه الذين هم أكثر اعتدالاً منهم كما كانوا هم أكثر اعتدالاً من الإسلاميين، وهكذا فإن منطق الاعتدال ينتهي بتسليم السلطة للخونة؛ لأنهم أكثر اعتدالاً في نظر القوى الأجنبية.

لقد سمعت أقوال الشامتين من أعضاء الوفود العربية التي كانت تسير وراء مصر في شكواها ضد فرنسا مضطرة ومكرهة أو من باب المجاملة، والآن ينتقدون تطرفها وتهورها في نظرهم وها هم أولاء الآن يتباهون كانوا أبعد نظرًا، وأكثر اعتدالاً من الدكتور "محمد صلاح الدين" وقد سمعت أحد أعضاء الوفد المصري يتكلم مع زملائه عن وزير الخارجية

ويقول إنه كذا وكذا فقال أحدهم تقصد "محمد صلاح الدين" قال إني أتكلم عن الأحياء ولا أتكلم عن الموتى هذا كان سفيرًا لمصر وعضوًا في الوفد المصري الذي كان مكلفًا للدفاع عن "استقلال" المغرب، ووحدة ليبيا وسياسة مصر وحكومتها هذا هو شعوري في أن الوفد وحكومته ووزير خارجيته كان خاطئًا لأنه وقف موقفًا متطرفًا في القضايا الوطنية، وقضايا شمال أفريقيا.

نجح أعوان الاستعمار في مصر في إخراج حكومة الوفد من الحكم، عقابًا لها على موقفها ضد الاستعمار في القضايا المصرية والليبية والمغربية، وحل محلهم "وطنيون" أيضًا ولكنهم أكثر اعتدالاً من الوفد، وتمنيت أن يذكر الوفد أنه عندما رفض عودة "الإخوان" قد استعمل حجة الاعتدال والآن يرى أن الاعتدال هو حجة الملك وأعنوانه الذين طردوهم وحلوا محلهم، ولم يعد الوفد للحكم منذ ذلك التاريخ وحل محله في الحكم الوطني من كان يعتبرهم من الخونة ومن تخلوا عن الوحدة مع السودان لأنهم أكثر اعتدالاً من الوفد، الذي قال زعيمه من قبل تقطع يدي ولا تقطع السودان.

وأخشى ما أخشاه أن يختار بعض الوفديين الدخول في منافسة مع هؤلاء الذين تخلوا عن السودان، وأن يغريهم بطريق المزايدة في الاعتدال والعداء للسودان والقطيعة معه وتسليمه لدعاة "الإفريقية" المعادية للعروبة والإسلام، وأتمنى أن يوضع في صحيفة "الوفد الجديد" شعار تقطع به ألسنة الذين يثيرون الفتنة بين مصر والسودان.

لقد عدت إلى مصر وأنا متشائم؛ لأننا تقريبًا فشلنا في كل الجبهات، قضية مصر انتكست كما رأينا بعد حريق القاهرة، وقضية ليبيا فشلنا فيها بفعل الإنجليز والسنوسي والوطنيين الذين تعاونوا معهم، وقضية الجزائر تسير من سيئ إلى أسوأ، بسبب الخلاف بين "مصالي" واللجنة المركزية وقد شاهدت بعض فصول هذا الخلاف أمامي عندما كنت في باريس

فكان يتردد علي الإخوان الجزائريون ويشكون من هذا التصدع والانشقاق في داخل الحزب، وحاولت إقناع أحد الطرفين بتجاوز هذه المسألة الصغيرة لكني فشلت، وقضية تونس يحتكرها الزعيم "بورقيبه" ، ليقدم لفرنسا ما تطلب مقابل حصوله على حكم داخلي يمكنه من تنفيذ خطط الاستعمار في إعدام المقاومة المسلحة لأنهم "فلاجة" والقضاء على جامعة الزيتونة، وعلمائها؛ لأنهم عقبة في سبيل "الفرانكفونية" التي يتزعمها مع صديقها السنغالي "ليوبولد سنجور".

الدكتور محمد صلاح الدين والدكتور طه حسين

كان ممثلو الحركات الوطنية المغاربة يشكون من الفتور والإعراض الذي يقابلون به عندما كانوا يطرقون أبواب الأحزاب السياسية المصرية وزعمائها والمسئولين والوزراء من كل الاتجاهات، إذ كانوا يدعون أنهم مشغولون بالشئون المصرية دون غيرها ولسان حالهم يقول: إن شاء الله عندما يتم استقلالنا بجلاء الجيوش الإنجليزية سوف يكون لنا شأن معكم، وبعضهم كان أكثر صراحة فيقول: طالما نحن في خصومة مع الإنجليز فليس من الحكمة أن نخسر فرنسا، أو ندخل معها في معركة من أجل شمال أفريقيا.

هناك من صنف ثالث من ذوي الثقافة الفرنسية كانوا يعتبرون "الفرنكفونية" ولغتهم الفرنسية هي رأسمالهم وسر نجاحهم، أما العروبة والإسلام، بل والكفاح الوطني ذاته فإنه قد يأتي في المرتبة الثانية، ومن هؤلاء الدكتور طه حسين الذي يعتبر أنه مدين للثقافة الفرنسية والدعايات الفرنسية بكثير مما وصل إليه من شهرة، هذه الشهرة التي اكتسبها في عالم الأدب والصحافة هي التي رشحته ليصبح وزيرًا للمعارف في حكومة الوفد.

لكن وزير الخارجية في حكومة الوفد عام 1950م وهو الدكتور "محمد صلاح الدين" كان من نوع آخر، فقد تبنى قضية الوطنيين في المغرب وليبيا في ذلك الوقت وقدم للحركات الوطنية في تلك البلاد، بل وفي الجزائر أيضًا، كل دعم وتشجيع، ومن حسن الحظ أنه كان يحظى بتأييد كامل وصادق من زعيم الوفد ورئيس الحكومة إذ ذاك المغفور له مصطفى النحاس باشا.

في ذلك الوقت نشط الوطنيون المغاربة في الدعاية لقضيتهم، والمطالبة برفع قضية المغرب إلى الأمم المتحدة لاعتداءات فرنسا على الملك محمد الخامس وتهديدهم بعزله وتعيين عمل لهم بدلاً منه. وقد استجابت حكومة الوفد لمساعيهم، وأيدها الشعب المصري بجميع أحزابه وطوائفه، وقدم الدكتور "محمد صلاح الدين" شكوى باسم مصر إلى الأمم المتحدة ضد فرنسا لاعتدائها على المغرب.

تركزت الدعاية التي قام بها الوطنيون من أبناء شمال أفريقيا على مقاومة الاستعمار الفرنسي لتعليم اللغة العربية والثقافة الإسلامية في الجزائر والمغرب وغيرها من البلاد الأفريقية حتى ترددت أصوات تطالب بتطبيق مبدأ العاملة بالمثل، وأن تهدد الدول العربية بغلق المدارس والمعاهد الفرنسية في مصر وغيرها من البلاد العربية حتى تضطر فرنسا إلى العدول عن سياسة اضطهاد المدارس العربية ومقاومة اللغة العربية

وخوفًا من نمو هذا الاتجاه المعادي للثقافة الفرنسية أعلن الدكتور طه حسين وزير المعارف في ذلك الوقت، أنه قرر إنشاء معهد مصري في الجزائر، وأنه تفاوض مع الفرنسيين واتفق معهم على إنشاء هذا المعهد المصري مقابل مئات المدارس والمعاهد الفرنسية في مصر، ووافقه الفرنسيون على ذلك لامتصاص السخط الشعبي على سياستهم المعادية للثقافة العربية

وسار فعلاً في تنفيذ المشروع خطوات عملية واختار عميدًا لهذا المعهد المزعوم واحدًا من تلاميذه هو المرحوم الأستاذ الدكتور يحيى الخشاب الأستاذ بكلية الآداب بجامعة القاهرة حينذاك (وزوج تلميذته المفضلة الدكتورة سهير القلماوي). وعندما كان الدكتور يحيى الخشاب يستعد للسفر لتسلم عمله، وبعد حصوله على التأشيرة وتذاكر السفر، فوجئ بأن الدكتور طه حسين ألغى كل ما قرره بجرة قلم لأن الفرنسيين أبدوا رغبتهم في ذلك بعد أن صدر قرار الأمم المتحدة برفض شكوى مصر ضد فرنسا بشأن سياستها الاستعمارية في المغرب.

وقد عرفت من الدكتور يحيى الخشاب نفسه أن السبب المباشر لهذا التغيير المفاجئ، هو أنه زاره في منزله بعض أعضاء الأحزاب الوطنية المشتركة في مكتب المغرب العربي، وأنه استقبلهم في منزله، وكنت أنا الذي اتصلت به وعرفته بهم، واتفقت معه على موعد زيارتهم له، وحضرت تلك الزيارة بمنزله، وكان في العباسية في ذلك الوقت، وغلطة الدكتور الخشاب في نظر أستاذه طه حسين أنه نسي أن فرنسا غاضبة على جميع الوطنيين الأفارقة

وأن من تغضب عليه فرنسا لابد أن يغضب عليه الوزير المصري أستاذه الدكتور طه حسين، وأن يمتد غضبه إلى كل من يستقبلهم في منزله ولو كان من تلاميذه المقربين إليه، وإذا كان المرحوم الدكترو يحيى الخشاب قد انتقل إلى رحمة الله، فإن زوجته الأستاذة الدكتورة سهير القلماوي، ما زالت بيننا، وأنا أطلب منها أن تعلن ما تعرفه عن هذه الواقعة.

لقد تألم الدكتور يحيى الخشاب من هذه اللطمة المفاجئة، ولكنه كظم غيظه؛ لأن للدكتور طه حسين أفضالاً كثيرة عليه هو وزوجته، ومع ذلك فقد أفضى إلي بما يحسه من مرارة؛ لأنني كنت الذي نصحت هؤلاء المغاربة بزيارته والتعرف إليه قبل سفره، وأقنعته بذلك، ولما فوجئت بخبر إلغاء سفره، التقيت به وسألته عن السبب فأفضى إلي بمكنون سره فاعتذرت له بأنني لم أكن أتصور أن مثل هذه الزيارة تؤدي إلى هذه النتيجة وقلت له إن لي تجربة مع الدكتور طه حسين تدل على أنه يضع علاقته مع الفرنسيين فوق كل اعتبار آخر، حتى اعتبارات الوطنية المصرية والثقافة العربية، رغم أن كثيرين ما زالوا يصفونه بأنه عميد الأدب العربي، وذكرت له هذه التجربة التي لابد من الإشارة إليها للتاريخ والحقيقة.

كان ذلك في عام 1946م، وهو أول عام لنا في البعثة في باريس، وفي الصيف جاء إلي اثنان من زملائنا الطلاب المغاربة (أذكر أحدهما الأستاذ محمد زنبير) وقالا إنهما سمعا أن الدكتور طه حسين وصل إلى باريس، وأنه يقيم في فندق لوتسيا، وأنهم يفكرون في تكريمه ودعوته إلى أن يلقي عليهم محاضرة باللغة العربية التي يتشوقون إلى سماعها، فذهبت معهم إلى الفندق، وقابلنا الدكتور العظيم، وعرضنا الأمر عليه فوافق على قبول الدعوة وحدد موعدها ومكانها في "المدينة الجامعية" التي كان كثير من الطلاب العرب يقيمون فيها.

وفي الموعد المحدد حضر الدكتور طه حسين، وحضر عدد من الأساتذة المستشرقين الفرنسيين الذين وجهت لهم الدعوة لسماع المحاضرة باللغة العربية من "عميد الأدب العربي" ، وطلب مني منظمو الاجتماع أن أقدم الدكتور طه حسين بكلمة باللغة العربية، أشدت فيها باللغة العربية ودورها في الثقافة العالمية

وقلت لهم إن الدكتور طه حسين سوف يقدم لهم نموذجًا منها، وبعد ذلك فوجئ به الجميع يقف ليلقي كلمته، فإذا به يتكلم بالفرنسية ويقول: "لقد وعدتكم بأن أتكلم باللغة العربية، ولكني لن أفعل ذلك وسأحدثكم بالفرنسية وصار يعدد أسباب ذلك، وكلها تدور حول ما قدمته الثقافة الفرنسية للعالم وأهميتها، وأن فرنسا هي حاملة مشاعل الحرية والتقدم... إلى آخره".

لقد فوجئ الطلاب العرب الذين حضروا ليسمعوا الإشادة بالثقافة وبالأدب العربي ممن يحمل لقب "عميد الأدب العربي" فإذا به يتنكر لوعده ويعطينا درسًا في فضائل اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية، وصاروا يتساءلون عن السبب، ولكن لم يعرف أحد للآن سر هذا التحول المفاجئ لقد كان الطلبة منظمو الحفل يريدون تكريمه وتكريم اللغة العربية بسماع محاضرة بلغتهم التي يعشقونها، ولكن بهذه الحركة المفاجئة قلب الدكتور عميد الأدب العربي الآية فأصبح الحفل تكريمًا للغة الفرنسية لا للغة العربية، تملقًا لبعض الحاضرين من الفرنسيين.

لقد قلت للدكتور الخشاب: إن عزاءك أنك عرفت سر التحول الذي دفع الدكتور طح حسين لإلغاء سفرك وإلغاء مشروعه، أما نحن الذين حضرنا هذا الاجتماع عام 1946م، فلم نعرف للآن سر ما حدث، ولكن موقف العميد واحد في الحالين، وهو أن مجاملة الفرنسيين والتقرب إليهم له عنده الأولوية على أي اعتبار وطني أو عربي أو أدبي، أو غيره. وقلت لصديقي الدكتور يحيى الخشاب إذا كنت تريد معرفة الدكتور طه حسين فما عليك إلا أن تقرأ ما كتبه عنه المرحوم الدكتور "زكي مبارك" والأستاذ "مصطفى صادق الرافعي".

لقد كان طه حسين نموذجًا لعدد كبير من المسئولين في مصر المتفرنسين، وما زال عندما عدد كبير منهم، ومن الملاحظ أنهم يزحفون على المناصب الكبرى عندنا بسرعة غير عادية ولا أستطيع أن أعرف السبب في ذلك، وآخر نموذج لهم هو "بطرس بطرس"، شريك "سنجور" في المشرب والحظوة لدى الفرنسيين، وصاحب مشروع الجامعة الفرنسية في الإسكندرية نكاية في جميع دول أفريقيا الشمالية العربية التي رفضت هذا المشروع في بلادها وما زالت تقاومه.

ولم يكن الدكتور "محمد صلاح الدين" من هذا الصنف، كان رجلاً شجاعًا، وكان وطنيًّا صادقًا، يعمل من أجل مستقبل أمته ويتضامن مع جميع المجاهدين في سبيل أوطانهم ويترجم هذا التضامن في خطوات عملية ثورية لا يفهمها السياسيون التقليديون بل يعارضونها أو يحتجون عليها، ويحذرونه من نتائجها، ومع ذلك فإنه لا يتراجع ولا يتردد لقد كان ذا عزيمة فولاذية لا يتميز عنه في مضمارها إلا زعيمه الراحل مصطفى النحاس.

لقد كان له الفضل الأول فيما قدمته مصر لجبهة تحرير ليبيا ومساعدتها في السعي من أجل الاستقلال والوحدة، وكان جميع اللاجئين السياسيين من ممثلي الحركات الوطنية في شمال أفريقيا يجدونه في صفهم في جميع الظروف والأحوال، وكنت أول الشاهدين على علاقته الوثيقة بهم، ولا زلت أذكر آخر لقاء لي معه في ذلك اليوم الذي أخبرته فيه بما حدث لممثلي الحركات الوطنية في المغرب والجزائر وتونس

حينما بدأ ضباط "الحركة المباركة" يفرضون سيطرتهم على الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وأخرجوا منها أمينها العام الأول المرحوم "عبد الرحمن عزام"، وعينوا بدله السيد "عبد الخالق حسونة"، وفرضوا عليه وقف المعونات التي قررتها الجامعة العربية لمكتب المغرب العربي والعاملين به من أعضاء الأحزاب الوطنية في شمال أفريقيا، وجاءني بعضهم فأخبرني بذلك، وطلب مني أن أسعى لكي أجد حلاً لهذا الموقف، وذهبت معه إلى السيد عبد الخالق حسونة في مكتبه بالأمانة العامة

وعرضنا عليه الأمر فاعترف بأنه أمر بذلك، ولكنه لم يكن إلا منفذًا لقرارات عليا، ولا أستطيع أن أذكر هنا ما فعله محمد صلاح الدين وغيره من المخلصين لقضايا العروبة بعد ذلك، كان هذا آخر عهدي بالدكتور محمد صلاح الدين، ولكني أذكر أنني كنت كلما التقيت بأحد المجاهدين الوطنيين في شمال أفريقيا في الخارج كان أول سؤال يوجه إلي هو "أين الدكتور صلاح الدين" وهل تراه، وله تبلغه سلامنا وكانوا يحملونني السلام إليه في كل خطاب يرسلونه إلي.

ودور الدكتور "محمد صلاح الدين" في الدفاع عن قضية استقلال ليبيا ووحدتها يعرفه جميع من انضموا إلى جبهة تحرير ليبيا، أو عملوا في الحركة الوطنية الليبية، وقد تحدثت عنه في موضع آخر. أما دوره في قضية المغرب فهو دور تاريخي يشرف مصر، ويشرف حكومة الوفد التي كان عضوًا بها، وذلك أنه عندما بدأت الحكومة الفرنسية تهدد الملك محمد الخامس، وتلوح بعزله قامت ضجة كبيرة في مصر والبلاد العربية

وسعي الوطنيون المغاربة لدى الحكومات العربية جميعًا لكي تتدخل للدفاع عن حقوق المملكة المغربية وكيانها الدولي، وكان الدكتور محمد صلاح الدين هو أول من استجاب لهم، وأقنع الحكومة والملك في ذلك الوقت بأن المغرب دولة ذات شخصية معنوية، وأن فرنسا فرضت عليها الحماية من جانب واحد، وحتى لو كانت الحماية لها أساس قانوني فهي لا تعطي سلطة خلع الملك أو التدخل في وراثة العرش المغربي

وأعدت وزارة الخارجية مذكرات قانونية تؤيد وجهة نظرها، وقدمت مصر شكوى إلى منظمة الأمم المتحدة، وأدرجت الشكوى في جدول الأعمال، وكان وفد مصر في اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة يضم أكبر أساتذة القانون العام في مصر الدكتور وحيد رأفت الذي أعد المذكرات المتعلقة بالقضية وتصادف أن كانت الدوةر التي تناقش الشكوى تعقد في قلب فرنسا في باريس مما اعتبره الفرنسيون عامة والسياسيون التقليديون خاصة تحديًا واستفزازًا لا سابقة له من جانب الدول العربية إلا شكواهم التي انتهت باستقلال سوريا ولبنان، والتي نوقشت في نيويورك لا في باريس، وكان ذلك في عهد زارة الوفد أيضًا.

من المؤكد أن فرنسا كان لها في مصر أصدقاء كثيرون في مراكز هامة في الدولة ومجال المال والاقتصاد، وقد حاولوا التدخل لدى الدكتور محمد صلاح الدين وغيره من المسئولين في مصر، ولكن من حسن الحظ أن رئيس الحكومة في ذلك الوقت كان زعيم الوفد الذي تميز بثباه على الحق وصلابته التي لا تتزعزع

ويكفي أنه الذي تحدثى الإنجليز بإلغاء المعاهدة التي وقعها معهم في عام 1936م وألغى اتفاقية الحكم الثنائي على السودان، وأعلن وحدة مصر والسودات التي ضيعها من جاءوا بعده، وقد سجل التاريخ للزعيم "مصطفى النحاس" مواقفه المشرفة في الدفاع عن قضية سوريا ولبنان، وإنشاء الجامعة العربية عام 1945م، وتأييده للدكتور "صلاح الدين" عام 1950 و1951م في سياسته إزاء قضية ليبيا وقضية المغرب.

لقد كان من حسن حظي أنني اشتركت في أحد الوفود العربية الذي حضر اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما كنت طالبًا في باريس في خريف عام 1948م، وكان ذلك سببًا في توثق علاقتي بالجامعة العربية وأمينها العام، ثم إنه اختارني مستشارًا له في وفد الجامعة العربية أثناء مناقشة قضية المغرب في دوره الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1951م.

ولذلك قصة أحب أن أوردها هنا، ذلك أنني كنت صديقًا للمرحوم عبد الرحمن عزام باشا قبل سفري في البعثة إلى فرنسا، وعملت معه أثناء زيارته لفرنسا في عام 1946م، كما ذكرت في موضع آخر، ثم رشحني لحكومة اليمن لكي أكون مستشارًا لوفدها في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي عقد في باريس عام 1948م، وكان يرأس الوفد الأمير سيف الإسلام عبد الله نجل الإمام يحيى، وكان عزام باشا وفد الجامعة العربية وكنت كثير التردد عليه واللقاء معه

حتى لفت ذلك أنظار أعضاء وفد الجامعة، وكلهم من موظفي الأمانة العامة حتى إن بعضهم بدأ يخشى على منصبه ويروج بين زملائه أنني مرشح لمنصب معين في الأمانة العامة، وبلغني ذلك فامتنعت عن التردد على الأمانة العامة بعد عودتي لمصر، وقصرت زيارتي للمرحوم عبد الرحمن عزام على منزله؛ لأنني كنت سعيدًا بعملي أستاذًا في الجامعة، ولم أكن أرغب في تركها إلى أي جهة أخرى...

وفجأة زارني أحد موظفي الأمانة العامة، وقال لي إن الأمين العام عين أحد زملائك المحامين مستشارًا للأمانة العامة مع أننا كنا نتوقع أن تكون أنت في هذا الموقع لما تعرفه من اهتمامك بالقضايا العربية... وعندما قررت الحكومة الوفدية رفع قضية ملك المغرب إلى هيئة الأمم المتحدة، طلبت من الأمانة العامة أن تقدم لها ملفًا عن قضية المغرب، وفوجئت أنا بخطاب من رئيس الإدارة القانونية بالأمانة العامة يدعوني للاجتماع به للاستعانة بخبرتي في إعداد هذا الملف.

أذكر أنني عندما توجهت إلى الأمانة العامة ودخلت "سراي البستان" كان أول ما لفت نظري هو الأمين العام المرحوم عبد الرحمن عزام، وكان واقفًا على السلم متأهبًا للخروج، وعندما لمحني رفع يده يدعوني للتوجه إليه، وأغرق في الضحك ثم قال لي:

يا توفيق أنا أعرف أنك الآن تردد قول الشاعر العربي:

وإذا تكون كريهة أدعى لها

وإذا يحيص الحيص يدعى "قشعم"

فضحك جميع الحاضرين، ولم يجرؤ واحد منهم أن يسأل عن "قشعم"، وعندما أعلن تشكيل وفد الجامعة العربية لحضور دورة الجامعة العامة للأمم المتحدة التي ستناقش قضية المغرب طلب عبد الرحمن عزام ندبي من الجامعة، وسافرت معه ضمن وفد الجامعة العربية المكون من موظفي الأمانة العامة، ولما عدت لمصر بعد ذلك كان حريق القاهرة قد وقع، وخرج الوفد وصلاح الدين من الحكومة

ولما قررت الباكستان رفع قضية تونس لمجلس الأمن في السنة التالية طلبت من كلية الحقوق ندبي مستشارًا لوفدها في نيويورك، فرفضت كلية الحقوق التصريح لي بالسفر للخارج؛ لأن المسألة في نظرهم كانت "حيصًا" لا يصلح له إلا "قشعم"، وكان هناك قشاعم كثيرة من أستاذة الجامعة ممن يطمعون في الندب للخارج، أما أنا فقد بقيت ي مصر أواجه الكريهة التي يواجها جماعة الإخوان في كل حين...

من أهم ذكرياتي عن تلك الفترة أنني عرفت عن قرب شخصيتين مصريتين كان لهما دور تاريخي في القضايا العربية وهما عبد الرحمن عزام ومحمد صلاح الدين، حيث كنت أعيش معهما في نفس الفندق، وفي داخل أروقة قصر "شايو" حيث تنعقد جلسات الجمعية العامة واللجان المتفرعة عنها...

لقد شاهدت المواقف المشرفة التي وقفها محمد صلاح الدين بالنسبة للقضايا العربية عمومًا، وخاصة قضية ليبيا (كما أذكر في موضع آخر) وقضية المغرب، بل تجاوزها إلى قضية الجزائر في ذلك الوقت، وشهدت لقاءه مع زعماء الجزائر في قلب باريس ممن كانت فرنسا تعتبر أن مجرد ذكر أسمائهم إهانة لهم وتحديًا واستفزازًا، ولكن محمد صلاح الدين لم يعبأ بكل ذلك وكانت النتيجة أن عملاء الاستخبارات الأجنبية في مصر دبروا حريق القاهرة من أجل إعطاء الفرصة للقصر والإنجليز لإخراج حزب الأغلبية من الحكم، ولم يكن ذلك إلا تمهيدًا للحركة "المباركة" ...

المفاوضات بين فرنسا وحزب بورقيبه

عندما قدمت مصر شكواها ضد فرنسا عام 1951م بسبب محاولات اعتدائها على ملك المغرب تضامن معها العرب جميعًا حكومات وشعوبًا وأحزابًا، إلا شخصًا واحدًا، وحزبًا واحدًا هو حزب بورقيبه الذي أغرته فرنسا بالتفاوض معها من أجل ما يسمونه "الحكم الذاتي" ، وهذا يذكرني الآن بما تفعله إسرائيل لترويض بعض زعماء فلسطين.

لابد من التعرض لهذه المفاوضات البورقيبية؛ لأن الفرنسيين اختاروا أن يكون مكانها في باريس في نفس الوقت الذي كان العرب يهاجمون سياستها الاستعمارية في قصر "شايو" أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتقول الصحافة الفرنسية للعالم إن العرب "التقدميين" في تونس اختاروا طريق التفاهم مع الحكومة الفرنسية، ولجئوا إليها وليس إلى الأمم المتحدة.

لقد أعطى ذلك للصحافة الفرنسية وصحافة الأوروبيين عمومًا فرصة للغلو في مهاجمة الجامعة العربية والدول العربية بالذات، ولمهاجمة الوطنيين "المتطرفين" في المغرب والجزائر، والإشادة بالموقف المعتدل والعقلاني للحزب الدستوري الجديد في تونس الذي أرسل اثنين من أعضاء المكتب السياسي للتفاوض مع الحكومة الفرنسية من أجل "الحكم الذاتي" أو "الاستقلال الداخلي" الذي وعدت به تونس والذي يرفضه المغاربة المغرورون ولا يحلم به الجزائريون؛ لأن بلدهم إقليم فرنسي.

وكان إخواننا يشتكون من مسلك بورقيبه وحزبه، ويعتبرون أن إقدام الحزب الدستوري على المفاوضات في هذا الوقت قصد به إضعاف الحركة الوطنية في شمال أفريقيا عمومًا، وطعن الوطنيين المغاربة بخنجر في ظهورهم طعنة لا ينسونها. طوال فترة وجودنا في المناقشات في الجمعية العامة، كان التونسيون مختفين تمامًا وكانوا يقيمون في فنادق بعيدة ويترددون على وزارة الخارجية الفرنسية على الشاطئ الجنوبي لنهر السين "كي دورسيه" في الوقت الذي كانت فيه الوفود العربي تخوض المعركة في الأمم المتحدة بقصر "شايو" على الشاطئ الشمالي لهذا النهر

وكانوا مندوبو الدول الأعضاء في الجمعية العامة يستمعون إلى خطب الزعماء العرب الذين يهاجمون الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا عامة، وفي المغرب بصفة خاصة، بينما كان زعيمان من زعماء حزب الدستور التونسي يجلسان في وزارة الخارجية يستجديان فرنسا لكي تمنحهم حكمًا ذاتيًا فقط.

ومن سخرية الأقدار وعجائبها أن إخواننا التونسيين لقوا جزاءهم فورًا، إذ إن بعد يوم واحد من انتهاء مناقشات الجمعية العامة، وصدور قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة برفض الشكوى التي قدمتها مصر والعرب دفاعًا عن قضية المغرب جاء إلى غرفتي في فندق "برنس دوجال" عضوا المكتب الساسي لحزب الدستور التونسي اللذان كانا يتفاوضان مع الفرنسيين وهما السيدان " صالح بن يوسف"، و"حمادي بدرة"

وعلى وجههما صفرة الخجل والتردد؛ لأنهما يأتيان لزيارتنا لأول مرة على غير سابق اتصال معهما، وقالا إننا نريد أن ترتب لنا مقابلة مع عبد الرحمن عزام لأمرين: الأمر الأول أننا معنا الآن مستندات القضية التي أعددناها للتفاوض مع الفرنسيين، وقد تبين لنا أنهم ينوون الغدر بنا بعد صدور قرار الجمعية العامة

ونخشى أن يعتقلونا ويصادروا هذه الأوراق، ونرجو من الأمين العام أن يتسلمها ويحتفظ بها لديه للاستفادة منها في قضية تونس في المستقبل بدلاً من ضياعها والأمر الثاني أننا نرجو منه أن يفكر جديًا في رفع قضية تونس إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بواسطة إحدى الدول، كما فعلت مصر والدول العربية بشأن قضية المغرب...

وكان هذا أمرًا عجيبًا، ولما سألتهما عن هذه المفاوضات التي بدأها وماذا تم فيها فقالا طبعًا إنها كانت عبارة عن مراوغات وأن الفرنسيين كانوا يماطلون ويؤجلون ويستعملون كل وسائل الإطالة، ولكننا قصدنا أن نسايرهم لنقيم عليهم الحجة أمام الرأي العام الفرنسي والأوروبي، وقالا إنهما شعرا أنهم كانوا يستعملونها وسيلة لتقوية مركزهم أمام هيئة الأمم في قضية المغرب

وليظهروا بأنهم ينوون فتح صفحة سلمية ومفاوضات مع الوطنيين المعتدلين في بلاد شمال أفريقيا ابتداء بالتونسيين، وأنهما كانا متأكدين من سوء نيتهم، ولكنهما كانا مضطرين لكي يقوما بهذا العمل بناء على قرارات المكتب السياسي للحزب ورئيسه الحبيب بورقيبه الذي كان يرى أن هذه فرصة لا يجوز أن يضيعوها ليحصلوا من الفرنسيين على تنازلات

بحجة أن تونس لا يمكن أن تحصل على شيء إلا عندما تكون فرنسا في مأزق مع المغاربة أو الجزائريين بل والليبيين، في هذا الوقت الذي كانت هذه القضايا الثلاث على أشدها في مناقشات الأمم المتحدة، وكانت الحركات الوطنية في تكل الأقطار في غاية الحماس للتصدي للاحتلال الأجنبي بجميع أنواعه.

اختار بورقيبه وحزبه أن يلقي على القضية التونسية دشًا باردًا، ويدفعها إلى ثلاجة المفاوضات مع الحكومة الفرنسية في باريس في نفس الوقت الذي تعقد فيه الجمعية العمومية للأمم المتحدة، لكي يحصل هو وحزبه على رئاسة حكومة تتمتع بما يسمى الاستقلال الذاتي أو الحكم المحلي، الذي يعني فقط التعاون مع الاستعمار الفرنسي وتنفيذ خططه ضد الشعب التونسي، بل ضد الجزائر والمغرب، وضد العالم العربي كله، وقد تأكد ذلك فيما بعد عندما قام فعلاً بتصفية الفلاجة وهم رجال المقاومة التونسيون الذين رفضوا إلقاء سلاحهم.

إن صورة بعض الحكام الوطنيين في نظر الإسلاميين دائمًا هي صورة فئات انتهازية تتسابق للحصول على مصلحة عاجلة وقتية لا فائدة منها، بل هي ضارة للأمة على حساب تضحيات الشعوب وكفاحها، وهذه التضحيات في الحقيقة يقع عبؤها الأكبر على الشهداء الذين يموتون في ميادين الفداء والتضحية بوازع من إيمانهم بأنهم يقومون بواجب ديني يرضه الإسلام، وأن موتهم في سبيل الله يضمن لهم الجزاء في الآخرة

وأكثرهم من الإسلاميين وتلاميذهم ودعاتهم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وعند ذلك يتقدم بعض الزعماء الانتهازيين ويستدرجهم العدو ببعض الوعود الكاذبة، فيعلنون أنهم سوف يتصالحون مع العدو على أن يمنحهم مكاسب محدودة تكون في الغالب مكاسب شخصية أو حزبية ومقابل ذلك يضربون المقاومة الفدائية سواء سميت "الفلاجة" أو المتطرفين أو الأصوليين من جماعات حماس أو الجهاد الذين حملوا رءوسهم على أكفهم للاستشهاد في القتال في بلادهم أو في فلسطين أو الجزائر أو المغرب أو غيرها...

ولا يشعر الوطنيون بخطورة هذا المسلك الانتهازي إلا عندما يستعمله زملاؤهم ومنافسوهم من الأحزاب الوطنية أو الزعامات الحزبية أو الدكتاتوريات العسكرية للحصول على ثمرة فجة عاجلة ضئيلة على حساب من هو أكثر منهم ثباتًا أو تشددًا في الوطنية، لقد رأينا صورة هذه الانتهازية مجسدة فيما فعله حزب الدستور التونسي الجديد الذي وقع في كمين نصبه له الاستعمار

وأرسل اثنين من زعمائه إلى باريس ليتفاوضا مع الحكومة الفرنسية في نفس الوقت الذي كانت مصر والجامعة العربية تهاجم فرنسا وتدافع عن المغرب وملك المغرب والحركات الوطنية المغربية، وتدافع عن استقلال ليبيا ووحدتها، لقد ظن بورقيبه وزملاؤه أنهم أذكى من الاستعمار، وأنهم سيحصلون منه على مكس صغير على حساب المغاربة والعرب كلهم ونسوا أن شياطين الاستعمار أشد منهم خبثًا ومكرًا، فما أن انتهت مناقشة شكوى العرب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إلا وقلبوا لهم ظهر المجن وطردوهم فجاءوا مهرولين يستغيثون بالأشقاء العرب الذين تنكروا لهم من قبل وغدروا بهم، وقابلوا عبد الرحمن عزام، وكان رجلاً واسع الصدر.

الآن فقط جاءوا إلى الجامعة العربية يطلبون منها أن تعرض قضيتهم على هيئة الأمم المتحدة بعد أن فشلوا، وبعد أن تنكرت لهم فرنسا، وجاءوا يطلبون مني مقابلة مع عبد الرحمن عزام، وقابلوه ليشتكوا إليه من ظلم الفرنسيين ومخادعتهم وغشهم وسوء نيتهم بعد أن كانوا يتجاهلون كل ذلك، والآن اقتنعوا به ويطلبون من عزام أن يتوسط لهم لدى إحدى الدول لكي ترفع لهم هذه القضية، كما رفعت مصر قضية المغرب

وطلب منهم عزام أن يقابلوا الوفود العربية، وأن يسعوا إليهم، فقابلوهم واحدًا بعد الآخر، وكلهم أداروا ظهورهم لهم؛ لأن ممثلي الدول العربية يسلكون نفس المسلك الذي اتبعه التونسيون مع أشقائهم المغاربة كل جماعة منهم يريدون أن ينجوا بدولتهم المحدودة أو مصلحتهم الحزبية أو مقاعد الحكم التي تربعوا عليها، ويخشون أن يتورطوا في الدفاع عن أشقائهم فيخسروا وما حصلوا عليه من استقلال محدود، هل يريدون من الأردن أو العراق أو سوريا أو غيرها من أعضاء الجامعة العربية أن يدافع عن تونس

ويرفع شكوى لها ضد فرنسا وكل تلك الدول تخشى أن تفقد "الاستقلال" الشكلي الذي جعل فيها أمراء ووزراء وحكامًا، كل هذه الدول هي في نفس الموقف "الوطني" الذي وقفوه هم عندما بدءوا المفاوضات وكان هدفهم هو الحصول على مطلب شكلي محدود في الوضع الاستعماري مقابل قيامهم بالمحافظة على هذا الوضع القائم واضطهاد المتطرفين الذين يريدون أكثر منه ويريدون مواصلة الكفاح والسير إلى ما هو أبعد عن ذلك...

إن هدف الحكام الوطنيين دائمًا هو الدفاع عن الوضع القائم إذا سلمهم الاستعمار السلطة، وينسون أن بقاءهم مستحيل إلا بحماية العدو الذي حاربناه، وهو يعلم عندما اعترف بالاستقلال أن حكومات هذه الدول الصغيرة سوف تتآكل وتزول وتتفتت وأنهم يفشلون جميعًا. إن "عزام" نصح التونسيين بأن يقابلوا بعض رؤساء الوفود العربية لعرض مطلبهم ولكنهم لم يجدوا لدى أحد منهم استعدادًا لعمل شيء في هذا الوقت، فعادوا إلى عبد الرحمن عزام، وأضافوا طلبًا ثالثًا وهو أنهم يريدون الذهاب إلى مصر لاجئين لأنهم لا يرغبون في العودة إلى تونس...

لقد انصرف العرب عن مندوبي الحزب "الحزب الدستوري البورقيبي" لذلك طلب منهم عبد الرحمن عزام أن يقابلوا رئيس وفد باكستان ووزير خارجيتها "ظفر الإسلام" ، وهي ليست دولة عربية، وهنا نسأل دعاة القومية العربية وهؤلاء التونسيين إذا كان الوضع القطري لم ينفعهم، والوضع العربي لهم ينفعهم

والآن ذهبوا يستنجدون بدولة إسلامية بحجة الأخوة الإسلامية، ما رأيهم في النظم القطرية القومية العربية التي يتخذونها سلاحًا لمهاجمة الإسلاميين، وهم يرون أن الدول العربية كلها مجتمعة لا تستطيع دولة منها أن ترفع قضيتهم إلى هيئة الأمم كما رفعت مصر قضية المغرب، وقد رأوا فيما بعد الجزاء الذي أصاب حكومة الوفد ووزيرها نتيجة ذلك الموقف البطولي الشجاع

لقد استمع "ظفر الإسلام" وكنت حاضرًا معهم وأقوم بالترجمة بينهم وبينه، وأشرح له بعض الجوانب التي تهمه، وطلب منهم أن يتركوا له فرصة يفكر في الأمر، لكي يتصل بحكومته وأنه سوف يتخذ القرار في الوقت المناسب، وقد حضرت لقاء آخر بين التونسيين ووزير خارجية باكستان بعد سفر محمد صلاح الدين بسبب إقالة حكومة الوفد بعد حريق القاهرة

وقال لنا إن حكومته وافقت على أن تتولى رفع القضية في الوقت المناسب، وعليهم أن يستعدوا لذلك، لكن عليهم أن ينتظروا بعض الوقت حتى تعود هيئة الأمم المتحدة إلى مقرها في نيويورك، وطلب مني شخصيًّا أن أتولى معهم إعداد الملف، وأن أكون معه في نيويورك عندما يرفع هذه القضية، وحضر إلى مصر بعد ذلك، وكان يعتقد أنني أعمل في الجامعة العربية

وألح علي في أن أذهب معه إلى نيويورك وهنا قال له عزام سأفكر في ذلك وسأسعى لدى الحكومة المصرية. لقد عاد عزام ليجد الأمور قد تغيرت في مصر وكانت هناك حكومة أخرى عندما جاء "ظفر الإسلام" إلى مصر في طريق عودته إلى بلاده، وقد طلب من عزام أن يوافق على ذهابي معه، وقال له عزام لابد أن تكتب أنت خطابًا إلى وزير الخارجية المصري الجديد، وأن تطلب منه هذا

وفعلاً كتب الخطاب وأرسله إلى وزير الخارجية، وفي هذه الأثناء طلب مني عزام إعداد ملف الشكوى مع التونسيين وهذا مكنني من أن أضع قضية "المنصف باي" ضمن بنود الشكوى رغم أن التونسيين لم يكونوا حريصين على ذلك، ولهذا لم يبد منهم ارتياح لسفري وانتهى الأمر بأنني لم أذهب مع الوفد الباكستاني إلى نيويورك؛ لأن المسئولين في كلية الحقوق رفضوا الموافقة على سفري ولا داعي لذكر الأسباب؛ لأنها في منتهى "التفاهة" ومن مظاهر "الشللية" التي توجد في بعض الأوساط الجامعية...

استقلال ليبيان ليمنع وحدتها 1951م

بعد أن انتهت مناقشات شكوى مصر ضد فرنسا في الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1951م، بدأت الوفود العربية تستعد لمناقشة قضية ليبيا الموضوعة على جدول هذه الدورة وكان مندوب هيئة الأمم الذي عينه الأمين العام (المستر بلنت) قد أتم تقريره ووزع على الوفود لمناقشته، وكان يدعو فيه إلى أن تعلن الأمم المتحدة استقلال ليبيا كدولة موحدة، واقترح مشروع ديستور لها يأخذ بوجهة نظر الأغلبية الساحقة في شعب ليبيا الذين يريدون الوحدة ويرفضون تقسيم البلاد إلى مناطق ثلاث تتمتع بالحكم الذاتي كما تقترح الدول الغربية.

كان من الواضح أن هذا التقرير النزيه سوف يحظى بتأييد أغلبية الأعضاء في الجمعية العامة نظرًا لأن المجموعة العربية والآسيوية والشيوعية تؤيده كما يؤيده عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية بإيعاز من إيطاليا التي كانت تفضل إبعاد الدول الكبرى عن أن تحل محلها في السيطرة على الشواطئ الليبية، وترى أن الشعب الليبي في ظل دولة موحدة مستقلة أضمن لمصالحها من وجود قواعد إنجليزية وفرنسية وأمريكية فيها.

في هذا الوقت وفي ليلة عيد الميلاد المسيحي، فوجئ العرب جميعًا بالملك إدريس السنوسي يعلن استقلال ليبيا، ويمنحها من عنده دستورًا إتحاديًّا على أساس وجود ثلاث مناطق تتمتع كل منها بالحكم الذاتي، وعين وزارة اتحادية، وأعلن أن وفدًا يمثل هذه الحكومة سيذهب إلى باريس ليقدم طلب انضمام ليبيا الاتحادية المستقلة إلى الأمم المتحدة ويدافع عن استقلال ليبيا ضد العرب الذين يريدون التدخل في شئونها "الداخلية"

وذلك بالطبع كان بتحريض إنجلترا وحلفائها لكي يحولوا دون مناقشة تقرير المستر "بلنت" ومقترحاته وليضعوا الأمم المتحدة أمام أمر واقع لا يمكن تغييره، وإلا كان تدخلاً في الشئون الداخلية لدولة مستقلة، وهنا يظهر بوضوح كيف أن الدول الكبرى تستطيع أن ستعمل "الاستقلال" ستارًا لتنفيذ سياستها متى كان الحكم "الوطني" الذي يعلن هذا الاستقلال مواليًا أو عميلاً لها.

لقد شعرت الوفود العربية أن الذي طعنها من الخلف هو الملك إدريس السنوسي ووزراء حكومته الذين تولوا تنفيذ الخطة الإنجليزية التي تهدف إلى تقسيم ليبيا إلى مناطق ثلاث تخضع كل منها لنفوذ إحدى الدول التوسعية (بريطانيا وأمريكا وفرنسا). لقد فوجئ العرب جميعًا بإعلان الملك السنوسي هذا الاستقلال والدستور الاتحادي الإنجليزي الذي منحه لبلاده ليقر التجزئة التي يريدها الاستعمار، ويجعل الاستقلال هو الواجهة للدفاع عن التجزئة، وجاء إلى باريس وفد الحكومة التي عينها الملك إدريس لحضور الجمعية العمومية لكي يطلب ضم ليبيا إلى هيئة الأمم المتحدة باعتبارها دولة مستقلة، ويعارض في مناقشة تقرير مندوب الأمم المتحدة الذي أنصف ليبيا

وأقر للوطنيين الليبيين بالحق في إقامة دولة موحدة وليس دولة مجزأة، وكانت الخطة الإنجليزية أن يسخروا الملك السنوسي وحكومته الجديدة لكي تدافع عن التجزئة، وأرسل رئيس وزرائه وعلى ما أعتقد كان اسمه (رشدي الكخيا) وعددًا من أعضاء الوزارة لكي يقدموا طلب انضمام ليبيا كدولة مستقلة لهيئة الأمم، وتؤيد هذا الطلب بريطانيا وأمريكا وفرنسا، ومعها الدول الأوروبية والدول الاستعمارية كلها

وتطلب عدم مناقشة تقرير المستر "بلنت" مندوب الأمانة العامة للأمم المتحدة؛ لأنه لم يعد له موضوع ما دام الاستقلال قد تحقق، وهذا هو الملك قد أعلن الاستقلال، والحكومة التي أعلنت الاستقلال جاءت لكي تدافع عنه ومن عجائب القدر ومصائبه أن هذا الوفد ضم إلى جانب رئيس الوزراء اثنين من أعضاء جبهة تحرير ليبيا الذين كانوا يقيمون في مصر ويعملون بالجامعة العربية

وكانوا يقودون الحركة الوطنية التي تشجعها مصر وتدعمها الجامعة العربية باسم جبهة تحرير ليبيا وهما الدكتور "علي العنيزي"، والسيد "منصور قدارة"، وطبعًا نزلوا في فندق آخر، وقاطعوا الوفود العربية وفي خطاباتهم أمام الجمعية العمومية هاجموا مصر وهاجموا الجامعة العربية وهاجموا الدول العربية التي تصر على مناقشة تقرير ممثل الأمم المتحدة بحجة أن هذا التقرير يعتبر تدخلاً في الشئون الداخلية لدولة مستقلة وهذا يهدد الاستقلال.

وهكذا ظهر بوضوح أن الاستقلال الوطني في كثير من الأحيان يصبح وسيلة لتحقيق الأهداف الاستعمارية وأولها إقرار التجزئة المفروضة على شعوبنا، وفي الحقيقة كانت هذه صورة مصغرة لما حدث قبل ذلك بعد انهيار الدول العثمانية وتجزئية إمبراطوريتها وكنت أتأمل كل هؤلاء الوزراء وأعضاء وفود الدول الذين يمثلون دولاً عربية وأراهم غاضبين لأن الوفد الليبي يدافع عن التجزئة الاستعمارية لبلاده بحجة أنها دولة مستقلة

وأتذكر أن هؤلاء نسوا تمامًا أن الدول العربية المستقلة التي يمثلونها هي ثمرة عملية كبيرة من هذا النوع عندما احتل الحلفاء الأقطار العربية، وأنشئوا دولاً، وأصبح على رأس كل دولة ملك أو أمير أو رئيس، ووضوعها تحت الحماية أو الانتداب، وأصبح من واجب هذه الحكومات أن تدافع عن استقلالها، وكان هذا الاستقلال ليس إلا ستارًا لتثبيت التجزئة المفروضة على العالم العربي كله، وعلى العالم الإسلامي، وفتح باب الخصومات بين الدول العربية التي ما زالت قائمة حتى اليوم، بل إنها تزداد بفعل هذه الحركات الوطنية ذاتها.

وإذا كان الاستعمار بعد نجاحه في هذه المرحلة الأولى من تجزئة الأمة الإسلامية والعربية إلى عدة دول وطنية قد انتقل إلى مرحلة أخرى لتجزئة كل دولة من هذه الدول كلما كان ذلك ممكنًا، فإن ما عمله الاستعمار من قبل بعد الحرب العالمية الأولى، قد استفاد منه الوطنيون المتعاونون معه في ليبيا الآن، فهم جاءوا يدافعون عن استقلال يحقق تثبيت تجزئة ليبيا إلى ثلاث مناطق تتمتع بالاستقلال الداخلي

وهذا ليس إلا صورة أ×رى ما فعله الملوك والأمراء والرؤساء العرب، وما تفعله الأحزاب الوطنية القومية، وما زالوا يفعلونه منذ إعلان استقلال تلك الدول، إذ يدافعون عن هذا الاستقلال ناسين أن الشعوب تريد استقلالاً عن العدو الأجنبي، لا انفصالاً عن أمتها الموحدة كما يريد الاستعمار والعدو الأجنبي الذي جعله استقلالاً يفتح باب العداوة والخصومات بين الشعوب العربية والإسلامية لأن الحدود التي رسمها الإستعمار هي حدود من تأليفه

وتستغل الآن لكي تثير خصومات عنيفة بين هذه الدول العربية والإسلامية وجيرانها، وهذه الخصومات ما زالت قائمة حتى اليوم، بل تزداد وتنمو، وقد شاهدنا آخر فصل من فصولها في حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، ثم الثانية بين العراق والكويت، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونسمع ضجة كبيرة لإثارة نزاع على الحدود بين مصر والسودان، لم نسمع عنها من قبل، وكان ذلك لكي تنسى الشعوب وحدة وادي النيل.

إن الفرق الوحيد بين ما تم في ليبيا أمامنا في ذلك اليوم، وبين ما تم قبل ذلك عقب الحرب العالمية الأولى من إنشاء دولة قطرية هو أن الاستعمار انتقل إلى مرحلة تجزئة كل دولة قطرية من داخلها، وكانت تجزئة ليبيا محاولة نموذجية لهذا، وقد حدث بعده محاولات أخرى كما نرى في لبنان، وأصبحت هذه الخطة هي التي تسمى سياسة "اللبننة"، ونحن نسمع الآن عن خطة لتمزيق العراق، ولاشك أن هناك خططًا لتمزيق العشوب الأخرى جميعًا مثل السودان وأفغانستان، بل وباكستان والجزائر.. إلى آخره.

أما المرحلة الأولى بعد الحرب العالمية الأولى فكانت تسمى "البلقنة" وهي تجزئة الإمبراطورية العثمانية إلى دولة قطرية متعددة في البلقان وفي العالم العربي والإسلامي، علينا الآن أن نتوقع مرحلة اللبننة التي يقصد منها تمزيق كل دولة من داخلها إلى مناطق وإلى طوائف وهذه هي المرحلة التي يحاول الاستعمار نقلنا إليها أولاً في ليبيا كما رأينا

وثانيًا في لبنان، وهو يحاولها أيضًا بإثارة النزعات الانفصالية في العراق مع الأكراد وغيرهم وكذلك ما يسمى بالسياسة البربرية في الجزائر والمغرب، والفتن الطائفية في السودان ومصر وغيرها، فكل السياسات الاستعمارية تنبعث من منطق واحد وهو تشجيع الحركات الوطنية القطرية والطائفية والعنصرية والإقليمية التي تقصر نظرها على مصالح مباشرة لإقليم معين أو طائفة معينة أو قطر معين

فأهل برقة يقولون إنهم يؤيدون الملك إدريس، وهو يحتاج إلى حماية إنجلترا له ولهم، ويتركون أهل طرابلس الذين عليهم أن يبحثوا عن دولة تحميهم، وكل إقليم عليه أن يبحث عن حليف أجنبي يقدم له المساعدات المالية والعسكرية ويحافظ على حدوده بقدر المستطاع... وهذا هو نفس المنطق الذي قامت على أساسه الدولة القطرية، والذي ما زالت تسير عليه ويدافع عنه من يسمون أنفسهم حكامًا وطنيين في تلك البلاد، إنهم يدعون كل بلدة تهتم بشئونها الخاصة وألا تشغل بقضايا الشعوب الأخرى؛ لأن هذا يثقل كاهلها ويزيد أعباءها، ويكفيها ما تواجهه من مشاكل داخلية

وهم ينسون أن هذه المشاكل الداخلية تتعقد وتزيد كلما صغر حجم هذه الأقطار؛ لأن العالم اليوم لا يمكن أن توجد فيه دولة تكتفي اكتفاءً ذاتيًا، بل لابد من كتلة كبيرة تستطيع أن تكون إطارًا للتنمية الاقتصادية وأن يوجد بها اقتصاد متكامل متميز ومستقل تستغني به عن مساعدة الدول الأجنبية، والحقيقة أن عجز الدول القطرية ناتج عن التجزئة

وطالما وجدت هذه التجزئة فسوف يزداد هذا العجز لأننا نسير نحو الضعف الاقتصادي وغيرنا يسير نحو القوة وفي كل يوم يزداد الاختلال في التوازن بين إمكانياتنا المتضائلة وبين إمكانيات غيرنا المتزايد المتنامية، ولذلك نضطر إلى أن نمد يدنا إليهم وهم مستعدون لتقديم القروض والمساعدات ولكن طبعًا هم لا يريدون تقديم ذلك لنا دون مقابل، والمقابل هو التبعية والسيطرة والاستغلال!!!

التجزئة القطرية طريق التبعية الحتمية

لماذا قبلنا (بلقنة) المنطقة بأكملها ونريد مقاومة (اللبنة)، ولماذا ندافع عن (البلقنة) التي أوجدت هذه الدول القطرية وأقرت تجزئة الأمة الإسلامية الكبرى ونصرخ الآن ونستغيث من خطر اللبننة التي تهدد كل دولة منها بالحركات الانفصالية والفتن العنصري والطائفية في حين أن العمليتين كلتيهم ليستا إلا عملية تجزئة يستفيد منها أعداء أمتنا، وكلتا العمليتين يستند لمنطق واحد هو منطق التجزئة والتفتيت والتقسيم.

التجزئة القطرية والاستقلال القطري هما طريق التبعية الحتمية وبابها، هذه هي نظرتنا نحن الإسلاميين، إننا لا نؤمن بأن الدول القطرية في وضعها الحالي قادرة على البقاء إلا في ظل التبعية للقوى الأجنبية، إذا لم تتعاون وتتضامن وينشأ فيما بينها اتحاد إسلامي كبير على الأسس التي قامت عليها الوحدة الإسلامية والأمة الإسلامية التي أنشأها الإسلام والتي تمتد من المحيط الهادي والهندي إلى المحيط الأطلنطي.

عدما كنت أسمع انتقادات مندوبي الدول العربية للوفد الليبي، كنت أود أن أقول إنكم سبقتموهم وأنتم تسيرون حتى الآن في هذا الطريق، وهم لم يفعلوا إلا ما فعلتموه أنتم وما تصرون على فعله حتى الآن، ليس فقط أنكم تصرون على فعله، بل تدافعون عنه وتهاجموننا نحن الإسلاميين؛ لأننا نطالب بوحدة أكبر

إنني لا أفهم كيف ندافع عن وحدة القطر ولا ندافع عن وحدة المنطقة كلها، لماذا ندافع عن الوحدة الداخلية لبلد من البلاد كمصر أو ليبيا، ولا نريد أن ندافع عن الوحدة العربية الشاملة أو الإسلامية الشاملة، ثم لماذا نجد الذين يرفعون شعار القومية العربية إنما يعتبرونها معارضة للوحدة الإسلامية التي هي أكبر منها، ولا يقرون قولنا بأنها مرحلة نحو بناء وحدة أكبر هي الوحدة التاريخية الإسلامية فكلما كانت الوحدة أكبر كان الدفاع عنها قويًّا.

ميزة الوحدة الإسلامية التي ندافع عنها أن مقوماتها ودعائمها تاريخية لأننا عشنا في ظلها أربعة عشر قرنًا، وهذه المقومات التي قامت عليها الوحدة التاريخية ما زالت موجودة وهي العقيدة المشتركة والثقافة المشتركة، والأصول المشتركة، والحضارة المشتركة، والتاريخ المشترك، والحاجات الاقتصادية المشتركة، هذه هي وجهة نظرنا.

أعضاء الوفد الليبي الذي جاء ليعارض خطة الجامعة العربية وخطة مصر التي تطالب بوحدة ليبيا جاءوا لزيارة "عبد الرحمن عزام" في الفندق؛ لأن السيد "قدارة" والسيد "العنيزي" كانا يعملان في الجامعة العربية تحت رئاسته، فكانت المقابلة شخصي وودية وكانوا يقولون إننا لسنا متعاونين مع الاستعمار، وإنما نحن نتعامل مع واقع بلادنا الذي رناه وأنتم لا تستطيعون أن تعرفوه؛

لأن هذا هو الممكن، ونحن نريد إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وقلت في نفسي إن هذه الحجة هي الحجة التي يقولها المصريون الذين يدافعون عن الوطنية المصرية والعراقيون الذين يدافعون عن الوطنية العراقية، والسوريون وغيرهم وهؤلاء كلهم يقولون نحن ندافع عن الموجود الآن في يدنا؛ لأننا لا نستطيع غيره، إنهم لا يستطيعون غيره الآن ولكننا نحن الإسلاميين نرى أن هذه النظم القطرية مآلها الضياع ومآلها الفشل والانهيار

ونحن نرى هذا بأنفسنا كل يوم وهي ليست في حاجة إلى الإسلاميين لكي يهاجموها إنما هي بذاتها تتآكل وحلفاؤها الأجانب هم الذين يدفعونها في طريق الضعف وفي طريق الانحلال وفي طريق التفكك وبدلاً من إدراك ذلك يهاجمون الإسلاميين ويتهمونهم بأنهم ضد النظم الوطنية أو أنهم متطرفون أو يسمونهم أصوليين جريًا وراء الإعلام الأجني المعادي لنا. إن الإسلاميين يعدون أنفسهم للقيام بدورهم عندما تنهار تلك الأنظمة القطرية وهي ستنهار من تلقاء نفسها وبفعل حلفائها الأجانب الذين لا يكفون عن استنزاف ثرواتها وتمزيق مجتمعاتها وتخريب اقتصادها، وعم يدعون كذبًا أن الإسلاميين يريدون انهيارها.

استمعت إلى الخطاب الذي ألقاه رئيس وزراء ليبيا في الأمم المتحدة لقبول بلاده عضوًا في الجمعية العامة كدولة اتحادية على أساس الدستور الذي منحه لها الملك إدريس السنوسي وكانوا يدافعون عن دستورهم الاتحادي بحجة أنه من شئونهم الداخلية وأن مسألة الوحدة والاتحاد هذه هي مسألة من شأن الشعب الليبي، والشعب الليبي قد اتخذ قراره بواسطة الملك السنوسي، وليس من حق أحد أن يتدخل فيه، إنه لم يحاول مهاجمة الجامعة العربية

وإنما قصر هجومه على الوفد المصري والحكومة المصرية بحجة أنها هي المجاورة لليبيا وأنها تطمع في أن تضعها تحت وصايتها أو تتدخل في شئونها ولا تريد أن تعتبرها دولة مستقلة مثلها، والمصريون لا يسمحون لأحد بأن يتكلم عن الوحدة والاتحاد في مصر فلماذا يريدون أن يتكلموا عن الوحدة والاتحاد في ليبيا، هذا شأننا.

وهجمومهم على مصر وعلى الحكومة المصرية الوفدية كان واضحًا أنه بتحريض من الدول الأوروبية وخصوصًا بريطانيا التي كانت تتآمر لإخراج حكومة الوفد إذ لم تمض أيام معدودة حتى وقع حريق القاهرة وأبعدت حكومة الوفد عن الحكم بالاتفاق مع ملك آخر هو "فاروق"، وكان أمل الذين دبروا حريق القاهرة، بأن المقصود به إبعاد حكومة الوفد وقد أبعدت فعلاً، وعاد محمد صلاح الدين إلى بلاده بعد أن فقد منصبه، وكان هذا جزاء له على تطرفه في قضايا الوحدة مع السودان، وقضايا المعاهدة مع إنجلترا، وقضايا وحدة ليبيا، وقضايا المغرب وغيرها من القضايا.

إن التهمة التي يوجهها الوطنيون للحركات الإسلامية دائمًا هي التطرف، وهي نفس التهمة التي يوجهها بعضهم لبعض، ولذلك فإن كل من يدعي الاعتدال سيجد من هو أكثر منه اعتدالاً يصل إلى حد الضعف والتخاذل، بل الاستسلام بحجة التدرج، وبحجة التعقل والواقعية ويتعاون كل فريق مع الاستعمار لكي يحارب غيره ممن يطالب بمطالب أقوى أو أكثر أو يتمسك بها، والوطنيون الذين يهاجمون الإسلاميين هم يهاجمون بعهضم بعضًا، ويضرب بعضهم بعضًا، وسوف يواصلون ضرب بعضهم بعضًا طالما أنهم يسيرون على مبدأ الدفاع عن الواقع، ولا ينظرون إلى المستقبل وإلى احتياجاته التي تتجاوز حدود الواقع.

إن الإسلاميين ليسوا في حاجة إلى مهاجمة النظم الوطنية مطلقًا؛ لأنها هي التي تقضي على نفسها، وإذا لم تقض على نفسها، فستقضي الأحزاب الوطنية بعضها على البعض الآخر، وتتآكل في داخلها، والنموذج أمامنا، وهو حزب البعث الذي يدعي أنه يدافع عن أمة عربية واحدة حرة ذات رسالة خالدة، ونحن نرى الخصومة بين العراق وسوريا الآن يديرها فرق متصارعة من حزب البعث أو طوائف أو شلل في داخل هذا الحزب. إن منطق الحركات الوطنية هي منطق يؤدي حتمًا إلى النزاع وإلى الشقاق؛ لأنه لا يرتبط بقاعدة تاريخية وقيم أصيلة يؤمن بها الجميع.

أما الإسلاميون فهم يرتبطون بالقيم الإسلامية الأصيلة الخالدة، صحيح أنهم يختلفون، ولكن هناك دائمًا مقياس تاريخي ثابت يحكم بينهم ويفرض نفسه عليهم، وهو الأمة الإسلامية الموحدة التي قامت على وحدة العقيدة الإسلامية منذ فجر الإسلام إلى اليوم هذه العقيدة هي صمام أمان إلى حد كبير ضد النزعات الطائفية الأنانية والقوميات القطرية المتطرفة. إن النزعات القومية لا تختلف كثيرًا عن النزعات الطائفية من حيث تهديدها للوحدة الشاملة الكبيرة التي هي ضرورة لنا جميعًا في هذا العصر.

إن الحكام الوطنيين الذين يضطهدون الحركات الإسلامية، ويمارسون أعمال القمع الوحشية ضد كل من يرفع شعارات إسلامية، ويبررون ذلك بأنهم متطرفون أو متشددون ليسوا وطنيين حقًا، وإنما هم أدوات في يد القوى الأجنبية، إنهم يرددون حجج القوى الأجنبية المعادية للإسلام ويقلدون دعايتها، ويبررون ذلك بأنهم واقعيون لأنهم يدافعون عن الواقع الذي فرضه الاستعمار وهو الاستقلال الوطني القطري، واستقرار "الدولة" الوطنية التي أعلنت استقلالها لتكريس التجزئة والتفرقة

والتزمت بالمحافظة عليها والدفاع عنه، هؤلاء يجب عليهم أن يعلموا أن هذا الواقع الذي يدافعون عنه فيه عيبان في نظرنا:

العيب الأول: أنه من صنع القوى الأجنبية المعادية لنا، فجميع الحدود التي تفصل بين هذه "الدول" إنما رسمها دهاقنة الاستعمار وخبراؤه وساسته مراعين في ذكل أهدافًا تتعلق بمصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية، وهذه الدول القطرية عندما تثور بينها المشاكل والنزاعات بسبب هذه الحدود إنما تستند إلى الوثائق التي وضعت في عهد الاحتلال الاستعماري الذي كان هدفه تمزيق وحدة المنطقة وخلق كيانات غير قادرة على الاعتماد على نفسها، وغير أهل الدفاع عن حدودها، وغير صالحة للبقاء إلا في ظل حمايته والتبعية لها.
العيب الثاني: أن واقع التجزئة محكوم عليه حتمًا بالانهيار والتآكل والزوال وأنه هو الذي سيضيع الاستقلال ويقضي عليه، ويؤدي إلى التبعية الحتمية للدول الاستعمارية القديمة أو الجديدة لحاجة كل الدول الصغيرة إلى حمايتها وإلى معوناتها المالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية، وستكون مضطرة إلى أن تقبل التبعية مقابل ذلك

وهذه التبعية أخطر بكثير من التبعية التي فرضها الاحتلال الأجنبي وقاومناها وحاربناها وطلبنا الاستقلال من أجل التحرر منها؛ لأن البعية التي تؤدي إليها التجزئة تكون من صنع دولنا وزعمائنا وأحزابنا وحكامنا "الوطنيين" الذين يطلبونها ويرضون بها ويدافعون عنها بحجة الواقعية والاعتدال والحكومة من أجل بقاء نظمهم وحكوماتهم، إنهم يفرضون على الشعوب سياستهم بالقوة والعنف والإرهاب الحكومي

وإنكار حقوق الشعوب في حريتها وحقها في فرض إرادتها واختيار حكامها، بل ينكرون على الأفراد حقوق الإنسان الأولية في حرية القول والرأي وحرية الانتخابات والنقابات والأحزاب، بل إن سياسة القمع والعدوان التي يمارسها هؤلاء الحكام "الوطنيون" قد تؤدي إلى أن الشعوب المضطهدة المحرومة من حريتها تب حماية القوى الاستعمارية وتستغيث بها لتحميها من بطش بعض حكامنا أو حكام الدول الشقيقة التي "تطمع" في فرض سيطرتها عليها باسم الوحدة أو الاندماج، وتصبح الوحدة خطرًا على الاستقلال "الوطني" بعد أن كانت في نظرنا هي الغاية والهدف الذي طلبنا الاستقلال من أجل الوصول إليه.

الحركة الإسلامية والاستقلال الوطني

في فبراير عام 1949م كنت على فراشي في مستشفى "سان جان" في باريس إثر عملية جراحية أجريت لي، عندما فتحت جهاز الراديو لأسمع نبأ استشهاد أعز رجل علي في ذلك الوقت وهو "حسن البنا"، وترتب على ذلك أن أخرت عودتي لمصر عامًا كاملاً صحيح أنني عندما عدت إلى مصر 1950م، وجدت حكومة الوفد قد أفرجت عن المعتقلين لكنها استمرت تعارض في رد أموال الجماعة ومقرها لها

وتمنعها من ممارسة نشاطها بحجة أن هناك قرارًا بحلها، وكنا نهاجم هذا القرار، ولجأنا للقضاء، فصدر حكم بإنصافنا وحق الجماعة في ممارسة نشاطها، والتزمت الحكومة بقرار القضاء، مما أكد لنا أن موقفها السابق كان مفروضًا عليها من جهة أجنبية أو جهة عليا، أو كان شرطًا من شروط بقائها في الحكم. إن أوضاع الإخوان التي فقدت زعيمها ومرشدها كانت توجب علينا اختيار مرشد يتولى أمرها في ظل نظام حكم يحرمنا من حق الاجتماع ومن كل نشاط بعد أن اغتال عملاء الملك فاروق مؤسسها وزعيمها.

عندما وصلت إلى مصر وجدت أخوي اللذين خرجا من معتقل الطور مع غيرهما من الإخوان ليستأنفوا دراستهم الجامعية، قد انضما إلى المعسكرات التي نظمها الإخوان بالجامعة لتدريب المتطوعين على العمل الفدائي الذي بدأه الإخوان في القناة ضد القوات الإنجليزية وقد حظيت حركة التطوع والمقاومة بتشجيع من حكومة الوفد

بعد أن ألغت معاهدة 1936م التي كانت الأساس القانوني الذي استند إليه الإنجليز للاحتفاظ بالقواعد العسكرية في مصر، وبذلك أصبح وجودهم غير شرعي والهجوم عليهم عملاً وطنيًا، وكان زعيم الوفد النحاس باشا هو الذي أعلن بنفسه هذا القرار، كما أعلن الوحدة بين مصر والسودان تحت التاج المصري بالاتفاق مع الوطنيين السودانيين، الذين كانوا قد أنشئوا الحزب الوطني الاتحادي

وكانوا يحظون بتأييد أغلبية الشعب السوداني الذي يؤمن بوحدة وادي النيل، هذه الوحدة التي تخلى عنها الحكم العسكري الناصري في عام 1954م، حتى أصبحت الآن في طي النسيان عند حكامنا وأحزابنا "الوطنية" ، مما يؤكد مرة أخرى أن هذا الانقلال العسكري حظي بتأييد قوى أجنبية استعمارية، نجحت في إقناع العسكريين بالتخلي عن المطلب الشعبي بوحدة مصر والسودان، ووحدة وادي النيل.

كان الإخوان منذ عام 1947م قد أعدوا فرقًا من المتطوعين للمشاركة في الثورة الفلسطينية، ومهاجمة العصابات الصهيونية التي ترتكب الفظائع ضد الفلسطينيين لطردهم من بلادهم وإكراههم على مغادرة فلسطين لإخلائها للمهاجرين اليهود الذين أنشئوا لهم دولة إسرائيل لتكون رأس جسر يصلون إليه من أوروبا وغيرها من مناطق العالم، ولتكون في الوقت نفسه رأس جسر للنفوذ الأوروبي والمؤامرات الاستعمارية في العالم العربي لتعطيل مسيرة شعوبنا نحو الحرية والوحدة والنهضة الصناعية والاقتصادية.

وكان المفتي "الحاج أمين الحسيني" منذ وصوله لمصر في عام 1946م يحث الإخوان على الدعوة للجهاد في فلسطين، وعلى إعداد المتطوعين للجهاد وتدريبهم وتسليحهم وذهبت أعداد كبيرة فعلاً من الإسلاميين المتطوعين إلى ميادين متعددة في فلسطين وخاصة القدس والنقب واستعانت بها الجيوش المصرية والعربية التي دخلت فلسطين بعد إعلان الإنجليز جلاءهم عنها وتركتها فريسة للمنظمات اليهودية التي أعلنت إنشاء إسرائيل بناء على قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة بتحريض من الدول الأوروبية والأمريكية.

هذه الدول الأجنبية ذاتها هي التي طالبت من الحكومة المصرية في عام 1948م (أي بعد صدور قرار التقسيم من الأمم المتحدة) حل جماعة الإخوان المسلمين ومطاردتها حتى يخرج متطوعوها من فلسطين ويتركوها فريسة للعصابات الصهيونية، فسارعت تلك الحكومة إلى إعداد تقرير من وكيل وزارة الداخلية يتضمن أن الجماعة تجري تدريبات وتجمع أسلحة لعمل انقلاب

في حين أن الحكومة كانت تعلم أن ذلك كله كان موجهًا للدفاع عن الشعب العربي المجاهد في فلسطين، ولكن الدول الأجنبية كانت تعارض هذا الاتجاه وسخرت بعض الحكام ليقوموا نيابة عنها بقمع التيار الإسلامي الذي يعبرعن التضامن بين الشعوب في كفاحها الوطني، وفعلاً فإن الجيش المصري الذي ذهب لمقاومة الاحتلال اليهودي لفلسطين

عندما وقعت مصر الهدنة مع إسرائيل، صدرت إليه الأوامر باعتقال الفدائيين الذين دربهم الإخوان وأرسلوهم إلى ميادين الجهاد والاستشهاد والدفاع عن فلسطين العربية، وقام الجيش الوطني المصري باعتقال الفدائيين وتجريدهم من سلاحهم، وأرسلوا إلى معسكرات الاعتقال في مصر واستمرت المجابهة بين الإخوان والحكومة القائمة في مصر حتى أدت إلى اغتيال زعيم الإخوان ومؤسس الحركة الشهيد حسن البنا

ولم تهدأ الحال في مصر إلا بعد أن استقالت الحكومة السعدية التي قامت بهذه المهمة، وأجريت انتخابات حرة جاءت بحكومة وفدية أفرجت عن المعتقلين ونفذت حكم القضاء الذي أعاد للإخوان حقهم في استئناف نشاطهم وشجعتهم حكومة الوفد بعد ذلك على توجيه نشاطهم الفدائي للقوات الإنجليزية وقواعدها في القناة بعد إلغاء المعاهدة.

في هذا الوقت كان "الملك فاروق" يواصل حملته ضد الإخوان التي بدأها أثناء حرب فلسطين، وكانت القوى الأجنبية تحيطه بفرقة من المنافقين الذين يواصلون تحريضه على السير في طريق الفساد والضلال والطغيان، مما أثار عليه عامة الناس وعقلاءهم وأدى إلى تعاون الإخوان مع الضباط في القضاء على نظامه فيما بعد.

رغم هذا التعاون بين الإخوان والوفد لمقاومة الاحتلال الإنجليزي، إلا أنه كان كغيره من الأحزاب "الوطنية" يقصر اهتمامه على القضية "الوطنية"، في حين كان الإخوان يعتبرونها إحدى القضايا "الإسلامية" ، وأن من يكافح في سبيل حرية الشعب المصري، يلتزم بالدفاع عن حرية شعب فلسطين وليبيا وشمال أفريقيا وغيرها من الأقطار الإسلامية التي تجاهد للتحرر من السيطرة الأجنبية؛ لأن هذا التحرر هدف إسلامي؛ ولأن الحرية الكاملة لهذه الشعوب جميعها لا تضمن إلا من خلال جامعة وتضامن إسلامي شامل ومع ذلك كانت الأولوية في نظرنا للقضية المصرية، وهدفها جلاء الإنجليز عن مصر، ووحدة وادي النيل.

في ذلك الوقت كان عبد الرحمن عزام مشتغلاً بقضية ليبيا وقضية فلسطين، وقضية ليبيا كانت دائمًا تحظى باهتمام خاص من عبد الرحمن عزام الذي استطاع أن يلفت إليها نظر الحكومة المصرية، وبعض الحكومات العربية الأخرى، ويثير حماس كثير من السياسيين للاهتمام بها على أساس أنها مكملة لقضية مصر وكفاحها ضد الإنجليز

بل إنه لم يكن يخفي رأيه أن مصير ليبيا هو أن تنضم إلى مصر عندما تتمتع بحريتها الكاملة، وكانت القضية الليبية تسير سيرًا حسنًا؛ لأن الرجل الذي عينته الأمم المتحدة مندوبًا لها لبحث هذه القضية، وهو المستر "بلنت" كان نزيهًا ومنصفًا، واستمع إلى آراء الوطنيين الليبيين في داخل ليبيا وخارجها، وتعاون مع جبهة تحرير ليبيا التي كانت الجامعة العربية تدعمها وتوجهها بكل جد وإخلاص، وبدأ في إعداد تقريره الذي سيعرض على الجعمعية العمومية للأمم المتحدة في اجتماعها في باريس في نهاية عام 1951م.

لكن الدول الاستعمارية كان لها هدف آخر هو تجزئة ليبيا إلى ثلاث مناطق يسيطر على إحداهما البريطانيون (وهي برقة المجاورة لمصر) والأخرى الأمريكون (وهي طرابلس حيث منابع البترول)، ولا مانع من أن يشاركهم فيها الإيطاليون، والثالثة يسيطر عليها الفرنسيون، (وهي فزان المجاورة لتونس والجزائر)، واستخدموا لتحقيق هدفهم سلاحًا جديدًا هو "الاستقلال".

إن كثيرين لا يتصورون أن الاستقلال الذي تطالب به الحركات الوطنية، وتكافح من أجله الشعوب المطالبة بحريتها يمكن أن يتحول إلى سلاح تستخدمه القوى الأجنبية وأعوانها وسيلة لمنع الوحدة، ويؤدي إلى عزل شعوبنا وإثارة العداء بينها، تمهيدًا لزيادة نفوذها عليها ولكن هذا الأسلوب هو أهم ظاهرة تميزت بها السياسة الاستعمارية التي نجحت في اتخاذ الاستقلال وسيلة لإقرار التجزئة التي يفرضونها، بل ولتثبيتها والمحافظة عليها باسم الدفاع عن السيادة "الوطنية" أو "الاستقلال".

في هذه الفترة شغلت عن متابعة قضايا أفريقيا الشمالية، لكنا فوجئنا بأن الفرنسيين انتهزوا فرصة انشغال الشعوب العربية وحكوماتها بالقضية المصرية والفلسطينية وأرسلوا جنرالاً من مخلفات الحرب هو الجنرال "جوان" لكي ينفذ سياسة القمع والإرهاب ضد الوطنيين في المغرب الأقصى وواصل تهديداته للملك محمد الخامس ليكف عن تأييده لتلك الحركة، وجاء علال الفاسي وأسرته إلى مصر، يسعى لكي تتدخل الجامعة العربية ومصر لدى فرنسا لوقف هذه السياسة الاستفزازية، وسارع الفرنسيون يعدون خطتهم لعزل محمد الخامس واعتقاله هو وأسرته وإبعادهم، لكي يضعوا على العرش أحد أفراد أسرته السلطان "محمد بن عرفة"، الذي قبل أن يكون عميلاً لهم.

ومن حسن حظ الحركة الوطنية المغربية أن حكومة الوفد في مصر في ذلك الوقت كان وزير خارجيتها رجلاً وطنيًا شجاعًا هو الدكتور محمد صلاح الدين، وكان له تأثير كبير على رئيس الحكومة ورئيس الوفد مصطفى النحاس باشا، وكان متعاونًا إلى أقصى حد مع عبد الرحمن عزام، فقادت مصر حكومات الدول العربية وجامعتها إلى رفع قضية التهديد الفرنسي لملك المغرب بشكوى إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها العادية التي تعقد في باريس.

في ذلك العام وضعت القضية المغربية على جدول أعمال اجتماع الأمم المتحدة لدورتها التي عقدت في باريس في خريف عام 1951م، كما أن قضية ليبيا كانت على جدول أعمال تلك الدورة التي كان مقررًا لها أن تعقد في باريس بدعوة من الحكومة الفرنسية، وكنت مستشارًا لوفد الجامعة العربية الذي حضر هذه الدورة في شئون المغرب وشمال أفريقيا.

أتاحت لي فرصة المشاركة مع وفد الجامعة العربية في دورة الأمم المتحدة عام 1951م أن أرى صورة مصغرة واضحة للتحول الذي يصيب بعض "الوطنيين" عندما يتخلون عن قضية كبرى أو التنكر لها كلما لوح لهم الأعداء بمنافع عاجلة في صورة "استقلال داخلي" أو "استقلال وطني" لقد رأيت بنفسي بعض "الوطنيين" الليبيين الذين كانوا يعملون في الجامعة العربية

ويشاركون في جبهة تحرير "ليبيا" يسارعون إلى بلادهم ليشاركوا في حكومة يشكلها "السنوسي" الذي أعلن استقلالها كدولة اتحادية تضم مناطق ثلاثًا لها استقلال داخلي كما يريد الإنجليز والفرنسيون والأمريكان، ومن أجل ذلك كانت هذه الحكومة تهاجم مصر والجامعة العربية والعرب عمومًا بحجة أنهم يهددون الاستقلال الذي أعلنه الملك إدريس السنوسي، ويتهمون العرب الذين يدافعون عن وحدة ليبيا بأنهم يريدون "التدخل" في الشئون الداخلية لبلادهم، ويعرضون عليهم إقامة دولة موحدة وليست اتحادية.

لقد كانت باريس في ذلك الوقت مسرحًا رأى فيه الوطنيون صورًا متعددة تؤكد لنا أن "الاستقلال" الكامل الذي يطالبون به غير الاستقلال الذي يرضى به الانتهازيون العملاء والذي أصبح سلاحًا في يد الاستعمار لفرض التجزئة والفرقة بين شعوبنا. لم تكن الشعوب الناشئة في منطقتنا تتوقع أن يكون الاستقلال وسيلة لتحويل بعض الوطنيين إلى حكام يتولون حراسة الحدود التي رسمها الاستعمار، وينفذون سياسة التجزئة مقابل الحصول على بعض مقاعد الحكم والسلطة أو منافع "الاستقلال الوطني" .

إن الإسلاميين عندما قاوموا الهجوم الاستعماري العسكري على بعض أقطارنا، كانوا يعتبرون أنفسهم مدافعين عن وطن إسلامي كبير وأمة عظيمة عريقة جديرة بهذا الوطن الكبير الذي نسميه دار الإسلام، إن الشعب الذي كان يحمل السلاح في أحد أقطارنا لمقاومة العدوان على أرضه كان في نظرنا يدافع عن دار الإسلام وأمة القرآن التي أقامت دولة إسلامية كبرى تمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي والهادي

لقد كان الوطن عظيمًا، وكان المدافعون عنه لذلك عظماء يمثلون روح المقاومة والنهضة الإسلامية الشاملة العامة هؤلاء هم الإسلاميون الذين لا يعرفون إقليمهم إلا جزءًا من عالم إسلامي كبير متضامن عظيم وهذا التضامن كان الأساس الذي دعا المتطوعين المصريين للدفاع عن ليبيا مثل عبد الرحمن عزام، أو عن فلسطين كما فعل متطوعو الإخوان، وعن كل شبر من أرض الإسلام يحتله الأجانب بما في ذلك المتطوعون من الإخوان للدفاع عن مصر في منطقة القناة.

إن الجهاد في الإسلام واجب علينا ضد أعداء الأمة الكبيرة المعتدين عليها، ولو كان العدوان على أحد أقاليمها أو قطر من أقطارها؛ لأن المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منع عضو داعى له الجسم كله. في نظرنا أن اعتراف الدول الاستعمارية بالاستقلال الوطني لبعض أقطارنا لم يكن هذه تحريرها من سيطرتها ونفوذها، بل كانت تسخدمه وسيلة لاستقطاب العناصر التي تغريها منافع الحكم وسلطاته، وتحويلها إلى عملاء ينفذون خطتها لضرب الوحدة

وبذلك كان الاستقلال وسيلة لفصل كل شعب عن الشعوب الشقيقة المجاورة، وتصبح الدعوة إلى التقارب أو الاتحاد أو الوحدة خطرًا على "الاستقلال الوطني" ، وتتقدم الدول الأجنبية المتسعمرة لكي تقوم بدور من يحمي هذا الاستقلال، وتعرض خدماتها لمساعدة الحكام الوطنيين في المحافظة على استقلالهم الذي يعني استمرار التجزئة، وتعميق الفرقة بين شعوبنا وأقطارنا ودولنا.

بين الحكم "الوطني" العصري والتيار الإسلامي"

وطن الإسلاميين هو "دار الإسلام" التي تضم جميع شعوب العالم الإسلامي؛ لذلك نعتبر الكفاح من أجل هذه القضايا جميعها كفاحًا إسلاميًّا وطنيًا في نفس الوقت وأذكر أن من أوائل القضايا التي دافع عنها الإخوان المسلمون عقب الحرب العالمية الثانية بواسطة "قسم الاتصال بالعالم الإسلامي" الذي كنت أعمل في إطاره عقب تخرجي في الجامعة كانت قضية استقلال أندونيسيا

وكان يعمل معنا مجموعة من خيرة الطلاب الأندونيسيين الذين درسوا في مصر أثناء الحرب، وكان أبرزهم الشهيد إسماعيل بندا الإندونيسي، ولم يكن هناك أي شبهة في أننا نعتبر قضية هذه البلاد النائية مكملة لقضية الجلاء البريطاني عن مصر ووحدتها مع السودان، وكذلك قضايا فلسطين وشمال أفريقيا والصومال وغيرها. هذا هو الأفق الواسع الذي نعمل في إطاره كحركة إسلامية، هدفها وحدة العالم الإسلامي وحرية شعوبه كلها الكاملة.

إن عقيدتنا وتراثنا الفكري كان يفرض علينا أن نرفض شعارات الوطنية العصرية القطرية؛ لأنها يمكن أن تصبح خطرًا على شعوبنا بأن تدفعها إلى قبول التجزئة التي فرضها الاستعمار، وتدفع بعض حكامها وقادتها للسير بها نحو التنكر للوحدة الشاملة ا لتي يفرضها الإسلام، إن الظروف الدولية عقب الحرب العالمية الثانية فرضت علينا أن نؤيد حركات الكفاح الوطني، ونساهم في نضالها مساهمة جدية كان لها الفضل الأكبر في نجاح الأحزاب الوطنية في الحصول على "الاستقلال الوطني".

كان أساس مساهمتنا أن العمل الوطني هو جزء من الجهاد الإسلامي، وهو مرحلة من مراحلح؛ لأن الاستقلال يفتح لنا الطريق أمام تحقيق آمال شعوبنا في الوحدة والعدل الاجتماعي والنهوض الاقتصادي. والآن يكتشف كثير ممن دعوا للاشتراكية أن المنهج الصحيح لتحقيق هذه الأهداف في نظر شعوبنا هو الإسلام، وليس الماركسية التي تؤدي إلى التبعية للاتحاد السوفياتي.

بذلك استرد التيار الإسلامي شموله في ميدان العمل، بعد أن كافحت الحركات الإسلامية سنين طويلة للدفاع عن الإسلام وقدرته على تحقيق مطامح أمتنا في جميع نواحي حياتها الاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية، ابتداءً من الاستقلال الكامل، إلى العدل الاجتماعي والنمو الاقتصادي والتقدم العلمي. كنا نجد في كل قطر من هذه الأقطار أحزابًا وهيئات وجماعات "وطنية" كانوا يتعاونون معنا ويطلبون مشاركتنا ومساعدتنا طالما كانوا في حاجة إلينا، وعندما يظنون أنهم حققوا هذا "الهدف الوطني" يتحولون إلى حكام يستسلمون للمطامع الحزبية والشخصية ويعتبرون أن كفاحهم قد انتهى

ولم يعد أمامهم إلا التنافس على المناصب والمكاسب ويتخلون عن المستقبل الذي لا يمكن أن يحققه "الاستقلال السياسي الوطني" الذي نعتقد نحن أنه لا يحقق لشعوبنا حرية حقيقية ولا سياسة استقلالية، ولا اقتصادًا ذاتيًا متكاملاً وال وحدة شاملة فرضها الإسلام على أمتنا لكي تقوم بدورها الحضاري في التاريخ الإنساني.

منذ اللحظة التي ينشغل فيها الوطنيون بالاستقلال الوطني، يبدأ الانفصال بينهم وبين الإسلاميين جميعًا، ويعتقدون خطأ أن صفة العصرية تنحيهم عن الإسلام بل ظن بعضهم أنها تتعارض معه، ويبدأ كثير منهم سياسة المهادنة والتعاون مع القوى الأجنبية ومما يؤسف له أن كثيرين من هؤلاء الحكام "الوطنيين" يتولون مقاومة الحركات الإسلامية، ويعملون للقضاء عليها بأساليب دنيئة وحقيرة كان الاستعمار نفسه عاجزًا عن القيام بها مباشرة بنفسه.

إن من ل يعش هذه الأحداث كما عشتها لا يستطيع أن يدرك إلى أي مدى تصل عملية الغش (الوطني) عندما تلتزم الحكومة "الوطنية" العصرية بالاعتدال مع العدو الأجنبي وتتراجع في موقفها من القوى الاستعمارية – ولإخفاء تنازلاتها وضعفها وجبنها وخيانتها لشعبها – التي لا يقرها الإسلاميون – تلجأ إلى تلفيق اتهامات توجهها إلى الحركة الإسلامية زاعمة بأنها تخل بالأمن أو تدبر المؤامرات، وتصور الخلاف بينها وبين الحركة الإسلامية على أنه صراع على مقاعد السلطة والحكم لتستر الخلاف الحقيقي حول إصرار الإسلاميين على مواصلة الجهاد ورغبة الحاكمين في الخضوع للمطالب الأجنبية.

هذه هي الصورة الحقيقية لما حدث في مصر في فترة غيابي في فرنسا، عندما أوعزت الحكومة السعدية إلى وكيل وزارة الداخلية ليؤلف مذكرة تؤكد أن الإخوان المسلمين يخلون بالأمن في "مصر" ، ولابد من القضاء عليهم لتأمين الشعب المصري من خطرهم في حين أن الهدف هو تأمين إسرائيل في فلسطين وعقد الهدنة معها، وتصفية الجهاد في فلسطين لإرضاء حلفائها الاستعماريين في أوروبا وأمريكا.

وقد تكررت المسرحية في عهد الحكم العسكري بعد عودتي لمصر بإصدار قرار جديد بحل الإخوان 1954م، بحجة وقوع مصادمات بين الطلبة في الجامعة، ولما وجدوا أن هذا الاتهام لا يقنع الرأي العام، لجئوا إلى مستشاريهم الأجانب بعد ذلك، فدبروا لهم الأمر بصورة أكثر دقة وتكنولوجية نازية استفادت من عملية حريق (الريشستاغ) التي دبرها هتلر للقضاء على خصومه

وكانت حادثة المنشية الملفقة المدبرة كافية لاعتقال جميع الإخوان والحكم على زعمائهم بالإعدام في 1954م، وكنت من أوائل من سجنوا وعذبوا ليس فقط بسبب قضية الإخوان، بل لقد اكتشفت وأنا في السجن أن اعتقالي كان له علاقة بعملي من أجل قضايا إفريقيا الشمالية.

كنا نظن أنهم يستعينون فقط بالمستشارين الأمريكيين، ولم يخطر ببنالنا أن الفرنسيين يمكن أن يكون لهم صلة بالحملة الجديدة على الإخوان، ونسينا أن الحملة الأولى عام 1948م كانت بناء على طلب سفراء الدول الاستعمارية الثلاث، وأن قرار الحل جاء خضوعًا لضغوط أجنبية لمصلحة الاستعمار وإسرائيل، وستبقى مسألة التواطؤ بين الفرنسيين وحكام مصر العسكريين ضد الإخوان المسلمين موضوع بحث طويل، قد يفيد فيه قصة صديقنا السيد "بوزوزو" .

قصة (بوزوزو) ذكرها لي في أحد لقاءاتي معه في جنيف، حيث يقيم ويعمل أستاذًا للغة العربية بجامعتها، هي أنه كان على صلة ببعض الإخوان الذين يعملون مع الدكتور سعيد رمضان في المركز الإسلامي بجنيف، وكانوا يرسلون له بعض كتب الإخوان ومنشوراتهم على عنوانه في الجزائر، وأنه فوجئ في صيف عام 1954م، بأنه اعتقل دون أن يعرف سببًا لهذا الاعتقال

وبقي في السجن فترة بعد أن استجوب عن علاقته بالإخوان المسلمين، وأنه في أوائل عام 1955م استدعاه الضابط الفرنسي الذي حقق معه، وقدم له عددًا من مجلة فرنسية مصورة هي "باري ماتش"، وفيها صورة الشهيد عبد القادر عودة وبعض زعماء الإخوان الذين شنقوا في مصر، فسأل الضابط: وما شأني بهذا، قال له أردت أن أعرفك أننا نعاملكم أفضل بكثير مما يعامل به إخوانكم في مصر.

أخرج "بوزوزو" من الجزائر إلى أوربا، مثل غيره من الإسلاميين الهاربين من اضطهاد الحكومات الوطنية، وما زال هناك مئات من شباب الإخوان الذين اضطروا للخروج من بلادهم إلى أوروبا وأمريكا هروبًا من ظلم الحكم "الوطني"، رغم أنهم كانوا واثقين أن كل ما كان يفعله الحكام الوطنيون هو بتحريض الدول الأجنبية وتشجيعها ولصالحها، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

لقد كان "بوزوزو" يمثل جيلاً من رواد العمل الإسلامي في شمال أفريقيا، الذين اتصلوا بالإخوان في مصر وجندوا أنفسهم للعمل الإسلامي الذي لا يعرف الحدود الوطنية وكان منهم كثيرون من أبناء أفريقيا الشمالية، الذين درسوا في مصر أو في المشرق العربي وقاموا بدورهم في نشر الدعوة في بلادهم، وكانوا نواة الصحوة الإسلامية هناك

وفي فترة الكفاح الوطني كانوا يلتزمون بالخط الذي رسمه الإخوان لحركتهم، وهو تدعيم الكفاح الوطني إلى أن تحصل تلك الشعوب على استقلالها لكن الفرنسيين كانوا يعرفون أن خطرهم على نفوذهم بعد الاستقلال لابد من مواجهته في وقت مبكر، فكان أول ما فعلوه عندما بدأت ثورة الجزائر أن اعتقلوا كل من له صلة بفكر الإخوان أو دعوتهم.

وفي مصر والشرق العربي كانت الحكومات العربية تعلن تأييدها الحماسي لكفاح الشعب الفلسطيني، وتزايد كل منها على غيرها في أسباب هذا التأييد ومظاهره، ومنها ذهاب متطوعين من أفراد الشعب لمشاركة الفلسطينيين في نضالهم، وكان الإخوان المسلمين وبعض الحركات الإسلامية هي التي تقدمت الصفوف لتدريب المتطوعين وتسليحهم، وإرسالهم إلى ميادين القتال ضد العصابات الصهيونية في فلسطين، وكانوا يعلمونهم أن الجهاد الإسلامي هدفه إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.

ولما ضغطت القوى الاستعمارية على الحكومة المصرية والحكومات العربية الأخرى لكي تعقد هدنة مع العصابات الصهيونية في "ردوس" لم تجرؤ الحكومة المصرية أن تعلن للناس أن من بين الشروط التي فرضها الاستعمار لعقد هذه الهدنة هو أن تتولى الجيوش "الوطنية" نزع سلاح المتطوعين المصريين، وغيرهم وإخراجهم من فلسطين وترك الفلسطينيين وحدهم

لكي يتولى الإسرائيليون إخراجهم أو إبادتهم، وأنهم يعتبرون أن الهدنة معناها وقف القتال وإلغاء فريضة الجهاد، إنهم وجدوا أنهم لا يستطيعون إلزام الفدائيين الإسلاميين بوقف القتال ولا أن يصرفوهم عن القيام بفريضة الجهاد؛ إنهم ذهبوا هناك لكي يحصلوا على "النصر أو الشهادة" لا على الهدنة!

إن هدنة الحكومات الوطنية مع العدو الإسرائيلي كانت تحرمهم من الحسنيين اللتين يتمناهما كل مجاهد؛ إن الحكومات التي قررت أن تكتفي بالهدنة ألزمت نفسها بتصفية المجاهدين، لكي تبقى في مناصب الحكم لكنهم لا يجرءون على أن يعلنوا لشعوبهم أنه في دولتهم "المستقلة" لا تستطيع حكومة "وطنية" أن تستمر في السلطة إذا لم ترضح لمطالب الدول الأجنبية الكبرى، إنهم لا يجرءون على الاعتراف أمام شعوبهم أن الاستقلال الذي جاء بهم إلى مناصب الوزارة والرئاسة مزيف لأنه لا يضمن لشعوبنا الحرية، ولا حقها في أن يكون لها حكومة لا ترضى عنها الدول الاستعمارية ولو كان الشعب كله يؤيدها.

وعادت الجيوش الوطنية من فلسطين لأنها لم تستطع أن تدافع عن الشعب الفلسطيني، ولا عن حكومة عموم فلسطين، ومصر أخرجت الفدائيين من الإخوان، وجميع الفدائيين الذين أرسلهم الإخوان للدفاع عن الشعب الفلسطيني وصدر الأمر باعتقالهم، وأرسلوهمن مقيدين إلى معتقلات جبل الطور في سيناء، بعد ذلك قررت حكومة الوفد الإفراج عنهم تحت ضغط الرأي العام

واضطررنا أن نرفع قضية استمرت سنوات حتى صدر حكم لصالحنا من مجلس الدولة، وكلما استعادوا نشاطهم عادت الحكومات لاضطهادهم وحل جماعتهم بتحريض من القوى الأجنبية؛ لأن الإخوان كحركة إسلامية تعكر الجو على الحكام الوطنيين وتجلب عليهم التهديدات من الدول الأجنبية التي يسعى الوطنيون ويتبارون في إرضائها...

مهادنة المستعمر ومعاداة الحركة الإسلامية

عندما عدت إلى مصر بعد حريق القاهرة في عام 1953م، كان المرشد الأول الشهيد "حسن البنا" قد اغتاله عملاء فاروق في فبراير عام 1949؛ ولذلك فإن الإخوان بعد صدور الحكم لصالحهم قد بدءوا باختيار المرشد الجديد، وكان لي دور هام في ترشيحه وانتخابه، وهو المرحوم المستشار "حسن الهضيبي" ، وفي عهده تعاون فريق من الإخوان مع الضباط لإزاحة "فاروق" وحكمه بعد خيانته لقضية فلسطين وللوفد، وللقضايا الوطنية وغيرها. لقد تنكر للوفد وعزل حكومته بعد حريق القاهرة، لكنه كان قد تنكر للإخوان قبل ذلك، وهو الذي دبر اغتيال "حسن البنا" ...

إننا يجب أن نسجل هذه الظاهرة الخطيرة، وهي أن بعض الحكام في بلادنا عندما يريدون أن ينفذوا سياسة الاعتدال والمهادنة والتعاون مع العدو الأجنبي فإن ذلك يستلزم عادة في نظرهم انتهاج خطة العنف والقمع والإرهاب ضد التيار الإسلامي، وهم يعلمون أنهم إنما يفعلون ذلك إرضاء لقوى أجنبية وتنفيذًا لنصائحها أو توجيهاتها، إلا أنهم يخفون ذلك عن شعوبهم

ويبحثون عن أسباب داخلية ليبرروا هذا القمع مدعين بأن الإسلاميين ينازعونهم في السلطة، ويلفقون لهم تهم "التآمر لقلب نظام الحكم"، ويحاكمونهم، ويحكمون عليهم بالسجن أو القتل، وتساعدهم أجهزة الإعلام الداخلية التي يسيطرون عليها ظاهريًّا ولكن بعض المراكز الأجنبية الصهيونتية والصليبية هي التي تسيطر عليها فعلاً، كما تسيطر على أجهزة الإعلام العالمي التي تقدم نمو التيار الإسلامي على أنه مظهر من مظاهر التخلف لدى شعوبنا.

إن القوى الأجنبية تصور الخلافات السياسية بين التيار الإسلامي وبعض الحكومات على أنه صورة من صور الصراعات الدموية أو المؤامرات المتوالية، والحقيقة أنهم هم الذين تآمروا وفرضوا على الحكام الوطنيين أن يختلقوا هذه الأسباب الواهية الزائفة لتبرير هجومهم على الإسلاميين ويروجوا الاتهامات الزائفة حتى لا تظهر الأسباب الحقيقية التي تشير إلى الضغوط الأجنبية والنصائح الاستعمارية.

وهناك حقيقة أهم وأخطر يجب أن نعتز بها، وهي أن رواسب التخلف تظهر في دائرة المجموعات التي تمارس السلطة بتدعيم من القوى الأجنبية ورضاها، حتى ولو كان بعضهم يرفع شعارات وطنية أو قومية، أما جمهور شعوبنا فإنه قد تحرر من هذه الرواسب وتطهر منها إلى حد كبير، بعد تكرار هذه المسرحيات وتعددها، والدليل على ذلك انحيازه الكامل لجانب الصحوة الإسلامية التي لا يمكن أن تتخلى عن الجهاد الذي فرضه الإسلام ليكون دائمًا وماضيًا إلى يوم القيامة حتى تحصل جميع الشعوب على حريتها الكاملة.

من أهم خصائص جهادنا الإسلامي أنه لا يمكن أن يقبل الفصل بين قضايا الشعوب الإسلامية، ولا أن يسمح لبعض الحكومات "الوطنية" أن تصرف شعوبنا عن الجهاد من أجل هذه القضايا جميعًا، ولا أن تمنعها من تحمل مسئولية هذا الجهاد بحجة أنها تحصل مقابل ذلك على منافع من حلفائها أو سادتها الأجانب، أو مساعداتهم العسكرية أو قروضهم التي تتحول إلى سلاسل وأغلال تقيد حريتنا، وتذل شعوبنا وتحول بينها وبين بناء اقتصادها وفرض إرادتها.

جميع المصاعب التي يواجهها التيار الإسلامي في مصر وغيرها من البلاد، إنما ترجع إلى أن أعدائنا يعرفون جيدًا أن الشعوب تستجيب لدعوة الإسلام، وتصر على مواصلة الجهاد الذي يهدد السيطرة الأجنبية على شعوبنا واستغلالها لثرواتنا ونهب بترولنا وأموالنا. ومما يؤسف له أن بعض عناصر "الوطنيين" تعتبر أنه لا يجوز للتيار الإسلامي أن يواصل عمله مع الجماهير، وتجعل بعض الحكومات من نفسها أدوات لتنفيذ خطط القوى الأجنبية والصهيونية، بل إن فيها عناصر تشارك القوى الأجنبية في استغلال شعوبنا وإذلالها وتكون هذه العناصر أقلية في مرحلة الكفاح والتضحية، لكن عندما يصل الأمر إلى مقاعد الحكم ومناصب السلطة

ينضم إليهم فرق المنتفعين الذين يحسنون النفاق ولديهم وسائل عديدة للتأثير، ويقومون بدور خطير في تحويل الحكم الوطني إلى أداة للاستغلال والسيطرة وإذلال الشعوب والاستبداد بها، والاستكبار عليها إرضاء لشهواتهم بعد أن كان تنفيذًا لنصائح الحلفاء الأجانب المستعمرين، هذا هو ما شاهدناه في كثير من بلادنا.

لقد كانت حكومة الوفد تتعاون مع الإخوان في حركة الفدائيين في القناة، رغم أنها لم تجرؤ على أن تعترف لهم بالوجود القانوني إلا بعد أن حكم لهم القضاء بالحق في ذلك وبعد ذلك استجابت لضغوط الرأي العام وألغت المعاهدة التي أعطت للإنجليز الحق في أن يكون لهم قواعد عسكرية في القناة، واعتبرت وجودهم غير قانوني وشجعت الأعمال الفدائية التي كان الإخوان ينظمونها ضد القواعد الإنجليزية في القناة، وكان كثير من هؤلاء المتطوعين قد خرجوا من معتقل الحكومة السعدية التي أصدرت قرار حل الإخوان، ولكنهم انضموا إلى كتائب الإخوان الفدائية في القناة.

وفجأة حدث حريق القاهرة، وكان من الواضح أنه دبر بقصد إخراج حكومة الوفد نتيجة شجاعتها "وتهورها" وأن الملك هو الذي دبره مع عملاء القوى الأجنبية، وانتهز الفرصة وتمادى في طغيانه، فتعاون الإخوان مع الضباط الذين قاموا بالحركة (المباركة) التي أزاحت فاروق، وأ‘لنت أول جمهورية في مصر، وكان الإخوان متعاونين مع بعض الضباط "الوطنيين"

ولكن كما هو الحال بالنسبة لجميع الوطنيين انفصلوا عن الإسلاميين عندما وصلوا للسلطة؛ لأن الإخوان المسلمين متطرفون، وكانوا متطرفين في المطالبة بالجلاء الكامل ومسألة الوحدة مع السودان، أما الحكام العسكريون فإنهم باعوا قضية الوحدة مع السودان، وباعوا الإخوان المسلمين الذين شاركوهم في الثورة من أجل الحصول على معاهدة أخرى تضمن لهم الانفراد بالسلطة

وعللوا ذلك بحجة أنهم لا يريدون "وصاية" من الإخوان، والحقيقة أنهم لا يريدون وصاية الشعب على حكامه؛ لأن ما يسمونه وصاية هو مشاركة الشعب نفسه في القرارات ومسئولياتها إنهم لا يريدون من الشعب أن يكون مشرفًا ووصيًا عليهم، إنهم حصلوا من القوى الأجنبية على تفويض يمكنهم من الانفراد بالسلطة دون رقابة شعبية، بل ليكونوا هم أوصياء على الشعب كله.

ولم أكن أتصور أن يستدرج حكام مصر إلى التنكر للسياسة التي سارت فيها الجامعة العربية من تأييد الحركات الوطنية وتشجيعها على مواصلة نضالها للحصول على الاستقلال دون تدخل في شئونها أو تحريض على إحداث انقسامات بداخلها، ولكن تألمت عندما رأيت بوادر هذا الاتجاه العسكري، منذ بدأت المشكلة بينهم وبين الإخوان، وقد كانت أول خطوة أقدموا عليها هي إبعاد عبد الرحمن عزام من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية ليحولوها إلى جهاز يسيره بعض "الضباط" بكل أسف.

وأذكر أنني كنت في مجلس عزام بمنزله بعد ذلك، وكان هناك أحد الصحفيين الأجانب الذي قال إنه عندما سأل عبد الناصر عن سبب خروج عبد الرحمن عزام من الجامعة رغم أنه كان القوة الدافعة لها منذ إنشائها، فكان الجواب الوحيد أنه طراز قديم "Out of Date".

ولم يكن هذا الوصف مقصورًا على عبد الرحمن في نظر هؤلاء المراقهين، بل كان ينطبق في نظرهم على الإخوان المسلمين، وعلى جميع الأحزاب الوطنية في المشرق والمغرب العربي، والحزب الوحيد الذي قبلوا أن يتحالفوا معه لأنه عصري جدًا هو حزب البعث الذي أنشأه "ميشيل عفلق"، الذي كان يمثل في نظرنا مخلب قط لأجهزة الاستخابات الأجنبية بجميع أنواعها، بما في ذلك الاستخبارات الفرنسية والصهيونية.

لقد تألمت كثيرًا؛ لأن أرى بعيني تدخل حكام مصر "العسكريين" لزيادة الشقاق والفرقة بين الجزائريين، بل أيضًا في صفوف التونسيين والمغاربة، وزاد في ألمي أن تدخلهم أخذ صورة سياسية جديدة هدفها استقطاب بعض المواطنين من أقطار شمال أفريقيا للتعاون مع الحكام الجدد في مصر، الذين شجعوهم للانفصال عن الأحزاب الوطنية بحجة أنها طراز قديم مضى زمانه، وأن قياداتها لا تقبل التعاون معهم...

وكان من بين الأدلة التي سمعت بأنهم قدموها لمن يتقربون إليهم من الوطنيين على أن قيادات الأحزاب "التقليدية" لا تتعاون معهم هو الادعاء أن لهم صلة بالإخوان المسلمين أو أنهم مكنوا الإخوان من اختراق صفوف تلك الأحزاب، وأنني ذكرت على أنني أول نموذج لهذا الاختراق.

وقصة هذا الاختراق المزعزم من تأليف المخابرات الفرنسية، فهي التي كانت حريصة على عزل الأحزاب الوطنية في جميع الأقطار الإفريقية عن التيار الفكري الإسلامي في العالم العربي، بل وفي جميع أنحاء أفريقيا، واستطاعت بكل أسف أن تقنع الحكومة الناصرية بالموافقة على غرس عملاء لها، مهمتهم الأولى هي التجسس على أعضاء الأحزاب الوطنية ممن تكون لهم ميول إسلامية بحجة أن هؤلاء هم أنصار للإخوان

أو أن مصيرهم أن يتحالفوا مع "الإخوان المسلمين" في المستقبل، أو أن يكونوا أصوليين أو متطرفين وقد نجح الفرنسيون في ذلك نجاحًا كبيرًا في الحزب الدستوري التونسي الجديد واستغلوا طموح بعض قادته وشجعهم عملاء فرنسا على مهاجمة كل أصحاب الثقافة الإسلامية وإخراجهم من صفوف الحزب، بحجة أنهم من الدستور القديم الذي كان قادته من علماء الزيتونة المحافظين الذين ليسوا من أنصار الثقافة الفرنسية ولا يستطيعون مخاطبة فرنسا باللغة الفرنسية التي يتكلم بها قادة "الحزب الجديد".

وفي حزب الاستقلال المغربي بدأت العملية على يد عملاء فرنسا الذين استغلوا غياب "علال الفاسي" عن بلاده لنفخ بعض القيادات التي بقيت في المغرب مثل (بلا فريح)، وأقنعوهم أنهم أولى منه بقيادة الحزب ورئاسة الوزراء؛ لأنه لا يحسن اللغة الفرنسية ولأنه من علماء القرويين، إنهم دفعوا القيادة الداخلية وعلى رأسها الحاج أحمد بلا فريح لتأليف أول وزارة وطنية في غياب علال الفاسي الذي بقي رئيسًا للحزب يقيم خارج البلاد

ولا يرأس الوزارة ولا يكون له صوت فيها، لكن "علال" صبر على ذلك ولم يعترض عليه، وبقي بعيدًا عن وطنه، ولما عاد لبلاده ظهر انشقاق آخر قاده ابن بركة وزملاؤه الذي تحالفوا مع عبد الناصر بحجة أنهم يريدون أن يسيروا بالحزب إلى المنهج الاشتراكي الذي أصبح "موضة" العالم كله به الحرب العالمية الثانية، والذي رفع العسكريون في مصر شعاراته

ولكن كانت مهمته الحقيقية في العالم العربي في نظر القوى الأجنبية الاستعمارية هي نشر النظريات الاشتراكية كوسيلة لعزل الجماهير والأحزاب عن أصولها الإسلامية وإبعاد العناصر الإسلامية عن تلك الأحزاب وحكوماتها، واتهامهم بأنهم رجعيون أو أنهم يؤيدون الإخوان المسلمين إذا اقتضى الأمر ذلك

بعد أن تولت الدعاية الاستعمارية وأبواق الاستعمار الأوروبي مهاجمة الإخوان وتخويف الحكام "الوطنيين" من تزايد نفوذهم وانتشار دعوتهم بزعم أن لهم مطامع في الحكم الذي هو حق "الوطنيين" العصريين وأنصارهم وحدهم، وزاد في عداء هؤلاء العصريين للحركات الإسلامية أن بدأت الجماهير تنصرف عنهم بعد أن شاهدوا تنافسهم على المناصب والغنائم والرئاسات، وفشلهم في تحقيق أي تقدم جدي في النواحي الاقتصادية أو السياسية.

في الجزائر كانت الخلافات بين فريق مصالي وفريق اللجنة المركزية قد خلقت جوا من اليأس لدى الشباب والطلاب عامة، بل والعمال كذلك، ولم يعد للحزب نفوذه في فرنسا كما كان قبل ذلك وأصبح في مستوى الأحزاب الوطنية الأخرى، وتصادف أن كثر عدد الطلاب السوريين والمصريين من الإخوان خاصة ومن الإسلاميين عامة في فرنسا فسدوا الفراغ الناتج عن هذا اليأس واستقطبوا عددًا كبيرًا من الجزائريين والتونسيين والأفارقة عامة المقيمين في فرنسا

ووصلت دعايتهم إلى الجزائر نفسها بين الشباب والطلاب والعمال الذين كانوا يبحثون عن طوق نجاة للخروج من محنة الانقسام والشقاق داخل حزب الشعب ووجدوا في أفكار الإخوان والدعوة الإسلامية المنقذ الوحيد لشعبهم من هذه الفتنة فأقبلوا عليها بصورة أزعجت الاستخبارات الفرنسية، فرسمت خطتها للتحالف مع بعض الأجهزة المصرية أولاً ثم الأجهزة الأجنبية الأخرى كالموساد المعادية للإخوان

وتعاونت معها في تنفيذ عملية لاقتلاع حركة الإخوان من جذورها في مصر بواسطة النظام العسكري النصاري فبدأ الناصريون هجومًا ثانيًا على الإخوان في عام 1954م بعد أن فعل السعديون ذلك في عام 1948م عندما قام النقراشي بإصدار قرار حل الإخوان لإرضاء الدول الأجنبية وقد صدر قرار "النقراشي" نتيجة تحريض رسمي من سفراء الدول الكبرى الثلاث (بريطانيا وفرنسا وأمريكا).

كانت الدول الكبرى في غرب أوروبا وشرقها بما في ذلك الكتلة السوفياتية تتنافس في الالتفاف حول الأحزاب الوطنية، وكان هناغك تسابق بين الكتلة الغربية والشرقية على النفوذ في الحركات الوطنية، ولكن الطرفين كانا متفقين على أن مصلحتهما هي استبعاد التيار الإسلامي من الميدان السياسي ومن السلطة في الدول الإفريقية عامة، والإسلامية والعربية خاصة، التي تسعى لكي تحصل على استقلالها وتحلم بالوحدة

فاستغلوا طموح الأحزاب الوطنية وقياداتها، ولوحوا لهم بالاستقلال بشرط أن يقوموا بقمع الحركات التي ترفع شعارًا إسلاميًا ووقف تيار الدعوة والثقافة الإسلامية والعربية، وكانت الاشتراكية والشيوعية لا تقل عن الأحزاب المسيحية حرصًا على تحقيق هذه الأهداف بل إن الدول الاستعمارية الغربية لم تكن تتردد في التعامل مع الاشتراكيين والتعاون معهم، ولو كانوا شيوعيين بل كانت تدفع بعض عملائها لرفع شعارات اشتراكية طالما أنهم يتولون التشهير بالإسلام وتاريخ وثقافته، بل وعقائده وتراثه بصورة لا تستطيع الكنائس والجماعات التبشيرية والتنصيرية أن تصل إليها.

كان عملاء الشيوعية ودعاتها أشد حقدًا على التيار الإسلامي؛ لأنهم كانوا يسعون للسيطرة على الطبقات الفقيرة الكادحة، وكانوا يجدونها أشد تشبثًا بالعقيدة والشعائر الإسلامية من المثقفين والبرجوازيين، وكانوا يعتبرون نمو التيار الإسلامي أكبر خطر على مستقبلهم ووجودهم، وكانوا أكثر تأثيرًا على بعض النظم الوطنية بعد الاستقلال التي كان زعماؤها سعداء لأنهم يعتقدون أن الكتلة السوفياتية والدول الاشتراكية كانت تؤيد شعاراتهم للتحرر من الاستعمار الغربي

وكانوا لذلك يتفقون معهم في أن هذه المساعدة تبرر أن تحل الكتلة السوفياتية محل الكتلة الغربية في نفوذها لدى تلك الحكومات كليًا أو جزئيًّا وكانوا مثل عملاء الغرب يكرهون شعار الإسلاميين "لا شرقية ولا غربية"؛ لأنه يغذي طموح الجماهير الكادحة بالتطلع إلى استقلال كامل، ويكشف لها انحياز الاشتراكيين للاتحاد السوفياتي

ويشوه بطولتهم التي يعتمدون عليها لاستقرار السلطة في أيديهم التي لا يمكن أن تتحقق لهم إلا بسلاح مستورد أو تأييد من الدول الأجنبية، ودعم سياسي دولي يأملون في الحصول عليه من تلك الدول الأجنبية الشرقية أو الغربية، والجميع يلحون عليهم في استبعاد التيار الإسلامي والشعارات الإسلامية، مقابل حصولهم على التأييد والمساعدات والأسلحة والقروض والدعاية العالمية القوية.

هذه هي العوامل الحقيقية التي أثرت في اتجاهات الوطنيين الذين يعتبرونأنفهسم عصريين جميعًا، وأغرتهم، بل ودفعتهم دفعًا إلى معاداة التيار الإسلامي في جميع صوره بما في ذلك الهجوم على الإخوان المسلمين، وعلى الحركات الإسلامية كلها، ويخطئ من يظن أن ذلك كانت له أسباب داخلية كما صورته بعض الدعايات الحكومية

لقد كنت واثقًا أن اعتقالي واعتقال الإخوان المسلمين واضطهادهم منذ عام 1954م، كان له هدف يتجاوز حدود مصر، بل حدود العالم العربي كله؛ لأنه يتصل بسياسة الدول الكبرى الرغبة في السيطرة على جميع أقطار العالم الإسلامي في آسيا وأفريقيا جميعًا، واعتقادي أن الدول أو الأحزاب "الوطنية" التي شاركت في هذه الحملة قد استغلت وخدعت، لتحقيق هذه السياسة الاستعمارية سواء أدركت ذلك أو كانت تجهله.

هناك دلائل واضحة على أن استخبارات الدول الاستعمارية استطاعت أن تخترق أجهزة المخابرات التي أنشأتها بعض النظم "الوطنية" بصورة عاجلة ودون التزام بالدقة والاحتياط، واستطاع هؤلاء العملاء أن يوجهوا تلك الأجهزة لتضليل الحكام واستدراجهم إلى الهجوم على الحركات الإسلامية والإخوان المسلمين بصفة خاصة، ولم يكن ذلك لصالح نظمهم أو حكوماتهم أو دولهم كما كانوا يعتقدون، وإنما تم ذلك لصالح الأهداف الاستراتيجية للسياسة الأجنبية والاستعمارية.

مهمة جزائرية في فرنسا في صيف عام 1954م

عندما زرت فرنسا للمرة الثانية في نهاية عام 1951م، ويناير 1952م كانت بوادر الانقسام في حزب الشعب الجزائري تزعجني، خصوصًا وأن الأنباء كانت تؤكد تفاقم الخلاف وزيادة حدته، ومع ذلك بقي عندي الأمل في إصلاح ذات البين، وشجعني على ذلك أن المجموعة التي تقيم في مصر كلها تسعى بجد وإخلاص لكي تسوي الصف وخصوصًا أن الشقاق بدأ من الجزائر نفسها بين اللجنة المركزية وبين الزعيم مصالي.

أما إخواننا الذين كانوا في مصر، فكانوا طرفًا ثالثًا، وكانوا يبكرون ويتألمون لهذا الصراع الداخلي بين الزعيم وبين اللجنة المركزية، وقالوا لي مرارًا إنهم يسعون للتوفيق بين الطرفين، وأنهم يلتقون مع بعض المجاهدين في أوروبا، وفي أحد هذه اللقاءات شهر أبريل (1954م) اتفقوا على أن أحسن وسيلة لإخراج الحزب من حالة التمزق والشقاق هي أن يبدءوا عمليات فدائية؛ لأن الجميع سيتحدون في ميدان الفداء والاستشهاد.

وأذكر أنه في أوائل الصيف في شهر مايو 1954م، حضر إلى منزلي أحمد بن بللا وأسرَّ إليّ أنه كان في سويسرا، وأنهم اجتمعوا هناك مع قيادات الداخل، واتفقوا على أن حددوا موعدًا لبدء العمل الفدائي في الجزائر بعد ستة أشهر في شهر نوفمبر (1954م)، وأهم يرون أن من المصلحة أن يبذلوا محاولة أخيرة للمصالحة بين قادة الحزب

واقترح عليّ أن أسافر إلى فرنسا لمقابلة "مصالي" ومحاولة إقناعه بالتعاون معهم لإزالة أسباب الخلاف وأنهم سيتولون هم التفاهم مع اللجنة المركزية أو أغلبيتها بواسطة إخوانهم في الداخل لتلتزم بالتعاون لأن الحزب يجب أن يواصل نضاله ضد الاستعمار موحدًا، وبجبهة منتظمة

وأسر إليّ أنهم يريدون أن يبدأ العمل الفدائي قبل نهاية هذا العام 1954م، وإن كان قد طلب مني وأكد عليّ أن يبقى هذا سرًّا، ولا يعرفه "مصالي" ولا غيره الآن، ولما أبديت له أنني أشك في أن توافق الحكومة المصرية على سفري وقال لابد أن تحاول، وقلت له إن هناك مؤتمرًا لهيئات التدريس بالجامعات في فيينا وأرغب في حضوره

فشجعني على أن أبدأ الإجراءات للحصول على جواز السفر والإذن بالخروج، رغم أنه يعرف أنني كنت قد اعتقلت في شهر مارس، وأفرج عني في 25 مارس، وكانت الحكومة في خصام شديد مع جماعة الإخوان المسلمين وهي تعلم أنني عضو مؤسس ملتزم بنظامها وفي الحقيقة كانت هذه محاولة وتجربة لابد أن أذكر تفاصيلها.

أحد تلاميذي في معهد العلوم الجنائية بكلية الحقوق وهو "طه ربيع" كان هو المشرف على مكتب الأمن بوزارة التربية والتعليم، ومكتب الأمن هذا هو الذي يمثل المباحث والاستخبارات في كل وزارة وفي كل مصلحة أو شركة حسب أسلوب الإزدواجية الموجود في النظم العسكرية والشمولية، وكنت على علاقة طيبة مع كل تلاميذي

وكثير منهم كان من ضباط الشرطة والأمن، ولم أكن أحفي عليهم علاقتي بالإخوان، وهم كانوا لا يخفون أنهم يعرفون مشاكلي مع الحكومة؛ لأن اعتقالي كان معروفًا، ولكن صلتي بتلاميذي شيء والاتجاهات السياسية شيء آخر، هذا من جانبي، أما من جانبهم فإن بعضهم بلاشك كان يواصل تقديم التقارير عني، وفيها وقائع صحيحة، ولكن فيها كذلك وقائع محرفة أو مختلقة.

لقد أعطيت طه ربيع هذا طلبي للتصريح لي بالخروج لحضور مؤتمر هيئات التدريس، فقال لي إنني سأسعى لذلك، وعاد بعد أسبوع ليخبرني بأنهم سيصرحون لي بالسفر ودهشت لذلك ولكني سررت، وأخذ مني الجواز، وقال لي إن عنده أملاً كبيرًا في الموافقة، وإن الوزير وهو كمال الدين حسين وعده بهذا

وطلب مني أن أزور الوزير في منزله لأفهمه إنني ذاهب إلى مؤتمر علمي، وكان بعض زملائنا ومنهم الدكتور سيد صبري أستاذ القانون الدستوري، وكذلك الدكتور إبراهيم الدمرداش عميد كلية الهندسة في ذلك الوقت قد قرروا حضور هذا المؤتمر الذي يضم مندوبين عن جمعيات الأساتذة وهيئات التدريس في الجامعات المختلفة.

تقابلت مع الوزير كمال الدين حسين في منزله وكان قريبًا من منزلي بالدقي وأحسن استقبالي، وقلت له أنت تعرف اتجاهي، وأنا أعرف أنه لا يعجبكم وأنكم غير مرتاحين لجمعية هيئة التدريس التي نمثلها، ونحن الأساتذة نحب دائمًا أن يكون لنا رأينا المستقل ولا يفرض علينا أي رأي من جهة أخرى، وأنا ذاهب إلى اجتماع لهيئات التدريس وأنا كما تعرف عضو مجلس إدارة الجمعية التي تضم أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة

وسبق لنا الالتقاء معكم ومع الرئيس جمال عبد الناصر، وسبق لنا الاتفاق في أشياء والاختلاف في أشياء أخرى، وسوف أكون مسرورًا للسفر إن لم يكن عندكم مانع في سفري رغم أنك تعرف علاقتي بالإخوان المسلمين، فقال نحن نعرفك شخصيًّا ونعرف أنك صاحب رأي وصاحب فكر، وإن شاء الله سنسمح لك بالسفر في الوقت المناسب

وفعلاً حصلت على الإذن بالخروج رغم أني كنت يائسًا من ذلك، وعلاوة على ذلك فإن "طه ربيع" لازمني في كل خطواتي حتى ركبت الطائرة، وكان هذا في ظاهره مجاملة لي بصفتي أستاذه وباعتباره تلميذي، ولكني لم أكن واثقًا من أن الدافع كان هو مجرد حب التلميذ لأستاذه وحسن معاملته معه

وقد اعترف لي فيما بعد، وبعد أن اعتقلت وأفرج عني، والتقيت به عدة مرات بعد خروجي من المعتقل عام 1956م، بل وبعد أن ترك المباحث (في الظاهر على الأقل) وحصل على الدكتوره، وأخبرني أنه عين أستاذًا في الخرطوم في فرع جامعة القهرة لقد اعترف لي بأنه كان في ذلك الوقت يصر على مرافقتي ويعمل بصفة رسمية إلى جانب صفته كتلميذ، وأنه كان مكلفًا بأن يتتبع كل خطواتي ويقدم تقريرًا عن كل الجهات التي اتصل بها، والأشخاص الذين يتصلون بي ومعرفة الهدف الحقيقي من سفري

ولم أذكر له مسألة الجزائريين أو غيرهم، وصاحبني في خان الخليلي لشراء هدايا بحجة أن له أصدقاء هناك يجاملونه في الأسعار، وسافرت فعلاً بالطائرة إلى جنيف أولاً، وفي الحقيقة كان ذهابي إلى جنيف لكي أمر على سعيد رمضان الذي كان يقيم هناك، وأعرف منه بعض المعلومت عن الأوساط الأجنبية التي تتابع نشاط الإخوان المسلمين وكل ما يدور حوله هناك.

في جنيف التقيت مع "صالح بن يوسف" بناء على طلب أحد أصدقائه في القاهرة وجلست معه فعلاً مرتين، وطلب مني أن أحمل رسالة منه إلى "الحبيب بورقيبه" في المكان الذي يقيم فيه تحت الإقامة الجبرية في فرنسا، وكان على اتصال تليفوني به وكلمه فعلاً بالتليفون أمامي ورتب لي طريقة الاتصال به ومقابلته هناك والتحدث معه بشأن الطريقة التي يختارها للتعاون بينهما في المفاوضات مع الفرنسيين

وقال له إن فلانًا هو صديقنا جميعًا سيجتهد في زيارتك، وقال لي نحن مستعدون لكي نبقى هنا في أي مكان يختاره لكي نكون قريبين منه ومن الفرنسيين لهذا الغرض، وقال لي: إن بورقيبه أبلغه ترحيبه ووعد باستقبالي وأعطاني "صالح بن يوسف" رقم تليفون "بورقيبه" وعنوانه لكي أتصل به عندما أصل إلى باريس وسأتحدث عن هذه المقابلة تفصيلاً فيما بعد.

ذهبت إلى باريس ونزلت في أحد الفنادق قرب الشانزليزيه، واتصلت أولاً بممثل حزب الشعب في باريس وهو كان معروفًا لي ولجميع الإخوان الجزائريين في القاهرة وكان اسمه الحركي السيد عابد، وأظن أن اسمه الحقيقي "فيلالي" وقد حضر إلي وطلبت منه أن يتصل بمصالي، وأن يسهل لي مهمة المقابلة، وفعلاً عاد إلي وأعطاني موعدًا للسفر وموعدًا للقاء هناك

وقال لي إنه سيخصص لي سيارة وأحد الإخوة الجزائريين هو الذي سيقودها، وسيصحبني في الذهاب والعودة، وبعد ذلك اتصلت أنا شخصيًّا ومباشرة بالحبيب بورقيبه في منزله في الرقم الذي أعطي لي، ووعدته بأنني سأتصل به خلال أسبوع عندما أصل إلى هذه المنطقة وأبدى ترحيبه، وكان المكان الذي يقيم فيه ليس بعيدًا عن المكان الذي كان يقيم فيه مصالي ولا أذكر أسماء الأماكن

ولكنها كلها كانت وسط فرنسا قريبة من "فيشي" ، ولكن لم أرد أن أذهب وحدي، وتشاورت مع "فيلالي" فيمن يذهب معي وكان لي معرفة في ذلك الوقت بالمغاربة المقيمين في باريس والممثلين لحزب الاستقلال، وجريا على المبدأ الذي التزمت به دائمًا أنني لابد أن أتصل بمندوبي الأحزاب الثلاثة، اتصلت مع مندوبي الاستقلال المغربي وطلبت منه ترشيح أحد زملائه لمرافقتي في هذه الجولة

فاقترح علي اسم الدكتور عبد الكريم الخطيب الذي أتم دراسة الطب في فرنسا، لأنه في ذلك الوقت يستعد للعودة لبلاده وهو يستطيع أن يذهب ويعود معي؛ لأنه سيعود لبلاده قريبًا، ويعمل بها فعلاً، فلا يستطيع الفرنسيون أن يضايقوه كثيرًا، وفعلاً اتصلت بعبد الكريم الخطيب ووافق على أن يحضر معي بل اقترح أن يحضر معه زوجته على اعتبار أنها في نفس الوقت ستأخذ صورة رحلة سياحية ونزهة لنا جميعًا وغرضنا الأساسي ظاهريًّا هو السياحة وسنمر على "مصالي" كزيارة شخصية، وقلت له إنني سأذهب بعد ذلك لزيارة بورقيبه ولم يكن حريصًا على أن يشترك في هذا اللقاء؛ لأنه ليس له معرفة سابقة به، وليس بينهما أي اتصال مثل العلاقات التي توجد بينهم وبين الجزائريين.

ركبنا السيارة وكان السائق من الإخوة المناضلين الجزائريين، وكان أحد أعضاء الحركة المخلصين الطيبين، وله خبرة في السفر في طرق فرنسا، كما أن عابد قال لي إنه من ذوي الفكر والعاطفة الإسلامية وفعلاً كان ذلك، وسعدنا بمصاحبته طول المدة، وعندما وصلنا إلى المدينة، توقفنا عند هذا الفندق ونزلنا فيه كأي سائح عادي نزل كل واحد منا في غرفته، أما دليلنا الجزائري فقد ذهب إلى "مصالي" واتفق معه على أن ننزل له في غرفته في ساعة معينة، ونزلت أنا والدكتور عبدالكريم حتى يكون شاهدًا وحاضرًا هذا اللقاء.

قابلنا "مصالي" وحيانا بترحاب كبير وبثقة كاملة، وبدأ بالشكوى من اللجنة المركزية لحزبه في الجزائر وكان يسميهم "باشوات الحزب" الذين يريدون إبعاده عن القيادة ويريدون أن يتصرفوا على هواهم، ويستقلوا بالحزب دون الرجوع إليه، فقلت له إن هذا الموضوع هو ما جئنا من أجله؛ لأن الإخوة في مصر وهو يعرفهم جميعًا منزعجون جدًا من الحرب الداخلية بين أعوانك وأعوان اللجنة المركزية

وهذا الانقسام يسيء إلى الحزب كثيرًا، وإلى الحركة الوطنية، وهم مستعدون أن يقوموا بدور الوسطاء لتوحيد الصف لأن ذلك ضروري في هذه الظروف، فقال لي على الفور كيف حالهم وماذا يفعلون الآن ثم تساءل هل حقيقة ينوون القيام بشيء قريبًا كما علمت، قلت له هذا ليس من شأني ولا أسأل عنه فقال لي: أرجوك أن تبلغهم بأن أي عمل من هذا القبيل يجب أن يكون من الداخل وألا تكون قيادته في القاهرة حتى لا تكون على حد تعبيره Telegide أي موجهة من القاهرة بواسطة اللاسلكي، قلت له على كل حال أنا مستعد أن أبلغهم رسالتك ولكن المهمة التي جئت من أجلها تحتاج إلى مساعدتك وأنت زعيم الحزب

والكل يعترف بزعامتك لكن الشقاق بين أنصارك وبين اللجنة المركزية يمكن حله بتغيير بعض الأشخاص أو إيجاد هيئة أخرى تكون محل ثقة جمهور الحزب، قال أنا على أتم الاستعداد بشرط ألا تفرض علينا قيادة أو توجيهات من الخارج قلت له هذا أمر يحتاج إلى لقاء وتفاهم وأنت الآن مستعد وهم هناك مستعدون فهل نستطيع أن نجمعكم؟

هم لا يستطيعون الحضور إلى هنا وأنت تعرف هذا، وأنت لا تستطيع الخروج من هنا فأقترح إذن أن تفوض واحدًا من عندك أو اثنين يحضران إلى القاهرة وأنت تعرف أن القاهرة مفتوحة لكم دائمًا وآمنة وعندما يحضران يلتقيان مع الإخوة الذين في القاهرة ويتفقان معهم، وأعتقد أن ما يتفقون عليه سوف يرضيك وسيكون لرأيك قيمة كبيرة فواق على ذلك، وقال لي متى تريد أن يأتي المندوبان إلى القاهرة

قلت له أنا عندي رحلة تحتاج لشهر، وبعد شهر أكون في القاهرة، وأكون بانتظارهما، ومندوبكم في القاهرة "الشاذلي مكي" يستطيع أن يوصلهما لي، وقد نفذ "مصالي" وعده، وأرسل مندوبين إلى القاهرة، ولكن تبين أنهما وقعا في كمين واعتقلا كما اعتقلت أنا كذلك قبلهما، ولا أدري للآن من أعد هذا الكمين لهما ولي، ويظهر أنني وقعت ضحية معهما في هذا الكمين

وتبين أنني كنت مخطئًا عندما قلت "لمصالي" إن القاهرة ستكون مكانًا آمنًا لمندوبك وظهر لي أن الجهات المسئولة عن الأمن كانت غير راغبة في إتمام هذه المصالحة، وقرروا اعتقال كل من يساهم فيها، وبدءوا بي شخصيًّا، ثم اعتقلوا مندوبي "مصالي" بعد ذلك، ولم أعرف حتى الآن مسئولية "بن بللة" في هذه المؤامرة، وأخشى أنه كان ضالعًا فيها، أو على الأقل عالمًا بها.

لقد بدأت هذه الفكرة لدى يوم اعتقالي الذي تم في اليوم التالي لاتصال الشاذلي مكي بي وإبلاغي بوصول مندوبين من باريس حسب اتفاقي مع مصالي، واتفقنا على أن يحضر لمنزلي في الصباح، لكن هذا اللقاء لم يتم لأنني اعتقلت في تلك الليلة وكنت في الصباح في السجن الحربي وبعد أسابيع قضيتها في التعذيب أبلغني أحد المعتقلين بأن اثنين من الجزائريين موجودان في السجن وأنهما سألاه عني، وأن أحدهما ذراعه مقطوعة، فعرفت أنه الشاذلي مكي.

قبل أن أسترسل في تطورات هذه الأحداث يجب علي أن أوضح نقطة تغيب عن ذهن الكثيرين، وهي أن مثل هذه الظواهر تبدأ في صورة خلاف في الرأي، ثم تتحول إلى صراع على السلطة داخل الحزب بين مجموعتين، وعادة توجد قوة خارج الحزب تدفع كلا الطرفين نحو توسيع شقة الخلاف وزيادة حدة الخصام، وأول هذه القوى هم أعداء الحركة أي الاستعمار، ومن يعملون معه أو لحسابه.

كثيرون يصرون على تجاهل هذه الجهات الخارجية، ويحاولون إعطاء المشكلة صورة نزاع داخل الحزب ويبتكرون لذلك أسبابًا داخلية، إنني أذكر بأن هذه الظاهرة تكررت في الأحزاب الوطنية في شمال أفريقيا، وكان من أهم العوامل في حدتها وتفاقهمها هو أن الدولة الاستعمارية تتخذ إجراءات تبعد أحد الطرفين عن ميدان العمل، وتحيطه بحاشية تدفعه إلى التشبث بالسلطة ناسيا أنه لا يمكنه ممارستها جديا طالما أن العدو يفرض عليه الإقامة الجبرية أو النفي والإبعاد

فلا يستطيع تقييم الموقف في بلاده أو في حزبه إلا من خلال من يتصلون به أو يزورونه من المقربين إليه، وغالبًا يمر هؤلاء بعملية تصفية تمارسها الأجهزة التي "تحرسه" ولا تسمح بالاتصال به إلا لمن تختاره ومن تعدهم لذلك ويكونون من المنافقين أو الجواسيس الذي يخترقون الصفوف، وبواسطة هؤلاء تعرف الجهات الأجنبية كيف تستفيد منه بعلمه أو بدون علمه.

إن مصالي قضى في السجن في الصحراء أكثر من عشر سنوات، وبعدها فرضت عليه الإقامة الجبرية في فرنسا طول حياته ولم يستعد حريته، ولم يتمكن من العودة إلى بلاده طول هذه الفترة؛ ولذلك فإن ما كان يصدر عنه من توجيهات أو آراء كانت في الحقيقة متأثرة بمن يحيطون به أو يذهبون إليه وهم الذين يلجئون إليه عادة للشكوى من المسئولين في الحزب أو من الأقلية المعارضة داخل الحزب نفسه، وكان يجب عليه أن يجعل تصرفاته في حدود إمكانياته كمعتقل أو سجين لا يستطيع أن يقدر جميع الظروف المحيطة بميدان العمل الحزبي والوطني التي تؤثر على تصرفات المسئولين وقراراتهم.

ومثل ذلك وقع لبورقيبه، فقد التقيت به لنفس الغرض، وحاولت إقناعه باقتراح "صالح بن يوسف" كما سأبين فيما بعد، ولكنه أصر على أنه هو وحده الذي يجب أني قرر كل شيء، باعتباره رئيس الحزب، وحاولت إقناعه بأن ظروف الإقامة الجبرية المفروضة عليه تحول دون تمكينه من الوصول إلى الحلول المناسبة للمشاكل التي يواجهها الحزب أو تواجهها البلاد

وكان يعبتر هذا القول مني إنتقاصًا من حقه الشرعي كرئيس للحزب وقد قال لي دعك من كل هؤلاء، أنا وحدي الذي أعرف كل شيء وأنا المسئول والشعب لا يعرف إلا بورقيبه وإنني أنا الذي أمثل الحزب، أما الآخرون فعليهم أن يلتزموا بما أقرر وما أفعل؛ ولذلك رفض هذا الاقتراح واستمر في التفاوض مع الفرنسيين حتى اتفق معهم على نوع من الاستقلال الداخلي بشروطهم المعلنة وغير المعلنة، وأعتقد أنه كان أولها اقتلاع جذور الفكر الإسلامي والاتجاه العربي الإسلامي في تونس، ولذلك كان ما فعله هو إلغاء جامعة "الزيتونة"...

هذا هو السبب في تشبثه باحتكار الاتصالات بالفرنسيين؛ لأن مثل هذه الشروط كانت التزامات شخصية لا يحسن عرضها على قادة الحزب، ثم إنها توافق هواه شخصيًّا بسبب حقده القديم على مؤسسي حزب الدستور القديم من العلماء الذين هم أكبر منه سنًا وأكثر نفوذًا، ولكنه استطاع أن يخرج عليهم ويكون لنفسه زعامة شعبية بفضل تواطؤ عناصر داخلية وخارجية أعتقد أنها من الماسونية.

زيارة لبورقيبه 1954م

بعد أن فشلت مفاوضاتهم مع الفرنسيين أوائل عام 1952م، لجأ صالح بن يوسف وحمادي دره إلى مصر، وأنا ما زلت في باريس، كما لجأ قبلهم الحبيب بورقيبه، واتصلت علاقاتي معهما بعد عودتي من باريس في عام 1951م، وكنت أستريح للحوار معهما، ولذلك تكررت لقاءاتنا في حين أنني لا أذكر أنني جلست مع بورقيبه جلسة خاصة طوال فترة إقامته في مصر، ولم يتيسر لي ذلك إلا في فرنسا نفسها عندما كان في "الإقامة الجبرية" هناك في عام 1954م، ولهذا اللقاء قصة لها ما بعدها...

لقد قررت السفر إلى فرنسا في صيف 1954م في مهمة من أجل القضية الجزائرية كما ذكرت في موضع آخر، واخترت السفر إلى جنيف أولاً، وبناءً على طلب أصدقائنا في القاهرة اتصلت بالسيد صالح بن يوسف في فندق "متروبول" على شاطئ البحيرة، وسر بلقائي، وعرفته أنني ذاهب إلى فرنسا في محاولة للتوفيق بين التيارات المتنافسة في داخل "حزب الشعب"

قال لي إذن فإنني أقترح أن تقوم بمهمة مماثلة لنا، ولما أبديت دهشتي لأنني لم أكن على علم بوجود أي شقاق داخل حزبهم، قال إن الأمر قد لا يختلف كثيرًا عما يحدث داخل الحزب الجزائري؛ لأن بورقيبه يتجه إلى أن يسلك مسلك "مصالي" في "الاستئثار" بالقرارات

وقد بدأ فعلاً اتصالاته مع الفرنسيين وهو في الإقامة الجبرية، وقد جئت هنا لأكون على اتصال به تليفونيًّا، وكذلك بالمسئولين عن الحزب في تونس، ولكن كما تعلم هناك أشياء لا أستطيع أن أحدثه فيها تليفونيًّا؛ لأنني متأكد أن هناك رقابة من جانب الفرنسيين لذلك أرجو أن تذهب إليه بنفسك وتنقل له رسالتي شفويًّا وتحاول إقناعه بوجهة نظري

وهي كما يلي:

"نحن نعلم أن وجود الرئيس في الإقامة الجبرية يجعله تحت رحمة خصومنا، ويحول دون أن يتمسك بمواقف صلبة خشية أن ينتقموا منه في شخصه أو حريته على الأقل لذلك فإنني أريد أن تقترح عليه أن يحيل موضوع التفاوض مع الفرنسيين إلينا نحن الذين في الخارج (أنا وحمدي بدرة) خصوصًا أننا كنا قد بدأنا المفاوضات معهم في عام 1951م، وسنكون ممثلين له ومقيدين بتوجيهاته، وإضافة إلى ذلك فإنه يستطيع أن يتخلى عن أي مسئولية عما نقوله أو نفعله إذا كان يترتب على ذلك ضرر بشخصه أو بالقضية.
إن الفرنسيين لا يسمحون لأحد بزيارته إلا بموافقته هو، وأعتقد أنك باعتبارك مصريا وصديقًا شخصيًّا، يمكنهم أن يسمحوا لك بالزيارة إذا وافق هو على أنها مجرد مجاملة شخصية والآن سأطلبه تليفونيًّا وأخبره برغبتك في زيارته أثناء إقامتك في باريس، للاطمئنان على صحته وتجديد صلة الصداقة معه". سمعت الحديث التليفوني بين صالح بن يوسف والحبيب بورقيبه، وفهمت منه أن الرئيس يرحب بهذه الزيارة لتخفيف ما يعانيه من عزلة في المكان النائي الذي فرضت عليه الإقامة الجبرية فيه.

وزرت الرئيس بورقيبه فعلاً، وتغديت معه، وجلسنا مدة طويلة نتجاذب أطراف الحديث، ولم يكن معنا إلا زوجته الفرنسية التي لا تعرف العربية، ولذلك لم تشترك معنا في الحديث، بل آثرت ألا تشترك معنا في الغداء لكي نستطيع أن نتحادث بالعربية التي لا تعرف منها شيئًا، ولا زلت أذكر كيف كانت تخدمنا أثناء الطعام وحدها، ولم ألاحظ وجود خادم أو أي شخص آخر لذلك طال الحديث وتشعب.

بدأت حديثي بأنني بالأمس زرت "مصالي الحاج" في المدينة التي يقيم فيها إقامة جبرية، وأنه كان معنا الدكتور عبد الكريم الخطيب من زعماء المغرب، وأنني اتصلت به تليفونيًّا من تلك المدينة التي زرت فيها "مصالي" وجئت لزيارته، ولم يستطع أن يحضر معي الدكتور عبد الكريم الخطيب لاضطراره للعودة لباريس، وتمنيت أن تتغير الأحوال لوضع أساس لوحدة الحركات الوطنية المغربية.

قال: إنني سمعت كثيرًا عن "مصالي الحاج" ولكني لم ألتق به ولا أعرف عنه كثيرًا، ثم إن حزبه منشق على نفسه بصورة خطيرة، وحزينًا يختلف وضعه؛ لأنه ليس فيه أي خلافات؛ لأنن المسئول عنه، وأنا الذي أنشأته ولا يمكن أن يتخذ أي قرار إلا برأيي وأنا لست مثل "مصالي" الذي قضى كل الفترة الماضية بعيدًا عن بلاده في "الليمان" محكومًا عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة فكان بعيدًا عن الحزب وشئونه، وعن البلاد وأحوالها.

هذا هو الفرق بيني وبين مصالي، ولا أعتقد أننا سنلتقي، ولا أعتقد أن لقائي معه سيكون له أي فائدة، ولا أظن أنه سيتم في يوم من الأيام، وعلى العموم فإن موضوع وحدة شمال أفريقيا يمكن التفكير فيه بعد تحرر بلادنا واستقلالها، أما الآن فكل حركة وطنية في تلك البلاد لها ظروف خاصة بها، ويصعب ارتباطها بالحركات الأخرى في الوقت الحاضر.

قلت له: إن تونس تمتاز بأن فيها حزبًا وطنيًا واحدًا، ولا يوج أي شقاق داخله ونحن نهنئكم على ذلك، ولا اختيار لفرنسا إلا أن نتفاهم معكم، وقد سمعت من بعض أصدقائكم أن فرنسا قد بدأت فعلاً في التفاوض معكم.

قال: إنها مجرد اتصالات، ولكن لا يمكن الكلام عن مفاوضات الآن.

قلت: بلا شك أن أول شرط للتفاوض هو إطلاق سراحكم، أما قبل ذلك فإن السيد صالح بن يوسف قد طلب مني أن أبلغك رجاءه في أن يكلف هو والسيد حمادي بدره بتمثيل الحزب في المفاوضات إذا اضطررتم للبدء فيها قبل إطلاق سراحكم، ووجدتم أن وجودكم في الإقامة الجبرية لا يسمح لكم بمباشرة التفاوض مع الفرنسيين، خصوصًا أنهما هما اللذان بدآ المفاوضات عام 1951م.

قال: إنني أعرف ظروفهما في الخارج، قل لهما: إنني المسئول عن الحزب وعن القضية، والشعب التونسي يعرف ذلك، فالشعب له زعيم واحد، وهو لا يعرف إلا بورقيبه ولا يثق إلا في، والفرنسيون يعرفون ذلك أيضًا، وأحب أن تبلغهما أنهما لا يمكن أن يقوما بأي دور سياسي إلا إذا عاد إلى تونس

وإذا فرض أنني أحتاج للاستعانة ببعض زملائي في الحزب ففي تونس منهم كثيرون، ولا أستطيع الاعتماد على من يقيمون في مصر في التحدث باسم الحزب مع أي جهة كانت، أنت تفسك تعرف الأوضاع في مصر، والأساليب التي يتبعها العسكريون هناك إزاء العاملين في مكتب المغرب العربي، وغيرهم ممن تعرفهم ولا أظن أنك تصدق أنهم يتمتعون بحرية التصرف كما يظنون.

قلت له: إنني التقيت بالسيد صالح بن يوسف في جنيف وليس في القاهرة، ولا شك أنه هو و"بدره" لن يترددوا في دخول تونس أو فرنسا ذاتها إذا رغبت في ذلك.

قال: قل لهما من الأفضل أن يعودا إلى تونس أولاً، وعند ذلك يمكن البحث عن المسئوليات التي يمكن أن توكل إليهما، وهذا هو رأيي النهائي، ويمكن أن تبلغه لهما.

لقد أفاض بورقيبه في وصف الأحوال في مصر، ورسم صورة الحكم العسكري بصورة كريهة منفرة، مستشهدًا بوقائع معينة حدثت هناك له أو لغيره، بعضها لا أعرفه شخصيًّا مما أدهشني لوفرة المعلومات التي تبلغ له هنا في هذا المعتقل، وأثناء جلوسي في السيارة عائدًا إلى باريس كنت أتساءل: كيف تبلغ له هذه الوقائع؟ ومن يتطوع بذلك وكيف يطلع عليها وهو في هذا المعتقل؟ وتنبهت إلى أنه ليس في "معتقل" وإنما هي "إقامة جبرية" مثل "مصالي حاج" أو عبارة أدق "ضيافة إجبارية".

واسترجعت بعض ما سمعته من "مصالي حاج" مما يدل على أنه توفرت لديه تفاصيل عدد من الأحداث في الخارج، وخاصة في مصر، لقد تكلم هو أيضًا عما يحيط بالقادة الجزائريين في مصر من ظروف حتى إنه قال لي: إنهم إن استطاعوا أن يفجروا الثورة في الجزائر كما يقولون فإنهم سيجعلونها موجهة من الخارج أو من بعد Teleguide

ولم يخطر بباله أنه في موضعه وظروفه في هذه الضيافة الجبرية في وضع أقسى من ذلك، وأنه ليس موجهًا عن بعد، بل موجهًا عن قرب أو كما يقولون Conditionne أي أن فكره موجه عن طريق المعلومات التي تلقى في سمعه، أو التي يسمح لها أن تصل إليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة من أشخاص يسمح لهم بالدخول إليه أو يصلون إليه متطوعين في نظره، والله وحده يعلم حقيقتهم.

لقد تساءلت في نفسي: هل كان حواري مع "مصالي ومع بورقيبه" حرًّا أو سريًّا كما تصورت، أم أنه كان تحت رقابة غير منظورة، وهل من الممكن أن يضعهما الفرنسيون في الإقامة الجبرية ويسمحون لكل منهما أن يقول ما يشاء أو يسمع ما يشاء، دون أن يطلعوا عليه بطريقة أو بأخرى، لقد تكون عندي يقين بأن كل ما سمعته

وكل ما قلته قد عرفه الفرنسيون أنني في الواقع كنت متتبعًا وتحت رقابة كاملة، وقد تأكد لي بعد فترة من تحليل بعض الظروف والأحداث التي وقعت بعد ذلك، وأخص منها الآن موضوع زميلي الأستاذ محمود حافظ غانم، وقلمي الذي نسيته معه، ولا بأس من أن أشير هنا إلى بعض ما له علاقة بهذا الموضوع... كان في نيتي أن أذهب من باريس إلى فيينا بالطائرة، ولكن عندما عدت لباريس آثرت أن أذهب بالقطار عبر ألمانيا بدلاً من الطائرة، وقد اتخذت هذا القرار بعد أن وصلتني برقية من أصدقائي في ألمانيا بذلك، وكان هذا القرار مفاجئًا اتخذته ونفذته في نفس اليوم.

وفي اليوم السابق على هذا القرار كنت أسير في شارع الشانزليزيه، وكنت ما زلت على نية البقاء في باريس حتى يقرب موعد المؤتمر في فيينا، وأثناء سيري التقيت بأحد زملائي وهو الأستاذ محمود حافظ غانم المحامي بمكتب الأستاذ الدكتور سيد صبري وسرنا معًا بعض الوقت، ولما أخبرته بعزمي على السفر إلى فيينا بعد فترة وأنني سوف ألتقي بالدكتور سيد صبري، قال إنه يريد أن يرسل معي رسالة إليه، وأنه يريد أن نلتقي قبل سفري ووعدته بذلك وأعطيته عنوان الفندق الذي أنزل به وتليفونه للاتصال بي، كما أعطيته قلمي ليكتب به ونسيته معه ونسيت الموضوع كله لانشغالي بالسفر المفاجئ.

بعد فيينا سافرت مع الأستاذ الدكتور سيد صبري إلى القاهرة بالطائرة، ويوم وصولنا فوجئنا بخطاب من مدير الجامعة الأستاذ الدكتور محمد كامل مرسي "بك" يخبرنا فيه بصدور قرار من مجلس قيادة الثورة بفصلنا من الجامعة، وقد سلم خطاب مماثل في نفس اليوم لأربعة وأربعين من أساتذة الجامعات في أول هجوم للعسكريين على جمعيات هيئات التدريس بالجامعات، وثابت في نص الخطاب بأن القرار صدر في شهر يوليو، ولكنه لم يبلغ لأحد، ولم يعلن إلا بعد عودتنا، بل في يوم وصولنا للقاهرة.

وفي اليوم التالي لإبلاغنا بقرار الفصل ذهبت مع زميلي الدكتور عبد المنعم الشرقاوي، والدكتور أمين بدر إلى مكتب الأستاذ الدكتور سيد صبري "الذي فصل معنا" لزيارته والتشاور معه فيما سنفعل بعد هذا القرار، وهناك التقيت بزميلي الأستاذ محمود حافظ غانم الذي فاجأني بأن قدم لي قلمي الذي نسيته معه

وقال لي: لم أكن أعرف أنك خطير بهذا القدر، إذ إنه بعد يومين من لقائي معك حضر إلي اثنان من المخابرات استجوباني لمعرفة أين تسكن، ولما أعطيتهما العنوان قالا: إنهما يعرفان ذلك، ولكنهما يريدان أن أعرفهما بالمكان الذي انتقلت إليه بعد أن غادرت هذا العنوان، وقد اعتذرت لهما بأنه ليس لدي ما يفيدهما في هذا الموضوع سوى أنك أخبرتني بأنك ذاهب إلى فيينا لحضور مؤتمر أستاذة الجامعات

وأنك ستلتقي هناك بالدكتور سيد صبري، وتعودان معًا للقاهرة ويظهر أن هذه المعلومة أراحتهما ولم يعودا إلي بعد ذلك، ولما أعدت قراءة خطاب مدير الجامعة، تبين لي أن واقعة السؤال عني التي أشارت إليها زميلي الأستاذ محمود حافظ غانم قريبة جدًا من تاريخ صدور قرار مجلس قيادة الثورة في مصر

وسألت نفسي عن علاقة هذا السؤال بقرار الفصل، وهل رجال "المخابرات" الذين ذهبوا إلى الأستاذ محمود حافظ غانم كانوا يراقبونني أم يراقبونه؟ وهل كانوا يعملون لحساب الأجهزة المصرية أو الفرنسية أو الاثنين معًا وهو الرأي الذي رجحته، لقد خطرت لي فكرة تأكدت فيما بعد من وقائع أخرى أنه يوجد قدر كبير من "التعاون" بين الجهتين يصل في بعض الأحيان إلى حد "التداخل" وتبادل المعلومات والخدمات.

بعد أن عدت إلى مصر شغلت بموضوع فصلي من الجامعة، وكذلك بمشكلة حزب الشعب الجزائري، إلا إنني استطعت أن أوصل رد بورقيبه إلى السيد صالح بن يوسف قبل أن أعتقل في شهر أكتوبر. بقيت في السجن الحربي سنتين، وعندما خرجت علمت أن بورقيبه قد اتفق فعلاً مع الفرنسيين على حكم ذاتي محلي وتولى رئاسة الحكومة (ثم رئاسة الجمهورية) وأن السيد صالح بن يوسف أعلن معارضته لهذا الاتفاق ورفض العودة إلى تونس، أما زميله السيد حمادي بدره فقد آثر العودة إلى وطنه، وتعاون مع بورقيبه

وانتهى الأمر بأن عين سفيرًا لبلاده في روما، وقد زرته هناك في عام 1960م في طريقي لزيارة تونس لحضور مولد الزعيم أما زميله وصديقه السيد صالح بن يوسف فقد حكم بورقيبه بالإعدام غيابيًّا، ثم أرسل من اغتالوه في أحد الفنادق بمدينة فرانكفورت بألمانيا.

وكان هذا مصير المهدي بن بركة، الذي أحدث انشقاقًا في حزب الاستقلال بالمغرب، حيث اغتيل في باريس في عام 1966م. وكلاهما كان لاجئًا سياسيًّا في مصر، وفي ضيافة أجهزة المخابرات المصرية، ويحظى بتشجيعها ورعايتها، لكن الاغتيال وقع في أوربا، وكثيرون يعتقدون أنه كان هناك تنسيق بين عدة جهات في هذه العمليات. أما من اغتيل من الجزائريين فعددهم كبير، وهذا موضوع آخر يحتاج إلى تفصيلات أذكرها في موضع آخر.

جزائريون في السجن الحربي

عقب عودتي من "باريس وفيننا" اتصلت بالإخوة الجزائريين، وأبلغتهم بما تم في الرحلة، وما اتفقنا مع مصالي وأبدوا ترحيبًا كبيرًا بهذا، وقلت لهم عندما يأتون مندوبون من طرف مصالي سوف يتصلون بالشاذلي مكي، وبعد ذلك نلتقي ونحاول التوفيق بين الفريقين أو بين الفرقاء الثلاثة إذا أمكن، وانشغلت أنا بمشكلتي الجديدة، وكانوا عرفاها لأن الصحف نشرت النبأ، ولكن هذا شأن لم أكن أعتقد أن لهم دخلاً فيه في ذلك الوقت على الأقل.

في يوم من أيام شهر أكتوبر، اتصل بي الشاذلي مكي، وقال لي إنه وصل اثنان من باريس من طرف "مصالي" حسب اتفاقي معه هناك، أحدهما "عابد" والثاني "مزغنة" الذي كان من النواب الجزائريين في حركة الدفاع عن الحرية، فقلت له إذن سوف أتصل بالآخرين ونلتقي في منزلي، وحددنا للقاء يوم 27 أكتوبر صباحًا. وفي يوم 26 أكتوبر ليلاً اعتقلت وأنا اعتبرت اعتقالي في تلك الليلة كان محض المصادفة، وكنت أعتقد أنه لا علاقة له بموضوع الجزائر، ولكن هذا الاعتقاد تزعزع فيما بعد كما سيتبين من تسلسل الحوادث.

بسبب اعتقالي لم أعرف ماذا حدث للوفد الجزائري، وبعد فترة قليلة من اعتقالي وأنا "بالسجن الحربي" في يوم من الأيام ذكر لي أحد المعتقلين أنه كان في أحد مباني السجن الحربي – لأنه يضم عدة سجون منفصلة بعضها عن بعض-، وكان المعتقلون ينقلون من واحد إلى آخر حسب الظروف، والذين يحقق معهم كانوا ينقلون إلى سجن معين حتى يكونوا بعيدين عن إخوانهم في فترة التحقيق

كانت المباحث التي تشرف على المعتقلين هي التي تأمر بالنقل لأسباب لا نعرفها نحن، ولا نبلغ بها، فأحد المعتقلين قال إنه التقى في أحد السجون مع شخص من الجزائر قال إنه يعرفني ويريد أن يبعث إلي بسلامه، ويعرفني بأنه معتقل هو وزميله، وقال لي إن هذا الشخص له ذراع مقطوعة، فدهشت لأن أجد اثنين من الجزائريين الذين بعثهم "مصالي" للالتقاء بإخوتنا الجزائريين يعتقلان

ولا أدري كيف حصل ذلك، ولم أعرف عنه شيئًا؛ لأني كما قلت لا أسأل عن أشياء لا شأن لي بها المهم أنني سمعت تفسيرات بعد سنوات من خيضر نفسه عن كيفية اعتقال "الشاذلي ومزغنة" حيث قال لي ضاحكًا؛ إنه كان من المقرر أن يعتقل "عابد" وكانت الخطة لاعتقالهم خطة بوليسية ماكرة، دبرتها المباحث المصرية هدفها أن يتم الاعتقال في المطار بعد خروجهم من الترانزيت حتى يختفي كل أثر لهم في مصر

ويعتبر أنهم خرجوا من مصر وفقدوا في الطريق، وأعتقد أن هذا كان على أثر عدة اجتماعات بينهم وبين "بن بيلا" وزملائه ولا أعرف ماذا تم فيها، ولم أسأل عنه لأنه قد مضى عليه سنوات المهم أنه على أثر هذه الاجتماعات قررت المخابرات اعتقال الثلاثة "مزغنة وعابد" القادمين من باريس ومعهما الشاذلي مكي

وقد سمعت من السيد محمد خيضر أنه دبرت لذلك مكيدة بأن كلفوا شخصًا بإرسال برقية بتوقيع أحد معارفهم الذي كان يقيم في طرابلس ليبيا ووجهت البرقية إلى الثلاثة ليحضروا إليه في ليبيا، ووصلت البرقية واستعد الجميع للسفر إلى ليبيا، لكن "عابد" اعتقد أنه ليس مكلفًا بشيء من ليبيا، ووجد طائرة مسافرة إلى باريس في الليل قبل موعد الطائرة التي كان مقررًا أن يأخذوها إلى ليبيا فركب فيها عائدًا لباريس، وبذلك أفلت من الاعتقال ووصل إلى فرنسا وأعلن بعد ذلك أنه قتل في مرسيليا

وأما "مزغنة والشاذلي" فكانا متوجهين إلى طرابلس وفي المطار قبض عليهما هناك ونقلا من المطار إلى السجن الحربي مباشرة لا أعرف اليوم أو الوقت الذي وصلا فيه؛ لأنني كنت مشغولاً بالكارثة التي كانت فيها، وهي الاعتقال والتعذيب والمحاكمة بتهم متعددة أهمها أنني من الإخوان المسلمين

وأنني مشترك في كل التهم الموجهة إليهم وحكم علي بالأشغال الشاقة مع وقف التنفيذ لمدة عشر سنوات وبقيت معتقلاً سنتين وفي أثناء وجودي بالمعتقل كانت تصلني بعض رسائل شفوية بواسطة بعض المعتقلين الذين التقوا مصادفة مع الشاذلي مكي، وهو كان لا يقتصد في الكلام والاتصالات وقد استطاع أن ينقل إلى المستشفى بسبب يده المكسورة

وكان يرسل إلي رسائل مع من يلقاهم من الإخوان المعتقلين الذين يمرون بالمستشفى، أما "مزغنة" فإنه بقي مستسلمًا لا حيلة له ولا حركة ولا صوت وعندما خرجت من المعتقل وقبل أن يمضي وقت طويل فوجئت في منزلي بتليفون يدق وإذا بالمتكلم هو الشاذلي مكي وقال لي إنه في المستشفى العسكري في العباسية وأنه يذكرني أن أسعى لدى الإخوان الجزائريين لكي يطلبوا الإفراج عنه، وقد فهمت من هذا أنه يعتبر أن الاعتقال تم بناء على طلبهم أو على الأقل بموافقتهم.

كان هذا في سنة 1956م؛ لأنني خرجت من السجن الحربي في فبراير أو مارس 1956م، وقد دخلت في أكتوبر 1954م، وبمجرد خروجي اتصلت بخيضر وبن بيلا، وحضرا إلي في المنزل وهنآني بالخروج وقالا إنهما تألما عندما سمعا بالحوادث التي جرت للإخوان عمومًا وعرفا أنني كنت من ضمن المعتقلين ولم أسألهما كيف عرفا

ولكن خيضر قال لي ضاحكًا إنه جاء في الموعد الذي كنا اتفقنا عليه، ودق الجرس وأن أمي فتحت له الباب غاضبة؛ لأنها كانت تعتقد أن كل من يدق الباب في ذلك الوقت من طرف الباحث الذين اعتقلوني في الليل وأنها قالت له إنني غير موجود فلما سألها كيف؟ ولماذا؟ قالت له متهكمة أنت لا تعرف لماذا هو غير موجود؟ اذهب إلى حال سبيلك، وخرج مندهشًا ومتألمًا، وبعد ذلك عرف أن المسألة هي مسألة اعتقال.

في ذلك الوقت لم يكن الربط بين اعتقالي واعتقال الأخوين "مزغنة والشاذلي" واردًا في ذهني؛ لأنني كنت أعتقد أنه ربما اجتمعنا بعد اعتقال مع بن بيلا وخيضر ولم يتفقوا وأن عدم الاتفاق هو الذي أدى إلى اعتقالهما وعلى كل حال كان هذا معناه أن الأخوين الجزائريين بن بيلا وخيضر اللذين التقيا بهما هما اللذان طلبا هذا الاعتقال أو وافقا عليه أو سكتا عنه عندما علما به، وهذا هو الأصح؛ لأنه في مثل هذه المسائل المخابرات في العادة دائمًا لها خططها وأهدافها، ولا تستثير فيها أحدًا، ولا تطلب حتى الموافقة قبل التنفيذ، ولكن السكوت بعد التنفيذ بمثابة الموافقة، وقد يكون الوضع مختلفًا، لكني لم أسأل ولم أعرف حتى الآن؛ لأنني كنت مشغولاً بأمور أخرى.

بعد ذلك بمدة بدأت أسترجع هذه الوقائع، وكنت أتساءل عن مدى التوافق أو التداخل أو التعاون بين خطط الأجهزة المصرية والاستخبارات الفرنسية، بل وغيرها (مثل الأمريكية والإسرائيلية والبريطانية) في كل ما يتعلق بمقاومة التيار الإسلامي والقضاء على الإخوان المسلمين ومطاردتهم، وكذلك مطاردة كل ذوي الاتجاه الإسلامي بل والاتجاه الوطني الشعبي بجميع فصائله وجماعاته، وخرجت من ذلك إلى الاعتقاد بأن هناك تعاون وثيق بين جميع الجهات التي تسير في خطط لمقاومة الصحوة الإسلامية

والمقاومة الوطنية سواء منها الأجهزة التابعة للحكومات "الوطنية" أو الأجهزة الأجنبية، وما زال هذا الاعتقاد يتأكد ويزداد بمرور الأيام، إلا أنه في ذلك الوقت عام 1954م بالذات بدأت تظهر لدى دلائل على هذا التنسيق بين الأجهزة المصرية والفرنسية لابد من الإشارة لها: رغم الاختلاف في الأهداف التي تسعى لها كل من هاتين الجهتين إلا أنني كنت واثقًا أن هناك أمرين اعتبرهما كانا هدفًا مشتركًا لهما

وهما:

  1. تطويق التيار الإسلامي ومحاصرته والقضاء عليه، سواء في داخل مصر أو خارجها وخاصة جماعة الإخوان المسلمين لمنع امتدادها إلى الأقطار الأفريقية العربية وغير العربية وهذا الامتداد يعرقل سياسة كل من الطرفين؛ لأن الاستعمار يريد أن يحتفظ بحريته في اختيار حكام يسيرون في الاتجاه الذي يضمن له استمرار نفوذه وسيطرته، أما المراهقون العسكريون في مصر فكانت شياطينهم تزين لهم أنهم يستطيعون أن يضمنوا استمرار سلطتهم في مصر إذا اقتلعوا جذور حركة الإخوان، ومن يتعاون معهم في الداخل والخارج، ولو أدى ذلك إلى إبادة التيار الإسلامي كله، أو تشتيت القوى الوطنية التي تتعاون معه، ولم يكن لديهم مانع من التعاون مع شياطين المخابرات الأجنبية لهذا الغرض.
  2. تمزيق الأحزاب الوطنية التقليدية في تونس والجزائر والمغرب، لإزاحتها من الطريق ومصلحة الفرنسيين في هذا واضحة للقضاء على المقاومة الوطنية ضد نفوذهم أما العسكريون المصريون فإنهم لم يخفوا أنهم لا يريدون أن يتعاملوا مع هذا النوع من الزعماء "التقليديين"؛ لأنهم كانوا يريدون صنع قيادات جديدة تابعة لهم مباشرة وخاضعة لأجهزة مخابراتهم، وأن زعماء تلك الأحزاب لن يقبلوا ذلك، وقد تأكد لي ذلك بعد قرارهم بقطع المرتبات التي كانت تصرفها الجامعة لأعضاء مكتب المغرب العربي بالقاهرة الذي أشرت إليه فيما سبق...

الأساليب "الثورية"

اطلعت على كتاب للسيد السفير فتحي الديب أتاح لي فرصة لاستعراض شريط الأحداث في طريق الجزائر في الفترة التي انقطعت فيها عن الاتصال بالمسئولين الذين أعرفهم (بسبب اعتقالي بالسجن الحربي بالقاهرة من عام 1954إلى عام 1956م)، وكذلك الفترة التالية لها مباشرة التي قضاها بن بلا ومحمد خيضر في السجون والمعتقلات الفرنسية منذ اختطافهما في (عام 1956م إلى 1962م) وقضيتها في المغرب...

في هذه السنوات الثمانية كنت غائبًا عن مسرح الأحداث في الجزائر ومصر، وقد تكفل كتاب السفير فتحي الديب بأن ألقي الضوء على كثير من الوقائع التي لم أشهدها ولم أعرف ظروفها، صحيح أنه اقتصر على عرض الأحداث من وجهة نظره وأن هدفه هو تمجيد دور عبد الناصر (ودوره تبعًا لذلك) في ثورة الجزائر متجاهلاً ما حدث قبل ذلك وما بعده من عوامل واعتبارات أخرى هي التي أدت إلى الثورة، وأثرت في تطوراتها "لسبب بسيط هو أنه كان يجهلها" وسوف أهتم الآن بعرض ببعض الأحداث التي تكشف عن الأخطاء "الثورية" التي كنا نتوقع منه أن يشير إليها أو يفسرها لنا.

أول هذه الأخطاء في نظري هو أن الحكومة العسكرية بدأت تنفيذها لخطط "ثورية" تهدف إلى اقتلاع رموز الأصالة الإسلامية -بحجة محاصرة الإخوان- وكذلك تحطيم الحركات الوطنية ذات الجذور الشعبية الأصيلة لاستبعاد زعمائها لأهداف حزبية من أجل طموح الحكام العسكريين في مصر لاحتكار السلطة والانفراد بها في مصر

وكذلك التطلع لدور قيادي عربي يتجاوز حدود مصر ويشمل شمال أفريقيا – وزين لهم شياطين القوى الأجنبية وعملاؤها ومخابراتها أن ذلك لا يمكن أن ينجح إلا بالقضاء على حركة الإخوان والتيار الإسلامي أولاً، ثم القضاء على ما يسمونه الأحزاب الوطنية التقليدية دون تمييز بين الأحزاب الوطنية الأصيلة مثل حزب الشعب الجزائري وحزب الاستقلال المغربي وبين أحزاب أخرى مصطنعة عميلة للقوى الأجنبية مثل الحزب الشيوعي الجزائري، وحزب بورقيبه في تونس الذي كان أداة لاقتلاع جذور الحزب الدستوري الأصلي الذي أسسه علماء الزيتونة وقضى بورقيبه عليه وسموه الدستوري "القديم".

ويلاحظ أن سياستهم نجحت إلى حد كبير في إقصاء حزب الاستقلال المغربي عن السلطة تمامًا كما سنرى فيما بعد، كما نجحت في تحطيم حزب الشعب الجزائري نهائيًا لتحل محله جبهة التحرير التي اتسعت لعناصر محدثة، كثير منها ممن تسللوا إلى صفوف الثورة لتحقيق هدف استعماري في اختراقها وخاصة من العسكريين الذين كانوا في الجيش الفرنسي وفتحت لهم جبهة التحرير أبوابه ومكنهم "بومدين" من المراكزا لرئيسية في الجيش الذي أنشأه هو ليحل محل جيش التحرير بعد الاستقلال، وسماه الجيش الوطني وهؤلاء المتسللون استغلوا مراكزهم في جعل الجيش هو المسيطر على جبهة التحرير

وتحميلها مسئولية كثير من الأخطاء التي نسبت إلى هذه الفئة العسكرية، وما ترتب على ذلك من انهيار شعبيتها واتجاه الجماهير إلى تأييد جبهة الإنقاذ الإسلامية بهذه الصورة التي أدهشت العالم، وفاجأت القوى الأجنبية والصهيونية، فحرضت هؤلاء العسكريين المتسللين للإجهاز على النظام الديمقراطي والدستور وتدبير الانقلاب الذي أوقع البلاد في الفتنة الكبرى التي ما زالت الجزائر تعاني منها حتى الآن

والتي تكلفها من الخسائر البشرية والاقتصادية والاجتماعية ما لا حدود له، وشلت حركتها في مجال السياسة الإفريقية والعالمية، بل وفي مجال السياسة العربية، ونحن نسمع للآن القمع ضد الشعب الجزائري الذي يؤيد الإسلاميين والوطنيين المخلصين المعارضين لهذه الطغمة العسكرية التي يسمونها "حزب فرنسا".

كل هذه السلسلة من الانحرافات والنتائج كانت وما تزال نتيجة سياسة بعض الحكومات العربية التي سارت في الطريق الذي رسمته القوى الأجنبية لاقتلاع الأصالة الإسلامية والوطنية العربية الأصيلة بحجة "الثورية". إن هذا الطريق المعادي للأصالة تميز بما هو أشد وأنكى، وهو استخدام أساليب الغدر والتآمر والخيانة بحجة أنها أساليب "ثورية".

إن مصلحة القوى الأجنبية في استدراج بعض الحكام إلى هذه الأساليب غير الأخلاقية وغير الشريفةلا يقل عن مصلحتها في الأهداف التي أشرت إليها؛ لأن هذه الأهداف كان يمكن أن توصل إليها أساليب سياسية وخصومة علنية صريحة، تطلع عليها جماهير الشعب وتحكم عليها في المدى القصير أو على المدى البعيد، وفي نظري أن هناك مصلحة للقوى الأجنبية الاستعمارية والصهيونية بالذات في دفعهم إلى الغلو في هذا المسلك الاستبدادي الذي يصفونه بالثوري

الذي يؤدي إلى ارتكاب أبشع عمليات القتل والسجن والتعذيب لإقناع الشعوب بأن حكامهم الوطنيين ليسوا أفضل من المحتلين الأجانب الذين يحاربونهم لأنهم يستعملون أساليب لا أخلاقية ووحشية لم يجرؤ الاستعمار على استعمالها من قبل إن غرضهم هو تشويه صورة الحكم الوطني وإعادة الاعتبار بذلك للحكم الاستعماري الأجنبي.

لقد أشرت إلى قصة صديقنا (بوزوزو) –أطال الله في عمره- حينما استدعاه الضابط الفرنسي في السجن وقدم له مجلة "باري ماتش" الفرنسية المصورة، وعلى غلافها صورة كبرى للشهيد عبد القادر عودة معلقًا في حبل المشنقة؟!، وقال هؤلاء هم العرب والمصريون، سيفعلون بكم هذا ونحن لم نفعله إلى الآن.

الغريب أن مندوب هذه المجلة الاستعمارية الفرنسية ومصورها كانا أول الصحافيين الذين سمح لهم بحضور عملية التنكيل بزعماء الإخوان المسلمين في مصر، ونشروا صورها وأن ذلك تم في عام 1955م، وهو العام الأول للثورة المسلحة ضد فرنسا في الجزائر، وفي الوقت الذي كانت فيه فرنسا وبريطانيا وإسرائيل يعدون سرًّا للعدوان الثلاثي لإعادة احتلال مصر ويمهدون له بكل دعاية ممكنة لتشويه صورة الحكم الوطني بعد أن تكفل هو بتشويه صورة التيار الإسلامي والأحزاب الوطنية الأصيلة بتحريض منهم.

في رأيي أن العسكريين في مصر لم يكونوا في البداية متجهين إلى محاصرة الإخوان المسلمين أو اقتلاع الفكر الإسلامي الذي يزود الإخوان بالأنصار والحلفاء ويمدهم بتأييد شعبي ينمو ويزداد قوة وعمقًا طالما كانوا في حاجة للتحالف مع الإخوان، لكن هذا الانحراف حدث بعد فترة من حكم الثورة عندما اتجه عبد الناصر إليه فجأة (بعد أن كان حليفًا للإخوان ومتعاونًا معهم للقضاء على النظام الملكي الفاسد)

لكن عداء القوى الأجنية للإخوان على العكس من ذلك كان قديمًا وكان سياسة ثابتة واستراتيجية مدروسة وبعيدة المدى ومتفقًا عليها بين القوى الأجنبية الكبرى منذ اشتراك الإخوان في الجهاد الفلسطيني عام 1947م، وهو العام الذي تم فيه الاجتماع الشهير للسفراء الثلاثة للدول الغربية الكبرى في "فايد" قرب الإسماعيلية

وقرروا (بناء على طلب حكوماتهم) توجيه إنذار مشترك لحكومة النقراشي، يطالبونه بالقضاء على الإخوان المسلمين حتى يمكن عقد الهدنة مع إسرائيل، وترتب على ذلك أن أصدر النقراشي بتهور ودناءة قرارًا بحل الإخوان المسلمين الذين كانوا يساندون الجيش المصري في فلسطين وحجته أنه لا يريد أن يحركوا الجماهير لمقاومة مفاوضات "رودس" التي أدت إلى عقد الهدنة مع إسرائيل.

هذه الهدنة هي التي يحولونها اليوم إلى "السلام" مع العدو الصهيوني، بل ويستعد بعضهم لتحويل السلام إلى التحالف مع الدول الأجنبية والصهيونية ضد الاتجاه الإسلامي الذي يصفونه بالأصولية أو التطرف، لسبب واضح هو أنهم يعارضون هذا السلام كما عارضوا الهدنة التي أدت إليه، بل إن وصف معارضي السلام أصبح يضم جميع الوطنيين والقوميين المخلصين الذين يعارضون الإستسلام.

إن الأصولية المزعومة مصطلح أوربي مرن واسع، يريدون أن يوسعوه حتى يشمل جميع المسلمين والعرب الذين يقاومون الاستسلام لمخططات إسرائيل وحلفائها، وسوف يتسع في المستقبل حتى يشمل بعض الحكام المخدوعين والزعماء الذين يتحالفون معهم الآن إذا توقفوا أو ترددوا في تنفيذ هذا المخطط أو عندما يجدون بديلاً أطوع منهم وأكثر استسلامًا، وأخشى أن يكون صديقي ياسر عرفات أول هؤلاء.

في اعتقادي أن تحول عبد الناصر وجماعته من التحالف مع الإخوان إلى العداء لهم ومحاربتهم وقتل زعمائهم وإلقاء كثير منهم في السجون والمعتقلات لم يكن أصيلاً عندهم، بل إن عناصر عميلة للصهيونية والقوى الأجنبية هي التي استطاعت استغلال تطلعهم للانفراد بالسلطة والسعي لاكتساب حلفاء في الخارج، سواء من الأمريكان أولاً أو الروس فيما بعد، واستعملت هذه العناصر المتسللة أساليب عديدة لإبعادهم عن الأصالة منها أنها دست لهم معلومات تدفعهم إلى هذا التحول وفض تحالفهم مع الإسلاميين ومعاداتهم هم وجميع الوطنيين الأصلاء سواء في مصر أو غيرها...

وقد قدم لنا كتاب السفير فتحي الديب دليلاً على ذلك، فإنه في مقدمة كتابه صفحة (13) يقول إنه ينشر كتابه:

"وفاء للمناضلين الشرفاء الذين ضحوا من أجل تحقيق الأهداف النبيلة لثورة 23 يوليو، التي رسم خطاها القائد عبد الناصر انطلاقًا من القيم والتقاليد التي أرسى قواعدها أجدادنا منذ انطلقت الأمة العربية تحت لواء الإسلام عقيدة وشريعة وفكرًا لتصنع تاريخها بما تضمنه من قيم، ويحافظ على مساره رجال آمنوا بربهم وبدينهم في صلاة وإيمان".

إن السيد فتحي الديب يريد إقناعنا بأن ثورة يوليو انطلقت تحت لواء الإسلام عقيدة وشريعة وفكرًا، وأنا أصدقه في ذلك، وأضيف له أن قادة هؤلاء الضباط الأحرار أقسموا على المصحف على ولائهم للإسلام عقيدة وشريعة أمام شيخهم المرحوم الأستاذ الشيخ "محمد الأودن"، وأن هذا القسم كان أساس التحالف بين الضباط الذين يتزعمهم جمال عبد الناصر وبين الإخوان المسلمين

لكن الذي حدث بعد ذلك يعرفه الجميع، وهو أنهم ضاقوا بهذا التحالف وتنكروا له، بل وزادوا على ذلك أن أعلنوا على الإخوان حملة إبادة واضطهاد لا مثيل لها، بل واعتقلوا الشيخ الوقور أستاذهم "محمد الأودن" الذي أقسموا له على المصحف بالولاء للإسلام وشريعته وكان يقبلون يديه ويحملون حذاءه عند الاقتضاء كما رواه لي شخصيًّا في مكة المكرمة في رحاب الحرم، ثم حاكموه وحكموا عليه وانحازوا لصف أعداء الإسلام والحركة الإسلامية وتعاونوا معهم لإبادة التيار الإسلامي كله على النحو الذي شرحناه.

إن العسكريين الذين استولوا على السلطة في مصر بإزاحة فاروق، وأباحوا لأنفسهم إبعاد رئيسهم "اللواء محمد نجيب" وضرب مستشارهم الأكبر "السنهوري" ومحاكمة شيخهم ومعلهم "الشيخ محمد الأودن"، اتجهوا لاستعمال نفس الأساليب بالنسبة لبعض زعماء الحركات الوطنية في الجزائر وشمال أفريقيا، وكان أول ضحايا هذه الأساليب الثورية البطل المجاهد مصالي حاج، ومساعدوه الذين جاءوا إلى مصر وساهموا في إنشاء جبهة التحرير الوطني الجزائرية.

إن كتاب السفير يحاول أن يلمح للقارئ أن ب بللا وإخوانه كانوا مؤيدين لذلك أو عالمين به على الأقل، ولكن هذا لا يعفيهم من المسئولية، فضلاً عن أنني أشك فيه، أو على الأقل أعتقد أنهم إنما اضطروهم لذلك وفرضوه عليهم كشرط لتزويدهم بالسلاح الذي يحتاجونه.

إن بن بللا قد هرب من السجن في الجزائر، وجاء من بلاده ماشيًا حتى وصل إلأى القاهرة قاصدًا الجامعة العربية بأمل أن يجد منها معاونة لإخوانه المجاهدين، فوجد أمانة الجامعة "مسكونة" باثنين من العسكريين الذين لا يعرفون شيئًا عن تاريخ الجزائر وكفاحها البطولي، وحركتها الوطنية التي جندت الشعب كله لمقاومة الاستعمار

كان على رأسهم مولف هذا الكتاب الذي بدأ عمله بحرمان جميع الوطنيين الذين لجأوا إلى مصر وحمتهم وآوتهم، وكفلت لهم حياة كريمة من معونات الجامعة التي يعيشون عليها مع أسرهم وأبنائهم ثم لوح له بالدعم والعون المالي، بشرط أن يتخلوا عن ولائهم لزعمائهم، وأن يربطوا أنفسهم بآخرين لديهم السلطة والمال والسلاح

وعندما طلبوا السلاح وعدهم بتزويدهم بما يحتاجون إليه من السلاح من مخازن جيش مصر، إذ أقسموا على الولاء لرئيسهم بدلاً من "سيدي الحاج" الأسير في فرنسا الذي لا مال عنده ولا سلطان وهذا في نظري ما حدث لصديقي أحمد بن بللا... إنه إذا كان قد قبل السير في هذا الاتجاه، قد لا يعتبر نفسه قد أخطأ؛ لأنه كان مضطرًا لذلك مكرهًا عليه.

إنني شخصيًّا فهمت أن له علاقة خاصة بالسلطات المصرية في مناسبات عديدة ولم أستطع أن أناقشه فيها، ولا أن أثير هذا الموضوع معه حتى لا أضعه في حرج، ولم أكن أستطيع أن ألومه في ذلك الوقت، طالما أنه فعل ذلك قاصدًا مساعدة إخوانه المجاهدين الذين ينتظرون منه مددًا ومساعدات، ولم يستطع ذلك إلا بعد أن ضحى بولائه القديم واستبدل به ولاءً جديدًا.

لكني لا أبرئ الذين اضطروه لذلك؛ لأنهم وضعوه في موضع الاختيار الصعب بين التمسك بولائه الأصيل الذي يؤدي في نظره إلى الفشل في مهمته التي جاء من أجلها، وقد يؤدي إلى فشل خطة إخوانه مجاهدي الجهاز السري العسكري لحزب الشعب وبين الطريق الآخر وهو الالتحاق بالمخابرات المصرية ورجالها الذين كانوا يعدونه بالمساعدة ولديهم الإمكانات التي توفرها لهم الحكومة المصرية.

إن المسئولين عن هذه الخطيئة هم الذين لم يكن لديهم نية تقديم مساعدة غير مشروطة، وجعلوها وسيلة لاستقطاب فريق من أعضاء الحزب الوطني الجزائري ودفعهم إلى الخصومة مع زعيمهم "مصالي" وإخوانهم الذين بقوا على ولائهم للزعيم الأسير، وأن سياستهم الارتجالية وأساليبهم الثورية قد حطمت الحزب الذي كان يقود الثورة

فخلا الميدان للانتهازيين والوصوليين والمتسللين وأصاب جبهة التحرير بهذا السرطان من المتسللين عملاء الصهيونية والاستعمار، هذا التسلل هو الذي أدى إلى الفتنة الحالية في الجزائر؛ لأن اقتلاع الأصالة والأصوليين ترك المجال واسعًا لمن يزرعون الفتن والفساد.

سياسة اقتلاع الأصول وزرع الفتن والفساد

يذكر لنا السيد السفير فتحي الديب في الفصل الأول من كتابه الذي أشرت إليه، أن أول خطوة خطاها للاتصال بالهيئات والأحزاب الوطنية في شمال أفريقيا كانت في شهر مارس عام 1954م.

والذين عاشوا في مصر أحداث أزمة مارس 1954م الشهيرة يعرفون أنها كانت أخطر أزمة واجهها عبد الناصر في طريق مسيرته لفرض الحكم العسكري رغم معارضة اللواء محمد نجيب رئيس مجلس قيادة الثورة وأنصاره في المجلس وخارجه الذين أيدوا المطلب الشعبي بإعادة الحكم المدني وإجراء انتخابات حرة

وقد أيد الإخوان المسلمون موقف اللواء محمد نجيب وأيدته جمعيات هيئة التدريس بالجامعات كلها، كما أيده السنهوري رئيس مجلس الدولة واعتد عليه في مكتبه بسبب ذلك، رغم أنه كان أكبر منظر ومشرع للثورة قبل ذلك، لكنه لم يكن يؤيد الاتجاه الناصري لفرض الحكم العسكري، وانحاز إلى الرئيس محمد نجيب لعودة الحكم المدني كما انحاز له الإخوان المسلمون والوفد وجميع الأحزاب التي كانت معروفة في تلك الأيام

حتى اضطر مجلس قيادة الثورة للتراجع، وأعلن في 25 مارس 1954م رفع الرقابة عن الصحف والإفراج عن جميع المعتقلين من الإخوان وأساتذة الجامعات وغيرهم في يوم واحد لكي يتفادى الانهيار الذي كان يهدد النظام كله بسبب تعدد القوى المعارضة وتضامنها الذي أدى إلى عزلة كامالة لعبد الناصر وجماعته وكادت تودي به.

هذا هو الوقف الذي يذكر لنا فيه السيد فتحي الديب أنه بدأ عمله للاتصال بجميع الأحزاب والهيئات في شمال إفريقية، وكانت أولى خطواته كما قال: هي مقابلة الأمير عبد الكريم الخطابي يوم 16 مارس 1945م ليأخذ رأيه فيما يمكن عمله لتحرير جميع أقطار المغرب العربي.. كما يدعي!!؟

ليس من المصادفة البحتة أنني كنت في تلك الفترة بالذات معتقلاً مع عدد من أساتذة الجاغمعة باعتبارنا كنا المحرضين لجمعيات هيئة التدريس في الجامعات لتعلن تأييدها لموقف الرئيس محمد نجيب الذي كان الرأي العام كله وراءه. ولو أن أحدًا ممن له موقف أو رأي سياسي سمع أن أحد أعوان عبد الناصر المقربين بدأ الاتصال بالأحزاب والهيئات الوطنية في شمال إفريقيا لقرر فورًا أن هذا العمل في ذلك الوقت له علاقة بأزمة مارس التي كانت تهدد عبد الناصر وحكمه العسكري وأنصاره جميعًا.

وقد بين لنا هذه العلاقة السيد فتحي الديب فيما كتبه عن أول موضوع عرضه وألح في عرضه في الاجتماعات التي عقدها مع المسئولين عن الحركات المغاربية، وهو سعيه إلى استبعاد الشيخ الفضيل الورتلاني بسبب علاقته التي وصفها بأنها مشبوهة!! بالإخوان المسلمين

وإبعاد الشيخ البشير الإبراهيمي عن الإشراف على الطلاب الجزائريين المبعوثين دون سبب إلا أنه يمثل أصحاب الفكر والثقافة الإسلامية، الذين يعتبرون في نظر أصحاب السلطة حلفاء طبيعيين للإخوان المسلمين، أي أن هدفه بعبارة أدق هو إحكام محاصرة التيار الإسلامي وإبعاد أعوانه من ميدان العمل الوطني والسياسي في الجزائر ليحتكره من يستطيعون النفاق لترضى عنهم السلطات المصرية...

إنني أخشى أن جهات أجنبية هي التي دفعت الأجهزة المصرية لهذا المسلك لكي تقوم دون وعي بمهمة خطيرة لصالح تلك القوى الطامعة، وهي مهمة اقتلاع الفكر والاتجاه الإسلامي في مصر والعالم العربي والإفريقي؛ لأنه يحظى بتأييد كبير لدى الجماهير المعارضة للنفوذ الأجنبي وخاصة في الجزائر وشمال أفريقيا بصفة عامة...

كما يذكر لنا السيد فتحي الديب في صفحة (22 و 23) من كتابه أنه في اجتماعه مع الأمير عبد الكريم بتاريخ (16 مارس 1954م): "اختلف معه في أسلوب الإعداد والتحضير وطريقة التنفيذ؛ لأنها كما يدعي كانت متسمة بطابع عمليات أوائل القرن العشرين " أي أن الأمير كان يريد أن يعيد ثورته في المغرب العربي كما كانت في العشرينات وهذا في نظر المؤلف (كان يتنافى مع متطلبات النضال المسلح في الخمسينات)

وأرجح أن يكون هناك اعتبار آخر هو ما فهمه من حواره مع الأمير من أن فكره وقلبه مشحون بالولاء للإسلام "التقليدي" الذي كان أساس ثورته في العشرينات، كما قال إنه أبدى: "تركيزه الواضح للسيطرة على كل صغيرة وكبيرة" أي أنه اشترط أن يتولى بنفسه القيادة دون تبعية لجهة أخرى، وهو نفس الشرط الذي ذكره "مصالي حاج" في لقائي معه بعد ذلك... ولذلك تركه واتجه جهة أخرى.

هذه الوجهة الجديدة هي (كما قال في صفحة 34) الإعداد لاجتماع تمهيدي يضم كافة ممثلي الأحزاب بشمال إفريقيا لدى الأمانة العامة بالجامعة العربية، وأن السيد عبد المنعم مصطفى مساعد الأمين العام –بتوجيه منه- قد وجه الدعوة لهذا الاجتماع في أوائل مارس عام 1954م: "في إطار رغبة الجامعة العربية لتوحيد جهودهم تمهيدًا لإمدادهم بالمعونة اللازمة" وأنهم حضروا جميعًا: "بعد أن وضح لهم من صيغة الدعوة الإرشارة إلى المعونة المادية المزمع تخصيصها للتجمع السياسي المطلوب توحيده" ، إنه بدأ في اتخاذ الأمانة العامة للجامعة أداة للاتصال بزعماء وممثلي الحركات والهيئات الوطنية.

رأينا من قبل أنه بدأ نشاطه في الأمانة العامة بمنع المعونة عن جميع العاملين في مكتب المغرب العربي، مما اضطر أصدقاءهم المخلصين ليجمعوا لهم ما يسد رمقهم، كما ذكرت من قبل بعد رفض الأمين العام وساطتنا لتغيير هذا القرار الذي فرض عليه من جهة أخرى والآن يعترف أنه هو الذي كان يمثل الجهة الأخرى، أي السلطة العسكرية، وعندما تكررت التماساتهم وشكواهم

يدعوهم إلى الاجتماع من أجل إنشاء هيئة جديدة مقابل معونات مالية لمن ينضم إليها، ويفهم من ذلك أن هذه المعونات التي ستخصص لها ستكون بمثابة رشوة مقابل الالتزام بالمسلك الذي تريده المخابرات والذي يشير إلى أن الأمير عبد الكريم لم يكن مستعدًا لقبوله؛ لأنه اشترط أن يكون مستقلاً، ومع ذلك لا ينسى أن يجرحهم وينتقدهم بحجة أنهم سارعوا للحضور "لتعطشهم لهذه المعونة المادية" التي حرمهم منها بعد أن كانت الجامعة العربية تقدمها من قبل تشجيعًا دون شرط، سوى أن يتعاونوا جميعًا في إطار مكتب المغرب العربي كخطوة عملية في سبيل تضامنهم ووحدتهم...

إن استخدام التجويع ثم الرشوة وسيلة لإذلال اللاجئين السياسيين في مصر، والسيطرة على المكافحين من أجل مقاومة الاستعمار في بلادهم كان هو بداية الخطة الناصرية لإقامة علاقات جديدة ثورية مع أفراد الأحزاب والهيئات المتعددة العاملة في ميادين الكفاح الوطني في شمال أفريقيا...

هذا هو الأسلوب الثوري الجديد الذي اتبعته العسكرية المصرية، وهو الذي جلب حولهم عددًا من طلاب المنافع والوصوليين والمنافقين، وأبعد عنهم ذوي الاعتزاز بالعقيدة والفكر التقليدي، والملتزمين بالخلق والكرامة والإباء مثل الأمير عبد الكريم، أو الملتزمين بالوفاء لهيئاتهم ومنظماتهم التي ينتسبون لها مثل كثيرين غيره، ومعنى هذا أن المخابرات بدأت خطة ثابتة لإبعاد رموز الحركة الإسلامية أولاً، ثم إبعاد زعماء الحركات الوطنية الأصيلة بحجة أنها تقليدية وتضم الذين يعتزون بشخصيتهم ودورهم القيادي مثل الأمير عبد الكريم ومصالي حاج، بل وعلال الفاسي وأمثاله، الذين لا يقبلون أن يكونوا تابعين للمخابرات.

هذا هو ما كان يمكن أن يجول بخاطري لو كنت عرفت في ذلك الوقت كل ما سجله السيد فتحي الديب في هذا الكتاب، عن خطواته الأولى للعمل السري بالأسلوب الثوري في الجزائر وشمال أفريقيا في حين أنني كنت في ذلك الوقت معتقلاً مع عدد من أساتذة الجامعة المعارضين للحكم العسكري وكان كثيرون من الإخوان المسلمين وغيرهم من المعارضين والمؤيدين لمحمد نجيب معتقلين أيضًا، وكان الشارع يموج بالمظاهرات والمعارضة للحكم العسكري، وأهمها مظاهرة عابدين التي خطب فيها الرئيس محمد نجيب والشهيد الأستاذ عبد القادر عودة، والتي حكم عليه بالإعدام بسببها.

كان هناك كثيرون يتوقعون ويأملون أن تنجح المعارضة الشعبية في إزاحة الطاغوت العسكري الذي يهدد المجتمع المصري، ولو قيل لأحد منهم إن الأجهزة المصرية في ذلك الوقت بدأت اتصالات مع الأحزاب الوطنية في أقطار أفريقيا الشمالية لما تصوروا أن يكون ذلك إلا لتدعيم نفوذها في الداخل ومواجهة خطر الانهيار أمام المعارضة التي يتزعمها محمد نجيب والإخوان المسلمون وجميع الأحزاب في مارس 1954م.

في صفحة (33) من كتابه يضيف أن أول ما سمعه من الشاب الثائر "مزياني مسعود" (بن بللا) في الاجتماع الذي عقد في (3 أبريل 1954م) بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية أنه أوضح له أنهم جاءوا من بلادهم إلى مصر لا يطلبون مالاً، إنما يطلبون سلاحًا يقاتلون به فرنسا؛ لأنهم قرروا أن يواصلوا العمل العسكري والمقاومة الفدائية ضد الاحتلال وفات سيادته أنه قصد من ذلك إبداء استعلائهم واستنكارهم أسلوب التلويح بالمساعدات المالية.

كذلك لم يفطن سيادته إلى أن كلام بن بيللا معناه أن الشعب في الجزائر لم يكن ينتظر من يدفعونه إلى الكفاح؛ لأنه كان قد قرر بدء ثورته المسلحة، أو بالأصلح الاستمرار فيها وتصعيدها وأن كل ما كان يلزم له هو مزيد من السلاح، وأن هناك في الجزائر ما سماه "التنظيم العسكري السري لحزب الشعب" هو الذي بعثه إلى الجامعة العربية ليطلب منها إمدادهم بالسلاح وقد أفاض سيادته فيما قدمه بن بللا من تفصيلات هذا التنظيم

وخطته مما يدل على أنه نشأ وتكون منذ مدة طويلة هناك دون حاجة لمن يرسم له خطته أو يتولى قيادته، وأنه ثمرة كفاح طويل لحزب وطني أصيل هو حزب الشعب الجزائري الذي أنشأه "مصالي حاج" منذ عام 1937م، وكان المتحدث أحد أعضائه، وأن زعيمه ومؤسسه هو الرجل العظيم "مصالي حاج" الأسير في فرنسا قد بدأ كفاحه لاستقلال الجزائر منذ عام 1936م

أي بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، وعقب فشل ثورة الأمير عبد الكريم الخطابي بالمغرب وربما قبل أن يولد السيد السفير، أو غيره من المسئولين في الحكومة الناصرية، وبالتالي فإن هذا الحزب العريق الأصيل ليس من صنع السلطات المصرية ولا تابعًا لها...

لم يذكر لنا المؤلف شيئًا عما قاله بن بللا عن هذا الزعيم البطل المجاهد الأسير في فرنسا والمحكوم عليه بالإعدام في عام 1937م، والذي بقي في الأسر طوال حياته حتى لاقى منيته في معتقله في فرنسا، دون أن يرى وطنه أو يسمح له بأن يموت على تراب الجزائر لذلك سأجدني مضطرًا لكي أنقل للقارئ ما كتبه بن بللا في مقدمة لكتاب مطبوع نشر عام 1980م يحوي مذكرات "مصالي حاج"

قال فيها ما يلي:

ما أكتبه هنا هو شهادة وإقرار يمليه علي ضميري، إن هذه الشهادة نتيجة لشعور ألح علي منذ مدة طويلة خلال ذلك الليل الطويل الذي قضيته في السجن في هذا الصمت الطويل في مواجهة ضميري بعيدًا عن ضوضاء الحياة ورنين الكلمات، أقنعتني نفسي بأنه يجب علي أن أؤدي هذه الشهادة.
كلما استعدت مسيرة حياتي أجد ذكرى "مصالي حاج" تفرض نفسها علي؛ لذلك قررت أن أنصفه وأؤدي حقه وأرد له اعتباره... إن حياتي المملوءة بالأحداث، وإني أدين بكثير منها للقائي بهذا الرجل العظيم. لقد أتيحت لي هذه الفرصة عندما استعدت حريتي واستطعت أن أعود إلى "تلمسان" وأن أزور قبر "مصالي" في عام 1980م، ولذلك في شهر نوفمبر الذي كان شهرًا فاصلاً في مصير بلادنا وشعبنا.
إن ضوضاء الحياة ورنين بعض الكلمات "كلمات من؟!!" هي بلاشك كانت في وقت ما هي التي أبعدتني عن ذلك الرجل حتى وصلت إلى مواجهته. الحقيقة أن "مصالي الحاج" إنما يمثل بلدًا وشعبًا، وأكثر من ذلك أنه يمثل النواة التي أنشأت الحركة الوطنية، التي بدأها في عام 1936م في فرنسا، ثم نقلها إلى أرض الجزائر في عام 1937م...
إن مصالي بالنسبة لجميع الجزائريين هو "سيدي الحاج" بالنسبة لنا نحن أعضاء حزب الشعب الجزائري، كان له الدور الأكبر في مصيرنا. إن هذه تحية يستحقها من شعبنا، ومن خلاله لابد أن تعترف بها شعوب أخرى كثيرة في يوم من الأيام".

إنني أرجو السيد السفير فتحي الديب أن يقرأ هذه المقدمة التي كتبها بن بللا عام 1980م، ويقرأ كذلك مذكرات الزعيم "مصالي حاج" الذي لم يعطه حقه في كتابه ولا في فكره ولا في الخطط التي سار عليها. إن شهادة أحمد بن بللا بعد أن ذاق مرارة السجن والاعتقال والإقامة الجبرية التي فرضها عليه صديقه وزميله هواري بومدين عقب انقلابه في عام 1965م، وبقي في السجن أو المعتقل أو الإقامة الجبرية، ولم يخرج منها إلا في عام 1980م، جديرة بأن يتأملها المؤلف قبل أن يعيد طبع كتابه

إنها صحوة ضمير مناضل تائب كان أول ما فعله هو زيارة قبر "مصالي" في مسقط رأسه في "تلمسان" وكتابة مقدمة بتوقيعه لمذكرات "مصالي حاج" لأداء شهادته لإنصاف "مصالي" وإعطائه حقه ليرد إليه اعتباره، ويدعو الشعوب الأخرى لكي تعترف بدور "سيدي الحاج" زعيم الوطنية لدى جميع الجزائريين، حتى أولئك الذين تنكروا له وساروا في طريق المجابهة معه طامعين مخدوعين أو غافلين أو مكرهين أو مضطرين!!؟

إن تمزيق الأحزاب الوطنية والقضاء على الزعامة الأصيلة في أفريقيا الشمالية، بل وفي جميع الأقطار العربية كان هدفًا دائمًا وثابتًا للقوى الأجنبية الطامعة في السيطرة على منطقتنا واستغلال ثرواتنا، ومما يؤسف له أن السلطات المصرية في عهد الحكم العسكري سارت في هذا الاتجاه وعملت لتمزيق هذه الأحزاب الأصيلة وخاصة في مصر والمغرب والجزائر ما الأحزاب العميلة الموالية للقوى الأجنبية فإنها على العكس من ذلك نمت واستقرت، فحزب بورقيبه في تونس الموالي للفرانكفونية والعلمانية ما زال مسيطرًا بعد أن غير جلده كما هو معروف وتحول أيضًا إلى حكم عسكري بعد الانقلاب على بورقيبه نفسه.

كذلك الحزب الشيوعي الجزائري غير جلده واسمه ليقود التحول الاشتراكي الذي رفع شعاره العسكريون في مصر، وسار معهم بن بللا وتعاون معهم في هذا المنهج الاشتراكي الذي رأت القوى الأجنبية أنه وسيلة لاقتلاع الفكر الإسلامي وتخفيف منابع الحركات الإسلامية بجعل الإلحاد العلمي بديلاً عن العقيدة السماوية. وثالثة الأثافي حزب البعث العفلقي الذي منح السلطة المطلقة لاقتلاع الإسلام من جذوره في سوريا والعراق على يد العسكريين العلويين في الأولى، والصداميين التكريتيين في الثانية...

هذه الحركات الثلاث الموالية والعميلة للقوى الأجنبية خدعت السلطات المصرية واحتمت بقوى أجنبية منعت عبد الناصر من القيام بعمل جدي لتحطيمها، بل بالعكس أقدمت على التصالح أو التحالف معها، وخصوصًا مع البعثيين والشيوعيين حينًا، كما فرضت عليها المهادنة مع الشيوعيين أحيانًا إرضاء الكتلة الاشتراكية التي تزعمتها روسيا وبتأييد ضمني

وثابت ودائم من الاستعمار الغربي الذي وجدها فرصة لتنفيذ استراتيجيته المعادية للإسلام بواسطة الشيوعيين والعسكريين والعفلقيين والبورقيبيين وأمثالهم ممن يجيدون التلون والتحول والمنافقين الذين عملوا لحسابهم، والذين سيزولون بعد أن أدوا أدوارهم في إخلاء المنطقة كلها من الإسلام ومن الأصالة والوطنية الصحيحة ليزرعوا فيها الفتن والفساد الذي يمكن الصهيونية وحلفاءها من السيطرة الكاملة على بلادنا فلا حول ولا قوة إلا بالله...

معيزة ومصالي حاج وحزب الشعب الجزائري

لقد ذكرت "مصالي حاج" عدة مرات، وقد حان الوقت ليعرف القارئ كيف التقيت به لأول مرة، وكيف عرفت شخصيته وجهاده في سبيل استقلال الجزائر. كان ذلك في بداية إقامتي في باريس عام 1946م، وكان الوطنيون الجزائريون يعتبرون أن باريس هي العاصمة الحقيقية التي تدار منها شئون الجزائر، التي تصر فرنسا على اعتبارها جزءًا من الجمهورية الفرنسية وليست مجرد مستعمرة من مستعمراتها، وأنها كانت تضم محافظات فرنسية، كما أن وجود عدد كبير من الجزائريين الذين يعملون في باريس مكن الحركة الوطنية من تنظيم مركز قوي لحزب الشعب الجزائري يضم أكبر عدد من هؤلاء العمال الكادحين في فرنسا، والذين يؤمنون بمستقبل وطنهم.

ثم إن الظروف في باريس كانت تمكنهم من أن يقوموا بنشاط لا يمكنهم أن يقوموا به في الجزائر نفسها، نظرًا لأن الحكام الفرنسيين في الجزائر، كانوا يطبقون قوانين خاصة لقمع الجزائريين وإرهابهم والاستبداد بهم، ويسمونها "القوانين الأهلية"، وتنطبق على المسلمين وحدهم، ولا تطبق على الفرنسيين أو الأجانب وهي تختلف عن القوانين الفرنسية التي تطبق في فرنسا، رغم أن الجزائر في نظرهم جزء من فرنسا ورغم أن القوانين الفرنسية تطبق على الفرنسيين والأجانب المقيمين في الجزائر.

لقد كانوا يصفون الجزائريين دائمًا بأنهم "المسلمون أو العرب" وكانت الكلمتان مترادفتان، ولا يسمونهم جزائريين بل بالعكس يعتبرون الفرنسيين المقيمين في الجزائر هم الجزائريين وهم المواطنون الكاملون أما أهل الجزائر فكانوا يسمونهم "مسلمين" ومعنى ذلك في ذهنهم أنهم طبقة معادية لهم أو يسمونهم "الأهالي" إشارة إلى أنهم طائفة مستضعفة مضطهدة يتمنون أن يجدوا الطريق إما لاستغلالها استغلالاً مفرطًا وإما لإبادتها، وكلا الأمرين في نظرهم لا مفر منه فالاستغلال هو وسيلة من وسائل الإبادة لأنه يضطر عددًا كبيرًا منهم إلى الهجرة إلى فرنسا وإلى بلاد أوروبا للعمل فيها

وهؤلاء مصيرهم أنهم يذوبون هناك في تلك المجتمعات الأوروبية والمسيحية، أما الذين يعيشون في الجزائر فيعيشون في رعب مستمر لا يتمتعون بأي حق من حقوق الإنسان سواء حرية الكلام أو العمل السياسي، أو حتى حرية العمل الزراعي أو التجاري فالأرض كلها تقريبًا نزعت من الأهالي المسلمين وأعطيت للمعمرين يملكونها ويسيطرون على من يعملون بها كأنهم عبيد للأرض طبقًا للنظام الإقطاعي الأوروبي في العصور الوسطى، حيث كان الفلاحون عبيدًا يلتصقون بالأرض ويملكهم مالك الأرض فضلاً عن حرمانهم من أن تكون لهم ثقافتهم العربية أو الإسلامية.

وكانت الإدارة الفرنسية تحارب التعليم العربي والإسلامي وتعتبر أن إنشاء مدرسة عربية جريمة يعاقب من يرتكبها، وهكذا فإن المسلم الجزائري بمجرد خروجه من الجزائر يشعر بأنه انتقل إلى عالم آخر يمارس فيه بعض الحقوق الإنسانية التي يتمتع بها البشر جميعًا وإن كانوا رغم ذلك يضطهدون أيضًا في فرنسا، ولكن بأساليب وبإجراءات تختلف عما يجري في الجزائر فهي تصرفات مخالفة للقانون الفنرسي وليست مدعمة بقوانين أهلية مثل تلك التي تحكم في الجزائر، وفريق بين اضطهاد بالقانون والاضطهاد المخالف للقانون

فإن الاضطهاد المخالف للقانون يعطي للمضطهد الحق في أنه يصرخ ويستنجد ويحتج ويقاوم في بعض الأحيان، وهذا هو ما يفعله الجزائريون المقيمون في فرنسا، ولكنهم كانوا يفضلون المقاومة السلمية وإذا اضطهر بعض أفرادهم للمقاومة الفعلية باستعمال السلاح أو العنف فإنهم لم يكونوا يترددون فيها، وقد أدى ذلك إلى أن الفرنسيين يتمهمونهم كثيرًا بأنهم يلجئون للعنف في فرنسا

وسبب اللجوء للعنف اعتقادهم بأن الآخرين يخالفون قوانينهم في معاملتهم ويستبدون بهم حتى في فرنسا نفسها، لكن الحركة الوطنية قدمت لهم بديلاً عن العنف الفردي وهو المقاومة السياسية والتنظيم الحزبي؛ لذلك أصبح للحزب الوطني "حزب الشعب" قاعدة صلبة من الجزائريين المقيمين في فنرسا وفي باريس بصفة خاصة، وكلهم عمال، لا يوجد منهم تاجر إلا نادرًا، في حين كان هناك بعض التجار من المغاربة ومن التونسيين ولهم محلات تجارية وبعضهم كان يتمتع بقدر لا بأس به من الثراء، أما الجزائريون فكانوا كلهم عمالاً.

لقد بدأت الحركة الوطنية داخل نقابات العمال الفرنسية، فتسربت إلى بعض قادتهم الأفكار الاشتراكية ولكنها لم تصرفهم عن قضيتهم الوطنية، كما أنها لم تتعمق في الجماهير، إن الحركة الوطنية الجزائرية تمتاز بأنها بدأت في باريس، ولذلك فإنها كانت تعتبر باريس قاعدتها وموطنها وعاصمتها وميدان عملها الأول وأن عدوها هو الحكومة الفرنسية وليس فقط العاملون أو الموظفون أو المعمرون المستوطنون في الجزائر.

وكان من حسن حظي في أول عهدي بباريس أنني تعرفت على المسئول عن حزب الشعب الجزائري في فرنسا، وهو الشهيد المرحوم "إبراهيم معيزة" وكان يسكن في منزل بالحي اللاتيني بالقرب من حديقة لوكسامبورج ويعيش مع زوجته وابنته، وكانت معرفتي به عن طريق اثنين من التونسيين أولهما صديقي الأستاذ "محمد المليلي" ، وكان طالبًا يدرس علوم المواصلات والاتصالات السلكية في باريس. وعندما عرفته قلت له إن علي أن أتعرف على المسئولين في جميع الحركات الوطنية في شمال أفريقيا وأولهم الجزائريون

فقال لي: إن لي صديقًا تونسيا هو السيد "الطاهر جيجة" وكان طالبًا في السربون في كلية الآداب قال لي إن "جيجة" هو تونسي ولكنه لا يعمل إلا مع الجزائريين ويعتبر نفسه عضوًا مجندًا في حزب الشعب الجزائري لأنه في نظره الحزب الوطني الشعبي الحقيقي، فأعجبني ذلك، والتقينا بـ"جيجة" في مطعم الطلبة (طلبة شمال أفريقيا) الموجود في سان ميشيل في رقم (115) وكانوا يعرفونه دائمًا بـ(115).

ما زال هذا المطعم موجودًا، فقد رأيته في آخر زيارة لي لفرنسا، وهو عبارة عن دور أرضي في إحدى العمارات يقدم لهم الغذاء بسعر معقول يكاد يقارب سعر المطاعم الجامعية في المدينة الجامعية، وطبعًا هذا بفضل العمالة الرخيصة والاجتهاد في المشتريات بالجملة وكذلك معونات من بعض الجهات العربية والإسلامية وبعض الهيئات التي ترعى الطلاب.

لقد التقيت "بجيجة" وأخذني إلى منزل الأخ "إبراهيم معيزة" وكان شابًا رقيقًا طيب الحديث وقد رحب بي كثيرًا لأنه كان يشعر بشيء من العزلة وخصوصًا بعد الحرب وسبب العزلة كما أعرف أو كما لاحظت، أن إخواننا الجزائريين عمومًا كانوا يشعرون بأن جميع أبناء الدول العربية والإسلامية يبتعدون عنهم ويخشون الاتصال بهم؛

لأن الفرنسيين يخوفونهم من ذلك ويشيعون لديهم أنهم فرنسيون، ولا يجوز لهم أن يعاملوهم على أنهم مواطنون عرب أو أنهم جزء من الأمة العربية أو الأمة الإسلامية، وقد لمست هذا بنفسي في أول وصولي لباريس، إذ طلبت من الملحق الثقافي أن يعطيني خطابًا إلى الجهات الفرنسية المختصة في وزارة الداخلية لكي أزور الجزائر زيارة سياحية أو دراسية ولكنه رفض وقال لي ابتعد عن الجزائر هذه فلا دخل لنا بها؛ لأن الفرنسيين يعتبرونها جزءًا من فرنسا فقلت له: وإذا كانت جزءًا من فرنسا ونحن في فرنسا فلماذا يمنعوننا من زيارة جزء من بلادهم العزيزة!

قال: هكذا، هذه سياستهم ونحن ليس من مصلحتنا الآن أن ندخل معهم في معركة من أجل الجزائر، فاشتغل بعلومك ودروسك ولا تفكر في هذا الموضوع إطلاقًا.

لقد سكت على مضض؛ لأنني وعدت الشيخ "الفضيل الورتلاني" بأن أعمل كل ما أستطيع لكي أزور الجزائر وأتعرف عليها وأعرف واقعها، وهذه النية لازمتني طوال مدة إقامتي في فرنسا، وقد استطعت أن أزور تونس، وطنجة، والمنطقة الشمالية في المغرب أما الجزائر فقد عدت لمصر دون أن أتمكن من دخولها، لكن الله عوضني عن ذلك أنني دخلتها في أول يوم من أيام الاستقلال كما سأذكر فيما بعد في عام 1962م...

أثناء إقامتي في فرنسا لاحظت أن الجزائريين عمومًا كانوا يشعرون بأن المسلمين والعرب المنتمين إلى البلاد الأخرى بما فيهم أبناء تونس والمغرب الأقصى يتعالون عليهم وكأنهم يقولون لهم بصيغة ضمنية نحن مواطنون لدولة عربية وقد تكون محتلة أو تحت الحماية، ولكن بلادكم في نظر فرنسا مستعمرة وأنتم أبناء المستعمرات، هذه العزلة جعلت الأخ "إبراهيم معيزة" يأنس كثيرًا بأن طالبًا من الشرق يبحث عنه ويجلس ويتحدث معه في شئون الجزائر

ويقول له إن الجزائر بلادنا جميعًا، ونقلت له صورة عن أحوال أبناء الجزائر وشمال أفريقيا في مصر ونشاطهم وتبين لي أنه لم يكن هناك أي اتصال مباشر بين هاتين المجموعتين من أبناء الحركة الوطنية، إذ لم يكن هناك أي مراسلة بسبب ظروف الحرب، وأذكر أن الذين ودعوني في مصر لم يقل لي أحد منهم إنه يعرف مندوب الحركة الوطنية في فرنسا (رغم أنه يمثلها في مصر) لكي أتصل به في فرنسا وقالوا لي أنت هناك تبحث وتسأل حتى تعرف، وقد يكون هذا بسبب سرية الحركة وقد يكون بسبب انقطاع الاتصال زمن الحرب وهو الأغلب.

إن "معيزة" بدأ يقص على تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية وكيف نشأت هذه الحركة في فرنسا نظرًا لوجود قدر من الحرية يسمح لهم بالنشاط والاجتماع والخطابة والكلام والاتصال بالصحف، والصحف طبعًا هي صحف فرنسية ولا تهتم بقضاياهم إلا من باب الإثارة لا أكثر ولا أقل

وقال: بلاشك إن اليساريين الفرنسيين وخصوصًا الشيوعيين والاشتراكيين والنقابيين منهم بصفة خاصة كانوا أول الناس اتصالاً بهم، لاحبًا فيهم؛ لكن لأن النقابات كانت تريد توسيع قاعدتها نظرًا لوجود عدد كبير من العمال من أبناء شمال أفريقيا، وكان لهم الحق في الانضمام إلى النقابات، والنقابات تهتم بالاتصال بهم وتدعوهم للاشتراك فيها لأن النقابات كانت حرة ومتنافسة، فالنقابات الأولى والكبرى كان يسيطر عليها الاشتراكيون والشيوعيون، ولكن وجدت بعد ذلك نقابات الأحزاب الأخرى وكان هناك صراع وتنافس كبير بين هذه النقابات.

هذا التنافس استفاد منه أبناء الجزائر وأبناء شمال أفريقيا في أنه أصبح لهم موقع يستطيعون أن يمارسوا فيه بعض النشاطات ويبذلوا جهدهم للشكوى من سوء الأحوال في بلادهم وتبليغ الرأي العام الفرنسي شكاوى بلادهم وشعوبهم. عندما التقيت بالسيد إبراهيم معيزة لأول مرة قال لي إنه الآن مشغول بحملة يقوم بها الحزب في الجزائر وفي فرنسا للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين والمسجونين السياسيين عامة وخصوصًا الذين اعتقلوا إثر حوادث سطيف وقسنطينة في (8مايو 1945م) التي اهتز لها الرأي العام في الجزائر وفي فرنسا

وكذلك الإفراج عن مصالي حاج المحكوم عليه بالإعدام أو بالأشغال الشاقة المؤبدة والذي قضى مدة طويلة في سجن "لامبيز" في الصحراء الكبرى وهو سجن مخصص للمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة، ودعاني لحضور أحد الاجتماعات التي نظمها لهذا الغرض وهناك وجدت قاعة مملوءة بالجزائريين وكانوا يشتعلون حماسًا، وكان المتحدثون مجموعة من الجزائريين والفرنسيين يشيدون بحزب الشعب وزعيمه "مصالي حاج" ويتحدثون عن الفضائح التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر وعن حوادث "سطيف" وضحاياها الذين قتلوا والذين سجنوا، وأيدوا المطالبة بالإفراج عنهم.

حضرت اجتماعات أخرى من هذا القبيل، وكانت لي لقاءات متكررة مع "إبراهيم معيزة" عرفت فيها كثيرًا عن تاريخ الحركة الوطنية في الجزائر وتاريخ زعيمها "مصالي حاج" الذي كان عاملاً من العمال الذين جاءوا للبحث عن الرزق، وكان يتنقل من عمل إلى عمل وكلها كانت أعمال يدوية عادية، وأنه دخل النقابة

وهيأت له شخصيته أن يبرز نشاطه في النقابة الفرنسية اليسارية، وشجعه النقابيون ليستفيدوا منه في جذب العمال الجزائريين إلى نقابتهم، وبدأ يدعو العمال الجزائريين أن يدافعوا عن حقوق شعب الجزائر وعن عروبتها وإسلامها وأنشأ في عام 1936م حركته وسماها "نجم شمال أفريقيا" ، ومعنى ذلك أنه كان يهدف لوحدة الأقطار الثلاثة

وعندما قرر العودة للجزائر ليمارس نشاطه هناك في عام 1937م أنشأ حزب الشعب الجزائري وبسببه اعتقل وحكم عليه بالإعدام الذي عدل إلى السجن المؤبد لأن حزب الشعب الذي أنشأه يطالب باستقلال الجزائر وانفصالها عن فرنسا، وهذه خيانة لفرنسا؛ لأنها في نظرهم حركة انفصالية وجناية طبقًا للقانون الفرنسي الذي يقرر أن الجزائر جزء من فرنسا يضم ثلاثة محافظات فرنسية وراء البحار.

وقد لاحظت أن هذه النظرة الفرنسية كانت عقبة في طريق وحدة الأحزاب الوطنية في شمال أفريقية؛ لأن المغاربة أو التونسيين كانوا يخشون التورط مع الجزائريين تورطًا يؤدي إلى أن يقعوا تحت طائلة القانون الجنائي الفرنسي، ومع ذلك كان الجمهور متحمسًا لإيجاد صيغة من التعاون والتضامن بين هذه الحركات الوطنية

وقد لاحظت أن الحركة الوطنية الجزائرية كانت دائمًا تعتبر وحدة الحركات الوطنية في شمال أفريقيا في صالحها لأن الجزائر كان وضعها أسوأ بكثير من وضع تونس والمغرب من الناحية القانونية والناحية السياسية، حيث أن تونس والمغرب دولتان موضوعتان تحت الحماية، أما الجزائر فهي تعتبر مستعمرة أو إقليمًا ضمته فرنسا إليها.

وطول مدة إقامتي بفرنسا كنت أعتب على إخواننا المغاربة والتونسيين؛ لأن عندهم قدرًا كبيرًا من الأنانية ومن الظن الخاطئ بأن قضية بلادهم هي قضية سهلة وليس من مصلحتها أن ترتبط بقضية الجزائر التي فيها صعوبات كبيرة، وهذا هو ما كان يمنع من وحدة الكفاح، وحاولت طول مدة إقامتي أن أجذب الجميع إلى خطط متفق عليها ومنسقة قدر الإمكان، ولكن هذا المسعى لم يكن لقى نجاحًا عند المغاربة والتونسيين نتيجة لذلك الفهم الخاطئ.

في يوم من الأيام بعد شهور قليلة وبعد عدة مقابلات مع "معيزة" أخبرني أن مسعاهم قد أحرز نجاحًا وأن الحكومة الفرنسية تتجه إلى الإفراج فعلاً عن "مصالي حاج" وعن كثير من المعتقلين السياسيين في الجزائر، وقال لي إنه يتوقع وصول "مصالي حاج" إلى باريس لأن الفرنسيين لا يريدون أن يسمحوا له بالذهاب إلى الجزائر إلا عن طريق باريس، وفعلاً أبلغني بوصول "مصالي" وقد مني إليه في منزله وجلست معه مدة طويلة ثم تعددت مقابلاتي معه.

بعد أن وصل مصالي إلى فرنسا كان يستعد للعودة للجزائر وكان متفائلاً، وكلف "إبراهيم معيزة" بأن يسبقه إلى هناك ليقوم بما يلزم من استعدادات لنقل الحركة إلى الجزائر وبعد شهور قليلة من تعارفي مع "إبراهيم معيزة" عاد إلى بلاده، وكان هذا آخر لقاء لنا لأنني سمعت فيما بعد أنه توفي في "حادث سيارة" ولحق بقافلة الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم من أجل الجزائر... وهم كثيرون قبله... وكثيرون بعده.

ابن الشعب العربي المسلم زعيم حزب الشعب الجزائري

أشرت إلى لقاءاتي الأولى عام 1946م مع مصالي حاج عقب وصوله إلى باريس عائدًا من سجن "لامبيز" في الصحراء الكبرى في طريقه إلى وطنه، ليستأنف جهاده لتحرير شعبه من الاستعمار الفرنسي.

لقد شاهدتي بنفسي مدى الحماس الذي قوبل به في الاجتماعات الحاشدة بالآلاف من مواطنيه الجزائريين في فرنسا، وجميع العرب والمسلمين المقيمين بها، وتابعت استعداداته للعودة إلى وطنه ليقود كفاح حزبه من أجل التحرير الكامل، لكن قوى الشر والبغي حرمته من ذلك ومنعته من دخول الجزائر وفرضت عليه الاعتقال في باريس تحت اسم الإقامة الجبرية ثم زادت فمنعت عليه دخول باريس ذاتها والمنطقة المحيطة بها مسافة مائة كيلو متر.

وقد ذكرت في حلقة سابقة زياراتي المتكررة له، وكان يرافقني في كثير منها أحد المسئولين عن الحزب في فرنسا، وأولهم صديقي العزيز الشاب الشهيد إبراهيم معيزة الذي كان مندوب الحزب في فرنسا، كما أشرت إلى ما رواه لي "مصالي" عن تأثره بلقائه بعد الحرب العالمية الأولى مع الأمير شكيب أرسلان الذي جعله ينتقل من ساحة العمل النقابي إلى العمل الوطني

وأنشأ حركة وطنية سماها "نجم شمال أفريقية" عام 1936م، ثم ذكرت انتقاله إلى الجزائر وإنشاءه حزب الشعب الجزائري عام 1937م، ثم اعتقاله؛ لأن الحزب نادى بالاستقلال ومحاكمته والحكم عليه بالإعدام وإيداعه بسجن "لامبيز" حتى عام 1946م باعتبار أن طلب الاستقلال يعتبر حركة انفصالية وخيانة عظمى للجمهورية الفرنسية التي تعتبر الجزائر جزءًا منها.

لقد كان الإفراج عنه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وليد حوادث "سطيف" (8 مايو 1949م) التي راح ضحيتها آلاف المتظاهرين؛ لأنهم طالبوا بالاستقلال ورفعوا راية الأمير عبد القادر، وكان الهدف من الإقامة الجبرية محاولة من الاستعمار لترويضه لكنهم فشلوا فقرروا إبعاده نهائيًا وفرض الإقامة الجبرية عليه طوال حياته، ولم يكن ذلك إلا وسيلة لاغتياله سياسيًّا وإيجاد بديل عنه.

كان البديل الأول هو عباس فرحات الذي أسس حزب البيان، وهذا البيان الذي يشير إليه اسم الحزب كان عبارة عن برنامج يتضمن المطالبة بفرنسة الشعب الجزائري نهائيًّا أو ادماجه في المجتمع الفرنسي باسم المساواة بين الجزائريين والفرنسيين في الحقوق والواجبات باعتبارهم جميعًا فرنسيين، ولما رفع ديجول شعار الاتحاد الفرنسي وأنشأ برلمانًا يضم ممثلين عن الشعوب في المستعمرات

ليكون الاتحاد اسمًا مستحدثًا للإمبراطورية الاستعمارية سارع عباس فرحات وحزبه إلى تأييد هذا الاتحاد وطالب هو وحزبه بإدخال الجزائر في الاتحاد الفرنسي ورشح عددًا من أنصاره للانتخابات التي قاطعها حزب الشعب ودخل هو وستة من أصدقائه ممثلين عن شعب الجزائر في الاتحاد الفرنسي وأحيطوا بهالة إعلامية فرنسية لتحويل الحركة الوطنية إلى الاتحاد الفرنسي بدلاً من الاستقلال وعارض ذلك حزب الشعب برئاسة "مصالي حاج" ...

بعد انتهاء الدورة البرلمانية لمجلس الاتحاد الفرنسي، وفي غياب "مصالي حاج" ومحاصرته في فرنسا اجتمعت اللجنة المركزية لحزب الشعب في الجزائر وقررت دخول الانتخابات لبرلمان الاتحاد الفرنسي تحت مظلة هيئة جديدة أنشأتها هي "حركة انتصار الحريات الديمقراطية" واعتبروها مستقلة حتى يبقى حزب الشعب مستمرًا على خطته في رفض الاندماج في الاتحاد الفرنسي الديجولي

ولتكون هذه الجبهة الجناح السياسي للحزب على أن تبقى أجهزة الحزب تحت سيطرة الجناح العسكري السري، واعتبر كثيرون ذلك التحايل غير مقنع وأنه كان انحرافًا عن مبدأ الحزب الذي يصر على المطالبة بالاستقلال ويرفض الاندماج حتى ولو كان في صورة اتحاد فرنسي أما هم فعللوا ذلك بضرورة سد الطريق على حزب البيان ورئيسه عباس فرحات حتى لا ينجح في حركته التي تهدف إلى الاندماج في فرنسا وفعلاً نجح مرشحو حركة انتصار الحريات الديمقراطية ولم ينجح أحد من مرشحي حزب البيان وخسر عباس فرحات المعركة، لكن نتج عن ذلك نوع من الازدواجية في المسئولية وهي التي ترتب عليها انقسام الحزب.

عندما جاء هؤلاء النواب إلى باريس كان يرأسهم الدكتور الأمين "دباغين" الذي كانت لي معه جولات طويلة وجلسات عديدة، فهمت منها أن هناك من يسعون للإيقاع بينه وبين "مصالي حاج" وقد تم فعلاً إبعاده بعد ذلك ودخلت مجموعة أخرى موالية لمصالي حاج برئاسة "مزغنة" ، ومع ذلك استمر الشقاق بين اللجنة المركزية وبين مصالي حاج

مما أدى إلى انقسام داخل حزب الشعب وصراع بين "مصالي حاج" ومن معه وبين أغلبية اللجنة المركزية وقد نما هذا الصرا حتى أضعف الحزب وهدد الحركة الوطنية كلها، واتجه مندوبو الحزب في القاهرة وهم (محمد خيضر، بن بللا، الشاذلي مكي، حسين آيت أحمد) إلى السعي للتوفيق بين الطرفين، وأيدوا خطة التنظيم السري العسكري في بدء الكفاح المسلح باعتبار ذلك أحسن وسيلة لإخراج الحزب من هذا الانقسام.

إنني أشرت في حلقة سابقة إلى أن بللا شخصيًّا هو ومحمد خيضر طلبا مني السفر إلى فرنسا "في صيف 1954م" لإقناع "مصالي" لتأييد خطتهم في بدء الكفاح المسلح وإنهاء حالة الانقسام في الحزب، وذهبت إليه وتحدثت معه مقترحًا أن يرسل ممثلين له إلى مصر للالتقاء بالمجموعة التي تمثل الحزب لدى الجامعة العربية؛ لأن مناقشة هذه الأمور معه في "المعتقل" (غير مأمونة) ووافق على ذلك

وكان هذا آخر لقاء لي معه وعلمت فيما بعد أنه اختار لذلك "مزغنة" ممثل حركة انتصار الحريات الديمقراطية ومعه "فيلالي" الذي كان اسمه الحركي "عابد" ، وأعتقد أن قرار اعتقالي صدر في يوم وصولهم إلى مصر وقبل اجتماعي بهم اعتقلت في السجن الحربي، ثم اعتقلا، ولم ألتق بهما بعد ذلك في السجن أو خارجه، ولم أعرف شيئًا عن سبب ذلك ولا الغاية منه، ثم علمت بعد ذلك بأن أحدهما وهو "الفيلالي" قد اغتيل في فرنسا بعد أن أفلت من الكمين الذي نصب للثلاثة في مطار القاهرة.

والآن سأنقل للقارئ ما كتبه السيد فتحي الديب الذي كان المسئول الأول عن هذه العملية الغامضة الخطيرة. يذكر سيادته في صفحة (69) أن:

"مصالي فوض ساعده الأول أحمد مزغنة بخطاب تفويض مؤرخ 25 نوفمبر 1954م ولحقه زميله عبد الله الفيلالي، في حين فوضت اللجنة المركزية حسين الأحول، وأورد صورة كتاب التفويض الموقع عليه من مصالي حاج بتاريخ 25 نوفمبر 1945م، وهو موجه إلى سعادة الأستاذ الكبير السيد عبد الخالق حسونة بصفته أمينًا عامًا لجامعة الدول العربية، وحضرات السادة معاونيه الأمناء المساعدين وسوف أنشر نصه كاملاً في المرفقات.

يظهر من صيغة الخطاب أنه كتب في الجزائر، وأن مصالي وقع عليه وأرسله لمندوبي الحزب في القاهرة ليساعدوا "مزغته" في إعادة تأسيس وفد الحزب بالقاهرة كما اتفقت عليه كلمتنا واقتضه رغبة "الأحرار والمجاهدين" ، أي أن "مزغنة" بصفته ممثل مصالي سيكون رئيسًا لبعثة الحزب لدى الجامعة العربية، وسيكون ذلك ضمانًا لبقاء "مصالي" رئيسًا للحركة الوطنية بجناحها السياسي والعسكري.

إن مندوب "مصالي" كما يذكر السيد السفير قدم له خطاب التفويض بمكتبه يوم 6/1/1955م وأضاف ما يلي في كتابه:

"وحضر إلى مكتبي يوم الخميس (6 يناير 1955م) السيد "أحمد مزغنة"، مندوب "مصالي حاج" وقدم لي كتاب التفويض ودار بيننا حديث طويل التزمت فيه. بكل ما تم الاتفاق عليه في البنود السابق ذكرها، ووجدت من "ميزغنة" تقبلاً لكل ما طرحته وتم الاتفاق في نهاية اللقاء على قيامي بتهيئة اجتماع يضم إلى جبهة الكفاح هؤلاء الثلاثة ولينضم إليه باعتباره نائبًا لمصالي الحاج، لتبادل وجهات النظر والتوصل إلى اتفاق يوحد جهودهم كأبناء للشعب الجزائري"...

وفي صفحة (72) من كتابه يذكر ما تم الاتفاق عليه في اجتماع بمنزله 10/1/1955م حيث قال:

"وناقشنا موقف توحيد جهود جبهة الكفاح الجزائري خارج الجزائر وطرح الأخ بن بللا المبادئ الثلاثة التي وضعها جيش التحرير كشرط أساسي للانضمام لجبهة التحرير الجزائرية، ووافق أحمد مزغته على المبادئ الثلاثة وأعلن إيمانه بها، وعرضت على المجتمعين وجهة نظر مصر والثورة والسابق إيضاحها".

وفي صفحة (73) قال:

"حررت محضرًا للاجتماع بما تم فيه وما استقر رأي الجميع عليه من اتفاق، ووقعوا عليه جميعًا، ووقعت عليه أنا وزميلي عزت سليمان كشاهدين على الاتفاق يوم 10 يناير 1955م، واعتبرنا ما تم خطوة طيبة على الطريق وقررنا الاستمرار في ممارسة ضغوطنا على باقي الهيئات وممثلي الأحزاب للانضمام للجنة المتفق على تكوينها وكلفت أحمد سعيد بإذاعة خبر انضمام "مصالي الحاج" إلى جبهة التحرير بعد اعترافه بالمبادئ الثلاثة وحقق الإعلان أثره في اتصال ممثلي الأحزاب والهيئات بنا لبحث إمكانية انضمامهم للجنة".

ويلاحظ أن سيادته لم يورد صورة هذا المحضر ضمن ملاحق كتابه رغم كثرة ما تضمنته هذه الملاحق مما هو أقل من ذلك أهمية.

وفي صفحة (77) يقول:

"ثامنًا: ممثلو مصالي الحاج يباشرون التآمر – لم يكن مداد الميثاق الذي وقعه ممثلو مصالي الحاج قد جف بعد، وإذا بنا نعلم أن ثلاثي مجموعة مصالي بدأ في القيام بالعديد من الاتصالات للتخريب على الثورة واعتزامهم السفر إلى ليبيا وفرنسا تحت شعار جبهة التحرير لبث الفرقة وتشكيك الجزائريين بقادة الثورة، وحاولوا إيهامنا بقرارهم السفر لإقناع عناصرهم بالاندماج تحت لواء جبهة التحرير
واجتمعنا على الفور بالأخ أحمد بن بللا لدراسة الموقف، وانتهينا إلى خطورة ما يمكن أن يقدموا عليه ضد الثورة وطلب مني بن بللا سرعة التدخل لعدم تمكينهم من الوصول لا إلى ليبيا أو فرنسا، وهم (أحمد ميزغته وعبد الله الفيلالي، الشاذلي مكي) ورغبة منا ومنه في عدم اللجوء للتصفية الجسدية قررنا اختطافهم من الطائرة بعد تحركها للإقلاع، والتحفظ عليهم تحت حراسة مشددة عليهم لمنع اتصالهم بالخارج بأية صورة
وعاوننا في ذلك "اليوزباشي حسين حافظ" رئيس حرس الجمارك بالمطار وتمت العملية بنجاح وفي سرية تامة دون أن يشعر بها مودعوهم بالمطار وذلك بالنسبة "لأحمد مزغنة والشاذلي مكي"، وتم نقلهما إلى أحد السجون الحربية بعد أن كلفنا مدير السجن بتهيئة المكان المريح والبعيد عن أي اتصال بداخل السجن أو خارجه ووضعنا لهما نظام حياة مريحًا خاصًا، وزودت غرفتهما بكل وسائل الراحة وتم تغذيتهما تغذية خاصة
واستمرا في هذا المكان حتى عام 1958م، أما "عبدالله الفيلالي" فقد سافر قبل قرارنا التحفظ عليهم، وشاء القدر أن يلقى مصرعه بعد وصوله إلى "باريس" بثلاثة أيام على يد أحد خصومه لخلاف فيما بينهما، وأرسلنا برقية باسم "ميزغنة والشاذلي" من ليبيا إلى معاوني "ميزغنة والشاذلي" بالقاهرة تفيد وصولهما سالمين وهكذا تم إبعاد أنصار "مصالي" عن الميدان نهائيًّا وقضينا على مؤامرة أنصار "مصالي" التخريبية.

المؤامرة التخريبية

لي اعتراض كبير على العبارة التي نقلتها عن كتاب السفير فتحي الديب وذكر فيها أنه باعتقاله السيدين (ميزغنة والشاذلي المكي) ووضعهما في السجن الحربي مع الإخوان المسلمين –وكنت معهم في ذلك السجن الرهيب، وأعرف ماذا يعني هذا الاعتقال...

لا يتورع عن أن يتباهى بذلك زاعمًا أنه بهذا نجح في إبعاد أنصار مصالي حاج عن الميدان نهائيًّا وأنه قضى على ما يسميه مؤامرة أنصار مصالي التخريبية، وأنا أقول له وللقراء ولكل من يسمع قولي إنه لا حق له في اتهام مصالي وأنصاره بأنهم دبروا ما يسميه مؤامرة تخريبية دون أن يقدم دليلاً واحدًا على صدور أي رد فعل أو قول من جانبهم يبرر هذا الاتهام.

لقد تعودت المخابرات في عهد عبد الناصر وبعده على إلقاء تهم جزافية لا أساس لها ضد كل من يريدون إزاحته من طريق انفرادهم بالسلطة في مصر، وهذا موضوع داخلي في مصر لا محل لمناقشته هنا، لكنني أعتقد أن استعمال هذه الافتراءات لإزاحة زعماء وطنيين في بلاد عربية شقيقة مثل الجزائر كانت سياسة تخريبية باغتة أدت إلى ما وصل إليه العالم العربي الآن من تمزق وانهيار أمام أعدائه.

إنه لم يقدم دليلاً واحدًا على اتهامه لمصالي وأنصاره، أما أنا فإنني أتطوع بأن أقدم له أدلة عديدة على أن الأسلوب اللاأخلاقي الذي استعمله لاعتقال مساعدي مصالي لإقصاء الزعيم مصالي وأنصاره من ميدان الجهاد هو الذي كان مؤامرة تخريبية، وأنه في نظري وضع بذور الفتنة الحالية التي يدفع ثمنها شعب الجزائر من دماء أبنائه الذين تعلن السلطة الانقلابية قتلهم يوميًّا وتتباهى بذلك بصورة رسمية وعلنية.

إنني آمل أن يعترف السيد السفير بالانحرافات التي ارتكبتها السلطات الناصرية في هذه القضية، بل وحبذا لو اعتذر عنها؛ لأن الظروف التي اقتضتها في ذلك الوقت قد زالت، ومن واجبنا أن نواجه الفتن الخطيرة التي أدت إليها هذه السياسة التخريبية بمبادرات إنسانية وموضوعية وعادلة، لا بترديد ادعاءات ابتكرت لأهداف إعلامية في ذلك الوقت

وأهم هذه الانحرافات ما يلي:

(1) إنني أول من له الحق في مناقشة ادعاءات السيد السفير؛ لأنني اعتبرت نفسي قد ساهمت عن غير علم في خطتهم للإيقاع بهؤلاء الزعماء الوطنيين الجزائريين ولم أكن أعلم، أن هدفهم كان إخلاء الساحة من كل من له شخصية أو دور وطني، يحتمل (مجرد احتمال) أن يكون عائقًا في سبيل خطتهم للدعاية لمن يريدون أن يكون هو الزعيم العربي الأوحد للعالم العربي كله بعد إخلاء الميدان ممن يحتمل (مجرد احتمال) أن ينافسوه في هذه الزعامة، ولا أصدق ادعاءه أن مندوبي مصالي الذين دبر لهم الكمين كانوا يدبرون مؤامرة تخريبية، لا يقدم دليلاً واحدًا عليها.

لا أعتقد أنه لم يعرف من صديقه بن بللا – وما زال بن بللا حيًّا – أنه هوا لذي طلب مني أن أسافر إلى فرنسا لمقابلة زعيمه مصالي حاج، وأنني التقيت به فعلاً في صيف 1954م، وأقنعته بإرسال من يثق فيهم إلى مصر لكي يلتقوا بإخوانهم الذين يمثلون حزب الشعب لدى الجامعة العربية، ويشاركوا معهم في تدعيم الكفاح الوطني بالوسيلة التي يتفقون عليها وأنني أقنعته بأن إتمام اللقاء في القاهرة أفضل من لقاء في أي مكان آخر لأنها توفر للجميع ضمانات الأمن والكتمان.

والآن فقد كشف لي السيد فتحي الديب في كتابه عن أنني خدعت الرجل، وساهمت بطريق غير مباشر وعن غير قصد في مؤامرته وأنني مكنته هو ورجال السلطات الناصرية من اعتقال اثنين من أكبر أنصار مصالي، وربما من قتل الثالث (عابد)؛ لأنه كان أهم الشخصيات التي يعتمد عليها "مصالي حاج".

إنني لم ألتق بالزعيم "مصالي حاج" بعد ذلك، وأحمد الله على ذلك لأنني أتصور الآن شعوره بعد هذا الغدر الذي أقدمت عليه المخابرات المصرية، ولو كنت قابلته لكان من حقه أن يلومني ويعتب علي، وعلى جميع "الإخوة المصريين" ويقول لي إنني خدعته وغررت بأصدقائه وأصدقائي، وساهمت في وقوعهم في هذا الكمين.

وناحية أخرى هي أنني لا أشك في أن المخابرات الفرنسية قد استطاعت أن تستغل هذا الحادث في أن ترسم صورة رهيبة لما حدث للوفد الذي أرسله "مصالي" للقاهرة وأن تنشر ذلك وتصور حصارهم "لمصالي" ، وأنهم حاولوا زعزعة ثقته بالرجولة والشهامة العربية، بل وبالعروبة كلها، وأنها ليست هي الإسلام كما يعتقد الجزائريون جميعًا في ذلك الوقت.

لو كان عندي شبهة (مجرد شبهة) في أن ذهابي إلى مصالي حاج لإقناعه بإرسال وفد يمثله إلى القاهرة هو جزء من مؤامرة تخريبية لتمزيق الحزب الوطني الجزائري الأصيل بقصد إبعاد أنصار "مصالي" نهائيًّا من الميدان كما يقول فتحي الديب، لما قبلت القيام بهذه الرحلة والمساهمة في هذه المؤامرة التخريبية.

وعزائي الآن أنني ما زلت أعتقد أن بن بللا عندما طلب مني السفر كان مخلصًا وصادقًا في رغبته في إعادة وحدة الحزب، وأنه يعرف أن "مصالي" وحده هو الذي يمكنه أن يحقق هذه الوحدة، وأن وحدة الحزب هي ضرورة لنجاح مشروع الكفاح المسلح وإذا كان حضور أنصار "مصالي" للقاهرة قد حرك نوازع الشر لدى البعض، وزين لهم شياطين السوء أن يغدروا بهم دون اكتراث بما تمليه قيم الإسلام والعروبة والرجولة والشرف فإن ذلك في نظري لم يكن من ابتكار بن بللا ولا تفكيره، وأقصى ما يمكن أن ينسب إليه هو أنه علم به، وسكت عنه أو قبله مضطرًا.

إنني أتذكر ما قاله لي "مصالي" إن المحقق العسكري الفرنسي قد سأله عن سبب تعلقه بعروبة الجزائر، وأنه أجابه قائلاً إن الدم الذي يجري في عروقه هو دم عربي وأن العروبة هي وعاء الإسلام، وهو عقيدة الجزائر كلها؛ ولذلك لا يمكن أن يتخلى عن هذه الصفة، والآن أتصور أنهم دسوا له من يقول له إن عروبة اليوم قد تدنت وفسدت وبعدت عن أصولها الإسلامية

وأصبحت تبيح لمن يرفعون شعارها الغدر والقتل حتى لمن جاءوا إليهم سفراء ومبعوثين يعطيهم العالم كله حصانة وحماية، حتى ولو كانت الجهة التي أرسلتهم جهة معادية فإن قوانين الحرب ذاتها حتى في عهد الجاهلية لا تبيح قتل الرسل الذين يرسلهم الأعداء فما بالك بالرسل الذين يرسلهم الوطنيون الأصلاء. والغريب أن يتم ذلك الغدر بعد أن أقنعوهم بتأييد كل ما اقترحوه وتعاهدهم معهم على تأسيس جبهة التحرير وتوقيعهم على ذلك، وإعلان صوت العرب بانضمام مصالي وجماعته إلى الجبهة، الأمر الي جعل بقية الهيئات والأحزاب تسارع للانضمام لها كما يعترف بذلك في كتابه.

بعد ذلك كله، وبعد أن أخذوا منهم كل ما يريدون – يغدرون بهم بهذا الأسلوب الغادر، ويتباهى الآن سيدي السفير بنجاح العملية في اعتقادهم سرًّا بالسجن الحربي وإيهام أعوانهم وأصدقائهم في مصر والخارج بأنهم وصلوا إلى ليبيا ببرقية أرسلها عميل لهم كان مكلفًا باستقبالهم، بل كان مكلفًا بتصفيتهم جسديًّا، "لو كانوا أفلتوا" والسرية التي يتباهى بها قد مكنت المخابرات الفرنسية أن تذيع في الجزائر وفرنسا أنهم قتلوا في مصر غدرًا وخيانة وأن هذه الخيانة من شيم إخوانهم العرب والمصريين.

تصور يا سيدي السفير حزبًا عريقًا يبلغ أنصاره العديدون في كل مكان بالجزائر، وفرنسا بهذه الصورة المفزعة للحادث، لا شك أنهم سيهبون للانتقام ممن يظنون أنهم كانوا وراء هذا الكمين وخاصة أنصار بن بللا، وبذلك بدأ مسلسل الاغتيالات المتبادلة التي راح ضحيتها من المجاهدين أعداد لا تحصى وكل هذا أنتم الذين فتحتم بابه وحرضتم عليه، وبدأتم به، وسنعود لهذه النقطة في موضع آخر.

(2) أنه لا يشير إلى الكيفية التي جعلت "عبد الله الفلالي" يفلت من قبضتهم لأنها تقطع بالأسلوب الدنيء الذي استعملوه، والذي ذكره لي محمد خيضر شخصيًّا، وأشرت إليه، وهو أن الأجهزة المصرية هي التي أرسلت إلى أحد عملائها من الجزائريين في طرابلس بليبيا لكي يرسل لهم دعوة لزيارته في ليبيا وفعل ذلك، وليس الأمر كما يزعم أنهم هم الذين قرروا الذهاب إلى ليبيا أو فرنسا للعمل ضد ما يسميه الثورة.

ويذكر سيادته بالحرف الواحد: "وأرسلنا برقية باسم ميزغنة والشاذلي من ليبيا إلى معاوني ميزغنة والشاذلي بالقاهرة تفيد بوصولهما سالمين" ، وهذا يؤكد رواية محمد خيضر أن هذا العميل الذي أرسل برقية إلى معاونيهما بالقاهرة تفيد بوصولهما سالمين كذبًا وافتراءً حتى لا يعلم أحد بما حدث لهما من اعتقال بالمطار بالطريقة الغادرة التي يتباهى بها ويتغنى بدقة التدبير لهذا الكمين. إن هذا العميل هو الذي دعاهما لزيارته في ليبيا، وأن ذلك ربما كان هدفه تكليفه باغتيالهما إذا فرض، وأفلتا من الكمين المعد لهما في القاهرة.

(3) إنني أطالب السيد السفير أن يبين لنا في طبعة تالية أو بأي وسيلة أخرى كيف أفلت "عابد" عبد الله الفلالي وحده من هذا الكمين البوليسي الذي يتباهى بدقته وإحكامه، وأقول لهما ما قاله لي محمد خيضر: "إن عابد كان أكثر ذكاء وحذرًا من زميليه الآخرين، ويظهر أنه شم رائحة التآمر فتوجه إلى المطار ووجد طائرة متوجهة إلى باريس وسافر فيها قائلاً لصديقيه إنه لا عمل له في ليبيا يبرر استجابته للدعوة التي وصلتهم، وأن فيهما الكفاية".

وكان جزاؤه على إفلاته من قبضة المخابرات في مصر أن أرسلوا له من اغتاله في فرنسا، وسوف أعود لذلك فيما بعد... إن السيد السفير نفسه لم يستبعد فكرة الاغتيال في كتابه، بل إنه يمن علينا أنه بهذا الكمين الخبيث الذي مكنه من اعتقالهما بالسجن الحربي قد حقق رغبة (من صاحب هذه الرغبة بالضبط؟) في عدم اللجوء إلى ما يسميه التصفية الجسدية وهذا يؤيد قولي بأن هذه التصفية كانت مقررة لو أفلتا من الكمين وهربا من الاعتقال، على أن تتم في ليبيا لإبعاد الشبهة عنهم، وأنها في نظري نفذت فعلاً بالنسبة لعبد الله الفيلالي في فرنسا بعد أن أفلت من الكمين بطريقة لم يوضحها في كتابه؛ لأنها تشوه صورة البطولة العربية التي يدعيها لنفسه، ولزعيمه الأوحد.

(4) إنه يلمح في كتابه إلى أن بن بللا كان ضالعًا في هذه المؤامرة الدنيئة، وكنت أتمنى أن يرجح إلى بن بللا قبل نشر هذا الاتهام، وهو ما زال قريبًا منه، وأشك كثيرًا في أنه هو الذي طلب ذلك كما يدعي صديقه السيد السفير.

(5) إن ذلك كله كان في بداية الثورة، وإن كان سيادته لم يذكر لنا تاريخ هذا الكمين بالضبط، ولكنني أعتقد أنه كان أول حادث استخدمت فيه التصفية الجسدية بين فئات المجاهدين ويتحملون مسئولية استمرارها طوال مدة الثورة بصورة مفزعة، صورها هو في كتابه في مواضع كثيرة سأشير لها فيما بعد.

سأذكر للقارئ تفسيري لهذه الوقائع، على أن له أن يجهد نفسه ليجد تفسيرًا أقرب منه إلى الصواب أو الحقيقة دون تحامل أو تحيز. لقد تجاوب "مصالي الحاج" وممثلوه في القاهرة مع كل ما يؤدي إلى وحدة الحركة الوطنية وتضامن الجميع في إطار جبهة التحرير لنجاح القضية الجزائرية منذ اندلاع الثورة الجزائرية المباركة على حد تعبيره في خطابه.

من جانب السلطات الناصرية يشير فتحي الديب إلى أنهم قرروا قبل أن يلتفوا بهم ما يلي:

"المبادرة باستقبال مندوبي الأحزاب الجزائرية ومجاراتهم فيما سيطرحونه من آراء بالنسبة لأهمية تحقيق وحدة الشعب الجزائري على أن نبدأ بتجميع كل فروع حزب الشعب أولاً ثم تجميع باقي الأحزاب بما فيها جمعية العلماء بعد ذلك في بوتقة الثورة، في إطار فتح صفحة جديدة مع اتخاذي وزميلي عزت سليمان موقفًا حياديًّا مع تركيز كامل على المبادئ الرئيسية التالية كأساس جوهري لقبول انضمام أي فرد في إطار تشكيل جبهة التحرير الجزائرية (الجهاز السياسي للثورة)"...

قوله: إنهم قرروا مجاراتهم فيما يقترحونه لوحدة الصف يفهم منه أن اتجاههم الباطن كان غير الظاهر، وأن وحدة الصف ليست –في نظرهم- إلا وسيلة لاستدراجهم لكن إلى حد معين فما هو؟ إنه لا يريد أن يصرح به، ولكنه يشير إليه بقوله إنه هو وزميله عزت سليمان سيلتزمان موقفًا محايدًا، بمعنى أنهما متفرجان لا ينويان أن يلتزما بما يتم الاتفاق عليه بين الطرفين.

أعتقد أن الشيء الوحيد الذي لم يكن محل مناقشة وكان مفهومًا ضمنيًّا بين الطرفين هو أن "مصالي حاج" هو رئيس الحزب ورئيس جبهة التحرير، والرئيس الأعلى لكل مؤسسات الجبهة؛ لأن مقام مصالي حاج باعتباره الزعيم الوطني الذي أسس الحزب والحركة كان معلومًا للجميع...

لكن بقاء "مصالي" على رأس الحركة كان يتعارض مع استراتيجية الاستعمار الفرنسي؛ لأن المخابرات والحكومة الفرنسية يعرفون عنه تمسكه بأصالته الإسلامية والعربية وأنه لا يمكن بحال من الأحوال تحويله عن هذا الاتجاه الذي يصممون على اقتلاعه من شمال إفريقية سواء كانت تحت حكمهم أو حصلت على استقلالها "الوطني" ، ولو وجدوا منه مرونة كما وجدوا عند بورقيبه لاتفقوا معه مباشرة كما فعلوا مع "بورقيبه" ومع "بن بللا" ...

يتضح لي أن الهدف الاستعماري في هذه الرحلة هو إيجاد وطنيين يقتنعون بأن بعدهم عن الإسلام أو عداءهم له، هو الذي يمكنهم من التفاهم مع القوى الأجنبية وجني ثمار هذا التفاهم كما جناها "أتاتورك" وأصحابه في تركيا، و"بورقيبه" في تونس ولا أتكلم عن صديقي "بن بللا" ...

هذا هو الهدف الاستعماري الاستراتيجي الذي ما زال قائمًا وواضحًا ومؤكدًا حتى اليوم... وعلينا أن نتساءل: هل سايرت السلطات المصرية السياسة الفرنسية في هذا الهدف وإلى أي حد سارت في هذا الطريق، وما السبب الذي دعاها لذلك؟ في نظري أنه سبب حزني أو شخصي لا أكثر، فهم يريدون إزاحة الإخوان المسلمين من طريق النظام الناصري، بسبب أن زعماءها "على الأقل" يعارضون احتكارهم للسلطة وانفرادهم بالحكم ويرفضون تحويله إلى دكتاتورية عسكرية.

من الناحية الشخصية فإن "عبد الناصر" بعد انفراده بالسلطة في مصر تطلع إلى زعامة المنطقة العربية كلها، ورفع شعار القومية العربية، وتسلل لصفوف مستشاريه وأعوانه من زينوا له نجاحه في هذا الهدف "القومي" لا يمكن أن يتم إلا إذا فرغت "القومية العربية" من الإسلام، وأنه بذلك سيحظى بدعم لا حدود له من الكتلة السوفياتية فضلاً عن تشجيع مستتر أو خفي من جانب إسرائيل وحلفائها الأمريكان والأوروبيين وفي مقدمتهم فرنسا...

كان المنطق المستتر "للسلطات المصرية" إذن إنها لا تتعاون إلا مع من يعلن ولاءه للزعيم الأوحد، ولا تقبل ولاءً لأي زعامة أخرى، إنها تريد أعوانًا وأتباعًا، لا شركاء وأندادًا... رغم أن هذا كان في ضمير رجال السلطات المصرية، إلا أنهم قرروا أن يمروا بمرحلة أولية، يفتحون أولاً صدورهم للأحزاب والزعماء حتى يصلوا إلى القاعدة الشعبية المؤيدة لهم، ثم لا مانع من استبعادهم بعد ذلك.

وقد حاولوا مع كل زعماء المغرب العربي بأقطاره الثلاثة، ولم ينجحوا في إزاحة من تساندهم قوى أجنبية مثل بورقيبه، أو من تساندهم قوى شعبية استعصت عليهم، مثل ملك المغرب الذي رفض حزب الاستقلال التخلي عن مطلب إعادته للعرش ولم ينجحوا في إزاحة الزعيم الأسير (مصالي حاج)، إلا لأن السياسة الفرنسية ساعدتهم في ذلك... لكن الظاهر أنهم وجدوا من الجزائريين المنتمين لحزب الشعب ذاته من قبلوا التخلي عن مصالي حاج، ولو كان هذا التخلي نتيجة للضغط والإغراء، واستغلال حاجتهم لسلاح لمواصلة الكفاح...

ولذلك دبروا هذا الكمين الذي يتباهى به السيد فتحي الديب، وغرسوا به عداوات لا تنتهي بين أعضاء الحزب الوطني الذين بقوا على ولائهم لزعيمهم، والآخرين الذين سايروا ساسة "السلطات" المصرية من أجل الحصول على المال والسلاح للمجاهدين وبذلك نرى أن هذه "السلطات" هي التي دبرت المؤامرة التخريبية للقضاء على حزب الشعب ونجحت فيها، ولكن نتائجها ما زالت تهدد كيان الجزائر وشعبها العربي المسلم كما نرى الآن.

فإذا كان اتهام أنصار "مصالي حاج" بتدبير مؤامرة لا دليل عليه، فإن تدبير "السلطات" المصرية لمؤامرة تخريبية ضد حزب الشعب الجزائري ورئيسه مصالي مؤكد، تدل عليه دلائل كثيرة... وإذا كانت "الفتن" ما زالت تزداد في صفوف "الجزائريين" حتى الآن، فمن "حقي" أن أشهد أمام الله – عز وجل - وأمام الناس... أن سياسة "الناصريين" هم أول من فتح لهم هذا الطريق، ودفعهم إليه من أجل أهداف حزبية اقتضت "في نظرهم" إزاحة جميع الزعامات الوطنية المخلصة الصادقة ليبقى المجال مفتوحًا لفرض زعامة "عبد الناصر" على القومية العربية كما فرضوها على "مصر" ...

الإسلام والجهاد والدولة الإسلامية

في المقدمة التي كتبها أحد بن بللا في عام 1980م عن الحركة الوطنية التي أنشأها مصالي حاج باسم حزب الشعب، قال عن مصالي حاج ما يلي:

"عندما فقدنا كل شيء امتدت إلينا، يد الله –عز وجل- لتنقذنا من خلال صوت هذا الرجل، إنه صوت سيدي الحاج الذي غرس فينا فكرة الوطنية، لكنها لم تكن وطنية مما يعرفه الغرب بعيدة عن الله، بل وطنية تحركها معتقداتنا، ويغذيها إيماننا بالله، وبالإسلام".

هذه هي بداية حزبا لشعب الجزائري الذي نشأ فيه بن بللا وإخوانه أعضاء الجهاز العسكري السري الذين أرسلوه إلى القاهرة في عام 1954م، ليطلب لهم مساعدات من الجامعة العربية، كانت الجامعة العربية في نظرهم كما عرفوها في عهد عبد الرحمن عزام تحنو على الوطنيين في أقطار إفريقيا الشمالية وترعاهم وتتبنى قضاياهم وتدافع عنها في المحافل الدولية وتؤيد مطالبتهم بالاستقلال

وقد ذكرت لقاء عزام مع مصالي الحاج في باريس الذي حضرته وقد قال له بالحرف الواحد:

إن الجامعة أو أي جهة أخرى لن تعطيكم الاستقلال فعليكم أن تأخذوه بجهادكم، ومن حقكم علينا أن نساعدكم في جهادكم بكل ما نستطيع. والآن وقد قرر حزب الشعب أن يبدأ مرحلة الكفاح المسلح فقد أرسل مندوبه لطلب مساعدات "عسكرية" من الجامعة العربية.

لكنه فوجئ هو وإخوانه بأن الأمانة العامة للجامعة أوقفت مساعداتها المالية عنهم فجأة بدون سبب يعرفونه، ثم جاءتهم دعوة من الأمين العام المساعد عبد المنعم مصطفى لاجتماع لوح فيه بالمساعدات المالية إذا كونوا هيئة موحدة جديدة لجميع أقطار أفريقيا الشمالية الخاضعة لفرنسا آنذاك ولما اجتمعوا وجدوا مع الأمين العام مساعدًا له هو السيد فتحي الديب مؤلف كتابه

الذي كشف لنا فيه عن أنه عين مساعدًا للأمين العام المساعد لشئون العلاقات العربية دون أن يخفي أنه ضابط مصري ناصري، وأنه بقي يحتفظ بهذه الصفة أي أن الأمانة العامة أصبحت تحت إشراف السلطات المصرية، وحرمت من صفتها كمنظمة إقليمية للعرب جميعًا، عند ذلك وقف "بن بللا" مندوب الجهاز العسكري لحزب الشعب وقال لهم صراحة نحن لم نأت لنطلب مالاً، بل نريد سلاحًا.

وهنا استدرجه الضابط الناصري إلى جلسة خاصة وأفهمه أنهم يمكن أن يزودوهم بالسلاح، ولكن بشروط أولها التخلي عن الانتماء الحزبي... إن السلاح الذي وعدوه به ملك لشعب "مصر" ، وكان أولى أن يقدمه باسم هذا الشعب الأبي إلى شعب الجزائر المجاهد دون قيد ولا شرط، لكنه يصرح بأنه اشترط التخلي عن زعيم الحزب وعن الحزب كله...

منذ ذلك التاريخ إلى عام 1956م تعاون بن بللا مع السلطات الناصرية التي يمثلها السيد فتحي الديب ومعاونه السيد عزت سليمان تحت إشراف السيد زكريا محيي الدين والرئيس جمال عبد الناصر، ونحن نعتقد أنه قد قبل شروطهم مضطرًا، وعذره أن حاجتهم للسلاح كانت للسلاح ملحة وضرورية

وقد سبق أن لاحظت أنني أعتقد أن السياسة التي سارت عليها السلطات العسكرية تشير إلى تنسيق بينهم وبين مخابرات فرنسا، وبعض الجهات الأجنبية الأخرى، وفيها من وجهة نظري بعض العناصر الصهيونية التي كانت تشاركهم في الهدف الأول هذه الجهات جميعًا، وهو القضاء على الإخوان المسلمين، بل واقتلاع الاتجاه الإسلامي الذي يؤيدها أو يتعاون معها في الجزائر "كما في مصر وغيرها" كلما كان ذلك ممكنًا...

أعتقد أن "كتاب السيد السفير فتحي الديب" يزودنا بوقائع ووثائق تؤكد هذا التنسيق الذي أدى في النهاية إلى اعتراف فرنسا بالاستقلال بعد أن اطمأنت إلى أن السلطة في الجزائر سيتسلمها وطنيون يتخلون عن مطلب الجهاد الجزائري الأصيل المتضمن إنشاء دولة إسلامية، مكتفين بالاستقلال الوطني لجمهورية شعبية ديمقراطية...

وهذا معناه أن كلا الطرفين السلطات الفرنسية والمصرية حققا مطلبًا مشتركًا لهما وهو تفريغ الاستقلال الوطني من الانتماء الإسلامي هدف استراتيجي للقوى الإستعمارية في حين أن استبعاد الإخوان المسلمين من الميدان السياسي كان في نظر الوطنيين الناصريين مجرد هدف مرحلي، في نظري...

وأنا أعتقد أن ذلك كان في فكر بعض أنصار "عبد الناصر وبن بللا" ، الذين كانوا يظنون أو يدعون أنهم يمكنهم أن يعودوا إلى الخط الإسلامي بدون الإخوان المسلمين أو على أشلائهم وأنقاضهم بشرط أن يضمنوا لأنفسهم البقاء في السلطة واحتكارها، لا في "مصر" فقط... بل في جميع البلاد العربية...

لا شك أنه في البداية يظهر من الوثائق التي يقدمها الكاتب أن جبهة التحرير عند إنشائها كانت تعتبر جهادها إسلاميًّا، وأن الجزائر عند استقلالها لابد أن تكون دولة إسلامية عربية دليل ذلك أن كتاب السيد السفير قدم لنا صور وثائق تأسيس جبهة التحرير

وفي صفحة (644) نجد ميثاقها الموقع في 17 فبراير 1955م ونص المادة الرابعة منه هو ما يلي:

"الجزائر عربية مسلمة العقيدة، فهي بالإسلام والعروبة كانت، وعلى الإسلام والعروبة تعيش"، وهذا الميثاق نجد أن أول الموقعين هو الشيخ البشير الإبراهيمي ويليه الشيخ "الفضيل الورتلاني"، ثم باقي الموقعين بعدهما، وهذا هو ما نلاحظه في نص اللائحة الداخلية لجبهة تحرير الجزائر الموقع في 18 فبراير 1955م، والمنشور صورته في صفحة (646)...

وفي كلتا "الوثيقتين" نجد توقيع كل من "أحمد مزغنة والشاذلي مكي" الممثلين "لمصالي حاج" ، وأهمية هذه الوثائق أنها وقعت في القاهرة تحت إشرافه أي أنه أقرها. لكن هناك ما هو أهم من ذلك، وهو بيان أول نوفمبر الذي نشره المجاهدون في الجزائر في يوم بدأ الكفاح المسلح، وأنه يتضمن بوضوح ما سموه برنامجنا السياسي والبند الأول فيه حسب تعبيرهم تحت عنوان: الخطوط الرئيسية للبرنامج السياسي، وأولها أن "الهدف هو الاستقلال الوطني وذلك بواسطة إقامة حكومة جزائرية ذات سيادة ديمقراطية واجتماعية داخل إطار المبادئ الإسلامية" ...

أما البند الثالث بعنوان المرمى الخارجي، وأولها: "تحقيق وحدة شمال أفريقية في إطارها الطبيعي وهو العروبة والإسلام" . هذا هو الاتجاه الأصيل للحركة الوطنية الجزائرية ولمن أنشأوا جبهة التحرير من الجزائريين، وهو يدخل بلا شك ضمن ما يسمونه بالأصولية الإسلامية، إن لم يكن الآن ففي المستقبل القريب.

يشير السفير فتحي الديب في صفحة (87 و 88) من كتابه إلى انزعاج السلطات الفرنسية وهجومها على هذا الاتجاه، ويخص بالذكر مقالاً نشرته جريدة Le Monde الفرنسية بتاريخ 22 أبريل 1955، ومقال Paris Matche بتاريخ 14 مايو 1955، وقال: "لقد اخترتهما بالذات باعتبار الصحيفتين من أشهر الصحف الفرنسية ولهما سمعتهما الخارجية والداخلية وتأثيرهما في الرأي العام الفرنسي".

وقد لخص هذين المقالين في ثماني نقاط يهمنا منها نص النقطة الرابعة (د) وعبر عنه بأنه:

"محاولة التشكيك في نوايا المصريين والزج – الذي لا يستند لأي واقع – بحركة الإخوان المسلمين في شئون الكفاح المسلح!!!"... إن ممثل السلطات المصرية يستنكر إشارة هذين المقالين في أكبر الصحف الفرنسية في ذلك الوقت إلى دور الإخوان المسلمين في شئون الكفاح المسلح، وينكر هذا الاتهام الذي وجهته لهم أكبر صحف فرنسا...

إنني أذكر القارئ بأن هذين المقالين إنما نشرا في فرنسا بعد أن أعلن في العالم كله عن اعتقال الإخوان المسلمين جميعًا في مصر الذي بدأ يوم 27 أكتوبر 1954م (أي قبل أيام معدودة من التاريخ المحدد لبدء الكفاح المسلح في الثورة الجزائرية وهو أول نوفمبر 1954م)

بل إن مقال باري ماتش بالذات نشر بعد نشرها صورة جثة الشهيد عبد القادر عودة معلقًا في حبل مشنقة السلطات الناصرية التي كان يمثلها السيد السفير فتحي الديب قبل ذلك بأسابيع معدودة، في عددها الذي ذكر لي صديقي "بوزوزو" أن ضابط السجن عرضه عليه ليذكره بأن أصدقاءهم المصريين يفعلون بالمسلمين في مصر ما لم تفعله فرنسا في الجزائر حتى ذلك الوقت، "وإذا فعلته بعد ذلك فلن يكون فعلها إلا اقتداء بما فعله المصريون"...

ومع ذلك فإن هذا المجلة ذاتها هي التي يقول لنا السيد السفير أنها تشير إلى دور الإخوان المسلمين في الكفاح المسلح، وهو ما يستنكره السيد السفير لأنه لا يستند للواقع الذي كان يعرفه هو في مصر، أما الصحف الفرنسية فهي أدرى بما كان يجري في الجزائر في ميادين الاستشهاد والفداء... نحن نرد عليه بأنه يشير إلى الواقع الذي كان يراه هو في مصر، لكن الفرنسيين الذين كتبوا هذه المقالات كانوا يعرفون واقع الجزائر أكثر مما تعرفه السلطات المصرية.

على كل حال فإن عبارة السيد السفير ذاتها تشير إلى أنه يقصد شيئًا غير ما تقصده المجلة الفرنسية، فهو يتكلم عن شئون الكفاح المسلح كأنه يقصد العمل المكتبي الذي يتولاه هو في مكتبه بالقاهرة مع من يعتبرهم ممثلين لجيش التحرير في الخارج لتهريب السلاح أما المقال الفرنسي فإنه يشير إلى الكفاح المسلح الذي يقع بعيدًا عنه في أرض المعركة حيث تسيل دماء الشهداء في جميع أنحاء الجزائر، وهم أقدر منه على معرفة دوافع المجاهدين الشهداء واتجاهاتهم وأهدافهم، وكلمة المجاهدين ذاتها تكفي لتأكيد أن الإسلام كان هو مصدر الطاقة الثورية وأن غايتها كانت هي الدولة الإسلامية.

إن الصحافة الفرنسية تقصد بإشارتها لدور "الإخوان المسلمين" أمرين:

  1. أن كثيرًا من العناصر المجاهدة في أرض المعركة بالجزائر كانوا في نظر المخابرات الفرنسية من الإخوان المسلمين أو ممن دربهم الإخوان وتولوا تربيتهم وتكوينهم في مصر قبل الاعتقالات أو في الجزائر ذاتها، والذين يطلبون الشهادة، ومنهم صديقنا "بوزوزو" الذي رويت لقائي معه في موضع آخر.
  2. أن المبادئ الإسلامية التي يدعو لها الإخوان بشأن الدولة الإسلامية أو الحكومة الإسلامية أو الحكومة الوطنية في إطار المبادئ الإسلامية ظاهرة وواضحة في بيانات الثورة ومواثيقها التي نشر السفير "الديب" صورها في كتابه... لاشك أنه بالنسبة للنقطة الأولى فإن السيد السفير يعرف أن الفرنسيين الذين لهم مخابراتهم وجيوشهم وشرطتهم وإدارتهم في الجزائر يعرفون عنها أكثر مما كان يعرف هو في الماضي والحاضر.

بالنسبة للنقطة الثانية فإن الوثائق التي نشرها في كتابه وأشرنا إليها وخاصة ميثاق تأسيس جبهة التحرير تؤيد ما نشرته الصحف الفرنسية؛ لأنه واضح في عباراته أن كاتبه ومحرره هو الشيخ البشير الإبراهيمي المعروف بأسلوبه الخطابي، فضلاً عن أنه كان أول الموقعين هو والشيخ الفضيل الورتلاني الذي يصفه فتحي الديب بأن علاقاته مشبوهة بالإخوان المسلمين بل هو منهم كما يعرف الجميع... إن السيد "السفير" يعتبر أن الهدف من الإشارة لدور "الإخوان المسلمين" في هذه المقالات هو حسب تعبيره محاولةا لتشكيك في نوايا "المصريين" "يقصد الناصريين" !

وأنا أعتقد أنه صادق في ذلك؛ لأن معناه أن المخابرات الفرنسية لديها علم بوايا الحكومة المصرية وتعرف أنها ضد الإخوان المسلمين ومن يسيرون في الاتجاه الإسلامي لكنها الآن تجد أن هناك ما يجلها تشكك في أن المصريين الناصريين يفعلون غير ذلك؛ لأنهم يتعاونون مع جبهة التحرير التي تضم أشخاصًا يتبنون أهدافًا إسلامية في الجزائر رغم أنهم كانوا يدعون أنهم تبرءوا منها منذ شنقوا زعماء "الإخوان" ...

كما أنني أعتقد أن هذه المقالات قصد بها توجيه بعض من يعملون لحسابها في مصر للسعي لتغيير هذا الاتجاه "لدى جبهة التحرير" نحو الإسلام في الجزائر، وإني أشك في أنهم دسوا عملاء لهم لاختراق صفوف الثورة في مصر، بل وفي الجزائر ذاتها وسعوا لإقناع بعض القادة الذين يعتبرون منافسين لبن بللا الموالي للمصريين للعمل على تجاهل هذا الطابع الإسلامي

وكان من نتيجة ذلك ما يسمى بمؤتمر "وادي الصمام" الذي يعطون له أهمية كبرى في التوجه العلماني للشعارات الاشتراكية وتجاهل الأصول والأهداف الإسلامية، والذي يؤكد لنا السيد السفير أن "بن بللا" عارض هذا الاتجاه العلماني، وكان يخشى أن يكون له أثره في خروج الثورة عن أهدافها الأصيلة العربية والإسلامية، كما أن معارضي "بن بللا" أصحاب التوجه العلماني كانوا ضد الدور الذي يقوم به في مصر باعتباره يربط بين العروبة والإسلام.

لقد أصبح هدفهم إذن هو دفع النظام الناصري لكي يفصل بين العروبة والإسلام، ونجحوا في ذلك بعد اعتقال "بن بللا" وزملائه في عام 1956م... بعد نشر هذه المقالات أي في شهر أغسطس 1955م تحركت عناصر في الداخل تسللت إلى صفوف الحركة من دعاة الاشتراكية أو العلمانية، ودفعوا عبان رمضان الذي كان يعتبر نفسه القائد الأول للثورة في الداخل إلى عقد مؤتمر مع أنصاره في وادي الصمام له شهرة كبيرة لدى المؤرخين الاشتراكيين والفرنسيين

والمعروف أن مؤتمر وادي الصمام قد تجاهلت قراراته كل إشارة إلى العروبة والإسلام، وقد اجتمع قادة الولايات الهامة بعد ذلك في ديسمبر 1956م أي بعد اعتقال بن بللا هو وزملائه، وأصدروا قرارًا باستنكار ما قرره وادي الصمام وأكدوا تمسكهم بأن تكون الجزائر دولة إسلامية عربية

وكان هذا ردًّا عمليًّا على الاتجاه الذي تبناه مؤتمر وادي الصمام الذي يتجاهل الأهداف العربية الإسلامية وكان هذا الرد من داخل الجزائر لا من جانب حكومة مصر، وقد سجل هذا السيد السفير في كتابه، إذ نجده في صفحة (291) يشير إلى عقد اجتماع بمكان ما على أرض الجبهة الشرقية يوم 15 ديسمبر 1956م، وذكر أسماء قادة الولايات الذين حضروه (بل نشر صورتهم في صفحة 292)

ويقول إنهم استعرضوا قرارات مؤتمر وادي الصمام المنعقد في 20 أغسطس 1955م وقرروا:

عدم الاعتراف بقرارات المؤتمر المذكور؛ لأنها تخالف الاتجاه الأول للثورة إلى جانب عدم النص على أن الجزائر دولة إسلامية عربية... إن قادة الثورة وهي في أوج عمليات الكفاح يعلنون كما يقول السفير في كتابه أن الجزائر دولة إسلامية عربية، وهو يعلم أن الأوروبيين عمومًا وفرنسا خاصة تعتبر الإخوان المسلمين حركة عامة تشمل كل من يدعو لإقامة دولة الإسلام
فإذا كان يستنكر ما كتبته الصحف الفرنسية التي تلوح له بما يسميه "دور حركة الإخوان في الكفاح المسلح" فإن معنى ذلك في نظري أنه اعتبر أن ما تكتبه تلك الصحف قصد به تأنيب السلطات المصرية لأنها لم تقم بكل ما يلزم لوقف التيار الإسلامي في الجزائر، وأن الفرنسيين الذين يعرفون اعتقالات الإخوان وإعدام زعمائهم في مصر
ونشروا صورهم معلقين على جبال المشانق يعتبرون أن ذلك لم يكن كافيًا لكي تفي السلطات المصرية بكل ما كانوا ينتظرونه منها لوقف المد الإسلامي المتنامي في الجزائر، بل وفيه تلويح بأن ذلك سوف يبيح لفرنسا اتخاذ موقف آخر من الحكم العسكري في مصر، والذي أخذ صورة العدوان الثلاثي، والذي كانوا يستعدون له سرًّا وبدأ فعلاً بعد ذلك بشهور معدودة...

خلاصة ذلك أن الاتجاه الذي تبنته مصر كشعب وأمة في بداية الثورة الجزائرية لم يمكن الناصريين من أن يستبعدوا الاتجاه الإسلامي من وثائق جبهة التحرير، ولا من صفوف الجبهة في الجزائر وأن ذلك لم يعجب المخابرات الفرنسية التي صممت على تغيير هذا الاتجاه بالإغراء تارة أو الضغط تارة أخرى حتى وصل الأمر إلى التخطيط للعدوان الثلاثي ثم خطف الزعماء الخمسة واعتقالهم بقصد ترويضهم، ويظهر أنهم نجحوا في ذلك أكثر مما نجحوا مع زعيمهم "مصالي حاج" واعتقادي أن العامل الأول في هذا التحول هو تعاون السلطات الناصرية معهم، ونصائحها لأصدقائهم...

التنسيق والتعاون مع القوى الأجنبية لمحاصرة الصحوة الإسلامية

إن معاداة الصهيونية للصحوة الإسلامية أصبحت دلائلها تتزايد كل يوم حتى أصبح ذلك سياسة ثابتة معلنة لبعض الدول، بل والمجموعات الدولية المؤيدة لها، وإنني وكثيرين غيري يعتبرون التواطؤ مع هذه القوى الأجنبية أو التعاون معها ضد الصحوة الإسلامية "أيا كانت التسمية التي يطلقونها عليها للتمويه" تعتبر تحديًا للإسلام وهجومًا عليه وخيانة لأمته وشعوبه لا نجد لها عذرًا ولا مبررًا بعد اليوم...

لقد أشرت مرارًا إلى أن بعض الوطنيين، سواء كانوا في السلطة أو في مجالات الإعلام أو الثقافة أو الفن "في مصر أو غيرها" قد استدرجوا إلى سياسة معادية للإسلام ذاته جاهلين الأهداف البعيدة للقوى الأجنبية التي رسمت هذه السياسة، لكن الوقت قد حان لكي يقتنعوا بضرورة تغيير هذا الاتجاه الضار والخطير؛ لأنه أصبح الهدف الأول للسياسة الصهيونية والاستعماري... سأواصل التنبيه إلى هذا الخطأ آملاً أن يقتنع البعض بخطئهم ويغيروا سياستهم.

لقد أشرت في ختام الحلقة رقم (38) من تلك السياسة إلى أنني أعتقد أنه في عام 1954م بالذات بدأت تظهر لدي دلائل على التنسيق بل والتعاون بين السلطات المصرية والفرنسية.

قلت إنه كان هناك أمران أعتبرهما هدفًا مشتركًا لهذا التعاون:

أول هذين الهدفين هو: تطويق التيار الإسلامي والحركة الإسلامية المعاصرة ومحاصرتها والقضاء عليها سواء في داخل مصر أو خارجها، والقضاء على جماعة الإخوان المسلمين بالذات لمنع امتدادها إلى الأقطار الإفريقية؛ لأن هذا الامتداد يعرقل سياسة كل من الطرفين.

والثاني: هو تمزيق الأحزاب الوطنية الأصيلة في الجزائر والمغرب وتونس لإزاحتها من الطريق؛ لأن لها علاقة بالإسلام، وبالإخوان أو الإسلاميين عمومًا، وذلك لفتح الطريق أمام التيارات المستوردة مثل الاشتراكية أو الفرانكفونية أو ما يسمونه الآن (شرق أوسطية) التي تعني الهيمنة الإسرائيلية الأمريكية، وهي شعارات قصد بها أن تكون بديلة عن الإسلام أو العروبة...

اطلعت على كتاب السفير السابق فتحي الديب الذي نشر فيه الوثائق التي تؤيد وجهة نظره في تأييد مصر ودعمها للثورة الجزائرية، وعنوانه "عبد الناصر والثورة الجزائرية" يحاول أن ينسب أبوة الثورة الجزائرية للرئيس عبد الناصر "ولنفسه تبعًا لذلك" متجاهلاً تاريخ حركات الكفاح الوطني والمقاومة الجزائرية طوال عصور الاحتلال الفرنسي ودعم مصر والجامعة العربية لهذا الكفاح منذ بدايته قبل ثورة يوليو بزمن طويل وعواطف شعب مصر والشعوب العربية المؤيدة للجهاد الجزائري...

وليس هنا مجال لتقويم المؤلف ولا نقد كتابه لأن ذلك يحتاج لوقت أطول، وإنما اكتفى بما ورد فيه، مما يؤيد الفكرة التي ما زالت أؤمن بها وهي اتجاه بعض الحكام الوطنيين للتعاون مع القوى الأجنبية المعادية للإسلام في خططها الاستراتيجية لمحاصرة الحركات الوطنية المؤيدة للوحدة الإسلامية والقضاء على الصحوة الشعبية المؤيدة لها، واندفاع من يرفعون شعارات الثورية في هذا الاتجاه لمصالح ذاتية وقتية أو بحجة ترويجهم لمذاهب مستوردة كالاشتراكية أو الحداثة أو الشرق أوسطية التي تنكر الأصالة الإسلامية وتعتبر الإسلام عقبة في سبيل إغراق شعبنا في مستنقعات التبعية للقوى الأجنبية، وحليفتها الصهيونية...

يؤلمني أن كثيرًا منهم يجهل أو يتجاهل أهداف القوى الأجنبية التي يتعاونون معها ولا يهتمون بالبحث فيما إذا كانت تتعارض مع مصالح شعوبنا وحريتها ومستقبلها كأمة كبرى، وقد يكونون معذورين في بادئ الأمر، لكنهم بعد ذلك يظهر ذلك واضحًا يجب ألا يواصلوا هذا العدوان على الحركات الإسلامية وألا يقاوموا الصحوة الشعبية التي تؤيدها، وألا يجعلوها سياسة ثابتة لأهداف حزبية وأنانية قصيرة النظر، إننا نذكرهم بأن العدو الأجنبي هو الذي يجني ثمارها وحده ويستغل نتائجها على المدى الطويل بعد زوال نظمهم الاستبدادية أو تغير أسمائها وعناوينها وقياداتها.

إن التواطؤ بين مغتصبي السلطة في بلادنا والقوى الأجنبية التي لها أهداف استعمارية أو توسعية تدفعها لمعاداة التيار الإسلامي، هذا التواطؤ والتعاون، بل والتحالف بين الطرفين ينمو ويزداد ظهورًا ويصبح سياسة مرسومة معلنة تفرضها الصهيونية وحلفاؤها على كثير من النظم الحاكمة في بعض الأقطار العربية والإسلامية، حتى سمعنا حلف الأطلنطي يعلن أنها الهدف الأول لسياسته

ولاشك أنه يصمم على جر بعض حكامنا للسير فيها، بل إن بعض الحكام وأعوانهم ومستشاريهم يسبقه إلى ذلك حتى نرى منهم أخيرًا من ينتقد سياسة الدول الكبرى ويلومهم على تأخرهم أو ترددهم في اتخاذ خطوات عملية في هذا الاتجاه المعادي للإسلام، وفي نظرهم أن أهم هذه الخطوات هو تقديم المساعدات المالية والسياسية والعسكرية لتثبيت أقدامهم في مقاعد السلطة مقابل عملهم على مقاومة المد الإسلامي على المستوى الشعبي ناسين أن هذه المساعدات لا تعطى إلا بالقدر اللازم لبقائهم في السلطة إلى أن يجد الحليف الأجنبي بديلاً أطوع لتوجيهاته، وإني أذكرهم بأن هذا البحث يجري دائمًا ومتى وجدوا من هو أقدر منهم على تنفيذ خططهم فإنهم هم الذين سوف يقضون عليهم...

إذا كان كتاب السفير فتحي الديب موضوعه المساعدات التي قدمها هو لزعماء الثورة الجزائرية بأمر وتوجيه من عبد الناصر شخصيًّا باعتباره المسئول عن نشاط الحركة المصرية الناصرية في الشئون العربية والجزائرية بصفة خاصة، فإنه ما كان يصح له أن يتجاهل تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية ولا تاريخ علاقات مصر والجامعة العربية بها قبل وصوله هو إلى الساحة في عام 1954م... بل قبل أن يولد هو وعبد الناصر... إنه يقتصر في مصادره على الوثائق التي كان يحتفظ بها في مكتبه أو ذاكرته وكلها خاصة بعلاقته وعلاقة السلطات الناصرية مع بعض رجاله جبهة التحرير الوطني الذين ألزموهم بالتخلي عن زعيمهم، وحصر ولائهم في الزعيم الناصري...

رغم ذلك فإننا نجد فيها بعض النقاط التي تؤيد ما ذكرناه من وجود تنسيق سار فيه الناصريون مع المخابرات الأجنبية والفرنسية بصفة خاصة، وذلك لتحقيق هدف واحد هو محاصرة الفكر والتيار الإسلامي عامة، والإخوان المسلمين خاصة، باعتبار ذلك هدفًا مشتركًا للطرفين، وإن كان كل منهم له مصلحة تختلف عن مصالح الطرف الآخر، والفرق هو أن مصالح النظام المصري كانت حزبية وقتية عاجلة، أما الطرف الآخر الأجنبي فإن أهدافه استراتيجية بعيدة المدى وما زالت باقية حتى الآن، بل إنها تتطور وتنمو وتزداد...

أدلة التنسيق مع المخابرات الأجنبية ضد الحركة الإسلامية:

  1. في الصفحة (72) يشير تحت رقم (5) أنه عرض على الرئيس عبد الناصر النقاط التي اتفق عليها مع صالح بن يوسف، وقد طلب منه عبد الناصر تسليم مذكرة بها إلى علي صبري ليتفاهم مع السفير الأمريكي لممارسة ضغط أمريكي على فرنسا لقبولها "وكانت العلاقات مع أمريكا في ذلك الوقت في أوج قوتها" هذا هو ما قاله في يوم 8/1/1955م ولم يكن قد مضى على بدء الثورة المسلحة الجزائرية إلا شهران فقط. هذا يؤكد أن التنسيق الذي سارت فيه الحكومة الناصرية كان يشمل أمريكا وفرنسا وذلك عن طريق المخابرات الأمريكية في بداية الثورة المسلحة في نوفمبر عام 1955م...
  2. في الصفحة (73) يشير إلى اجتماعه مع عبد الخالق حسونة الأمين العام للجامعة العربية، ومساعده عبد المنعم مصطفى لتنسيق العمل معهما في شئون شمال أفريقيا كتعليمات الرئيس "عبد الناصر وزكريا محيي الدين" ، وكان هو يمثل الحكومة الناصرية لدى الأمانة العامة للجامعة

ويذكر أن الاجتماع شمل عدة بنود نجد منها البند رقم (11) الذي عبر عنه بما يلي:

الاستمرار في بذل الجهد لتكوين اللجنة الممثلة لجبهة التحرير، لتضم كافة الأحزاب والهيئات على أن يمارسوا من جانبهم الضغط عن طريق الحد من المعونة المالية "المقصود هنا المنح التي كانت تعطى للطلاب المبعوثين بواسطة جمعية علماء الجزائر وبعض العاملين في مكتب المغرب العربي"...

وهذا ما يؤكد ما أشرت إليه من أن إقالة عبد الرحمن عزام وتعيين حسونة كان الهدف منه جعل الأمانة العامة جهازًا تنفيذيًّا للسياسة الناصرية، فيما يتعلق بصرف المعونات للأحزاب والهيئات والمنح للطلاب المبعوثين للأزهر الشريف. كما يؤكد ما أشرت إليه في حلقة سابقة من أن حسونة قد اتخذ قرارًا بقطع المعونة عن جميع العاملين في مكتب المغرب العربي، وأنه ذكر لنا عندما قابلته مع الدكتور محمد صلاح الدين أن هذا القرار لم يكن من عنده، وأنه منفذ فقط لأوامر جهات أخرى فهمنا أنها تمثل مجلس قيادة الثورة. والآن يذكر لنا فتحي الديب أن من أول مطالبهم في هذا اللقاء بتاريخ (13/1/1955م) هو الاستمرار في سياسة الضغط التي بدأت قبل ذلك.

3. البند الرابع في هذا الاجتماع ص (75) يشير إلى طلبهم من الجامعة العربية ما أسماه رفع وصاية الشيخ البشير الإبراهيمي (رئيس جمعية العلماء الجزائريين) عن الطلبة الجزائريين والتنسيق معنا – أي مع السلطات المصرية – في مجال الانفاق على الطلبة الجزائريين للحد من ضغوط البشير ومساعده الفضيل الورتلاني المشكوك في اتجاهه.

ولم يتفضل المؤلف ببيان سبب الشك في اتجاهات الشيخ الفضيل، واعتقادي أن المقصود علاقته بالإخوان المسلمين. أما الشيخ البشير فلم يذكر سببًا لرغبتهم أو رغبة حلفائهم الأوروبيين والأمريكيين في إبعاده عن الطلبة الجزائريين، مع أن جمعية العلماء كانت المؤسسة الثقافية والتعليمية التي علمت هؤلاء الطلاب في مدارسها بالجزائر ورشحتهم للدراسة في الأزهر وساعدتهم.

وما زالت ترعاهم لأنهم تلاميذها، وتحرص على تغذيتهم بالثقافة والفكر الإسلامي. معنى ذلك في نظري أن الحصار لم يكن خاصًا بالإخوان المسلمين، بل إنه عام يشمل جميع الإسلاميين سواء كانوا يعملون في مجال السياسة أو في مجال التعليم والثقافة مثل جمعية العلماء الجزائريين والشيخ الإبراهيمي.

4. في نفس الصفحة (75) تحت عنوان "مساعينا لتوحيد جبهة الهيئات والأحزاب الجزائرية" يشير إلى الاجتماع الأول مساء يوم (19/1/1955م) بمنزله وهدفه كما قال إتمام توحيد الهيئات الجزائرية، وانتهى بلا أية نتيجة، والسبب كما ذكر هو: إصرار الشيخ "البشير" على حضور مساعده "الفضيل الورتلاني" غير الموثوق به!! و"الشاذلي مكي" ممثل "مصالي حاج"، فلم يقتصر هدفهم على عزل الطلبة عن الشيخ "البشير الإبراهيمي" بل أيضًا عزل الشيخ عن "الفضيل الورتلاني" وعزل غيرهم عن "مصالي حاج" أيضًا...

كما يشير في ص (76) إلى الاجتماع الثاني لنفس الغرض يوم (22/1/1955م) واستمر أربع ساعات دون الوصول إلى نتيجة لإصرار الشيخ البشير على ممارسة حقه في الإشراف على الطلاب الجزائريين وهو ما لم نقبله، إن السلطات المصرية الناصرية كانت ترى أن تشرف هي على طلاب الأزهر بدلاً من جمعية العلماء ورئيسها الشيخ البشير الإبراهيمي...

معنى ذلك أن من أول أهداف السلطات المصرية كان إبعاد الإسلاميين الجزائريين عن الإشراف على الطلاب الذين علموهم ورشحوهم للبعثات وما زالوا يرعون شئونهم، وأن استبعاد الشيخ الفضيل كان هدفه محاصرة الشيخ البشير حتى يقبل التخلي عن الإشراف على الطلاب، وأن يمتنع عن تزويدهم بالفكر والثقافة الإسلامية ويتركهم فريسة للدعايات الاشتراكية للناصرية...

والغريب أنه في نفس الصفحة أشار إلى اجتماع مساء يوم (17/2/1955م) أي قبل ذلك بيومين فقط، اتفق فيه الجميع على توقيع ميثاق جبهة تحرير الجزائر، وذكر في أول قائمة الحاضرين والموقعين الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين والثاني الفضيل الورتلاني، عضو جمعية العلماء الجزائريين، ويلي ذلك أسماء ممثلي الأحزاب والهيئات الأخرى

وهذا يؤكد إصرار الجميع على ثقتهم برئيس جمعية العلماء وممثله الشيخ الفضيل ودليل آخر على ما يكنه جميع الموقعين على الميثاق من احترام وتقدير لجمعية العلماء وأعضائها ورغم ذلك تستمر محاولات الناصريين لإقصائهم أو وضع حد لنفوذ الجمعية في توجيه الطلاب والشباب. رغم هذا الإجماع الجزائري والمغاربي على تأييد الشيخ البشير يوم 17/2 فإن السلطات المصرية بدأت بعد ذلك بيومين فقط في تنفيذ سياستها الذاتية لإقصاء الشيخ الفضيل أولاً، ثم حرمان الشيخ الإبراهيمي من الإشراف على الطلاب، أي أنها كانت تسير في خطة مزدوجة

وفي خطين مختلفين تمامًا لابد من الإشارة لهما:

  1. فالسياسة الإعلامية تهدف إلى إظهار انضمام جميع الهيئات وتأييدهخا لجبهة التحرير من أجل تشجيع الشعب كله للمشاركة في الجهاد الإسلامي، ولذلك كان أول قائمة الموقعين على ميثاق جبهة التحرير هو الشيخ البشير الإبراهيمي، والشيخ الفضيل الورتلاني وذلك يوم 17/1/1955م.
  2. أما السياسة الفعلية للسلطات الناصرية فهي تهدف إلى إقصاء الفكر والتيار الإسلامي كله عن ساحة المقاومة حتى تكون قيادة العمل العسكري لمن ترضى عنهم السلطات المصرية، وهذه السياسة هي التي نفذوها في يومي (19-20/1/1955م).

إن هذا يؤكد ما قلناه من أن محاصرة الإخوان والفكر والتيار الإسلامي كانت هدفًا مشتركًا لجميع الأجهزة... السلطات المصرية والأجنبية. وأرجو من القارئ أن يستعرض شريط الأحداث منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، ليرى أن الهدف الاستراتيجي الأجنبي ما زال قائمًا، وأن التنسيق والتعاون بين الحكومات لتحقيقه لم يتأثر بما يحدث في بلادنا ومنطقتنا بين الدول من خصومات ومنازعات

أو حتى إنقلابات في المستوى السياسي؛ لأن سياسة هذه الأجهزة لا تتبع السياسة المعلنة للدول دائمًا، بل لها خططها وأساليبها التي تسير فيها وتواصلها في أغلب الأحيان حسب تكوين الأفراد العاملين بها واتجاهاتهم بل ومصالحهم الشخصية، ولو أدى ذلك إلى الإيقاع بين الدول أو إثارة الحروب والمنازعات بينها، بل وتدبير الانقلابات.

إنني أود هنا أن أذكر القارئ بأن أجهزة المخابرات عمومًا أو بعض عناصرها على الأقل لا تلتزم في عملها بالقيم أو الأخلاق، ولا تستطيع أن تستبعد من نشاطها العملاء المزدوجين الذين يعلمون لحساب عدة جهات في وقت واحد كلما كان ذلك ممكنًا، ثم إن الأجهزة ذاتها عندما تتعاون مع غيرها من أجل هدف معين لا مانع لديها من أن تبيع بعض المعلومات التي حصلت عليها ممن يتعاونون معها إلى جهة ثالثة ضمن صفقة مخابراتية تحصل بها على ما تحتاج إليه في عملها، وأنا أعتقد أن الجنرال محمد أو فقير في المغرب كان من أشهر أصحاب العمالة المزدوجة، وبرع في ذلك كما سأوضحه فيما بعد، حتى إنه استطاع أن يحصل من بعض عناصر المخابرات الفرنسية على مساعدته في اختطاف بن بركة وهو في باريس تحت رعاية الجنرال ديجول وحمايته

مقابل مساعدته لهم في اختطاف الزعماء الجزائريين الستة الذي كان يمكن أن يؤدي إلى اغتيالهم لولا ظروف سياسية عليا أوقفت ذلك، ولا يستبعد البعض تواطؤ بعض عناصر المخابرات المصرية في ذلك الوقت في أي من هاتين العمليتين، أو في عملية اغتيال صالح بن يوسف وليس من الضروري أن يكون ذلك بعلم المسئولين أو موافقتهم متى كان مساهمتها محدودة مثل إبلاغ بعض الجهات بموعد السفر وخط السير ومحل الإقامة، وهو أمر مهم في عملية اغتيال صالح بن يوسف، واغتيال بن بركة، وسوف أشير إلى ملاحظاتي في هذا الصدد عند الكلام عن محاولة لاختطافي في بيروت عام 1965م، والذي سوف أتعرض له بالتفصيل فيما بعد...

إنني لا أستبعد أن يكون بعض عملاء السلطات المصرية من نوع من يعملون لجهتين أو عدة جهات في نفس الوقت وأن تكون مهمتهم الأولى هي مواصلة الإيقاع بين الحكومة الناصرية والإخوان والإسلاميين عمومًا، وذلك بتقديم معلومات كاذبة أو صحيحة تزودهم بها مخابرات إسرائيل أو فرنسا أو أمريكا، ويتم التنسيق بهذه الوسيلة بطريق غير مباشر دون علم المسئولين في الدولة على الأقل في بادئ الأمر

كما أنني أشير إلى أن بعض كبار الموظفين أو المسئولين في الدولة مثل عبد الرحمن عمار يؤدون خدمة كبرى للمخابرات الأجنبية بتوريط الحكومة في سياسة لصالح القوى الأجنبية، لكنها تكون في نظر بعض الحكام أو الزعماء أو الرؤساء أو الوزراء في صورة سياسة داخلية بحتة أو منافسة، أو مشكلة حزبية أو حتى شخصية.

حلقة مفقودة طولها ستة أشهر

في كتاب السيد فتحي الديب حلقة مفقودة، هي ما حدث منذ أوائل أبريل عام 1954م إلى أوائل أكتوبر 1954م، هذه الفترة تجاهلها تمامًا ممثل السلطات المصرية مع أنها فترة الإعداد لحركة المقاومة المسلحة في الجزائر التي قرر قادة الجهاد في اجتماعهم في أبريل 1954م أنها ستبدأ بعد ستة أشهر، ومعنى ذلك أنه كان في هذه الفترة العصيبة بعيدًا عن مسرح الأحداث رغم أنه وعد بن بللا بالمساعدة وطلب منه السفر لإبلاغ قيادات الحركة بالداخل بهذا التعهد.

السبب في بعده عن مسرح الأحداث حسب قوله، هو أنه أراد أن يكون العمل المسلح مفاجأة للفرنسيين، ومن ناحية أخرى أنه لا يريد أن تتورط مصر "كدولة" في هذا الالتزام إلا بعد أن يبدأ الوطنيون الجزائريون كفاحهم المسلح فعلاً وتنقل وكالات الأنباء أخباره في أول نوفمبر 1954م.

وها نحن أولاء الآن نعرض على القارئ ما تم في هذه الشهور الستة وتعمد السفير الابتعاد عنه، وكانت السلطات المصرية في معزل عنه أو تجاهلته تمامًا، وهذا هو شريط الأحداث:

يشير السيد فتحي الديب في ص (33) من كتابه إلى أن يوم 5/4/1954م شهد أول جلسة له منفردًا مع "بن بللا"، وهي جلسة التعارف بينهما، وفيها عرفة "بن بللا" بمهمته التي جاء من أجلها إلى مصر للسعي لدى الجامعة العربية لتقديم مساعدات عسكرية للتنظيم العسكري لحزب الشعب الذي أوفده لهذا الغرض.

أفاض سيادته في إعجابه الشديد بالشاب الثائر، وما قدمه له من معلومات عن هذا التنظيم السري الذي يضم ألف شاب، حتى إنه واصل الحديث معه في اليوم التالي ليقدم بيانات تفصيلية عن هذا التنظيم، وعرضها علينا في الصفحات (35-42) من كتابه وأبدى اهتمامه بها حتى إنه عرض الأمر بنفسه على رئيسه عبد الناصر فأعطى له موافقته على التعاون معه...

وهنا يقول لنا ممثل عبد الناصر إنه طلب من بن بللا أن يسافر ليخطر زملاءه بهذه الموافقة، على أن يعود إليه بعد ذلك لبحث إمكانيات تهريب السلاح إليهم كل ذلك سجله في الصفحات من (35-42) من كتابه. كان هذا كله في أوائل شهر أبريل 1954م ونفاجأ بأنه يتوقف عن الإشارة لأية لقاءات بعد ذلك إلا في (9/10/54م) أي بعد ستة أشهر.

معنى ذلك أنه كان مشغولاً عن هذا الموضوع بأمور داخلية في مصر لها الأولوية في نظره عن شئون الجزائر، وأعتقد أن موضوعها الرئيسي هو إعداد خطة محكمة للقضاء على "الإخوان المسلمين" الذين يعارضون المعاهدة التي وقعها عبد الناصر مع الإنجليز بوساطة أمريكية لحاجة في نفس يعقوب، (ولا ننسى أن يعقوب هو ما يسمى تاريخيًّا إسرائيل) والتي نفذت فعلاً في يوم (36/10)، باعتقالهم جميعًا في ليلة واحدة، أي قبل ثلاثة أيام فقط من اليوم المحدد لبدء الجهاد في الجزائر.

إنه ختم الفصل الثاني من كتابه في ص (42) عند نقطة سفر بن بللا إلى الخارج ليبلغ أصدقاءه بالخبر الخطير عن تعهد عبد الناصر وحكومته بتقديم المساعدات العسكرية من جيش مصر للنضال المسلح الذي يعتزمون القيام به، والذي حدد له نهاية أكتوبر وأول نوفمبر 1945م.

وفي ص (43) يفاجئنا بأن بن بللا عاد يوم 9/10 بعد الاجتماع مع أصدقائه في "برن" عاصمة سويسرا، وذكر أسماء من حضروا من قادة التنظيم، وأنه أبلغهم "بموافقة عبد الناصر على دعم كفاحهم ماديًّا وأدبيًّا..." ولا يمكن أن يصدق القارئ أن بن بللا غادر مصر في أوائل أبريل ولم يعد إليها إلا في شهر أكتوبر كما يوهمنا السفير

بل الصواب أنه تجاهل عمدًا الإشارة إلى ما قام به بن بللا خلال هذه الشهور الستة – مع أنها تعتبر أخطر فترة عاشها بن بللا لإعداد بدء الكفاح المسلح في نهاية شهر أكتوبر 1954م- ولا يعقل أن يكون كل ما تم بينهما هو أول لقاء يوم (5/4 أو6/4) ثم يقف الاتصال بينهما تمامًا، أي أنه يتجاهل ما قام به "بن بللا" حتى يوم (9/10)، والصواب أنه لم يكن مهتمًا بما يتم على الساحة الجزائرية بل وفي "فرنسا ومصر" من إعداد للجهاد المسلح، ولم يكن له فيه أي دور ولذلك قرر تجاهل هذه الفترة.

وهاأنذا أذكر السيد السفير بما تعمد تجاهله من اتصالات ومقابلات قام بها "بن بللا" في خلال هذه الفترة الطويلة التي تجاهلها، لعله يراجع نفسه ويتذكرها وهاهي ذي:

  1. تم اللقاء بين قادة الثورة في "برن" عاصمة سويسرا في نهاية (شهر أبريل 1954م) وعاد بعده "بن بللا" فورًا إلى مصر، وليس في شهر أكتوبر كما يوهمنا السيد السفير ليبدأ الخطة التي اتفقوا عليها، وتبدأ بتوحيد الحزب والقضاء على الشقاق في صفوفه...
  2. كان أول ما فعله بن بللا فور عودته إلى مصر أن فكر في زعيمه مصالي حاج، وأهمية دوره في دعم هذا التنظيم وكفاحه المسلح، وقد حضر إلي في منزلي لكي يطلب مني السفر لمقابلة مصالي حاج في فرنسا لهذا الغرض، ولا أعرف إن كان قد التقى مع أحد من المسئولين في مصر...
  3. قال لي مبتهجًا: إنني عائد من سويسرا بعد أن التقيت مع إخواني هناك، واتفقنا على أن الوسيلة الوحيدة لتوحيد الحزب وإنقاذه من حالة الانقسام الحالي هي بدء الكفاح المسلح، وهذا يقتضي الاتصال مع سيدي الحاج لكي تضمن تأييده لهذا المشروع الثوري...
  4. فهمت أن هذا ليس رأيه الشخصي بل رأى القيادة التاريخية للثورة في مؤتمرها الذي عقد في "برن" عاصمة سويسرا في أبريل 1954م.
  5. لكي يقنعني بأهمية سفري ذكر لي أنهم اتفقوا على أن تكون ساعة الصفر بعد ستة أشهر من ذلك التاريخ، أي في نهاية شهر أكتوبر وإن كان قد طلب مني أن يبقى هذا سرًّا لا يطلع عليه أحد غيري، وسألته ولا مصالي؟ قال: ولا مصالي؛ لأنك تعرف ظروفه الآن وسيأتي الوقت الذي يعرف فيه كل شيء.
  6. لما أبديت له تخوفي من عدم تصريح الحكومة المصرية لي بالسفر لأنني كنت معتقلاً في شهر مارس ولم يمض على خروجي من المعتقل أكثر من شهر، أصر علي أن أطلب الإذن بالسفر وفهمت من ذلك أنه سيعمل كل ما يستطيع من جانبه لكي أحصل على الإذن، وقد فوجئت بعد ذلك بأسبوعين بأن مساعيه للحصول على الإذن قد نجحت.
  7. كان سبب السفر الذي قدمته هو رغبتي في حضور مؤتمر جمعيات هيئة التدريس الذي سيعقد في "فيينا" في شهر أغسطس 1954م، مع أنني اعتقلت بسبب موقف جمعية هيئة التدريس بالجامعة المؤيد لمحمد نجيب والمعارض لخطة عبد الناصر، الأمر الذي كان يبرر أن أتوقع رفض الإذن بالسفر لي.
  8. فسرت الموافقة غير المتوقعة على طلبي بأنها جاءت نتيجة مسعى بن بللا لدي المسئولين، وأعتقد أن أولهم السيد فتحي الديب الذي تعمد عدم الإشارة لذلك.
  9. ذلك الفهم هو الذي شجعني على أن أؤكد لمصالي حاج – في لقائي معه - أن القاهرة هي أحسن مكان يتوفر فيه الأمن والكتمان لاجتماع من يرسلهم من ممثليه للتفاهم مع إخوانهم المقيمين في مصر من أجل وحدة الحزب ومشاركة الجميع في الكفاح المسلح...
  10. كل ذلك تم في شهر مايو 1954م، وأذكر أن بن بللا كان ما يزال موجودًا في القاهرة، وغادرت القاهرة في بداية عطلة الصيف أي في أوائل شهر يوليو إلى جنيف ثم إلى باريس ثم إلى فيينا، وعدت إلى القاهرة في شهر سبتمبر 1954م، والتقيت بالصديقين بن بيلا ومحمد خيضر وعرفتهما بكل ما تم من اتفاق مع سيدي الحاج ووعده بإرسال من يمثله وسرهم ذلك وأعتقد أن أصدقاءهم في السلطات المصرية قد شاركوهم هذا السرور. تهرب النظام المصري من دعم الثورة الجزائرية في بدايتها:
  11. إنهم وعدوا بن بيلا بإمداده بالدعم المادي (السلاح) والإعلامي في بداية شهر أبريل، ورغم كل ما ذكرته عما فعله بن بيلا في خلال ستة أشهر التي انتهت بعودته يوم 9/10/1954م كما يذكر السيد السفير (ص43 من كتابه) فكل ما فعله السفير حسب قوله في ص(45) هو أنه عرض الأمر على الرئيس عبد الناصر، فبارك الخطوة منتظرًا تحديد وقت التنفيذ لكي يفكر فيما يمكنهم عمله. لكن أين السلاح؟ جواب السيد السفير عن هذا السؤال يأتينا في شهر أكتوبر عام1954م المحددة نهايته لبدء الحركة المسلحة، فهو يذكر في ص (54) أنه في 9/10/1954م. تم الاتفاق مع بن بيلا على السفر إلى ليبيا لدراسة إمكانية تهريب السلاح عبر ليبيا، لنشرع فور البدء في الكفاح في تهريب السلاح إليهم لتصلهم التعزيزات قبل نفاد الذخيرة المنتظر الاستيلاء عليها من عمليات الهجوم المفاجئ على المراكز العسكرية الفرنسية للجيش والشرطة.
  12. في ص (45) أيضًا يقول لنا السيد السفير: إن بن بيلا عاد لمصر مرة ثانية يوم 22/10/1954م ليعلنهم بأن ساعة الصفر قد تحددت في الواحدة صباح 30/10/1954م، ويظهر أنه كان يلح في تنفيذ وعدهم بالمساعدة ونتيجة لذلك كان كل ما حصل عليه "حسب قول السيد الديب" أنه تسلم مبلغ خمسة آلاف جنيه ليعود بها إلى ليبيا لشراء كميات الأسلحة والذخيرة من السوق السوداء في ليبيا فورًا لحين تزويدهم بالكميات اللازمة من مخازن الجيش المصري في المستقبل.
  13. وصلت أنباء الهجوم الجزائري المسلح على القوات الفرنسية في الجزائر يوم أول نوفمبر 1954م. وبدأت الثورة التي استمرت سبع سنوات كما نرى معتمدة على جهود حزب الشعب وأنصاره وجهازه السري المسلح دون أية مساعدة من الخارج "في البداية" سوى الأموال المصرية التي أشار لها السفير في كتابه... عندما جاءت أنباء الثورة كان كل ما فعله السيد السفير هو إعطاء الضوء الأخضر لإذاعة صوت العرب لتثير حماس المناضلين الجزائريين ومطالبة الشعب الجزائري بمساندة المناضلين ويثير حماس الجماهير العربية في مصر وغيرها لتأييدهم ص(48).
  14. في هذه الصفحة يبشرنا بأنه دار بعد ذلك كله بالتحضير لإمداد الثورة الجزائرية بالسلاح والذخيرة، بعد أن اجتاز بن بيلا وإخوانه كل هذه الاختبارات وأثبتوا نجاحهم بجهودهم الذاتية وجهود حزبهم وحدها طوال هذه الشهور الستة.
  15. ولا ينسى سيادته أن يذكرنا بأن ذلك كله كان هدفه عدم توريط مصر الدولة في أي موقف يؤثر على قدرتها على الحركة الطليعية على المستويين العربي والدولي نهاية (ص48).

بعد هذا النوم الطويل الذي استمر ستة أشهر استيقظت السلطات المصرية على أنباء بدء الثورة التي أعد لها الجهاز العسكري لحزب الشعب منذ إنشائه عام 1937م، وبدأها معتمدًا على إمكانياته المحلية وحدها، فماذا كان موقف السلطات المصرية من هذا الحزب الوطني الأصيل ذي الزعامة التاريخية للكفاح الجزائري...

السعي لتفريغ حركة الجهاد من الإسلاميين

ماذا فعل مندوب المخابرات؟ إنه يبدأ نشاطه بترديد أغنيته المفضلة وهي التهجم على جميع مندوبي الأحزاب الجزائرية وجمعية العلماء، لمجرد أنهم جاءوا ليبشروه ببدء الكفاح المسلح، وليبدأ مهمته الحقيقية التي كلف بها، وهي تفريغ صفوف الثورة من الإسلاميين ومن أصدقاء الإخوان المسلمين، ومن الملتزمين بالحزب الوطني حزب الشعب وزعيمه الذي دعا للثورة وأعد لها منذ سنوات

وبذلك يفتح الباب للوصوليين والانتهازيين والمتسللين لكي يسيطروا على الجزائر بعد الاستقلال وهذا هو ما يقاسي منه شعب الجزائر حتى اليوم، ولكي يخفى علينا هذا الهدف نجده يجعل هجومه شاملاً لجميع الأحزاب ليسوي بين الحزب الوطني الأصيل وبين الأحزاب الأخرى المصطنعة التي تعارض هذا الحزب.

إنني أعتقد أن السيد السفير وزملاءه الناصريين قد اختاروا هذه الخطة لأغراض شخصية وحزبية؛ لأن ذلك هو ما فعلوه في مصر، ومكنهم من الاستيلاء على السلطة واحتكارها واعتقدوا أنهم إذا فعلوا ذلك في الجزائر وشمال أفريقيا فسيحققون نجاحًا أكبر، ونسوا أن هناك قوى أجنبية لها خططها وإمكانياتها ولن تسمح لهم بأن يتجاوزوا الحدود التي تحقق هدفهم التاريخي منذ بداية الحملات الاستعمارية، وهو اقتلاع أصول التيار الإسلامي وتحطيم الحركات الوطنية الأصيلة.

إن ما فعلوه كان هو ما تخطط له بعض القوى الأجنبية المعادية لشعوبنا، وقد يكون ذلك بمحض الصدقة "على الأقل في بداية الأمر" وسأترك للقارئ ذاته أن يحدد متى تحولت الصدفة إلى سياسة مرسومة ومدبرة. سأحصر بحثي في بيان المخططات الأجنبية المعادية للإسلام التي لم تكن جديدة بل بدأت منذ عهد أتاتورك والحركة التركية القومية الطورانية والثورة العربية "الكبرى" التي رعاها "لورانس" ثم جاءت حركة الجيش (المباركة) في مصر التي حولها عبد الناصر إلى ثورة 23 يوليو

ورفع شعار القومية العربية التي أصبحت مفرغة من محتواها الإسلامي أو معادية له، بل وجعل هدفها الأول هو القضاء على الإخوان المسلمين والسعي إلى اقتلاع التيار الإسلامي من مصر والعالم العربي كله، ولو أدى ذلك إلى التحالف مع الاشتراكية العلمانية الماركسية في فرنسا والاتحاد السوفياتي لتكون بديلة عن الإسلام في المنطقة لصالح كل القوى الأجنبية التي لها مصلحة في القضاء على الحركات الإسلامية وإبادة المنظمات التي أصبحوا يسمونها الآن "الأصولية" أو "المتطرفة" ...

الموضة "العسكرية الثورية"

المرحوم عبد الرحمن عزام باشا الأمين العام الأول لجامعة الدول العربية وصاحب فكرة إفشائها وواضع أسس الأمانة العامة ونظمها وسيرها منذ إنشائها عام 1945م قررت الحكومة العسكرية الناصرية إخراجه من الجامعة فجأة دون سبب معروف، وفي إحدى زياراتي له بمنزله بعد ذلك كان في مجلسه صحفي أجنبي ممن لهم حظوة لدى العسكريين وكان يحكي عن لقائه بعبد الناصر

وقال إنه سأله عن سبب إخراج عبد الرحمن عزام من الأمانة العامة وما هو الهدف من ذلك، فكان جوابه الوحيد تلك العبارة الإنجليزية التي تعني أنه "موضة قديمة" He is out of date!! وضحك عبد الرحمن من أعماق قلبه وقال: أرجو ألا يعتبروا الجامعة العربية ذاتها "موضة قديمة" . وكانت هذه لمحة عبقرية من عبد الرحمن عزام لأن التطوراتا لتي نشاهدها تدل على أن القضاء على الجامعة ذاتها هدف استراتيجي للقوى الصهيونية، وأن استبعاد عبد الرحمن عزام لم يكن إلا الخطوة الأولى نحو هذا الهدف الصهيوني.

من حسن حظ المرحوم عزام باشا أنه انتقل إلى جوار ربه قبل أن يرى ما نراه في هذه الأيام من تصريحات تتردد على مسرح السياسة العربية وفي بعض وسائل الإعلام التي تروج "للشرق الأوسط" والتي بدأت تعلن فعلاً أن الجامعة العربية (موضة) قديمة، وأن الشرق الأوسط الذي تهيمن عليه إسرائيل وأمريكا وحلفاؤها هو (الموضة) القادمة في المخطط الأجنبي البعيد للهيمنة على العالم العربي والإسلامي

وإذا كان الناصريون وخبراؤهم يحتجون بأنهم لم يريدوا ذلك ولم يتوقعوه فهذا لا ينفي أنهم مهدوا له الطريق وهيئوا له الأسباب بجهلهم أو توطئهم... إن الحكم الناصري اعتبر دكتاتوريته العسكرية هي (الموضة) الجديدة في وقته، وبنى على ذلك أن كل من يقف في وجه احتكاره للسلطة وبقائه يجب استبعاده لأنه رجعي وموضة قديمة فات زمانها.

في نظرنا أنه لم يكن هو الذي صنع "الموضة" ، بل إنه في الحقيقة كان من صنيع "الموضة" ، وأن الذي كان يصنعها غيره، ومن يصنعون "الموضة" ما زالوا يغيرون فيها ويبدلون وهي في نظري قوى أجنبية وفي مقدمتها الصهيونية التي لها أهداف استراتيجية ثابتة وعريقة تتجاوز كثيرًا طموحات الناصريين الشخصية والحزبية سواء في مصر أو في العالم العربي والإسلامي.

إن "الموضة" التي جاءت بالحكم العسكري وفرضته على مصر هي التي جاءت بغيره بعد ذلك بعد أن أدى دوره الذي حددته له، وهو بداية السياسة التي تؤدي إلى اقتلاع جماعات الجهاد، بل والفكر الإسلامي كله، فضلاً عن رموز الحركات والأحزاب الوطنية الأصيلة والزعامات التقليدية التي تقف عقبة في طريق "الموضة" الصهيونية والفرنسية والأمريكية سواء في مصر أو في بعض البلاد العربية والتي استطاعت أن تجد فيها نماذج من النظم أكثر ملاءمة لأهدافها

بل أكثر من ذلك فإن هذه القوى الأجنبية كانت قد بدأت الموضة العسكرية والثورية قبل ذلك في تركيا العثمانية حيث دفعت أتاتورك وجماعته إلى إلغاء الخلافة؛ لأنها "موضة" قديمة ولم يكن ذلك إلا بداية خطة لاستبعاد الإسلام كله، وبذلك مكن الاستعمار الأوروبي من احتلال جميع الأقطار العربية التي كانت تابعة لتلك الخلافة

بل شجعوا أيضًا الثورة العربية الكبرى التي صنعها لورانس وعملاؤه في الشرق العربي لإخراج الأتراك من العراق وسوريا ومن فلسطين والقدس وسلموها لحلفائهم الإنجليز الذين تعهدوا بتسليمها لليهود طبقًا لوعد بلفور الذي لم يكونوا يعرفونه ولتحظى فرنسا بسوريا ولبنان مكافأة لها على دعمها للصهيونية...

لا غرابة بعد ذلك أن جاء الناصريون فحولوا حركة الجيش المصري إلى ثورة يوليو لكي تتمم ما بدأه أتاتورك والثورة العربية اللورنسية في المشرق بأن تفتح الباب للموضة الصهيونية "بعد إنشاء إسرائيل" ومهدت لها طريق التسلل إلى مصر والمشرق والمغرب العربي بعد أن تؤدي مهمتها في تفريغ المنطقة من المقاومة الإسلامية والحركات الوطنية الأصيلة الناصريون نموذج لكل الطغاة:

يتباهى السيد فتحي الديب بأن ثورته الناصرية قد اكتسبت شهرة في أسلوبها الثوري لتحطيم الحركات الوطنية والأحزاب الأصيلة في مصر حتى إنه ذكر في (ص/221) أن الأمير الحسن ولي عهد المغرب في لقائه الأول به في مدريد كان أول ما استفسر عنه على حد تعبيره أسلوب قيادة الثورة الناصرية والكيفية التي تم بها التخلص من الأحزاب

ويدعى في ص (222) أنه فهم من ذلك أن ولي العهد المغربي أكد كراهيته وحنقه على كل القيادات الحزبية والأحزاب وعزمه على الالتجاء للعنف في تفتيتهم في أقرب فرصة ممكنة، وإذا صح ذلك الادعاء فإنه يتباهى بأن الأمير إنما كان يريد في نظره الاهتداء بالنظام الناصري وتقليده، ونسى أنه إنما قال ذلك لإرضائه واستدراجه ليعترف له بما فعلوه...

لم يكن عزام باشا وحده هو (الموضة) القديمة التي أزاحها الناصريون من طريق المد الصهيوني الأمريكي الأوروبي الذي يصنع (الموضات) المتوالية، بل كان مصطفى النحاس ووزيره الجرئ محمد صلاح الدين وحزب الوفد كله بزعاماته وأركانه، ثم اللواء محمد نجيب قائد حركة الجيش المباركة وأول رئيس للجمهورية

وعبد الرزاق السنهوري المقنن الذي رسم للحركة المباركة طريق إعادة الشرعية للبلاد فتنكر له الناصريون وضربوه، وكادوا يقتلونه في مكتبه بمجلس الدولة، ثم أتبعوا به قادة الإخوان وزعماءهم الذين حكموا عليهم بالإعدام بعد أن عاونوهم في حركة الجيش المباركة، بل واعتقلوا جميع الإسلاميين الذين امتلأت بهم السجون والمعتقلات...إلخ، كل هذا تم في مصر، والآن يريدون تكرار ذلك في البلاد العربية الأخرى...

إن الناصريين بعد أن ظنوا أن الأمر قد استقر لهم في مصر بدءوا في تنفيذ خطة مماثلة في الجزائر وشمال إفريقية على النحو الذي رأيناه، فعملوا لاستبعاد كل من له علاقة بالإخوان وجمعية العلماء الجزائريين أولاً، ثم استبعاد زعيم حزب الشعب مصالي حاج وأعوانه ومنهم الذين اعتقلوا في السجن بالقاهرة، وآخرون قتلوا غدرًا واغتيالاً ليزرعوا في صفوف الحركة الوطنية الأصيلة فتنًا ما زالت آثارها تفتك بالمجتمع الجزائري حتى اليوم...

ثم إنهم بدوءا في اقتلاع المعالم التي تميز هوية الأمة ووحدتها ومن بينها الجامعة العربية التي أراد بها عبد الرحمن عزام أن تكون بديلاً عن الخلافة الإسلامية في المحافظة على الوحدة العربية، فأزاحوا منها عبد الرحمن عزام أولاً، ووضعوا فيها شيطانًا من شياطين الموضة وهو ضابط ناصري لا يعرف شيئًا عن الجامعة ودورها التاريخي في توحيد شعوبنا فحولها إلى أداة للكيد للإسلاميين والوطنيين في الجزائر وغيرها...

في كتاب السيد فتحي الديب وقائع كثيرة تدل على وجود تنسيق بين السلطات المصرية والفرنسية من أجل القضاء على نفوذ الإخوان المسلمين وجمعية العلماء في الجزائر وجميع العاملين للإسلام في المغرب وإفريقيا بصفة عامة، وكذلك اقتلاع الأحزاب والحركات الوطنية الأصيلة وخاصة حزب الشعب الجزائري الذي بدأ الكفاح الوطني لمقاومة النفوذ الأجنبي على أساس اعتزاز الشعبو بهويتها العربية الإسلامية وتطلعها إلى الوحدة التي تستند إلى تلك الأصالة التاريخية والعقيدية.

وسوف أكتفي بعرض بعض النتائج التي أدت إليها السياسة قصيرة النظر التي اندفعت إليها السلطات الناصرية من أجل هدف حزبي وقتي وهو فرض سيطرتها على مسيرة الثورة الجزائرية بصورة يفسرها البضع أنها تهدف إلى مطامع شخصية أو حزبية لكنها في الحقيقة كانت تحقق للقوى الصهيونية والأجنبية أهدافًا استراتيجية بعيدة المدى وإذا كان الناصريون يحتجون بأنهم لم يكونوا يعرفون ذلك أو لا يريدونه

فإنهم على الأقل قد ساروا نحوه بسبب إقحامهم أنفسهم في ميادين لا خبرة لهم بها وغرورهم الذي زين لهم أن مجرد تحطيم الحركات الإسلامية والأحزاب الوطنية الأصيلة والزعامات التقليدية هو الذي يمكنهم من الاستقرار في مصر بل وبناء إمبراطورية ناصرية باسم القومية العربية أو الاشتراكية العلمية الماركسية أو أي شعار آخر يناسب (الموضة)

وكلها لم تكن إلا مراحل وخطوات زينها لهم مستشارو السوء من المتسللين الذين كان هدفهم هو تمهيد الطريق أمام الصهيونية لكي تدفع بعملائها وأعوانها الذين ورثوا عبد الناصر وما زالوا مستقرين في مواقع كثيرة في مجتمعاتنا في المشرق والمغرب يواصلون خطة (الموضة) التي تفرض الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة تحت شعار الشرق أوسطية على أنقاض الكفاح الوطني الذي بدده الناصريون ومزقوه بأساليب الإبادة والاستئصال الثوري الذي شمل جميع القوى الإسلامية الحية والحركات الأصيلة في الأقطار العربية واحدًا بعد الآخر.

في كتاب السفير فتحي الديب وقائع ذكرها عرضًا دون أن يجهد نفسه في بحث أسبابها ولا نتائجها ولا إشارة إلى مسئوليته هو شخصيًّا ومسئولية النظام العسكري الذي يمثله عنها؛ لأنها كلها كانت في نظره تكملة لما قاموا به في عام 1954م من ضرب حركة الإخوان وما تلا ذلك من إقصاء الإسلاميين وجمعية العلماء وزعماء حزب الشعب الجزائري في عام 1955م فأفرغوا ميدان العمل الوطني من العناصر الأصيلة ليرتع فيها المنافقون والمتسللون وعملاء القوى الأجنبية من جميع الأصناف والألوان وتجمعت هذه النتائج المشئومة في عام 1956م الذي يصفه بأنه عام الأحداث الجسام.

قد أشرنا إلى أن الهدف الأول الذي أعلنه في أول لقاء له مع ممثلي الحركات الوطنية هو حرصه على استبعاد نفوذ جمعية العلماء ورئيسها الأكبر الأستاذ العظيم الشيخ البشير الإبراهيمي وممثله في مصر الشيخ الفضيل الورتلاني، فيما يخص الإشراف على الطلبة الجزائريين الدارسين في الأزهر، وأن الشيخ البشير رفض ذلك وصمم على استمرار إشرافه على الطلاب.

وهنا يذكر لنا سعادة السفير في ص (78) من كتابه أن الأخ بن بللا قام باختيار عشرين طالبًا جزائريًّا من الدارسين بالقاهرة للانضمام للكفاح وتم تجميعهم بمعسكر الحرس الوطني لتدريبهم، واستمرت الدورة ثلاثة أشهر ومن ضمنهم "أبو خروبة محمد" وهو هواري بومدين رئيس جمهورية الجزائر فيما بعد. معنى ذلك أنهم استبعدوا الطلاب الذين درسوا في مدارس جمعية العلماء، ورشحهم الشيخ البشير الإبراهيمي للدراسة في الأزهر ودرسوا تحت إشرافه، ووضعوا ثقتهم في مجموعة عشوائية دربوهم ثلاثة أشهر ليسلموهم قيادة الثورة، وكان من بينهم على حد قوله "هواري بومدين".

فماذا فعل بومدين الذي اختاروه ودربوه وسلموه قيادة القوات المرابطة على الحدود المغربية والتونسية نتيجة لاستبعاد جميع المناضلين الذين أشرف عليهم الشيخ البشير أو دربهم الجهاز العسكري لحزب الشعب، لقد لجئوا إلى أمثال بومدين فكانت النتيجة أنه هو الذي خطط للقضاء على بن بللا واقتلاع النفوذ المصري من الجزائر، كما يصف ذلك تفصيلاً السيد فتحي الديب في (ص630 إلى ص 636).

ونموذج آخر، لقد عدد لنا السيد فتحي الديب الخطوات التي قام بها لاستبعاد أي دور لزعيم حزب الشعب الجزائري ومؤسس الحركة باعتقال مندوبيه الذين أوفدهم للقاهرة بعد أن أعلنوا تأييد مصالي حاج للثورة وانضمام مصالي لجبهة التحرير الجزائرية في صوت العرب، وبدلاً من أن يكون ذلك بداية لوحدة الحركة الوطنية الجزائرية، بدأت السلطات الناصرية إثارة الفتنة التي مزقت الحزب، وما زالت آثارها تدمر العمل السياسي في الجزائر للآن.

إن ما فعلته السلطات المصرية بإخلاء الساحة من قادة حزب الشعب جعلهم يفتحون صدورهم لاستقبال المتسللين والانتهازيين الذين وجدوا الفرصة سانحة ليملئوا الفراغ الناتج عن إقصاء الإسلاميين والوطنيين الأصلاء

فيذكر لنا في ص 200 ما يلي:

بدأ توافد الإخوة الجزائريين، ووصل في نهاية أبريل 1956م السيد فرحات عباس رئيس حزب البيان ومساعده الدكتور أحمد فرنسيس. ولا ينسى السيد السفير أن يبين لنا أن هذه الشخصيات الحزبية التي وفدت إليهم كانت قبل ذلك تنادي بضرورة الوحدة مع فرنسا، وأنها لجأت مؤخرًا إلى اتخاذه موقف جديد للانصهار في بوتقة جبهة التحرير، بعد أن أخرج الناصريون منها أعضاء حزب الشعب أنصار الزعيم "مصالي حاج" ...

إن السلطات المصرية قد فتحت صدرها للسيد عباس فرحات الذي كان يطالب رسميًّا باندماج الجزائر في الاتحاد الفرنسي وأعدت له مؤتمرًا صحفيًا في فندق سميراميس يوم 25/4/1956م ليعلن حل حزبه والانضمام إلى جبهة التحرير التي تطالب بالاستقلال بعد أن أخرجوا منها "مصالي حاج" الذي كان أول جزائري يعلن المطالبة بالاستقلال، وأنشأ حزبه لهذا الغرض...

والغريب أن السيد فتحي الديب ذكر لنا في ص (201) ما قاله فرحات عباس له شخصيًّا من أن أحد كبار شخصيات الإقامة العامة الفرنسية بالجزائر قال لعباس فرحات اخرج إلى القاهرة وخذ موقفًا إلى جانب جيش التحرير الجزائري... بناءً على توصية ممثلي فرنسا في الجزائر وصل عباس فرحات إلى القاهرة واستقبلته السلطات المصرية، ورحبت به ليسد الفراغ الناتج عن استبعاد مصالي حاج واعتقال أعوانه في السجن الحربي بالقاهرة وتمزيق الحزب الوطني الأصيل،

ونرى السيد "فتحي الديب" يتباهى بأنه هو ومعاونيه قد ألحقوا هزيمة كبرى بالمخابرات الفرنسية المسكينة التي يريد سيادته أن يوهمنا بأنها لا علم لها بذهاب عباس فرحات للقاهرة، ولا أنها هي التي نصحته بذلك... ويدعي أن هذا المؤتمر الصحفي كان لطمة قوية لسياسة فرنسا بالجزائر، ونصرًا عزيزًا لجبهة التحرير ولقيادة جيش التحرير!!!

ولكي يعرف القارئ ما ألحقه عباس فرحات من أضرار بمسيرة الثورة أحيل القارئ لما ذكره السيد فتحي الديب عن الدور التخريبي الذي قام به عباس فرحات، والذي يدل على أن دخوله جبهة التحرير كان نصرًا عزيزًا للمخابرات الفرنسية وخيبة كبرى للناصريين ونكبة على الوطنيين، وعلى جبهة التحرير ذاتها...

إن هذا النصر العزيز الذي حققته السياسة الفرنسية قد أصبح كارثة على جبهة التحرير عندما أصبح عباس فرحات الذي يتزعم حزبًا يطالب بالفرنسة الكاملة للجزائر "بمباركة الحكومة الناصرية" أول رئيس للحكومة المؤقتة التي كونتها جبهة التحرير وتمكن بذلك من أن ينفذ سياسة تحويل الحكم الوطني في الجزائر إلى التعاون مع فرنسا ومعاداة الإسلام والعروبة والوطنية الأصيلة

وسيرى القارئ كيف أنه هو الذي منع جبهة التحرير من إعلان الجزائر دولة عربية إسلامية في إعلان الاستقلال "الذي اقترحته" ووافق عليه "بن بللا" و "محمد خيضر" فيما بعد... "وكان هو الذي عارض اقتراحي بذلك ومنع المكتب السياسي من الموافقة عليه كما سأذكره تفصيلاً" في عام 1962م...

مما يؤسف له أن السيد فتحي الديب ينتهز فرصة استقبالهم لعباس فرحات وترحيبهم به ليؤكد هدفه الأصلي وهو التشهير بجمعية العلماء الجزائريين فيزعم في (ص/200) أن وصوله لمصر أعقبه وصول الشيخ أحمد توفيق المدني أمين عام جمعية العلماء الجزائريين والشيخ العباسي عضو الجمعية، وفي ص (201) يدعي أن المؤتمر الصحفي الذي نظموه لعباس فرحات في فندق سميراميس "25/4/56م" أعلن عباس فرحات فيه انضمامه هو وقادة جمعية العلماء إلى جبهة التحرير

ونسي سيادته أن الشيخ البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء كان أول مؤسس لجبهة التحرير في عام 1954م، وهو الذي حرر ميثاق الجبهة وكان أول الموقعين عليه هو والشيخ الفضيل الورتلاني كما يتبين من نص هذا الميثاق الذي أشار له في ص(76) وأعاد نشره كاملاً ضمن الوثائق الملحقة بالكتاب ص (644) فالزعم بأنهم أعلنوا في نهاية أبريل 1956م انضمامهم للجبهة هو مغالطة كبرى قصد بها إعطاء دخول عباس فرحات إلى الجبهة هالة وطنية

رغم أنها كانت خطة فرنسية نفذها هو وجماعته باسم السلطات المصرية عن علم أو دون أن يدركوا خطرها، وستكشف الوقائع التالية أنها لم تكن غلطة من السلطات الناصرية، بل كانت سياسة ثابتة يقصد بها التقارب مع فرنسا بعمل كل ما تريده لإقصاء التيار الإسلامي وحزب الشعب عن العمل الوطني واستبعادهم من جبهة التحرير حتى تقبل فرنسا الاتفاق معها...

ولم يقف تيار التسلل الذي مكن أعوان فرنسا من احتلال مراكز القوى في جبهة التحرير عند حد عباس فرحات وحزبه، بل شمل ما هو أخطر من ذلك وهو تمكين بعض الضباط الجزائريين في الجيش الفرنسي من التسلل في صفوف جيش التحرير وقياداته الأمر الذي مكنهم من الوصول إلى مركز القوة في الجيش الوطني الجزائري الذي أنشأه بومدين بعد الاستقلال، وهم الذين دبروا الانقلاب الأخير لمنع جبهة الإنقاذ الحائزة على التأييد الشعبي الكاسح من المشاركة في السلطة، بل ومن وجود حزب ممثل لشعب الجزائر الذي يسيطر عليه هؤلاء "الانقلابيون" ...

أشار السيد فتحي الديب في مواضع متعددة إلى ما سماه السخط العام على الحكومة الجزائرية المؤقتة التي كان يرأسها عباس فرحات، من كافة قطاعات الشعب الجزائرية في الداخل والخارج وقوات جيش التحرير الجزائري، بعد تردد الأنباء التي تؤكد وجود اتصال سري للفرنسيين مع مسئولي الحكومة التي يرأسها عباس فرحات وقيام هذه الحكومة بالإطاحة ببعض قادة الولايات الذين بدءوا الثورة وقادوها، وقد استبدلت بهم قادة جددًا من الضباط الذين خدموا بالجيش الفرنسي وقاتلوا ضد جيش التحرير إلى عهد قريب (ص/298) من كتابه...

وفي (ص/405) يقول ما يلي:

"شهد شهر نوفمبر 1958م محاولة للقيام بانقلاب عسكري على حكومة عباس فرحات بسبب إبعادها القادة الوطنيين الذين ساهموا في الثورة منذ قيامها وإحلال عناصر مشبوهة ممن خدمت الاستعمار بهدف السيطرة على الثورة لصالحهم الشخصي"...

هذه العناصر المشبوهة التي وصلت إلى مراكز القوى في الجيش، يقول كثيرون إنها هي التي قامت في عام 1991م بالانقلاب العسكري لمنع الشعب الجزائري من اختيار حكام لا ترضى عنهم فرنسا، والسيد فتحي الديب والعناصر الناصرية هي التي سهلت للمخابرات الفرنسية ذلك بأن قامت بإخلاء الساحة من الإخوان المسلمين وغيرهم من الوطنيين والإسلاميين

ممن بقوا على الوفاء لزعيم حزب الشعب مصالي حاج وذلك كله لإحكام قبضتهم على جبهة التحرير، لكنهم الآن قد انتهوا وذهبوا وبقي عملاء فرنسا الذين فتحوا لهم الباب على مصراعيه لينضموا إلى جبهة التحرير ويصلوا إلى مراكز القيادة فيها بدلاً من الإسلاميين وأعضاء حزب الشعب.

العدوان الثلاثي

شي عجيب وأمر غامض حيرني، هو أن عام 1956م قد وقع فيه العدوان الثلاثي بالهجوم الغادر لجيوش بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، وكثيرون ظنوا أنهم قصدوا القضاء على النظام الناصري وإنهاء وجوده. وآخرون يقولون إنه قصد به احتلال القناة وسيناء لفرض حلول معينة تمكنهم من الإشراف على قناة السويس وإعطاء إسرائيل حقوقًا في سيناء وخليج العقبة، فضلاً عن أن تصبح إسرائيل إحدى الدول صاحبة الحق في الإشراف على القناة واستعمالها.

إن هذا العدوان لم ينجح في هذين الأمرين كما كان المتآمرون يظنون بسبب اعتراض الدولتين العظميين أمريكا وروسيا، واللتين استخدمتا مجلس الأمن لإلزام الدول الثلاث المعتدية بالانسحاب المهين ليفوز كلاهما بتحقيق هدف استراتيجي من أهداف الاستعمار الجديد ويعتبر ذلك في نظر المؤرخين تحولاً من أساليب الاستعمار التقليدي (البريطاني والفرنسي) الذي كان يستعمل الغزو والاحتلال وسيلة لتحقيق مصالح سياسية ومالية وعسكرية، وحل محله عصر الاستعمار الجديد (الذي تمثله أمريكا وروسيا) الذي يستغني عن تلك الأساليب العتيقة ويستعمل بدلاً منها وسائل الضغط الاقتصادي والسياسي لتحقيق نفس الأغراض، أي السيطرة على الشعوب واستغلالها.

كان المفهوم من تسلسل أحداث ذلك العام كما عرضها السيد السفير فتحي الديب أن مشاركة فرنسا في هذا العدوان كان لها هدف واضح وهو الضغط على النظام الناصري لوقف المساعدات التي تقدمها مصر حكومة وشعبًا للمقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي. لذلك كنت أتوقع من السيد السفير أن يعطي هذا العدوان الثلاثي ما يستحقه من الاهتمام، وأن يشير إلى أسبابه ومقدماته وأهدافه ونتائجه المباشرة وغير المباشرة فيما يختص بموقف الحكومة المصرية من قضية الجزائر، لكنه لم يفعل.

من الواضح أن الحكومات الثلاث المعتدية قد رتبت للعدوان وأعدت له عدته خلال فترة طويلة قبل وقوعه في منتهى الكتمان والسرية، وتمت بينهم مفاوضات ومفاهمات لتحديد دور كل منها ونصيبها من النتائج التي كانوا يريدون الوصول إليها، ومن أولى هذه النتائج في نظر فرنسا هي محاصرة الشعب الجزائري وقطع صلته بالشرق الذي تربطه به أصالته القومية العربية والإسلامية

ومواصلة تنفيذ مخطط طويل المدى لاقتلاع الأصول الإسلامية من الجزائر بل ومن العالم العربي كله إن أمكن، باعتبار أن هذه الأصول في نظر فرنسا كانت مصدر المقاومة البطولية للاحتلال الفرنسي في الجزائر وشمال إفريقيا منذ غزوها لتلك البلاد وأنها كانت منبع الحركات الوطنية الأصيلة في المغرب والجزائر وغيرهما، كما أنها في نظر الصهيونية تمنع سيطرتها على المنطقة...

يظهر أن السلطات الناصرية قد فوجئت بهذه الحملة العسكرية الثلاثية التي اتفقت عليها دول ثلاث ورتبت لها ترتيبًا دقيقًا، ولكن السيد فتحي الديب وأصدقاءه كان عليهم بعد انتهاء هذا العدوان أن يراجعوا الوقائع السابقة عليه والتي كانت في الحقيقة تمهيدًا له مما جعله يفاجئهم في وقته دون أن يدركوه أو يشعروا به؛

لأن خبرتهم بالمؤامرة الاستعمارية كانت معدومة وكانوا مبتدئين في شئون السياسة والمخابرات أيضًا ثم إنه نشر كتابه لأول مرة في عام 1984م، ثم أعاد طبعه 1990م، وبذلك كان عنده وقت كاف لتعميق أفكاره واستكشاف حقيقة الوقائع التي سردها في كتابه نقلاً عن أرشيف مكتبه الذي كانت وثائقه سابقة على العدوان أو معاصرة له.

إنه لم يفعل شيئًا، بل إنهي صر على تجاوز هذا العدوان ومر عليه مرور الكرام، ولا أعتقد أن ذلك كان إهمالاً أو سهوًا، بل إنه في نظري كان كرمًا مقصودًا نتيجة لما توصلت له السلطات المصرية والفرنسية بعد العدوان الثلاثي من تفاهم على مواصلة التنسيق بينهما بل إن هذا العدوان نجح في إقناع الناصريين بزيادة التعاون مع السياسة الفرنسية في سعيها لاستبعاد العناصر الوطنية والإسلامية الأصيلة من مجال العمل الوطني في الجزائر...

وقد أشرنا إلى أن سيرهم في هذا الاتجاه كان في بدايته لأهداف حزبية وقتية أو طموحات شخصية للزعامة والسيطرة، لكنه أصبح في مرحلة من المراحل خطة استراتيجية للناصريين وغيرهم من النظم التي تتجه نحو اللادينية وترفع شعارات اشتراكية لمعاداة الإسلام في كثير من بلادنا...

لقد وقع الهجوم الثلاثي المشترك صباح يوم (29/10/1956م) وكل ما خصصه السيد فتحي الديب لتلك الحملة العسكرية الغادرة من الدول الثلاث لا يتجاوز سطورًا معدودة مكتفيًا بالقول (بأنه رغم الارتباط الكبير والمعترف به بين العدوان الثلاثي الغادر وموقف مصر من دعم ثورة الجزائر، إلا أنني آثرت ألا أخوض في تفاصيل وتسلسل أحداث وحقائق العدوان مكتفيًا بما كشفه العديد من الكتاب المعاصرين وتأكيدهم على الارتباط والتآمر الواضح والدوافع الرئيسية للإقدام عليه"...

إنني لا أصدق ادعاءه بأن سبب عدم كلامه عن علاقة هذا العدوان بمواقف مصر من تأييد ثورة الجزائر هو وجود كتب أخرى كتبها معاصرون عن هذا الموضوع بل إن السبب الحقيقي في نظري هو أن سياسة السلطات الناصرية في التنسيق مع المخابرات الفرنسية ضد الاتجاه الإسلامي

وضد حزب الشعب الجزائري التي بدأت قبل العدوان قد استمرت وأنهم قرروا التجاوز عن آثار هذا العدوان، بل أعتقد أن التنسيق قد زاد وتأكد لأن القضاء على الاتجاه الإسلامي كهدف مشترك كان أهم عندهم من الخلاف الذي أدى لهذا العدوان، وهذا يدل في نظري على أن العدوان إذا كان قد فشل في احتلال قناة السويس فإنه نجح في دفع الناصريين لمزيد من التنسيق مع السياسة الفرنسية المعادية للإسلام والحركات الوطنية الأصيلة في الجزائر...

وعندي أدلة على ذلك فيما ورد في كتاب السيد فتحي الديب، أشير إلى أهمها بإيجاز شديد:

  1. في نفس الصفحة بعد أن أشار فيها إلى فشل العدوان الثلاثي بسطر واحد (ص287) يورد نصًا كاملاً لترجمة خطاب مؤرخ (17/12/1956م) وصله من السيد أحمد بن بيلا، وقال إنه سرب إليه بواسطة أحد الرسل الذي تمكن من تهريب الخطاب. لهذا الخطاب المهرب ترجمة مكونة من أربع صفحات بالعربية في كتابه ص(281 إلى ص285) في حين أن نصه الأصلي بالفرنسية المنشور في ملحق الوثائق يملأ خمس صفحات كاملة (ص668 إلى ص 672) ويهمنا الآن من هذا الخطاب إشارته إلى حسن معاملة السلطات الفرنسية لهم عقب اعتقالهم، فذكر في (ص283) أنه "رغم كل التهديدات التي وجهت إليه فإنه يعترف بأنهم لم ينفذوا هذه التهديدات أبدًا ولم نعذب إطلاقًا، اللهم إلا من الناحية المعنوية" ... وفي نهاية الخطاب (ص285) يعود لتأكيد حسن نيات الفرنسيين بقوله: "لا شيء ينقصنا، فلدينا الصحف يوميًّا ونتمع بنظام المعتقلين السياسيين بالكامل ونحن على اتصال بإخواننا خارج فرنسا في تونس وطرابلس وأسبانيا، ونظرًا لسهولة الاتصال نرغب في مداومة الاتصال معكم لتستشيرونا في جميع المشاكل الأساسية التي ربما تطرأ في المستقبل". هذا هو كلام بن بيلا الذي قامت الشعوب العربية كلها منزعجة من حادث اختطافه وتعاونت جميع عناصرها لإنقاذ حياته هو وزملائه المخطوفين والآن يسجل حسن معاملة الفرنسيين لهم عقب العدوان الثلاثي، رغم ادعاء ممثل السلطات الناصرية بأن هذا الخطاب المطول كان مهربًا بواسطة أحد رسلهم فإنه لم يكن يجوز لها أن تستبعد أن هذا الرسول كان عميلاً مزدوجًا وأن الاستخبارات الفرنسية شجعت بن بيلا على كتابة خطاب بهذا الأسلوب المطول المفصل وأنها علمت به فأقرته وسهلت وصوله إليهم ليكون عربون تفاهم بين الطرفين في المستقبل... أرجو من القارئ أن يلاحظ أن هذا الخطاب كتب وأرسل بعد شهر ونصف فقط من العدوان الثلاثي الذي يشير الخطاب إلى أنه وقع قبل مضي أسبوع بعد القبض عليهم. لم تقتصر سياسة المهادنة والتقارب بين السلطات الفرنسية والمصرية على هذا الخطاب، بل صاحب ذلك وقائع قبله وبعده تؤكد هذا التقارب وسنتابع ذكر ما ورد منها في كتاب السيد فتحي الديب.
  2. يورد سيادته ملخص مذكرة رفعها لرئيسه عبد الناصر في شهر نوفمبر 1956م بعد أسبوعين فقط من العدوان الثلاثي (ص287) يقترح فيها اتخاذ موقف ملاينة مع السلطات التونسية، بل "والمغربية المتهمة بالمشاركة في عملية اختطاف طائرة بن بيلا" حيث يقول إننا نرى عدم التعريض بموقفهما في الوقت الحالي على أن نقوم سرًّا بتقوية المعارضة في كلا البلدين (ص/288) ثم يؤكد ذلك مرة أخرى (ص290) بقوله إنه يرى تفادي الصدام بالسلطات المراكشية والتونسية في الظروف الحالية. والسبب في ذلك في نظرنا أن هذه السلطات التي يتهمها بأنها ساهمت في عملية الاختطاف كانت هي التي تقوم بدور الوساطة بين السلطات الفرنسية والناصرية.
  3. اقترح سيادته في مذكرته المشار إليها في بند (7 ص 290) تركيز أجهزة الإعلام المصرية على مهاجمة السلطات الاستعمارية الفرنسية مع عدم التعرض للشعب الفرنسي، والتنويه بموضوعية وواقعية العناصر الفرنسية المتحررة "أي اليسارية" التي بدأت تنادي بمنح "الجزائر" حقها في تقرير مصيرها، ونعتقد أن هذه العناصر "الاشتراكية" هي التي قامت فعلاً بدور الوساطة بين السلطات الفرنسية والناصرية. كان هدف هؤلاء الوسطاء اليساريين هو الحصول على تأييد السلطات المصرية في خطتهم لترويج المذاهب اليسارية كبديل للاتجاه الإسلامي ومشاركتها لهم في اقتلاع أصول التيار الإسلامي من الجزائر مقابل الاعتراف لشعب الجزائر بحق تقرير المصير بشرط السير نحو الفكر الاشتراكي الذين يريدون أن يجعلوه بديلاً عن الاتجاه الإسلامي، أي أن الثورة تتحول نحو تحرير الجزائر من الإسلام بدلاً من تحريرها من الاستعمار، وبمقتضى ذلك تعاون الناصريون مع فرنسا لتحقيق هذا الهدف المشترك. أعتقد أن كثير من القراء يرون معي بداية هذه الاستراتيجية التي مازالت في نظر كثيرين تنفذ حتى اليوم، بل تلتزم بها كثير من مراكز القوى في الداخل والخارج في أنحاء كثيرة من العالم العربي، وما يحدث في الجزائر الآن ليس إلا ثمرة لها وتأكيدًا للتنسيق مع السياسة الفرنسية على العموم، وهو ما يذكره السيد فتحي الديب، وإذا كان هو ونظامه الناصري قد ذهب فقد جاء بعدهم من هم أقدر منهم على مواصلتها من أمثال الجنرالات الذين اخترقوا جيش التحرير بموافقتهم ومنهم الذين دبروا الانقلاب على الديمقراطية في الجزائر لمجرد أن الشعب قد اختار الاتجاه الإسلامي بأغلبية ساحقة في انتخابات حرة عام (1991م) والذين يحظون بدعم تشجيع من بعض النظم العربية والدول الأجنبية التي تخشى نمو الصحوة الإسلامية...
  4. إن المقاومة الجزائرية كانت حتى ذلك الوقت مازالت تسير في اتجاه الأصالة العربية الإسلامية، وقد أشار لذلك في (ص/291) من اجتماع قادة الكفاح المسلح بالجزائر في (1/12/1956م) وتمسكهم بأن تكون الجزائر دولة عربية إسلامية.
  5. لكن فرنسا استطاعت أن تستغل العناصر اليسارية لتوجيه السلطات الناصرية للفصل بين الإسلام والعروبة أولاً، ثم ربط العروبة بالاشتراكية الماركسية المعادية للإسلام والتعاون معها في اقتلاع الأصول الإسلامية للشخصية الجزائرية، وبدأت مرحلة تنسيق ثلاثي بين الاستعمار والاشتراكية والناصرية، كما سنرى.

ويكفي لمتابعة خطوات هذا "التحول"، أن نلاحظ أن الخطاب "المطول" المهرب المؤرخ "17/12/1956م" في ص"281 : 285" من كتابه، ورد فيه "صفحة" 284 ما يلي:

"لن أنساكما أنتما الاثنين وصبركما الذين لا يفسره سوى إيمانكما الراسخ وعقيدتكما في المبادئ الإسلامية...". وفي نهايته ص "285" يعبر له "عن أخلص العواطف الوطنية العربية والإسلامية...".

فإذا رجعنا إلى الخطاب الذي أرخ "20/12/1956م" "ص455، وص723" فقد ختم بعبارته: "إخوانك في العروبة" ولم يرد في أي سطر من سطوره إشارة إلى الإسلام أو المبادئ الإسلامية كما كان الحال في الخطاب السابق!!! ونرى أن الاتجاه الناصري نحو الاشتراكية السوفيتية كان له دور في هذا التنسيق لتكون الماركسية أيديولوجية القومية العربية بدلاً عن الإسلام.

ومع ذلك لا يجوز مطلقًا تجاهل دور المخابرات الإسرائيلية؛ لأن إسرائيل كان لها مصلحة كبرى في استبعاد العقيدة الإسلامية من المنطقة. ولا شك أن الاتجاه الناصري للتعاون مع الكتلة السوفيتية كان له دور كبير في هذا التنسيق والتعاون بين السياسة الفرنسية والسوفيتية (الاشتراكية) والناصرية. لكنني أرى أنه لا يجوز مطلقًا بأن إسرائيل لم يكن لها مصلحة كبرى في هذا التنسيق، بل إنني أعتبرها الطرف الرابع في هذا الاتجاه، وذلك من خلال السياسة الأمريكية.

الابتزاز الرباعي

عنوان الباب السابع في كتاب السيد فتحي الديب هو "الثورة الجزائرية تدخل دائرة الابتزاز السياسي والمالي الدولي" ... وأول الجهات التي حاولت هذا الابتزاز في نظره هي أمريكا، إذ جعل عنوان الفصل الأول من هذا الباب "أمريكا تحاول التسلل من خلال الأمير الحسن ولي عهدا لمغرب آنذاك" ثم جعل عنوان الفصل الثاني "بورقيبه يدلي بدلوه في المخطط الأمريكي الفرنسي" ثم انتقل بعد ذلك في الفصل الثالث والرابع إلى ما سماه "صفقة السلاح الأولى من الكتلة الشرقية"

وأفاض فيما قام به هو ومن معه من دور في إمداد الثورة بالسلاح في الفصل الخامس والسادس، ونتيجة لذلك جعل الباب الثامن "قيادة الثورة تتخذ من القاهرة مقرًا للقيادة" ومعنى ذلك في نظره أن الناصريين نجحوا في مخططهم لاحتواء الثورة على النحو الذي فصله في اجتماعات المؤتمر التحضيري لعام 1957م، ثم انعقاد المؤتمر الوطني للثورة الجزائرية بالقاهرة في سبتمبر 1957م، وما بعد قرارات هذا المؤتمر وخاصة تشكيل أول حكومة جزائرية مؤقتة في المنفى بالقاهرة وهو موضوع الباب التاسع.

واضح أن هذه الجهات جميعًا كانت تتسابق وتتنافس، من أجل السيطرة على الثورة الجزائرية، لكن هذا التنافس لم يمنع من التنسيق والتعاون فيما بينها من أجل الهدف الذي تتفق عليه جميع هذه الجهات، وهو إقصاء الاتجاه الإسلامي من ساحة الثورة الجزائرية ليخلوا الجو لعملاء الحكم الناصري والنفوذ الفرنسي والتسلل الاشتراكي والخطط الصهيونية الأمريكية بعيدة المدى.

لذلك فإنني أعتقد أن المرحلة التالية للعدوان الثلاثي كانت مرحلة التنسيق بين أطراف أربعة اقتنعت بأن مصلحتها المشتركة تقتضي إقصاء الإسلام من الساحة السياسية في الجزائر بل وفي العالم العربي كله، وهي السلطات الفرنسية والناصرية والسوفييتية والإسرائيلية الأمريكية... كلما تكلمنا عن الخطط الإسرائيلية فإننا نقصد بذلك الاستراتيجية الأمريكية التي أصبح لإسرائيل والصهيونية دور بارز في توجيهها في ذلك الوقت، وما زال يزداد يومًا بعد يوم... ونحن نعتبر أن المحاولات الأمريكية للدخول طرفًا في قضية الجزائر وشمال إفريقية عامة، مثل سياستها نحو العالم العربي والإسلامي كله، كانت دائمًا واجهة لخطط الصهيونية ومتواطئة معها، وأصبح هذا هو محور ما يسمونه التحالف الاستراتيجي بين أمريكا وإسرائيل...

أشار السيد الديب إلى بروز هذا الاتجاه الأمريكي بعد العدوان الثلاثي، وإن كان يتجاهل علاقته بإسرائيل والصهيونية، كما أنه يؤكد أن المحاولات الأمريكية بدأت منذ قيام الثورة عام 1954م، لكن سيادته لم يجد داعيًا للكلام عنها عندما كانت علاقات الناصريين بأمريكا ودية، وبدأ كلامه في التعريض بها بعد أن اتجهت السياسة الناصرية للتعاون مع الاتحاد السوفياتي، وبدأ التباعد بينها وبين السياسة الأمريكية.

في (ص/297) يجعل عنوان الفصل الأول من الباب السابع قوله:

أمريكا تحاول التسلل من خلال الأمير الحسن (ولي عهد المغرب آنذاك) ويشير إلى أن ذلك بدأ في الأيام الأولى لعام 1957م بعد شهرين فقط من العدوان الثلاثي الذي كلا لأمريكا الدورا لأول في إنقاذ مصر منه

وهو يقول:

وصلتهم مذكرة من الملحق العسكري المصري في مدريد بأن الأمير الحسن طلب منه سرعة نقل وجهة نظره لحل القضية الجزائرية على إثر زيارة قام بها إلى أمريكا حيث اقتنع بما يلي: إن أمريكا أصبحت تعطف على قضايا العرب وأن دالاس على استعداد لتقديم المساعدة، ولكن البنتاجون يعارض لاعتقادهم أن مصر وحليفاتها انجرفت للشيوعية "وهذا هو ما دبرته العناصر الصهيونية" ويرى الأمير الحسن أهمية تكييف السياسة المصرية بصورة تبعد عنها هذه الصفة (اليسارية الاشتراكية).

وقد عاد سيادته لشرح سياسة أمريكا في محاولاتها للوصول إلى قيادات الثورة الجزئارية بقوله (في ص 303 وص 304) ما يلي:

"لا يعني ذلك أن محاولات أمريكا للتسلل إلى داخل القيادات الجزائرية المسيطرة على الثورة لم تبدأ قبل ذلك، فمنذ تفجر ثورة الجزائر في أول نوفمبر 1954م وبعد نجاحها في تثبيت أقدامه بدأت المحاولات الأمريكية للاتصال بالجزائريين وعرضت على مصر استعدادها لمعاونة الكفاح الجزائري بكمية كبيرة من السلاح
وطلبت تسهيل مهمة ممثليها للاتصال المباشر بالمسئولين الجزائريين للتعرف من خلالهم على أسلوب ومكان إيصال السلاح إليهم داخل الجزائر ووضح الهدف من الاتصال، ولكنه توقف مباشرة، وتلا ذلك محاولة أخرى بواسطة ضباط مخابرات قاعدة الملاحة الأمريكية بطرابلس ورفض عرضهم تسليم بن بيلا كمية من السلاح لإصرارهم على شروط لم يقبلها بن بيلا وزملاؤه"...

وحاولت "أمريكا" من جديد الاتصال مع "بن بيلا" عن طريق جمعية دار السلام التركستانية الأمريكية الجنسية، ويرأسها وقتئذ من يدعى كمال الذي عرض استعدادهم لإمداد "الجزائر" بكميات كبيرة من السلاح بشرط ابتعاد الجزائر بعد استقلالها عن العرب وعن التعاون مع "مصر" ، وعرفنا أن هذه الجمعية تعمل في خدمة المخابرات الأمريكية ورفض عرض جمعية دار السلام...

وبعد سفر بورقيبه والحسن إلى أمريكا تم التفاهم معهما على السياسة الأمريكية الجديدة في المنطقة والتي تقوم على أساس تكوين حلف شمال إفريقيا لتنضم إليه دول غرب البحر الأبيض باعتباره امتدادًا لحلف الأطلنطي، ويلاحظ أن ذلك ما زال سياسة معلنة باسم الشراكة بين أوروبا ودول البحر الأبيض المتوسط العربية... إنه يقول لقد فشلت كل محاولات أمريكا للنفاذ إلى داخل قيادة الثورة الجزائرية واحتوائها وإن كان ذلك الفشل لم يوقف السلطات الأمريكية من معاودة المحاولة وبكل صور ووسائل التسلل بأمل وراثة المصالح والنفوذ الفرنسي بشمال إفريقيا.

وانتقادات السيد فتحي الديب للمحاولات الأمريكية لم يشر إليها في الفترة التي كانت علاقة أمريكا بالناصريين ودية حميمة، ثم إنه لم يقصد بها اعتراضه على مبدأ محاولات أمريكا للتدخل في شئون الجزائر، بل إنه انتقدها بسبب اتخاذ بورقيبه والأمير الحسن وسطاء في الموضوع؛ لأن الطبيعي في نظره أن يتصلوا بالنظام الناصري وأجهزته مباشرة دون وسطاء ومن المؤكد أنهم فعلوا ذلك في الوقت المناسب. أما التنسيق مع فرنسا فأكبر دليل على استمراره وزيادته هو عقد الاتفاق الاقتصادي بين فرنسا وعبد الناصر.

يشير السيد فتحي الديب في كتابه (ص390) إلى أنه عقب صدور قرارات المؤتمر الوطني الجزائري وقرار تشكيل الحكومة المؤقتة على النحو السابق وصدور برنامج تلك الحكومة في أواخر سبتمبر 1958م التقى كريم بلقاسم و "عبد الحفيظ بوصوف" مع "جمال عبد الناصر" وطلبا منه توجيه كلمة لرفع معنويات جيش التحرير وأفراد الشعب للقضاء على أثر الدعاية الفرنسية التي تحاول إيهام الشعب الجزائري بتخلي الرئيس "عبد الناصر" عنه بعد توقيعه للاتفاق الاقتصادي مع فرنسا.

وهكذا يظهر أن النظام الناصري قد نال مكافأة متواضعة من فرنسا، متمثلة في التوقيع على اتفاق اقتصادي معها بعد العدوان الثلاثي، مما يؤيد ما أشرنا إليه من استمرار التنسيق بين فرنسا وحكومة "عبد الناصر" ... ويظهر أن أثر هذا الاتفاق الاقتصادي كان عميقًا وبعيدًا لدرجة أدت إلى تأزم العلاقات بين القاهرة والحكومة الجزائرية الذي جعله عنوان الفصل السادس من الباب التاسع حيث يذكر أن الرئيس عبد الناصر نفسه قد اضطر إلى الدفاع عن موقفه أمام زعماء الثورة الجزائرية، ويشرح لنا ذلك (في ص 417) في تقريره عن مقابلة الرئيس عبد الناصر لفرحات عباس وحكومته يوم 6/2/1959م الذي استمر أكثر من ساعة ونصف الساعة

حيث يقول:

واجههم الرئيس "جمال" بموافقتهم العدائية للقاهرة وافتراءاتهم على المسئولين المصريين (ص416) وأن القصد من ذلك هو التشويش على سمعة مصر وتغطية انسياقهم في المفاوضات السرية مع فرنسا والتي يعلم بتفاصيلها كل من له عين ترى وأذن تسمع.
وانتقل الرئيس "جمال" إلى موضوع استغلالهم لتوقيع القاهرة للاتفاقية الاقتصادية مع فرنسا للاستدلال بها على تغييرنا لسياستنا تجاه القضية الجزائرية موضحًا لهم أن الجمهورية العربية بلد نام إمكانياته محدودة ورغم ذلك لم يقصر في إمداد الثورة الجزائرية ومنذ البداية بكل ما في إمكانياتنا أو في قدرتنا بلا قيد أو شرط، وكثيرًا ما اقتطعنا من أيدي جنودنا السلاح لنعطيه لإخوتهم المناضلين الجزائريين وهم على علم كامل بذلك

ووجه لهم الكلام قائلاً:

"ماذا تريدون منا أن نفعله أكثر من ذلك؟ أم أنكم أعطيتم لأنفسكم الحق في تسير اقتصادنا حسب أهوائكم، وما أدراكم أن توقيعنا للاتفاق الاقتصادي مع فرنسا لا يخدم زيادة قدرات القاهرة لإمداد الثورة الجزائرية باحتياجاتها؟ اللهم إلا إذا كان هدفهم من ذلك كله هو التشويش ليس إلا"...

في نهاية اللقاء أعلنهم الرئيس "عبد الناصر" وبكل وضوح أنه لم يطلب منهم اتخاذ القاهرة مقرًّا لهم، ولا يهمنا ولا يضيرنا أن ينقلوا مقرهم من القاهرة إلى أي مكان، ولهم أن يقرروا ما يخدم مصلحة الكفاح المسلح بالدرجة الأولى. يظهر من ذلك أن عبد الناصر لمح في خطابه إلى أن عباس فرحات ومن يعملون معه للتشهير بالموقف المصري، إنما كانوا في الواقع ينفذون خطتهم للتفاهم مع فرنسا من وراء ظهر الحكومة الناصرية، وقد رد عباس فرحات على ذلك عندما التقى بعد هذا الاجتماع مع السيد فتحي الديب

وقال له: "إن الشعب الجزائري هو الذي اختاره رئيسًا للحكومة الجزائرية" ، فهو في نظره يعمل لصالح الشعب الذي اختاره، ولم يشر إلى النصيحة التي قدمها له مسئول كبير في الإقامة العامة الفرنسية (الإدارة الاستعمارية في الجزائر) من التوجه للقاهرة للانضمام لجبهة التحرير، ولا إلى ترحيب الحكومة الناصرية به، ليحل محل مصالي حاج رئيس حزب الشعب، وقد أصبح فعلاً أول رئيس للحكومة الجزائرية المؤقتة بموافقة الناصريين والفرنسيين معًا...

لقد نجح "الفرنسيون" في استدراج "الناصريين" للتفاهم معهم بعد أن أفهموهم صدقًا أو كذبًا بأن الحكومة الجزائرية التي يرأسها "عباس فرحات" بدأت الاتصالات التي اعتبرها الناصريون خيانة؛ لأنها كانت بدون علمهم، وشكوا منها "لبن بيلا"، وكان رد الناصريين أن قررت السلطات الناصرية أن تسبقهم، وهي أولى منهم في الاستفادة من التنسيق مع السياسة الفرنسية إلى حد ما... وعقدوا معها الاتفاق الاقتصادي الذي انتقده الجزائريون واعتبروه تخليًا عن الثورة...

الهدف المشترك مقاومة التيار الإسلامي

في مارس 1956م خرجت من المعتقل في القاهرة بعد سنتين تقريبًا، كانت فيها حركة الإخوان المسلمين هدفًا لكل وسائل الاضطهاد من قتل وتعذيب وتشريد، ولم يقتصر الاضطهاد على أعضائها، ولكنه امتد إلى كل من له نشاط إسلامي في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي؛ بحجة أنه مؤيد للإخوان أو أنه سوف يؤيدها في يوم من الأيام.

خلال تلك الليالي المظلمة، والأيام العسيرة، بل وبعد خروجنا من السجن كان السؤال الذي يشغلنا دائمًا هو: كيف أن الاضطهاد والتعذيب والسجن والقتل الذي تعرضنا له تم على أيدي ضباط من حركة الجيش "المباركة" !! التي تحالفت مع الإخوان المسلمين وأقسم قادتها على الولاء للإسلام وشريعته، وأعلنت في بدايتها عام 1952م أن هدفها هو تحرير الشعب من الطغيان والفساد وفرض احترام الدستور والديمقراطية الصحيحة ضمان الحريات الكاملة للشعب والأفراد.

كيف تحول هؤلاء إلى حكام عسكريين مستبدين يضطهدون ويعذبون ويقتلون من يدافعون عن الدستور والحريات، ويطالبون بانتخابات حرة نظيفة؟! ولماذا يستخدمون أحط الأساليب للاستئثار بالسلطة واحتكارها والقضاء على كل من يخشون منه مشاركتهم في الحكم أو محاسبتهم على تصرفاتهم؟! ليس هنا مجال للرد على هذه التساؤلات، لكن من واجبي أن أؤكد أن هذا الأسلوب كان يحقق للقوى الأجنبية وخاصة الصهيونية وإسرائيل هدفًا أساسيًّا في خططها التي تهدف إلى استبعاد جميع القيادات والأحزاب التي تصر على مواصلة المقاومة الشعبية لنفوذها بل ولوجود إسرائيل ذاته

وهي تعرف أن الشعوب تكره هذا النفوذ وترفضه وتقام وجودها ولذلك فإن من أهدافها حرمان شعوبنا من الاستقرار وتعطيل حرية اختيارها وتجفيف منابع العقيدة والأصول والمبادئ التي تستمد منها قدرتها على المقاومة وإرادتها في التحرير، والتي يعتقدون أن مصدرها العقيدي والتاريخي هو الإسلام. الذي يحيرنا هو كيف استطاعوا أن يستعملوا لتنفيذ هذه الخطة حكومات متعددة وأنظمة مختلفة، بل متنازعة ومتنافسة حتى إن البعض أصبح يعتقد بأن الحكومات والقيادات التي ترفع شعارات الوطنية تقوم عن قصد أو غير قصد بتنفيذ الخطط التي رسمتها القوى الأجنبية لها وخاصة الصهيونية.

أذكر أنني قرأت في مجلة "إمباكت Impact" الباكستانية التي تصدر في لندن نص حديث صحافي سبق أن نشرته جريدة يومية باكستانية تصدر باللغة الإنجليزية في كراتشي باسم "الفجر – Dawn" لمراسل لها مع مستر "بيفن" وزير خارجية بريطانيا (العمالي) في أوائل عام 1954م، عندما كانت باكستان تواجه مشكلة وضع دستور تطالب الجماعة الإسلامية أن يكون أساسه إسلاميًّا

وتراوغ الحكومات المتعاقبة في ذلك وتماطل بسبب الضغوط البريطانية التي تريد أن تكون باكستان مثل غيرها من الدول "العصرية" في العالم الإسلامي دولة "علمانية Secular" وأبدى الوزير البريطاني رأيه صريحًا بأن الحركات الإسلامية لا مستقبل لها، وسوف تزول لأنها تسبح ضد التيار العصري السائد في العالم

وذكر مثالاً لهذه الحركات التي يهددها:

"الجماعة الإسلامية في باكستان، ودار الإسلام في أندونيسيا، وفدائيان إسلام في إيران والإخوان المسلمين في أقطار العالم العربي".

عقب هذا التصريح لم ينته عام 1954م، حتى كانت هذه الحركات جميعها قد هوجمت في بلادها رغم اختلاف أنظمتها وظروفها، فحملة الاضطهاد التي قادها "سوكارنو" ضد دار الإسلام قد اشتدت حتى قضت عليها تقريبًا، وقبض على زعماء الجماعة الإسلامية الباكستانية، وحوكموا، وحكم على المودودي بالإعدام، وإن لم ينفذ الحكم فسبب ذلك ظروف باكستان الخاصة وضغوط شديدة من الرأي العام أما "فدائيان إسلام" فقد حلت وقبض الشاه على "نواب صفوي" رئيسها بعد عودته من جولة في مصر وحكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم فيه.

وفي مصر صدر قرار الحكومة المصرية العسكرية الناصرية بحل جماعة الإخوان المسلمين، واعتقال جميع أعضائها، والمؤيدين لها، ومحاكمة قياداتها والمسئولين عنها وصدر الحكم بالإعدام على ستة منهم، ونفذ الحكم فيهم، وقتل كثيرون تحت التعذيب في السجون والمعتقلات، وحكم على أعداد كبيرة بالسجن مددًا متفاوتة، كثير منها بالأشغال الشاقة المؤبدة.

في العالم العربي أعتقد أن العملية ضد "الإخوان المسلمين" والإسلاميين عمومًا استمرت وامتدت إلى الجزائر وشمال أفريقيا وما زالت كذلك للآن، وكانت إشارة البدء التي أعلنها وزير خارجية بريطانيا حركت عصا سحرية في جميع أنحاء العالم ضد التيار الإسلامي والسبب في ذلك هو إصرار الإسلاميين على مواصلة المقاومة للنفوذ والسيطرة الأجنبية

وأن قاعدة الإسلاميين هي التي تغذي شعلة النضال الفدائي في ميادين الكفاح في كثير من البلاد، كما هو واضح الآن في فلسطين وكشمير والشيشان مثلاً، لقد كانت الحركات الوطنية تشاركهم في مراحل معينة في أغلب الأحيان، لكن التضحيات فيها كان أكثرها من نصيب صفوف الإسلاميين في حين أن مناصب الحكم ومنافعه استأثر بها من يدعون الوطنية بالحق أو بالباطل...

وكان هذا واضحًا في الثورة الجزائرية التي بدأت في أواخر عام 1954م، وكذلك المقاومة المغربية والفلاجة في تونس، حيث كانت العناصر الإسلامية هي التي تتقدمها. وما إن فتح باب المفاوضات أمام (الوطنيين العصريين)!! في تلك البلاد حتى قاموا بدورهم لإطفاء نار الشعلة الفدائية في النفوس جريًّا وراء مقاعد السلطة، وتم ذلك فعلاً في تونس حيث قامت حكومة بورقيبة باعتقال الفلاجة الذين رفضوا إلقاء السلاح.

فيما يخص المغرب أذكر أنه عقب خروجي من المعتقل جاءني أحد الأصدقاء من المغرب يخبرني بأن أحد قادة المقاومة قد قتل واسمه "عباس" وأن الدكتور عبد الكريم الخطيب (الذي كان معي في باريس عام 1954م، وأصبح بعد ذلك رئيس المجلس الوطني للمقاومة المغربية بعد عودته لبلاده)، قد اعتقل وأنه مقدم للمحاكمة

وطلب مني أن أذهب معه للمغرب للدفاع عنه بصفتي محاميًا، وللتوسط بينه وبين الحكومة الموالية لحزب الاستقلال وعرفت منه أن الحكومة المغربية "رغم أن حزب الاستقلال يشارك فيها" إلا أنها قررت دعوة المقاومة للتوقف، ويظهر أنها تعهدت لفرنسا بذلك مقابل ما وعدتهم به من تنازلات، ولكي تضمن التزام المقاومين بذلك التوقف بدأت تبعد منها القيادات غير الموالية لها ومنهم (عباس) الذي قتل وعبد الكريم الخطيب الذي اعتقل.

بالنسبة للجزائر كان الوضع مماثلاً، إلا أن السلطات المصرية كانت هي التي تقوم بدور الحكومة المغربية من أنها لا تريد أن يوجد في قادة المقاومة الجزائرية إلا العناصر التي تلتزم بما تقره هي، أما من يحتمل أن يكون لهم رأي مستقل مثل مصالي حاج وجماعته وجمعية العلماء، فإن المخابرات المصرية قررت استبعادهم تمامًا من ساحة الكفاح المسلح في الجزائر ليبقى زمام الأمر بيدها حسبما يراه الزعيم الأوحد.

وكما أشرت من قبل فبعد خروجي من المعتقل "1956" اتصلت "بأحمد بن بيلا وخيضر وحسين آية أحمد" ، وزاروني وهنئوني على خروجي من المعتقل، وحكي لي محمد خيضر كيف أنه حضر لمنزلي في الموعد الذي كان محددًا للقائنا مع عابد ومزغنة في أكتوبر عام (1954)وهو اليوم الذي اعتقلت فيه وأن والدتي رفضت أن تفتح له الباب، وأنه عرف بعد ذلك من الصحف بأنني اعتقلت أنا وجميع الإخوان الذين عرفهم وقص على قصة اعتقال "عابد ومزغنة" كأنها أمر عادي وقضاء واقع، وفهمت أن السبب كان خلافًا بينهم وبين السلطات الناصرية، وأنه هو وبن بيلا كانا مجرد شهود.

ولم أعقب على هذه القصة في ذلك الوقت ولكني أفهمته أن هذا وضع شاذ يجب أني سعوا لإزالته... في عام (1956م)، وبعد خروجي من المعتقل بفترة قصيرة اتصل بي "بن بللا" تليفونيًّا، وقال لي إنني الآن في شارع عدلي، وأريد أن أعرض عليك أمرًا وسأحضر إليك في المكتب فورًا وفهمت أنه كان يتردد على مكتبه في شارع عدلي وأن الذي يعمل في هذه المكتبة هو أحد المصريين اليساريين واسمه سليمان

وأنه كان يزوده بالكتب الفرنسية المتعلقة بالاشتراكية، وكان يسترسل معه في الأحاديث باللغة الفرنسية وأعجبه ذلك لأنه لا يجد كثيرين غيره يتكلم معهم بهذه اللغة، ولذلك فهو يتردد عليه عندما يكون له وقت فراغ، وهذا الشخص رأيته فيما بعد في الجزائر بعد استقلالها بجوار "بن بيللا" وهو أحد الشيوعيين المصريين الذي ساهموا في تدعيم التيار اليساري في الجزائر.

المهم أن بن بيللا قال لي: أولاً أبشرك بأنني كنت أمس في زيارة الإخوة في السجن الحربي، وحملت إليهم بعض الحلوى والفاكهة والهدايا، وطلبوا مني أن أسعى للإفراج عنهم فقلت لهم إن ذلك موعده بعد أن تستقل الجزائر، فلم أعلق على هذا ولم أسأله لماذا؟ لأنني لا أحب أن أتدخل في شئونهم الحزبية والداخلية، ولا في التعليق على سياسة الحكومة المصرية.

وبعد ذلك قال لي إنني وخيضر وحسين آية أحمد ذاهبون إلى المغرب الأسبوع القادم؛ لأن الملك محمد الخامس دعانا لزيارته ونعتقد أن هذه الزيارة سيكون من ورائها فائدة للقضية، قلت له وماذا تريد مني؟ قال أقترح أن تذهب معنا للمغرب لأن لك صلة بكثير من المغاربة ويمكن أن تسهل لنا الاتصال بهم هناك، فقلت له على الفور أنا لا شأن لي بزيارة المغرب

وأنا مستعد لأن أذهب معك في اليوم الذي تقرر فيه أن تذهب للجزائر، وأن تكون قدمي مع قدمك على أرض الجزائر، قال هذا إن شاء الله سيكون بعد استقلال الجزائر قلت له إذا كان دخولي بعد استقلال الجزائر فسيكون بشرط، قال لي ما هذا الشرط؟ قلت إن الجزائر عندما تستقل لابد لها من دستور، وأنا أريد أن أعد لكم هذا الدستور بل سأبدأ فيه من الآن، قال لي مرحبًا وأهلاً وسهلاً ولا نجد غيرك، ولا أفضل منك لهذه المهمة، ونحن ندعو الله –عز وجل- أن يكون ذلك قريبًا.

ودعني صاحبي وخرج، وبعد ذلك سافروا، وفوجئت بعد ليلة واحدة وأنا أسمع الإذاعة بأن الطائرة التي كانوا يركبونها كانت طائرة مغربية ذاهبة إلى الرباط لكنها حولت إلى الجزائر وقبض عليهم جميعًا في الجزائر العاصمة، وأن السلطات الفرنسية اعتبرت هذا نصرًا كبيرًا لها، وأنه سيكون وسيلة للقضاء على ثورة الجزائر، طبعًا كان هذا أثناء الثورة بعد سنتين فقط من بدء الكفاح المسلح...

الإسلاميون والوطنيون في ساحات العمل الفدائي والإنساني

في مرحلة الجهاد المسلح يشترط الوطنيون مع الإسلاميين في ميادين الجهاد والاستشهاد، لكن بمجرد أن يفتح باب الاتصالات والمفاوضات مع الأعداء ينشغل "الوطنيون" بها، ويسارعون للحصول على مغانم حزبية أو مناصب حكومية، بينما يصر الإسلاميون على مواصلة الجهاد والفداء فيقع الانفصال بين عناصر التيارين ويتأكد هذا الانفصال بمجرد حصول "الوطنيين" على ما يسمونه الحكم الذاتي أو الداخلي أو الاستقلال الوطني.

وينتج عن هذا الانفصال أن تغرق العناصر التي ترفع شعارات "وطنية" في تيار التنافس على السلطة والتزاحم على المناصب، بينما يستمر الإسلاميون في ساحات العمل الفدائي والإنساني ويتحملون نتائجه من التعرض للسجن أو الاعتقال أو الاستشهاد، ولذلك كان أغلب الشهداء في ساحة الجهاد من الإسلاميين الذين يطلبون الشهادة

ومن الوطنيين الأصلاء، في حين كان بعض الوطنيين الذين يحظون برعاية السلطات الناصرية ويتنقلون بين الفنادق وتنفق عليهم بعض الحكومات يطلبون النفوذ والسلطة وعلق بعضهم على ذلك بقوله: "إن هؤلاء يطلبون الجنة عن طريق الاستشهاد، وقد نالوه أما نحن فنطلب الاستقلال ونسعى له، فنحن أحق ببركاته وثماره عندما نناله، ولو كان مقيدًا بشرط"!!

أذكر أنني كنت في إحدى زياراتي لعاصمة عربية كنت أتردد عليها، دعاني سفير الجزائر للغداء مع ياسر عرفات بناء على طلب هذا الأخير، وأثناء الغداء كان ياسر عرفات يشكو من تصرفات بعض قادة "الفصائل الفلسطينية" المشتركة في منظمة التحرير التي يرأسها ويقول: إن بعضهم يعمل لحساب دولة عربية معينة أو أجنبية أكثر مما يعملون لفلسطين. بعد مغادرة عرفات بقيت مع مضيفنا الجزائري وهو من كبار قادة جبهة التحرير الجزائرية المخضرمين، وقد عرفته من قديم، وبدأ يعلق على شكوى عرفات بقوله: هؤلاء الفلسطينيون لا يعرفون كيف (تُدار) (الثورة الوطنية) إنني تعبت معهم لكنهم لا يسمعون نُصحي.

وبدلاً من أن يقول لي مضمون هذه النصائح التي يتجاهلها ياسر عرفات وأصحابه مال علي قائلاً: إنني ألتقي مع سفراء الدول الأجنبية في جميع الاحتفالات، ومن بينهم سفير فرنسا الذي رأيت في شخصية جذابة، وفي إحدى المرات بادرني قائلاً: ألا تعتقد أن الوقت قد حان لتكفوا عن وصف ثورتكم بأنها قدمت مليون شهيد؟ هل تعتقد حقًّا يا صديقي أننا قتلنا من الجزائريين مليون شهيد؟ قال لي: إنني اعترضت عليه مبتسمًا وقلت: إننا حقًّا نقول إنها ثورة المليون شهيد ولكننا لم نقل إنكم أنتم الذين قتلتموهم جميعًا؛ لأننا نحن الوطنيين قتلنا كثيرًا منهم وقد يكون من قتلناهم أكثر ممن قتلتموهم، ولكننا لا نستطيع بكل أسف أن نتباهى بذلك.

إذا كان هذا هو ما يشهد به أحد قادة جبهة التحرير فإنني أضيف إليه أن أكثر الشهداء الذين راحوا ضحية الصراعات الداخلية في صفوف الشعب الجزائري كانوا من الإسلاميين والوطنيين الأصلاء الذين قررت السلطات الناصرية ومن تعاونوا معها من قادة جبهة التحرير السعي إلى استبعادهم من صفوفها، إما لأنهم ينتمون إلى جمعية العلماء الذين يدينون بالولاء للشيخ البشير الإبراهيمي أو أعضاء حزب الشعب المتمسكين بزعامة مصالي حاج الذي كان في نظرهم رمز الوطنية الأصيلة للشعب الجزائري العظيم

ولم يكن هذا الاتجاه لصالح القضية الجزائرية بقدر ما كان لإفساح الطريق لوصول عبد الناصر إلى زعامة "القومية العربية" التي كان حلفاؤهم يشترطون لتأييدها أن تكون مفرغة من الإسلام ومن الأصالة التاريخية للشعب الجزائري، والتي كان يمثلها حزب الشعب الجزائري الذي بدأ الحركة الوطنية وأعد جهازًا سريًا للقيام بالثورة المسلحة ضد الاستعمار.

ما كدت أخرج من السجن الحربي وألتقي مع أصدقائي من زعماء الثورة الجزائرية لقاءات أخوية وعاطفية حتى غادروا مصر، واختطف بن بيللا ورفاقه، وكانت بداية محنة تخللتها اتصالات ومفاوضات بينهم وبين الفرنسيين اعتقدوا أنها تمت بوساطة السلطات الناصرية في أغلب الأحوال، ولم يكن لي علم بها ولم أسأل عنها، وبقيت صلتي بهم إنسانية وأخوية وعاطفية من بعيد، وشغلت برعايتي لشئون أسرهم والمراسلات المتقطعة معهم.

وحكوا لي فيما بعد أنهم عندما كانوا في الطائرة أعلن أن الطائرة نزلت في مطار "الدار البيضاء" ، ومطار الدار البيضاء هو مطار العاصمة الجزائرية ولكنهم ظنوا أنهم وصلوا إلى مدينة الدار البيضاء في المغرب وهي العاصمة التجارية في المغرب، وفوجئوا بأن قوات الجيش الفرنسي دخلت إلى الطائرة واعتقلتهم وأمرت الطائرة بالمغادرة وذهبوا بهم إلى السجن بالعاصمة الجزائرية

وكانوا يتوقعون الإعدام فورًا، ومن حسن الحظ أن الملك محمد الخامس تدخل بشدة، واعتبر أن هذه خيانة له، وهدد وتوعد وربما تدخلت جهات أخرى... لا أدري، المهم أنهم نقلوا من السجن بالجزائر إلى سجن آخر بفرنسا وبقوا فيه من عام 1956م إلى عام 1962م عندما أفرج عنهم، ويمكن لأي قارئ أن يسأل لماذا بقي "مصالي حاج" في الاعتقال في فرنسا حتى مات، ولم يفرج عنه كما أفرج عن "بيللا" وأصحابه الذين مهدت لهم سبل استلام السلطة ومقاعد الرئاسة؟!...

بعد سماع نبأ اعتقالهم كان أول واجباتي هو الاهتمام بأسرة محمد خيضر وحسين آية أحمد، إذ كان أول ما فعلته كلتاهما عندما سمعتا الخبر أنهما اتصلتا بي تليفونيًّا، وهم يبكون طبعًا مرتعشين ومرتعدين، وبذلت جهدي لكي أطمئنهم، أما "بن بيللا" فلم يكن له زوجة وكنت أتابع الأخبار لأعرف ماذا سيكون مصيرهم، وفي الصباح كان أول ما فعلته أن ذهبت إلى منزل زوجة محمد خيضر وشقيقتها زوجة حسين آية أحمد لمواساتهما وأفهمتهما بأنني على استعداد لكل ما يطلبون واستمرت الاتصالات فترة، طبعًا لاشك أنه اتصل بهم آخرون من إخواننا المغاربة، وربما من التونسيين والمصريين الذين كانوا يعرفونهم ووعدوهم بمثل هذا ولكن على كل حال بعد فترة قالوا لي إن الأولاد يحتاجون للذهاب إلى المدارس فماذا نفعل؟

فقلت لهم: دعوا هذا الأمر لي، وفعلاً ذهبت إلى إحدى المدارس ليقبلوهم ولكنهم طلبوا طلبات متعلقة بشهادة الميلاد والجنسية والإقامة وأوراق أخرى لم تكن متوفرة في ذلك الوقت ولقيت بعض الصعوبات في قبولهم، ففكرت في أن أكتب رسالة إلى كمال الدين حسين وزير التعليم في ذلك الوقت ورغم أنني أعرف أنه كان عضوًا بمجلس قيادة الثورة، وأنهم هم الذين قرروا فصلي من الجامعة وقرروا اعتقالي، واعتقلت سنتين

ومع ذلك فقد كتبت له رسالة وقلت له إن هؤلاء الأطفال أمانة عندنا ويستحقون الرعاية فأرجو الإيعاز للجهة المختصة لقبولهم وإعفائهم من القيود والإجراءات الشكلية ومن الرسوم وسلمت هذا في مكتبه، ولا أذكر إذا كنت سلمته للسكرتير أو لطه ربيع في ذلك الوقت والمهم أنه جاءني الرد بموافقة الوزير وأنه أمر بإلحاقهم في إحدى المدارس في الزمالك وفعلاً ذهبت وألحقت الأولاد وكانوا في ذلك الوقت ولدين هما طارق بن خيضر، ويوغرتا ابن حسين آية أحمد وكانت معهما عائشة ابنة محمد خيضر، وأثناء ذلك وصل العائلة أول خطاب من طرف المعتقلين يطمئنهم وأخبروني به.

وبعد مدة قالوا لي إنهم وصلهم خطاب فيه رسالة موجهة إلي مرفقة بخطابهم وكانت بخط خيضر، يشكرني فيها على ما قمت به نحو أنجالهم وأسرتهم ووقع عليها حسين آية أحمد، وبعد ذلك وصلتني عدة رسائل عبارة عن بطاقات بريدية إذ لم يكن من المناسب كتابة أشياء كثيرة، وإنما هي رسائل شكر وأخوة، واستمر الأمر كذلك حتى عام 1959م إذ ذهبت إلى المغرب بناءً على دعوة الإخوة المغاربة للعمل فيها أستاذًا...

وبعد انتقالي إلى المغرب أرسلت للمعتقلين الجزائريين عنواني، وكتبوا لي إلى هناك مباشرة، وقد انتقلت أسرتا خيضر، وحسين آية أحمد إلى المغرب كذلك، وكنت على اتصال دائم بهم، وأذكر أن بطاقة كتبوها لي وكتبها خيضر كالعادة، ووقعها آية أحمد وبن بيللا زيادة في تأكيدهم لما ورد فيها، وفي هذه البطاقة قال لي خيضر بالحرف الواحد "نحن نذكرك بالخير وقد ذكر لنا بن بيللا بأنك تعاهدت معه في القاهرة على أن تقوم بمهمة إعداد الدستور بعد استقلال الجزائر، وأنه تعاهد معك على ذلك، ونحن جميعًا نؤكد هذا العهد ونشترك فيه، ونتعهد به" ، والتوقيع محمد خيضر والآخرون، وهذه الرسالة أعتقد أنها الوحيدة التي احتفظت بها مدة طويلة.

بقيت في المغرب من عام 1959م إلى 1962م، وفي صيف 1961م فيما أعتقد طلبوا مني أن أزورهم في المكان الذي يعتقلون فيه في فرنسا وكان يسمى "فيلا توركان"، وكنت مترددًا في أن أقدم على هذه الخطوة؛ لأن وضعي في المغرب قد لا يساعد على ذلك؛ لأن المغاربة يحبون أن يتصلوا هم بالجزائريين؛

لأن بينهم قضايا مشتركة، لذلك فإن بعضهم لا يكونون مطمئنين لاتصال أحمد من المصريين بهم، وأنا مهما كنت في نظرهم في ذلك الوقت كنت مصريا، بل كثيرون كانوا يعتبرون أن لي علاقة بالحكومة العسكرية المصرية مع أنني في ذلك الوقت كانت الحكومة المصرية تحتج على وجودي في المغرب، وبذلت مساعي كثيرة من السفارة المصرية لإخراجي من المغرب

حتى إنهم حرموني من جواز السفر المصري واضطررت لطلب جواز سفر مغربي، وسعت السفارة المصرية فيما بعد لإخراجي من الجزائر أيضًا ومن السعودية ومن ليبيا، في كل بلد أتجه إليه كانت السلطات المصرية تطاردني حتى اعتقلت في بيروت عام 1965م عندما كنت متوجهًا من المغرب إلى السعودية. المهم أنني زرت خيضر وبن بيللا وحسين آية أحمد، وكان معهم "رابح بيطاط" وكان معهما "بوضياف" الذي لم أكن أعرفه من قبل، وقضيت معهم في المكان الذي كانوا يعتقلون فيه ليلتين أو ثلاثًا.

مصادفة كان هذا المكان أيضًا في وسط فرنسا، في نفس الإقليم الذي زرت فيه "المنصف باي" و"مصالي حاج" و"بورقيبه" من قبل، ولكن بالطبع لم يكن نفس المكان ولا المدينة، وكان الترتيب أن أتصل بهم تليفونيًّا من باريس عن طريق شخص معين في وزارة الداخلية في باريس وهو مدير ديوان وزير الداخلية الفرنسي، وهو الذي يتصل تليفونيًّا ببن بيللا وفعلاً عندما وصلت إلى باريس اتصلت بهم تليفونيًّا وكلمت أحمد بن بيللا وعرفني بالطريق الذي أسلكه

لكي أصل إلى باب القلعة التي كانوا معتقلين فيها، وأنني سأجد هناك تعليمات بإدخالي إليهم، وفعلاً تم هذا، وفهمت أنهم في الحقيقة كانوا في إقامة جبرية ولم يكونوا في السجن، وأن الإقامة الجبرية مثل إقامة بورقيبه ومصالي والمنصف باي من قبل كانت مرحلة للإعداد النفسي، وكانت تعني أن هناك اتصالات بينهم وبين الإدارة الفرنسية وغيرهم ممن توافق الإدارة الفرنسية على الاتصال بهم، وأعتقد أنه سمح لي بالاتصال بهم على أساس أنني مغربي

وكان معي جواز سفر مغربي في ذلك الوقت بعد أن سحب مني الجواز المصري المهم أنني لم أجد صعوبة في الوصول، وبقيت معهم جلسات متعددة، ولم أسألهم عن تفاصيل اتصالاتهم بالفرنسيين إلا أنهم قالوا إن الأمور تتحسن وإن الاتصالات وصلت إلى مستوى عالٍ، وأحسست بأن الحكومة المصرية الناصرية تتابعها من بعيد بدليل أن بن بيللا طلب مني أن أتوجه إلى "برن" عاصمة سويسرا لمقابلة سفير مصر هناك "فتحي الديب"

وأحمل له رسالة وأعطاني العلامة التي تجعله يثق بي وإن كنت أعتقد بأن هذه العلامة لم تكن ضرورية لأن هناك اتصالات تليفونية بينهم، وعلى كل حال كانت العلامة هي مصحف صغير به علامة في صفحة معينة سلمته إلى السفير الذي قال لي متصنعًا الدهشة بعد أن قلت له إنني من الإخوان المسلمين واعتقلت في السجن الحربي وسجن مصر عامين تقريبًا

فكان تعليقه ما يلي:

"لماذا لم يقولوا لي إنك معهم حتى نخرجك من اعتقالك، ولم أعط اهتمامًا لهذا التعليق لعدم ثقتي فيما يقوله هؤلاء، وكان صديقه "علي خشبة" أول سفير لمصر في الجزائر المستقلة ولقيته هناك مرات كان يظهر فيها الترحيب الزائد بي مع أنه هو الذي كان يلح علي بن بيللا لإخراجي، كما فهمت من أحاديثي المطولة مع بن بيللا نفسه، حتى فضلت أنا أن أعود للمغرب من تلقاء نفسي لأعفي بن بيللا من الإحراج الذي كان يتعرض له من حين لآخر بسبب حرصه على علاقته الوثيقة مع الحكومة المصرية الناصرية...

لقد سعدت بخروج بن بيللا وإخوانه من السجن، كما سعد كثيرون لذلك، واعتبرناه نصرًا للجزائر وبداية لمرحلة الاستقلال الوطني، ولم أشغل نفسي بالبحث فيما حصل عليه الفرنسيون مقابل هذا الإفراج ومقابل الاعتراف باستقلال الجزائر وظهر لي فيما بعد أنهم لم يعطوا هذا الاعتراف دون مقابل. والمقابل هو التحول الاشتراكي الذي يهدف إلى إقصاء الاتجاه الإسلامي، لا من ساحة العمل السياسي فقط، بل من مجال الفكر والثقافة، بل والعقيدة ذاتها؛ لأن الماركسية التي تحالف معها الناصريون وأصدقاؤهم لم تكن تخفي أنها لا تستطيع أن تتعايش مع الإسلام في الجزائر ولا في مصر ولا في العالم العربي.

لقد أشرت إلى أن المكان الذي زرت فيه بن بيللا في وسط فرنسا كان قريبًا من المكان الذي زرت فيه "مصالي حاج" و"المنصف باي" و"بورقيبه" من قبل، لكن "مصالي والمنصف باي" بقيا في المعتقل حتى الموت، أما بورقيبه وبن بيللا فقد خرجا من المعتقل ليصل كل منهما إلى مقاعد السلطة والحكم بمباركة علنية وضمنية ممن اعتقلوهم ونجحوا في التفاهم معهم.

وأعتقد أن الفرق بين "بيللا" و"بورقيبه" أن هذا الأخير سار في طريق المساومة والتفاهم مع فرنسا تلقائيًّا ولأهداف شخصية، أما "بن بيللا" فإنني أعتقد أنه تأثر إلى حد كبير بالسلطات الناصرية التي كانت قد اختارت ما تسميه طريق التحول الاشتراكي وأنها قد فرضته على "بن بيللا" وعلى الثورة الجزائرية ليكون مبررًا لإقصاء الإسلاميين جميعًا و"الإخوان المسلمين" من صفوف جبهة التحرير الجزائرية، ومن جميع مواقع السلطة والنفوذ...

إن هدف القوى الأجنبية منذ نجحت في القضاء على "الإمبراطورية العثمانية" "بسبب هزيمتها مع حليفتها ألمانيا في الحرب العالمية الأولى" هو منع وجود الدولة الإسلامية الكبرى التي كانت تمثلها الخلافة العثمانية، ولو اقتضى الأمر تمزيق الأمة الإسلامية الكبرى ومن أجل هذا الهدف استعملوا كل الوسائل لتمزيق وحدة أمتنا وإيجاد أقطار متفرقة تستدرج حكامها بالترهيب والترغيب، وتدفعها دفعًا إلى التنكر لانتمائها الإسلامي، بل وللإسلام ذاته إذا استطاعوا، وما زال هذا هدفهم حتى اليوم.

ولما كانت شعوبنا معتزة بهذا الانتماء مصرة على التمسك بعقيدتها وأصالتها، كان لابد لهم من أن يشجعوا من يتعاونون معهم على فرض سياستهم عليها بالقوة والإكراه بواسطة دكتاتوريات حزبية أو عسكرية تسير في هذا الاتجاه... كان هذا هو ما أدى في تركيا إلى دكتاتورية أتاتورك التي ما زالت تفرض اللادينية المعادية للإسلام على تركيا. أما في الأقطار العربية فما زالت الدكتاتوريات الحزبية والعسكرية تسير في هذا الاتجاه وآخر نموذج لها نشاهده اليوم في الجزائر.

الفصل بين العروبة والإسلام تمهيدًا للتحول الاشتراكي

إذا راجعنا وثائق الكفاح الجزائري جميعها وجدنا أن الجزائريين لم يكونوا في يوم من الأيام يعترفون بأية تفرقة بين العروبة والإسلام، بل إن الفرنسيين أنفسهم كانوا يستعملون الصفتين باعتبارهما مترادفتين. لكننا نلاحظ أن السلطات الناصرية منذ بدأت تدخلها في الثورة الجزائرية جعلت الهدف الأول هو إقصاء الإسلاميين عن ساحة الكفاح الوطني؛ لأنهم يعتبرونهم حلفاء الإخوان المسلمين بل هم منهم بصورة أو بأخرى.

بعد العدوان الثلاثي اتجهت السلطات الناصرية لمزيد من التنسيق مع المخابرات الفرنسية بقصد التقارب مع السياسة الفرنسية، وقام الاشتراكيون واليساريون والشيوعيون في مصر وفرنسا والجزائر بالدور الأكبر في هذا التقارب الذي يساعدهم في إحلال الاشتراكية الماركسية اللادينية محل الإسلام في الجزائر خاصة، والعالم العربي كله عامة، ويظهر لنا من وقائع متعددة أن السلطات الناصرية سارعت إلى السير في هذا الاتجاه وفرضته على من يتعاونون معها من الجزائريين وأولهم بن بيللا وجماعته، وكان ذلك تدريجيًّا...

وهذا هو الدليل مما كتبه السيد فتحي الديب:

بعد اعتقال بن بيللا ورفاقه، وفي غيابهما عقد المؤتمر الوطني الثاني للثورة الجزائرية والذي اهتم به السيد فتحي الديب فخصص له الباب الثامن. وخصص الفصل الأول منه لما سماه "المؤتمر التحضيري لعام 1956م" أما الفصل الثاني فجعل عنوانه: "قيادة الثورة تتخذ من القاهرة مقرًا للقيادة" أما الفصل الثالث فعنوانه "ما بعد قرارات المؤتمر الوطني الثاني بالقاهرة".

هذه الفصول الثلاثة تبدأ من (ص343 إلى ص 364) وهذا يؤكد اهتمام السلطات المصرية بهذا المؤتمر وحرصها على عقده بالقاهرة تحت رعايتها، بل إنها سعدت بقراراته مما يدل على أنها ساهمت في إعدادها، حتى إن السيد الديب رفع قرارات المؤتمر إلى الرئيس عبد الناصر فطلب منه إبلاغ رئيس وأعضاء لجنة التنسيق تهنئته لهم بهذه القرارات الحكيمة التي يؤيدها، ولذلك فإنه طلب إبلاغهم باستعداده للقائهم.

هذه القرارات التي حظيت بتأييد صريح من عبد الناصر شخصيًّا، يظهر لي أن أهمها في نظره هو البند (ج) ونصه: "الإصرار على عروبة الشعب الجزائري"

والذي لفت نظري في هذا النص هو:

أن هذه أول مرة تذكر فيها العروبة بدون ربطها بالإسلام فجميع الوثائق السابقة على هذا التاريخ كانت تؤكد التلازم بين هاتين الصفتين سواء من جانب المعارضين لهما، أو المدافعين عنهما، وكان هذا واضحًا فيما أشرنا إليه سابقًا عن المعركة بشأن قرارات مؤتمر وادي الصمام التي اعترض عليها بن بيللا نفسه وكثيرون من قادة الجهاد؛
لأنها تجاهلت العروبة والإسلام، حتى إنهم عقدوا بعد ذلك مؤتمرًا آخر يؤكد أن الجزائر ستكون دولة عربية إسلامية، وأنهم لذلك استنكروا قرارات مؤتمر وادي الصمام، هذا المؤتمر الآخر أيده السيد فتحي الديب نفسه واعتبره نصرًا لبن بيللا وجماعته كما بينا من قبل، لكن القرارات التي سعد بها عبد الناصر الآن تمثل اتجاهًا جديدًا؛ لأنها ذكرت العروبة بدون الإسلام لأول مرة "في نظري" في تاريخ الثورة الجزائرية.

إن ممثل الحكومة الناصرية يشير إلى أنه عرض هذه القرارات الجديدة (التي تتمسك بالعروبة وتتجاهل الإسلام لأول مرة) على رئيسه عبد الناصر فرأى فيها خطوة طيبة لتوحيد جهود جيش التحرير وتجنيب الثورة الكثير من الهزات التي ظهرت بعد مؤتمر وادي الصمام فما هي هذه الهزات التي جاءت بعد مؤتمر وادي الصمام؟

هذه الهزات هي إصرار بن بيللا نفسه وكثيرين من قادة الثورة على تأكيد الطابع العربي الإسلامي للثورة، وهذا هو الدليل: (في ص/244) يذكر أن بن بيللا وصل للقاهرة في نهاية الأسبوع الثاني من شهر (سبتمبر 1955م)، وقد بدا على وجهه لأول مرة الإرهاق الشديد والتأثر الواضح المتسم بالألم والانفعال على غير عادته، ولما سئل عن السبب انطلق ليصارح بالأخطار التي بدأت تهدد كيان ومسيرة الثورة الجزائرية متمثلة

فيما تم في وادي الصمام من قرارات خطيرة ستكون لها آثارها المدمرة على استمرار (الكفاح المسلح)، أي أنه كان معارضًا لقرارات وادي الصمام، وهذه المعارضة من جانب بن بيللا وجماعته هي الهزات التي أشار لها عبد الناصر، إن السيد فتحي الديب بين لنا أن بن بيللا بدأ يشرح انتقاده لقرارات مؤتمر وادي الصمام ويفسر ألمه منها فيقول: إن (عبان رمضان) هو وأنصاره في هذا المؤتمر قرروا أشياء يخشى نتائجها، ذكر منها "في البند 4 ص 247"

ونصه كما كتبه السيد السفير هو ما يلي:

طرح "عبان رمضان" أفكارًا وآراء حول مستقبل الجزائر بعد الاستقلال تجاهل فيها عروبة الجزائر وارتباطها بالدين الإسلامي، الأمر الذي يشكل (في نظر بن بيللا) انحرافًا بالثورة عن المبادئ التي أعلنتها في أول نوفمبر 1954م.

لكن الهزات التي ظهرت بعد وادي الصمام والتي أشار لها عبد الناصر هي انعقاد المؤتمر الذي حضره مؤيدو بن بيللا والذي استنكر ما فرضه تيار عبان رمضان الذي تجاهل عروبة الجزائر وارتباطها بالإسلام، وأعلن فيه القادة الآخرون (المؤيدون لبن بيللا) تبرؤهم من قرارات مؤتمر وادي الصمام وأعلنوا أن الجزائر ستكون دولة عربية إسلامية.

والحل الذي أسعد عبد الناصر وهنأهم عليه هو الاكتفاء بعروبة الجزائر دون ربطها بالإسلام وهذه التهنئة الناصرية سجلها السيد الديب. وبعد ذلك بصفحة واحدة (في نهاية ص 359 من كتابه) تحت عنوان: (التطور السريع للظروف المحيطة بالقضية الجزائرية)، يذكر السيد الديب في البند الخامس (ص360) تزايد عدد الفرنسيين المتحررين (يقصد اليساريين والاشتراكيين) المنادين بضرورة إيجاد حل سريع للحرب في الجزائر.

والحل الذي يهدف إليه هؤلاء اليساريون (المتحررون) كما أشرنا إليه سابقًا هو تحرير شعب الجزائر من الإسلام بحجة السير في طريق الاشتراكية، أي أنه يفسح المجال للاستعمار الجديد، ومما يؤسف له أن الحكومة الناصرية تباركه لأنه يساعدها في حملتها ضد الإخوان والتيار الإسلامي التي بدأتها منذ عام 1954م

إن فصل العروبة عن الإسلام في نظرهم يمكنهم من اتخاذها وسيلة لمحاربة الإخوان والإسلاميين بصفة عامة، واتجاههم إلى التحول الاشتراكي باعتباره مجاراة الموضة العصرية التي تفتح لهم بابًا آخر للعداء للإسلام ومقاومة كل اتجاه للأصول الإسلامية العقيدية والتاريخية التي يدعو لها الإخوان المسلمون ومن على شاكلتهم.

ولم يكن هذا الهدف الاستراتيجي خاصًا باليساريين الأوروبيين وكتلهم السوفيتية وحلفائهم من دعاة القومية العربية المفرغة من الأصول الإسلامية والمعادية لها، بل إن أمريكا وأنصارها (وخاصة الصهيونية) كانوا يسعون لذلك قبلها ويشجعونه لإدماج شعوب المنطقة في منطقة نفوذهم

وقد أكد لنا إصرارهم على ذلك مندوب المخابرات الناصرية في (ص304) بقوله:

"بعد سفر بورقيبه والحسن إلى أمريكا، تم التفاهم الأمريكي على الخطة التي تقوم على أساس تكوين حلف شمال أفريقيا لتنضم إليه دول البحر الأبيض المتوسط باعتبارها امتدادًا لحلف الأطلنطي، بدلاً من ربطها بالعالم الإسلامي".

هذه الاستراتيجية هي التي تنفذ الآن علنًا بعد أن كانت تطبخ وتعد سرًّا في ذلك الوقت في دهاليز المخابرات وأروقتها المظلمة. ويشير السيد الديب إلى مذكرة أخرى كتبها لرئيسه تتضمن أن بورقيبه التقى مع سفير مصر في تونس وأبلغه مقترحات "أمريكية – فرنسية" جديدة... والبند (3) من هذه المقترحات هو (إطلاق سراح الزعماء الجزائريين المعتقلين في باريس)، وإذا كانت المخابرات المصرية تعتبر أن بورقيبه يتحدث باسم المخابرات الفرنسية فإن هذا معناه أن المخابرات الفرنسية أصبحت واثقة من اتجاه الزعماء المخطوفين أو على الأقل بن بيللا شخصيًّا

وأنهم أصبحوا أقرب للتعاون مع كل من يعمل لإحلال الاشتراكية محل الإسلام في الجزائر، وهم الذين يتوسطون بين السلطات الفرنسية والناصرية لتحقيق هذا الهدف وتأييدًا لذلك التحول يمكن أن نلاحظ فرقًا بين التوقيع على الخطاب المرسل من بن بيللا بخطه في (17/12/1954م) (ص/673 من كتاب السيد فتحي الديب) حيث ختمه (بأخلص العواطف الوطنية العربية الإسلامية)، في حين أن الخطاب المؤرخ (20/12/1959م) المحرر باللغة العربية الذي وقع عليه محمد خيضر وبن بيللا وحسين آية أحمد قد ختم بعبارة (إخوانك في العروبة) دون إشارة للإسلام.

هذه الخطوة الجديدة كانت في نظرنا تأكيدًا للتقارب بين أهداف المخابرات الفرنسية والمخابرات الناصرية، وكان لهذا التقارب نتيجتان:

الأولى: هي اختيار عباس فرحات ليكون رئيسًا لأول حكومة جزائرية مؤقتة وهو المعروف بتأييده للاتحاد الفرنسي، وعدائه للاتجاه الإسلامي...
الثانية: هي توقيع اتفاق (اقتصادي) بين فرنسا وحكومة عبد الناصر.

يشير السيد فتحي الديب في (ص 389) إلى أنه في يوم (19/9/1958م) شكلت أول حكومة جزائرية مؤقتة برئاسة عباس فرحات على أن يكون أحمد بن بيللا نائبًا للرئيس وكذلك كريم بلقاسم، وفي نظرنا أن اختيار رئيس حزب البيان الذي كان برنامجه يقوم على إدماج الجزائر في الاتحاد الفرنسي ليكون أول رئيس للحكومة الجزائرية المؤقتة

واختيار بن بيللا نائبًا له، وهو معتقل في فرنسا، والوصول إلى ذلك في اجتماع مجلس قيادة الثورة الجزائرية في القاهرة، كان المقصود منه أن تكون هذه الحكومة مقبولة من فرنسا ومتعاونة معها، وأن يكون بن بيللا الذي تعتقله المخابرات الفرنسية كرهينة في باريس هو ممثلها للتفاوض مع المسئولين الفرنسيين بموافقة الحكومة الناصرية وتشجيعها.

أما اختيار كريم بلقاسم ليكون نائبًا للرئيس عباس فرحات هو وأحمد بن بيللا، فيمكن أن يفسر على أنه قُصد به مكافأته على دوره في مؤامرة اغتيال عبان رمضان

وهذه عبارة السيد فتحي الديب تشهد بذلك:

(لم تمض أيام قليلة على انتهاء المؤتمر حتى وصلنا خبر مقتل عبان رمضان، وهو في طريقه إلى تونس، وعرفنا من بعض الإخوة الأمناء في تعاملهم معنا أن كريم بلقاسم كان وراء اغتيال عبان رمضان للتخلص منه).

وظاهر مما ذكره السيد فتحي الديب فيما بعد أن كريم بلقاسم كان يحظى في ذلك الوقت بثقة وتشجيع بن بيللا والمخابرات المصرية، وأن عبان رمضان صاحب مؤتمر وادي الصمام الذي ينكر العروبة والإسلام قد انتهى دوره بالوصول إلى الحل الموفق السعيد الذي أيدته المخابرات الناصرية، وهو تفريغ العروبة من الإسلام وفصلها عنه تمهيدًا لانحياز القوميين العرب للاشتراكية واتخاذها بديللاً عن الإسلام، الأمر الذي تؤيده عناصر كثيرة من اليساريين والاستعماريين في فرنسا والكتلة السوفيتية، بل والصهيونية وأمريكا.

الوطنيون المغاربة 1958م

كان صديقي الدكتور "محمود أبو السعود" قد ذهب إلى المغرب عام 1955م، بعد خروجه من المعتقل وكان يواصل الكتابة إلي، ويشكو من أن "المغرب" لا يعرف الزمن أي أن كل شيء فيه بطيء، وكنت أفسر ذلك بأنه بلد شاسع كبير، مترامي الأطراف متنوع الأجواء والتضاريس وأنه بلد عريق يقيس تاريخه وحركته بالقرون لا بالسنين ويؤيدون ذلك بأن الاستعمار لم يستطع أن يقتحمه إلا في عام 1912م

بعد أن مضى على احتلاله للجزائر المجاورة له ما يقرب من مائة عام وبعد أن مضى ثلاثون عامًا على احتلال فرنسا لتونس "في عام 1882م"، واحتلال بريطانيا لمصر "في عام 1882م" ورغم أن "الاتفاق الودي" المشهور بين بريطانيا وفرنسا وقع في سنة 1904م، وقد تم فيه تقسيم مناطق النفوذ بينهما واتفقتا على أن يكون لبريطانيا نفوذها في مصر مقابل نفوذ فرنسا في "المغرب"

وكانت "بريطانيا" قد احتلت "مصر" قبل توقيعه فعلاً في عام 1882م، ومع ذلك فإن فرنسا لم تهاجم المغرب إلا بعد ثماني سنوات من توقيعه، ثم إنها لم تتمكن من احتلاله بصفة فعلية إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبعد أن تم لها القضاء على ثورة عبد الكريم الخطابي في سنة "1925م" ...

لهذه الأسباب كلها فإن الحركة الوطنية المغربية تعتبر حديثة جدًا بالنسبة للحركات الوطنية في مصر وتونس وكلا القطرين وضع تحت الحماية قبل المغرب بثلاثين عامًا، وقد بدأت الحركة الوطنية المغربية بعد صدور الظهير البربري المشئوم في عام 1930م، وسنرى أن تطوراتها سارت ببطء كبير إذا قارناها بسير الحركات الوطنية في البلاد الأخرى مثل مصر أو تونس أو غيرها.

كان تأخر الهجوم الاستعماري على المغرب سببًا في تأخر المغرب في ميدان الكفاح الوطني وتبعه تأخره في مجال الحركات الإسلامية العصرية؛ لأن هذه الحركات في نظرنا هي مرحلة تعميق للتيار الشعبي المعادي للسيطرة الأجنبية، لكن مما لا شك فيه أن المغرب كان أول بلد يلجأ للكفاح المسلح بزعامة الأمير عبد الكريم الخطابي عقب الحرب العالمية الأولى مباشرة، حتى إن بعض من فكروا في إعادة الخلافة رشحوا لها الأمير الثائر ولكن هذا الاتجاه قد انهار بسبب هزيمته واعتقاله هو وأنصاره.

بعد ذلك كانت جامعة القرويين الإسلامية في (فاس) هي المنبع الذي انبعثت منه الدعوة لإنشاء حزب الاستقلال الذي نجح في مساعيه لإعادة ملك المغرب المعزول محمد الخامس إلى عرشه، وإعلان استقلال المغرب. ولما كان كل شيء في المغرب يسير ببطء شديد، فإن المغرب ما زال يهضم مكاسبه الوطنية، ويسعى حثيثًا لاجتياز نطاق العزلة التي سار عليها خلال عصور طويلة عندما كان يقاوم السيطرة العثمانية التي امتدت إلى جميع أقطار إفريقيا الشمالية المجاورة له في ليبيا وتونس والجزائر ولكنها وقفت عند حدود المغرب...

مرت سنوات عديدة قل أن تظهر في المغرب حركة إسلامية شاملة عصرية، وفي نظرنا أن سير الاتجاه الإسلام في المغرب لن يكون مرتبطًا بتطورات التيار الإسلامي في الجزائر وتونس وليبيا ومصر، كما يدعي الذين يقاومون هذا التيار في تلك البلاد ويضطهدون دعاته ويزعمون من حين لآخر أنهم يعلمون لمصلحة المغرب ونيابة عنه لمنع وصول التيار الإسلامي إليه

ويستدرجون فرنسا لكي تعلل مقاومتها للجبهة الإسلامية في الجزائر بأنها تحمي بذلك المغرب المجاور، وذلك بقصد إغراء السلطات المغربية لتشاركهم في مؤامرتهم ضد الإسلام في شمال إفريقيا وفي إفريقيا كلها، لكن هؤلاء لا يعرفون حقيقة الشخصية المغربية الانعزالية الاستقلالية، واعتقادي أن الاتجاه والفكر الإسلامي في المغرب أعمق من ذلك بكثير، وأن من يروجون ذلك لا يعرفون شيئًا عن شخصية الشعب المغربي.

عندما وصلت المغرب كان قد مضى على إعلان استقلاله عامان فقط، وكانت السلطة الوطنية متمثلة في الملك وحكومته، ومع ذلك لاحظ كثيرون أن الأجهزة الإدارية التي أنشأها الفرنسيون في عهد الاحتلال ما زال يسيطر عليها الموظفون الذين عينهم الفرنسيون سواء كانوا من الفرنسيين أو من المغاربة الذي تم تكوينهم في ظلها

وعلى المنهج الذي رسمته الحماية الفرنسية، هؤلاء كانوا هم الذين يمارسون السلطة الفعلية سواء في الاقتصاد أو الإدارة وكان أغلبهم من التراجمة الذين كانوا يعاونون الموظفين الفرنسيين في عهد الحماية، أدى ذلك إلى أن الوزراء الوطنيين بعد الاستقلال لم يكن يتجاوز نفوذهم ديوان الوزارة والعلاقات الخارجية في حدود معينة، في كثير من الأحيان.

ذهبت إلى المغرب في أواخر صيف 1959م، عن طريق مدريد، وهناك التقيت بصديقي الدكتور حافظ إبراهيم الذي عرفته في زيارتي الأولى لمدريد منذ عشر سنوات وزرت الأندلس بصحبته في عام 1949م، وفي هذه المرة أصر على أن يذهب معي إلى المغرب كما أصر من قبل على الذهاب معي إلى الأندلس، وكلانا كان له أصدقاء كثيرون بالمغرب وكانت هذه بالنسبة له ولي هي أول زيارة للمغرب، وكان أول من لقيناه هو صديقنا المشترك الدكتور عبد الكريم الخطيب الذي سبق أن رافقني في رحلتي في فرنسا عام 1954م.

لقد كان وصولنا الرباط في اليوم السابق على المولد النبوي وكان الاحتفال بالمولد في صباح اليوم التالي، وكانت الدولة والملك يحتفلون سنويًّا بهذا العيد في إحدى العواصم المغربية، وكان الاحتفال في ذلك العام في مدينة "مولاي إدريس" قرب مكناس ودعانا أحد أصدقائنا لحضور هذا الحفل، وكان حضورنا هذا الحفل فرصة لألتقي بجميع من عرفتهم في باريس تقريبًا مرة واحدة؛

لأن أغلبهم كانوا من المسئولين في الدولة ومن بينهم السيد عبد الكريم بن جلون وزير "التهذيب الوطني" (التعليم) الذي تعرفت عليه أثناء رئاسته لوفد حزب الاستقلال في باريس عام 1946م، والذي كان قبل ذلك وزيرًا للعدل وهو الذي أرسل خطابًا رسميًّا للسفارة المغربية في القاهرة يطلب استقدامي للمغرب لمعاونته في مشروعات الإصلاح التشريعي بالمغرب، بعد الاستقلال.

كان هذا اللقاء مناسبة طيبة لاستعادة ذكرياتي معه ومع كثيرين من أصدقائي الذين تعرفت بهم أثناء إقامتي في فرنسا وباريس، وقد انتهز السيد عبد الكريم بن جلون حضور الملك، وقدمني إليه فاحتفى بي احتفاءً كبيرًا، وأمر بأن أقدم إليه في موعد قريب وفعلاً ذهبت إليه بعد ذلك، وقد دار الحديث حول عملي بالمملكة، فاقترح السيد عبد الكريم بن جلون أن أعين مستشارًا بالمحكمة العليا (قاضيًا)، وكان فيها محل شاغر

رغم أنني أبديت له رغبتي في أن أكون أستاذًا بكلية الحقوق بجامعة الرباط، وأنني أفضل أن أعين في الجامعة ولكنه فضل أن أكون مستشارًا بالمجلس الأعلى لأشارك في العمل الذي استدعيت من أجله، وهو إعداد مشروعات المدونات التشريعية، وفي مقدمتها مدونة "المسيطرة الجنائية" وقانون العقوبات، وأن ذلك لا يمنع من إلقاء دروس في الكلية كعمل إضافي، وتم ذلك فعلاً.

بعد استقبال الملك محمد الخامس لي في الديوان أصدر مرسومًا ملكيًا (ظهيرًا) بتعييني في هذا المجلس، وبدأت عملي فيه، وفي حفل افتتاح دورة المجلس السنوية التي كان يفتتحها جلالة الملك وولي العهد، حضرت هذا الافتتاح وتعرفت بجميع المستشارين في هذه المحكمة، وعملت فيها أربع سنوات. إن التعاقد معي تم بسرعة؛ لأنني عينت بمرسوم ملكي، وكان الملك وديوانه يتابع إجراءات تعاقدي مع وزارة العدل، وتسلمت عملي في المجلس الأعلى في بداية السنة القضائية وعملت بالدائرة الجنائية بها نائبًا لرئيسها الفرنسي، وطبعًا لاقيت فيها بعض الصعوبات لأن أغلب المستشارين في المجلس كانوا جميعًا فرنسيين ومنهم عدد قليل جدًا من المغاربة

وكان من بينهم واحد يهودي اسمه "ماكسيم إزولاي" في هذه الدائرة الجنائية وطبعًا لم يكن الفرنسيون مستريحين لدخولي في وسطهم؛ لأنهم كانوا يخشون أن يكون بداية سياسة جديدة لحلول المصريين مكان الفرنسيين، وزاد في هذا الخوف أن بعض المسئولين في وزارة العدل كان قد أشاع عن وجود علاقات خاصة لي ببعض الجهات العليا بالقصر الملكي، وأن رئيس المجلس بتويجه من وزير العدل قد أمر بأن أعين في الدائرة الجنائية نائبًا لرئيسها الفرنسي.

كانت هذه الدائرة مكلفة بإعداد مسودة قانون جديد للإجراءات الجنائية، ثم إن رئيس المجلس قد أمر رئيس الدائرة الفرنسي بأن يسلم إلي هذه المسودة التي أعدوها لمشروع القانون لمراجعتها، وراجعتها وأبديت عدة ملاحظات كثيرة فأمر أن يجتمع معي جميع أعضاء الدائرة لمناقشتها، ومن سوء حظهم أنها كانت كلها ملاحظات في موضعها وكان هذا ثقيلاً عليهم أن يأتي واحد جديد من الخارج ثم يكلف بمراجعة الأعمال التي قاموا بها

وتكون لمراجعته هذه الأهمية، واستغرق ذلك عدة جلسات وأذكر أنه في إحدى الجلسات وكنت أقدم لهم بعض ملاحظات فيما تمت مراجعته من قبل، وقلت إنني ما زلت أعيد قراءة المشروع مرات ومرات، وكلما قرأته تكشفت لي أشياء لم ألاحظها في القراءات السابقة، فقال لي رئيس الدائرة أرجوك أريد أن نتفق على ألا تعيد قراءة ما فات بعد الآن لأننا نريد أن ننتهي!!!

شعرت أن اللغط يدور من حولي، ولاحظت أن البعض كان يحاول الكيد لي لكن في السنة الأولى لم يظهر أثر لهذه المؤامرة؛ لأن رئيس المجلس كان رجلاً طيبًا وهو المرحوم أحمد باحنين، لكن جاء رئيس آخر وهو السيد أحمد حمياني، وقد لاحظت أن له علاقات ودية مع (أزولاي) ومع الجنرال (أوفقير) وبدأت مناوشات كثيرة، ومع ذلك لم أعط هذه المناوشات أهمية كبيرة؛

لأنني لم أكن أنوي مطلقًا أن أستقر بالمغرب وأذكر أنه يوم قدمت إلى الملك تحدث معي الحاج أحمد بناني، الذي كان مدير الديوان الملكي في ذلك الوقت، وعندما ذكرت له الصعوبات التي أواجهها في التعاقد مع وزارة العدل قال لي لماذا تُصعب لنا هذه المسألة؟ وأنا مستعد أن أقترح على الملك أن يعطيك الجنسية المغربية فاعتذرت وقلت له إنني مصري وأريد أن أبقى كذلك لأعود إلى بلادي في أقرب فرصة، وقد عاد إلى هذا العرض مرة ثانية عندما رفضت السفارة المصرية تجديد جوازي وفي هذا الوقت كذلك كررت اعتذاري وإصراري على الاحتفاظ بالجنسية المصرية وفي المرتين كنت أعتقد أن اقتراحه هذا لم يكن من عنده فقط!

السبب الأساسي لعدم موافقتي على اقتراح السيد أحمد بناني، أنني كنت أعتبر هدفي هو الجزائر، وكنت أعتبر المغرب محطة في الطريق إليها، وكنت أتابع تطورات الثورة الجزائرية، وأخبار الزعماء الجزائريين المعتقلين في فرنسا وكنت عازمًا على أن أستقر في الجزائر بعد استقلالها إذا أمكن ذلك.

الإسلام والاشتراكية في المغرب الأقصى "1959م"

عقب وصولي للمغرب كنت ألتقي بانتظام بالسيد "عبد الله إبراهيم" رئيس الوزراء الذي سعى لدى الحكومة المصرية السماح لي بالخروج من مصر، وتصادف أن كان يسكن قريبًا من المنزل الذي سكنته وكنت أتردد عليه وألتقي عنده بزملائه الذين انشقوا على حزب الاستقلال وخاصة السيد "عبد الرحيم بو عبيد" وزير المالية في ذلك الوقت الذي كان له الفضل في حصولي على سكن حكومي

وكذلك الفقيه المصري، الذي كان يقيم في الدار البيضاء وزرته هناك في منزله الذي كان مركز الحركة الدائبة لاتحاد القوى الشعبية الذي أنشأته هذه المجموعة بعد انفصالها عن حزب الاستقلال، وكان يتردد من حين لآخر على رئيس الوزراء "عبد الله إبراهيم" في منزله بالرباط هو وزميله "عبد الرحمن اليوسفي" الذي كان له منزل في طنجة، ولكنه كان متفرغًا للنشاط الحزبي مع "بن بركة" وقد أصبح اليوم رئيس حزب الاتحاد الاشتراكي بعد وفاة السيد "عبد الرحيم بو عبيد" ...

في نفس الوقت كانت صداقتي مع السيد "علال الفاسي" وعدد من قادة حزب الاستقلال تنمو؛ بسبب عمق الاتجاه الإسلامي لديهم، وحاولت أن أقوم بالوساطة بين جماعة "بن بركة" وجماعة السيد "علال الفاسي"، ولكن الخلاف كان يزداد اتساعًا كل يوم ويزداد كل من الطرفين تشددًا، ولاحظت أنه كان هناك جهات داخلية وخارجية تدفع الطرفين إلى مزيد من التباعد والتخاصم والشقاق

وكانت جماعة علال يشعرون بمرارة لأن بن بركة وإخوانه تعاونوا مع بعض العناصر في القصر والجيش وجهات أخرى خارجية مثل السلطات العسكرية في مصر، بل وبعض الأوساط الفرنسية "التقدمية" الذين كانوا يحرضونهم للخروج عن حزب الاستقلال، وبذلك حطموا وحدة الحزب ومكنوا خصومه من إبعاده عن السلطة واكتفوا هم بأن حصلوا لأنفسهم مقابل ذلك على رئاسة وزارة ليس لها نفوذ حقيقي، واحتلوا بعض المناصب الأخرى الهامشية مثل بن بركة الذي كان رئيس المجلس الوطني (البرلمان)...

وكان "بن بركة" وجماعته من الشباب ذوي الثقافة الفرنسية يعتبرون أن شيوخ حزب الاستقلال محافظون وبورجوازيون يجب أن يفسحوا لهم المجال للسير بالمغرب في طريق الاشتراكية العصرية، وكانت الحكومة المصرية من بين الجهات التي شجعتهم على ذلك وكان عندهم أمل كبير في أن تنحاز لهم جماهير الحزب بعد أن تولوا السلطة وحصلوا على رئاسة الوزارة

لكن كل يوم يمر كان يدل على أن هذا الأمل لم يتحقق، وبقي الجزء الأكبر من الحزب على ولائه "لعلال الفاسي" وجماعته، وبمجرد وصولي سمعت من بعض أصدقاء "عبد الله إبراهيم" أنه يواجه مشاكل في علاقته بالقصر الملكي، ولم تمض عدة شهور على وصولي للمغرب إلا وقد أقيلت وزارة عبد الله إبراهيم ولمي رجعوا للسلطة مطلقًا منذ ذلك التاريخ للآن...

كان وزير التعليم في هذه الوزارة هو السيد عبد الكريم بن جلون، الذي كان محل ثقة الملك "محمد الخامس" ، ورغم انتمائه لحزب الاستقلال إلا أن ولاءه للملك كان يطغى على ولائه لحزب الاستقلال، وزاد ذلك عندما وقع الانشقاق في الحزب، فأصبح شخصية مستقلة، ودخل وزارة "عبد الله إبراهيم" على هذا الأساس، مثل أغلب أعضاء الوزارة الذين لم يكن لهم سابق عضوية بحزب الاستقلال، مما يدل على أن انشقاق بن بركة وأصحابه قد أضعف الحزب كله، كما أنه قد أحدث تمزقًا عميقًا في صفوفه.

وقد كان عبد الكريم بن جلون وزير العدل قبل وصولي للمغرب، وعهد إليه الملك برئاسة لجنة لإعداد بعض القوانين وأولها تقنين أحكام الأحوال الشخصية وفقًا لمذهب الإمام مالك، وقد تم ذلك وصدرت المجموعة فعلاً تحت اسم "مدونة الأحوال الشخصية" التي كانت عملاً علميًّا رائعًا لتقنين أحكام الشريعة وفقًا لهذا المذهب كما أنه كون اللجان لإعداد بعض المجموعات القانونية الأخرى من بينها مشروع قانون العقوبات وكذلك قانون الإجراءات الجنائية، وهو الذي أشرت إليه فيما سبق وشاركت في مراجعته وصدر بعد وصولي "وبعد خروجه من وزارة العدل" تحت اسم (قانون المسطرة الجنائية).

وأذكر أنني في أحد الأيام كنت أتناول طعام الغداء على مائدة صديقي السيد عبد الكريم بن جلون وزير التعليم (التهذيب) الوطني في منزله، وكان على المائدة عدد كبير من أصدقائه منهم السيد "محمد الغزاوي" الذي كان أحد قادة حزب الاستقلال وأصبح مثله مستقلاً ولاؤه لشخص الملك محمد الخامس وكان محل ثقته، وكان يحتل مركز رئيس الشرطة بوزارة الداخلية في ذلك الوقت، ودار الحديث حول نبأ الإقالة المفاجئة لرئيس الوزراء عبد الله إبراهيم، وكان يقص على الحاضرين الكيفية التي نفذ بها الأمر بإخراج رئيس المجموعة وهو السيد (المهدي بن بركة) من المنزل الحكومي الذي كان يقيم فيه بصفته رئيس المجلس الوطني (البرلمان) في ذلك الوقت

دون أن يسمح له بأي تأخير في مغادرته للمسكن كما كان يطلب ولاحظت أن الحاضرين كانوا يبدون الشماتة في حديثهم عن بن بركة وعبد الله إبراهيم وجماعته ويعتقدون أن الله قد أخزاهم لما تسببوا فيه من تمزق في صفوف الحركة الوطنية لمجرد أن وجدوا فرصة للحصول على مناصب الوزارة وسلطة الحكم الذي كانوا يظنون أنهم سيبقون فيه طويلاً...

وقد أعلن الملك إلغاء منصب رئيس الوزراء وأنه سيتولى بنفسه رئاسة مجلس الوزراء الجديد، ولم يكن هذا أمرًا جديدًا في الواقع؛ لأن الملك كان هو الذي تتركز في يده جميع السلطات منذ عاد من منفاه وأعلن استقلال المغرب وأعطى لنفسه لقب الملك بعد أن كان لقبه الرسمي "السلطان" في أغسطس 1957م.

ولم يكن هناك كثيرون يعارضون سلطة الملك في ذلك الوقت؛ لأنه كان في نظرهم محرر البلاد، وباعث الحركة الوطنية والرئيس الفعلي لها، وكان فوق ذلك رجلاً طيب القلب وعميق الإيمان ومحبًا لشعبه وبلاده، وكان يحظى لذلك بشعبية كبيرة لا يطمع أحد في المغرب في أن يعارضها أو ينافسه فيها، لكن بعض رجال حاشيته لم يكونوا مثله وكان كثير من الناس يشكون من استغلالهم لنفوذهم وصراعهم على السلطة.

وأذكر أنني في إحدى مقابلاتي مع السيد عبد الله إبراهيم قبل إقالته بمدة قصيرة كنت أحدثه عن الأحوال في مصر، وعاتبته على تحالفه مع الحكم الناصري الذي يفرض دكتاتوريته على شعب مصر، ويمارس أشد أنواع القمع والإرهاب، وعرضت عليه آثار التعذيب التي ما زالت على جسمي وقلت له إذا كانت الاشتراكية هي التي تجمع بينكم وبين النظام الناصري

فإن هذه الاشتراكية هي التي يتخذونها مبررًا لهذا الاستبداد والإرهاب وأخشى أن يسير المغرب في هذا الاتجاه، وأن تكون اشتراكيتكم بداية لأن تسيروا أنتم أو غيركم في طريق الدكتاتورية الناصرية، أو أي دكتاتورية أخرى وأن يمارس الحكام في المغرب مثل هذه الأساليب لقهر الشعب، سواء كان ذلك على يدكم أو يد غيركم

فقال لي:

"يا توفيق أنت لا تعرف المغرب إن الشعب المغربي لا يمكن أن يقبل بوجود نظام استبدادي أو دكتاتوري، ولا أن يستسلم لهذا النوع من الحكم كما هو الحال في مصر، ألم تقرأ في الصحف خبر "السوبر قايد" وهو يقابل مأمور المركز عندنا الذي اعترض على قرار وزير الداخلية بنقله واعتصم بالجبال مع رجاله المسلحين، وقاوم الحكومة، إن شيئًا من هذا لا يمكن أن يحصل في "مصر" ، إن المغرب ليس مثل فاطمئن من هذه الناحية...!!"...

وبعد شهرين فقط من هذا اللقاء خرج من الوزارة، ولم يعد هو ولا حزبه الاشتراكي إلى السلطة حتى اليوم، بل انشقت المجوعة هي أيضًا على نفسها، واعتزلها "عبد الله إبراهيم"، وترك الأمور "للمهدي بن بركة"، و"عبد الرحيم بو عبيد"، وخرج "المهدي بن بركة" عام 1962م من المغرب خوفًا على حياته، لكنه اغتيل في عام 1965م في باريس، وبقي عبد الرحيم بو عبيد رئيسًا للاتحاد الاشتراكي حتى وفاته، وبعده أصبح الرئيس هو صديقنا الأستاذ "عبد الرحمن اليوسفي" المحامي...

إنني أثناء إقامتي بالمغرب التزمت بمبدأ واضح هو أن أتفرغ لعملي في القضاء والتدريس في كلية الحقوق، وألا أتدخل بأي وجه من الوجوه في الشئون الداخلية للمغرب ولهذا السبب رفضت الحصول على الجنسية المغربية، واكتفتيت بالحصول على جواز سفر مغربي عندما رفضت الحكومة المصرية وسفارتها بالرباط تجديد جواز سفري المصري.

هذا المبدأ هو الذي مكنني من الاحتفاظ بصداقتي مع جميع المغاربة الذين تعرفت بهم أثناء إقامتي في باريس... وكان انتقالي في عام 1965م من المغرب إلى المشرق مجرد تغيير في الموقع دون تغيير في الخطة أو الهدف. لقد كان محور حديثي مع إخواني الذين رفعوا شعارات اشتراكية في المغرب أو الجزائر أو المشرق هو أنني لا يمكن أن أوافق على جعل الوطنية أو القومية أو الاشتراكية بديلاً عن الأهداف الإسلامية، وأنها في نظرنا كإخوان مسلمين يمكن أن تكون مراحل أو فروعًا في إطار العمل الإسلامي العام، لكن لا يجوز اتخاذها مبررًا للتنكر له أو تجاهله أو مقاومته.

وكنت أجد من كثيرين من إخواني الاشتراكيين في المغرب والجزائر اقتناعًا بذلك نظريًا، لكنهم عملاً كانوا يستغرقون في الدعايات الاشتراكية، وتجتذبهم العلاقات مع الاشتراكيين في البلاد الأخرى، حتى إن بعضهم كان يظن أن ما يسمونه "الوحدة الاشتراكية" لها الأولوية على الوحدة الإسلامية التي ندعو لها؛

لأن المجموعة الاشتراكية لها كتلة سياسية دولية تقدمية قوية تستطيع أن تفيدنا كثيرًا في مقاومة الاستعمار الغربي وأذكر أن المهدي بن بركة عندما التقيت به آخر مرة قبل اغتياله بأيام معدودات في جنيف ذكر لي أنه سيسافر إلى كوبا للإعداد لمؤتمر للقارات الثلاثة في العالم الثالث وهي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لبناء وحدة للدول المؤيدة للاشتراكية في هذه القارات، أما الوحدة الإسلامية فلم يكن لها وجود في قاموسهم. كان ردي عليهم دائمًا أن الاتحاد السوفياتي الذي يتزعم الكتلة الاشتراكية له أهداف توسعية، وتخطط روسيا من خلاله لاستعباد الشعوب الإسلامية والسيطرة عليها كلها وتنشر الإلحاد وتجند كل أعوانها لنشره للقضاء على هويتنا الإسلامية لكي تستسلم شعوبنا لنفوذها وتقبل التبعية لها.

كان من الصعب إقناع كثير من الاشتراكيين بذلك عندما كان الاتحاد السوفياتي دولة عظمى، أما الآن فإنني لم أعد محتاجًا لإقناعهم؛ لأن الواقع كان يقدم الدليل تلو الدليل على أن روسيا الإتحادية التي حلت محل الاتحاد السوفياتي ما زال دورها في أفغانستان وفي الشيشان وأذربيجان، وفي آسيا الوسطى، وفي البوسنة والهرسك وفي البلقان خير شاهد على مطامعها التوسعية التي كانت تسترها بالدعايات الاشتراكية أو الماركسية فيما سبق.

ظاهرة الانفصال الثقافي

إن الجهاد المسلح ضد الغزو الأجنبي في أقطار أفريقيا الشمالية كانت قياداته إسلامية، وكان منبعها هو الإسلام دون أي اعتبار آخر، وهذا مؤكد فيما يتعلق بمقاومة الأمير "عبد الكريم الخطابي" في "المغرب" والأمير "عبد القادر الجزائري" والثورات المتوالية بعده في "الجزائر"، وثورة "عمر المختار" في ليبيا و"السنوسيين" أيضًا، وثورة "المهدي" في السودان...

حتى بعد انهيار المقاومة المسلحة ضد الغزو، فإن المفكرين وقادة الرأي والفكر الإسلاميين هم الذين بدءوا حركات الكفاح الوطني السياسي بالمعنى الحديث في هذه الأقطار جميعها، وظهرت بوادر ذلك في إنشاء (جمعية علماء المسلمين) في الجزائر و(حزب الاستقلال) في المغرب بزعامة علال الفاسي عالم القرويين

و(حزب الدستور التونسي القديم) الذي أنشأه الشيخ الثعالبي، في هذه البدايات يظهر أن الزعامات كانت إسلامية وأن الفكر نفسه كان فكرًا إسلاميًّا تغذيه روافد من كتابات عمالقة الفكر والرأي من أمثال (الأمير شكيب أرسلان) الذي كان له تأثير كبير في إنشاء الحركة الوطنية المغربية متمثلة في حزب الاستقلال الذي أنشأه علماء القرويين لمقاومة الظهير البربري الذي يعطل تطبيق الشريعة في أقاليم البربر

بل وفي إنشاء "مصالي حاج" زعيم الحركة الوطنية الجزائرية لجمعية نجم الشمال الأفريقي بتشجيع من الأمير شكيب أرسلان وتحريضه، وقد كان (علماء الزيتونة) في تونس هم الذين أنشئوا الحزب الدستوري التونسي القديم، وبالنسبة لليبيا نجد أنها بدأت جهادها ضد الغزو الإيطالي قبل الحرب بواسطة الجيش العثماني الذي كان يعمل باسم الخلافة الإسلامية، وكان يشاركه متطوعون إسلاميون من أمثال عبد الرحمن عزام والسنوسيين وهم كما هو معروف طريقة صوفية نشأت في الجزائر وانتشرت في ليبيا.

هذه المقاومة ذات المنابع الفكرية الإسلامية، هي التي بدأت الحركة الوطنية في بلاد أفريقيا الشمالية جميعها، لكنها تعرضت في مواقف مختلفة وتواريخ مختلفة لظاهرة لابد من الإشارة لها، وهي ظاهرة تمرد ذوي الثقافة "العصرية" على تلك القيادات وذلك بسبب انفصالهم عن تيار الفكر الإسلامي الذي يغذيها، وهذه الظاهرة كانت نتيجة نظم التعليم "العصري" في داخل بلادنا وخارجها الذي حرم الشباب من التربية الإسلامية وأبعدهم عن مصادرها الأصيلة.

هذا التمرد بدأ مبكرًا في تونس متمثلاً في انشقاق بورقيبه وزملائه على حزب الدستور القديم، وإنشائهم حزب الدستور الجديد الذي بقي يحمل هذا اسم سنوات طويلة وفي الجزائر نجد أن حزب الشعب الجزائري تمرد على جمعية العلماء وهاجمها هجومًا شديدًا في بدء إنشائه محتجًا بمواقف معتدل بعض العلماء؛

لأنه أنشأ في حقيقته حزبًا عماليًا وزعماؤه كانوا من النقابيين الذين نشئوا في نقابات العمال ذات الثقافة الفرنسية الاشتراكية، وأخيرًا فإن حزب الاستقلال المغربي أيضًا قاسى من هذا الانشقاق في وقت متأخر نسبيًا بسبب انفصال بعض ذوي الثقافة الحديثة من الشباب بقيادة بن بركة، وتمردهم على زعامة علال الفاسي وإخوانه من علماء القرويين بحجة أنهم يمثلون البورجوازية في فاس.

هذا الانشقاق الذي أخذ صورة التمرد على من بدءوا الكفاحع الوطني له أسباب خاصة بكل حركة وكل قطر على حدة ناتجة عن ظروفه الاجتماعية والسياسية وتداخل مراكز القوى في المجتمع، لكن هناك أسبابًا عامة مشتركة نتيجة للتحول الثقافي الذي بدأ بتقصير كثير من العلماء المسلمين فيما يجب عليهم لتجديد الفكر الإسلامي نفسه

وشيوع ظاهرة الجمود والتخلف في مؤسسات التعليم الإسلامي الذي جعلها مقصورة على العلوم التي يسمونها علوم الدين وهي العلوم التي تهتم بالفقه والتوحيد واللغة وما إلى ذلك من العلوم التي كانت تعنى بها الجامعات الإسلامية مثل الأزهر والقرويين والزيتونة، وعجزها عن مجاراة تقدم العلوم الأخرى بحجة أنها علوم مستحدثة عصرية أو أنها مستوردة من أوروبا

ولذلك لم تجد لها مكانًا في مناهجهم بل إن بعضهم كان يقاوم تلك العلوم في بعض الأحيان كما ظهر في مقاومة علماء الأزهر للحركة التجديدية التي قادها الشيخ محمد عبده في الأزهر حيث إن علماء الأزهر أعلنوا عدم رغبتهم في دراسة العلوم الحديثة كالجغرافيا والرياضيات وما إلى ذلك. هذا التراجع من جانب العلماء المسلمين أدى إلى تراجعهم في مراكز القيادة في المجتمع الذي كان يحتاج إلى زعامات تخاطب المجتمع بلغة عصره، وأن تخاطب الأعداء أيضًا، وهذا يحتاج إلى معرفة بلغتهم واطلاع على ثقافتهم والدخول عند اللزوم في حوار فكري أو ثقافي مع قادتهم وعلمائهم.

لقد احتكر هذا الحوار أجيال أنشأها التعليم العصري البعيد عن الثقافة الإسلامية الأصيلة، والذي فصلهم عن منابع الفكر الإسلامي وأصوله وهذا الانفصال هو الذي أدى بعد مدة طويلة إلى انحراف كثير من قادة الأحزاب الوطنية الذين حرموا من الثقافة الإسلامية عن الأهداف الأصيلة لشعوبنا واتجاه بعضهم إلى طريق التعاون مع القوى الأجنبية، وأعلن كثيرون منهم تنكرهم للمنابع والقيادات الإسلامية رغم أنها هي التي بدأت المقاومة للعدوان الاستعماري، كما بدأ اعتزاز كثير من القادة الوطنيين بالثقافة الأجنبية.

بدأ ذلك في تونس أول ما ظهر؛ لأن كثيرين من شبابها سبق شباب المغرب والجزائر إلى الاندماج في الثقافة الفرنسية وانقطعت صلته بالثقافة الإسلامية، وأوضح مثال على ذلك هو الحبيب بورقيبه وجماعته الذين رفعوا شعارًا سموه البورقيبية المعادية للإسلام وثقافته.

أما في الجزائر والمغرب فقد تأخر هذا الشقاق إلى أن جاءت موجة الاشتراكية وفتن بعضهم بالاشتراكية واتصلوا بالاحزاب الاشتراكية والشيوعية الماركسية التي كان الإلحاد ركنا ركينًا من أركان فلسفتها والتي جعلت مقاومة التيار الإسلامي أول هدف لها لأسباب استعمارية بحجة أن الدين هو أول عقبة في سبيل نشر المذاهب الاشتراكية الماركسية بين الجماهير وخاصة الشباب والطلاب.

إن اندماج شباب بعض الأحزاب الوطنية في الثقافة الأجنبية دون أن يكون لهم نصيب من الثقافة الإسلامية كانت له مزاياه في بداية الأمر، ولكنه انتهى بمخاطر جسيمة أدت إلى انقسام في الحركات الوطنية، وتعرضت قيادات العمل الوطني في أقطار أفريقيا الشمالية لهذه الظاهرة المعروفة وهي ظاهرة التمرد والانفصال عن الأحزاب والحركات الإسلامية.

وفي الجزائر نجد أن حزب الشعب منذ بدايته دخل في مشادة كبيرة مع جمعية العلماء الجزائريين بسبب اتهامه لهم بعدم التكلم عن الاستقلال أو بعدم رفع شعار الاستقلال الذي بدأ به الحزب متجاهلاً أن السبب في هذا أن جمعية العلماء كانت في حقيقتها حركة ثقافية لها مدارس ومؤسسات دينية وتعليمية

وكانت لا تريد أن تتحول إلى حركة سياسية لأن هذا يؤدي إلى تعرضها للإبادة لمجرد رفع شعار سياسي يخرجها من نطاق العمل الثقافي والاجتماعي وكانت النتيجة أن حزب الشعب الذي أنشأه "مصالي حاج" استمر في تنافسه مع جمعية العلماء في السيطرة على الجماهير، لكننا مع ذلك نجد أن جمعية العلماء دخلت ميدان الكفاح المسلح بمشاركتها في الثورة وفي جبهة التحرير في عام 1954م

في حين أن حزب الشعب الجزائري نفسه تخلف عنها في البداية لأسباب عديدة ليست كلها من جانبه مما أدى إلى أن جمعية العلماء المسلمين انضمت لجبهة التحرير منذ بداية الكفاح المسلح وشاركت فيها وكان لها دور كبير في تجنيد الجماهير في صفوف الجهاد ومعارك التحرير بمجرد أن تحول الكفاح السياسي إلى جهاد مسلح، أي عندما اتجهت الحركة الوطنية إلى المبدأ الإسلامي في الجهاد ضد العدوان الاستعماري...

أما في المغرب فقد بدأت زعامة الحركة الوطنية على يد علماء القرونيين في فاس وكانت قاعدتها بلا شك هي مدينة فاس التي توجد فيها الجامعة، وكانت الجامعة هي منبع القيادات لهذا الحزب، وكان زعيم الحزب علال الفاسي أحد علماء القرويين الذي قاسى وكافح ونفي من البلاد تسع سنوات في "الجابون" ثم اغترب بضع سنوات أخرى بعد ذلك في مصر وطنجة ولم يدخل بلاده إلا بعد إعلان الاستقلال

ثم تعرض الحزب كما ذكرنا لانشقاق أخطر وأكبر قام به المهدي بن بركة وزملاؤه بإيعاز من الحكم العسكري الاشتراكي في مصر وتشجيع من بعض رجال القصر الملكي وغيره من مراكز القوى داخل الجيش المغربي الذي كان أغلب ضباطه ورؤسائه من أبناء العنصر البربري ومن ذوي الثقافة الفرنسية.

إن جماعة "بن بركة" كانوا كلهم أصدقائي، وما زالوا كذلك حتى الآن، وأنا واثق في وطنيتهم وإسلامهم، وكان أقربهم إلي صديقي الأستاذ "عبد الرحمن اليوسفي" الذي رافقني في فترة إقامتي في باريس ضمن وفد الجامعة العربية لهيئة الأمم أثناء مناقشة شكوى مصر والدول العربية ضد فرنسا بسبب سياستها العدوانية في المغرب، وكان يلازمني ويتعاون معي في كل عملي في تلك الفترة، وما زال حتى الآن أقرب أصدقائي إلي ومن أكثرهم مشاركة لي في آرائي وأفكاري، ولذلك أعتز بصداقته، وأثق بكل ما يعمله لصالح شعبه ومستقبله.

إنني واثق بأن خروجهم عن حزب الاستقلال كان له أسباب يعرفونها هم، ولم أحاول أن أسأل عنها، وقد كان لي ثقة في زعامته، لكن كثيرين من المسئولين في الحزب في الداخل لم أكن على علاقة بهم، ولا أعرف شيئًا عما نسب إليهم أو ما وجه لهم من انتقادات وأنا شخصيًّا كنت أنتقد حرص بعضهم على بقاء "علال الفاسي" في الخارج بعد الاستقلال

وقد ذكر لي من أثق في قوله أن "الملك محمد الخامس" بمجرد عودته إلى عرشه أعد برقية لاستدعاء "علال الفاسي" لتولي رئاسة الوزارة، لكن الحاج "أحمد بلا فريح" هو الذي اعترض على ذلك بل قيل لي إنه هدد بالاستقالة من الحزب إذا كلف "علال الفاسي" برئاسة الوزارة، لأنه يعتقد أنه أولى بذلك وأجدر؛ لأنه عاش داخل "المغرب" ويعرف "الأوضاع الداخلية" التي لا يعرفها "علال الفاسي" ...

هناك احتمال كبير أن يكون "علال الفاسي" قد خدعه بعض "قادة الحزب" الذين كانوا في الداخل واستدرجوه لتصرفات منتقدة أو قاموا هم بما أغضب كثيرين وتحمل "علال" مسئوليتها بحجة أنه زعيم الحزب، كما أنني أرجح أن يكون أصدقائي الذين انفصلوا عنه قد خدعوا هم أيضًا من ناحيتين: ناحية المخابرات الناصرية وعملائها الذين كانوا يريدون استبعاد جميع الزعامات التقليدية، بل والقضاء على جميع الأحزاب الموجودة في الساحة قبلهم ليخلو لهم الجو للزعيم الأوحد...

وفضلاً عن ذلك فإن كثيرًا ممن كان لهم نفوذ في الجيش أو في القصر، أو الاستخبارات المغربية أو الفرنسية كان لهم هذا الهدف أيضًا، ليضمنوا لأنفسهم نصيبًا أكبر في السلطة... وبهذه الصورة تعاونت هاتان الجهتان وخدعا هؤلاء الشباب الوطنيين الصادقين وغرروا بهم، ونجحوا في تحقيق الهدف المشترك للطرفين، وهو شل الحزب الوطني أو تمزيقه أو إضعافه، كما أضعفوا من خرجوا عليه من أعضائه أو قادته، وأبعدوهم عن السلطة وما زالوا الأمر كذلك حتى اليوم...

أصدقائي في "المغرب الأقصى" (1960م)

لقد قاسى الوطنيون من أجل الحصول على الاستقلال، وكان "الحزب الوطني المغربي" "وما زال حتى الآن" يحمل اسم "الاستقلال" ونجحوا في عام 1956م في تحقيق أملهم في عودة الملك "محمد الخامس" إلى عرشه، وإعلان الاستقلال، وتم ذلك أثناء وجودي في السجن الحربي في مصر، وعندما خرجت من المعتقل كان أول من لقيته من المغاربة هو صديقي الدكتور عبد الكريم الخطيب الذي كان في طريق عودته من الحج وأذكر أنني عندما كنت أودعه عائدًا لبلاده قلت له: أرجوك ألا تنسى قضية الجزائر، فقال لي مبتسمًا: "يا توفيق إن عندنا مثلاً شعبيًّا يقول: لا توص اليتامى على النواح!"

يشير بذلك إلى أنه جزائري، وأبوه هاجر من الجزائر واستقر بالمغرب لكن بقية أقاربه وأسرته ما زالوا جزائريين، ومنهم الدكتور "يوسف الخطيب" الذي كان قائد الولاية الرابعة التي تسيطر على العاصمة الجزائرية، وكان الدكتور عبد الكريم الخطيب قد شارك في المقاومة المغربية حتى أصبح رئيس المجلس الأعلى للمقاومة، لكني فهمت منه أنه تخلى عن هذا الواقع؛ لأن حزب الاستقلال قرر أن يتم سيطرته عليه.

كان هذا أول مظهر من مظاهر الشقاق في الحركة الوطنية المغربية علمت به، ظهر لي فيما بعد أن سبب ذلك أن عملاء الناصرية كانوا بصدد التحريض على انشقاق آخر أكبر داخل حزب الاستقلال نفسه، والذي قاده هو المهدي بن بركة وجماعته ولا أعرف ما هي الجهة التي استدرجت "المهدي" وجماعته إلى التعاون مع الحكومة المصرية، بل أكثر من ذلك فإن الملك "محمد الخامس" شجع هذا الانشقاق

لدرجة أنه عين أحد زعماء هؤلاء المنشقين رئيسًا للحكومة بدلاً من الحاج "أحمد بلا فريج" ، وهو صديقي "عبد الله إبراهيم" ، أما "بن بركة" فاكتفى بأن يكون رئيسًا للجمعية الوطنية، أي البرلمان المغربي في ذلك الوقت وقد استنتجت من ذلك أنه لابد أن تكون هناك اتصالات على مستوى عالٍ جمعت بين هذه الأطراف الثلاثة ولا أبرئ بعض العناصر الفرنسية التي يهمها زعزعة الحكم الوطني وتمزيق حزب الاستقلال...

فوجئت في أحد الأيام أثناء الصيف بزيارة اثنين من قادة هذا الانشقاق هما عبد الرحمن اليوسفي والفقيه البصري، وعرفت أنهما جاءا لتوثيق علاقاتهم بالعسكريين الذين يتحكمون في مصر ويعدان لزيارة رئيس الوزراء المغربي الجديد عبد الله إبراهيم، وأذكر أنني عندما فهمت ذلك اعترضت عليه، وكشفت لهما عن (ساقي) لأريهما آثار التعذيب الي لقيته على يد أصدقائهما من حكام مصر، وكان ردهما على ذلك هوا لعبارة المأثورة في المغرب "في سبيل الله" !!

بعد ذلك جاء عبد الله إبراهيم رئيس وزراء المغرب في زيارة رسمية إلى مصر، والتقيت به في جلسة خاصة بالسفارة المغربية، واستعدنا ذكريات باريس لأنه كان أول من تعرفت به من المغاربة في باريس 1946م، وكان بيننا أحاديث طويلة، لكن عندما التقتي به لم أشأ أن أواصل أحاديثنا السابقة ولا أن أناقش معه ما قاموا به في المغرب؛ لأنه اقترح علي أن أتعاقد مع وزارة العدل المغربية؛

لأن حكومته بصدد إعداد مجموعات قوانين مغربية جديدة ويحتاجون لمساعدتهم في ذلك، ولما قلت له إنني سبق أن طلبت الإذن بالسفر للدفاع عن الدكتور الخطيب ورفض طلبي، قال إنه يتعهد بالحصول لي على الترخيص بالخارج؛ لأنه له بالرئيس "عبد الناصر" علاقة تختلف عن علاقة الدكتور الخطيب وقبل سفره أبلغني أن عبد الناصر قد وافق شخصيًّا على السماح لي بالسفر للمغرب، وأنه أعطى التعليمات بذلك أمامه ومن ناحيته فإنه سيقوم بالإجراءات عن طريق وزارة العدل المغربية والسفير المغربي بالقاهرة وهذا هو ما حدث فعلاً، وسافرت للمغرب للعمل هناك.

هكذا كانت علاقتي الشخصية بشباب الحركات الوطنية المغربية وطلابها في باريس هي السبب في انتقالي من مصر إلى المغرب في عام 1959م، والغريب أن ذلك كان على يد من قادوا عملية الانشقاق في حزب الاستقلال، وأنشئوا ما يسمى بالاتحاد الاشتراكي المغربي بتأييد من عبد الناصر والتعاون معه، ومع اتحاده الاشتراكي المصري الذي أنشأه لمحاربة الإخوان وجعل هدفه القضاء على الحركة الإسلامية، وأدت حملته على الإخوان لفصلي من الجامعة واعتقالي من عام 1954م إلى عام 1956م...

لقد ألمني أن أول ما أواجه به بعد خروجي من المعتقل هو أن أكتشف أن من دبروا الفتنة لاضطهاد الإخوان المسلمين واعتقالهم ومطاردتهم قد استطاعوا أن يدفعوا العناصر الوطنية في المغرب إلى الشقاق الذي بدأ كما رأينا بالفتنة بين عبد الكريم الخطيب وحزب الاستقلال أولاً، ثم بين زعيم حزب الاستقلال علال الفاسي وحكومته التي كان يرأسها الحاج أحمد بلا فريج

ثم استطاعت إحداث انشقاق داخل حزب الاستقلال نفسه وانفصال بن بركة وجماعته عن الحزب وإنشاءهم الاتحاد الاشتراكي المغربي ليكون متحالفًا مع الاتحاد الاشتراكي المصري، وربما يطمعون أن يكون امتدادًا له، وظنوا أنهم يستغلون بعض العناصر في حاشية الملك ويتعاونون معها للقضاء على حزب الاستقلال وإحلال الاتحاد الاشتراكي محله، لكن هذه العناصر كانت أذكى منهم، فقد نجحت في إقصاء جناحي حزب الاستقلال معًا، وإبعاد الاتحاد الاشتراكي وزعمائه جميعًا بعد نجاحهم في إبعاد الاستقلال وزعيمه علال الفاسي...

إن حزب الاستقلال المغربي هو الذي قام بالدور الأكبر في تحقيق استقلال المغرب الأقصى وعودة الملك محمد الخامس إلى عرشه، لكن الملك لم يعد وحده، وإنما عادت معه حاشية، وأكثرهم من ذوي الثقافة الفرنسية الذين يعتبرون حزب الاستقلال واستقرار الحكم الوطني خطرًا على نفوذهم وعملوا للإيقاع بين الملك والحزب، ونجحوا في إقصاء علال الفاسي زعيم الحزب الذي كان من ذوي الثقافة العربية من علماء القرويين وقضى في المنفى تسع سنوات، واستغلوا لذلك أولاً بعض ممثلي "البورجوازية" في فاس، ثم بعد ذلك دفعوا بن بركة وجماعته للانفصال عن الحزب بحجة الاشتراكية.

رغم أن علال الفاسي لم يكن ضمن من يوصفون بالبورجوازية إلا أنه بعد عودته اعتبره كثيرون من شباب الحزب مسئولاً عن أخطاء القادة البورجوازيين، وبدأ بن بركة ومن معه من أعضاء الحزب حرك تمرد على زعامة علال، بحجة رغبتهم في التحرر من سيطرة هذه البورجوازية التقليدية، وكانت بعض العناصر الداخلية، بل وبعض الدوائر الأجنبية تشجعهم على ذلك، وفي مقدمتهم عملاء الناصرية التي رفعت شعار الاشتراكية كوسيلة لاستبعاد جميع الحركات والأحزاب الوطنية والإسلامية في مصر..

أولا، ثم مقاومة الإخوان المسلمين "ووصايتهم" على حركة الجيش، رغم أنهم كانوا القوة الشعبية الوحيدة التي تحالفت مع هؤلاء الضباط، لكنهم اعتبروها منافسة لهم على السلطة بعد نجاح الحركة وأنها بسبب تشددها في مواصلة المقاومة ضد الإنجليز تحول دون وصولهم للاتفاق مع بريطانيا وأمريكا التي تبنت الانقلاب والنظام العسكري وأيدته وساعدته لتحقيق أهدافها ومصالحها في المنطقة العربية بشرط أن يتولى الحكم مقاومة الاتجاه الإسلامي.

كان وزير العدل المغربي في أول وزارة وطنية هو السيد "عبد الكريم بن جلون" الذي تعرفت عليه في باريس عندما جاء رئيسًا لوفد حزب الاستقلال في عام 1946م، وبناء على طلب الدكتور "محمود أبو السعود" كان هو الذي أرسل لي خطابًا رسميًّا عن طريق السفير المغربي السيد عبد الخالق الطريس يلح علي في المجيء للمغرب لمعاونته في عملية التقنين التي بدأها بإعداد "مجلة الأحوال الشخصية" التي كانت أول قانون يصدره "الملك" بعد الاستقلال، ويعتز به جميع رجال الفقه والقانون بأنه نموذج متميز لتقنين قواعد الأحوال الشخصية على مذهب الإمام مالك.

وصلت للمغرب في صيف عام 1959م قادمًا من مدريد، وكان في بيتي أن أكون أستاذًا بكلية الحقوق بالرباط، وكان الدكتور محمود أبو السعود يدرس فيها، وكان معه صديقنا المرحوم الأستاذ حسن العشماوي، وكان صديقي الدكتور عبد الكريم بن جلون الذي طلبني وهو وزيرًا للعدل قد أصبح وزيرًا للتعليم

ومسئولاً عن جامعة محمد الخامس بالرباط ومع ذلك أصر على أن أعين بوزارة العدل مستشارًا بالمحكمة العليا التي تسمى هناك (المجلس الأعلى) والتي تعادل محكمة النقض في النظام المصري، وأقنع الملك محمد الخامس فأصدر مرسومًا (ظهيرًا) ملكيًّا بذلك، وفي نفس الوقت انتدبت لإلقاء دروس في كلية الحقوق بالجامعة...

ومع ذلك فإن إقامتي بالمغرب لم تكن في نظري إلا "محطة" في طريقي إلى الجزائر... رغم اختلاف الظروف في المغرب عنها في الجزائر، فإن العوامل التي أشعلت الفتن داخل الحزبين بقصد إضعاف الحزب الوطني في البلدين كانت واحدة، وإن كانت متعددة الاتجاهات والأهداف... إني لست مؤرخًا، وإنما أذكر ذلك لاعتقادي أن الأخطاء التي ارتكبت في الماضي ما زالت ترتكب في الحاضر، وأن الذي يستفيد منها هو العدو الأجنبي...

لقد أشرت منذ بداية هذا البحث إلى أن الحكم العسكري الناصري كان من أول أهدافه عندما قرر التدخل في شئون الحركات الوطنية في إفريقيا الشمالية عمل كل ما يستطيع لإثارة الفتن في داخل الأحزاب الوطنية بقصد القضاء على القيادات الوطنية الأصيلة ظنًا منه أن ذلك سيفسح له المجال لفرض الزعامة الناصرية الجديدة.

لقد قلت إن عملاء الناصرية "قليلة الخبرة ضعيفة الإمكانات" قد استدرجت إلى الاستعانة بمخابرات قوى أجنبية، وخاصة "الفرنسية" و"الأمريكية". وكان هدف المخابرات "الوطنية" وقتيًا وهو خلق قيادات تابعة لها تعمل بتوجيهها وتخضع لزعامتها، أما القوى الأجنبية فكان هدفها فرض نفوذها وسيطرتها على الجميع بما فيهم الناصريون وأمثالهم من دعاة "القومية العربية" أو "الاشتراكية" ...

الخطأ الذي نأخذه على هؤلاء الوطنيين أنهم من أجل هدف حزبي أو شخصي مؤقت تحالفوا مع القوى الأجنبية التي لها أهداف استراتيجية أبعد من أهدافهم، وأن هذه القوى استطاعت استغلال نزواتهم وقصر نظرهم، ثم قضت عليهم هم بعد أن ساعدوها في القضاء على الزعامات التقليدية والأحزاب الوطنية... لقد أطلت في تعليقاتي على كتاب السيد فتحي الديب؛ لأن كل ما فيه يؤيد هذه النظرية... فلننظر إلى النتائج. نجح التحالف بين الناصريين وبعض القوى الأجنبية في تمزيق الحزب الوطني الجزائري "حزب الشعب" والقضاء على زعامة "مصالي حاج" وكذلك تمزيق "حزب الاستقلال" وإبعاده عن السلطة.

وقد استغلوا في ذلك بعض العناصر الوطنية الشابة مثل "بن بيلا" وجماعته، و"بن بركة" وجماعته ممن لا أشك لحظة واحدة في وطنيتهم وإخلاصهم لأوطانهم، لكنهم خدعوا وظنوا بأن طريق القضاء على الحزب الذي رباهم ونفخ فيهم من روحه، وأن تحطيم الزعامات "التقليدية" سيمكنهم من تحقيق أهداف أكبر وأسرع.

لقد نجح هذا التحالف "العصري" في القضاء على زعامة "مصالي حاج" وعلال الفاسي لكن القوى الأجنبية تخلصت من وجودهم هم بعد ذلك جميعًا... فأني هم الآن؟ لقد أشرنا إلى أن "مصالي" كان في الإقامة الجبرية قبل "بن بيلا" وقبل بورقيبه ومن المؤكد في نظري أن الفرنسيين لو كانوا تواصلوا معه إلى تفاهم يحقق لهم أهدافهم لتعانوا معه كما تعاونوا مع "بورقيبه" أو مع "بن بيلا" و"عبد الناصر" ، مع اعتذارنا لأصدقائهم الذين لا يتصورون صحة ما أقول من افتراض التحالف بين الحكومة الناصرية وبين المخابرات الأجنبية.

الدليل على ذلك أن الناصريين لم ينجحوا في إزاحة "بورقيبه" رغم أنهم استهدفوه أيضًا، والسبب أنه كان أسرع منهم في التعاون مع القوى الأجنبية وأقدر على ذلك وما زال ورثته وأنصاره يسيرون في هذا الاتجاه، وما زالوا يتلقون الدعم والتأييد الخارجي... لكن صديقي "بن بيلا" سقط في ليلة واحدة بانقلاب عسكري قاده صديقه بومدين وبقي في "السجن الوطني" دهرًا طويلاً، وعندما خرج منه كان أول ما عمله هو زيارة قبر زعيمه "مصالي" وكتب مقدمة لمذكراته، أشرنا إلى أنها اعتذار له، وأن فيها اعترافًا بأنه اقتنع بذلك في ليل السجن الطويل وانتقلت السلطة من يده هو وأنصاره إلى من تسللوا إلى جبهة التحرير من أنصار التغريب والعلمانية والتبعية لفرنسا ليحلوا محل "المصاليين" الذين طاردهم الناصريون.

وصديقي "بن بركة" الذي حزنت على مصيره وأيقنت أنه مستهدف بعده... أين هو؟ صحيح أن حزبه ما زال موجودًا وعلى رأسه أقرب أصدقائي من شباب المغرب لكن بينه وبين تحقيق طموحاته وأهدافه "الوطنية" مسافات بعيدة تتسع كل يوم... وأين "عبد الناصر" زعيم القومية العربية الذي استهدفت حكومته العسكرية ألا يبقى في مصر ولا في أي بلد عربي زعيم إلا ويسبح بحمده ويتلقى التعليمات منه... أين هو؟

صحيح أن كثيرين من ورثته ما زالوا في السلطة، لكن بقاءهم متوقف على المساعدات الأجنبية ورضا القوى الكبرى ومداراتها ومسايرتها، بل ومصالحة إسرائيل بعد أن كان زعيمهم يتباهى "بشتمها" ويجتذب الجماهير بإعلان أمنيته في إلقائها في البحر هي وأعوانها... إن كل ما ذكرته عما مضى أخشى أنه ما زال يحدث الآن، بل زاد وظهرت علاماته وآثاره أكثر؛ لأن المستهدف لم يعد هو زعيم حزب أو كيان حزب، بل المستهدف الآن الجماهير وأغلبيتها التي تؤيد التيار الإسلامي، وتصوت لصالحه في أي انتخابات حرة؛

لأن عامة شعوبنا أصبحت تعتقد أن الإسلام هو المصدر الوحيد لاستمرار مقاومتها وجهادها ضد العدوان الأجنبي الذي يقدم الفروض والمساعدات لبعض الحكومات التي تتعاون معه لاضطهاد شعوبها ويحارب الحكومات والشعوب التي ترفض هذا التعاون، وما يجري في الجزائر والسودان يشهد بذلك...

"مدريد" و"الرباط" و"مولاي إدريس" (1959م)

في طريقي من القاهرة مررت بمدريد لألتقي بصديقي الدكتور حافظ إبراهيم مرة ثانية وأستعيد معه ذكريات لقائنا الأول منذ عشر سنوات في عام 1949م، وكان حافظ إبراهيم لديه معلومات كثيرة هي في نظري موسوعة كاملة لأحوال المغرب وتطوراتها.

كان البند الأول في جعبته عن الجزائر، وخاصة عن صديقه أحمد بن بللا المعتقل مع زملائه في فرنسا، ولما أخبرته عن مراسلاتي معهم عن طريق محمد خيضر وأسرته وأسرة زميله حسين آية أحمد، قال لي إنك لا تعرف شيئًا في السياسة وأهنئك لأنك اهتمت برعاية شئون الأولاد والأسر، ولما أشرت لقلقلي على هؤلاء الزعماء المعتقلين، قال لي لا تقلق فهم جميعًا في حرز أمين، لكنك عندما تلتقي بهم فيما بعد (إذا يسر الله لك ذلك) فإنك لن تعرفهم؛ لأنهم سيكونون "شيئًا" آخر.

منذ تعرفت به قبل عشر سنوات لاحظت أنه لا يستريح لأي اعتراض على ما يقوله ويفضل أن يتكلم ويعرض كل وجهة نظره دون اكتراث بآراء سامعيه أو ملاحظاتهم، وقد نصحني كثير من الأصدقاء بأن أريح نفسي من إبداء أي اعتراض على ما يقول، وأن أستمع فقط لكي أحتفظ بما يفيدني مما سمعته وأنسى الباقي.

كما أصر أخي الدكتور حافظ في المرة السابقة على أن يرافقني في رحلة الأندلس، وبالأصح أن أرافقه في أول رحلة للأندلس التي كان يرغب في زيارتها، فإنه في هذه المرة قرر أن يقوم بأول رحلة له إلى المغرب الذي استقل وكان يتشوق لزيارته منذ أقام في مدريد، وأصر أن أرافقه في هذه الرحلة الطويلة بالسيارة، وكان له منزل على شاطئ البحر في الشاطئ "الشمسي" قرب "ملقا" فذهبنا إليه في السيارة وقضينا يومين للراحة والاستجمام

وبعدها انطلق بسيارته قاصدًا "الجزيرة الخضراء" وجبل طارق، وذكرني بما لقيته من عنت في زيارتي السابقة إلى طنجة لأنني لم أستمع لنصيحته عندما طلب مني عدم الإقدام على تلك المغامرة وأن أعود معه، واليوم عربنا معًا إلى طنجة لنزورها وهي مدينة مغربية لكنها ما زالت دولية ونحن مطمئنان آمنان؛ لأن معنا جوازات صحيحة، ومنها توجهنا إلى الرباط وقصدنا منزل صديقه السفير محفوظ الخطيب الذي استضافه، وحضر إلي صديقي الدكتور محمود أبو السعود الذي استضافني مشكورًا بمنزله.

طوال هذه الرحلة استمتعت بأحاديث طولة لا تنقطع من صديقي الدكتور حافظ إبراهيم، وهو يقود السيارة ولا يشغله ذلك عن الحديث المتواصل، وأشهد لقد كنت مستمعًا نموذجيًّا ولم أقدم أي سؤال يقطع عليه حبل تفكيره إلا مرة واحدة عندما سألته عن رأيه في الانشقاق الذي حدث في صفوف حزب الاستقلال، عند ذلك ثار في وجهي قائلاً إنك ذاهب إلى المغرب لتشتغل في القانون والجامعة، وإياك أن تشغل نفسك بشئون سياستهم أو أحزابهم، إني أحذرك من ذلك...

إنني أشكر صديقي حافظ إبراهيم على هذه النصيحة التي استفدت منها كثيرًا فقد التزمت بهذا المبدأ وعشت في المغرب وخرجت منه وبقيت صديقًا لجميع قادة الأحزاب المختلفة رغم ما بينهم من خصومات ونزاعات، ولم أشعر في أي يوم بالحاجة إلى سؤالهم عنها أو التدخل فيها، كما أنهم جميعًا يستطيعون أن يشهدوا بأنني بقيت صديقًا مخلصًا للجميع ولم تشب صداقتي لأي منهم شائبة من الشوائب الناتجة عن الخلافات التي حدثت فيما بينهم. كان كثير منهم يبث لي شكواه من الآخرين ويعرض انتقاداته لما بدر منهم،لكن كنت أحتفظ بكل ذلك لنفسي، وعندما أتكلم مع أي واحد ينتمي إلى أحد الفريقين كنت أقدم له آرائي الشخصية التي اقتنع بها، ولم أتردد في ذلك لحظة واحدة.

لقد أشرت من قبل إلى قصة انشقاق المهدي بن بركة وأصحابه على زعامة علال الفاسي، وعندما وصلت المغرب لاحظت أنهم يسعون إلى السيطرة على قواعد حزب الاستقلال الذي انشقوا عليه، وذلك بالقضاء على زعامة السيد "علال الفاسي" وكنت واثقًا أن هذا كان بتحريض من حلفائهم الناصريين لأن القضاء على الأحزاب الوطنية في شمال أفريقيا كان نقطة أساسية في برنامج الحكم العسكري في مصر...

لقد ساعدت الحكومة المصرية وأعوانها المهدي بن بركة في أن يشق حزب الاستقلال نصفين ويضم إليه كثيرًا من عناصره في الخارج بل في الداخل أيضًا، وكانوا يسمون أنفسهم المراكز الإقليمية لحزب الاستقلال، لكن بعد ذلك فكروا في أن ينشئوا حزبًا جديدًا أسموه "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" ، وكان هذا الحزب يضم العناصر الاستقلالية ذات الثقافة الحديثة

وتعتبر أنها تمثل الاتجاه العصري داخل الحزب، وكانوا تتبرمون بزعامة علال الفاسي لأنه من خريجي جامعة "القرويين" المماثلة للأزهر في مصر، وكان في نظرهم شيخًا قرويًّا، وكان فكره إسلاميًّا تقليديًّا في نظرهم، وكانوا يعتقدون أن ذوي الثقافة الأوروبية هم الذين يجب أن يأخذوا زمام القيادة للحركة الوطنية في هذه المرحلة بعد الاستقلال كما كان الحال في كثير من الشعبو العربية.

هؤلاء كانوا يحظون بثقة وتشجيع من كثير من جماعات الأوروبيين والفرنسيين بل والعرب "التقدميين" ؛ لأنهم كانوا يستطيعون أن يتكلموا لغتهم ويهضموا آراءهم ولا يحسون بكثير من التناقض بينهم وبين الفرنسيين أو العرب ذوي الثقافة "العصرية" ، ولكن الذي أدهشني هو كيف استطاعوا أن يتقربوا من الملك حتى يعطيهم الوزارة بدلاً من حزب الاستقلال لكن ظهر لي أن هذا كان مجرد إجراء شكلي؛ لأن أغلب الوزراء كانوا مستقلين، بل كان أمرًا مؤقتًا؛ لأن وزارتهم لم تعمر طويلاً ولم يعودوا للحكم بعدها...

رغم صداقتي مع قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المنشق عن حزب الاستقلال، فلقد بقيت علاقتي وطيدة مع السيد علال الفاسي الذي كنت أعجب كثيرًا بآرائه واتجاهاته الإسلامية وأشاركه فيها، ولم يكن لصداقتي مع المهدي بن بركة وأصحابه أي تأثير على صداقتي مع السيد علال الفاسي وأعضاء حزبه جميعًا. ولقد كان المهدي بن بركة وأصحابه يعرفون جيدًا معارضتي للحكم العسكري في مصر الذي يتحالفون معه ويتعاونون معه، ولم يكن لديهم أي اعتراض على ذلك، وعندما التقيت ببعضهم في القاهرة عام 1956م عقب خروجي من المعتقل كشفت لهم عن آثار التعذيب على جسمي

وقلت لهم في القاهرة عام 1956م عقب خروجي من المعتقل كشفت لهم عن آثار التعذيب على جسمي وقلت لهم إذا كنتم تقبلون على أنفسكم أن تكونوا أصدقاء حكام يستعملون هذه الأساليب فوسف تستعمل ضدكم في يوم من الأيام، فكانوا يضحكون ويقولون إن المغرب غير مصر ولا يمكن أن يكون فيه حاكم ديكتاتوري أو عسكري ويمكن أن يسأل الأحياء منهم الآن عن رأيهم في ذلك التفاؤل!

كان لي أصدقاء كثيرون لا ينتمون لحزب الاستقلال، ولا لجماعة بن بركة. كان أول ما فعلته عندما جلست بالصالون في أول يوم وصلت فيه للمغرب بمنزل صديقي محمود أبو السعود أن وجدت أمامي دفتر التليفونات لمدينة الرباط، وفتحته من باب حب الاستطلاع ففوجئت بالصفحة الأولى تحت عنوان "الديوان الملكي" باسم زميل وصديق عرفته في باريس وهو "مولاي أحمد العلوي" الذي عين بالديوان الملكي فور عودته من باريس وكان مختصًا بالشئون الصحافية الإعلامية، وامتدت يدي إلى التليفون وأدرت رقم منزله وفوجئت به عندما سمع صوتي يقول لي بالحرف الواحد: هذه أحسن مفاجأة لي هذا العام أن أسمع صوتك في التليفون تحدثني من الرباط!!

دون أن يسترسل معي في الحديث قال لي فورًا: إنني سعيد الحظ لأنني أريد أن أراك فورًا، ولكن الأفضل أن نلتقي غدًا لأنه سيقام حفل رسمي بالمولد النبوي برئاسة جلالة الملك في مدينة مولاي إسماعيل قرب مدينة مكناس، وما دمت مع محمود أبو السعود فأرجو أن تحضر معه إلى هناك غدًا وسأكون بانتظارك.

كان (مولاي أحمد العلوي) طالبًا في الطب بباريس عندما وصلت هناك، ومع ذلك كان اشتغاله بالشئون الصحافية والعلاقات العامة والسياسية أكثر من اشتغاله بالطب ولذلك فإنه لم يتم دراسته وسارع بالعودة إلى المغرب فور عودة الملك محمد الخامس في المنفى وإعلان الاستقلال، ونظرًا لأنه ينتمي إلى الأسرة العلوية فقد عينه الملك بديوانه مسئولاً عن شئون الصحافة والإعلام بمجرد عودته للمغرب، ثم عين وزيرًا عدة مرات، واستقر به المقام مسئولاً عن مجموعة الصحف الفرنسية الحكومية وما زال حت اليوم.

ومنذ عرفته في باريس كان مدمنًا على الاطلاع على الصحافة الفرنسية وخاصة الصحف اليسارية، ومتأثرًا إلى حد كبير بوجهة نظرها حتى في الشئون العربية، وأذكر أنه عندما دعيت لإلقاء محاضرة عن الجامعة العربية في نادي الطلاب شارع (سان ميشيل 115) المشهور كان أكثر الطلاب حماسًا في مقاطعتي حتى أنه وقف يعارض ما أقوله عن علاقة الجامعة بفكرة الوحدة العربية

وكان يردد ما تروجه الصحف الفرنسية من أن هذه الجامعة لا تمثل مصالح الشعوب العربية، وإنما هي مجرد أداة في يد السياسة البريطانية، وكان للفرنسيين مصلحة في ترويج هذه الفكرة بسبب وقوف الجامعة العربية ضد فرنسا في قضية سوريا ولبنان التي انتهت باستقلال هذين البلدين رغم أنف فرنسا التي اعتبرت ذلك هزيمة كبرى لها بعد هزيمتها الأولى أمام الجيش الألماني في بداية الحرب

أما هذه الهزيمة فإنها نسبتها إلى السياسة البريطانية مدعية أنها شجعت العرب على معارضة النفوذ الفرنسي وكان كلما قام معترضًا على ما أقوله ولا أرد عليه يصيح صيحته التي رددها كثيرون من إخواننا فيما بعد وهي قوله: "الكلام لك يا شاوي"!!

وأعتقد أنه منذ عاد إلى المغرب واستقر له المقام في الديوان الملكي قد تخلى عن كثير من آرائه اليسارية، وإن كان ما زال يحتفظ بالعلاقات الشخصية مع كثير من الصحافيين الفرنسيين حتى إن أحدهم أراد استفزازه في إحدى المناسبات فسأله عندما عين وزيرًا هل يفكر في إتمام دراسة الطب فأجابه على الفور قائلاً: لن يحدث ذلك لأن بلادنا تستطيع أن تستعين بالأطباء الأجانب، لكنها لا تستطيع أن تستعين بهم كوزراء!!

لقد أشرت مرارًا لصداقتي بالدكتور عبد الكريم الخطيب الذي رافقني في رحلتي عام 1954م لزيارة مصالي حاج، ثم صار رئيس المجلس الوطني للمقاومة المغربية، عندما بدأ الكفاح المسلح في المغرب، وأدى ذلك إلى زيارته لمصر والاتصال بالمخابرات المصرية بعد اعتقالي عام 1954م، وتعرف بأحمد بن بللا وجميع قادة الجزائر، وأصبح أكبر نصير للثورة الجزائرية بالمغرب، وما زال كذلك حتى اليوم.

وقد أنشأ حزبًا سماه الحركة الشعبية، متعاونًا مع السيد محجوبي أحرضان، وحرص على أن يكون اتجاهه إسلاميًّا لكن السيد محجوبي أحرضان لم يطل تعاونه مع الدكتور الخطيب وانفصل عنه...

قاموس استعماري 1961م

إن الإسلاميين إذا كانوا قد عجزوا في أحيان كثيرة عن أن يتقدموا الصفوف في مرحلة الكفاح السياسي، فليس معنى ذلك أنهم كانوا يستسلمون للترف أو التسلية، بل إنهم يوجهون نشاطهم إلى القاعدة الشعبية، يغذونها بمبادئ الإسلام الأصيلة وأولها فكرة الجهاد في سبيل الله وطلب الشهادة في ميادين المواجهة مع أعداء الله

لذلك فإنه عندما يفتح باب الجهاد المسلح يكون الإسلاميون وتلاميذهم في مقدمة الشهداء، وكلما طال أمد الكفاح المسلح تتراجع صفوف المنافقين والأدعياء، ويبرز الإسلاميون إلى مراكز القيادة أو الزعامة لوطنية التضحية والجهاد ونراهم ظهروا في الساحة في مقدمة الصفوف وحظوا بثقة الجماهير وتأييدها، وبذلك يسيطرون على القاعدة الشعبية.

هذا ما يخشاه أعداؤنا ويحسبون حسابه؛ لأنهم يذكرون مراحل الغزو الأولى ومالاقوه من عنف المقاومة الإسلامية على يد قادة الجهاد الإسلامي أمثال عبد الكريم الخطابي وعبد القادر الجزائري وعمر المختار، لذلك نراهم يسارعون إلى الالتفاف حول صفوف "الوطنيين" ويستقطبون المعتدلين و"العقلاء" وأصحاب المصالح المالية والمراكز الاجتماعية

ويستعينون بمن تأثروا بالغزو الفكري في الثقافة العلمانية أو الأوروبية، الذين يفهمون لغتهم ويشاركونهم في الفكر أو المصالح، ويغرونهم بأن يكونوا تراجمة لهم ووسطاء في المفاوضات والمحادثات والمساومات التي تؤدي إلى المناصب ومقاعد السلطة حتى يقبل بعض الوطنيين "الاستقلال" المثقل بالقيود والشروط التي تفرغه من كل محتوى جدي أو مضمون له قيمة أهم هذه الشروط هو التزام الحكم الوطني بوقف المقاومة المسلحة

بل ومطاردة من يدعون للجهاد، ويتجهون إلى نشر مؤسسات تعليم ذات مناهج يسمونها عصرية، وكلمة العصرية عندهم تعني أنها لا دينية ومقطوعة الصلة بالثقافة الإسلامية ويهدفون من ذلك إلى إعداد جيل ممن انقطعت كل صلتهم بالأصول الإسلامية، ويسارع عملاء القوى الأجنبية لمساعدة هذه العناصر المحرومة من الثقافة الإسلامية ويدفعونهم إلى الاستيلاء على السلطة سواء كانوا من العسكريين أو الحزبيين أو الانتهازيين ممن هم أبعد الطوائف عن الثقافة الأصيلة وأكثرها تأثرًا بالنفوذ الثقافي المستورد، ويعتقدون أن أول خطوة لاستقرارهم في السلطة هي القضاء على الحركات الإسلامية والوطنية الأصيلة القريبة منها والمرتبطة بأصولها.

ولا يمنع من تنفيذ هذه الخطط بعيدة المدى أن تحاول القوى الأجنبية تشجيع الحكم الوطني على استخدام الإعلام وسيلة لاجتذاب القواعد الشعبية بأن تفتح أمام النظم الوطنية باب المزايدة الكلامية والخطابية وتشجعها على استقطاب الجماهير باستغلال الشعارات (القومية) تاروة و(الاشتراكية) بل و(الوحدوية) تارة أخرى، وهدفها الحقيقي هو أن تصرفها عن الشعارات الإسلامية، وعن أصالتها العقيدية والثقافية وتبعدها عن تيار الفكر الإسلامي الأصيل، وتضع خططًا استراتيجية تفرضها القوى الأجنبية اللادينية على بعض النظم الوطنية التي تتلقى منها المعونات أو القروض أو النصائح أو الأسلحة

وأول هذه الخطط إبعاد الإسلاميين عن ميدان التعليم بحجة (تطوير المناهج) وعن ميدان الإعلام وميدان الثقافة وعن مناصب الجيش والشرطة ومراكز السلطة الحقيقية، ويكون الدعم المقدم لكل حاكم وطني متوقفًا على مدى نجاحه في تنفيذ هذه الخطط التي يظن أنها لصالحه هو وجماعته ظاهريًّا، لكنها في الواقع لصالح القوى الأجنبية الاستعمارية سواء عرف ذلك أو لم يعرف.

بل إنه لا يضر القوى الأجنبية كثيرًا أن تقتحم الأحزاب الوطنية باب المزايدة على الوحدة فهم يشغلون الشعوب بدعوات الوحدة من جميع الأشكال والألوان، بل ويدخلون في تجارب فجة من هذا النوع يكون فشلها مؤكدًا؛ لكي تشكك شعوبنا في مبدأ الوحدة وتؤدي إلى انصرافها عن جميع شعاراتها، ولا تشترط القوى الأجنبية في دعوات الوحدة المسموح بها للوطنيين إلا شرطًا واحدًا هو ألا تكون لها جذور إسلامية

وألا توصف بأنها وحدة إسلامية لأنهم يعلمون مقدمًا أن هذا يؤدي بها إلى الفشل، ولقد لاحظ البعض أن هؤلاء القوميين يشغلون الشعب بمشروعات وحدوية مع أقطار بعيدة لتبعده عن شعوب الأقطار الملاصقة أو القريبة، بل ينشئون محاور معادية لجيرانهم الأقربين أو تعزلهم عنها كما فعل عبد الناصر في دفع السودان للانفصال لمجرد أنهم تحيزوا لمحمد نجيب الذي أيد المطالبة بالحياة النيابية

وبعد ذلك سارع للوحدة مع سوريا تهربًا من الضغط الشعبي الذيكان يتجه للتعاون مع شعب فلسطين، ويتوقع صدامًا مع إسرائيل لتحرير فلسطين أولاً، كما سارع إلى مساعدة العسكريين في اليمن للتحالف معهم ضد السعودية المجاورة له، وسعى لاستغلال مساعداته للثورة الجزائرية لصرف الجماهير عن قضية فلسطين أو الوحدة مع ليبيا أو السودان... إلخ.

لاشك أنه كان هناك وطنيون لهم قدر من الذكار والفطنة يدفعهم إلى مقاومة هذه النصائح أو المطالب الاستعمارية؛ لأنهم يعلمون أن من يقدمون لهم هذه التوجيهات لن يترددوا في فرض سيطرتهم عليهم بعد أن يستغلوهم إلى أقصى حد، وأن غياب الإسلاميين من الساحة سوف يشجع العدو على تنفيذ أهدافه الاستعمارية بالقضاء على كيان دولتهم وإبادة الوطنيين من كل نوع ومن كل لون

ولكن يوجد هناك وفي بعض البلاد انتهازيون قصيرو النظر لا يهمهم إلا الاحتفاظ بمناصبهم، ولو أدى ذلك إلى التخلي عن مقوماتهم أو رهن مستقبل شعوبهم والتنكر لأصولها وأهدافها الأصيلة، ويؤدون فروض الولاء للقوى الأجنبية بتنفيذ مطالبها التي تؤدي بهم إلى الدخول في معركة مع الجماهير المؤمنة نفسها بحجة انحيازها للتيار الإسلامي ويجعلون هدفهم هو اقتلاع جذور الدعوة الإسلامية والقضاء على قيم الإسلام وعقائده ومقوماته التي تعتز بها شعوبهم وتدافع عنها

وهم يظنون أن التأييد الأجنبي كفيل بحمايتهم من انتقام الشعوب وثورتها إلى ما لا نهاية، ويصبح هذا الصنف من الحكام عملاء يربطون مصيرهم بالنفوذ الأجنبي؛ لأنهم يعلمون أنه لا بقاء لهم ولا مستقبل لحكمهم إذا نجحت الشعوب في التحرر الحقيقي الذي يمكنها من فرض إرادتها وتقرير مصيرها واختيار حكامها وتأكيد هويتها الإسلامية وأصالتها التاريخية، التي يخشون أن ينجح صمود الإسلاميين في حمايتها والدفاع عنها في جميع المراحل ورغم كل المخاطر والتضحيات، وأحداث الجزائر الأخيرة شاهدة على ذلك...

إن هذه النظم المتنكرة للقواعد الشعبية، المعادية لجماهير أمتهم لا يجدون في صفهم إلا طائفة من ذوي الثقافة الأجنبية، الذين حرموا من الاتصال بفكر الإسلام وثقافته الأصيلة الذين كانوا في عهد الحكم الأجنبي يحظون بمزايا كثيرة بسبب انتمائهم لهذه الثقافة الغربية ولغتها الاستعمارية مما جعلهم تابعين لمصادرها ولأصحابها

وهم ينقلون عدوى هذا الشعور لأجيال لاحقة بعد الاستقلال عن طريق سيطرتهم على التعليم المصري الذي يعد قادة كل هدفهم الوصول إلى مقاعد السلطة أو الاستفادة من مزاياها دون أن يكونوا مدينين بذلك لشعوبهم أو لجماهيرها، ويبقى الاستقلال الوطني في كثير من البلاد شكليًّا مقيدًا بالتبعية للاقتصاد الاستعماري والثقافة الأجنبية

ويكتفي بعض الحكام بأن يستعينوا بهذا الصنف كتراجمة أو وسطاء في علاقاتهم بالقوى الأجنبية وممثليها في الداخل والخارج الذين يعتبرونهم أولياء نعمتهم ويسبغ عليهم الإعلام والنفوذ الأجنبي صفة المثقفين العصريين أو المتنورين أو التقدميين إلخ، ويزداد بذلك غرورهم حتى يعتبروا أنفسهم محتكرين لهذه الصفات، ويظنون أن الشرط الأول لحصولهم عليها هو بعدهم عن ثقافة الإسلام الأصيلة وقيمها وتقاليدها

بل يذهب كثير منهم إلى التنكر لها طلبًا للمزيد من الحظوة لدى أعداء أمتهم كلما وجدوا منهم رغبة في ذلك، وتصبح صفة المثقف في القاموس الاستعماري خاصة بمن يعلنون براءتهم من قيم الإسلام أو يتنافسون في الهجوم على شريعته وتاريخه، ولقد لاحظنا أن بعض الدول الناشئة التي منحها الاستعمار استقلالاً شكليًّا بقصد إبعادها عن الأصالة الإسلامية والثقافة العربية المرتبطة بالإسلام يحصلون على مساعدات مالية لمقاومة الأمية، ويقصدون بذلك نشر اللغة الاستعمارية التي أعلنوها لغة رسمية كالفرنسية أو الإنجليزية؛ ولذلك يعتبرون ذوي الثقافة واللغة العربية أميين؛ لأنهم لم يتكلموا اللغة الأجنبية.

كلما اتجهت عامة شعوبنا للصحوة الإسلامية زاد اهتمام القوى الاستعمارية بهذه الطبقة (المدجنة) التي يعتبرونها قاعدة لنفوذهم الثقافي، وللهجوم على مقوماتنا الأصيلة ويدخلون ضمنها طائفة من الصحافيين والفنانين والكتاب الذين لا نصيب لهم من ثقافة الإسلام وعلومه، ويساعدهم في ذلك سيطرة الإعلام الأجنبي والحكومي الذي يمكن هؤلاء من ادعاء احتكارهم لصفة المثقفين

حتى إنهم أصبحوا في بعض البلاد ينكرون هذه الصفات على كل من يتمسك بالأصالة أو الثقافة الإسلامية واللغة العربية، وقد زادت هذه الظاهرة في الجزائر حتى أصبح طائفة من هؤلاء "لمثقفين" لا يدخلون فيها إلا من يعتبرون أنفسهم ممثلين للقوى الاستعمارية وحلفائها ولغتها الفرنسية

ويزداد تحالفهم كلما زادوا بعدًا عن مشاعر الجماهير الإسلامية أو تنكرًا لعقيدتها وأصالة شريعتها، بل تنكروا للديمقراطية نفسها لأنها توجب تسليم السلطة للأغلبية، إنهم أصبحوا أكثر اندفاعًا من القوى الاستعمارية نحو حرمان شعوبنا من حريتها في اختيار ممثليها ومصادرة حقها في الانتخابات الحرة والإعلام الحر والحريات والحقوق الإنسانية.

لقد أصبح تزوير الانتخابات وقمع دعاة الحرية السياسية وإقصاء كل من تمنحهم العامة ثقتها، أصبح هذا هو الوضع العادي عند هذه الطبقة ممن يسمون أنفسهم مثقفين... في الجزائر رأينا وسائل الإعلام الأجنبية تعرض المشكلة على أنها خصومة سياسية بين العناصر المسيطرة في الجيش والحكومة وبين جبهة الإنقاذ الإسلامية والتي اكتسحت الانتخابات البلدية والنيابية

لكن لا تشير إلى أن منبع هذه المشكلة هو الصراع بين المثقفين المستغربين ومن يسمونهم بالأصوليين، فالأولون يعتبرون أنفسهم المستحقين لوراثة الإدارة الاستعمارية باعتبارهم امتدادًا وحلفاء للقوى الأجنبية، في حين أن الأصوليين هم في عمومهم أنصار الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة، الذين أدركوا أنهم لا مكان لهم في المجتمع والحكم الذي يسيطر عليه دعاة التبعية السياسية والثقافية والاقتصادية للقوى الأجنبية.

لقد قام الحكم الوطني في عهد بومدين بعملية تعريب التعليم في جميع مراحله وتخرجت أعداد كبيرة من الجامعيين ذوي الثقافة العربية، لكنهم فوجئوا بأنهم لا مكان لهم للعمل في الإدارة ولا في الاقتصاد ولا في المجتمع... وهناك آلاف من هذه الصنف "هم الذين يكونون إطارات جبهة الإنقاذ" وقاعدتها يرون أن ذوي الثقافة الفرانكفونية لا يريدون أن يتركوا لهم مكانًا في ميادين العمل والسلطة كما نلاحظ أن أكثر الناس تأييدًا لهم خارج الجزائر هم عناصر من طائفة الفرانكفونيين في تونس ومصر... إلخ والذين يسيطرون في مجال الصحافة والإعلام والسياسة ويصفون أنفسهم بأنهم مثقفون!! وحدهم طبقًا للقاموس الاستعماري...

الأصالة والهوية ... 1995!

لاحظ كثيرون أن مراكز الإعلام الأجنبي تصف من يعارضون سياسة قهر القوى الاستبدادية لشعوبنا بأنهم "أصوليون" دون أن تقدم لنا تعريفًا محددًا أو واضحًا لهذه الأصولية التي يهاجمون دعاتها، وقد آن الأوان لكي نبحث عن المعنى الذي يقصدونه...

إن كثيرًا من أنصار سياسة القمع والإبادة لمعارضي الحكام في بلادنا يتفادون استعمال هذا المصطلح ويكتفون بوصف معارضيهم بأنهم متطرفون أو متشددون أو رجعيون أو متآمرون، أو ما إلى ذلك من أوصاف يبتكرونها ويرون أنها تكفي لتأكيد ادعاءاتهم بأنهم هم المعتدلون أو المتقدمون أو دعاة الاستقرار والبناء والتنمية..إلخ. ثم إن بعضهم لا يقتنع بذلك، بل ينتهز كل فرصة لوصف خصومهم أو معارضيهم بأنهم إسلاميون أو دعاة الإسلام السياسي لكي يوجهوا سهامهم للإسلام ذاته بكل فصائله دون تمييز بين متطرفين ومعتدلين.

إن من يهاجمون الإسلام أو الاتجاه الإسلامي لا يتبرءون من التحالف مع القوى الأجنبية التي تهاجم الأصوليين، بل كثيرًا ما يتباهون بذلك بحجة أنهم في عصر الكونية أو "العولمة" لكنهم يجهلون أن أعداء الأصولية لا يقدمون تحديدًا واضحًا لما يقصدونه منها وأنهم بذلك يتركون الباب مفتوحًا لكي يدخلوا ضمنهم كل من يدافعون عن مصالح شعوبهم حتى ولو كان ذلك تحت شعارات وطنية أو قومية، بل إن كثيرًا منهم يلاحظون من حين لآخر دلائل على أن كل من يدافعون عن حقوق شعوبهم سيكونون في يوم من الأيام من ضحايا حملة الهجوم على الأصوليين.

وفي اعتقادي أن من يقاومون الإسلام وعقيدته لا يقلون خطرًا على أمتنا من حلفائهم الذين يهاجمون الأصولية دون تقييدها بصفة إسلامية؛ لأن تمزيق الأصول التي تعتز بها أمتنا يضعف أمتنا ويعرضها للهزيمة أمام أعدائنا، تمامًا مثل تمزيق إقليمها وشعوبها الذي يضعف وحدتها وقوتها ولذلك فإن دعاة النهضة الكاملة الشاملة لا يقبلون الفصل بين الأصول الإسلامية والعربية والتاريخية كأساس لوحدة الأمة، ولا يفرقون بين الإسلام والعروبة والأصالة التاريخية التي وحدت أمتنا وأعزتها ومكنتها من إقامة حضارة شهد لها العالم والتاريخ في أزهى عصورها لذلك فإن الإسلاميين كانوا أكثر الوطنيين دفاعًا عن العروبة كلغة وثقافة وهوية تاريخية؛ لأن ثقافتنا العربية الإسلامية هي من أهم مقومات هويتنا...

وقد اطلعت أخيرًا على مقال نشرته مجلة سعودية (الحرس الوطني العدد "153" شوال وذو القعدة 1415هـ مارس وأبريل 1995م، ص/94) تحت عنوان صراع الأمة من أجل ثقافتها وهويتها في رسالة من الزعيم علال الفاسي، وهو بتوقيع الدكتور عبد الحميد إبراهيم الذي لا أعرفه ولا أستطيع الاتصال به لعدم معرفتي بعنوانه، وقد سررت لأن كاتب المقال قد أيد فيه كثيرًا مما ذكرته في أحاديثي السابقة.

فقد أشرت من قبل إلى صداقتي مع السيد علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال المغربي ومشاركتي له في جميع آرائه وتأييدي له في جميع مراحل جهاده من أجل عروبة المغرب وإسلامه واستقلاله، كما أشرت إلى زيارتي له في طنجة عندما كان لاجئًا سياسيًّا بها، وقلت إن حزبه وإن كان وطنيًّا إلا أنه كان يعتز بالأصول الإسلامية والعربية ويدافع عنها.

وقد قدم لنا هذا المقال دليلاً على ذلك، وهو خطاب أرسله علال الفاسي من منفاه في طنجة يستنجد وزير خارجية مصر لكي تواصل حكومة الوفد – التي كان عضوًا بها – تنفيذ مشروع فتح مدرسة مصرية عربية في طنجة لتكون منارة للثقافة العربية الأصيلة في شمال أفريقيا، ويسرنا أن نورد نص الرسالة كما نشرتها تلك المجلة، والتقديم لها كما كتبه الدكتور عبد الحميد إبراهيم...

نص الخطاب

حزب الاستقلال

المغرب الأقصى

سري وخاص طنجة 18 أكتوبر 1950م

الحمد لله وحده

حضرة صاحب المعالي البطل العربي الدكتور محمد صلاح الدين بك وزير الخارجية المصرية

سيدي الصديق الجليل...

اسمحوا لي أن أبلغ معاليكم بصفة أخوية خاصة ما انتهت إليه استعلامات الحزب من محاولات لجنة المراقبة بطنجة وممثلي الحماية الفرنسية بهذه المدينة لإبطال ما قررتموه من تأسيس مدرسة عربية مصرية بها، ذلك أن طنجة لحد الآن لا تملك شريعًا يتعلق بالتعليم؛ لأن الإدارة الدولية لم تؤسس ولا مدرسة واحدة لا للمغاربة ولا للأجانب

ومنذ أخذ بعض المخلصين يؤسس بعض المدارس العربية على أسلوب عصري (وهي قليلة) بدأت الإدارة تحت ضغط نائب المدير الفرنسي المكلف بالشئون الأهلية، تقدم المشروع إثر المشروع لتقييد التعليم الحر والقضاء عليه وعلى جميع وسائل العمل لصالحه، وفي ظروف السنتين اللتين أقمتها بطنجة استطعت أن أكتشف دائمًا هذه المحاولات وأعمل على عدم إنجاحها إما بواسطة بعض الممثلين الأهالي بالمجلس التشريعي، وإما بواسطة رفع القضية لجلالة الملك الذي يبادر بإلزام مندوبه باستعمال حق الرفض للتشريع المطلوب.

ويظهر الآن أن رئيس لجنة المراقبة وهو السفير الأمريكي المستر بليت قد اتصل يطلب استيضاحًا من طرف الحكومة المصرية عن وسائل التنفيذ لمشروع المدرسة التي قرر تأسيسها بطنجة مجلس الوزراء المصري مخصصًا لها الاعتماد المعين فأحال القضية على مستشار المدير في الشئون الاجتماعية وهو إنجليزي

وطلب الكل من مدير المنطقة الهولندية أن يبادر بإرسال مشروع لتنظيم أمر التعليم الحر قبل أن تنجز الحكومة المصرية عملها، وكلف المدير نائبه (الفرنسي) بوضع المشروع، فعرض عليه المشروع الذي تجدون منه نسخة صحبة هذا، اتصلنا بها بوسائلنا الخاصة مع العلم بأن نسخة واحدة منها هي التي خرجت من يد المدير إلى رئيس لجنة المراقبة بقصد دراستها.

ونحن متيقنون من أن إدارة الأمور الأهلية للحماية الفرنسية بالرباط هي التي وضعت ذلك المشروع الذي يرمي إلى منع المغاربة والعرب من تأسيس أية مدرسة، بينما يسمح للأجانب من أعضاء مؤتمر الجزية أن يؤسسوا مشاءوا "ونصه: "يقصد الدول الأجنبية التي شاركت في مؤتمر "الجزيرة الخضراء" المعروف...

إننا سنحاول من جهتنا أن نعمل كل ما يمكن لعدم إنجاح هذا المشروع مرة أخرى، وإن كانت غيبة جلالة الملك في فرنسا إلى يوم (8) نوفمبر تصعب علينا النجاح في هذه المهمة، وأن أعضاء لجنة المراقبة ورئيسها الأمريكي فيما يبدو راغبون في تحقيق هذا المشروع بينما مندوب الجلالة الشريفة رجل (...) لا يسير إلا في ركاب الفرنسيين ما لم تصدر إليه أوامر خاصة في كل مسألة بعينها.

لقد علمت أن حيثيات التقرير التي لم أستطع الاتصال بنسخة منها تحتوي رسميًّا على أن الحكومة المصرية من دون جميع الدول التي طلبت الاستعلامات المتعلقة بنظام التعليم في طنجة، هي وحدها المصممة على تأسيس مدرسة من شأنها أن تكون مركزًا لأعمال ضد صالح النظام القائم. أعتقد يا صاحب المعالي أنه من الممكن أن تنتهزوا فرصة مقامكم في الولايات المتحدة لتنبيه قسم أفريقيا والشرق بالخارجية المصرية لهذا العمل العدائي الموجه للثقافة العربية وللحكومة المصرية من لجنة المراقبة الدولية التي يشرف عليها سفير أمريكي في هذه الدورة.

أستسمح معاليكم إذا كنت سآخذ من وقتكم بهذه الرسالة التي لم يمل علي كتابتها إلا حب البلاد والغيرة على مصر والعروبة.

وتفضلوا يا صاحب المعالي بقبول أسمى عبارات التقرير والإعجاب بشخصكم المحبوب.

إمضاء... علال الفاسي

طنجة مراكش (3) طريق حسنونة... صورة خطاب وصل في ظرف معنون باسم السفير (1/11/1950م).

وهذه هي تعليقات كاتب المقال على هذا الخطاب:

رسالة من علال الفاسي رئيس حزب الاستقلال بالمغرب موجهة إلى الدكتور محمد صلاح الدين وزير الخارجية المصرية آنذاك، وقد اكتشفت في أوراق الدكتور طه حسين الخاصة، فلعل وزير الخارجية قد حولها إلى الدكتور طه حسين باعتباره جهة اختصاص فقد كان وزيرًا للمعارف في ذلك الحين، والرسالة مؤرخة في 18أكتوبر 1950م في فترة الوزارة الوفدية ومكتوب عليها (سري خاص) وقد أشر عليها الوزير في 1/11/1950م بالآتي: "صورة خطاب وصل في ظرف معنون باسم السفير" ...

كانت مصر في ذلك الحين تشتعل بروح وطنية ويحرك أبناءها وقادتها روح التضحية والنبل، والعمل من أجل أهداف كبيرة تتعلق بمستقبل المنطقة ككيان مستقل يسعى إلى التميز وتحمل رسالة علال الفاسي تقديرًا لدور مصر والحب لأبنائها والغيرة على مصالحها.

الصراع بين الشرق والغرب صراع تقليدي منذ أن عرف الناس معنى الشرق ومعنى الغرب، قد يهدأ لفترات ولكنه لا يخبو، وقد يتحول من صراع عسكري إلى صراع حضاري، ولكنه لا يتوقف، والدعوة إلى السلم العالمي لا تعني إنكار حقيقة هذا الصراع ولكنها لا تعني تحويله إلى صراع حضاري وتنافس شريف، تلك حقيقة يعرفها الشرق قبل الغرب ويعرف ملابساتها التاريخية وظروفها الواقعية

وحينما أطلق "كبلنج" صيحته الشرق... شرق، والغرب... غرب، ولا يلتقيان فإنه كان يشير إلى هذه الحقيقة، ويشير في نفس الوقت إلى وعي الإنسان الغربي بهذه الحقيقة ومنذ فترة مبكرة، ولكن بعض الضعاف من أهل الشرق يتهرب من هذه الحقيقة ويرى في التأكيد على حتمية الصراع بين الشرق والغرب نوعًا من التعصب الأعمى لا يليق بالإنسان المتحضر، وهو صراع له ما يبرره من واقع الحضارات حضارة الشرق غير حضارة الغرب...

الحضارة الشرقية دينية في المقام الأول ومنذ الأزل، تتخذ من الوحي الذي أنزل على النبي –صلى الله عليه وسلم، النموذج الأصيل الذي يفوق كل نموذج ويحتويه. والحضارة الغربية فلسفية بالدرجة الأولى ومنذ الإغريق تتخذ من الفيلسوف النموذج الأمثل الذي يتوارثه الآباء عن الأجداد.

وهنا تأتي أهمية التركيز على الدين كغيرة تحمينا من التلاشي في كوكبة الآخرين وهي حقيقة يؤكدها التاريخ والواقع المعاصر، فالتاريخ يؤكد على أن الشرق هو مهد الديانات وكل تغيراته الكبرى إنما تعتمد على الدين وتشتعل بالدين، وتهدف إلى غايات دينية سامية. والواقع المعاصر يؤكد هذه الحقيقة، فكل الحركات التحررية ضد الاستعمار الدخيل إنما استمدت وقودها من الدين وقدمت شهداءها باسم الدين، وتغلغلت في أعماق الجماهير متشحة بثوب الدين، لا فرق في ذلك بين مصر والسودان والعراق والشام والمغرب العربي.

فكل حركة كانت بعيدة عن الدين إنما هي تتصادم مع الثقل التاريخي ومع الوقائع الراهنة وسرعان ما تذوب في رمال الصحراء، وهذا يفسر محدودية الحركات التي قامت اعتمادًا على فلسفات خارجية، كانت تنبع في ذهن فئة من المثقفين، وتنحصر بين مجموعة من المتحمسين وسرعان ما تنطفئ ثم تنحسر وتنداح في لجة التاريخ. وكل حركة تعتمد على الدين إنما تضرب بجذور في قلوب الملايين التي تستجيب لها فطريًّا وعقيدة ومنهج حياة، وهي حقيقة يدركها كل مصلح يريد التغيير والنتائج الملموسة دون أن يتصادم مع الواقع والتاريخ، وقد أدركها من قبل الإمام محمد عبده، وأكدها في أحد مؤلفاته كحقيقة قائمة...

وأعتقد أن هذه الرسالة لها علاقة بما ذكرته في بحث سابق (نُشر في مجلة المجتمع الكويتية العدد رقم "1131 في 27/12/1994م) قبل نشر مقال الأستاذ الدكتور عبد الحميد إبراهيم في المجلة السعودية) من تناقض بين موقف كل من الدكتور محمد صلاح الدين والدكتور طه حسين بشأن كفاح المغاربة في سبيل عروبتهم وإسلامهم...

رغم أنهما كانا وزيرين في وزارة الوفد سنة 1950م إلى سنة 1952م، وإلى اعتراف جميع الوطنيين في شمال أفريقيا بالمواقف البطولية للدكتور صلاح الدين لصالح قضاياهم، وخاصة فيما يتعلق بتأييد مصر والجامعة العربية لجبهة تحرير ليبيا في مطالبتها باستقلالها ووحدتها

ودفاعها عن قضية المغرب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في الدورة التي عقدت في باريس في خريف عام 1951م، الأمر الذي حظي بتقدير جميع الوطنيين في أقطار أفريقيا الشمالية، وأشرت إلى مدى تقديرهم له وحبهم لمصر وتعلقهم بها، وأملهم في مواصلة دعمها لكفاحهم ضد الاستعمار الفرنسي من أجل العروبة والإسلام والاستقلال.

لقد استطردت إلى المقارنة بين المواقف البطولية الشجاعة التي اتخذها هذا الوزير الشاب (في ذلك الوقت) وبين تخاذل الدكتور طه حسين ومجاملته للفرنسيين والثقافة الفرنسية التي كان يعطيها الأولوية على الثقافة العربية، وأنه كان يفضل التبعية للثقافة الفرنسية على الدفاع عن الأدب العربي الذي تطوعت بعض الجهات لإعطائه صفة العمادة له... وكنا نود لو أنه اعتز بهذه الصفة واستند إليها للدفاع عن لغة العرب وثقافتهم.

ولا أدري كيف حصل كاتب المقال على نص هذه الرسالة التي يقول إنها اكتشفت في أوراق الدكتور طه حسين الخاصة، لكنها تلقي بعض الضوء على ما ذكرته بشأنه قرار الحكومة المصرية إنشاء معهد مصري في طنجة. ويتبين من هذه الرسالة أن إعلان طه حسين عن مشروع معهد في الجزائر، كان بتحريض من فرنسا وعملائها لصرف النظر عن مشروع مدرسة طنجة؛ لأن إنشاء المدرسة المصرية في طنجة وهي مدينة دولية في ذلك الوقت كان يضمن لها البقاء والاستمرار بسبب خروجها عن نطاق السلطات الفرنسية في شمال أفريقيا

فابتكروا فكرة إنشاء معهد في الجزائر على يد "طه حسين" بقصد تعطيل هذا المشروع الذي بدأته مصر وألح علال الفاسي في سرعة تنفيذه، وبعد أن نجح طه حسين في تعطيل مشروع طنجة بالتلويح لنا بمشروع معهد في (الجزائر) إذا بنا نفاجأ بتعطيل مشروع معهد الجزائر بقرار من "طه حسين" داعية الفرانكفونية الذي يصر كثيرون على إعطائه صفة عميد الأدب العربي...

في كتاب حديث للأستاذ الدكتور "محمد عمارة" بعنوان "الإسلام بين التنوير والتزوير" أن الآراء الشاذة التي انتقدت في كتاب الإسلام وأصول الحكم" الذي نشره الشيخ "علي عبد الرازق" وهاجمه كثيرون. قد أعلن تراجعه عنها وتبرأ منها قائلاً: "إنه رأي ألقاه الشيطان على لسانه"

وقد تساءل المؤلف عمن يكون هذا الشيطان الذي أشار إليه "الشيخ علي"، ونقل عن جريدة "الوفد" أن أحد علماء الأزهر وهو الشيخ "أحمد مسلم" الذي كان صديقًا للشيخ "علي عبد الرازق" ولأسرته صرح بأنه "الشيخ علي" قال له بالحرف الواحد "لست أنا الذي ألف هذا الكتاب، إنما مؤلفه الدكتور طه حسين"، بل إن "طه حسين" فاجأه بنشر الكتاب وعليه اسمه...

ويضيف الدكتور "محمد عمارة" تعليقًا على هذه الشهادة أنه من المؤكد أن "طه حسين" قد شارك في تأليف الكتاب بصورة أو بأخرى، واستشهد بما نشره الدكتور "محمد الدسوقي" في كتاب بعنوان "طه حسين يتحدث عن أعلام عصره" حيث قال إن "طه حسين" نفسه أكد له أنه قرأ أصول الكتاب قبل طبعه ثلاث مرات وعدل فيه كثيرًا.

وانتهى الدكتور "عمارة" إلى أن هذا الكتاب الذي أنكر الأصول الإسلامية في النظام السياسي، والذي انتقده كثيرون وخاصة الشيخ "محمد بخيت" كان "شركة بين علي عبد الرازق وطه حسين" ... ولم يكن من تأليف الشيخ علي عبد الرازق وحده... كما أن الدكتور "عمارة" نقد كتاب "طه حسين" بعنوان "مستقبل الثقافة في مصر" الذي اعتبره نموذجًا للدعوة إلى تقنين وتكريس الارتباط بالغرب "فرنسا على الخصوص" ومقاومة الاتجاه لتقنين الشريعة وتطبيقها، وأنه يؤيد ما تدعيه الدول الغربية "وفي مقدمتها فرنسا التي كانت أكثر الدول تشددًا ضد مصر في مفاوضات مونترو"

بقبول ما يردده أصدقاؤه الفرنسيون بقوله:

"لقد التزمنا نحن المصريين الموالين لفرنسا أمام أوروبا "فرنسا" أن نذهب مذهبها في الحكم ونسير سيرتها في الإدارة، ونسلك طريقها في التشريع "وهذا بيت القصيد" وهل كان إمضاء معاهدة إلغاء الامتيازات إلا التزامًا صادقًا قاطعًا أمام العالم المتحضر (فرنسا) بأننا نسير سيرة الأوروبيين (الفرنسيين) في الحكم والإدارة والتشريع....

هذا يكفي لتأييد ما قلناه من أن "طه حسين" لا يفكر إلا في اتباع فرنسا وتأييد ادعاءاتها ضدنا، وخاصة في تطبيق الشريعة الإسلامية...

دور القوى الأجنبية في الشقاق الحزبي 1960م

إن دراستنا للخطوات التي واجهت فيها الحركات الوطنية ظاهرة التمرد على الزعامات الإسلامية الأصيلة التي بدأت الكفاح الوطني تؤكد أن الاضطهاد والقمع الاستعماري الذي استهدف هذه القيادات قد ساهم في إحداث هذه الانقسامات، وأن بعض الجهات الأجنبية وكثيرًا من عناصر القوى المالية والسياسية الموالية لها قد ساهمت إلى حد كبير في تدعيم التيار الذي يمثل ذوي الثقافة العصرية والأجنبية في بعض البلاد حتى أصبح من ينتسبون إليه يطمعون في احتكار السلطة الوطنية...

لقد كان هذا واضحًا في تونس إذ إن موقف الإدارة الفرنسية والإعلام الداخلي والخارجي والعناصر الماسونية والمراكز المالية كان لها دور كبير في إحداث هذه الانشقاق وفي تشجيعه، وفي تمكين بورقيبه المنشق وجماعته من النمو ومن القضاء على القيادة الإسلامية لحزب الدستور القديم، وترجيح كفة المثقفين بالثقافة الفرنسية أو اللادينية في هذا الحزب الجديد

ونتيجة لذلك نجد هذا الحزب قد استدرج قادته في طريق الاتصال والتعامل مع القوى الأجنبية، بل والتعاون معها على أساس الوحدة الثقافية، ووصل إلى حد التحالف معهم ثقافيًّا، لا ضد العلماء فقط، بل ضد العقيدة الإسلامية والثقافة الإسلامية واللغة العربية التي ما زال كثير منهم يهاجمونها بعنف وشدة ويتباهون بالفرانكفونية ويروجون لها حتى اليوم ويعتبرون أنفسهم قادة لهذا الاتجاه ويتحالفون مع سنجور السنغالي من أجل ذلك.

فيما يتعلق بحزب الشعب فقد بينا أن القسوة التي كان يتعامل بها الاحتلال الفرنسي مع القيادات الإسلامية الأصيلة لم تكن تقل عن القسوة التي استعملها الفاشيست لإبادة القيادات الإسلامية في ليبيا، ولكن الحق هو العلماء الجزائريين استطاعوا أن يحافظوا على حركتهم الثقافية العربية متحصنين بالمساجد والمدارس

وبعض المجلات العربية التي استطاعوا أن يجعلوها لسان حالهم حتى كونوا مدرسة للثقافة الأصيلة وجيلاً من الشباب الناشئ الذين يؤمنون بالإسلام، وهؤلاء الشباب انضم كثير منهم إلى الحزب الوطني وجبهة التحرير فيما بعد، وكان لهم تأثير كبير في داخل الحزب وحتى الآن في داخل جبهة التحرير الوطني بعد إنشائها وبعد الاستقلال

وكانوا هم رأس الجسر الذي أوصل العلماء إلى المشاركة في الجبهة في الوقت الذي حُوصر فيه حزب الشعب الذي بدأ التمرد على العلماء كما هو معروف وتخلف عن الجهاد المسلح عندما بدأته جبهة التحرير عام "1945" ... هذه الظاهرة المتعددة وقعت في أوقات مختلفة بحسب ظروف كل قطر وبحسب مدى تغلغل الثقافة الغربية فيه، وفي الحقيقة أن الثقافة الغربية الفرنسية كانت أكثر تغلغلاً في تونس منها في البلاد الأخرى، ولذلك فإن التمرد على القيادات الإسلامية كان مبكرًا وخصوصًا بسبب النشاط اليهودي والماسوني الكبير في تونس.

أما في الجزائر فإن الانفصال عن الثقافة الإسلامية بسبب تأثير الثقافة الغربية لم يظهر في نطاق المثقفين فقط، وإنما ظهر تأثيره في القيادات العمالية أيضًا، وهذه ظاهرة لها آثارها البعيدة في الحركة الوطنية الجزائرية حتى اليوم، إن "مصالي حاج" وقيادات حزبه كانوا عمالاً وتتلمذوا على النقابات اليسارية في فرنسا وتأثروا بالتيارات العمالية والاشتراكية الغربية

وهذه الجرعات التي تناولوها من الثقافة العمالية الاشتراكية كانت عنصرًا من العناصر الفعالة في تمردهم المبكر على العلماء وعدم قبولهم لقيادة هؤلاء العلماء، وزاد في ذلك حاجز اللغة، فحزب الشعب كانت أغلب قياداته العمالية لم تتعلم اللغة العربية في مدارس جمعية العلماء وكانوا في بعض الأحيان يستعملون اللغة الدارجة، ولكن كانت اللغة الشائعة عندهم هي اللغة الفرنسية، في حين أن العلماء كانت لغتهم هي اللغة العربية، وهذا الحاجز اللغوي كان من أسباب الانفصال الثقافي، وساهم في إيجاد هذا الفصام بين قيادة العلماء وبين قيادات حزب الشعب قبل إنشاء جبهة التحرير...

إن الإسلاميين عمومًا وجمعية العلماء بصفة خاصة كانوا لا يفرقون بين الوطنية والجهاد الإسلامي، ولا يعترفون بالعمل السياسي الذي تمارسه الأحزاب "الوطنية" ، ويعتبرون الجهاد المسلح هو باب الكفاح الوطني ووسيلته الأولى، ولهذا السبب فإنه عندما وصل الكفاح الوطني إلى اقتحام باب الثورة المسلحة على يد جبهة التحرير كان العلماء وتلاميذهم أول من انضم إليها، في حين أن حزب الشعب نفسه تخلى عنها وقاومها بكل أسف متمسكًا بزعامة "مصالي حاج" ...

وفي حزب الاستقلال كان التمرد في الحقيقة تمردًا ثقافيًّا، والذين انشقوا على الحزب أو بدءوا التمرد على "علال الفاسي" كانوا أيضًا من خريجي المدارس العصرية والمدارس والمعاهد الفرنسية والثقافة الفرنسية الحديثة المحرومة من الثقافة الإسلامية رغم توفر العاطفة الإسلامية لديهم والذين عرفتهم في فرنسا، من أمثال بن بركة، وعبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بو عبيد، وعبد الرحمن اليوسفي، هذه المجموعات كانت أكثر تشبعًا بالثقافة الفرنسية وكانوا يشعرون بأنهم يملكون شيئًا لا يستطيع أن ينافسهم فيه علال الفاسي الذي تخرج من القرويين ولا أمثاله من الفاسيين...

إن هذه الظاهرة في الحقيقة يجب اعتبارها ظاهرة ثقافية أكثر من اعتبارها ظاهرة سياسية إنها نتيجة الانفصال الثقافي عن منابع العلوم الإسلامية ومؤسساتها التي جمدها العلماء وحصروها في إطار ضيق وعزلوها عن العلوم الحديثة التي اتسع نطاقها وأصبح لها جاذبية كبيرة واستقطبت الجماهير والشباب

فهؤلاء الشباب وهذه الجماهير رغم احترامها للعلماء وقيادات العلماء إلا أنها بدأت تعتقد أو تظن بأن هذه القيادات لا تستطيع أن تقوم بالدور الذي يحتاجه الكفاح المسلح وأساليبه العصرية على الساحة الوطنية في صورة أحزاب وطنية تستطيع أن تخاطب العدو الأجنبي بلغته الفرنسية وتفاوضه لكي تستخلص منه الاستقلال وقد أدى الأمر ببعضهم في تونس إلى أن يتخلى عن ثقافة الأمة وبعض مظاهر تاريخها وهويتها الإسلامية مقابل الاستقلال المحدود الشكلي كما حدث إلى حد كبير لدى بورقيبه وحزبه.

ويجب ألا ننسى أن هذا التخلي عن الأصالة في حدود متفاوتة في البلاد العربية قد تم بصورة كاملة في كثير من البلاد غير العربية حيث نجد أن الحركات الوطنية كلها تقريبًا ابتداءً من الهند وكل البلاد الأفريقية غير العربية الإسلامية منها وغير الإسلامية فيها استطاعت أن تحصل على الاستقلال السياسي بالمفاوضات مقابل تنازلات خطيرة وكبيرة أهمها التنازل عن أصالتها المتمثلة في اللغة العربية التي كانت اللغة الوطنية في عهد الاستعمار لدى جميع الشعوب الإسلامية

حتى إن هذه الدول الناشئة قبلت جميعها تبني اللغات الأجنبية والتباهي بها وتحويلها إلى لغات رسمية والآن يعتبرونها لغة وطنية، ولم يقتصر التنازل أو التخلي عن اللغة بل امتد إلى الثقافة بكاملها، فأصبحت ثقافة تلك البلاد ثقافة فرنسية في البلاد التي كانت تحتلها فرنسا، وثقافة إنجليزية (بما في ذلك القوانين نفسها) في البلاد التي كانت تحتلها بريطانيا (في الهند أو في جنوب شرق آسيا وأفريقيا)

إنها قبلت مبدأ الاندماج في اللغة والثقافة الاستعمارية، والأخطر من ذلك أنها قبلت الاندماج في الاقتصاد الاستعماري في إطار مجموعة الدول الفرانكفونية بالنسبة للدول الناطقة بالفرنسية أو الكومنولث البريطاني بالنسبة للناطقين بالإنجليزية وهي مجموعات اقتصادية وثقافية قبل أن تكون سياسية. إن الحركات الوطنية "والزعامات ذات الثقافة العصرية" في كثير من البلاد قد حصلت على استقلال سياسي مجرد عن أي مظهر من مظاهر الاستقلال الاقتصادي والثقافي واللغوي فماليتها ونقوذها وكل اقتصادها تابع للاقتصاد الاستعماري، وثقافتها ولغتها ذات طابع استعماري وتزداد هذه التبعية يومًا بعد يوم

بل قد بدأت عملية التنكر للعقيدة نفسها في بعض البلاد مثل تركيا وأندونيسيا، وهذه ظاهرة تشاركها فيها بعض الأحزاب الوطنية في العالم العربي مثل حزب "البعث" العفلقي ومن حذا حذوه ممن يرفعون شعارات قومية من الناصريين ليعلنوا بذلك تنكرهم للشعارات الإسلامية، بل ومعاداتهم لدعاتها وجماهيرها في البلاد التي سيطروا عليها...

أما الأحزاب الوطنية في أفريقيا الشمالية فإنها قاومت الضغوط والإغراءات الاستعمارية التي كانت تحاول دفعها إلى "الفرانكفونية" للتخلي عن اللغة والثقافة العربية والفضل في ذلك يرجع إلى أن بدايتها كانت على يد الإسلاميين في حين أن البلاد غير العربية بدأت الأحزاب الوطنية فيها على يد نقابيين أو زعماء من ذوي الثقافة الأوروبية، ولكن بورقيبه وجماعته شذوا عن هذا الاتجاه الأصيل ورفعوا شعارات الفرانكفونية...

إن التيار الإسلامي لا يطفو على السطح، ولم يستطع أن يحافظ على مركزه القيادي في مرحلة الكفاح الوطني بالأساليب السياسية؛ لأنه لا يتقنها، ولكن عندما يفتح باب المجابهة بالقوة وتلجأ الحركة الوطنية إلى اقتحام ميدان الفداء والاستشهاد ففي هذه الحالة يتقدم الإسلاميون الصفوف ويستنفرون الجماهير والأفراد للجهاد التزامًا بمبادئ الإسلام الأصيلة التي توجب على كل فرد أن يخرج لقتال أعداء الإسلام دفاعًا عن دار الإسلام، وأنه لا ولاية لغير المسلم في دار الإسلام...

نعتقد أن الصراع بين أصحاب الثقافة الإسلامية الأصيلة، وضحايا الغزو الثقافي من المتأثرين بالاتجاهات الغربية المعادية للأصالة بحجة أنها عصرية، لم يعد موضوعًا حزبيًّا، لا في داخل الأحزاب ولا بين الأحزاب، بل تتضح الأمور أكثر وأكثر عندما تنحاز أغلبية الجماهير للأصالة ومقاومة التبعية للقوى الأجنبية التي يصبح أعوانها وعملاؤها أفرادًا مصابين بمركب النقص، ينفذون خططًا أجنبية مرفوضة عليهم بسبب حاجتهم إلى المساعدات الأجنبية لبقائهم في السلطة أو مراكز القوة التابعة للحكومة أو القوى الأجنبية...

هؤلاء الحكام الوطنيون الذين يتشبسون بالسلطة ويقبلون الخضوع للتوجيهات الأجنبية "مكرهين أو راضين" ، كانوا يغالطون أنفسهم بأن ذلك هو اعتدال وطريق إلى التحديث أو مجاراة العصر، والآن قد فقدوا ثقة الجماهير لأن كثيرًا من ذوي الثقافة العصرية أصبحوا الآن أكبر أنصار الأصالة والشريعة، ومن أكبر مقاومي التبعية للقوى الأجنبية...

البورقيبية وزعيمها "المناستيرلي"

في ربيع عام 1960م – أول عام قضيته في الرباط بالمغرب – أثناء لقاء لي مع السيد الحبيب الشطي الذي كان سفيرًا لتونس بالرباط في ذلك الوقت، حدثته عن ذكريات رحلتي الأولى إلى تونس في عام (1948م)، فاقترح علي أن أزور تونس بعد استقلالها لأرى ما حدث فيها من "تطور" على يد الرئيس الحبيب بورقيبه

ووجه لي الدعوة لحضور "مولد الرئيس" الذي يحتفل به في شهر أغسطس من كل عام، وتبادلنا الأحاديث حول ولع سكان أفريقيا الشمالية بالموالد، وأشار إلى أن كل مدينة أو ناحية لها مقام لأحد الأولياء يعتبرونه "حامي" حماهم ويسرفون في احتفالاتهم بهذه الموالد.

قلت له إنني ألاحظ أن كثيرًا من أصحاب الأهواء والمصالح يستغلون الاحتفالات الشعبية بالموالد لترويج تجارتهم أو أفكارهم وخاصة الشطحات التي يغرم بها الحرفيون، والبضائع الفاسدة التي يعرضها التجار والاستغلاليون، وأشرت إلى الضجة التي تروج في صحف المغرب بشأن كارثة الزيت المغشوش الذي دفع به بعض التجار الجشعين إلى السوق في مناسبة المولد النبوي الذي حضرته فور وصولي إلى المغرب هذا العام

وإلى أن مئات من الأشخاص قد ماتوا بسببه أو أصيبوا بأمراض خطيرة، وإنني شخصيًّا قاسيت من هذه الحلوى المسمونة التي قدمت لنا في حفل المولد، وأن قاضيا المتهمين بترويج هذه "الزيوت" ما زالت تعرض على الدائرة الجنائية بالمجلس الأعلى التي أنا عضو بها. قال: إن احتفال "مولد الرئيس" في تونس هو احتفال رسمي لا شعبي؛ ولذلك فسوف لا أتعرض للحلوى المغشوشة، وسيكون الرئيس بورقيبه سعيدًا للقائك بعد أ، أصبح "رئيسًا للجمهورية" ، وعرفت منه أن صديقي السيد "حمادي بدره" هو الآن سفير تونس في روما وسيكون سعيدًا بلقائي ويسهل لي كل إجراءات السفر.

لقد كنت مترددًا في الذهاب لتونس؛ لأنني أعرف ما أعلنه بورقيبه من اتجاهات أثارت الإسلاميين في تونس وغيرها، وخاصة إلغاء جامعة الزيتونة وإصدار ما سماه مدونة الأحوال الشخصية البورقيبية، وما يقال عن إنكاره لفريضة الصيام، ودعوته أعضاء حزبه للإفطار كما دعا الجميع لذلك... لذلك آثرت قضاء عطلة الصيف في أوروبا، ولكني عندما كنت هناك اتصلت بالسيد حمادي بدره في روما فألح علي في زيارته وشجعني على السفر إلى تونس، كما شجعني على ذلك بعض أصدقائي في أوروبا من الطلاب والشباب؛ لأن وجودي هناك سيكون فرصة للاتصال بعدد كبير من شباب التيار الإسلامي وشيوخه

وسيشجع كثيرين على تبني الآراء الاستقلالية والأصولية، وعندما وصلت تونس التقيت بالسيد علال العويتي مدير مكتب الرئيس بورقيبه الذي عرفته في مصر والذي أعد لي برنامج الإقامة في تونس وحدد لي موعدًا لمقابلة بورقيبه الذي دعاني للغداء معه في قصر "قرطاج" .

بعد الغداء مع الرئيس طاف بي في أبهاء القصر، وخاصة ذلك البهو الذي علقت فيه لوحات زيتية تمثل "بايات تونس" ، وذكر لي أنه استقدم مهندسًا عالميًّا لإنشاء هذا القصر لأن "البايات" كانوا مفلسين ولم يتركوا في تونس قصورًا مثل القصور التي أنشأها حكام مصر (وذكر لي قصر القبة وعابدين والزعفران في القاهرة وقصر رأس التين والمنتزه في الإسكندرية) أما هنا فانظر إلى هذا المبنى المجاور الذي كان قصر الباي المخلوع فإنه لا يصلح لشيء ولذلك اضطررت إلى إنشاء هذا القصر، وتكلف مبلغًا كبيرًا لكنه يستحق كما ترى!!

أكد بورقيبه شخصيًّا علي لحضور الاحتفال بعيد ميلاده في مدينة القيروان التاريخية، وقبل أن أغادر العاصمة زرت ساحة الغنم ومعهد المعلمين الذي نزلت به في زيارتي السابقة في عهد الحماية، كما زرت معقل الزعيم وهو منزل بورقيبه الذي التقيت فيه مع المنجي سليم في تلك الزيارة، ثم ذهبت إلى مدينة (الحمامات) وقضيت هناك فترة في فندق "الفراتي" حتى جاء موعد الذهاب إلى القيروان

وهناك أخذوني إلى مسجد القيروان الشهير وفوجئت بأنني جالس إلى جانب السيد محمد صادق المجددي سفير الأفغان في مصر الذي كان لنا به علاقة وثيقة، ورأينا الرئيس بورقيبه يصعد المنبر ويلقي خطبته المشهورة التي أعلن فيها من منبر "عقبة بن نافع" أنه باعتباره ولي الأمر قد اجتهد وقرر أن تونس في مرحلة جهاد لبناء اقتصاد وطني، وصوم رمضان يضعف قدرة الناس على العمل من أجل البناء "الاقتصادي" ولذلك فإنه رأى عدم وجوب الصوم، رغم ما يقوله بعض العلماء "التقليديين" الذين لا يهتمون بمراعاة مقتضيات وظروف العهد الجديد.

وفي اليوم التالي دعينا لزيارة بورقيبه في مقره الرسمي وجلست على يمينه بجوار المرحوم الشيخ المجددي، وكان أول ما قاله بورقيبه أنه سألني عن رأيي في خطابه بالأمس فقلت له إن هذا موضوع يحتاج إلى حديث على شاطئ "النيل" إن كان عندكم نيل في "تونس"، قال نعم عندنا وادٍ، وسوف أذهب إليه غدًا للاستجمام هناك، فيمكنك أن تحضر لي يوم الأحد القادم

وقد قال لي الشيخ المجددي معاتبًا بعد ذلك إنه كان يريد منك أن تثني على خطابه وتؤيد صراحة أو ضمنا ما دعا إليه بشأن الصوم، قلت له أنت أولى بذلك لأنك من كبار العلماء قال أعوذ بالله، إنه بلاشك يعرف رأيي مقدمًا؛ ولذلك سألك أنت ولم يسألني، ويكفيه حضوري ولو كنت أعرف ما سيقوله لما حضرت إلى تونس مطلقًا.

في القيروان دعينا لمرافقة الرئيس وحاشيته في موكبه لافتتاح أحد المشروعات، وتصادف أن كان بجانبي في الكوكب أحد أعوانه من الوزراء المقربين وهو السيد أحمد بن صالح الذي كانت لي به وبأخيه محمد بن صالح علاقة وثيقة أثناء دراستنا في باريس وقام بدور هام في زيارتي "للمنصف باي" في مدينة "بو" بفرنسا كما أنه رتب لي لقائي بزعيم الاتحاد التونسي للشغل الشهيد "فرحات حشاد" ، وكان أحمد بن صالح متحمسًا للاشتراكية العمالية وكانت له صلة وثيقة بالزعيم بورقيبه لكنه انقلب عليه فيما بعد وحكم عليه بالإعدام فهرب من تونس ولم يعد لها إلا بعد الانقلاب عليه

وأثناء سيرنا أسر إلي أنه لم يكن يصوم رمضان من قبل ولكنه بدأ الصوم منذ أعلن بورقيبه معارضته لذلك وأن كثيرًا من التونسيين لم يكونوا حريصين على الصيام ولكنهم أصبحوا يتمسكون به لتأكيد معارضتهم لهذا "الاجتهاد" البورقيبي، وأ، الحزب يدرس اتخاذ إجراءات مشددة لفرض الإفطار على أعضائه وغيرهم من العاملين بالدولة وهذا يزيد سخط الجماهير على الحزب وحكومته.

أصر مرافقنا المعين من قبل وزارة الخارجية على أن نزور "المناستير" ؛ لأنها بلد الرئيس بورقيبه التي ولد فيها ونشأ، ويعطيها اهتمامًا خاصًا حتى إنه أنشأها مطارًا دوليًّا لتشجيع السياح على زيارتها، كما بنى فيها مسجدًا كبيرًا ومقبرة ليدفن فيها بعد عمر طويل وقد زرنا أيضًا القصر الذي بناه لنفسه على الشاطئ

وهو قصر فخم يليق بالزعيم المناستيرلي وبهذه المناسبة سألتني زوجتي عن معلوماتي عن "المناستيرلي" صاحب القصر الأثري الذي زرناه على شاطئ النيل في جزيرة الروضة عند مقياس النيل، ولكني بكل أسف لم أستطع أن أقدم لها أي معلومة عن ذلك المناستيرلي القديم، ويكفيني هذا المناستيرلي الجديد! كما انتهزت الفرصة وزرت جميع مدن الساحل التي زرتها في المرة السابقة عام 1947م.

زرت بورقيبه في استراحته لتوديعه وذكرت له سؤاله لي عن رأيي في خطابه بشأنا لصوم، وقلت له أنت تعرف السنهوري أستاذ الجيل، وله رسالة بالفرنسية قدمها لجامعة ليون عام 1936م بعنون "الخلافة" وبدأت بترجمتها، ورأيه في هذا الموضوع هو أن الإسلام لا يجيز لأي مجتهد "سواء كان عالمًا أو كان يتولى أمور المسلمين بأي صفة كانت" أن يفرض على الناس آراءه

لأن في ذلك حجرًا على حرية الاجتهاد التي يضمنها الإسلام لكل من يقدر عليه، كما أنه يصادر حق الأفراد في الاختيار بين المذاهب المتعددة والآراء المختلفة وإذا سمحنا لولي الأمر أن يفرض اجتهاده على الناس فمعنى ذلك حرمان غيره من ذوي الفكر والرأي أن يعلنوا ما يخالف رأيه وحرمان جمهور الناس حقهم الشرعي من الاستماع للآراء أو المذاهب المخالفة لرأيه والاقتناع بها والانحياز لها وقلت له إنني مستعد لكي أرسل له نسخة من هذه الرسالة وهي فرنسية، وليست من تأليف أحد من المشايخ "التقليديين"، وهنا توقف بورقيبه لحظة ثم قال إنه يعتبر أن من حقه أن بفرض رأيه على أعضاء الحزب؛ لأنه هو رئيس الحزب والمسئول عن نظامه وسياسته...

إن بورقيبه حاول الاستفادة من زيارتي أنا والسيد صادق المجددي في الدعوة لآرائه، إلا أن ذلك لم يقنع أحدًأ، وخاصة العلماء والشباب والطلاب من أعضاء التيار الإسلامي الناشئ الذين اتصلوا بنا وتحدثوا إلينا وعرفوا آراءنا واطمأنوا إليها، وعبروا لنا عن انتقاداتهم لبورقيبه وحزبه وأفكاره وسياسته المعادية للإسلام.

كان أول من اتصلت به في هذه الزيارة هو الشيخ الفاضل بين عاشور وغيره من العلماء الذين التقيت بهم في زيارتي السابقة في عهد الحماية، وكانوا في هذه المرة أكثر تشاؤمًا وشكا كثير منهم لي من الاتجاهات العلمانية واللادينية لبورقيبه وجماعته، والتي بدأها بإلغاء جامعة الزيتونة وإصدار مجلة "الأحوال الشخصية" التي لا يقرون ما فيها من أحكام تتعلق بتحريم تعدد الزوجات والطلاق...

وبهذه المناسبة فقد لاحظت فيما بعد أن فكرة إلغاء الجامعات الإسلامية كانت دائمًا من أهداف الخطط الماسونية والصهيونية، وإن كانوا يستغلون في تنفيذها بعض الانتهازيين الذين يستولون على السلطة دون أن يكون لهم ثقافة إسلامية، وخاصة من درسوا في المدارس الأجنبية أو الحكومة العصرية أو المعاهد العسكرية

فهذا الصنف ليس له أي صلة بمنابع الثقافة الإسلامية ويسهل إغراؤه بالهجوم على المعاهد والجامعات الإسلامية، وأول من فعل ذلك هم الكماليون في تركيا، أما في العالم العربي فقد كان بورقيبه أول من أقدم على ذلك فألغى جامعة الزيتونة، وفي المغرب استطاع بعض المستشارين للملك محمد الخامس أن ينفذوا ذلك بحجة إدماج جامعة القرويين في جامعة تحمل اسم محمد الخامس مقرها في الرباط، وإن كانت أعيدت بعد ذلك كجامعة مستقلة.

وثالثة الأثافي هي "تطوير الأزهر" الذي نفذه عبد الناصر وأخيرًا تبعه في ذلك "القذافي" بإلغاء جامعة البيضاء الإسلامية التي أنشأها الملك السنوسي، ثم النميري الذي استغفله حلفاؤه الشيوعيون فكان أول ما قرره بعد نجاح انقلابه العسكري هو إلغاء جامعة أم درمان الإسلامية، بل وإلغاء المعاهد الدينية التابعة لها. إلى جانب العلماء الذين التقيت بهم في تونس في هذه الزيارة زارني عدد من شباب "الدعوة" الذين يمثلون الجيل الناشئ في التيار الإسلامي وكانوا يشكون من تخاذل العلماء التقليديين بقدر ما يشكون من تآمر بورقيبه وحزبه على الثقافة والفكر الإسلامي.

وفي الصيف التالي عام 1961م سمعت نبأ اغتيال صالح بن يوسف على يد أحد عمال بورقيبه <كان اغتياله في أحد الفنادق بمدينة فرانكفورت الألمانية على يد أحد أقاربه، وذلك في 12/8/1961م وأعلن ذلك بورقيبه بنفسه، وقدم له مكافأة على "وطنيته" ولذلك انصرفت نفسي عن التفكير في شئون تونس، وزدت اقتناعًا بأن مصير استقلال تونس وعروبتها وإسلامها سوف يتقرر في الجزائر، ولذلك وجهت كل جهدي للسير في طريق الجزائر...

تونس... زيارة ثالثة في عام (1966م) للدفاع عن "سيد قطب" وإخوانه

لم أكن بمصر عندما بدأت محنته "الإخوان" على يد السعديين في عام 1948م، لكن هناك دلائل كثيرة اكتشفتها فيما بعد وأقنعتني بأن الهجوم على الإخوان في مصر عام 1948م، ثم في عام 1954م وعام 1965م، قد ساهمت فيه ومهدت له واستفادت منه قوى أجنبية عالمية متعددة فلم يكن حدثًا محليًّا من صنع "عبد الرحمن عمار" أو "إبراهيم عبد الهادي" أو "جمال عبد الناصر" أو "علي صبري"

أو غيرهم ممن يوقعون على قرارات قد أعدت في أروقة المخابرات الأجنبية المعادية للإسلام، ودهاليز بعض الحكومات والدول الأوروبية أو الأمريكية، ولم يكن الذين وقعوها أو أعلنوها من الحكام إلا أدوات لتنفيذها سواء علموا أو لم يعلموا، وسواء كانوا مخدوعين أو متواطئين مع تلك القوى الأجنبية مثلها في ذلك مثل قرارات إلغاء الجامعات الإسلامية في ليبيا والسودان وفاس، أو ما يسمى "تطويرها" في الأزهر.

في عامي 1965 و 1966م أعلنت الحكومة العسكرية الناصرية الحملة على الإخوان للمرة الثالثة في خطاب ألقاه عبد الناصر في موسكو، وليس معنى ذلك أنها كانت لصالح الكتلة السوفياتية وحدها، بل إن القوى الاستعمارية الغربية والصهيونية قامت بدور كبير في التمهيد لها وتشجيعها وتدبيرها والاستفادة منها، وأنها دفعت أعوانها في كثير من الحكومات العربية الموالية لها للمساهمة فيها، "وما زالت تفعل ذلك للآن" وقد لاحظت ذلك في المغرب الذي كنت أقيم فيه بعيدًا عن مصر

حيث رسمت خطة إخراجي منه بواسطة الجنرال (أوفقير) والمستشار اليهودي المغربي "مكسيم أزولاي" رغم عدم علم الملك أو الحكومة بذلك، مما اضطرني للبحث عن بلد آخر أعمل به، وقد اتجهت إلى التعاقد مع ليبيا بعد أن دعاني لذلك وشجعني صديقي الدكتور محمود أبو السعود، وصديقي السيد منصور قدارة الذي كان سفيرًا بالمغرب

ثم صار وزيرًا للمالية في ذلك الوقت، وذهبت لزيارة ليبيا، وقدمني إلى عدد من الوزراء الذين كانوا حريصين على التعاقد معي، لكن بعضهم أسر إلي في حديث خاص أن الأمر انتهى إلى رفض ترشيحي، وأن مصادر خارجية غامضة هي التي أوعزت بذلك، فهمت أن لها علاقات بمخابرات وسلطات مصرية وأجنبية، واستسلم بعض حكام ليبيا ذلك الوقت لتوجيهاتها، فخرجت منها غاضبًا ساخطًا على حكامها

واستسلم بعض حكام ليبيا في ذلك الوقت لتوجيهاتها، فخرجت منها غاضبًا ساخطًا على حكامها وأخشى أن أكون قد دعوت عليهم فابتلاهم الله بمن هو أسوأ من عبد الناصر وقاسوا منه الأمرين، وأذكر أنني دعوت بعد ذلك على بعض اللبنانيين عام 1966م، فانتقم الله منهم بهذه الفتن والحروب الأهلية التي لا تنتهي بعد أن قام فريق منهم باعتقالي والتآمر علي من أجل المال الذي كانت السلطات الناصرية تنفقه بغير حساب لشراء العملاء لها في لبنان في ذلك الوقت...

اخترت في صيف "1965م" التعاقد مع "السعودية" وانتقلت إليها فعلاً، ولكن بعض القوى الخفية التابعة لعملاء الناصرية استطاعت الإيقاع بي عند مروري في بيروت حيث اعتقلت تمهيدًا لنقلي إلى مصر بوسيلة غامضة من أجل تعطيل ما أقوم به لمتابعة محاكمات سيد قطب وإخوانه في مصر والتعاقد مع محامين للدفاع عنهم.

وقد نجاني الله من هذا الكمين الذي خصصت له كتيبًا آخر، لكني بعد وصولي للرياض ذهبت لأوروبا أبحث عن موطئ قدم أستطيع فيه أن أقوم بشيء لصالح هؤلاء المعتقلين في مصر، فاقترح علي بعض أصدقائي أن أذهب إلى تونس؛ لأنها في ذلك الوقت كانت في أسوأ علاقاتها مع حكام مصر العسكريين، وكنت مترددًا في ذلك، ولكن صديقي الأستاذ هارون المجددي قال إن حكام تونس ليسوا أحسن من حكام مصر ولكنك مضطر للذهاب إليهم لأنهم يعارضون سياسة حكام مصر

وأنت لم تعد مرغوبًا فيك بالمغرب ولا بالجزائر، ومصر تطاردك، وسوريا كذلك، ولبنان قد أخرجتك بعد السجن، وحكمت عليك بالحبس غيابيًّا، فكل الشواطئ العربية مغلقة في وجهك، وتونس هي الثغرة الوحيدة التي تستطيع أن تمر فيها ومع ذلك فلن تستطيع الذهاب إليها إلا من أوروبا، ولن تستطيع السفر من السعودية إلى أوروبا إلا عن طريق إسطنبول، فلا تقلق على نفسك من هذه الزيارة؛ لأن الجميع يعرفون أن سياسة بورقيبه علمانية، لا دينية، فلن تتهم بالتحالف معه أو العمل لحسابه.

زرت تونس للمرة الثالثة في شهر يوليو عام 1966م في الوقت الذي كانت فيه محاكمات سيد قطب وإخوانه في أسوأ مراحلها، فالمحامون المغاربة الذين اعتمدت عليهم لم يستطيعوا الذهاب لمصر بسبب اعتقالي في بيروت، لكن ذهب فعلاً ثلاثة محامين من السودان فطردوا وأخرجوا من المحكمة إلى المطار بالقوة البوليسية

ومنعوا بذلك من حضور الجلسة، لكن مندوب مجلة العفو الدولية حضر الجلسة وقدم تقريرًا أدان فيه وسائل التعذيب والإرهاب التي استعملت في التحقيقات، والصحافة العربية الوحيدة التي نشرت هذا التقرير وشهرت بأساليب الحكم العسكري المستعملة ضد الإخوان هي الصحافة التونسية، وزادت حملتها على دكتاتورية عبد الناصر ودفاعها عن سيد قطب بعد وصولي لتونس، إذ صدرت بيانات بهذا المعنى من مجلس النواب ومن الحزب البورقيبي

واستقبلني بورقيبه وأعلن تضامنه هو وحزبه وبلاده مع الإخوان في مقاومتهم للحكم العسكري الناصري وأرسلت برقيات بهذا المعنى إلى مصر، ومن تونس ذهبت للمغرب، وصدر الحكم بإعدام سيد قطب وعدد من زملائه وأنا هناك، ولكني لم أيئس وسعيت في المغرب محاولاً أن يتوسط بعض قادتها لمنع تنفيذ الحكم، ولكني سمعت نبأ تنفيذ الحكم وأنا في المغرب فبكيت وبكى آخرون، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

ورغم أن وقوف حكام تونس بجانبنا في هذه المحنة لم يأت بأية نتيجة لصالح الإخوان في مصر إلا إنني استفدت من ذلك واعتمدت عليه عندما ذهبت إلى تونس بعد ذلك للمرة الرابعة والخامسة في محاولة التوسط لدى المسئولين هناك لصالح زعماء التيار الإسلامي الذين تنكر لهم بورقيبه وأعلن عليهم حربًا لا تقل ضراوة عن الحرب التي أعلنها عبد الناصر وغيره من حكام مصر على الإخوان.

لقد قلت لبورقيبه عندما حدثته بشأنهم إنك كنت مؤيدًا للإخوان ومدافعًا عن سيد قطب في عام1966م، والآن تعتقل أعضاء الاتجاه الإسلامي، متهمًا إياهم بأنهم من الإخوان أو إخوانجية "على حد تعبير الصحافة عندكم...". قلت له إن صحافته تصف المنتمين إلى الاتجاه الإسلامي بأنهم "إخونجية" وهي نفس العبارة الغوغائية التي استعملتها بعض أجهزة الإعلام في مصر في حملتها على الإخوان فرد علي قائلاً: إن الإخوان في مصر متنورون، أما الاتجاه الإسلامي في تونس فهما جماعة وجمعية يحركها مشايخ الزيتونة التقليديون.

ولم أذهب للجزائر ولكن جماعة القيم قامت بحملة كبيرة للدفاع عن الإخوان بعد اتصالي برئيسها صديق الأستاذ الهاشمي التيجاني، وبعد شهر واحد من إعدام سيد قطب قررت حكومة بمدين عام 1966م حل جمعية "القيم" (صدر بهذا الحل قرار من محافظ ولاية العاصمة الجزائرية في 12/9/1966م) التي كانت الجزيرة الإسلامية الوحيدة في بحر الحكم الشمولي الاشتراكي الذي بدأه بن بيللا في حكومته الأولى بعد الاستقلال.

وفي عام 1970 "صدر بهذا الحل الشامل لجميع أقاليم الجزائر قرار وزاري في 17/3/1970م" أعادت الحكومة الجزائرية برئاسة بومدين إصدار قرار حل جمعية القيم ومنع نشاطها في جميع أنحاء الجزائر، وبذلك تم حصار الحركة الإسلامية في العالم العربي الذي رسمت له ونفذته قوى أجنبية من أجل تنفيذ خططها الاستعمارية ومن أجل تدعيم إسرائيل والنفوذ الصهيوني في الشرق الأوسط

وإذا كانت قد نفذته حكومات عربية محلية فقد كان ذلك لغرض أناني محلي محدود هو بقاؤها في السلطة، وفرض دكتاتوريتها رغم إرادة شعوبها، معتمدة على المساعدات والقروض والدعم السياسي للقوى الأجنبية التي نعلم أن لها مصلحة أكيدة في القضاء على الإخوان، وخاصة فرنسا التي كانت تخشى الصحوة الإسلامية في الأقطار الإفريقية الخاضعة لها أو التي لها نفوذ ثقافي واقتصادي وسياسي فيها.

بعد اغتيال صالح بن يوسف نجح بورقيبه في تصفية كل من عارضه داخل تونس وخارجها، وتمت له السيطرة على شعب تونس بصورة كاملة، حتى إنه عدل الدستور في (10 مارس 1975م) ليكون رئيسًا في تونس مدى الحياة، وأعتقد هو وأنصاره أن كل تراب تونس ورمالها وشجرها ونباتها أصبح يسبح بحمده أو يسجد له

وأنه لا يوجد في أرض تونس شخص واحد يجرؤ على تحدي زعامته أو نقد سياسته فطغى وتجبر، حتى إن مستشاري السوء زينوا له أن يتطلع إلى مقام النبوة والقداسة، وأصبحت الإذاعة التونسية تفرض على مستمعيها أغلب الوقت خطبه وتصريحاته ومدائحه، حتى إنه في صباح كل يوم بعد أن تقدم دقائق معدودة من فرقة تغني إحدى المدائح "النبوية" في مدح الرسول الكريم، إذا بنفس الفرقة تشنف أسماعهم مدة نصف ساعة بمدح "بورقيبه"

وذكر أمجاده وبطولاته بأغانٍ وأناشيد وتسمى ذلك "مدائح وطنية" ، ولم يكتف بالدعوة لإفطار رمضان، بل أحل للناس شرب النبيذ بحجة أنه مصنوع في تونس، ولأن فرنسا أوقفت استيراده في فترة من الفترات للضغط على الحكومة التونسية فرأى بورقيبه أن يدعو شعب تونس إلى شربه حتى لا يضطر لإلقائه في البحر، فأصبح شرب النبيذ في دعاية حزبه عملاً وطنيًّا لصالح الاقتصاد الوطني مثل الإفطار في رمضان...

دفاع عن الاتجاه الإسلامي في تونس

رغم سيطرة بورقيبه وحزبه كان الاتجاه الإسلامي ينمو في صفوف الطلاب والشباب بزعامة راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو، وكانوا هم وحدهم الذين تجرءوا على نقد "الزعيم الأوحد" ومعارضته، ورفعوا الشعارات الإسلامية في نشرات وكتيبات محدودة، وانتشرت خلايا "الاتجاه الإسلامي" في جميع أنحاء تونس خلال السبعينات، وأصدروا أول مجلة لهم باسم "المعرفة" في عام 1973م

وفي عام 1977م بدأ تحرك الشباب الإسلامي بمعارضته سياسة بورقيبه وحزبه في التباهي بإفطار رمضان، فطالبوا في عام 1977م بإغلاق المطاعم والمقاهي في نهار رمضان، وفي عام 1979م أصبح شباب التيار الإسلامي أكبر قوة في صفوف الطلاب وقادوا إضرابات طلابية تطالب بالإصلاح.

لقد أثار ذلك بورقيبه وحكومته التي اعتقلت زعيم الحركة في شهر ديسمبر 1979م ثم أفرج عنه بعد عام لتهدئة الطلاب، لكن الاضرابات الطلابية زادت في عام 1981م، وبدءوا يعارضون ما يعلنه بورقيبه من إباحة شرب النبيذ للمسلمين، وعقد في ذلك العام أول مؤتمر تأسيسي حركة "الاتجاه الإسلامي".

في هذا الوقت كان بورقيبه يعد نفسه ليكون "ملكًا دستوريًّا" فأعلن مبدأ تعدد الأحزاب، وتقدمت عدة طلبات إنشاء أحزاب منها طلب باسم حركة الاتجاه الإسلامي فرفضت حكومة بورقيبه التصريح بهذا الحزب في حين سمحت لجميع التيارات الأخرى بما فيها الشيوعيون بإنشاء أحزاب، فزاد سخط الشاب وبدءوا يحتجون على مظاهر الإسفاف والمجون التي تروج لها الحكومة التونسية بحجة تنشيط السياحة

حتى إن بورقيبه قال في إحدى خطبه إنه لن يستقر له قرار حتى يرى كل شباب تونسي يسير في الطريق وهو يخاصر فتاة فرنسية، بل تونسية واستغل الصهيونيون ذلك فأنشئوا ناديًا للمجون على الشاطئ وسموه نادي البحر المتوسط، وما زال حتى اليوم وكرًا لنشاط مخابراتهم ومركزًا لجواسيسهم باسم السياحة وتحت ستارها.

كان رئيس الحكومة في عام 1981م هو السيد محمد مزالي، ولكي يهدئ من ثائرة الشباب والطلاب أعلن قرارًا يستجيب فيه لمطالبتهم بمنع فتح المقاهي خلال نهار رمضان لكن بورقيبه ثار على ذلك وأمره بإلغاء هذا القرار، ففعل ذلك، وأصدر قرارًا يدين فيه "الاتجاه الإسلامي" المحظور، وزادت وسائل القمع، لا على أعضاء الحركة وحدهم بل على كل التونسيين رعايا السيد "بورقيبه" ، وخيم البؤس على الشعب التونسي وزاد سخطه وبقي باب الأمل الوحيد له هو نمو الاتجاه الإسلامي وتزايد نشاطه.

في هذا الوقت أتيحت لي فرصة الذهاب إلى تونس لحضور ندوة ثقافية دعت إليها منظمة العلوم والثقافة والتربية التابعة لجامعة الدول العربية وكانت هذه هي الزيارة الرابعة لي في تونس، ولم أكن أعرف محمد مزالي رئيس الحكومة، وقد دعانا إلى حفل عشاء في قصر "الباي" في قرطاج فانتهزت الفرصة وتقدمت له على غير سابق معرفة وطلبت منه موعدًا لمقابلته مع بعض "إخواني" فحدده لي في اليوم التالي

وذهبت إليه ومعي صديقي الأستاذ الدكتور إسحاق الفرحان الأستاذ بجامعة الأردن في ذلك الوقت، وفوجئ عندما قلت له إننا من الإخوان المسلمين، وإنني كنت هنا آخر مرة في عام 1966م، عندما كانت الحكومة العسكرية في مصر تحاكم سيد قطب وزملاءه وقد وقفت معنا تونس رئيسًا وحكومة وحزبًا وصحافة وبرلمانًا وشهرت بأسلوب المحاكمات والأحكام الذي اتبعه عبد الناصر لاضطهاد الإخوان المسلمين، والآن نقرأ في الصحف أنكم تصفون المعتقلين من أعضاء الاتجاه الإسلامي بأنهم "إخوانجية" فهل تبيحون لأنفسكم ما تنكرونه على غيركم.

قص علينا السيد محمد مزالي تاريخ جماعة الإخوان المسلمين في تونس، ليبين لنا أنهم خارجون عن الدولة، وأنهم يهاجمون الرئيس بورقيبه شخصيًّا في نشراتهم وخطبهم وأنهم أعادوا تنظيم جماعتهم رغم أنهم لم يعترف لهم بصفة حزب من الجهات المختصة وأن الرئيس لذلك غاضب عليهم وأنه شخصيًّا لا يمكن أن يتخذ أي إجراء في شأنهم إلا بموافقته فقلت له إنني طلبت مقابلة بورقيبه وسوف أحدثه في هذا الأمر

ولكني أخاطبك الآن لأنك بحكم الدستور سوف تكون الرئيس بعده، وأنت تعرف أن هناك مراكز قوى داخل الحزب الحاكم بل وفي الحكومة ذاتها تعمل ضدك الآن وفيما بعد، وأعتقد أنك بعد اعتزال بورقيبه أو وفاته سوف تحتاج إلى سند شعبي ولن تجده إلا في الجمهورة الذي يؤيد الاتجاه الإسلامي الآن

فأرجو ألا تسير في خطة تحول بينك وبينه في المستقبل، وقد نصحني بمقابلة وزير الداخلية في ذلك الوقت وكلمه تليفونيًّا فحدد لي موعدًا، وقابلته واستمع إليّ واستمعت له، ولم أشعر بأن لقائي معه قد أدى إلى أي نتيجة؛ لأنه كان مشغولاً بشيء آخر فقد تبين فيما بعد أنه كان يدبر مؤامرة ضدي مزالي أدت إلى هروبه من تونس وغضب بورقيبه عليه والحكم عليه غيابيًّا.

لقد قابلت بورقيبه وذكرته بمواقفه معنا عام 1966م وأننا لذلك نخشى أن تكون سياسة حكومته إزاء "الإخوانجية" مناقضة لموقفه السابق، قال: إن هؤلاء ليسوا مثلكم إنهم رجعيون يدعون إلى الحكم بالقرآن الذي مضى عليه أكثر من ألف عام، وهم يهاجمونني شخصيًّا، لذلك يجب أن يؤدبوا!! قلت له إننا نعرف أنه تعاون مع كثير ممن عارضوه في الماضي، وأن السجن ليس هو الوسيلة للتأديب، وإننا نأمل أن يفتح لهم الطريق لتصحيح ما يأخذه عليهم من أخطاء وتوقفت عند هذا الحد، ولم أحصل منه على نتيجة سوى أنه سمح لي أن أناقش الموضوع معه بكل صراحة، وكان هذا مكسبًا استفدت منه فيما بعد.

تصادف أن جاء مزالي في زيارة للسعودية، والتقيت به في جدة في قصر الضيافة وذكرته بالموضوع فأبدى استعدادًا للحديث، وطلب مني أن أزوره في تونس وذهبت له ومعي صديقي "الدكتور أحمد فريد مصطفى" ، وجلسنا معه في منزله وتحدثنا معه طويلاً، وظهر عليه استعداد ليسمع دفاعنا عن المعتقلين من أعضاء الاتجاه الإسلامي وقلت له: إذا كانت هناك انحرافات فإنني أرجو أن يسمح لي بزيارتهم في السجن لإقناعهم بتصحيحها، فوعد ببحث ذلك مع الرئيس "بورقيبه"، وكان مطمئنًا لأن بورقيبه يعرفني شخصيًّا.

أبلغني بعد ذلك أن الرئيس غاضب عليهم؛ لأنهم يهاجمونه شخصيًّا، وهذا لا لزوم له، ولا يمكن أن يوافق على أي اقتراح بشأنهم إلا إذا بدرت منهم بادرة تنسيه ذلك فاقترحت عليه أن يفرج عن أحد قادتهم وهو الشيخ عبد الفتاح مورو المحامي الذي يحظى بسمعة طيبة بين المحامين، وقد احتجت نقابة المحامين على اعتقاله مرارًا، وهو مريض وزوجته مريضة وهذا يبرر خروجه لأسباب صحية

وأنا مستعد لإقناعه بالقيام بهذه المبادرة، وفعلاً أفرج عن الشيخ عبد الفتاح مورو، وأرسل برقية شكر لبورقيبه وتهنئة بمناسبة عيد ميلاده، وأخبرني السيد محمد مزالي بأنه قدمها بنفسه لبورقيبه، وأنه سر بها كثيرًا، وأن ذلك سوف يسهل مساعيه للإفراج عن بقية المعتقلين، وفعلاً نجح مزالي في الحصول على موافقة بورقيبه وصدر القرار بالإفراج عن جميع المعتقلين من الاتجاه الإسلامي.

لكن حاشية السوء استطاعت أن تؤثر على بورقيبه، فبدأ يفرك في إلغاء هذا القرار، ويتحدث عن نيته في إنشاء محكمة تحكم على زعمائهم بالإعدام، وكان ينوي توريط رئيس وزرائه زين العابدين بن علي في ذلك، وزين له بعض مستشاريه أنه بذلك سوف يتخلص من الإسلاميين ومن بن علي نفسه، ويظهر أن "بن علي" قد أبلغ بذلك من جهة ما، فسارع إلى تدبير انقلاب ضد رئيسه بورقيبه مؤجلاً موضوع التخلص من الإسلاميين إلى أن يستقر له الوضع، ويتأكد من تأييد بعض الدول الأجنبية بل والعربية كذلك، وهذا هو ما تم له بعد ذلك.

بين المغرب والجزائر 1962م... 1963م

كان أول ما استفدته من إقامتي في المغرب هو أنني كنت قريبًا من الجزائر واستطعت أن أتابع أحداث الثورة الجزائرية وأتتبع أخبارها ولكن من بعيد، وكان مندوب الحكومة الجزائرية المؤقتة وسفيرها هناك صديقي الدكتور شوقي مصطفاي الذي تعرفت به في باريس في أثناء إقامتي هناك

وكنت ألتقي معه أسبوعيًّا وكنا نتحدث عن تطورات الثورة الجزائرية ومستقبلها وكان أملنا أن تنجح هذه الثورة، ومن حسن الحظ أن مرور الأيام كان يبشر بنجاحها وكنا نتابع أخبار الشهداء الذين نعرفهم والذين كان لهم دور خاص مثل العربي المهيدي الذي كان إعدامه نقطة تحول في الثورة الجزائرية؛ لأنه زاد في اشتعال الثورة واضطهادها.

وكان أعضاء الحكومة الجزائرية المؤقتة يأتون إلى المغرب كثيرًا وخاصة رئيس الحكومة عباس فرحات الذي لم يكن لي به أي علاقة شخصية، ولاحظت أن اختياره روعي فيه أن يكون مقبولاً في الرأي العام الفرنسي نتيجة للحملة الإعلامية التي روجوها له في عام 1946م باعتباره يؤيد اندماج الجزائر في الاتحاد الفرنسي.

فهمت من الدكتور مصطفاي أن العلاقة بين المغرب والحكومة الجزائرية المؤقتة تتحسن يومًا بعد يوم، وأن القضية الأساسية في هذه العلاقات هي مطالبة المغرب بإقليم تندوف وهي منطقة كانت جزءًا من المغرب، ولكن الفرنسيين ضموها للجزائر قبل استقلال المغرب بمدة قصيرة في عام1954م، والمغاربة يعتبرون أن لهم الحق فيها، وطبعًا كانوا يتحدثون مع الجزائريين بشأنها

وفي هذا الوقت كان الجزائريون يتمنون الاستقلال، ولا يجدون مانعًا في أن تتم تسوية بينهم وبين المغرب في هذه القضية بعد الاستقلال، ويظهر أن المغابة اعتبروا أن هناك وعدًا من الحكومة الجزائرية المؤقتة بأن هذا الموضوع سيحل بعد استقلال الجزائر ولذلك كان الجزائريون يتمتعون بامتيازات كثيرة على الحدود الجزائرية المغربية، وكان لهم قوات هناك تتدرب وتتسلح، وطبعًا كان الفرنسيون يحتجون

ولكن المغرب كان مصممًا على مساعدة الجزائريين، وكان الملك محمد الخامس يقدم لهم جميع التسهيلات الممكنة، وكانوا سعداء بذلك وكان من أثر ذلك أن تونس كانت تضطر إلى أن تعمل نفس الشيء، وكان هناك أيضًا جيش جزائري في تونس يساهم في تغذية الثورة بالأسلحة والأموال والدخول والخروج وكان الفدائيون يدخلون ويخرجون إلى داخل الجزائر من المغرب وتونس ويحملون الرسائل والإمدادات وما إلى ذلك...

ومن ناحية أخرى كنا نتابع أخبار الزعماء الجزائريين المعتقلين في فرنسا، وكانت أخبارهم تدل على تحسن في معاملتهم حتى قيل إنهم ليسوا في سجن إنما نقلوا إلى إقامة جبرية في وسط فرنسا، وكان كثير من المغاربة يحصلون على الإذن من الحكومة الفرنسية بزيارتهم وغير المغاربة كذلك، ولكن طبعًا بإذن من وزارة الداخلية الفرنسية التي تعطي التصريح بالمقابلة. دعاني شوقي مصطفاي أن أذهب معه في رحلة إلى طنجة لاستقبال زوجتي محمد خيضر وحسين آية أحمد، وقد علمت أن زوجيهما نصحاهما بأن تذهبا إلى المغرب حيث لهما أقارب هناك وأنهما ستكونان أقرب إلى فرنسا.

لقد كنت أحب لقاءاتي مع شوقي مصطفاي وأصدقائه الجزائريين الذين كانوا يترددون على المغرب ويقيمون فيها، وكنا نتكلم دائمًا عن آمالنا بالنسبة للجزائر واستقلالها في مستقبل قريب، وعندما بدأت مفاوضات (أفيان) كنا نتبع أخبارها وكان هذا تطورًا مهمًا لأنه ظهر أن ديجول قبل مبدأ استقلال الجزائر، وكانت المناقشات والمفاوضات موضوعها بعض الشروط التي تطالب بها فرنسا في مرحلة الاستقلال

وكان صديقي الدكتور شوقي مصطفاي يقضي وقته في القراءة، وكانت هوايته صيد السمك وكان يخرج إلى الشواطئ القريبة والبعيدة مع بعض إخوانه لصيد السمك وذهبت معه إلى بعض الأماكن، وفي الصيف عام (1961م) كانت تأتيني رسائل في المغرب من محمد خيضر وزملائه، وكانوا يتابعون الكتابة إلي ورسائلهم كانت تأتي بالبريد العادي في بعض الأحيان مباشرة أو طريق الرسائل التي يرسلونها إلى أسرهم.

في سنة (1962م) بدأت المفاوضات بين الجزائريين والفرنسيين في (أفيان) بعد أن اقتنع ديجول بضرورة الحل السلمي عن طريق التفاوض، وقبل مبدأ الاستقلال وتصفية الوجود الفرنسي مما أدى إلى اتفاقيات (أفيان) المشهورة، ونفذتها فرنسا تنفيذًا حرفيًّا وكان أول خطوة هي إنشاء حكومة انتقالية تضم وزراء جزائريين وفرنسيين وكان يرأسها السيد مصطفاي وكان عمًّا لشوقي مصطفاي، وكان الذي رشحه هو الحكومة الجزائرية المؤقتة التي كانت في الخارج، وأعتقد أن ترشيحه كان بناء على اقتراح بن بيللا؛

لأن العلاقات بينهما كانت مستمرة عن طريق مدبر مكتبه الطالب الشاب محمد الخميستي الذي اختاره بن بيللا بعد ذلك أول وزير خارجية في حكومته، وكان هذا الاختيار محل دهشة كثيرين من زعماء جبهة التحرير لصغر سنه وقلة خبرته؛ لأنه كان طالبًا ترك دراسته في فرنسا قبل أن يتمها تنفيذًا لأمر أصدرته جبهة التحرير لجميع الطلاب الجزائريين في فرنسا في ذلك الوقت، وقد انتهى الأمر باغتياله قبل أن يتم عامًا في منصبه.

كانت مهمة هذه الحكومة الانتقالية هي أن تتسلم الإدارة من الفرنسيين وتسلمها للحكومة الجزائرية في مرحلة الاستقلال، وكان من ضمن شروط اتفاقية (أفيان) أن الفرنسيين الذين يريدون الخروج من الجزائر يخرجون، وفعلاً خرج أكثر المعمرين أو الاستعماريين الذين كانوا في الجزائر سواء كانوا هناك بصفة موظفين في الإدارة أو بصفة ملاك للأراضي يستغلونها، وتركوا أملاكهم ومساكنهم، وكان التنافس بين الجزائريين على الاستيلاء عليها له دور كبير في إحداث فتن داخلية واجتماعية وفساد أخلاقي أعتقد أنه ساهم إلى حد كبير في سخط الشعب على حكومات جبهة التحرير.

أفرج عن المعتقلين الجزائريين وأولهم بن بللا وأصحابه فجاءوا للمغرب ثم ذهبوا إلى مصر، وفي طرابلس ليبيا شكلت الحكومة الجزائرية المؤقتة بناءً على اقتراح بن بللا لجنة لإعادة ميثاق وطني سمي ميثاق طرابلس، وكان معه مجموعة من اليساريين الذين يريدون جعل هذا الميثاق وسيلة ليكون لهم دور توجيهي في الجمهورية الجزائرية بعد استقلالها

وكان الغرض من هذا الميثاق تحديد سياسة الحكومة الجزائرية على أساس اشتراكي يساري أو علماني بصورة تطمئن الفرنسيين على مصالحهم وعلاقتهم مع الدولة الجزائرية الجديدة، لذا رفعوا شعار الاشتراكية الذي يتضمن في نظرهم الإلحاد العلمي، وبذلك اتخذت الاشتراكية شعارًا ونظامًا مقبولاً لدى القوى الأجنبية؛ لأنه يمكن اتخاذه وسيلة لاستبعاد الإسلام بل والعروبة عند الاقتضاء، وقد وضع هذا الميثاق أحمد بن بيللا وحوله جماعة من المثقفين الجزائريين اليساريين الذين ترضى عنهم العناصر الاشتراكية في فرنسا

ولهم صداقات مع الأحزاب اليسارية في فرنسا ولقاءات متعددة مع بن بيللا في فترة الإقامة الجبرية في فرنسا كما فهمت أن عددًا منهم من الاشتراكيين والشيوعيين الفرنسيين الذين كانوا يقومون بدور في الدعاية للقضية الجزائرية في فرنسا في الرأي العام والصحافة، أو من المحامين الذين كانوا يقومون بالدفاع عن الجزائريين الذين يحاكمون في الجزائر أو في فرنسا

وكان هذا الاتجاه الاشتركي يرضي مصر في ذلك الوقت نظرًا لأنها كانت ترفع شعار الاشتراكية والتحول الاشتراكي وكانت تحارب الإخوان المسلمين ومن يدافعون عنهم بحجة أنهم أعداء الاشتراكية ومن أجل ذلك كانت العلاقات بين بن بيللا واليساريين الفرنسيين تحظى بتأييد السلطات الناصرية التي كانت تدفع الطرفين لمهاجمة الإسلام والإسلاميين لتبرير سياستها ضد الإخوان.

إن ميثاق طرابلس هذا كان يربط بن بللا والاشتراكيين والناصريين تمهيد لتسليمه السلطة بضمان فرنسا ومصر... بعد أن دخلت الجزائر مع بن بيللا وجماعته اكتشفت تدريجيًّا "ولكن بعد فوات الوقت" دلائل أقنعتني بأهم مؤيدون من قبل الحكم الناصري في مصر وحكومة المغرب وفرنسا بل ومن جماعة عباس فرحات واليساريين من اشتراكيين وشيوعيين وقوميين واكتشفت كذلك تدريجيًّا أن الاتجاه الإسلامي لم يكن له أي دور في هذه المجموعة.

إنني ذهبت معهم لأنني كنت قد تعهدت لهم بذلك منذ سنة 1956م، وكان أملي أن أستطيع وضع النصوص الدستورية التي تشير إلى الطابع العربي والإسلامي للجزائر المستقلة ونسيت أن هذه الجهات التي ساعدت بن بيللا وجماعته لكي ينفرد بالسلطة لن تسمح بذلك كما نسيت أنهم رغم علاقتي الشخصية بهم سوف يفضلون علاقتهم مع "مصر" وفرنسا ومع الاشتراكيين الفرنسيين والسوفيات واليساريين عمومًا على علاقتي بهم لأنني لا أمثل قوة سياسية فاعلة بعد أن تم ضرب "الإخوان المسلمين" وتفتيتهم في مصر منذ عام 1954م.

إنني موقفن منذ زمن طويل أن الهجوم على الإخوان منذ عهد فاروق ومن بعده لم يكن له أهداف داخلية في مصر كما يدعون، بل كانت تلح عليه قوى أجنبية منها فرنسا وبريطانيا والصهيونية العالمية؛ لأن قوة الإخوان كانت تهدد خططهم ومصالحهم في كثير من الأقطار العربية والأفريقية في مرحلة تصفية الاستعمار التي كانت في نظرهم مجرد مرحلة للتحول من أساليب الاستعمار القديم إلى الاستعمار الجديد الذي يعتمد على النفوذ الثقافي والإعلامي والاقتصادي، والذي تبين أنه يمكنهم من السيطرة على الدول والحكومات الوطنية أكثر مما كانوا يتوقعون من قبل، وأكثر مما كان لهم في ظل الاحتلال والاستعمار التقليدي...

"الاشتراكية" في طريق "الجزائر" 1963م

كان "محمد خيضر" أول من وصل إلى الرباط بعد الإفراج عنهم، وأسر إليّ أن صديقه "الأخ أحمد بن بللا" ما زال في طرابلس بليبيا مشغولاً مع مجموعة من ذوي الفكر الاشتراكي يعدون ما سموه "ميثاق طرابلس" ليعرض على الحكومة المؤقتة، ولليساريين خبرة بتلك المواثيق التي يستدرجون لها من يتحالفون معهم، وفهمت أن محمد خيضر غير مقتنع بهذا الفكر الذي يستغله مجموعة من المتفرنسين الجزائريين؛

لأنهم يدعون إلى ما يسمونه "الوحدة الاشتراكية" ويقصدون بها التحالف مع اليسار الفرنسي الذي هو الجناح الغربي للاشتراكية السوفياتية، والواجهة الأوروبية الفرنسية للتيار الماركسي، وهدف كثير منهم أن تحل الاشتراكية محل "الإسلام" و"الوحدة العربية" أو تكون عقبة في سبيلهما عند الاقتضاء كما تبين لي فيما بعد... كان ملك المغرب في ذلك الوقت قد اختار التعاون مع بن بللا وجماعته، وكان هذا هو المسار الذي بدأته السياسة المغربية منذ عهد والده المرحوم الملك محمد الخامس، الذي يعتبر كثيرون أنه كان له الفضل الأول في إنفاذ بن بللا وجماعته الذين اختطفهم الفرنسيون عام 1956م

وخشينا إذ ذاك أن يقتلوهم ليضعوا بذلك المد الثوري الذي بدأ في الجزائر منذ عام 1954م، وكثيرون يعتقدون أن التدخل القوي للملك محمد الخامس لدى الفرنسيين هو الذي حال دون تنفيذ هذا التهديد الفرنسي وأنقذ حياة الزعماء الخمسة الأسرى الجزائريين لذلك أصر على أن يزوروا المغرب بمجرد الإفراج عنهم، وقد تم ذلك فعلاً...

بعد ذلك زاد التعاون بين حكومة المغرب وملكها، وبين جناح بن بللا في الثورة الجزائرية، وأعتقد أن الزيادة سببها تأكدهعم من انتصار هذا الجناح بسبب تأييد فرنسا ومصر له مما يجعله الورقة الرابحة، وكان المغاربة يعتقدون أن هذا التعاون سيكون مفتاحًا للثقة والصداقة مع حكومة الجزائر المستقلة يحول دون تدخل الجزائريين في مشكلة الصحراء المغربية ومشكلة "تندوف" المرتبطة بها

لكن هذه المشاكل تعقدت كثيرًا بكل أسف بعد ذلك بسبب عناد العسكريين الجزائريين حتى حدثت حرب الحدود بين البلدين، ثم جاء انقلاب بومدين ضد بن بللا، وظهر لي فيما بعد أن هذه المشاكل (بين المغرب والجزائر) كانت من أهم أسباب الخلاف بين بن بللا وجماعة بومدين؛ لأن بن بيللا كان يفضل المرونة إزاء المغرب وعدم معاداته، وهذا الخلاف أدى إلى تدبيرهم للانقلاب على بن بللا واعتقاله الذي استمر طوال عهد بومدين، ولم يفرج عنه إلا بعد وفاته في عهد الشاذلي بن جديد، وتمادت حكومة بومدين في معارضة السياسة المغربية في الصحراء المغربية حتى الآن.

كان المغاربة يعرفون العلاقة الوثيقة بين جماعة بن بللا والنظام الناصري بل والزعامة الناصرية بالذات، وكان الفرنسيون يعرفون ذلك أيضًا؛ ولذلك فإن علاقتهم مع هذه المجموعة كانت في كثير من الأحيان تمر من خلال اتصالات بينهم وبين الزعامة والحكومة الناصرية. ومنذ انتهاء العدوان الثلاثي على بورسعيد، وخاصة أثناء وجود الأسرى الجزائريين في السجن، بدأت عدة وساطات تروج لخطة التقارب والتعاون بين هذه القوى الثلاث (الحكومة المصرية والفرنسية والمغربية) لتدعيم اتجاه بن بللا وتمكينه من السيطرة الكاملة على جبهة التحرير الجزائرية بعد خروجهم من السجن

واكتشفت فيما بعد – لكن بعد فوات الأوان- أنه كان هناك تعاون بين هذه القوى الثلاث في هذا الاتجاه بعد أن تحقق قدر من التنسيق بين أهداف هذه الجهات، كنت أستنبط ذلك وأحس به وأرى علاماته من حين لآخر، ولكن كانت علاقتي دائمًا بأحمد بن بللا وجماعته علاقة شخصية بحتة قبل اعتقالهم وبعد اعتقالهم حتى الآن.

أول هذه العلامات التي لاحظتها كثرة عدد الزعماء المغاربة الذين كانوا يزورون "الأسرى الجزائريين" في المعتقل بفرنسا، وكانت الإدارة الفرنسية تخصهم بتسهيلات كثيرة وبعضهم كان يحمل لي رسائل بن بللا وزملائه، ودعوته لي لكي أزورهم هناك، وفعلاً قمت بهذه الزيارة مرة واحدة في صيف عام 1961م، وقد سهل لي ذلك أنني كنت في ذلك الوقت أحمل جواز سفر مغربي

ثم إن بن بللا نفسه كتب لي برقم تليفون أحد المسئولين في مكتب وزير الداخلية الفرنسي بباريس لكي أتصل به وأطلب منه إيصالي به تليفونيًّا، وهذا هو ما فعلته في باريس، ولما أوصلني ببن بيللا أعطاني العنوان بدقة، واتفقت معه على الموعد الذي أذهب إليه فيه والساعة التي أكون فيها على المدخل وسأجد هناك إذنًا لي بالدخول، وفعلاً دخلت وبقيت معهم ليلتين في ذلك القصر أو "القلعة" ، ومعنى ذلك أنهم لم يكونوا في سجن، بل كانوا في إقامة إجبارية كما كان الأمر بالنسبة لمصالي حاج وبورقيبه عندما زرتهما في صيف عام 1954م وقبلهما مع المنصف باي في (بو)، وفي هذا المكان الذي كانوا يقيمون به كنا نتحدث مجتمعين ومتفرقين.

أذكر أنه عندما قررت مغادرتهم طلبوا لي سيارة تاكسي لتنقلني إلى المحطة، ولما تأخرت السيارة قليلاً لاحظت وجود حركة غير عادية لكي أسرع بالخروج لانتظار السيارة بالخارج، وعند الباب الخارجي عرفت سبب هذا التسرع إذ شاهدت سيارة عند المدخل تحمل زوارًا فرنسيين ظهر من طريقة استقبالهم أنهم كانوا على درجة من الأهمية وفهمت أن الغرض من الاستعجال هو ألا ألتقي بهؤلاء الزوار وألا أعرف عنهم شيئًا.

ومن هذه العلامات أيضًا أنني عندما تحدثت مع بن بيللا قلت له: إنني كما تعرف متعاقد مع الحكومة المغربية كمستشار في المحكمة العليا؛ ولذلك فإن تعاوني معكم سيكون في الحدود التي تسمح بها الحكومة المغربية، فرد عليّ أحد أصدقائه الحاضرين بأن طمأنني على علاقتهم بالملك الحسن الثاني، وعبر عن ذلك بكلمة ما زلت أذكرها وهي قوله بالفرنسية (إننا مضطرون للسير معه مسافة):

Noun avons un bout de chemin a – faire avec lui

وكان معنى ذلك أن هذا سيكون فترة محدودة.

تأكد لي فيما بعد أن هذا هو المبدأ الذي يسير عليه الجميع، كل منهم كان يسير مع أصدقائه مسافة ما ثم يتخلى عنهم أو ينقلب عليهم كما فعل بومدين مع بن بيللا وكما فعل بن بيللا مع كريم بلقاسم ومع محمد خيضر وآخرين، فليس غريبًا أن ذلك كان مسلكهم هكذا مع الملك الحسن أو الحكومة المغربية.

لقد عرفت من لقاءاتي السابقة مع بن بللا وخيضر علاقتهم الوثيقة بالسلطات الناصرية وثقتها بهم، ولم يكن يضرهم أن أعرف ذلك، لأنهم كانوا يعرفون أنني على استعداد للتغاضي عن كل سيئات عبد الناصر، وبغى نظامه طالما استمرت مساعداتهم لثوار الجزائر وتناسيت كل ما أصابني بما في ذلك اعتقالي واعتقال كثير من الإخوان

لكن لم أكن أقبل تواطؤ النظام الناصري مع الفرنسيين الذي لم أكن أعرف حقيقته ولا مداه إلا بعد أن دخلت الجزائر وأقمت بها مع صديقي أحمد، وأدركت "بعد فوات الأوان" أن المخابرات المصرية كانت ضالعة مع الفرنسيين في رسم خطة دخولهم الجزائر قبل الحكومة المؤقتة ومعاونة الفرنسيين لهم في الاستيلاء على السلطة، وإبعاد الحكومة المؤقتة وما ترتب على ذلك مما شاهدته مما كاد أن يدفع البلاد إلى حافة الحرب الأهلية لولا أن الله سلم، وهناك حوادث كثيرة سوف أذكر بعضًا منها أكدت لي أن كل ما فعله بن بيللا كان يعلم الحكومة الناصرية بل وبأمر منها في بعض الأحيان.

كانت النقطة الوحيدة الموضوعية التي اتفقت فيها مع بن بيللا وخيضر هي ذلك الوعد الذي قطعه بن بللا شخصيًّا على نفسه يوم ودعته مسافرًا إلى المغرب عام 1956م، بأن أتولى إعداد مشروع الدستور مقابل تعهدي بأن أدخل الجزائر معهم عندما يدخلونها في أي وقت يريدون، وقد أيد المعتقلون الخمسة هذا الوعد وكتبوا لي بذلك خطابًا من السجن

ويظهر أن ذلك كان قبل أن يتم التفاهم بينهم وبين فرنسا وهم في المعتقل، ولكن لم يحدث بيننا قبل ذلك ولا بعده أي اتفاق على المسائل الأساسية التي سوف يتضمنها مشروع الدستور المأمول؛ لأننا كنا نعتقد أن ذلك سابق لأوانه وأن أفكارنا متقاربة، وكان هذا خطأ من جانبي أنا شخصيًّا؛ لكنني كنت مقتنعًا به وكنت حريصًا على ألا أفتح معهم هذا الموضوع

ورضيت ضمنًا أن أتجاهل ما يسيرون عليه للانفتاح على الحكومة الناصرية بل وعلى العناصر اليسارية الاشتراكية في فرنسا وفي الجزائر ذاتها طالما كانوا محتاجين لذلك وفي حدود الضرورة للحصول على استقلال الجزائر، لكن لم يخطر ببالي أنهم سيقبلون ما يفرضه الفرنسيون من قيد على سياستهم بعد الاستقلال، وبالذات شرط استبعاد الاتجاه الإسلامي...

لقد حاول ذلك أولاً فيما يسمونه ميثاق "الصومام" الذي تم في الداخل عام 1955م أثناء الثورة وكان بن بللا معارضًا له، لكن يظهر أن بن بللا تراجع عن معارضته لهذا الاتجاه أثناء اعتقاله، وظهر ذلك في ميثاق طرابلس الذي تم بعد خروجه من السجن، وكان هذا الميثاق في نظر الحكومة الجزائرية المؤقتة في المنفى مجرد وثيقة نظرية

لكن تبين أن هذا الاتجاه الاشتراكي في نظر العناصر الفرنسية كان تحالفًا استراتيجيًّا وشرطًا أساسيًّا لكي يعاونوا جناح بن بللا على دخول الجزائر قبل دخول الجناح الآخر المتمثل في حكومة بن خدة والذي لم يشاركه في المساومات، ويظهر أن بن بللا شخصيًّا قبل هذا التحالف، وبالغ في الالتزام به أكثر مما كان يتوقع كثير من أصدقائه مثل محمد خيضر في البداية، بل وعباس فرحات نفسه الذي ساعدهم ضد الحكومة المؤقتة ثم انقلب عليهم في النهاية.

رسمت الخطة لاستيلائهم على السلطة، على أساس أن المغرب هو طريقهم لدخول الجزائر، وبذلك استطاع بن بللا وجماعته إنشاء المكتب السياسي في (تلمسان) الذي أيدته ثلاث ولايات فقط، وكان أن وصلوا إلى الجزائر قبل الحكومة المؤقتة، وشكلوا الحكومة الجزائرية التي أعلنت الاستقلال

وكانت الجزائر على شفا حرب أهلية بين الولايات الثلاث المؤيدة للحكومة الانتقالية والولايات الثلاث الأخرى المؤيدة لجماعة بن بللا، ولم ينقذها من هذه الحرب إلا حكمة "بن خدة" وجماعته التي تمثلهم الحكومة المؤقتة؛ لأنهم تراجعوا وتركوا الميدان خاليًا لكي يفرض جناح بن بللا وسيطرته على الجزائر، رغم أن هناك عناصر كثيرة كانت تحاول الزج بالجميع في طريق الحرب الأهلية.

وأعتقد أن الفرنسيين كانوا يراهنون على وقوع الحرب الأهلية، لكن رهانهم قد فشل بسبب انطلاق المظاهرات الشعبية التي رفعت الشعار المشهور "سبع سنوات بركات" !! أي يكفينا سبع سنوات من الحرب، حينذاك تراجعت الحكومة المؤقتة كما تراجعت الأم الحقيقية عندما عرض عليها القاضي أن يقسم الطفل نصفين في القضية المشهورة حينذاك جعل الفرنسيون هدفهم الحصول على أقصى ما يمكن من "التنازلات" من بن بللا وحكومته

هذه التنازلات هي التي لاحظت أنها تجاوزت ما يقبله ضميري، ورأيت أن صديقي بن بللا قد بالغ فيها ليضمن استمرار تأييد الفرنسيين واليساريين له، ولذلك ابتعدت عنه وعدت إلى المغرب (كما سأذكر فيما بعد) رغم أنني كنت منذ مدة طويلة قد اخترت السير في طريق الجزائر، وكان أملي أن أبقى فيها لأساهم في إعادة بناء المجتمع على أسس إسلامية، ولازلت أذكر أنني كنت أحاول إقناع "صديقي" بن بللا بأن أعين أستاذًا في جامعة الجزائر وأتفرغ للعلم والتعليم هناك

وقبل ذلك مني ووعد به مرارًا قائلاً: إن هذا أقل ما يجب عليهم وفاء لي، لكنه عاد، فاعتذر بالعذر التقليدي وهو أن "إخواننا" الناصريين لن يعجبهم ذلك، بل إنهم عارضوه، ولكني أعتقد أن المعارضة الأساسية كانت من جانب اليساريين والفرنسيين الذين سلمهم الجامعة وعين رئيسًا لها أحد الفرنسيين الذي كان أول هدف له إخراج ذوي الفكر الإسلامي منها كما حدث بالنسبة لأمينها العام الجزائري الأول وهو صديقنا الهاشمي التيجاني رئيس جمعية القيم الذي نقل من الجامعة إلى وزارة الزراعة!!

الصهيونية استغلت التطرف القومي والاشتراكي لوقف التيار الإسلامي 1963م ... 1964م

اطلعت على كتاب فرنسي عن قصة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين الذي اخترق حزب البعث السوري وتدرج في مناصبه حتى أصبح مسئولاً عن المغتربين في أمريكا ثم ترقى فأصبح المسئول عن توعية الشباب والإعلام في فترة حكم البعث، كل ذلك وهو يحمل جوازًا زائفًا باسم أمين ثابت يعطيه صفة أحد العرب المغتربين في أمريكا الجنوبية حيث تعرف هناك بأحد المسئولين في ذلك الحزب ثم تعاون معه في تدبير انقلاب في سوريا الأمر الذي مكنه من أن يصبح شخصية مرموقة ونافذة في صفوف حزب البعث العفلقي.

لقد لاحظت أن هذا الكتاب كان تعبيرًا عن وجهة نظر المخابرات الصهيونية، أو أنه أداة للدعاية الإسرائيلية التي تهدف إلى السخرية بالعرب جميعًا وإظهارهم بمظهر المغفلين الذين تستطيع المخابرات الصهيونية أن تسيرهم على هواها بواسطة عملاء تغرسهم في وسط الحركات القومية والاشتراكية، وربما الإسلامية أيضًا.

رغم ذلك فقد عنيت بقراءة ذلك الكتاب؛ لأنني عندما اعتقلت في السجن الحربي بالقاهرة في أكتوبر 1954م وكنت أول من دخل سجن (4) في ذلك اليوم المشئوم الذي ألقي فيه القبض على جميع الإخوان في ليلة واحدة بعد مسرحية المنشية التي دبرتها الأجهزة الناصرية للإيقاع بالإخوان والدعاية لعبد الناصر

رأيت هذه المجموعة من الإسرائيليين المتهمين في هذه القضية الشهيرة<نسبت هذه القضية إلى أحد الوزراء الإسرائيليين الذي كون مجموعة من العملاء لإلقاء قنابل في مصر للإضرار بالمصالح الأمريكية وكان الهدف الظاهر هو إفساد العلاقات بين مصر وأمريكا، لكن الهدف الأكبر كان نسبة هذه الحوادث إلى الإخوان المسلمين لإثارة حكومة مصر وأمريكا معًا ضد الإخوان...

ومما يؤسف له أن هذا الهدف تجاهلته وسائل الإعلام المصرية، وصورت القضية بأنها فقط للإضرار بالمصالح "الأمريكية" ، وعلمت فيما بعد أن هذا الشخص قد أفرج عنه دون غيره، وسمح له بالسفر للخارج في ظروف غامضة مكنته من القيام بهذه المهمة الخطيرة لحساب المخابرات الإسرائيلية...

بعد قراءة هذا الكتاب التقيت بأحد الصحافيين السوريين في المملكة العربية السعودية هو الأستاذ نهاد الغادري وسألته إن كان عرف شيئًا عن هذا الجاسوس أثناء وجوده في سوريا فقال: إنه رآه يلقي دروسه على شباب حزب البعث ويشعل حماسهم للحزب بحجة أنه يجمع بين القومية والاشتراكية، وأن هذين الهدفين هما السبيل الوحيد للنهضة العربية وأنه قال أمامه بالحرف الواحد: إنهم يقولون في الكتب إن مشاكل الاشتراكية لا تعالج إلا بمزيد من الاشتراكية، وأنا أقول لكم إن مشاكل القومية لا تعالج إلا بمزيد من القومية.

معنى هذا أن الدعوة إلى التطرف الحربي في الاشتراكية والقومية كانا هدفين أساسيين من أهداف الاختراق الصهيوني في الحركات السياسية بالعالم العربي. إن دعاة التطرف في القومية العربية كانوا يظنون أن نمو التيار الإسلامي يحد من سيطرتهم ودكتاتوريتهم في مصر والجزائر وغيرها، وكذلك كان دعاة التطرف الاشتراكي يريدون دكتاتورية البروليتاريا الماركسية التي تفرض الإلحاد وتستبعد الدين من المجتمع؛ ولذلك فإن مقاومة الإسلام هدف أساسي عند الطرفين.

من المؤكد أن هناك تناقضًا بين الاشتراكية والقومية، ولذلك فإن التحالف بينهما لم يكن طبيعيًّا ولا دائمًا، وكان مرحليًّا فقط بقصد التعاون بينهما لإبعاد التيار الإسلامي ثم يتفرغ كل منهما بعد ذلك للقضاء على الآخر. هذا التحالف المرحلي المؤقت سعى له وشجعه طرف ثالث لا يهمه القومية ولا الاشتراكية إلا بقدر ما يستخدمها معًا للقضاء على الإسلام في المجتمع الجزائري والعربي والإسلامي عامة، وهم عملاء الصهيونية وحلفاؤها.

لقد كنت أعلم يقينًا أن بن بللا متورط إلى حد كبير من الناصريين الذين يرفعون شعار القومية العربية ومع أصحاب الفكر الاشتراكي الماركسي، لكنني كنت أعتقد أنه وكثيرًا من أمثاله من دعاة "القومية العربية" وخاصة الناصريين يعتبرون الاشتراكية شعارًا يضمن لهم قدرًا من التأييد والعون من الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية في مقاومة الاستعمار الغربي

وكان هذا في نظرهم مسلكًا مبررًا في فترة الحرب الباردة والتنافس بين الكتلتين السوفياتية والأمريكية، فاشتراكيتهم لم تكن في الأصل ماركسية، بل كانت في نظرهم سياسة وطنية بل وعروبية؛ لأن بعض دعاة الاشتراكية كان يوهمونهم بأن الكتلة الاشتراكية مؤيدة للقومية العربية التي يظنون هم أنها تعني "الوحدة العربية".

صحيح أن هذا لم يكن في نظرنا نحن الإسلاميين إلا وهما خطأ؛ وكنا واثقين أنهم سوف يكتشفون ذلك فيما بعد لأن الاشتراكية مبدؤها ضد القوميات، والاشتراكيون يعتبرون "القومية العربية" مجرد شعار مؤقت يتخذونه ستارًا لمقاومة الأصالة الإسلامية والاتجاه الوحدوي وقد اتخذوها فعلاً أداة لمقاومة تيار الأصالة الإسلامية والوطنية والاتجاه الوحدوي بين العرب

ومن باب أولى بين المسلمين، وقد اتخذوها كذلك وسيلة لتمزيق الوحدة العربية ذاتها بحجة أن وحدة الهدف (الاشتراكي) أهم من وحدة الصف (العربي أو القومي)، وبذلك وصلوا لشق دول الجامعة العربية إلى فريقين، فريق ينحاز للكتلة الاشتراكية وآخر ضدها ينحاز تلقائيًّا للكتلة الغربية ويدفعونه دفعًا لكي تستغله الإمبريالية الغربية وتبتزه بحجة حمايته من العدوى الاشتراكية والنفوذ السوفياتي.

هناك طرف ثالث في هذه المسألة الاشتراكية لابد أن نشير إليه وهو في نظري الصهيونية العالمية التي تصطاد دائمًا في الماء العكر ولا يحسب كثيرون أي حساب لخططها البعيدة المدى. في نظري أن الصهيونية العالمية منذ بداية الحرب العالمية الثانية ترسم خطتها لتضمن انحياز أمريكا وكتلتها الغربية إليها وحدها وكان ذلك يستلزم إثارة جميع أسباب العداوة الحقيقية أو المفتعلة بينها وبين العرب لكي تحتكر هي لنفسها ثقة أمريكا والغرب وتضمن بهذا ارتباطهم العضوي والنهائي بها، وتصبح إسرائيل في نظر الحلفاء قاعدة للغرب ووارثة له (بعد عمر طويل)؛

ولذلك كانت الصهيونية تشجع دعاة الاشتراكية في العالم العربي وتمولهم ومن المؤكد أن كثيرًا من دعاة الاشتراكية بل والشيوعية في بلادنا كانوا يهودًا أو تمولهم مراكز صهيونية، وترويجهم للاتجاهات الاشتراكية الشيوعية كان له هدفان أساسيان للمشروع الصهيوني:

الأول: تغذية تيار العلمانية والإلحاد العلمي المعادي للأصالة الإسلامية وتمكينه من السيطرة على الحكم في كثير من بلادنا؛ لأنهم يعتبرون أن الأصالة التاريخية الإسلامية هي الحصن الأخير الذي يمكن أن يحتمي به الفلسطينيون عند الضرورة للدفاع عن ذاتيتهم وهويتهم ووطنهم ومستقبلهم كما يحدث الآن.

الثانيك الأهم في نظرهم، فهو اقتناع الشعوب الأمريكية والأوروبية بأن العرب منحازون للكتلة السوفياتية، وأن إسرائيل والصهيونية هي الحليف الأول، بل الوحيد لهم في المنطقة العربية والإسلامية، وأنها القاعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية الوحيدة للديمقراطيات الغربية في الشرق الأوسط لمقاومة النفوذ السوفياتي أولاً، ومقاومة الوحدة والتحرر الذي تحرص عليه شعوب المنطقة باسم العروبة والإسلام.

إن دعاة الاشتراكية في بلادنا لم يكونوا كلهم جاهلين لهذه الأهداف الصهيونية، بل كانت من بينهم عناصر لا يهمها من الاشتراكية التي يدعون لها إلا تقوية التيار اللاديني واتخاذه سلاحًا لاقتلاع جذور الفكر الإسلامي، وما زال هؤلاء موجودين إلى الآن، وقد نسوا كل ما كانت تفرضه اشتراكيتهم من عداء للإمبريالية الأمريكية والأوروبية، ورضوا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أن يكونوا أكبر حلفاء لتلك الإمبريالية؛

لأنها في نظرهم تؤيد الاتجاه اللاديني المعادي للإسلام في بلادنا، بل إن بعضهم أصبح يصرح الآن باستعداده لترويج "السلام" الإسرائيلي الذي يعني استسلام العرب للنفوذ الصهيوني اقتصاديًّا وسياسيًّا والسيطرة الأمريكية تحت شعار ما يصفونه بسوق الشرق الأوسط؛ لأنهم متأكدون أن النفوذ الإسرائيلي سوف يقوى ويدعم الاتجاه اللاديني في بلادنا.

هؤلاء كانوا وما زالوا عملاء للصهيونية تحت شعار العلمانية، لكن كثيرًا من دعاة الاشتراكية لم يكونوا من هذا النوع، وبعضهم تحول عنها، بل أصبح معاديًا لشعاراتها اللادينية والإلحادية، وكثير منهم أصبح من دعاة الأصالة الإسلامية، وبعضهم سوف يصل لهذه النتيجة فيما بعد بحكم اكتشافهم للعلاقة بين الصهيونية والاشتراكية والإمبريالية وما زلت آمل كثيرًا أن يكون صديقي بين بيللا من هؤلاء؛ لأنه أقنعني بأنه سيزعم هذا الاتجاه بين الناصريين الذين ما زال يثق بهم.

إنني ممن يعتقدون أن عملاء الصهيونية في مصر وفرنسا والمغرب هم الذين استطاعوا أن يقربوا بين الحكومات الثلاث ويجموعها في جبهة واحدة لتدعيم مجموعة بن بللا بعد أن تأكد لهم أنها ستقوم بفتح الجزائر أمام التيار الماركسي الذي لا يهمهم منه إلا أمر واحد هو أنه سيوقف مسيرة التيار الإسلامي في جميع أنحاء العالم العربي، وفي الجزائر بصفة خاصة.

ما زالت هناك عناصر قليلة ترفع شعارات اشتراكية ليتخذوها عقبة في طريق الجزائر نحو الاعتزاز بهويتها وشخصيتها العربية والإسلامية، لكن أكثر أعداء الإسلام اضطرروا الآن إلى البحث عن شعارات أخرى "فرانكفونية صريحة" أو "انفصالية مقنعة" لأن الاشتراكية لم يعد لها دور جدي لوقف المسيرة الشعبية في طريق الإسلام في الجزائر.

والأنكى من ذلك أن عملاء الإمبريالية العالمية يريدون جمع هذه العناصر تحت مظلة الشعار الديمقراطي، الذي يصورونه على أنه يتسع في نظرهم للادينية والإلحاد والعلمانية ويفتح الباب واسعًا للذوبان نهائيًّا في داخل الكتلة الإمبريالية اجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا، وهذا هو هدفهم الاستراتيجي..

زفة إعلامية ومؤامرة فرنسية 1962م

إن زعامة بن بللا استفادت إلى حد كبير من التيار الإعلامي الذي كان الاتجاه الناصري والاشتراكي يسيطر عليه في مصر وفي العالم العربي بصفة عامة، وكان وراءه الحكومات الثلاث الناصرية والفرنسية والمغربية، وإن كان كل من هذه الجهات له أهدافه الخاصة التي لا يشترك معه غيره فيها، وفيما يخص المغرب فقد بينت أن هذا الاتجاه بدأ منذ دعوة الملك محمد الخامس لهم لزيارة المغرب 1956م

تلك الزيارة التي لم تتم بسبب القرصنة الفرنسية التي أدت إلى اعتقال الزعماء الخمسة، وهذا الاعتقال هو الذي مكن فرنسا من أن تشارك في هذا الثلاثي المؤيد لبن بللا بعد أن زاد أملهم في "ترويضه" بفضل ما أظهره من مرونة وقدرة على إعطاء الوعود والتطمينات للجانب الفرنسي ولغيره – بما فيهم الحكومة الناصرية- ويظهر أن فرنسا هي التي استدرجت المغرب للرهان على هذا الجناح رغم ما يعلنه من انحياز للاشتراكية وللناصرية، وكلاهما ليس ممن يثق فيهم النظام الملكي المغربي.

هذا هو ما خطر لي عندما كنت أتأمل (الزفة) التي أحاطت وصول بن بللا وكان معه زملاؤه في سيارة مكشوفة تسير وسط الجماهير في شوارع الرباط قادمة من المطار وقد استجابت الجماهير لنداء الإعلام العربي والمغربي الذي لم يترك هذه الفرصة تمر دون التركيز على دور المغرب في تأييد الجهاد الجزائري وجبهة التحرير طوال فترة الثورة الجزائرية.

إنني شخصيًّا عرفت أهمية الدور الذي قامت به المملكة المغربية في إيواء المجاهدين الجزائريين وتسهيل إقامة قواعد عسكرية لجيش التحرير الذي كان رجاله يجتازون الحدود من المغرب إلى الجزائر في جنح الليل وهم آمنون من جانب الجيش والشرطة المغربية وقد كانت فرنسا في البداية تعترض وتحتج وتهدد

لكن الملك محمد الخامس كان رجلاً مسلمًا وطنيًّا في أعماق نفسه، وثباته وصموده هو الذي اضطر بورقيبه إلى أن يحذو حذوه وكلاهما كانت حجته أن منع (التسلل) هو واجبكم وليس من شأننا أن نحرس لكم الحدود ويكفي أنني كنت أقارن بين هذا الموقف البطولي وبين مواقف كثير من الدول العربية المجاورة لفلسطين التي جعلت من أول أهدافها حراسة حدود إسرائيل ومنع الفدائيين الفلسطينيين من أن يكون لهم قواعد في أي بلد مجاور، بل تجاوز تلك إلى التعهد بمقاومة التيار الإسلامي في داخل بلادهم لمجرد أنه يؤيد الكفاح المسلح الذي يواصله الإسلاميون في فلسطين كما سنرى فيما بعد.

في المرحلة الأخيرة بعد أن قررت الحكومة الفرنسية الاعتراف بالاستقلال في معاهدة (أفيان)، وراهنت على ورقة بن بللا ومن معه، ومنهم بومدين الذي كان قائد القوات الجزائرية في الخارج "في تونس والمغرب" أصبح من مصلحتها تقوية هذا الجيش لتضمن نجاحهم في السيطرة على الجزائر رغم معارضة بعض الولايات في الداخل التي كانت تدين بالولاء للحكومة المؤقتة في المنفى.

ولم تكتف الحكومة الفرنسية بإطلاق العنان لهم في تنظيم قواتهم بالخارج وتسليحها، بل ساهمت إلى حد كبير بطريق مباشر أو غير مباشر في الدعاية لزعامة بن بللا أثناء اعتقاله حتى أصبح الرأي العام العربي والاشتراكي في صفه، ولكي أعطي للقارئ صورة لدور الإعلام في هذا الموضوع أكتفي بتقديم القصيدة المطولة التي نشرها شاعر الثورة الجزائري المشهور صديقنا "مفدى زكريا" وحرص على أن يسلمها لي موقعة عنه، كما يرى القارئ في صورة السطور الأخيرة منها.

ثقة الشعب ذمة... فارقبوها

صدق الوعد فاطفحي يا بشائر ودنا السعد فامرحي يا جزائر

ومضى الزحف يجرف السد لما أن طغى المد من ماء المجازر

واستوى الفلك يوم أن قيل بعدا وانطوى الشك عن ضمير الدياجر

أينع الغرس من رماد الضحايا ونما الزهر من رفات المقابر

ونفوس المفرجين تصاعدن بخورًا من عابقات المجامر

من رباط صعدتم لتعودوا بعد ست كما يعود المسافر

أيها العائدون عودة نصر يوم دارت على العدو الدوائر

أنتم مطمح الجزائر في الجلي وإشعاع روحها في الدياجر

ثقة العشب ذمة، فارقبوها واحذروا الشعب يوم تبلى السرائر

مغدى زكريا

جاءوا... من "الغرب" 1962م

كانت جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي قادت الثورة حتى النصر قد أنشأت الحكومة الجزائرية المؤقتة في القاهرة لتمثلها رسميًّا في المعترك الدولي وحصلت لها على اعتراف الدول العربية وبعض الدول الصديقة، وهي التي كانت تمثل الجبهة في المفاوضات مع فرنسا التي أدت إلى اتفاقية "أفيان" التي تعهدت فيها الحكومة الفرنسية بالاعتراف باستقلال الجزائر وتسليم السلطة لهذه الحكومة الجزائرية بإجراءات معينة، ومنها تشكيل حكومة انتقالية يرأسها جزائري تثق فيه فرنسا هو السيد "مصطفاي" وكانت حكومته تضم وزراء يمثلون الجالية الفرنسية إلى جانب الوزراء الجزائريين، على أن تسلم هذه الحكومة الانتقالية السلطة للحكومة الوطنية الجزائرية المؤقتة عقب انتقالها للجزائر العاصمة.

وبينما كانت الحكومة الجزائرية المؤقتة تدرس إجراءات انتقالها إلى العاصمة الجزائرية قادمة من القاهرة أو طرابلس أو تونس من جهة الشرق، كانت أجهزة المخابرات الفرنسية ترسم الخطة لكي يدخل بن بللا وجماعته إلى الجزائر قادمين من "الغرب" عن طريق (الرباط) ثم (وجدة) و(تلمسان)

وأن يسبقوا وصول الحكومة المؤقتة التي كان يرأسها في ذلك الوقت "بن يوسف بن خدة"، والهدف هو تسليم السلطة إلى جماعة بن بللا بدلاً من حكومة (بن خدة)، ولو كان ذلك يؤدي إلى إنقسام جبهة التحرير أو وقوع حرب أهلية هذا هو ما اكتشفته بكل أسف "بعد فوات الوقت" !! ولاشك أن فرنسا لم تكن وحدها في إعداد هذه الخطة ولا في تنفيذها، بل إن الوقائع تدل على أنه كان له شركاء في الحكومة الناصرية والمغربية.

لقد كنت أنا وكثيرون غيري ممن سعدوا بالاحتفال بوصول بن بللا ورفاقه إلى العاصمة المغربية، وخاصة الجماهير الحاشدة التي ملأت الشوارع لتهتف للزعماء الذين هزموا الاستعمار الفرنسي وحققوا لبلادهم النصر وهم معتقلون داخل السجون الفرنسية ست سنوات، كانت هذه الجماهير تعتبر زيارتهم للمغرب تكملة المرحلة التي بدءوها من القاهرة عام 1956م، متجهين للمغرب لزيارته استجابة للدعوات الكريمة التي وجهت لهم من الملك محمد الخامس والتي لم تتم بسبب اعتقال فرنسا لهم في الطريق.

وإذا كانت القرصنة قد مكنت المخابرات الفرنسية من اعتقالهم وسجنهم ست سنوات، فإن الجهاد الجزائري الذي يقوده زملاؤهم في جبهة التحرير الوطني في داخل البلاد وخارجها ظل مستمرًا، ومن المجاهدين من قضى نحبه شهيدًا ومنهم من واصلوا الكفاح حتى شكلوا حكومة جزائرية في المنفى مقرها القاهرة

وهذه الحكومة المؤقتة هي التي حققت للجزائر النصر الذي اعترف به الفرنسيون في معاهدة "أفيان" وهاهم أولاء الزعماء الأسرى قد أفرج عنهم تنفيذًا لهذه المعاهدة، وجاءوا إلى المغرب لإتمام الزيارة التي حال دون تمامها اعتقالهم وسجنهم كل ما هنالك أن إتمام هذه الزيارة تم بدعوة من الملك الحسن الثاني بعد وفاة والده العظيم الذي وجه لهم الدعوة الأولى عام 1956م.

لم يدر بخلد ممن هتفوا لموكب بن بللا ورفاقه في شوارع الرباط، ولا ممن كتبوا في الصحف ونشروا صور الموكب، أنه كان للزيارة هدف آخر وهو أن يسبقوا الحكومة الجزائرية المؤقتة إلى دخول الجزائر، ثم الوصول إلى العاصمة لتسلم السلطة ويضعوا زملاءهم وإخوانهم في الحكومة المؤقتة أمام أمر واقع، لا مفر منه إلا إذا رفعوا السلاح في وجوههم، وبدأت حرب أهلية تسيل فيها دماء الجزائريين بأيدي إخوانهم ومواطنيهم.

لقد كنت من بين السذج الذين غابت عنهم هذه الحقيقة فترة طويلة!، لكنني اكتشفتها تدريجيًّا ومتأخرًا، بعد أن ركبت السيارة مع بن بللا وصديقه محمد خيضر، وقطعنا الطريق الطويل من الرباط إلى وجده، بل بعد أن وصلنا فعلاً إلى تلمسان في غرب الجزائر وعقد بن بللا مؤتمرًا صحفيًّا أعلن فيه تشكيل مكتب سياسي لجبهة التحرير، وبعد أن تحقق لهم الهدف وهو الوصول إلى العاصمة قادمين من "الغرب" قبل الحكومة المؤقتة التي ما زالت (في الشرق)، ومن الغريب أنني كنت مرافقًا لهم في هذا السباق دون أن أعرف عنه شيئًا.

إن إسرائيل استعملت نفس الأسلوب في حرب يونيو عام 1967م، إذ صرح عبد الناصر بأن الطائرات الإسرائيلية قد استطاعت ضرب القواعد الجوية دون مقاومة، وذلك على حسب قوله بأنه كان يتوقع مجيئها من الشرق لكنها جاءت من الغرب وبذلك كسبت الجولة باستعمال عنصر المفاجأة.

لم تكن إقامة بن بللا في الرباط طويلة فقد استضافهم الملك الحسن في القصر الملكي "دار السلام" بطريق زعير خارج الرباط، ولما كان في حاجة لمقابلات عديدة داخل المدينة، فقد جعل هذه المقابلات بمنزلي الذي اتخذه هو وخيضر مكتبًا لهما، وكان هذا هو المكتب الثاني للأغراض التي لا يريدون أن يطلع عليها المغاربة "أو غيرهم" أو تشترك فيها سفارة الجزائر التي كان يتولاها في ذلك الوقت صديقنا العزيز الدكتور شوقي مصطفاي

وبعد أن انتهت (زفة) الوصول تفرق الجميع وبقي بن بللا وخيضر بعض الوقت في الرباط وفوجئت بأن محمد خيضر يعرفني بأنهم سيتوجهون إلى الجزائر غدًا واقترح أن أرافقهم ما دمت في عطلتي الصيفية وذلك تنفيذًا لوعدي السابق لهم بأن أدخل معهم الجزائر في اليوم الذي يدخلون فيه قبل الاستقلال أو بعده، وأيد بن بللا هذا الاقتراح فوافقت فورًا.

وعرفت أننا سنتجه بالسيارة إلى وجدة، وسنجد الطريق مفتوحًا عبر الحدود إلى تلمسان، وكانت الحكومة الانتقالية ما زالت قائمة رسميًّا في الخارج لكن السلطة الفعلية كانت لرؤساء جيش التحرير الداخلي في الولايات الست وللحكومة الانتقالية طبقًا لمعاهدة (أفيان).

كانت (وجدة) مقرًا لقاعدة المجاهدين الجزائريين الموجودين في الغرب، وكانت هذه القاعدة يقودها "بوتفليقة" ، وكانت هناك قاعدة أخرى مماثلة في تونس، وهاتان الوحدتان قد وضعتا تحت قيادة موحدة (لهواري بومدين)، وكانتا نواة "الجيش الوطني الجزائري" مضافًا إليهما مجموعات من أفراد المجاهدين من الولايات في الداخل يتفاوت أعدادها حسب موقف كل ولاية من المكتب السياسي، ومن الولاء إلى (هواري بومدين) بالذات.

وعندما جاء بن بللا وخيضر إلى منزل لأرافقهما جاءت سيارة أخرى وسلمتهما صندوقًا كبيرًا فتحه خيضر أمامي، وشاهدت فيه كميات ضخمة من النقود الفرنسية بل وغيرها من العملات الصعبة، ولم أسأل عن مصدر هذه النقود ولا وجهتها لأن الصندوق وضع في شنطة السيارة التي كنا نستقلها، وفهمت منذ ذلك الوقت أنها هدية من الملك ولم يكن هذا في نظري غريبًا على كرم الغرب ومن جانب حكومته وملكه الحسن الثاني.

ولهذه النقود قصة لابد أن أذكرها – بعد أن تركت الجزائر غاضبًا وعدت إلى المغرب حيث كنت، واشتد النزاع بين بن بللا وحكومته مع محمد خيضر على ما يسمونه "أموال جبهة التحرير في الخارج" ، واستطاع محمد خيضر الخروج من الجزائر كما سأذكر فيما بعد وفي أحد لقاءاتي معه بالمغرب أسر إليّ أن أحد أصدقائه من زعماء المغاربة

اقترح عليه أن يرد هذه النقود للمغرب خصمًا من الأموال التي تحت يده في الخارج لحساب جبهة التحرير وقال لي خيضر ضاحكًا إنه رد عليه قائلاً إنه شخصيًّا لا يمكن أن ينسى فضل المغرب وملكه ولا يمكن أن ينكره الشعب الجزائري، ولكنه لا يملك اتخاذ هذا القرار الآن إلا بعد صدور قرار من ممثلي الجبهة في اجتماع يعقد لذلك، ولم يتم هذا الاجتماع حتى وقع اغتياله رحمه الله.

كانت القرية التي ولد فيها بن بللا تسمى "مغنية" قرب الحدود المغربية، حتى إن كثيرين كانوا يعتبرونه من أصل مغربي؛ ولذلك فإن توجهه إلى "وجده" لم يكن يثير أي شكوك حول هدف الرحلة، إذ ظن كثيرون أنه ذاهب لزيارة المجاهدين الجزائريين في القاعدة القريبة من "وجده"، أو أنه على الأكثر سيزور قريته "مغنية".

الزعامة "التلمسانية" 1962م

ما كدنا نخترق الحدود عند "وجدة" حتى وجدنا الطريق أمامنا مفتوحًا إلى (تلمسان) وقد أشاروا إلى أسلاك شائكة على الجنبين، وقالوا إن وراءها حقول ألغام لم تستخرج بعد، زرعها الفرنسيون أيام الثورة لمنع المجاهدين من التسلل إلى الجزائر قادمين من المغرب أو العكس وانطلقت بي خواطري أتذكر أرض تونس التي زرتها تحت الاحتلال الفرنسي وأرض المغرب الشمالي الذي زرته تحت الاحتلال الأسباني

وهأنذا أملاً عيني من مناظر أرض الجزائر الحبيبة التي ما زالت تملؤها ألغام الاستعمار الفرنسي وما زالت تحكمها إدارة انتقالية عينها الفرنسيون ويشترك فيها وزراء منهم، ولم يخطر على بالي أننا متجهون إلى حقل ألغام من نوع آخر، وأن هناك مؤامرة سياسية لا علم لي بها، ولا يدور في ذهني شيء عن أعماقها وأهدافها ولا عن أطرافها

وكان الذي شغلني عن ذلك أنني استرسلت في ذكريات لقاءاتي مع صديقي الأستاذ عمر التلمساني الذي ما زال في سجن الواحات بصحراء مصر الغربية هو وجميع زملائه من الإخوان المسلمين، وتساءلت عن ماذا سيقوله لي إذا لقيته وقصصت عليه قصة زيارتي الأولى لتلمسان التي يحمل اسمها هو وأسرته وإن كان هو لم يرها؛

لأن أجداده غادروا أرض الجزائر هربًا من الاحتلال الفرنسي قبل أن يولد وهأنذا أدخل تلمسان مع زعماء الجزائر لكي نفتح له طريق الجزائر ليزور موطنه الذي حرره المجاهدون من الاحتلال الفرنسي، وكنت سعيدًا لأنني سأقول له مسرورًا إننا فتحنا له ولجميع إخوانه المجاهدين "طريق الجزائر".

لقد استرسلت خواطري في هذا الحوار الصامت مع صديقي الأستاذ عمر التلمساني المعتقل في سجن الواحات بصحراء مصر، حتى تذكرت أنني دخلت الجزائر التي يحتلها الفرنسيون في حين أنني ممنوع من دخول مصر التي يحتلها حكام عسكريون ولا أستطيع هناك أن أرى صديقي عمر التلمساني؛ لأنه مسجون في الواحات، وخرط لي أن أقول له إذا لقيته يومًا

إنه أصبح أسعد مني حظًّا لأن الطريق إلى وطنه أصبح مفتوحًا أمامه يدخلها إذا شاء، في حين أن الطريق إلى مصر مقفول، ولا أستطيع أن أذهب إليها وإذا ذهبت فلن أستطيع أن ألقاه لأنه في سجن الواحات، إلا إذا سجنت معه. ولكن لم يمض إلا عام واحد حتى سد في وجهي طريق الجزائر، كما سد من قبله الطريق إلى مصر!!!

تذكرت كذلك الزعيم (مصالي حاج) الذي عرفته في باريس، وعرفت منه أنه ولد في تلمسان، وكان يعتز بانتسابه إليها، وتذكرت أنه هو الذي أسس الحركة الوطنية الجزائرية وأنشأ حزب الشعب الجزائري الذي رفع شعار استقلال الجزائر في وقت كان مجرد النطق بكلمة الاستقلال جناية في القانون الفرنسي يستحق قائلها عقوبة الإعدام وأن مصالي حوكم بسبب ذلك حوكم عليه بالإعدام ثم بالأشغال الشاقة المؤبدة

وقضى عشر سنوات في سجن "لامبيز"، وقال لي عندما لقيته إنه بقي هناك فترة طويلة يلبس البدلة المخططة Zebre التي تميز المحكوم عليهم بالإعدام لتكون ملابسهم المخططة مثل جلد حمير الوحش ناطقة بأنهم أعداء فرنسا الذين لا حق لهم في الحياة، وتذكرت أنه بعد أن أفرج عنه وجاء إلى باريس كان يستعد للعودة إلى بلده تلمسان ووطنه في الجزائر، لكنه حرم من ذلك وفرضت عليه الإقامة الجبرية

وما زال محرومًا من حقه في الحرية أو التنقل أو العودة لوطنه أثناء الاحتلال والآن يأمل أن فتح له طريق الجزائر التي حررها المجاهدون الذين رباهم ونفخ فيهم روح المقاومة ودعاهم للجهاد، وهأنذا الآن قد سبقته إلى دخولها كما سبقت صديقي عمر التلمساني وكنت أعتبر ذلك فضلاً كبيرًا علي من الله –عز وجل-، ولكنني لم أسأل نفسي لماذا سمح لي بالدخول قبل هؤلاء الذين هم أحق به وأولى؟ ومن هم الذين مهدوا هذا الطريق الذي تحيط به الألغام وما هو هدفهم.

لم تشغلني هذه الخواطر عن تأمل قوي الجزائر ومزارعها ومساكنها التي مررت بها حتى دخلنا تلمسان، ولقينا فيها المسئول عن الولاية وهو السيد "المدغري" ومن معه من المسئولين عن الولاية. كان الطريق سهلاً ولم أشعر بأن من معي يساورهم أي تخوف أو قلق مما جعلني أعتقد أن العلاقة بينهم وبين الحكومة الانتقالية (التي عينها الفرنسيون ويرأسها السيد مصطفاي) لا تقل ودًّا ولا تعاونًا عن علاقتهم مع قائد ولاية تلمسان السيد "المدغري"، بل جرت اتصالات مع سلطات العاصمة الجزائرية (الحكومة الانتقالية)

وكانت غالبًا من خلال مدير مكتب رئيس تلك الحكومة وعرفت أن اسمه "محمد الخميستي"، وسأعود لقصته فيما بعد يكفي أن أذكر أنه أصبح أول وزير خارجية لحكومة الجزائر المستقلة التي شكلها بن بللا، وأن "المدغري" أصبح وزير الداخلية بها، أما (هواري بومدين) قد أصبح وزير الدفاع وبقي كذلك حتى دبر الانقلاب على صديقه بن بللا وأصبح هو رئيس الدولة مكانه، ووضعه في السجن الذي بقي فيه ولم يخ رج منه إلا بعد وفاة بومدين... هذا هو مسلسل الانقلابات الذي أخشى أن يكون بن بللا هو الذي بدأه كما عرفت فيما بعد "بعد فوات الأوان".

لا أذكر المكان الذي نزلت فيه، ولكني أذكر جيدًا مسجد سيدي "بومدين" الذي ترددت عليه للصلاة والدعاء، ولكنني شعرت بأنني معزول تمامًا عما يجري هناك في ذلك الوقت، إلى أن دعاني محمد خيضر لأحضر "مؤتمرًا صحفيًّا" في مكان كان فندقًا على ربوة عالية مشرفة على المدينة وصعدت معه في سيارته فوجدت صالة غاصة بالصحافيين أغلبهم فرنسيون، وبعض المصريين لم أعرف كيف جاءوا ولا متى وصلوا، ولا الجهةا لتي استقدمتهم ورتبت لهم هذه الزيارة ببساطة، كنت مثل "الأطراش" في زفة...

أعلن بن بللا في هذا (المؤتمر الصحفي) أنه وزملاؤه قرروا تشكيل "مكتب سياسي" لجبهة التحرير الوطني وأنهم اجتمعوا واختاروا محمد خيضر ليكون الأمين العام لهذا المكتب ولجبهة التحرير الوطني الجزائرية، وأنهم يدعون جميع قواد الولايات ليكونوا أعضاء في هذا المكتب السياسي الذي يمثل جبهة التحرير، وله جميع الصلاحيات ليعمل باسمها ويتخذ القرارات التي تستلزمها مرحلة الاستقلال في الجزائر.

ولما سئل عن موقفهم من الحكومة المؤتقة قال إنهم عينوا وزراء فيها، ولكنها الآن بالمنفى، وهم الآن هنا في داخل الوطن، وعليهم أن يتحلموا المسئولية مع قواد الولايات ولابد أن تعين حكومة جديدة على أرض الجزائر المستقلة تتسلم السلطة من الحكومة الانتقالية بالداخل، أي أنه تجاهل "الحكومة المؤقتة" . كان واضحًا أنهم غير حريصين على انتقال الحكومة المؤقتة من المنفى إلى الداخل وأنهم مطمئنون إلى أن عودتها لن تكون سريعة ولا سهلة، وأن جهات معينة تكفلت بتعطيل ذلك.

أدركت فيما بعد أنني كنت أشاهد مسرحية انقلاب في جبهة التحرير الجزائرية، وأن المكتب السياسي الذي أعلنوا إنشاءه، كان تعبيرًا عن استيلائهم على قيادة الجبهة وإبعاد الحكومة المؤقتة ودون مشاركتها أو التشاور معها، بل أصبح من مصلحتهم تعطيل عودتها إلى الوطن الذي مثلته في المنفى عندما كانوا هم في السجن

وأن فترة إقامتهم في السجن الفرنسي استغلت إعلاميًّا لإعداد بن بللا للزعامة التي تهيأت لها جميع الأسباب الآن، وأن صديقي أحمد أصبح زعيمًا تلمسانيًّا من طراز آخر غير طراز صديقي الأستاذ عمر التلمساني وغير زعيمه التلمساني مصالي حاج، وأنه يستعد ليشكل حكومة بديلة عن الحكومة الوطنية التي قادت الجهاد عندما كان مسجونًا مع زملائه.

انتحيت جانبًا أسمع الحوار الصحفي، وأصابني ما يشبه الدوار والدهشة، ولم أدرك في بادئ الأمر مغزى ما يحدث أمامي، بل سرحت خواطري للمقارنة بين صديقي عمر التلمساني في سجن الواحات وهذا الزعيم التلمساني القادم من الغرب الذي أعده الإعلام للزعامة وهو في السجن، والآن يدخل الجزائر من الباب الخلفي

ولم أكن في ذلك الوقت مدركًا أنه جاء مزودًا بدعم من دول وجهات متعددة أصبح لها مصلحة في استيلائه على السلطة، ليكونوا شركاء له فيها لتحقيق مصالح لهم قد تكون على حساب مصالح شعب الجزائر وهويته العربية والإسلامية. أيقظني محمد خيضر وهو يقول لي: يحسن أن تعود أنت إلى المدينة، وهذا هو مفتاح السيارة التي جئنا بها فخذها لأنني سأبقى هنا بعض الوقت مع "الإخوة" أعضاء المكتب السياسي.

رغم الهواء النقي خارج القاعة فإن أثر الدوار كان ما يزال يشل تفكيري، عدت إلى مسكني ولا أدري كيف استرسلت في تفكيري إلى حوار صامت مع ذكرياتي ولقاءاتي مع صديقي الأستاذ عمر التلمساني الذي ينتسب إلى هذه المدينة التي أقيم أنا فيها، في حين أنه لم يرها رغم انتسابه لها، وأنه الآن في سجن مع زملائه بالواحات في الصحراء الكبرى وتساءلت إن كان القدر سيسمح له بأن تعود له حريته ويزور تلمسان؟...

وتمنيت أن أكون معه في تلك الزيارة وأن نصلي معًا في مسجد سيدي بومدين "الذي لا علاقة له بالسيد بومدين صديق بن بللا، الذي كان اسمه الأصلي "أبو خروبة" والذي رأيته اليوم لأول مرة مع زملائه الذين شكلوا المكتب السياسي ليحل محل الحكومة الجزائرية المؤقتة التي تمثل ثورة الجزائر وشعبها المجاهد". لابد أن أعترف أن هذه الخواطر لم تشغلني طوال مدة إقامتي في تلمسان فقط بل عاودتني مرات عديدة بعد ذلك بسنوات عندما سمعت بالانقلاب على بن بللا وسجنه فأصبح تلمسانيًّا آخر في السجن، مثل عمر التلمساني ومصالي حاج من قبل.

عادت إلي هذه الخواطر بعد ذلك عندما تسلمت أول خطاب من الأستاذ عمر التلمساني بعد ثماني سنوت، أي بعد الإفراج عنه في عام 1973م، في حين كان بن بللا ما يزال سجينًا، عاودتني كذلك عندما التقيت به في القاهرة بعد ذلك في عام 1975م، وحدثته عن زيارتي إلى تلمسان وصديقي بن بللا الذي كان ما يزال في السجن، وسأعود لذلك كله في حينه.

عندما التقيت بمحمد خيضر في اليوم التالي قلت له كنت أتوقع أن يكون بن بللا هو رئيس الحزب أو أمينه العام، قال لي مسرورًا: أنا الذي أتولى شئون المكتب السياسي والحزب أما أحمد فسيكون رئيس الحكومة... عندما نصل إلى العاصمة، وأخبرني أنه سيقوم بمغامرة للذهاب وحده إلى الجزائر العاصمة لعمل الترتيبات للانتقال إليها في أقرب فرصة.

رحلة خطيرة (1962م)

كان "محمد خيضر" يحب المغامرة ويقبل عليها، ويأخذ على صديقه "أحمد" أنه يؤثر "السلامة" ولما عاد من زيارته للعاصمة بعد يومين أخبرني أنه أتم مهمته في العاصمة وأقنع يوسف الخطيب قائد الولاية الرابعة التي تسيطر على العاصمة بألا يعارض وصول المكتب السياسي وأن يتعاون معهم

وأن مكانه محفوظ كغيره من قواد الولايات وأنه اختار مكانًا للمكتب السياسي يقيم فيه هو و(أحمد) بعمارة مكونة من أربعة طوابق تسمى فيلا جولي وأنه سيعد لي مكانًا بها عند وصولنا هناك، وأننا سنتحرك بالسيارات في اليوم التالي عن طريق وهران ومنها إلى العاصمة وكنت معهم وما زلت كالأطرش في "الزفة" ...

ولما سألته أين كان يقيم هذه المدة أسر إليّ بأنه نزل في السفارة المصرية قائلاً هذه سفارتنا، وفهمت منه أن بعض أعضاء المكتب السياسي ما زال مترددًا في الانتقال إلى العاصمة بهذه السرعة، وأن جماعة "بومدين" كانوا يعتقدون أنه لابد من أن تتولى قوة عسكرية تابعة له "تأمين" العاصمة؛ لأنهم لا يأمنون جانب "يوسف الخطيب" قائد الولاية الراعبة، ولكنه أقنع بن بللا بضرورة الإسراع بهذه المخاطرة، وأنه مطمئن إلى عدم وجود أية معارضة في دخولهم، وبالعكس ستكون هناك معارضة لو دخلت أية قوات مسلحة.

رغم الصدمة التي أحسستها نتيجة اكتشافي معالم هذه المسرحية الانقلابية فيما بعد وتذكرت أنها تمت في تلمسان، فإن الانتقال إلى العاصمة قد انشرح له صدري في ذلك الوقت لعدم "إدراكي أعماق المغامرة والمؤامرة" ؛ لأنه تم سلميًّا، وكنت واثقًا أنه سيكون هناك مجال للتفاهم أو المصالحة مع من نلتقي به هناك من قواد الولايات الأخرى التي لم تتخذ موقفًا ينحاز علنا لجماعة بن بللا وغيرهم من قادة جبهة التحرير بل وأعضاء الحكومة المؤقتة بعد وصولهم وسيكون هناك وسطاء قادرون على فرض صيغة للتوفيق بين المجموعتين، لكن هذا الأمل تلاشى....

لقد كانت رحلة خطرة بلا شك، وقد سعدت بها لأنني كنت وعدت صديقي بن بللا بأن أشاركه في دخول الجزائر في أي وقت أثناء الاحتلال الفرنسي، وأتحمل معه كل المخاطر طوال الرحلة التي توقعت أن يقاومها الفرنسيون أعوانهم، لكنني بكل أسف عرفت أن هذه الرحلة "كما اكتشفت فيما بعد" لم يكن الفرنسيون كارهين ولا معارضين لها، بل قد يكونون هم الذين رتبوا لها أسباب النجاح بمعاونة جهات أخرى!!!

بعد ثلاثين عامًا كاملة التقيت بصديق لي كان مرافقًا للشيخ البشير الإبراهيمي الذي استدعى من دمشق إلى مصر في تلك الفترة، وذكر لي أنه حضر لقاء له مع مبعوثين من السلطات المصرية، عرفوه بأن بن بللا وخيضر سوف يتجهان إلى الجزائر قادمين من الغرب ليتوليا الأمور هناك

وأنهم يرحبون به إذا رغب مشاركتهما في هذه الرحلة وأنهم مستعدون لتخصيص طائرة عسكرية تحمله فورًا للمغرب للانضمام لهما، وفهم الرجل أن غرضهم تجاهل زعماء الجبهة الآخرين وأعضاء الحكومة الموجودين بالشرق، فأجاب بأنه يفضل أن يذهب إلى الجزائر مع الجميع؛ لأنه كلهم أبناؤه ولا يريد التفرقة بينهم، أو الانحياز لفريق ضد فريق في حالة حدوث خلاف بينهم.

إن هذا الحديث العارض ذكرني بأنني عندما دعيت لمرافقة صديقي محمد خيضر وبن بللا في هذه الرحلة فإن هذه الدعوة إنما وجهت إلي في ليلة استعدادهما للسفر في الصباح لكي أشغل المحل الذي رفض الشيخ البشير الإبراهيمي أن يشغله؛ لأنه أدرك في ذلك الوقت ما لم يدر بخاطري ولم أكن أتوقعه عن دور بعض الدول في هذا الموضوع الذي شاركت أنا فيه عن غير قصد دون علم بأهدافه الانقلابية.

في طريقنا إلى الجزائر العاصمة كان محمد خيضر متفائلاً ومنشرح الصدر، وقد ركبت معه هو وزوجته، وكانت سيارتنا تتقدم رتلاً من السيارات في إحداها بن بللا وبعض رفاقه، وعندما قلت إنني آسف لفراق سيدي بومدين الذي استمتعت بزيارة مسجده، قال لي معترضًا: نحن ذاهبون إلى العاصمة وبها أولياء أعلى منه بكثير

وخاصة ذلك الذي كانت له "بقرة أكلت الأسد..." قلنا مندهشين: بقرة أكلت أسد؟ قال هذا ما يتداوله عامة أهل الجزائر، فاحذر أن تتجاهل "أولياء" العاصمة؛ لأن عندهم أولياء كبارًا، ولما سألناه عن قصة البقرة قال: يدعون أو وليًّا في بلد آخر قد اشتهر بأنه روض أسدًا حتى صار يتبعه ويطيعه ويسير وراءه كأنه كل حراسة، وشاع أمره في البلاد حتى وصل صيته إلى العاصمة وتسامعوا بأنه سوف يزور شيخهم ومعه أسد، وجاء اليوم الموعود واحتشد الناس في الطرقات ليرقبوا عن بعد كرامة الشيخ الذي يطيعه الأسد ويتبعه وهم مع ذلك حذرون خائفون منه.

وعندما وصل الشيخ ودخل على حامي الجزائر وتغذى معه، بقي الأسد ينتظره، ولما شرب الشاي هم بالاستئذان ليعود من حيث أتى، لكن شيخ العاصمة أصر على أن يبيت عنده، فاعتذر بأن معه "أسدًا" لا يجد له مكانًا يأمن أن يتركه فيه، فقال له اطمئن، وأمر أحد أتباعه أن يدخله إلى حظيرة بها بقرته

ولما أبدى الرجل خوفه على البقرة من الأسد الضيف، قال له افعل ما آمرك به وأدخل الأسد في الحظيرة مع البقرة فقبل ذلك، والناس كلهم يتعجبون ويتوقعون للبقرة شرًّا، لكنه أمرهم جميعًا بالانصراف وجاءوا في الصباح المبكر يتوقعون أن يروا البقرة أشلاء ممزقة، فوجودها بأتم صحة وعافية ولم يجدوا للأسد أثرًا، ادعى كثيرون أن البقرة التهمته كما التهمت عصا موسى ما ألقاه السحرة من حبال وعصي

وقال العقلاء إن الأسد قد هرب وآثر السلامة، وآمنوا جميعًا بأن شيخهم حامي الجزائر رغم تواضعه قد غلب وظهرت كرامته على الملأ، وأن بقرته قد أكلت الأسد أو طردته شر طردة ثم قالوا بعد فترة: إن بين الأولياء تنافسًا، وفي بعض الأحيان صراع لا يقل عما يدور بين الأمراء والزعماء...

لم يشغلني ذلك عن تأمل المزارع الكبيرة التي يملكها المعمرون الفرنسيون تحف بالطريف من حين لآخر، وخاصة قرب وهران، وفي الطريق منها للجزائر قصور وسيارات وحركة دائبة، وقال خيضر وهو يتأملها: هذه هي أول مشكلة نواجهها، فإن فرنسا أعطت أراضي الجزائر الخصبة لمن سمتهم المعمرين الفرنسيين أو المتفرنسين، فكل أوروبي كان من حقه أن يحظى بالجنسية الفرنسية؛

لأن هدفهم هو زيادة عدد المعمرين الفرنسيين ولذلك كانت تعطي لكل منهم مزرعة منهوبة من أبناء الجزائر المضطهدين، وخاصة أولئك الذين كانوا يغادرون البلاد طلبًا للأمان وخوفًا من البطش والطغيان الفرنسي أو من يستشهدون أو يلقي بهم في السجن، وقد آن الأوان لكي نرد الجميل لهؤلاء المغتصبين، وأن نعيد أرض الجزائر للجزائريين.

فيلا "جولي"

عندما اقتربنا من "فيلا جولي" محمد خيضر إلى قصر كبير يواجهها وقال إن هذا كان مقرًا للحاكم العام الفرنسي، وسوف سيكون "قصر الشعب" ونتخذه مقرًا للرئاسة... ولما وقفت السيارات أمام فيلا جولي، وجدتها بناية ذات طوابق أربعة وليس فيلا كما يفهم من اسمها، ودخلنا الطابق الأول المخصص للمكتب السياسي، ثم صعد بن بللا إلى شقته في الدور الرابع، وعائلة خيضر في الدرو الذي يليه

وقال لي محمد خيضر إنك ستقيم في شقة الضيافة فوق هذا المكتب، وكانت الشقق كلها مؤثثة ومجهزة، ويظهر أنها كانت مقرًا للعاملين في قصر "الرئاسة" ، والميزة الوحيدة لها أننا كنا نرى حديقة كبيرة مواجهة، بها أشجار عتيقة وكنت أقف في "الفراندة" في الصباح الباكر أستمع لموسيقى الطيور التي تتخذ هذه الأشجار مسكنًا لها، وتصحو مبكرة تستعد لرحيلها المبكر بحثًا عن الغذاء، وكثيرًا ما حدثت محمد خيضر عن ذلك حتى تعود أن يرقبها ويستمتع بغنائها كما استمتع كل صباح.

كانت الصحافة المحلية والعالمية تقوم بحملة ضخمة تمهد لاستيلاء بن بللا والمكتب السياسي على قيادة جبهة التحرير، حتى نسي كثيرون وجود الحكومة المؤقتة في المنفى التي تأخر وصولها، وأعتقد أن هذا التأخير لم يكن اختياريًّا وأن جهات معينة كانت تعطل عملية انتقالها لإعطاء "المكتب السياسي" الوقت الكافي لترتيب أموره وتنفيذ خطته.

في هذه الأثناء أصبحت الشقة المخصصة للمكتب السياسي كعبة للزوار من جميع الطوائف والطبقات التي أدركت اتجاه الرياح السياسي لصالح بن بللا وجماعته التي يمثلها المكتب السياسي، وربما كان للأموال التي بحوزتهم دور كبير في اجتذاب الزوار وحرصت على ألا أغادر شقة الضيافة التي أقيم بها إلا للضرورة تفاديًا لمقابلة هؤلاء الطامعين أو التعرف عليهم...

من حسن الحظ أن أحد الشبان النابهين الدارسين في مصر قد قابل محمد خيضر واختاره ليكون مدير مكتبه، وهو الأخ "مولود قاسم" الذي سعدت كثيرًا بالحديث معه وأعجبني منه اندفاعه الثوري في اتجاه العروبة والتعريب، وبقي طول حياته يقود مسيرة التعريب حتى في عهد بومدين وبعد ذلك حتى وفاته رحمه الله.

تفرغت للعمل الذي نذرت نفسي له منذ مدة، وهو إعداد مسودة الدستور الجزائري، وهذا العمل هيأ لي الفرصة للابتعاد عن جميع القضايا التي تشغل أصدقائي لتنفيذ خطتهم وقد حرصت على ألا أسألهم ولا أحدثهم بأي شأن إلا إذا بادروني هم بالحديث عنه... ولكني وجدت أن القيام بهذا العمل يحتاج إلى التفاهم معهم بشأن المبادئ الأساسية والاتجاهات العامة التي يجب أن تكون محور المسودة المطلوبة، وكنت أفكر في الطريقة التي تمكنني من أن أجلس معهم في هدوء لأعرف ما يريدون في هذا الصدد، وقد أتيحت لي الفرصة بالمصادفة البحتة عندما أخبرني محمد خيضر أن (أحمد) سوف يقدم وزارته للجمعية الوطنية التي اتفقوا على أن تحل محل الحكومة الانتقالية التي كان يرأسها السيد مصطفاي

وهنا قلت له: إن الحكومة الانتقالية تولت السلطة بقرار من فرنسا تنفيذًا لتعهداتها في اتفاقية (إفيان)، لكني لا أرى من المصلحة أن تكون الحكومة الأولى للجزائر المستقلة مجرد بديل لحكومة انتقالية من هذا النوع، أو أن تستمد شرعيتها من تعهدات فرنسا في اتفاقية (أفيان)...

قال لي خيضر: وما هو السبيل لذلك؟ قلت: أقترح أن تبدأ الجبهة، أي المكتب السياسي، بإعداد بيان يعلن فيه الشعب الجزائري استقلاله، ويصدر هذا البيان من ممثليه الشرعيين دون أية إشارة لمعاهدة (إفيان)؛ لأن شعب الجزائر حقق استقلاله بجهاده وإرادته لا بقرار من فرنسا التي يمكنها في أي وقت أن تنسحب من معاهدة إفيان أن تسعى لإلغائها لأي سبب من الأسباب، فلا يجوز أن يكون معنى ذلك أن ينهار الأساس الشرعي للاستقلال

وقد أعجبت الفكرة محمد خيضر، وأخذني ما يدي وجلسنا مع بن بللا، فوافق عليها فورًا، وقال عليك أن تعد لنا مسودة لهذا "الإعلان"، قلت له: إنه سيكون إعلانًا دستوريًّا؛ ولذلك فسوف يتضمن المبادئ الأساسية التي يقوم عليها دستور الدولة الجزائرية ولابد أن أعرف رأيكم في هذه المبادئ، قال: أنت تعرف آراءنا من قديم وتعرف أهدافنا ومبادئنا، فعليك أن تعد المسودة ونناقشها معك بعد ذلك... "يا محمد مبروك عليك... هي الجزائر عادت إليك".

عندما وصلنا إلى عاصمة الجزائر سمعت أكثر الأغاني الشعبية التي عبرت عن فرحة الشعب الجزائري بانتصار الثورة وإعلان الاستقلال، تلك الأغنية التي مطلعها: يا محمد مبروك عليك هي الجزائر عادت إليك. و"محمد" هنا هو الشعب الجزائري المسلم، وكان الفرنسيون عندما ينادون أحدًا من أبناء الجزائر لا يتهمون بذكر اسمه ويكتفون بمناداته يا محمد، وكانوا يعتبرون هذا النداء في ذلك الوقت نوعًا من التمييز ضد الأهالي؛ لأنه يذكرهم بأنهم مسلمون، أي أنهم ليسوا في نظرهم مثل السادة الفرنسيين أصحاب السلطان.

كذلك الأمر بالنسبة للسيدات أو البنات، إذ كان يكفي أن يسموها فاطمة، ومعنى ذلك أنها مسلمة وليست من السلالة الأوروبية المسيطرة. وكانت هذه الأغنية تهنئ الشعب المسلم بأنه أصبح مالكًا للجزائر وسيدًا لها، وقد سعدت بسماع هذه الأغنية التي تدل على أن الشعب الجزائري يدرك حقيقة أن استقلال الجزائر كان انتصارًا للإسلام وأبنائه ومجاهديه المسلمين في هذا الوطن الأصيل، وأن الجزائر المستقلة ستكون بإرادة شعبها دولة إسلامية، وكان ذلك هو الذي دفعني لإبراز الطابع الإسلامي في مسودة الإعلان باستقلال الجزائر...

لكن بعد ذلك ظهر لي أن الشعب الجزائري المسلم لم يستطع أن يفرض إرادته بعودتها إلى "محمد" ، والسبب في ذلك أن بعض الجهات التي أيدت الثورة قد سارعت إلى تشجيع فريق بن بللا ومساعدتهم للاستيلاء على السلطة، وكان الهدف الظاهري هو إبعاد الحكومة المؤقتة التي كانت تحظى بالتأييد في الداخل والخارج ولكن الهدف الأهم في نظرهم هو إلزامه تدريجيًّا باستبعاد الطابع الإسلامي للدولة الجزائرية الناشئة، ورغم أنني كنت متعاونًا مع هذا الفريق فإنني بدأت أشعر بأن له ارتباطات عديدة مع بعض الجهات التي أصرت على استبعاد "محمد" من أن يصبغ الجزائر المستقلة بطابعه الإسلامي.

أول هذه الجهات كان الحكم الناصري العسكري في مصر، الذي بدأ منذ عام (1953م) بأن يفرض على كل من يتعاونون معه من الجزائريين أن يتبرءوا من حزب الشعب الجزائري وغيره من الأحزاب الوطنية لأنها "موضة قديمة" Out of Date كما قالوا بالنسبة لعبد الرحمن عزام، وأنهم بدءوا بأن أعلنوا في مصر شعارات اشتراكية حولوها بعد عام (1961م) إلى الانحياز للكتلة الشيوعية السوفياتية تحت شعار "التحول الاشتراكي"

ثم استعملوا هذا الشعار الاشتراكي في أقطار شمال إفريقية لشق صفوف الحركة الوطنية في الجزائر أولاً ثم في المغرب ثانيًا، أما تونس فقد تأخرت الخطة باغتيال صالح بن يوسف في أغسطس (1961م)، لكنها بدأت في مجارات (الموضة الاشتراكية) بتحويل الحزب الدستوري التونسي الجديد إلى حزب اشتراكي على يد أحمد بن صالح في سنة 1964م، لكن بورقيبه عدل عن ذلك مكتفيًا بما سماه (البورقيبية) والفرانكفونية التي تحل محل الاشتراكية في معاداة التيار الإسلامي.

إن دعاة الاشتراكية الناصرية والفرانكفونية ساروا في طريق التنكر للفكر الإسلامي والتخطيط لمقاومة التيار الإسلامي، ليس في مصر وحدها بل في جميع أنحاء العالم العربي والإفريقي وخاصة الجزائر، وكانوا متعاونين في ذلك وعملوا هم وحلفاؤهم البعثيون والقوميون العرب في فرض الوصاية على حكومة بن بللا لكيلا تلتزم بإرادة شعب الجزائر في إعادتها إلى "محمد".

إن من سموا أنفسهم اشتراكيين أو شيوعيين أو يساريين، سواء من الجزائريين أو الفرنسيين والمتفرنسين، كل هؤلاء كانت تجمعهم فكرة الفرنسة أو الفرانكفونية، وإن كانوا يغطونها بالشعارات الاشتراكية بصفة مؤقتة عندما كانوا في حاجة إلى حلفائهم الناصريين وأصدقائهم من البعثيين ومن يسمون أنفسهم قوميين.

هاتان الجهتان استعملتا كل الوسائل لدفع بن بللا وجماعته للابتعاد عن كل ما يؤدي إلى عودة الجزائر إلى "محمد" وكل ما يعطي لشعب محمد طابعه الإسلامي الذي مكنه من خوض الكفاح ضد الاستعمار وانتصار ثورته بعودة الجزائر إليه، وكان هؤلاء يرون أنه في الحالات التي لا يمكن فيها منع عودة الجزائر إلى محمد، فإنه لابد من منع شعب محمد نفسه من العودة إلى الإسلام، أو من السيطرة على دولته، أو تقرير مصيره في اتجاه إسلامي

وقد بدءوا بالرؤساء الذين تحالفوا معهم وأحاطوهم بحاشية من المنافقين يحرسونهم من تأثير الفكر الإسلامي، إن بعضهم كانوا يعتبرون أن وجودي هو أحد المنافذ التي يدخل منها التيار الإسلامي إلى المكتب السياسي وإلى الحزب والحكومة الجزائرية التي يرأسها بن بللا ولذلك عملوا على معارضة كل ما قدمته من مشورات ومشروعات واضطروني إلى مغادرة الجزائر. أول المقترحات التي ثاروا عليها وقاوموها كان مسودة إعلان استقلال الجزائر كجمهورية عربية إسلامية التي قمت بإعدادها.

إعلان الاستقلال لجمهورية الجزائر العربية الإسلامية (1962)

كان أول نص في المسودة التي أعددتها لإعلان استقلال الجزائر أنها جمهورية عربية إسلامية وأن دستورتها ديمقراطي، وأنها تلتزم بمبادئ عدم الانحياز، وأنها تعتبر الاشتراكية أساسًا لنظامها الاجتماعي... إلى آخره. وقد ناقشته مع أحمد بن بللا ومحمد خيضر مجتمعين واتفقتا على الصيغة النهائية على هذه الأسس الواضحة، وتعهد محمد خيضر بجمع المكتب السياسي في أسرع وقت ممكن لمناقشة المسودة والاتفاق على ما يلزم لاعتمادها. لكني فوجئت في صباح اليوم التالي بأحمد بن بللا، يلتقي بي ويقول إن هناك اعتراضات على هذه الصيغة، وهم يفضلون أن توصف الجمهورية الجزائرية بأنها ديمقراطية وشعبية؛ لأن هذا يتفق مع ما اتفقنا عليه في ميثاق "طرابلس".

قلت له: إن وصف الديمقراطيات الشعبية معروف في العالم كله أنه يشير إلى النظم الشيوعية الموالية للاتحاد السوفياتي، والتي هي جزء لا يتجزأ من الكتلة الاشتراكية أو الشيوعية السوفياتية، فوصف الجزائر بهذا الوصف معناه أننا نحاز فعلاً للكتلة السوفياتية وهذا يتناقض مع ما ينص عليه البيان من أننا نلتزم بعدم الانحياز. هنا بدا عليه شيء من التردد والحرج، وقال لي إنني أقترح أن تلتقي مع عباس فرحات وزملائه وتتناقش معهم في هذا الموضوع لأنهم يتمسكون بصيغة "طرابلس".

حضر السيد عباس فرحات ومعه زميله ومستشاره السيد "فرنسيس" وآخر لا أذكره الآن إلى المكتب السياسي، وجلست معهم وعرضت وجهة نظري وناقشتهم، لكنهم أصروا على ضرورة الالتزام بما تم الاتفاق عليه في ميثاق طرابلس، وهو أن تكون الجزائر ديمقراطية وشعبية، وتدخل بن بللا في الحوار وقال إن النظم الشيوعية تسمى ديمقراطية شعبية، وجمهوريتنا تختلف عنهم؛ لأننا نصفها بأنها ديمقراطية وشعبية وهذا اختلاف كبير!!!

كان كل ما استطاعوا أن يقدموه من تنازل هو وضعه (واو) بين الديمقراطية والشعبية بحجة أن ذلك سوف يكفي لتمييزها. كان بن بللا يظهر لي أنه مقتنع بوجهة نظري، ولكن قال إن الإخوان في المكتب السياسي وخصوصًا عباس فرحات وجماعته هم الذين يعارضون مستندين إلى ميثاق طرابلس وهم يقولون لي إن اللجنة التي كنت أرأسها في طرابلس هي التي وضعته، ونص على أن تكون الجزائر جمهورية ديمقراطية شعبية. وفي نظري أن هذا "الواو" لم تكن كافية للإشارة إلى أنها جمهورية غير منحازة لكتلة أوروبا الشرقية التي يتزعمها الاتحاد السوفياتي، ولقد قلت لهم: إن هذه (الواو) التي تشيرون إليها لن يلتفت لها أحد، وسترون أنها ستكون مهملة أو معطلة.

وقد تذكرت ذلك عندما اطلعت على الدستور الجزائري الذي أعده الشاذلي بن جديد وأقره باستفتاء عام ونشر نصه العربي والفرنسي في مجلة المجاهد، وسلمني إياه سفير الجزائر في السعودية صديقي التيجاني هدام، فوجدت أن النص الفرنسي وحده هو الذي فيه "الواو" أما النص العربي الرسمي فقد سقط منه هذا الحرف مما يدل على أن الإعلام الجزائري ذاته فضلاً عن النصوص الرسمية لا تعطي لهذه الواو أي قيمة، ولا أهمية.

لقد اكتشفت الدور الكبير الذي يقوم به عباس فرحات وجماعته في حراسة الاتجاهات التي يحرص عليها الفرنسيون، فهم لم يكونوا اشتراكيين في يوم من الأيام، لكنهم يريدون اتخاذ الشعارات الاشتراكية ستارًا لسياسة تهدف إلى طمس الهوية العربية الإسلامية للدولة الجزائرية الناشئة إرضاء لفرنسا، فالاشتراكية "في نظرهم" في ذلك الوقت (في نظر الفرنسيين) كانت أفضل السبل لاقتلاع جذور الثقافة الأصيلة وتحطيم الوحدة العربية وهو أمر ليس بجديد على عباس فرحات الذي كان يدعو لفرنسة الجزائر، ويدعي أنه لا يرى أثرًا لما يسمونه الشعب الجزائري...

قلت لأحمد: إنك نسيت دور هؤلاء عندما كانوا يكونون حزب "البيان" في محاربة الوطنيين والدفاع عن الاندماج باسم الاتحاد الفرنسي والثقافة الفرنسية واللغة الفرنسية فكيف يكون لهم رأي في مصير الجزائر العربية الإسلامية، قال بكل هدوء: إن الجزائر عربية مسلمة بدون حاجة لنصوص أو بيانات، وهذه مسائل شكلية ووقتية فلا تشغل نفسك بها قلت إنني سوف أعمل كل ما أستطيع لتحذير أصدقائك من أعضاء الجمعية أو المكتب السياسي وهذا أقل ما يجب علي عمله، قال لي افعل ما تستطيع.

بحثت عمن يرفع صوت الجزائر العربية المسلمة عند مناقشة هذا البيان، وتحدثت مع كثيرين ممن أعرفهم، فوجدتهم مشغولين بأمور أخرى مثل توزيع المناصب الوزارية، لكني وجدت المجاهد العريف عضو المكتب السياسي الذي يمثل البربر فيه العقيد محمدي سعيد، ولما حدثته في الموضوع قال: أنا أؤيدك لكن اتركه لي وسوف أتولاه، لكني لم أتكلم عن الجزائر العربية لأن العروبة قد تثير بعض من يتحدثون باسم البربر، ويريدون التفرقة بينهم وبين العرب، أما الإسلام فهو الذي يحمينا ويوحدنا، ولن يجادل فيه أحد.

كنت جالسًا في شرفة الزوار في قاعة المجلس الوطني أستمع للمناقشات التي سيثيرها محمدي سعدي في الجمعية الوطنية، وكان بجانبي أحد الدبلوماسيين الفرنسيين يرصد كل شيء، وكان عباس فرحات يرأس الجلسة وعرض نص البيان بالصيغة التي أرادوها في المكتب السياسي، فطلب (محمدي سعيد) الكلمة وقال أقترح أن توصف جمهورية الجزائر بأنها الإسلامية فقاطعه أحد المتفرنسيين وقال: "إن الجزائر ليست مثل اليمن" وسكت الجميع!! ولم يعقب واحد من الحاضرين للتأييد أو المعارضة، وانتقل عباس فرحات إلى التصويت وجدول الأعمال كأنه لم يسمع شيئًا، وانتهى الموضوع عند هذا الحد.

لقد ذلك تدريجيًّا وأدركت أنني لا يمكن أن أتعاون معهم على هذا الأساس، كما أنني لا أستطيع تغيير هذا الاتجاه، وكان هذا أول (شنآن) بيني وبين أصدقائي الجزائريين ولم أجد من أتحدث معه ثانيًا في هذا الموضوع... ولكني تذكرت كل ذلك وذكرته لأصدقائي في طريقي لعاصمة الجزائر في ديسمبر عام 1994م عندما طلبت منهم أن يرتبوا لي زيارة للسيد العقيد محمدي سعيد لكي أستعيد معه ذكريات الماضي، ولكن هذه الزيارة أيضًا لم تتم بكل أسف، إذ كان مريضًا يحتضر في ذلك الوقت، ولكني استطعت أن أقف على قبره وأعزي أبناءه وأذكر لكل من عرفت دوره في تأييد اقتراحي بأن تكون الجزائر جمهورية إسلامية.

كان من ضمن اتفاقيات (إفيان) أن توجد جمعية وطنية جزائرية تختار جبهة التحرير أعضاءها من الجزائريين على أن يكون من بينهم نسبة من الفرنسيين الذين يقيمون في الجزائر، وهؤلاء الفرنسيون كانت الجبهة هي التي تختارهم، وقد اختارهم المكتب السياسي من اليساريين والاشتراكيين الذين تعاونوا مع الجبهة في أثناء الثورة، وأصبح لهؤلاء نفوذ كبير لدى بن بللا والمكتب السياسي وحكومة بن بللا، وكانت هذه الجمعية الوطنية الجزائرية هي التي سوف تصدر البيان باستقلال الجزائر الذي اقترحت إصداره ليكون أساسًا قانونيًّا لاستقلال الجزائر بدلاً من أن يكون أساسه هو معاهدة مع فرنسا في (إفيان)؛

لأن المعاهدة ممكن في أي وقت أن يحدث خلاف بشأنها بين فرنسا والجزائر فلابد أن الممثل للشعب الجزائري وهو (محمد) الذي عادت له بلاده وهويته العربية الإسلامية أن يعلن تمسكه بها، لكن بكل أسف كان الذي يمثل "محمد" هو الجمعية الوطنية المعينة، وكان فيها فرنسيون يعتبرون أنفسهم شركاء بن بللا وجماعته في الانقلاب عن الحكومة المؤقتة التي ما زالت في الشرق؛ لذلك فإن هذه الجمعية لم تكن تمثل إرادة الشعب الجزائري المكافح العربي المسلم المعتز بهويته العربية الإسلامية...

لقد نجح هؤلاء في استبعاد اقتراحي الذي أيده محمدي سعيد، وعند ذلك تذكرت قول صديقي محمد خيضر أن من أول المشاكل التي تواجههم هو وجود المعمرين الذين ملكتهم فرنسا الأراضي الخصبة في الجزائر التي انتزعتها من الجزائريين المسلمين، والآن اكتشف أن الاشتراكيين والشيوعيين الجزائريين والفرنسيين قد تسللوا إلى فريق بن بللا بحجة أنهم سوف يساعدونه على تأميم هذه المزارع وتمليكها للدولة الجزائرية طبقًا للمبادئ الاشتراكية

ولكن هذه المساعدة الشيوعية والاشتراكية لم تكن بدون مقابل كما ظن بن بللا وأصحابه، بل كان المقابل في ميثاق طرابلس هو أن تكون الجمهورية الجزائرية التي تتملك هذه الأراضي شعبية اشتراكية كما فرضوا عليهم تدريجيًّا أن تكون الاشتراكية معناها استبعاد الإسلام والطابع الإسلامي... لقد ابتلع بن بللا وجماعته هذا الطعم، وظنوا أن تملك الأراضي أهم من الطابع الإسلامي، وأن التضحية بهذا الطابع الإسلامي ستكون مؤقتة أو ظاهرية أو شكلية؛ ولذلك أعطوا الضوء الأخضر لهذه المجموعة اليسارية من الشيوعيين والاشتراكيين الجزائريين والفرنسيين؛

لكي يعارضوا في اقتراحي بإعطاء الجمهورية الطابع العربي الإسلامي؛ بحجة أن الطابع الاشتراكي الشعبي هو الأهم، وأنه يعني في نظر أصدقائهم وشركائهم الشيوعيين والاشتراكيين الفرنسيين والجزائريين وجوب استبعاد الطابع العربي الإسلامي من إعلان الاستقلال الذي أدى في النهاية إلى استبعاده من الدستور والقوانين والمؤسسات الإدارية والثقافية عن طريق ضغوط متوالية، إذ تلا منع الطابع العربي الإسلامي من الظهور في إعلان الاستقلال، ومعارضتهم لجعل الإسلام أساس الجنسية كما اقترحت في مشروع قانون الجنسية

وأضافوا لذلك سيطرتهم على الجامعة أولاً وإخراج دعاة التعريب وأنصار الثقافة الإسلامية منها كما فعلوا مع صديقنا الدكتور الهاشمي التيجاني، وكما فعلوا معي شخصيًّا بمنعي من التعيين أستاذًا بالجامعة فيما بعد، ثم تلا ذلك منع تعريب مؤسسات التعليم، ومؤسسات الدولة كلها، وجهازها الإداري، واستمر ذلك كله في عهد حكومة بن بللا، حتى جاء بومدين فبدأ سياسة التعريب، ولكن بدون اتجاه للثقافة الإسلامية...

غنائم (الثورة) وجراثيم الفساد وجمعية القيم الإسلامية

في مستهل عهد الاستقلال وبداية الحكم الوطني باسم جبهة التحرير، لاحظت أن الجميع كانوا مشغولين بالحكومة الجديدة والوزراء الجدد ومكاتب الوزراء والوزارات والكل يتسابق للاستيلاء على الأماكن المتروكة والمساكن الخالية والممتلكات التي تركها المعمرون الفرنسيون، وقد أطلقت الحكومة اليد لكل من يحتل أي مسكن أو عقار ليستولى عليه طالما أنه كان مملوكًا لأحد الفرنسيين الذين تركوا البلاد

وشغل الجزائريون بالصراع والسابق لاحتلال الأملاك المتروكة Biens VAcants كأنها غنائم حرب، لا للمحاربين بل للقاعدين الذين كانوا يرافقون هؤلاء الفرنسيين المعمرين يصاحبونهم أو يتعاونونهم أو يعملون لهم، فهؤلاء كانوا يعرفون بيوتهم وأملاكهم وكان يكفي لأي واحد منهم أن يدخل المكان ويحتله حتى يصبح له ولم تضع "الثورة" أي نظام لإحصاء هذه الممتلكات أو توزيعها أو الاستفادة منها لصالح المجتمع أو الحكومة، كأن كل ما لديهم الحكام الجدد أن ينشغل جميع الأفراد بالسباق والنزاع حول هذه "الغنائم" وينسوا مشاكل الاستقلال ومسئوليات الاستقلال، بل وحكومة الاستقلال.

هذه الفوضى كانت في نظري نواة لسرطان الفساد الذي سرى في المجتمع الجزائري بعد الاستقلال، وخاصة في أوساط المسئولين عن جبهة التحرير الوطني التي حكمت البلاد وسيطرت عليها باسم الاشتراكية والحزب الواحد منذ الاستقلال، وكان أكثر الحكام مثل أكثر الأفراد مشغولين بالبحث عن غنائم يملئون بها جيوبهم ويضاعفون بها أملاكهم

وكان الهدف في البداية هو الأموال الفرنسية "المتروكة" ، لكن بعد ذلك أصبح المال العام كله هدفًا لعمليات الاستيلاء، وصار الانتساب لجبهة التحرير في كثير من الأحوال مجرد وسيلة لتسهيل عمليات الاستيلاء، وهذا هو سرطان الفساد الذي ثار عليه الشعب بعد ذلك، وكان سببًا لسخط الجماهير وثورتها الذاتية التي تصدت لقيادتها جبهة الإنقاذ الإسلامية، ويصفونها بأنها الثورة الحقيقية.

قامت هذه الثورة الثانية في الجزائر بعد ثلاثين عامًا من الحكم الوطني لمعالجة الفساد والانحراف الذي أصاب الحكام الذين استغلوا سلطتهم للإثراء والاستيلاء على المال العام، ولم يجد الجزائريون من يتصدى لذلك إلا جيل من الشباب المحروم الذي رفع شعار الإسلام الذي كان في نظرهم رمزًا لإعادة الجزائر إلى أصولها وحقيقتها الإسلامية العربية ووسيلة لضمان قدر من الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

منذ عام 1963م إلى 1982م، كنت ألتقي بكثير من شباب الجيل الجديد في الجزائر الذين لم يكن لهم أي دور في سياسة بلادهم، ولا في حكومتها، ولم يجدوا لهم منقذًا أو ملجأً إلا في الأصول الإسلامية، وكانت أول مجلة عربية إسلامية عندهم تحمل اسم "الأصالة" إشارة إلى أنهم يعتقدون أن مستقبلهم لن يكون إلا في الاحتماء بالأصالة العربية الإسلامية

وكان بعضهم يعتقد أنه لن يتم ذلك إلا بثورة ثانية لتطهير البلاد من فساد من ورثوا الثورة الأولى ولم يكونوا أمناء عليها، لكن المهم أن نعرف المسالك والدروب التي سلكها هذا التيار الفكري، وبدأ في صورة جمعية ثقافية تدافع عن قيم الإسلام ومبادئه... كان من أوائل من زاروا محمد خيضر باعتباره أمينًا عامًا للمكتب السياسي شاب رياضي عاش في المغرب طويلاً، ولقيته هناك، هو "الهاشمي التيجاني" وقدم لي نفسه بصفته رئيسًا لجمعية ناشئة في أحضان جبهة التحرير تحت اسم "جمعية القيم" ، وعرفني بأنها تضم نخبة من الشبان الذين يلتزمون بالقيم والمبادئ الإسلامية ويدعون لها

وأنهم اتخذوا لهم مقرًّا بالعاصمة ويلقون فيه محاضرات، ويعقدون ندوات لإحياء الثقافة الإسلامية ونشر الدعوة للأصالة والمقومات العقيدية والفكرية للشخصية الجزائرية التي يحاول البعض طمسها بدعايات مستوردة يقوم بها عملاء القوى الأجنبية كوسيلة لصرف نظر الناس عن القيم الأصيلة والمقومات التاريخية للشعب الجزائري ودعا "خيضر" لزيارة مقر الجمعية والالتقاء بالعاملين فيها، فكلفني "محمد خيضر" أن أنوب عنه في هذه الزيارة؛ لأن ظروفه لا تسمح له بذلك الآن، وفضلاً عن ذلك فإنه قال لمحمد خيضر إن جمعيته تستعد لعقد مؤتمر لها، ويسرهم أن يدعوه لحضوره، فوعد بذلك.

ذهبت إلى مقر جمعية القيم فوجدته غرفة بإحدى الشقق التابعة لأحد مكاتب منظمة التحرير الجزائرية، والتقيت فيه ببعض المسئولين في تلك الجمعية، كان من بيهم شاب درس الآداب ويتولى شئون الطلاب في الجمعية هو "عباسي مدني" ، وفي مكتبة الجمعية التي هي في نفس الوقت قاعة الاجتماعات جلسنا نتحدث جميعًا بعض الوقت

وكان التيجاني قد عرفهم بانتسابي للإخوان المسلمين فطلبوا مني أن أحدثهم عن تاريخها ونشاطها وأوضاعها الحالية التي لا يعرفون عنها إلا بعض ما تنشره الصحف الفرنسية في الجزائر ولما قلت لهم إن أحد قادة الإخوان المعتقلين في الواحات حاليًا هو جزائري وهو المحامي الأستاذ عمر التلمساني زاد اهتمامهم وتشوقهم للاستماع إلى حديث الإخوان

وأضفت لذلك أن الذي عرفنا بقضية الجزائر وأثار حماسنا لها هو أحد أعضاء جمعية العلماء الجزائريين الشيخ الفضيل الورتلاني وكان بعضهم يعرف أخباره ودوره في ثورة علماء اليمن على استبداد الإمام يحيى عام 1948م وسمعت منهم بعض الأخبار عن دورهم في الثورة الجزائرية، وعرفت من "عباسي مدني" أن مجموعته هي التي فجرت قنبلة في أول نوفمبر (1954م)، وأنه اعتقل على أثر ذلك وقضى في السجن كل سنوات الثورة، ولم يفرج عنه إلا أخيرًا بعد اتفاقية (إفيان) وأنه لذلك ليس لديه معلومات عما حدث في العالم في تلك الفترة.

قلت له مبتسمًا: خير لك ألا تعرف ما حدث للإخوان المسلمين منذ عام 1954م وألا تسأل عنه، وألا تشغل به أنت وزملاؤك في هذه الجمعية؛ لأن ذلك قد يدفعك إلى اليأس أو التردد أو الخوف، ونصيحتي أن تبدءوا من الصفر كأنكم تبدءون الدعوة للإسلام وحدكم من جديد، معتمدين على الله وعلى أنفسكم، والله معكم... في اليوم المحدد لمؤتمر جمعية القيم طلبني محمد خيضر، ولما ذهبت إليه في مكتبه وجدت معه رئيس جمعية القيم وأحد زملائه، وقال لي خيضر: هيا... سنذهب معهم لهذا المؤتمر.

وفي اليوم التالي اطلعت على بعض الصحف المحلية وفيها هجوم شديد على جمعية القيم ومؤتمرها بحجة أنهم دعاة الرجعية والتخلف والجمود وما إلى ذلك من الكليشيهات التي تعدونا سماعها من اليسار حينما يريدون إسطوانية الهجوم على الفكر الإسلامي وبعضهم تندر على الأمين العام للمكتب السياسي الذي حضر هذا المؤتمر المعادي للثورة الاشتراكية إلى آخره.

بعد ذلك أذكر أن بن بللا حدثني عن هذا الموضوع وعلق عليه بأنه هو نفسه لم يكن يرى أن من حق محمد خيضر أن يحضر هذا الاجتماع بحجة أن المكتب السياسي لم يؤخذ رأيه ولم يوافق على هذا، وهو يمثل المكتب السياسي، وما إلى ذلك من حجج شكلية وظهر في الحقيقة أنه كان متأثرًا بالمحيطين به من الشيوعيين واليساريين أكثر مما كنت أتصور وأنهم يحركون في نفسه هاجسًا بأن محمد خيضر سيكون منافسًا له في الزعامة، وهذا هو الذي يهمه وليس موضوع الاشتراكية الذي يلوحون له به.

ولم أستطع أن أطمئنه أو أطفئ نار الفتنة التي يشعل نارها الشيوعيون والاشتتراكيون ومن وراءهم من القوى العالمية التي تتآمر على الصحوة الإسلامية.

الهوية والجنسية

بعدما واجهته بشأن الطابع العربي الإسلامي للجمهورية، قلت لبن بللا إنني سوف أتفرغ لإعداد مشروع الدستور، لكن بعد ذلك اقترحت على بن بللا أنه لابد من صدور قانون بشأن الجنسية الجزائرية، وقلت له إن الجنسية الجزائرية تكلمت عنها اتفاقية إفيان التي عرفت الجزائري بأنه كل مسلم ولد في الجزائر وأبوه مسلم مولود في الجزائر، أما غيرهم ممن يحملون الجنسية الفرنسية فإن من يريد منهم أن يتخذ الجنسية الجزائرية يجب عليه أن يعلن اختياره للجنسية الجزائرية في فترة معينة، وتعطى له هذه الجنسية إذا كان هو مولودًا في الجزائر، وكان أبوه كذلك مولودًا بها.

وقد أعددت مشروع قانون الجنسية على هذا الأساس وأعطيته لبن بللا وقرأه هو ومحمد خيضر، ووافقوا عليه وقدموه أيضًا إلى المكتب السياسي، وهنا قامت عاصفة ثانية دخل فيها اليساريون أولاً والفرنسيون أيضًا وهم يحتجون على أنني أخذت تعريف الجزائري من اتفاقية إفيان، وهو أن الجزائري هو كل مسلم ولد في الجزائر وأبوه مسلم مولود في الجزائر

وبأن ما عدا هؤلاء يمكنهم أن يعلنوا اختيار الجنسية الجزائرية إذا كانوا من الفرنسيين الذين ولدوا في الجزائر، والمشروع الذي أعددته كان يتفق مع نصوص اتفاقية إفيان وعباراتها التي وافق عليها الفرنسيون ومع ذلك فإن بعض الاشتراكيين والشيوعيين الجزائريين والفرنسيين قاموا بضجة كبيرة واحتجوا على المكتب السياسي وعلى بن بللا عندما اطلعا على هذا الشروع فجاء لي بن بللا وقال لي: إنك سببت لي مشكلة كبيرة.

قال لي إن هناك وفدًا من أصدقائنا الفرنسيين الذين كانوا يؤيدوننا في أثناء الثورة ومنهم عدد من المحامين الذين كانوا يترافعون عن الجزائريين أمام المحاكم الفرنسية وأحدهم تزوج جميلة بوحريد، وهؤلاء جاءوا من فرنسا يحتجون على المشروع الذي أعددته بحجة أنه جاء فيه أن الإسلام هو أساس الجنسية، وقال إنهم أرادوا ألا يكون للإسلام دخل في الجنسية.

في المرة الأولى عند مناقشة بيان الحكومة أو بيان المجلس الوطني بإعلان الاستقلال لم يكونوا يريدون أن يكون للإسلام دخل في اسم الدولة أو صفة الجمهورية باعتبارها جمهورية عربية أو إسلامية، والآن يريدون أن يبعدوا هذه الصفة أيضًا عن الفرد والإنسان الجزائري رغم أن هذه الصفة اعتمدتها اتفاقية إفيان التي وافقت عليها فرنسا ووقعت عليها هي وجبهة التحرير، وهي التي وضعت هذا الأساس، والظاهر أن بعض الفرنسيين والاشتراكيين وجدوا أن الاستقلال يعطي لهم فرصة لكي يصبحوا شركاء في هذه الجمهورية الجديدة بصورة أكبر مما أعطت لهم اتفاقية "إفيان" ذاتها؛ لذلك لا يريدون أن تكون الجنسية لها علاقة بالإسلام وإذا أمكن لا علاقة لها بالعروبة.

إنهم يلوحون بالعروبة فقط إذا كانت العروبة وسيلة لإبعادها عن الإسلام كما يقول بعض القوميين العرب أو البعثيين أو من إليهم، وبعبارة أخرى فإننا نحن نعتبر أن انتصار الثورة الجزائرية كان انتصارًا للعروبة والإسلام، أما هؤلاء فإنهم يريدون أن يكون هذا انتصارًا لهم هم كاشتراكيين وعلمانيين وفرانكفونيين وهزيمة للإسلام والعروبة وهم يستغلون ضغوطًا أجنبية وخصوصًا من فرنسا وسطوة الإعلام الفرنسي الذي هو في نظرهم سلاح خطير يخشاه دائمًا الحكام في شمال أفريقيا، والظاهر أن هناك أسبابًا خاصة تجعل بن بللا وجماعته وعباس فرحات وجماعته يحسبون حسابًال هذا الإعلام كما لاحظنا وبدا أنني شخصيًّا أصبحت هدفًا للحملة الفرنكفونية.

قال لي بن بللا إن هناك وفدًا جاء من باريس ليتكلم في هذا الموضوع وأنه أحالهم إلى وزير العدل "عمار بن تومي"، وهو من أعوانه وأعرفه شخصيًّا، وقال إنهم سيجتمعون معه غدًا في مكتبه وأرجو أن تذهب هناك وتدافع عن وجهة نظرك وتحاول إقناعهم بها، وذهبت فعلاً، وكان واضحًا أنهم يريدون أن يملوا شروطهم، وقالوا لا نريد أن يكون للإسلام دخل في الجنسية، فأنا قلت لهم إنني لست أنا الذي أدخل الإسلام في الجنسية، بل معاهدة (إفيان) التي وقعتها فرنسا

وهناك أمران لابد من ذكرهما:

أولهما: أنتم تعرفون أن طول مدة الاحتلال الفرنسي لم تكن تذكر كلمة جزائري، وإنما كان الجزائريون دائمًا يوصفون بأنهم المسلمون، فكلمة (المسلم) هي التي كانت تدل على المواطنة الجزائرية ويقابلها كلمة الفرنسي لمن هم من غير المسلمين مثل المعمرين وغيرهم الذين جاءت بهم فرنسا ليحتلوا هذه البلاد ويحلوا محل المسلمين فيها.
وثانيها: أن اتفاقية إفيان التي وقعت عليها جبهة التحرير وفرنسا نفسها والحكومة الفرنسية، هي التي وصفت الجزائريين بأنهم هم المسلمون الذين ولدوا في الجزائر وآباؤهم مسلمون ولدوا أيضًا في الجزائر، أما ما عدا هؤلاء ممن يحملون الجنسية الفرنسية في الماضي والذين ولدوا في الجزائر فلهم وضع آخر هو أن لهم الحق في أن يختاروا الجنسية الجزائرية إذا شاءوا وأعطت لهم الفرصة في هذا، فجنسيتهم ليست جنسية حتمية ولا تلقائية ولا مفروضة عليهم، ولا يمكن أن يكون القانون الجزائري مخالفًا لنص اتفاقية إفيان.

قالوا: إننا لا نريد ذلك، وإن الجمهورية يجب أن تكون اشتراكية، ونحن اشتراكيون وتجمعنا الاشتراكية، وقاومنا الاستعمار معًا تحت شعار الاشتراكية كما هو ظاهر في ميثاق طرابلس وغيره.

قلت لهم: لا أحد في الدنيا قال: إن الاشتراكية جنسية أو أنها تقتضي الخروج عن الإسلام، الإسلام صفة في الشخص، والاشتراكية مذهب سياسي، حتى في البلاد الاشتراكية لا يشترط لشخص لكي يحمل جنسية الاتحاد السوفياتي أو أي دولة شيوعية أن يكون اشتراكيًّا إن الاشتراكية شرط للعضوية في الحزب، لا لحمل جنسية الدولة، إن المواطنين تفرض عليهم الاشتراكية باعتبارها نظام الدولة، ولكن لم يقل أحد إنها تمنح الجنسية أو إنها صفة في الشخص لكي تكون له الجنسية، فلا يجوز مطلقًا أن توضع كلمة الاشتراكية في قانون الجنسية. إن الاشتراكية مذهب أو حزب يذهب ويجيء، ولكن الجنسية شيء ثابت يبنى على أصول متعلقة بالموطن أو بالأصل الجنسي أو العنصري

والموطن هنا هو الجزائر والقانون أخذ بالعنصرين:

عنصر الموطن: أن يكون الشخص مولودًا في الجزائر وأبوه مولودًا بالجزائر، وثانيًا أن يكون مسلمًا؛ لأن المسلمين هم الذين كانوا جزائريين في عهد الاحتلال الفرنسي وكانوا مضطهدين وكانوا معرضين للاضطهاد والإبادة ليحل محلهم الفرنسيون سواء منهم الاشتراكيون أو الرأسماليون، فهذا القانون يعطي المسلمين الحق في أنهم هم المواطنون الجزائريون الأصليون.

كان واضحًا أن موقفهم لا أساس له من القانون، وأن هذه مسألة سياسية ويريدون استغلال صداقتهم مع بعض الأفراد في الجبهة أو في الحكومة، ولذلك فإن وزير العدل قال إن الموضوع سيناقش في الحكومة، وانتهت الجلسة على هذا، وأنا عدت إلى المكتب السياسي وتقابلت مع بن بللا وخيضر، وكان بن بللا يحرص على أن يخلص نفسه من أي التزام ويقول إن هذه المسألة تخص المكتب السياسي والحكومة والجمعية الوطنية.

رغم اعتراضاتي فقد قدم مشروع الحكومة إلى الجمعية الوطنية، وكان خاليًا من بعض النقاط التي دافعت عنها، ومرة ثانية قلت لأحمد بن بللا إنني سوف أحذر المسئولين في الحكومة "الجمعية الوطنية" ، قال: افعل كل ما تستطيع، وبدأت أمر على عدد من أصدقائي في جبهة التحرير وأتحدث معهم وأقنعهم وقصدت السيد الكولونيل مصطفى وكان وزيرًا في الوزارة في ذلك الوقت

وقد لجأت إليه لأنه كان ضمن وفد جبهة التحرير الذي تفاوض في إفيان والذي وقع على هذه المعاهدة، وقد قلت له وجهة نظري فاقتنع بها وقال أنا: موقع على هذه الاتفاقية ومن حقي أن أدافع عن وجهة نظرها وسوف أتكلم فعلاً حضرت الجمعية ووجدته وقف يدافع عنها. ولا أذكر إلى الآن ماذا تم بشأن الصيغة النهائية لقانون الجنسية الذي أعددت مسودته؛ لأن أمورًا أخرى شغلتني عن هذا الموضوع...

رمضان... وحافظ إبراهيم

بدأت أشعر بأن الحكومة والصحافة والجو الإعلامي في جمهورية الجزائر يتجه نحو الشعارات المعادية للإسلام بحجة الاتجاه الاشتراكية التي يظن كثيرون أنها تعني العداء للإسلام؛ لأن الماركسية تفرض الإلحاد، ومعنى ذلك أنهم يعتقدون أن الإسلام هو الخاسر في هذه القضية.

زاد اقتناعي بذلك أنه عندما جاء شهر رمضان لاحظت أن هناك حملة ضد الصيام في الصحف وهي صحف الحزب وصحف الحكومة، وهي حملة منظمة من الشيوعيين واليساريين والفرانكفونيين وأمثالهم لمهاجمة رمضان والتنديد بالصائمين والمتدينين عمومًا وبدأت الحملة في صورة رسائل من القراء، ثم دخلت في كتابات بعض الصحافيين والكتاب الذين بدءوا يريددون الحجج التي كان بورقيبه يستعملها في هجومه على الصيام في تونس كان هذا قبل الصيام

ولما بدأ شهر الصيام قلت لمحمد خيضر أنا أقترح عليك أن تذهب إلى الإذاعة وتلقي تهنئة للشعب الجزائري بشهر الصوم فتذكرهم بأن الصوم هو فريضة ونحن نتمسك بالصيام ونحبه؛ لأنه أعدنا للجهاد وأكرمنا بالنصر، وطلب مني أن أكتب له هذه الكلمة فكتبتها، وفيها قلت: إن الذين مارسوا الجهاد في الجبال والقتال في الغابات وأقبلوا على الشهادة في سبيل حرية شعبهم وكانوا منهم الشهداء والمعوقون من أجل مقاومة الاستعمار في الجزائر، هؤلاء أحبوا رمضان؛

لأن الصوم هو الذي رباهم على التقشف وأعدهم لهذه المعركة، وإن الصيام فرضه الله على المسلمين ليكونوا دائمًا على استعداد للجهاد في سبيل الله، أما الذين لا يعرفون الجهاد فيمكنهم أن يهاجموا رمضان وأن يعارضوا في الصوم لأنهم لا يشعرون بأهميته ولا بقيمته، وهؤلاء هم أنصار مسيلمة الكذاب الذي يحارب الصيام ويتبرأ من رمضان.

لقد ذهبت مع (محمد خيضر) إلى دار الإذاعة (و ما زالت موجودة حتى الآن وأمر عليها كل مرة أذهب للجزائر)، وكتبت له الكلمة بخطى ليقرأها ويلقيها أمامي، وعدت معه إلى المكتب السياسي، وفي اليوم التالي جاءني بن بللا وقال لي: ألا ترى ماذا فعل محمد خيضر؟ قلت له ماذا؟ قال: كيف يذهب إلى الإذاعة يشتمني فيها، قلت له: كيف شتمك قال: إنه يقول عليّ إنني مسليمة الكذاب

قلت: هو قال هذا، قال: نعم، قلت له: أنا الذي كتبت الخطاب وأنا الذي ذكرت مسيلمة الكذاب ولم أكن أقصدك مطلقًا لأنني واثق أنك لم تعارض في الصيام، وأنا على يقين أنك صائم وتحب الصوم – وأنت أول الصائمين ومحمد خيضر يعرف ذلك- وقال لي عدة مرات إنك أنت أول من يحافظ على الصلاة والصيام من زعماء الجزائر منذ بداية الثورة الجزائرية وأنا أشهد بذلك فكيف تقول إننا نقول عليك مسيلمة الكذاب

أنا قصدت حاكم تونس مسيلمة الكذاب، أنا قصدت حاكم تونس بورقيبه الذي أعلن الإفطار وتعمد الإفطار أمام الناس وقام في حفل عام وشرب في رمضان استفزاز<في حفل عام في الثالث من شهر رمضان الموافق 21/1/1964 وقف السيد بورقيبه يدعو التونسيين للإفطار اقتداء به وشرب أمامهم كوبًا من عصير البرتقال ليعلن لهم إفطاره> للناس، ويسخر من الصائمين والمصلين ويأمر بطرد من يصومون من صفوف حزبه "هذا هو مسيلمة الكذاب" وإن هناك أناسًا في الجزائر يريدون أن يسلكوا هذا المسلك "فهؤلاء هم أتباع مسيلمة" وليست أنت.

لقد اطمأن، وإذا كان لم يبد عليه اقتناع فالسبب – في نظري- هو أن الذي أثاره هو أن ذهاب محمد خيضر للإذاعة ومخاطبته الجماهير يدل في نظره على تطلعه للزعامة وقد أقنعه الكثيرون بأنها حق له دون منافس، وأيقنت لذلك أن حوله طائفة من المنافقين والشيوعيين والعلمانيين المتفرنسين الذين يستغلون طموحه الشخصي للإيقاع بينه وبين صديقه محمد خيضر.

كان رمضان في بداية الصيف في تلك الأيام، وقد عرض (محمد خيضر) على المكتب السياسي يرنامجًا للاحتفال بعيد استقلال الجزائر في الخامس من يوليو، يتضمن دعوة أكبر عدد ممن كان لهم دور في تأييد جبهة التحرير في مرحلة الجهاد سواء كانوا من رجال السياسة أو الصحافة أو غيرها من المجالات الأخرى.

وقد طلب محمد خيضر أن يكون صديقنا في مدريد الدكتور حافظ إبراهيم أول المدعوين ووافقته على ذلك، وطلب مني أن أقنع بن بللا بذلك؛ لأنه يعلم أنه كان هناك فتور في علاقاته معه لأسباب لا أعرفها، ولما حدثت أحمد في ذلك تردد، ولكنه وافق على إرسال الدعوة له بل إنه عندما أبلغته بموعد وصول حافظ أصر على أن يذهب بنفسه معي لمقابلته وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي ظهرت فيها بجانب بن بللا في خارج فيلا "جولي" وركبت معه في سيارته

وتحدثنا طويلاً في الطريق عن أمور كثيرة، وشعرت بأنه يواجه مشاكل كثيرة ويتمنى أن يساعده خيضر ويعاونه حتى يجتازوا هذه المرحلة، وعندما وصلنا للمطار قال لي إن له رجاء وهو أنه قد لا يكون له كثير من الوقت للاستماع إلى أحاديث الدكتور حافظ إبراهيم، التي يعرف ما تحتاجه من وقت، وطلب مني أن أنوب عنه أنا ومحمد خيضر في "الاستماع" إلى كل ما يقوله الدكتور حافظ وألخصه له

وعندما وصل حافظ تركتهما معًا طول الطريق، ثم تسلمت مهمتي بعد وصوله للفندق، أما محمد خيضر فقد كان هو أيضًا مشغولاً بمقابلة جميع المدعوين ولاحظت أنه أسرف في الدعوات مما سيكلف كثيرًا في نفقات الضيافة في الفنادق والسيارات وما إلى ذلك، ولكنه رد علي بأن "الحزب" أي جبهة التحرير يجب أن تستعد لمرحلة جديد لتقوم بدورها في كفاح الشعوب العربية والإفريقية المناضلة في سبيل تحررها ووحدتها.

أعتقد أن طموح خيضر لكي يقوم بدور إيجابي على المستوى العربي والإفريقي قد استغله البعض من اليساريين وعملاء النظام الناصري لإثارة مخاوف بن بللا من منافسة خيضر له على المسرح العربي، وأعتقد أنهم هم الذين كانوا يخشون ذلك؛ لأنهم كانوا مستريحين لالتزام بن بللا بالخط الذي رسموه له، ولم يكن لديهم ثقة مماثلة في قدرتهم على إلزام خيضر بمناهجهم فيما يختص بالمجابهة مع التيار الإسلامي عامة والإخوان خاصة.

قرب نهاية الصيف كنت أستعد للعودة لعملي في المغرب، ولكني اقترحت على خيضر وبن بللا معًا أن أترك مكاني بالمغرب إذا كان لهم رغبة في بقائي بجانبهم على أن أعين أستاذًا في كلية الحقوق بالعاصمة الجزائرية، وأبدوا حماسهم لذلك، وبعد ذلك لاحظت من جانب أحمد تسويفًا في اتخاذ قرار بهذا الشأن، وعلمت أنه عين أحد الفرنسيين اليساريين مديرًا للجامعة

وكن أول عمل لهذا المدير الجديد أن طلب عزل الأمين العام للجامعة الذي كان في ذلك الوقت الأستاذ الهاشمي التيجاني الذي أنشأ جمعية القيم وكان معروفًا بحماسه للفكر الإسلامي والتعريب فضايقه حتى أخرجه من الجامعة، وعلمت أن التيجاني اضطر للبحث عن منصب آخر ينقل إليه فلم يجد من الوزراء من يلجأ إليه سوى "محصاص" الذي كان وزيرًا للزراعة وكان من أصحاب العواطف والفكر الإسلامي، فانتقل من الجامعة إلى وزارة الزراعة!

قلت لصديقي خيضر إنني سأعود لعملي القضائي بالمغرب، لكنه رجاني أن أبقى بجانبهم واتصل بالدكتور الخطيب صديقنا بالمغرب ورجاه أن يتوسط لدى الملك الحسن الثاني ليوافق على إعارتي للمكتب السياسي لمدة عام، وأعطاني كتابًا بذلك أخذته معي للمغرب وبفضل مجهود الدكتور الخطيب وافق الملك الحسن الثاني على هذه الإعارة، ولاحظت حرص بن بللا على عودتي، وتبين فيما بعد أنه كان يرسم لكي أذهب مع خيضر في رحلة إلى (المشرق) لحاجة في نفس يعقوب.

ويعقوب هنا ليس هو بن بللا فقط كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ، لكنه في نظري كانت الجهة أو الجهات التي كانت تريد الانفراد بن بللا وإبعاده عن محمد خيضر لأنه في نظرهم أطوع لهم عندما يكون منفردًا أو معزولاً عن جميع أصدقائه وفي مقدمتهم محمد خيضر أعني بذلك عبد الناصر وأعوانه من الاشتراكيين.

رياح من (الشرق)

يظهر أن العالم العربي فوجئ بما حدث من تنافس وصراع على السلطة بين جماعة بن بيللا والحكومة المؤقتة، وعندما ظهرت الخصومات في ميادين الإعلام بين أنصار الفريقين وزاد التوتر حتى صار يهدد بحرب أهلية بين الطرفين وخشي الجميع أنه يمكن أن يبرر تدخلاً فرنسيًّا يضيع الاستقلال الذي ضحى في سبيله شعب الجزائر بآلاف الشهداء، سمعت من بعض إخواننا العرب قولهم إن الجزائريين أبوا إلا أن يثبتوا "عروبتهم" ؛ لأنهم أكدوا للعالم أنهم مصابون بداء الفرقة والانقسام الذي يمزق صفوف العرب في المشرق في كثير من أقطاره!!!

وقد جاء دليل آخر ليؤكد (عروبة) زعماء الجزائر وهو الخلاف في داخل جماعة بن بللا ذاتها، بدأ بالتنافس بينه وبين محمد خيضر وأحس به البعض أثناء احتفالات "الجبهة" بعيد الاستقلال، وكان خيضر يعتبرها احتفال الجبهة؛ لأنه ينفق عليها من أموالها لا من أموال الحكومة ولا الدولة. في اعتقادي أن بعض عرب المشرق من أعوان عبد الناصر الذين تسببوا في الخلاف الأول هم الذين تسببوا أيضًا في الخلاف الثاني إلى حد كبير.

لاحظت أن السفارة المصرية كانت من وراء ستار تغذي هذا الخلاف بين بن بللا وخيضر كما غدت الخلاف الذي سبقه بين بن بللا والحكومة المؤقتة، وإن كان ذلك كله يتم من وراء ستار وبخطا متلاحقة، وقد تأكد لي ذلك بعد رحلتي إلى "المشرق" مع محمد خيضر لأنني لاحظت أن الذي رتب لها ورسم خطتها هو سفير مصر على خشبة الذي سبقنا إلى مصر بعد أن نجحت الخطة وتحمس خيضر للسفر دون أن يدرك أهدافها البعيدة.

غادرنا السفير المصري ليعد خطة لإطالة الرحلة حتى يتمكن بن بللا من إتمام سيطرته على الحزب بعد أن سيطر على الحكومة. لقد كان عندنا مثل شعبي يقول: "لا يأتينا من الغرب ريح تسر القلب" إشارة إلى أن الرياح الخماسينية تهب من الصحراء الغربية تحمل الرمال والأتربة وعواصف الصحراء.

إن رحلتي مع محمد خيضر في الشرق في أوائل عام 1963م أضافت إلى ذلك القول قولاً يعارضه وهو أن رياح الشرق هي أسوأ ما يهب على بلاد المغرب؛ لأن ما يسمى في مصر رياح الخماسين الحارة التي تهب على مصر من الصحراء الغربية حاملة الغبار والأتربة لها نظير يهب على المغرب؛ لكنها تأتي من جهة الشرق حيث توجد الصحراء الكبرى وهي تحمل للمغرب مثل ما تحمله الخماسين لمصر من رمال وأتربة وعواصف، ولكن العواصف التي أتكلم عنها في ذلك الوقت هي متاعب سياسية وليس مجرد تقلبات جوية.

عندما عدت إلى الجزائر بعد انتهاء عطلة الصيف، فجأة جاءني بن بللا، وقال إنني اقترحت على "حمد خيضر" بأن يقوم بجولة في البلاد العربية وأريد أن تذهب معه لتساعده في الاتصالات هناك، ووجدت "محمد خيضر" متحمسًا لذلك، وقال بن بللا إنني أقنعت "محمد" بأن تذهب معه، فوافقت على ذلك

وبدأنا نستعد لهذه الرحلة، وطبعًا أنا أخذت كلام بن بللا بحسن نية وكذلك محمد خيضر أخذه بحسن نية وسافرنا فيما أظن في شهر ديسمبر (1963م) أولاً إلى القاهرة ومنها ذهبنا إلى الكويت والسعودية ثم إلى لبنان وسوريا وإلى الأردن وفي كل هذه البلاد كان هدف خيضر أن يقابل الجميع ويشكر الشعوب والحكومات على تأييدها للحكومة والثورة الجزائرية ويطلب منها معونات للدولة أو الجمهورية الجزائرية لتبني اقتصادها وتسترد هويتها العربية الإسلامية الأصيلة، وتبني لها اقتصادًا وطنيًّا بعد هذه الحرب التي دامت مدة طويلة والذي يحتاج إلى تجديد كبير ليتخلص من التبعية للاقتصاد الفرنسي.

لاحظت أول ما وصلت إلى مصر أنه قد سلطت علي الأضواء من المباحث والمخابرات وإن كانوا في نظري – كما عرفت فيما بعد – كان لهم صيد آخر وهو محمد خيضر نفسه وطبعًا كان السفير علي خشبة قد عرفهم بكل شيء كما فهمت من دلائل عديدة. كانت هذه رحلة مرتبة بين الحكومة المصرية وبن بللا، وكان الغرض الأساسي منها هو إبعاد "محمد خيضر" عن المسرح في داخل الجزائر وفي الحزب الذي يمثله بصفته الأمين العام بعض الوقت لتمكين بن بللا من تثبيت قواعده في الحزب استعدادًا لعقد أول مؤتمر للحزب، ولم أشعر بأن محمد خيضر يعارض في ذلك أو يفكر فيه

لقد كان لا مانع عنده من أن يترك لأخيه أحمد الميدان الداخلي كله ويتفرغ هو للعمل العربي والإسلامي لذلك رأيته مشغولاً برؤية أصدقائه الذين عرفهم في مصر والمشرق، وكان دائمًا يتكلم عن أخيه بن بللا وأذكر أنه حتى بعد أن ذهبنا في الجولة العربية ورجعنا إلى القاهرة ثانية لم يكن متعجلاً في العودة رغم علمه بأنباء إعداد أول مؤتمر للجبهة بعد الاستقلال

وعندما قررنا العودة قال لي محمد خيضر بأنه التقى بعبد الناصر وأنه رحب به ترحيبًا كبيرًا ودهشت عندما ذكر لي بكل بساطة أن عبد الناصر قال: كيف تطمئن إلى أن تترك الجزائر طول هذه الفترة وتغيب عن المسرح هناك وهذا قد يكون فيه ضرر، وقال لي محمد خيضر، قلت له: أنا واثق من أنه ما دام هناك بن بللا وإخوانه فإن الأمور ستسير سيرًا حسنًا وكان هذا منتهى حسن النية والسذاجة السياسية من محمد خيضر؛

لأنه لم يفهم المقصود من هذا وتأكدت مرة أخرى عندما قال إنه دع عبد الناصر ليعود إلى الجزائر ثم قال لي بمنتهى السذاجة: إن عبد الناصر كلمني كلامًا طيبًا وقال لي سأعطيك رقم تليفوني السري والشخصي لتتصل بي في أي وقت من الأوقات مباشرة ومن أي بلد في العالم وتطلب مني أي طلب شخصي فأنا تحت أمرك ومصر دائمًا هي بلدك الذي يرحب بك

وكان محمد خيضر مسرورًا جدًا من هذا وغاب عنه التمليح إلى أنه معرض للخروج من الجزائر أو أنه قد يخسر موقعه هناك، وبالتالي فإنه يستطيع أن يلجأ إلى مصر وإلى عبد الناصر، وأن عبد الناصر سوف يكون تحت تصرفه ليؤويه في مصر، هذا ما فهمته أنا فيما بعد، ولكن طبعًا لم أقله لمحمد خيضر إلا بعد أن أدرك كل شيء.

هناك ناحية أخرى لاحظتها عندما كنا في القاهرة وجاءت الأخبار بأن بن بللا قرر وأعلن أنه سيسافر لزيارة كوبا، وكوبا هذه دولة شيوعية معروفة، وقيل إنه كان سيذهب ترانزيت من نيويورك دون أن يزور الولايات المتحدة وأحسست بأن المصريين (الحكومة المصرية ورجال المخابرات) لم يكونوا متحمسين لذلك

بل كانوا يريدون بكل وسيلة إقناع بن بللا بعدم مناسبة هذا العمل، بل جاء السفير على خشبة وطلب أمامي من محمد خيضر أن يحاول إقناعه بالعدول عن هذه الزيارة إلى كوبا أو تأجيلها، وكنت جالسًا مع خيضر في قصر الضيافة في روكسي في مصر الجديدة عندما طلب بن بللا تليفونيًّا بحضوري وحضور السفير على خشبة وقال له: أرجوك أن تؤجل هذا الموضوع حتى نعود ونتكلم وليس من المناسب أن تكون أول زيارة لك في الخارج لدولة شيوعية

وأن تكون كوبا أول دولة تزورها وأنك تمر على نيويورك ولا تزور الولايات المتحدة ولا الأمم المتحدة وزيارة كوبا هذه استفزاز لأمريكا لسنا في حاجة إليه في هذا الوقت على الأقل، وأرجوك أن تؤجل هذا حتى نعود ونلتقي، ولكني فهمت من محمد خيضر أن بن بللا أصر على رأيه وأنه التزم بالرحلة ومصر عليها، وكنا نسمع في الإعلام أنباء سفره فعلاً إلى كوبا وسأتكلم عن نتائج هذه الرحلة فيما بعد.

والناحية الثانية منذ دخلنا إلى مصر وفي أثناء هذه الجولة وجدت أن المنطقة العربية تحولت إلى مستنقع من الفتن والحزازات والخصومات، فمثلاً كانت هناك خصومة بين مصر وسوريا بسبب الانفصال، وعندما وصلنا إلى سوريا أخبرني محمد خيضر أن بعض المسئولين السوريين احتجوا على وجودي ضمن الوفد وقالوا كيف يكون مصري في وفد جزائري

وقال لهم إنني منهم وأن ولائي لهم، وإن بيني وبين مصر على العموم أشياء تبعدني كثيرًا وتبعدهم عني ومع ذلك في أثناء هذه الزيارة تعمدت أن أتركه يتصرف ولا أقوم بشيء لإزعاج السوريين، وكذلك لما ذهبنا إلى الكويت كانت الكويت في معركة حامية مع العراق؛ لأن العراق كانت تعترض على استقلال الكويت وتقول إن الكويت جزء منها وأن عبد الكريم قاسم كان يريد احتلال الكويت ولكن الجامعة العربية ومصر أرسلت جيشًا والإنجليز والدول الغربية عارضت ذلك واضطرت العراق للتراجع، وأظن حصل انقلاب وجاءت حكومة بعد عبد الكريم قاسم وأعلنت اعترافها باستقلال الكويت مرغمة مضطرة، ومع ذلك بقيت هناك في النفوس أشياء كثيرة

وأذكر أننا عندما وصلنا إلى الكويت وعقد محمد خيضر مؤتمرًا صحفيًّا سأله البعض عن رأيه بالنسبة للنظام في العراق، ولماذا لم تذهبوا للعراق وما إلى ذلك، فقال محمد خيضر بكل بساطة وحسن نية: إذا كنتم تريدون مني أن أقول شيئًا ضد العراق فهذا لن يكون لأن العراقيين كانوا من أكثر الدول تشجيعًا وتأييدًا للثورة الجزائرية وبعبارة واضحة إن الطعام الذي أكلناه من يد العراقيين مازال في بطوننا، فلا يمكن أبدًا بأن نقول شيئًا ضدهم وإذا كان بينكم وبينهم أشياء فهذه تصفونها أنتم فيما بينكم.

أما الثالثة: فإنه لما وصلنا إلى المملكة العربية السعودية كان الملك سعود في الخارج في علاج، وكان نائب الملك في هذا الوقت هو الأمير فيصل وهو الذي استقبلنا في جدة، وقال لي محمد خيضر ونحن في الطائرة هناك مشكلة أنا أريد رأيك فيها وهي أنه عندما كنت في مصر قال لي السفير الجزائري إن الحكومة المصرية بعد أن استولت على أملاك السعوديين في مصر أعطتهم قصرًا للسفارة في جاردن سيتي

وأن هذا القصر كان مملوكًا للأمير فيصل ومن الأملاك السعودية التي صادروها والأمير فيصل في ذلك الوقت ولي العهد ورئيس الوزراء، وقال إن السفير يخشى أن يكون هذا سببًا في إفساد العلاقات بين الجزائر المستقلة والمملكة العربية السعودية وهم لا يريدون ذلك فطلب منه السفير أن يتكلم في هذا الموضوع ويصفيه مع السعوديين، فقال لي محمد خيضر ما رأيك في هذا الموضوع فقلت له لا بأس من أن تتكلم مع الأمير فيصل نفسه وتقول له إننا حريصون على حسن العلاقات مع السعودية ومعك بصفة خاصة ونحن مستعدون أن ندفع الإيجار حتى نحصل على مكان آخر للسفارة نشتريه أو نستأجره.

وكان هناك أكثر من ذلك حرب اليمن قائمة على حدود السعودية وتوجه لها تهديدات ممن يتكلمون باسم مصر، ويروجها من يعارضون مصر ويحرضون على زيادة الخصومة بينها وبين السعودية؛ لذلك فإننا عندما وصلنا إلى السعودية وجدنا أن الجو كان قاتمًا بسبب الحرب الأهلية في اليمن، وكان الجيش المصري يؤيد الجمهوريين، والسعودية تمول وتساعد الملكيين

وكانت في الواقع حربًا بين مصر والسعودية تقريبًا، وكان كثير من السعوديين يعتبرون أن حكومة الجزائر خصوصًا بن بللا وأصحابه هم حلفاء لمصر ومنحازون لها وبالتالي لم يكن هناك ترحيب كبير بزيارتنا هناك، ولكن الأمير فيصل كان رجلاً حكيمًا ودبلوماسيًّا عريقًا واستقبلنا عدة مرات وحضرت جميع المقابلات بينه وبين محمد خيضر وكان الكلام عموميًّا ومحمد خيضر شكره على مساعدات السعودية لهم وطلب المزيد من هذه المساعدة وما إلى ذلك

وعرض عليه محمد خيضر أيضًا موضوع القصر الذي يملكه سموه في القاهرة والذي سلمته الحكومة المصرية للسفارة الجزائرية واقترح أن تدفع الجزائر إيجاره إلى أن تجد مكانًا آخر حتى لا ندخل في الخلاف بينه وبين الحكومة المصرية فقال له الملك بكل بساطة إن وكيلي هناك يمكنكم أن تتفاهموا معه على هذا الموضوع وليس هناك أبدًا أي مانع من أي اتفاق تصلون إليه.

كان هناك معركة بين مصر وسوريا ومعركة بين الكويت والعراق، ومعركة بين مصر والسعودية بخصوص اليمن، والواحة الوحيدة التي شعرنا فيها ببضع الراحة هي الأردن؛ لأننا استطعنا أن نزور القدس، وهذه زيارة لن أنساها؛ لأننا زرنا الحدود الفاصلة بين فلسطين أي الضفة الغربية التي كانت في ذلك الوقت جزءًا من الأردن

ودعينا إلى معسكرات الجيش الأردني والجميع احتفوا بنا ومررنا على قرى الحدود، وبعضها كان مقسومًا منصفين أحدهما تحت الاحتلال الإسرائيلي، كما كنا نشاهد القرى الفلسطينية الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي، هذه الزيارة لا يمكن أن أنساها وذكرتني للأندلس سنة (1949م)...

بين (بن بللا) و (خيضر)

أثناء مناقشاتي مع بن بللا ومحمد خيضر حول موقع الإسلام والعروبة في إعلان الاستقلال وفي مشروع قانون الجنسية، كان محمد خيضر يبدو مقتنعًا بوجهة نظري، وبن بللا يحاول ألا يظهر موقفه الشخصي بحجة أن هذا موضوع يجب أن يفصل فيه المكتب السياسي والحكومة مع أنني كنت أعتقد أن موضوع الإسلام والعروبة مسألة مبدأ وهدف استراتيجي لا يمكن أن نقبل من الحكومة والمكتب السياسي شيئًا يفهم منه التخلي عنه أو التعارض معه.

بعد ذلك لاحظت أنه بدأ هناك فتور بين محمد خيضر وبن بللا، وكنت أعتقد أنه مجرد تنافس على الزعامة، وإن كان يبدو أن بعض أسباب هذا الفتور ترجع إلى اقتناع محمد خيضر بوجهة نظري فيما يتعلق بالجنسية والمسائل الإسلامية سواء في بيان المجلس الوطني بإعلان الجمهورية أو نصوص قانون الجنسية، ولم تكن قد أثيرت بعد مسألة أموال جبهة التحرير التي كانت في حوزة محمد خيضر باعتباره الأمين العام للجبهة والمكتب السياسي لكن سمعت مرة من خيضر أن قضية المال بدأ يثيرها ويتكلم فيها بومدين

وقال لي مرة إن جماعة بومدين كانوا يريدون الاستيلاء على هذه النقود بحجة تسليح الجيش؛ لأن الجيش في يدهم وأنهم يأملون أن يكون لهم مركز قوة أكبر عن طريق تقوية الجيش، وكان محمد خيضر يعرف هذا ويدرك أنهم يرسمون لفرض سيطرتهم على الحكومة عن طريق الجيش وهو لذلك كان يعارض تسليم المال كله أو بعضه لهم؛

لأنه لم يكن يريد أن يزداد مركز القوة هذا بحيث يطغى الجيش على الحكومة وعلى الحزب. وبن بللا كان يظهر تأييده لبومدين في هذه المطالب إلا أنه كان يحاول أن يكون محايدًا وأنه محرج بسبب علاقته ببومدين، وكان في حواره مع محمد خيضر في هذا الموضوع يتظاهر بأن الضغوط آتية من أعضاء المكتب السياسي الآخرين وأنه محرج بين الطرفين

وقال لي محمد خيضر مرة إن بومدين طلب من الحكومة ومن الكتب السياسي جزءًا من هذا المال لشراء سيارات لاندروفر وغيرها من مستلزمات للجيش، وقال إنني لا أوافق على هذا لأن هذه ليست فلوس الجيش وأنها فلوس أو أموال الثورة والحزب وهو جبهة التحرير وأنا أمين الحزب، وأن الجيش الآن ليس هو جيش الحزب وإنما هو في نظره جيش بومدين

وإذا كان رسميًّا جيش الدولة فعليه أن يموله من ميزانية الدولة ولا نريد أن الدولة تستولى على أموال الحزب؛ لأن الدولة شيء والحزب شيء آخر، ومن باب أولى لا يرضى أن يستولى الجيش عليها، حتى ولو ادعى الجيش أنه جيش الدولة وهو لم يكن يرى هذا الادعاء صحيحًا، ويعتقد أن بومدين يسيطر على الجيش وسيتخذه وسيلة للاستيلاء على السلطة.

وكانت خطة "بومدين" وأصحابه تبدأ بعزل بن بللا عن محمد خيضر وإثارة مشاكل بينهما حتى يمكنهم القضاء على كل منهما منفردًا، وقد بدأ بتصفية جميع العناصر التي كانوا يحسون بأن لها قدرًا من الاستقلال عنهم مثل محمد شعباني قائد الولاية السادسة الذي استفزوه ودفعوه دفعًا للتمرد ثم أعدموه وأصبح الجيش تحت سيطرتهم الكاملة.

طوال الفترة التي قضيتها مع بن بللا وخيضر لاحظت أن محمد خيضر كان يميل إلى المغامرة ويسرع إلى مواطن الخطر في حين أن بن بللا كان يلتزم الحذر ولا يبدي رأيًّا إلا إذا كان يطمئن إلى أنه لن يسبب له مخاطرة، وكان يعتقد أنه يستطيع أن يرضي الجميع وأن يحظى بعلاقات طيبة مع جميع الأطراف المتنافسة أو المتصارعة، بل كان يطمئن كلما وجد الخلافات حوله تشتد بين الجميع ظنًا منه أنه سيكون الحكم الذي يرجعون إليه، وقد كان الأمر كذلك في البداية.

كان محمد خيضر واثقًا من نفسه إلى حد كبير؛ ولذلك كان يعلن رأيه في كثير من المسائل ولا يتردد في ذلك مع علمه بأن آخرين لا يوافقون عليها أو حتى يقاومونها؛ ولذلك أصبح له مشاكل مع جهات كثيرة يجاملها بن بللا وتجامله، وأول هذه الجهات جماعة بومدين في الجيش وجماعة "المنتفعين" في الحكومة وخاص المستوزرين وكبار المسئولين الذين كان بن بللا يتغاضى عن كثير من تصرفاتهم التي يعتبرها محمد خيضر ضمن دائرة الفساد والاستغلال ويعارض فيها لهذا السبب علنًا وفي كل مناسبة.

يظهر لي أن هذا كان من الأسباب التي دعت البعض لإثارة موضوع أموال جبهة التحرير التي كانت تحت يده، ولكن هذا الموضوع لم يحدث بشأنه أي حوار أو جدال أثناء وجودي في الجزائر، وعندما لقيت محمد خيضر في المغرب فيما بعد وذكر لي ما حدث من خلاف بشأن هذا الموضوع قال إن جماعة بومدين هم الذين كانوا يتكلمون ويحرضون غيرهم على ذلك، وأن غرضهم من ذلك كان الإيقاع بينه وبين بن بللا وأنهم نجحوا في ذلك، وكان دائمًا يتوقع أن يغدروا بصاحبه "بن بللا" فيما بعد، وكان يردد تعبيره الفرنسي عن ذلك بقوله: إنهم سوف يوقعون به في أول منحنيات الطريق: ILS L AURANT AU TOURNANT

بعد خروجي من الجزائر بفترة وبعد محاولة أوفقير لإخراجي من المغرب وإلغاء تعاقدي مع وزارة العدل، فوجئت بمحمد خيضر يزورني في منزلي بالمغرب وقال لي إنه أخذ من بن بللا جواز السفر الخاص به ليسافر لبحث بعض الشئون في تونس المتعلقة بأموال الجبهة الموجودة هناك، ولكنه بعد أن وصل لتونس قرر ألا يعود إلى الجزائر

وقد ذهب من تونس إلى جنيف ومنها للمغرب ولا يريد أن يعود إلى الجزائر حتى تسوى مسألة النقود بينه وبين الحكومة الجزائرية بصورة عادلة بعيدًا عن التهديد والابتزاز، وسألته كيف أن بن بللا أعطاه جوازه وهل كان يعرف أنه سيعود وكان عنده ثقة في هذا، والظاهر لي أن محمد خيضر في بعض الأحيان كان عنده شيء من السذاجة في صراحته

وأنا أعتقد أن بن بللا لم يكن يريد الضغط على محمد خيضر وكان يريد أن يبقيه كاحتياطي يقف في جانبه لإيجاد نوع من التوازن بينه وبين فريق بومدين الذين يريدون أن يكونوا مركز قوة في وجه زعامته عن طريق سيطرتهم على الجيش ولذلك لم يكن في مصلحته أن يخرج محمد خيضر من اللعبة خاسرًا

ورغم ذلك فإن محمد خيضر لم يدر بخلده هذا، بل كان شديد السخط على بن بللا، وهذا شيء عجيب، وقد حصلت بيني وبينه مشادة عجيبة أذكرها ولا أنساها، وكان ذلك يوم (19 يونيو 1965م)، إذ كنت معه في طنجة وركبت معه السيارة عائدين من طنجة إلى الرباط وفتحنا الراديو وإذا بالراديو يعلن نبأ أن بومدين اعتقل بن بللا وأخرجه من الحكومة وحصل انقلاب عسكري ضد بن بللا

وفوجئت بأن محمد خيضر يبتهج بهذا الانقلاب ويقول إنني أريد أن أرسل برقية أؤيد بومدين وعارضته في ذلك معارضة شديدة لدرجة أغضبته، وقلت له هذا الذي أعطاك جوازك لتخرج سليمًا ستؤيد الذين انقلبوا عليه وأنا عندي اعتقاد بأن من أهم أسباب تمردهم عليه هو أنه مكنك من الخروج وقد أعلنوا ذلك وقالوه فيما بعد، ولكنه لم يقتنع بذلك، وأنا أعتقد أنه فقد حياته فيما بعد بسبب ذلك، وفي رأي كثيرين أن بعض أعوان بومدين ومخابراته هم الذين حرضوا على اغتياله فيما بعد، وربما كان دورهم التحريض والتشجيع.

بعد أن وصلنا إلى الرباط اتصل تليفونيًّا بإحدى وكالات الأنباء لتأخذ منه تصريحًا يؤيد فيه هذا الانقلاب العسكري ضد بن بللا وقد حاولت بكل الوسائل أن أمنعه من ذلك ولما لم أستطع من ذلك طلبت منه أن يكون معتدلاً وألا يسرف في التأييد لبومدين ولا في الهجوم على بن بللا صديقه وزميله في الكفاح.

وللحقيقة لابد أن أذكر أنه قبل الانقلاب على بن بللا جاء بومدين إلى المغرب في وفد رسمي، أعتقد أن ذلك كان قبل الحرب بين الجزائر والمغرب أو بعدها وكانت العلاقات عادية تقريبًا بين المغرب والجزائر، وجاء بومدين نفسه ومعه بعض زملائه وكانوا يقابلون الملك الحسن في مراكش، وقال لي محمد خيضر إنه كان يريد الذهاب إلى مراكش ولكنه يفضل ألا يذهب ما دام بومدين هناك حتى لا يكون هذا سببًا لاستفزاز بومدين

ولكنه قال إنه عند عودة بومدين سوف يزوره ويتصل به، وفعلاً لما جاء بومدين إلى الرباط في طريق عودته للجزائر اتصل به محمد خيضر تليفونيًّا وكان يتكلم من منزلي وقال له نريد أن نلتقي ونتحدث بعض الوقت وفعلاً جاء بومدين إلى منزلي لأول مرة في حياته وتغذى معنا في المنزل وقضينا بعض الوقت في سمر وحوار عادي، وحدث أمر لابد أن أذكره لأنه كان حادثًا طريفًا فقد كان عندي ديوان شاعر الثورة الجزائرية المعروف (مفدى زكريا)

وكان بومدين قد التحق بالزيتونة والأزهر فترة قصيرة ولذلك كان يحب الشعر وبدأ يقرأ بعض القصائد بحماس، قلت له إنني أريد شخصيًّا أن أسجل لك قراءتك لهذه القصيدة وعندي جهاز تسجيل فوافق وفعلاً أعطيته القصيدة وأخذ يقرؤها كما يقرأ أي تلميذ نجيب قصيدة شعرية من المحفوظات بحماس وانفعال وسجلتها على شريط للذكرى

وبعد أن تم هذا التسجيل أراد محمد خيضر أن يداعبه فقال له أنت ستترك هذا الشريط لتوفيق وأنت لا تعرف ماذا سيفعل به؟ ففزع بومدين وقال لا أترك هذا الشريط، وقلت له: أنا سجلته لكي أحتفظ به وأنا أحب أن أسمعه من حين لآخر أو أسمعه لبعض الأشقاء، قال: لا، وأصر بصورة عجيبة على أن يأخذ الشريط فأعطيته له، فهذه قصة طريفة تبين مدى ما يصل إليه البعض من سذاجة...

كنت في مدينة طنجة مع محمد خيضر عقب خروجه من الجزائر وصحبته في سيارته من طنجة إلى الرباط، وسمعنا نبأ الانقلاب ضد أحمد بن بللا من الإذاعة المغربية ونحن في السيارة، وقضينا خمس ساعات في الطريق وحدنا في حوار حول نتائج هذا الحادث وأسبابه، وكنت أنا متألمًا لمصير بن بللا وخائفًا عليه، أما هو فقد قال لي إنه كان يتوقع ذلك وطالما حذر بن بللا فلم يستمع إليه

وأنه لما يئس منه خرج من الجزائر ليتركه يلاقي مصيره وحده، وسألته إن كان يثق في بومدين ومن معه فقال إنهم يريدون المال ولا بأس من ذلك ولكن بشروط، وقال إنه ما زال على استعداد للتفاهم معهم إذا وجد لديهم أي استعداد لأن المشكلة من بدايتها كانت بينه وبينهم أكثر مما كانت بينه وبين بن بللا، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فقد أصر على أن يرسل برقية من الرباط إلى بومدين بهذا المعنى، رغم معارضتي الشديدة.

قلت له إنني غادرت الجزائر تنفيذًا لما قلته لصديقي حافظ إبراهيم من أنني أفضل أن أتخلى عن صاحبي معًا بدلاً من أن أتخلى عن أحدهما وأنحاز للآخر، وأنني قصدت بذلك الابتعاد عن مشاركة أيهما في موقفه وخطته، ولكني لم أفكر ولن أفكر قط في التخلي عن صديق لي يواجه محنة شخصية وخطرًا يهدد حياته.

لم أسترح كثيرًا لما فعله محمد خيضر من تفاؤله بالانقلاب وعلمت منه في لقاءات تالية أنه حاول أن يتصل بجماعة بومدين لتصفية الموضوع والاتفاق معهم، وقال لي إن هناك وسطاء اتصل بهم وأنهم أرسلوا له رسولاً واستقبله ولهم شروط وله شروط، البعض اعتقد أن المقصود كان مخادعته واستدراجه للاطمئنان لهم حتى تم اغتياله وهناك كثيرون يعتقدون أن اغتياله قام به جهاز من أجهزة الاستخبارات في الحكومة الجزائرية في عهد بومدين ومع ذلك فأنا أرجح أن جهات أجنبية كان لها الدور الأول في هذا، وما زلت أنا أعتقد أن تأييده للثورة الفلسطينية و(لفتح) كان من أهم الأسباب التي أدت إلى اغتياله.

إنني أعتقد أن المسئولية الأولى عن اغتياله ليست من داخل الجزائر ولكن من خارجها وربما استغلوا بعض الأشخاص الذين يريدون ابتزاز المال أو الحظوة لدى الحكومة الجزائرية أو ما شاكل ذلك، وربما دخل طرف ثالث من القائمين على البنك الذي توجد به الأموال ليستأثروا بنصيب منها على الأقل، وكان محمد خيضر يقول لي دائمًا إنني أماطل في تسليم هذه النقود لأنني أعتقد أنه طالما أن هذه النقود معي فإنهم لن يغتالوني

وقال لي مرة إنني أخشى أن اليوم الذي أسلم فيه هذه النقود فإنهم ينتقمون مني أو يعرضون حياتي للخطر. إن بقاء النقود معه كان يجعله يطمئن إلى أن هدفهم الأول هو الحصول عليها عن طريق مصالحة وأن يعود إلى الجزائر، ولذلك كان يقول إنه لن يسلم النقود إلا بعد أن يعود الوفاق بينه وبينهم حتى يكون في مأمن من أي اغتيال بعد تسليم النقود.

المعروف أن الشخص الذي اغتاله كان جزائريًّا، ولكنه ربما كان يعمل لحسابه الشخصي أو لحساب جهة أو جهات أجنبية وللحكومة في نفس الوقت، كما أن اغتيال "الخمستي" أيضًا اغتاله أحد الجزائريين، ويقول كثيرون أنه كان يعمل لحسابه الشخصي لأنه كان قد خطب السيدة التي تزوجها الخمستي فاعتبر زواجه بها اعتداء عليه وانتقم وآخرون يرون أن بعض مراكز القوى كان لها مصلحة في ذلك بسبب صلته الوثيقة مع بن بللا، بدليل أن الذي تولى بعده كان "بوتفليقة" وهو من جماعة بومدين.

إن بعض الجزائريين تصل بهم شهوة الانتقام إلى هذا الحد ويستبيحون القتل لأسباب قد تكون تافهة، وهذا يرجح عندي القول بأن هذا الشخص قام بقتل خيضر لحسابه أولاً وثانيًا: لحساب إحدى الجهات الأجنبية وربما يكون لحساب الجهات التي كانت الفلوس موجودة عندهم، الفلوس هي ملك للمودع ولكنها موضوعة في بعض البنوك، وهذه البنوك تعرف أنه إذا اغتيل فإن الفلوس ستبقى عندهم ويساومون الحكومة حتى يكون لهم نصيب منها، وهذا ما حصل فعلاً؛

لأن الحكومة الجزائرية لم تستطع الحصول على الأموال إلا بصعوبة ومفاوضات وقضايا وما إلى ذلك، وهذا يؤكد أن بعض الجهات في الأوساط المالية أو الصهيونية أو الماسونية أو الفرنسية كان لها الدور الأول في عملية اغتيال محمد خيضر رحمه الله. وطبعًا اغتيال محمد خيضر وقع بعد أن تركت المغرب وذهبت إلى السعودية، وأذكر أنني كنت في سيارة بالرياض عاصمة السعودية قادمًا من المطار بعد أن وصلت من الخارج وفتحت راديو السيارة وكان أول خبر أسمعه هو اغتيال محمد خيضر في مدريد وكان هذا محزنًا لي

وقد أضاف ألمًا جديدًا إلى ما لقيته من آلام بسبب فشلي في كثير من مشروعاتي وضياع آمالي في الاستقرار بالجزائر أو العمل لصالح هذا الشعب الذي أحبه وأقدره وأعرف كثيرًا من الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في ميادين الجهاد من أجل تحريره وسعادته.

خيضر وحركة (فتح)

عندما كنا في مصر في نهاية عام 1962م، قال لي (محمد خيضر) تعال معي لنزور صديقي (جمال عرفات) الذي تعرف به أصبح صديقًا له أثناء إقامته بمصر قبل الثورة وأثناءها، وأنا أيضًا كنت أعرف جمال عرفات لأنه كان يتردد على دار الإخوان المسلمين، وكان له نشاط إسلامي من خلال إحدى الجمعيات الإسلامية التي يرأسها الشيخ "عبد اللطيف دراز" صهر الباقوري

وكان مقرها قريبًا من شارع طلعت حرب الذي يوجد به مكتبي، وسارع خيصر فاتصل به تليفونيًّا من دار الضيافة التي نزلنا بها "واتفق معه على موعد" وذهبت معه لزيارة جمال عرفات في منزله وكان يسكن في شقة في منشية البكري في مواجهة المقر الذي كان يسكنه جمال عبد الناصر في ذلك الوقت

وأثناء حديثنا قال لمحمد خيضر إن أخي ياسر عرفات وجماعته الآن في الكويت ولابد أن تلقاهم؛ لأن عندهم كلامًا كثيرًا يريدون أن ينقلوه لك، وأرجو أن تستمع لهم وأن تتفاهم معهم، وأنهم يريدون إنشاء منظمة "فتح" لإحياء القضية الفلسطينية وأن يعتمدوا على أنفسهم وأن يقتدوا بالجزائر في أن يدخلوا باب الكفاح المسلح، وأعطانا التليفون وعناوين أخيه ياسر وأصدقائه هناك.

في الكويت جاء وفد من الفلسطينيين، ولا أذكر إذا كان من بينهم ياسر عرفات أم لا، ولكنهم من الجماعة الذين أسسوا منظمة فتح، وقد جلسوا معنا جلسة طويلة وقالوا لخيضر نحن جئنا لك لأننا نريد أن نأتي إلى الجزائر، نتعلم من إخواننا الجزائريين فنون العمل الفدائي والمقاومة لكي نبدأ هذا العمل في فلسطين، وأن نقتدي بكم وإن كانت فرنسا قد خرجت بعد مائة سنة، علينا أن نستعد للكفاح ضد إسرائيل حتى ولو استمر مثل هذه المدة.

قال لهم محمد خيضر أنا مسئول عن الحزب، وإنني أقر لكم بأني سأضع كل إمكانيات الحزب تحت تصرفكم وما عليكم إلا أن ترسلوا وفدًا منكم إلى الجزائر وأنا سأعمل لكم ما تريدون وأنا شخصيًّا أثق في جمال عرفات وأقترح أن ترسلوه هو، وأستطيع أن أتفاهم معه وأعد لكم ما تريدون لإقامة معسكر تدريب، وأنا أنفق عليه من جميع النواحي من صندوق جبهة التحرير الجزائرية... وهذه هي البداية.

بعد ذلك لما ذهبنا إلى الأردن أيضًا، كانت تأتينا وفود من قبل جماعة فتح وأصدقاء ياسر عرفات وكانوا يتحدثون معنا، وكان محمد خيضر مخلصًا وصادقًا في أنه يريد أن يتبنى قضية فتح والكفاح الفلسطيني، وأسر إليّ عدة مرات بأنه إذا كان ولابد من توجيه أموال جبهة التحرير خارج الجزائر لقضايا التحرير الوطني، فستكون قضية فلسطين هي الأولى، وهذا كان بداية اتجاه لابد من أن أسجله للتاريخ؛

لأنني أعتقد على خلاف ما يظنه الكثيرون الذين يتبادر إلى ذهنهم أن اغتيال محمد خيضر كان من تدبير بعض الجزائريين بسبب المال، في حين أن أول ما تبادر إلى ذهني هو أن هناك جهات خارجية ساهمت في هذا ودبرته واستفادت منه وأن الجهات التي تآمرت عليه كانت لها علاقة بالمنظمات الصهيونية أو الماسونية بسبب اتجاهه لدعم الجهاد الفلسطيني بأموال جبهة التحرير، كما سأوضحه فيما بعد.

كان محمد خيضر يلتقي بي كثيرًا كلما جاء للمغرب بعد خروجه من الجزائر، وكنت لا أسأله عن قضية الخلافات والأموال، وكان هو يذكر بين الحين والآخر على سبيل الشكوى من بن بللا أو من بومدين أو من غيرهما أنهم بعد أن أخذوا الدولة والحكمة والجيش وكل شيء، ولم يبق له إلا الحزب، والآن يريدون أن يخرجوه من الحزب ويسيطروا عليه بحجة أنهم يريدون أموال الحزب

وقال لي عدة مرات إنه يفكر في أن هذا المال الذي تبرع به العرب والمسلمون للثورة الجزائرية لابد أن يوجه إلى كل الثورات والحركات التحريرية إذ إن ثورة الجزائر قد انتهت بالنجاح واستقلال الجزائر، فما بقي من هذا المال يجب أن يخصص للعمل والجهاد في فلسطين وفي غيرها من البلاد العربية أو الإفريقية، وكثيرًا ما ردد لي هذا وسألني عن رأيي، وكنت أوافقه بشرط أن يكون التصرف بقرار من الحزب – وسأذكر القصة فيما بعد.

واستكمالاً لعلاقة خيضر بحركة فتح أذكر مرحلتين:

المرحلة الأولى: في الجزائر بعد عودتنا من رحلة المشرق...
والمرحلة الثانية: بعد خروجه من الجزائر...
  1. عندما عدنا للجزائر بعد زيارة البلاد العربية جاء إلى هناك جمال عرفات ومعه عدد من الفلسطينيين وقال لهم محمد خيضر إنني سأرتب لكم معسكرًا تجرون فيه ما تريدون من تدريبات وأتولى باعتباري أمينًا عامًا للحزب تمويل كل طلباتكم، وأعطاهم مكتبًا ومعسكرًا وأوصى بهم عددًا من ضباط الجيش والمجاهدين الذين كانوا يتولون تدريبهم وكانوا يترددون علينا في المكتب السياسي، وكنت أنا شاهدًا على ذلك، وطبعًا لم أشعر بأن بن بللا أو غيره له رأي آخر في هذا الموضوع، ولم تتح لي فرصة لكي أتحدث معهم فيه؛ لأنه كان شيئًا طبيعيًّا أن تكون هناك علاقة بين حزب جبهة التحرير وحركة فتح ولكن مما لا شك فيه أنه كان هناك استخبارات مصرية وفرنسية وجزائرية كلها كانت تتابع هذا الموضوع بوسائل مختلفة، ولكل منها أهدافه.
  2. بعد خروجي من الجزائر وأظنه كان العام التالي 1964م فوجئت بمحمد خيضر أيضًا خرج من الجزائر وجاء إلى المغرب وسألته لماذا خرج، وقال: إنني خرجت ولن أعود إلى الجزائر طالما هم يريدون الاستيلاء على هذا المال، ويهددونني بوسيلة أو بأخرى ولما سألته عما فعل مع الفلسطينيين قال لي: إنني قبل خروجي من الجزائر فإن آخر شيء عملته هو أنني استدعيت مندوب فتح (الفلسطينيين) وأعطيتهم نفاقتهم للمعسكر وللمكتب لمدة سنتين وقلت لهم: هذا لمدة سنتين، فإذا أراد الله أن أعود فسأستأنف وإذا لم أعد فسوف أقوم بالواجب بالخارج كما هو بالداخل... هذه هي النقطة الثانية.
  3. في عام 1965م عندما بدأت فتح العمل الفدائي عن طريق منظم العاصفة التي بدأت العمل في 1965م وكنت في المغرب في ذلك الوقت، فوجئت باتصال تليفوني من صديقي الدكتور (عز الدين إبراهيم) الذي كان في قطر، وكان يكلمني على ما أظن من بيروت أو لندن، وقال لي: إن صديقًا لنا من الفلسطينيين سيحضر لك بخطاب مني، فأرجو أن تهتم به، وقد أعطيته تليفونك وعنوانك، وكان هذا الصديق الذي جاءني هو ياسر عرفات ولم أكن أتذكر أنني التقيت به من قبل وجاءني إلى منزلي وحكى لي كل قصة إنشاء "فتح" وإنشاء "العاصفة" وقال إنه كان طالبًا في كلية الهندسة بجامعة القاهرة وتدرب في معسكرات الإخوان للعمل في القناة، وكان يرى أن استقلال الجزائر وانتصارها فرصة للفلسطينيين لكي يسيروا في هذا الطريق، وأن العاصفة بدأت فعلاً العمل في فلسطين وقدم لي ملفًا كاملاً يحتوي على جميع أعداد مجلة فتح وجميع منشورات العاصفة، وقال لي: إنني جئت لكي تساعد في اتصالات مع مسئولين من المغاربة وغيرهم الذين لديهم استعداد لمساعدة الثورة الفلسطينية وفعلاً قمت بتقديمه إلى أصدقائي المغاربة، ومنهم الدكتور عبد الكريم الخطيب الذي قام باللازم نحو الاتصال بالملك وغيره من أعضاء الحكومة وكان ياسر عرفات مسرورًا جدًا من النتائج التي وصل إليها مع هؤلاء حيث أنه وجد تشجيعًا لم يكن يتوقعه، وأنا شخصيًّا لم أكن أتوقعه، وحتى هذه اللحظة لا أعرف كيف وقع هذا ولكن ربما كان شيئًا إلهيًّا، وعرفت منه أنه كان له طلبات معينة لا أريد أن أذكرها الآن، لأني لست في حل من ذلك، ولأن الذين قاموا بهذا الدور ما زالوا أحياء وهذا شأنهم إذا أردوا أن يتكلموا عنه، إنما المهم أن ياسر عرفات أنبأني أنه حصل على أكثر مما كان يتوقع بل أكثر مما كان يطلب من الحكومة المغربية ومن الملك الحسن الثاني بصفة خاصة وللآن لم أعرف السر في ذلك، وكان دوري فقط هو أنني قدمته إلى عبد الكريم الخطيب أما الباقي فقد قام به الدكتور عبد الكريم الخطيب وإخوانه، وهو كان متحمسًا لقضية فلسطين وقضية الجزائر أكثر مني؛ لأن أصله جزائري، وقد ذكرت من قبل أنه عندما جاء إلى مصر عقب استقلال المغرب مباشرة، أوصيته على قضية الجزائر والآن أوصيه بفلسطين وكنت واثقًا أن العاطفة الإسلامية عنده عميقة وقوية، وهي أساس حماسه للكفاح الفلسطيني وهذا فيما يتعلق بتقديم ياسر عرفات للمغاربة، أما فيما يتعلق بالجزائريين فإن خيضر لم يكن هناك، ولكني قلت لياسر عرفات إنني سوف أعمل اللازم عندما ألتقي به وأبلغه رسالتك، ولست في حاجة إلى أن تلقاه؛ لأنني أعرف شعوره نحو قضية فلسطين وما قدم لها، وما ينوي تقديمه وفعلاً عاد ياسر عرفات إلى الشرق، وانتظرت حتى جاء (خيضر) ومن رحلة في الخارج، وزارني في المغرب، وحكيت له عن زيارة (ياسر عرفات)، وما طلبه وقال: هذا ما كنت أنتظره وسوف أستعد وأسلمك ما يمكن أن تقدمه الآن وعليك أن توصله، واتفقنا على موعد، وكان ذلك في صيف 1965م.

التقيت بمحمد خيضر في مدريد وذهبنا معًا إلى جنيف، وأحضر مبلغًا من المال وقال: عليك أن توصله إلى جماعة فتح، وفعلاً ذهبت بهذا المبلغ إلى بيروت وسلمته إلى الدكتور (عز الدين) ليوصله إلى أمين صندوق فتح، وأذكر أن اسمه كان توفيق أو عز الدين، وأحضر لي الدكتور عز الدين إيصالاً بتوقيع ياسر عرفات شخصيًّا حملته وذهبت به إلى خيضر، واطلع عليه وطلب مني أن أحفظه عندي، ومازال هذا الإيصال عندي حتى اليوم، ومستعد أن أقدمه عند اللزوم

ولم يكن هذا إلا الدفعة الأولى، وكان في اعتقادي أن محمد خيضر كان مصممًا على أن يوالي تمويل الثورة الفلسطينية ولو اقتضى الأمر أن ينفق جميع هذا المبلغ المتنازع عليه الخاص بجبهة التحرير على الثورة الفلسطينية أو غيرها من الحركات التحررية إذا لم يجد حلاً آخر يتفق عليه الجزائريون دون أن يستغل لدعم أحد مراكز القوة المتصارعة على السلطة في الجزائر.

لابد أن أقول إن الشيء الوحيد الذي طلبته منه عندما أخبرني بأنه لن يعود إلى الجزائر لأنه لا يريد تسليم المال إلى بن بللا أو بومدين بحجة الجيش أو الحكومة؛ لأنه مال الحزب وليس مال الحكومة، ولا مال الجيش، قلت له: إنني أشترط عليك إذًا أن تكون منطقيًّا وألا تستغل هذا المال في تكوين جبهة معارضة للحكومة تكونها أنت وحدك أو مع غيرك من أفراد المعارضة

فإذا كنت لا تعطيه للحكومة لأنه قد يستغل لغرض شخصي لبن بللا أو بمدين فلا يجوز أن تستعمله أنت لغرض شخصي للمعارضة لمقاومة حكومة بن بللا وجماعته أو غيرهم، هذا هو الشرط الوحيد الذي أطلبه منك، وقد عاهدني على ذلك والتزم به فترة ولكن بكل أسف بعد مدة التف حوله عدد من المعارضين واستعملوا وسائل التهديد والابتزاز

وأخبرني أنه أعطى (فلانًا) كذا و(فلانًا) كذا وذكر لي أسماء الجهات المعارضة التي حصلت منه على جزء من هذه الأموال، منهم حسين آية أحمد، وأبو ضياف ولم يقف الأمر عند هذا، بل إن بعض الأفراد أيضًا انتهزوا هذه الفرصة وصاروا يتقدمون له بوسائل التهديد والابتزاز وأعتقد أن الذي قتله هو أحد هؤلاء الأفراد الذي كان يطالبه بمال له شخصيًّا ويبتزه، وربما كانت هناك جهة هي التي حرضته وسخرته لهذا، ودفعته للاغتيال فيما بعد، وقد تكون عدة جهات، وأنا في اعتقادي أن إحدى هذه الجهات كانت تقصد بالذات منع الخطة التي سار فيها وهي تمويل الثورة الفلسطينية وتأييدها.

المغرب إلى أين...؟

عندما كنا في باريس في عام (1951م) ندافع عن وجهة النظر المصرية والعربية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في أن إجراءات فرنسا بالضغط على ملك المغرب أو التهديد بعزله يعتبر انتهاكًا لأحكام القانون الدولي استنادًا إلى أن المغرب دولة ذات كيان يعترف به القانون الدولي

وإذا كانت الدولة المغربية تحت الحماية فإنه لا يجوز لفرنسا أن تتخذ إجراءات تتعارض مع نصوص معاهدة الحماية التي يفهم منها أن هدفها حماية المغرب وحماية المؤسسات المغربية ومن بينها وفي مقدمتها العرش المغربي. وعندما دخلت المغرب لأول مرة في عام 1959م خيل لي أن الوضع لا يختلف عما تصورته من قبل إلا اختلافًا نسبيًّا فقط.

إن الفترة التي بقيت فيها فرنسا تحتل المغرب بعد هذه الشكوى من عام 1951م إلى 1956م وهي فترة (5) سنوات لم تغير كثيرًا في أوضاع المغرب؛ لأن المغرب أعلن استقلاله سنة 1956م، وكما قلت كل شيء في المغرب يسير ببطء؛ ولذلك عندما وصلت المغرب عام 1959م وجدت أن بقايا ورواسب النظام الاستعماري كانت في ذلك الوقت ما زالت ملموسة في كثير من النواحي وخاصة في النواحي الثقافية

بل إن فرنسا بعد الاستقلال اعتبرت أن الهدف الأول هو نشر الثقافة الفرنسية في المغرب لاكتساب أكبر عدد من المغاربة المثقفين بالثقافة الفرنسية إلى جانبها، حيث إن المغرب كان يمتاز عن الجزائر بأن الثقافة العربية الإسلامية كانت مسيطرة عليه بصورة أكبر وخصوصًا أن قادة الحركة الوطنية كانوا من أصحاب تلك الثقافة الأصيلة، وكان حزب الاستقلال هو العدو الأول لفرنسا؛

لأن قيادته كانت من علماء القرويين، وكانت سياستهم عربية لأنهم كانوا حريصين على التعريب، وفعلاً كان أول ما فعله حزب الاستقلال هو أنه وضع خطة لتعريب التعليم الابتدائي تعريبًا كاملاً وبدأ في تنفيذها واستعان في ذلك بعدد من المدرسين من مصر والبلاد العربية المشرقية<في شهر يناير 1958م استقدمت الحكومة المغربية التي كان يسيطر عليها حزب الاستقلال سبعين مدرسًا مصريا وسوريا، لكن هذا العدد لم يكن كافيًا لإتمام خطة التعريب>...

أهم مراكز القوى التي كانت فرنسا تستعين بها لمقاومة التعريب عدد من ضباط الجيش، وكان أغلبهم من الأصل البربري، وكان من الواضح أن الجيش أو بعض قياداته التي ورثها عن الجيش الفرنسي في عهد الحماية كانت تحاول أن تحتفظ لنفسها بأكبر قدر من النفوذ وكان الملك حريصًا على ولاء الجيش؛ ولذلك عين لقيادته ابنه وولي عهده الشاب الأمير مولاي الحسن، واستغل بعض العملاء ذلك وأحاطوا به ويقال إنهم حاولوا استغلال الجيش كمركز قوة للوقوف في وجه حزب الاستقلال أولاً، وفي وجه التعريب وما يتبعه ثانيًا.

أذكر أنني عندما التقيت بأحد الأصدقاء من أعوان بن بركة ومن كبارهم وكنت أسألهم عن علاقاتهم بالملك فقال إنها ممتازة وأن الملك شخصيًّا لا يمكن أن يكون لدينا أي فتور في علاقتنا به، إلا أن هناك عناصر في حاشيته ليست من أنصار الحكم الديمقراطي بالمعنى الصحيح، وأن بعضهم يحيط به وبابنه الأمير مولاي الحسن ومنهم كثيرون من عملاء وأعوان فرنسا الذين كانوا في الجيش الفرنسي قبل الاستقلال

وأعطتهم فرنسا رتبًا عالية في الجيش الفرنسي ومن بينهم (أو فقير)، تذكرت ذلك عندما سمعت عن خبر إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، وزاد في شكوكي أن الكلام في ذلك الوقت كان يدور حول القواعد الأمريكية في المغرب، وكان لهم قواعد كبيرة ضخمة وكانوا يريدون إبقاءها، ولكن حكومة عبد الله إبراهيم وجماعته كانوا صادقين في مقاومة هذه السياسة الأمريكية

وقاموا بحملة كبيرة اضطرت أمريكا أمامها للتراجع في نهاية الأمر، ولاشك أن ذلك كان في صالح الفرنسيين إلى حد كبير لأن الفرنسيين لم يكونوا راغبين في بقاء هذه الامتيازات لأمريكا في المغرب الذي كان تحت حمايتهم ولم يخرجوا منه إلا منذ عهد قليل، وكان خروجهم شكليًّا في نظرهم وليس فعليًّا.

في نظري عندما وصلت المغرب أن عملية اقتلاع جذور الاستعمار وقواعده من المغرب سوف تطول، بل إن بعض المؤسسات المغربية بعد الاستقلال كانت ما زالت بها عناصر تحن للوضع السياسي للمغرب قبل الحماية وخيل لي أن المغرب قبل الحماية كان يختلف عن البلاد الأخرى التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية قبل الاحتلال الأجنبي، إذ إن المغاربة يفخرون بأنهم لم يكونوا قط جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، بل كانوا مستقلين قبل الاحتلال الفرنسي؛

ولذلك فهم يختلفون عن مصر وتونس ويفخرون بأن مقاومتهم للهجوم الاستعماري الفرنسي لم تتوقف وكانت ذاتية ولم يعتمدوا قط على مساعدة من الدولة العثمانية؛ وفي عهد الحماية لم يكن الحكم الفرنسي مباشرًا ولا مستقرًا، والاحتلال الأجنبي بقيت آثاره سطحية وهامشية وظاهرية، فضلاً عن أن الحماية كانت فترتها قصيرة إذ إنها بدأت فعليًّا عام 1930م

وانتهت عام 1956م، والمغرب بلد كبير جدًا لذلك فإن السيطرة الفرنسية اقتصرت على الإدارة المركزية والمغرب كان أكبر بكثير من الإدارة الاستعمارية التي زرعتها فرنسا لتنفيذ أهداف الحماية، وكانوا يسمونها الإمبراطورية الشريفية، والمغاربة يعتبرون أن المغرب عندما استرد استقلاله عاد إلى نفس الوضع الذي كان فيه كإمبراطورية قبل الاحتلال، وكانوا يقولون إن الحماية لم تكن احتلالاً كاملاً في المغرب كما كان الأمر في الجزائر مثلاً ولا في تونس؛

لأن الفرنسيين غرسوا أنيابهم في أعماق المجتمع التونسي لأن تونس بلد صغير وبقوا يحتلونه مدة أطول وأصبح لهم أعوان وعملاء من المثقفين والبورجوازيين ذوي الثقافة الفرنسية، ومن لهم مصالح تتفق مع مصالح فرنسا، ويمكن لفرنسا أن يبقى نفوذها في تونس بعد جلاء جيوشها عنها، وقد بقي فعلاً وما زال باقيًا في نظري نسبيًّا حتى اليوم؛ لأن الحكم الوطني البورقيبي لم يكن له خطة للتعريب ولا لاقتلاع النفوذ الثقافي الفرنسي، بل كانت أهدافه لا تختلف كثيرًا عن أهداف الاستعمار الفرنسي فيما يتعلق بالناحية الثقافية وناحية التعريب والتشريع والتعليم وفيما يتعلق بالصحافة والثقافة والإعلام وما إلى ذلك.

إن موجة الاستعمار الجديد أو النفوذ الأمريكي كانت قادمة للمغرب في صورة القواعد العسكرية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية؛ لأن أمريكا كانت تعتبر المغرب يصلح رأس جسر لها ولنفوذها في العالم القديم وأوروبا، مثل أسبانيا، ولابد أن تفكر في أن يكون لها قواعد في المغرب احتياطيًّا في حالة إخلاء قواعدها في أسبانيا، وخصوصًا أن فرنسا وبعض الدول الأوروبية كانوا حريصين على إبعادها من أسبانيا ويحرضون الأسبان على ذلك.

لقد تألمت كثيرًا لأن الانشقاق في داخل حزب الاستقلال قد أضعف المقاومة الوطنية لهذا الخطر القادم الذي ربما يتحالف إلى حد كبير مع الخطر الفرنسي على الأخص فيما يتعلق بالاستراتيجية المتعلقة بمقاومة الإسلام والعروبة، وشق وحدة الشعب المغربي عن طريق تحريك النزعات العنصرية البربرية، وأذكر أني في عام 1968م

عندما كنت أجلس في المجلس الأعلى لجامعة الرياض وكان معروضًا علينا اختيار بعض الخبراء في موضوع معين وكان الأمريكيون قد رشحوا أحد علمائهم، فوجئت أن تاريخ حياته ومؤهلاته التي جعلتهم يرشحونه للعمل بالسعودية أنه قضى اثنى عشر عامًا في المغرب لدراسة بعض اللهجات البربرية! هذا هو النوع الذي يعده الاستعمار ليكون طليعة لسياسته ومشروعاته الاستراتيجية التي تبدأ بالغزو الثقافي والبحث عن ثغرات تستغل لتحطيم وحدة الشعب لتسهيل تنفيذ خططهم الاستراتيجية التي كان للصهيونية دور كبير فيها بالنسبة لجميع الشعوب في الشرق الأوسط والشعوب الإسلامية التي يريدون إثارة الفتن بين طوائفها؛

لأن مسألة السياسة البربرية ليس المقصود بها فقط عزل البربر عن العرب، وإنما يقصد بها عزل البربر عن الإسلام ذاته والخطوة الثانية المكملة لها هي عزل العرب أيضًا عن الإسلام عن طريق ترويج شعارات القومية العربية أو الاشتراكية اللادينية التي تبعدهم عن الإسلام كما حدث بالنسبة للأتراك حيث استغلت القومية الطوارنية لنفس الغرض.

والقومية البربرية مثل القومية العربية والقومية التركية، كل هذه القوميات العنصرية نجد أن الاستعمار يحرص على ترويجها وتشجيع دعاتها لاستخدامها كوسيلة لإضعاف مقاومة الشعوب التي توحدها الأصالة الإسلامية التي عاشت هذه الشعوب في ظلها أمة موحدة قرونًا عديدة من التاريخ الإسلامي، وهذه الوحدة الإسلامية القائمة على أساس العقيدة والتاريخ المشترك هي أكبر عقبة يعتقد الاستعمار الأوروبي والصهيوني أنها تهدد مشروعاته التوسعية في هذه المنطقة.

إن الجيوش الاستعمارية عندما انسحبت من قواعدها التي كانت تحتلها في بعض البلاد العربية وخصوصًا من بلاد شمال أفريقيا كانت تراودها فكرة عودة النفوذ الاستعماري ولكن من باب خلفي آخر، وهم يفكرون ويخططون ويرسمون لهذه العودة من مسالك متعددة أولها الباب الواسع الذي يريدون أن يفتح لهم طريق العودة العسكرية والسياسية وهو باب النفوذ الثقافي نتيجة عملية التغريب والفرنسة

وعملية التغريب في نظرهم لابد أن تستمر ولابد أن تسهم فيها الحكومات الوطنية التي تحكم البلاد بعد الاستقلال؛ ولذلك فإنهم عندما يعترفون بالاستقلال حريصون على أن تبقى لهم بعض مراكز القوى التي تحاصر بها هذه الحكومات الوطنية وتضطر رغبة أو رهبة للاستمرار في عملية التغريب والقضاء على الأصالة الإسلامية بحجة أو بأخرى، تارة بحجة مسايرة العصر أو الحداثة

وتارة بحجة المحافظة على العلاقات الاقتصادية الضرورية بينها وبين الدول الأجنبية، وتارة لمصالح ذاتية لأن كل حاكم يضع في همه الأول أن يبقى، وتصور له الدعاية الاستعمارية أن دعاة الأصالة إنما يرشحون أنفسهم لكي يحلوا محله، أو أنهم يريدون القضاء على نظامه ومنافسته في السلطة، فكلمة المنافسة في السلطة هي المفتاح للضغط على الحكومات لكي تلجأ إلى التعاون مع القوى الأجنبية وترضى بالاستماع إلى نصائحها وتنفيذ مخططاتها، وخاصة في النواحي الثقافية والإعلامية والاقتصادية والمالية والاجتماعية طبعًا.

هذا هو الباب الذي تركه الاستعمار مفتوحًا ليدخل منه في الوقت المناسب ولهذا لم يكن يجدر في نظري أن ينخدع بعض المغاربة بالمنافسة الموجودة بين الفرنسيين والأمريكان فيما يتعلق بالنفوذ في المغرب، وهذه المنافسة ليست جديدة، فقد كانت هناك منافسات كثيرة بين فرنسا والدول الاستعمارية الأخرى قبل احتلال المغرب وبعده وستبقى ولكن عندهم القدرة لإبقاء هذه المنافسة في إطار محدود على أن يشتركوا في العمل للأهداف المشتركة، والهدف المشترك الأول هو أن الطرفين لهم مصلحة في استبعاد الإسلام من الميدان السياسي؛ لأنه طريق الوحدة الشاملة الأصيلة الكبرى التي تجمع شعوبنا.

إذا كان هدفهم المشترك هو القضاء على الأصالة الإسلامية في المغرب فذلك لأن الإسلام هو الذي وحد المغرب؛ ومن المؤكد أن القوى الأجنبية الراغبة في السيطرة على المغرب تسعى لإحداث فتن داخلية بين العناصر المكونة له بعد عزلها عن الأصول الإسلامية التي توحدها، وهي تتعاون في إطار هذه الهدف؛

ولذلك فإن ما تقوم به بعض الحركات أو الحكومات الوطنية من محاصرة للدعوة الإسلامية أو هجوم على دعاة الصحوة والأصالة الإسلامية في بلادها أو البلاد الشقيقة، إنما يلقى تشجيعًا من جميع القوى الأجنبية مهما تكن الخلافات أو المنافسات بين هذه القوى، وعلى الأخص فيما يتعلق الدول الاستعمارية القديمة (بريطانيا وفرنسا) بالإضافة للاستعمار الجديد الذي يسمح لروسيا وأمريكا بأن تفرضا نفوذهما على هذه المناطق دون أن يأخذ صورة استعمار تقليدي، والفرق بينه وبين الاستعمار القديم أنها إذا احتاجت إلى قواعد فإنها لا تسمى قواعد

وإنما تسمى اتفاقيات تعاون عسكري أو دفاع مشترك أو دفاع إقليمي أو تسهيلاً أو ما إلى ذلك من الأسماء التي تنتهي بوجود قوى عسكرية ونفوذ عسكري أجنبي في هذه المنطقة خصوصًا إذا كانت لصالح دولة أو مجموعة دول تعتبر نفسها أقوى دولة أو تكتل دولي في العالم أو أنها تسيطر على النظام العالمي وأنها مسئولة عن توجيه السياسة العالمية والعلاقات الدولية في النظام الذي تريد بناءه ليحل محل القوى الاستعمارية القديمة.

في هذه الخطط المستقبلية التي تهدف للعودة الاستعمارية لأفريقيا والشرق الأوسط، لاحظت أنهم يعتبرون أن المغرب هو أحسن بلد تكون فيه بداية هذه الهجمة الاستعمارية الجديدة لأنه في نظرهم ما زال يعيش بمؤسساته التقليدية ويحتفظ بالكيان المتميز الذي كان يتمتع به قبل الاحتلال الفرنسي، وبقي له أثناء الحماية واستعاد خصائصه في عهد الاستقلال

والآن هم يريدون أن يستفيدوا من هذا البطء في حركة المغرب في أنهم يستطيعون أن يواصلوا نفس السياسة التي كانوا يمارسونها قبل الحماية وهي التغلغل في داخل المجتمع ومؤسساته، في نظرهم أن المغرب أكثر ملاءمة من البلاد الأخرى كالجزائر التي مرت بمرحلة الاحتلال المباشر الطويل وقاومته، واستطاعت أن تتحرر منه، ومقاومتها لعودة النفوذ الأجنبي ستكون أقوى بكثير من مقاومة البلاد التي لم تمر بمرحلة الاحتلال الأجنبي.

لقد دار ذلك كله بخاطري يوم أن سمعت نبأ وفاة الملك محمد الخامس، وكانت مفاجأة غير متوقعة، لقد كان ذلك في شهر فبراير عام 1961م، وكنا في شهر رمضان المبارك وأثناء تناول طعام الإفطار فتحت الراديو فإذا بي أسمع صوت ولي العهد الأمير مولاي الحسن يعزي شعبه بوفاة والده أثناء إجراء عملية جراحية صغيرة له في الأذن في داخل القصر

وقال إن هذا يوم أسود في تاريخ المغرب، وفي نظري أنه كان فعلاً يومًا أسود لأن الملك محمد الخامس كان يعتبر حلاً أشم تحصنت به الحركة الوطنية، وكان رمزًا لذاتية المغرب وكيانه الموحد المستقل وكان هو باعث الحركة الوطنية وحاميها، وبالنسبة لي كانت لي به علاقة شخصية لذلك كان أول رد فعل لي عندما سمعت هذا الخبر أن قلت لأحد الأصدقاء الذي كان يتناول طعام الإفطار معي في منزلي: لم يعد لي بقاء في المغرب(!!) لم أدر لماذا قلت ذلك تلقائيًّا وأخذته على أنه مسألة عاطفية بسبب أن هذا الملك كان يحوطني برعاية خاصة وأن فقد هذه الرعاية سوف يفتح الباب لعدة جهات للهجوم علي لأن وجودي ليس في صالح كثيرين، وقد تم هذا فعلاً.

هذا الخبر ذكرني في ذلك اليوم بخبر سمعته قبل ذلك في الراديو في باريس عام (1949م)، وأنا راقد في أحد المستشفيات بعد عملية جراحية وهو اغتيال الشهيد حسن البنا في مصر، كما تذكرته بعد ذلك بسنوات عديدة عندما سمعت في الراديو عام 1974م وأنا في جدة نبأ اغتيال الملك فيصل في المملكة العربية السعودية.

كان هناك فراغ في ميدان السياسة بالمغرب نتيجة اختفاء شخصية الملك محمد الخامس، واعتبرت أن ذلك كان بداية لمرحلة جديدة سوف تستغلها القوى الأجنبية التي أعتقد أنها تمثل تيار الغزو الفكري الأجنبي والهجمة الاستعمارية الثقافية والاقتصادية الجديدة ضد المغرب لإضعاف مقوماته الأصيلة وكياناته التقليدية ومستقبله كحائط يحمي الشمال الأفريقي من هجمة الاستعمار الفرنسي والنفوذ الأمريكي الجديد الذي يأتي من ناحية المحيط الأطلسي

ولذلك زاد تركز تفكيري وأملي في أن يكون نجاح ثورة الجزائر وسيلة لدعم هذا الحائط الإسلامي وإحباط هذه المخططات الأجنبية، وزاد اعتقادي بأن مصير شمال أفريقيا ومصير المغرب سيتوقف إلى حد كبير على مستقبل الثورة الجزائرية والاتجاهات التي تسيطر على الجزائر فيما بعد الاستقلال. لقد كان أول أهدافي عندما وصلت للمغرب في عام 1959م هو رتق الفتق الذي حدث في حزب الاستقلال بسبب انشقاق بن بركة وجماعته على حزب الاستقلال، وقد فشلت في ذلك كما فشلت قبله في محاولة التوفيق بين بورقيبه وصالح بن يوسف، وفي محاولة التوفيق بين مصالي وجبهة التحرير الجزائرية

والآن وقد يتكرر الفشل الثالث في المغرب رأيت بنفسي كيف أن انشقاق بن بركة وجماعته كان نتيجته تحطيم حزب الاستقلال وإعطاء فرصة أكبر لمراكز القوى في داخل المغرب لكي تنفذ الخطط الأجنبية في الناحية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وخاصة ما يتعلق بالغزو الفكري...

من المحيط إلى الخليج

عدت إلى المغرب في نهاية عام 1964م يائسًا من البقاء في الجزائر، عازمًا على البقاء لفترة معينة في الرباط، وقد التقيت بصديقي الدكتور عبد الكريم الخطيب الذي كان قد انتخب رئيسًا لمجلس النواب المغربي، فعرض علي أن يتعاقد معي كمستشار قانوني لمجلس النواب المغربي، وفعلاً تعاقدت معه وبقيت أعمل معه في المجلس عدة شهور

ومع ذلك كنت أحس أن (أوفقير) لن يهدأ له بال حتى يخرجني من المغرب لأن ذلك يرفع رصيده عند جهات متعددة، وكان سفير المملكة العربية السعودية في ذلك الوقت صديقًا لي وهو المرحوم السيد خير الدين الزركلي، وقرب موسم الحج في شهر أبريل (1965م) دعاني أنا والدكتور عبد الكريم الخطيب للذهاب إلى حضور المؤتمر الإسلامي بمكة الذي يعقد في موسم الحج

وذهبنا معًا وعدنا معًا من الحج، وعند عودتنا فوجئت (بمحمد خيضر) يحضر إلى المغرب وعرفت منه أنه استطاع الخروج إلى تونس ومنها إلى سويسرا وأنه لا يريد العودة إلى الجزائر الآن؛ لأن الجو لم يعد يناسبه، وأقام بضعة أيام في المغرب، وبعد ذلك عاد إلى أسبانيا ليقيم هناك، أما الحال في المغرب فلم يستقر إذ أنه بعد عودتنا من الحج فوجئنا في شهر يونيو 1965م بتغيير في الوضع وتعطيل الدستور وحل مجلس النواب الذي كان يرأسه الدكتور الخطيب

وكنت متعاقدًا معه، وبحل المجلس النيابي انتهى عملي في المغرب مرة ثانية، ومن ناحية الجزائر جاءت أنباء انقلاب بومدين علي بن بللا 1965م، وبعد ذلك جاءت أخبار سيئة من مصر وهي هجوم الحكومة المصرية على الإخوان واعتقال سيد قطب ومحمد قطب وحملة اعتقالات على الإخوان في مصر، ومن الغريب أنني لاحظت أنه تبع ذلك تحسن كبير في العلاقات بين المغرب ومصر

وقام بعض كبار أعوان (أوفقير) بزيارة لمصر، وقد تأكد لي أن بقائي في المغرب لن يطول كما أن باب العودة إلى الجزائر قد سد في نظري بخروج محمد خيضر واعتقال بن بللا، فوجهت وجهي نحو المشرق أبحث عن مكان آمن، وانتهزت فرصة مروري بباريس مع محمد خيضر وذهبنا إلى السفارة المغربية في باريس، وكان السفير المغربي في ذلك الوقت صديقًا لنا

فطلبت منه أن يعطيني جوازًا مغربيًّا حيث إن الجواز الجزائري الذي بقي معي أصبح معرضًا للإلغاء أو الانتهاء بعد اعتقال بن بللا، ثم كتبت خطابًا إلى الشيخ أحمد زكي يماني في الرباط أبلغه فيه أنني موافق على ما عرضه علي أثناء لقائي معه في موسم الحج بأن أعمل في السعودية وكان قد ذكر لي أنه ينوي عمل قوانين عصرية في السعودية ويريد أن أتعاون معه في ذلك وكان يعمل في ذلك المشروع زميلي وصديقي الدكتور أمين بدر الذي فصل معي من جامعة القاهرة 1954م

وقد أجانبي الشيخ زكي يماني بخطاب بأن حدد لي موعدًا لأحضر للقائه في جنيف، وذهبت إلى جنيف في الصيف والتقيت به فوافق على أن أحضر إلى الرياض في نهاية الصيف، وحدد لي موعدًا بعد شهر، وقررت أن أقضي هذا الشهر في جنيف ولبنان ثم الكويت ومن الكويت ذهبت إلى الرياض، وهناك تعاقدت مع وزارة البترول السعودية على أساس استشارات موسمية مع بقاء إقامتي الدائمة في المغرب.

لم أقطع علاقتي لا بالمغرب ولا بالجزائر لأنني تعاقدت كمستشار بصفة غير متفرع على أن أحضر لهم ثلاث مرات كل سنة، وحرصت على أنني مازلت مقيمًا في المغرب وكان جواز سفري مغربيًا في ذلك الوقت، بعد هذا التعاقد بفترة قصيرة عدت إلى المغرب لأرتب شئوني كالعادة، وبعد ذلك قررت أن أعود إلى السعودية في أوائل الخريف وكان مروري بجنيف لألتقي بسعيد رمضان الذي كان يزودني بمعلومات عن الأوضاع في مصر والشرق.

وأذكر أنني عندما وصلت إلى مطار جنيف وأنا خارج من المطار فوجئت بالمهدي بن بركة واقفًا في مدخل المطار فحييته وعانقته وسألته إن كان مسافرًا، قال: إنه حضر فقط ليودع صديقًا له مسافرًا فقلت له: لابد أن نلتقي فوعدني بأن يحضر لي في الفندق الذي أنزل فيه صباح الغد، وتذكرت أن آخر لقاء لي مع بن بركة كان في المغرب عندما كان يستعد للسفر للخارج في صيف 1960م، ودعاني عبد الرحمن اليوسفي لزيارته قبل سفره وذهبنا إليه في منزله بالرباط وتحدثنا في هدفه من خروجه

قال: إنه يرى أن وجوده في المغرب خطر على حياته وأنه لابد أن يبدأ الكفاح من جديد في خارج المغرب وأن الإخوة سيواصلون عملهم في الداخل، وطبعًا لم يكن هذا الوقت مناسبًا لكي أناقشه في تقييمه لعملية خروجهم على حزب الاستقلال التي قاموا بها وكنت من قبل أعاتبهم عليها ولاشك أنهم في ذلك الوقت كانوا يشعرون بمرارة الهزيمة فلم يكن من المناسب أن أزيد من آلامهم

وزاد في مخاوفي أنه بعد فترة قصيرة من خروج بن بركة في المغرب سمعت نبأ اغتيال صالح بن يوسف في مدينة فرانكفورت بألمانيا في أغسطس 1961م ولم يكن هذا مطمئنًا على مستقبل بن بركة "يلاحظ أن المهدي بن بركة حكم عليه بالإعدام غيابيًّا في المغرب بتاريخ 9/11/1963م، ثم اغتيل في باريس بتاريخ 29/10/1965م، وأن صالح بن يوسف حكم عليه غيابيًّا بالإعدام في تونس في مارس 1957م، ثم اغتيل في فرانكفورت في 12/8/1961م".

لقد تذكرت ذلك كله عندما لقيته في مطار جنيف، وقررت أن ألتقي به في الموعد المتفق عليه في اليوم التالي؛ لكي أقول له رأيي بصراحة عن الحالة كما شهدتها في المغرب وعن علاقته بالنظام العسكري في مصر، وخاصة بعد أن بدأت الحملة الثانية ضد الإخوان باعتقال سيد قطب وجميع الإخوان في مصر، وخطته لمطاردتنا في الخارج التي بدأها بعقد ما يسمى بميثاق التضامن العربي

لقد أخبرته في لقائي معه أنني أثناء وجودي في مدريد اتصل بي تليفونيًّا صديقي الأستاذ هارون المجددي الذي كان في زيارة للمغرب وأبلغني أنه التقى مع "نجيب جويفل"، وهو أحد المصريين المعروفين بعملهم مع المخابرات المصرية في الجزائر رغم أنه كان من قبل من الإخوان المسلمين، وقال إنه كان يبحث عني ويسأله عن مكان وجودي لأنه توجه لمنزلي عدة مرات فلم يجد به أحدًا، وأنه ذهب إلى القنيطرة والتقى بأحد أصدقائنا

وهو الدكتور عمر الخطابي وسأله عني، وقد أبلغ الدكتور عمر الخطابي هارون دهشته من ذلك لأنني لم ألتقي به منذ مدة طويلة؛ ولأن هذا الشخص لا يمكن أن يكون قد عرف عنوانه أو علاقتي به إلا عن طريق المخابرات المغربية، وفهمت من هارون أن هناك تنسيقًا كبيرًا وتعاونًا بين المخابرات المصرية والمغربية بشأن تنقلاتي ومراقبتي، وقلت لبن بركة: إن هناك احتمالاً كبيرًا أن يكون الموضع مماثلاً بالنسبة له وسيكون هناك تعاون بين الجهتين بشأنه.

وقلت لبن بركة: لقد زاد شكوكي أن عرفت من صديقي الدكتور حافظ إبراهيم بمدريد أن أحد أصدقائه من التونسيين المعارضين لحكومة بورقيبة قد اعتقل في المغرب وسلم للحكومة التونسية عقب اتفاق الجامعة العربية على ما سموه ميثاق التضامن العربي، وكان تفسير ذلك لدى ولدي الدكتور حافظ إبراهيم أنهم قصدوا من هذا الميثاق التعاون بين الحكومات العربية ضد حركات المعارضة جميعها، وهذا يشمل الإخوان بالنسبة لمصر وجماعة بن بركة بالنسبة للمغرب.

لقد جاء لي بن بركة في الصباح وشربنا القهوة وجلسنا نتبادل المعلومات والأخبار وقلت له كل ذلك، وقلت له يجب أن تتابع المؤتمر الذي عقد في الدار البيضاء وأعد ميثاقًا يسمى ميثاق التضامن العربي، وقد سمعت بأن هذا التضامن كان بناءً على اقتراح رئيس وزراء السودان الذي كان معروفًا بعلاقته الوثيقة بالنظام المصري، وأن مشروعه أيدته الحكومة المصرية، وأن الهدف منه هو تضييق الخناق على الإخوان المسلمين الموجودين بالخارج

ومعنى ذلك أن الدول الموقعة عليه التي يوجد فيها إخوان مسلمين سوف تكون على استعداد لإخراجهم أو تسليمهم إذا حصلت على مقابل مناسب، وأن حكومة مصر تعهدت بأن تقوم باللازم نحو المعارضين لكل الحكومات العربية إذا حصلت على مقابل مناسب أيضًا، وهذا معناه أنك وجماعتك الآن قد أصبحت معنا في خندق واحد وأن هذا الميثاق هو ميثاق بين المخابرات المغربية والمصرية

وأنه إذا تمت بينهم صفقة فسوف تكون على حسابي وحسابك، إن هذا التضامن العربي قد تم بين الحكام ضد المعارضين جميعًا أي أن الظالمين من الحكام قد أنشئوا لهم نقابة للتعاون على قمم جميع المعارضين، فمتى نفكر نحن المظلومين في إنشاء نقابة لنتعاون فيما بيننا للدفاع عن أنفسنا؟!

فقال لي في الحقيقة الآن الوقت غير مناسب بالنسبة لنا؛ لأننا الآن على اتصال بالملك ونحن نجري مفاوضات معه وقد أبدى حسن رغبة في التفاهم ويحتمل أن أعود للمغرب قريبًا، وربما يدخل بعض أصدقائي في الحكومة، قلت له: وهل أنت واثق من أن هذه الدعوة جادة، وهل تأكدت من رأي أوفقير، فقال: أنا واثق من أن الملك حسن النية، ولابد أن نعطيه فرصة لإثبات حسن نيته، وقد أخبرت إخواننا بأن يسيروا في طريق المصالحة الوطنية، فأنا أبديت له شكي في نيات أوفقير بالنسبة لنا وبالنسبة له، وعلى ذلك افترقنا على أننا لم نتفق

وقلت له: إنني قررت الإقامة في السعودية، وبعد ذلك ذهب هو إلى باريس وذهبت أنا إلى بيروت ومن بيروت إلى الرياض، وهناك سمعت خبر اغتياله في باريس، وقد عرفت من اتصالي ببعض أصدقائي فيما بعد أن خطة اغتياله قد دبرها أوفقير والظاهر أنها كانت بعلم المخابرات المصرية على الأقل، إن لم يكن بتواطؤ معها، وقالوا إن المخابرات المصرية كانت على اتصال بمخابرات أوفقير وأن وفدًا من المخابرات المغربية كان في مصر قبل اغتياله بمدة قصيرة

وأنهم واثقون من أن مصر لم تكن حريصة على بقاء بن بركة فيها، وسبب ذلك أنه بدأ اتصالات على مستوى عالي من الأوساط الشيوعية لعقد مؤتمر في كوبا يسمى مؤتمر القارات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية) وأنه لهذا السبب ترك مصر وترك أسرته فيها، وهذا هو الذي جعله يرحب بدعوة الملك للمصالحة الوطنية وتبين أنه خدع ووقع في كمين وكانت هذه غلطة العمر بالنسبة له، رغم ما عرفت عنه من ذكاء شديد وما اتصف به من يقظة وحذر

وتبين أن الكمين قد نجح بسبب ثقته في رجال الاستخبارات الفرنسية التي كانت تمنحه عناية خاصة بأمر من ديجول طوال مدة إقامته في فرنسا، وبعد اغتياله تأكد أن ديجول اكتشف أن بعض رجال المخابرات الفرنسية كان عميلاً مزدوجًا، وكان يعمل مع أوفقير وأنهم هم الذين قبضوا على بن بركة وسلموه لأوفقير الذي اغتاله وقتله بنفسه في باريس ولذلك فإن ديجول أصر على محاكمة أوفقير أمام القضاء الفرنسي الذي حكم عليه وأصر على أن يقوم الملك الحسن بتسليمه، ولكن الملك رفض؛ ولذلك ساءت العلاقات بين ديجول شخصيًّا وبين الملك الحسن الثاني فترة طويلة لهذا السبب، ولم يزر الملك فرنسا إلى أن خرج ديجول من الحكم.

لقد كان نبأ اغتيال بن بركة مفزعًا لي وزاد في مخاوفي من السفر إلى المغرب، ولذلك أطلت مدة إقامتي في الرياض إلى شهر ديسمبر، وعرفت أن مؤتمرًا لاتحاد المحامين العرب سيعقد في القدس التي كانت تابعة للأردن في ذلك الوقت، وأن بعض إخواننا من المحامين المصريين سيذهبون إلى هناك، فقررت أن أحضر المؤتمر

وأن أسعى لاستصدار قرار منه يمكن المحامين العرب من الذهاب إلى مصر للدفاع عن سيد قطب وغيره من الإخوان المعتقلين وقد نجحت في الحصول على هذا القرار رغم المقاومة الشديدة من الناصريين وأعوانهم، وكان نجاحي بسبب تشجيع وتأييد كثير من المحامين المصريين الموجودين في المؤتمر وفي مقدمتهم الأستاذ "البرادعي" نقيب المحامين الذي كان متحمسًا لهذا الموضوع

وكذلك كثير من المحامين العرب الذين كانوا يريدون أن يذهبوا إلى مصر لأغراض خاصة بهم ووجدوا هذه فرصة لتقرير مبدأ وحدة نقابات المحامين العربية، وحق المحامين العرب في الدفاع في القضايا السياسية في جميع البلاد العربية، ومن هذا المؤتمر عدت إلى المغرب واتصلت ببعض المحامين، وكان نقيب المحامين في الرباط في ذلك الوقت السيد محمد أبو ستة من كبار زعماء حزب الاستقلال وكان صديقًا لي

فذهبت إليه في مكتبه وقلت له إنني أريد أن يرشح لي بعض المحامين ليذهبوا إلى مصر للدفاع عن قضية سيد قطب، فقال لي أنا مستعد أن أذهب للدفاع عن سيد قطب، لأنني معجب به وقد قرأ كتبه وأرى أنه مظلوم، وأرى أنه لابد أن نتعاون جميعًا للدفاع عنه واتفقت معه على أن أسبقه إلى بيروت لإعداد ملف للقضية، على أن نلتقي في موعد معين في بيروت لأقدم له ملف القضية في الحدود التي أستطيع الوصول إليها

وكتبت إلى بعض إخواني في الكويت وفي بيروت لإعداد ملف لتسليمه للسيد محمد أبو ستة، وذهبت إلى بيروت في الموعد المحدد للقاء السيد محمد أبو ستة، ولكني وجدت أنه وصل قبلي ووجد من الأفضل أن يذهب إلى مكة لقضاء عمرة، وترك لي رسالة لدى السفارة المغربية لكي ألحق به هناك لأن الاجتماع هناك أفضل، ولم يكن للمغرب سفير في بيروت في ذلك الوقت؛

لأن الملك الحسن كان قد استدعى سفيره احتجاجًا على الحملة الصحفية ضده بسبب حادث بن بركة وعزمت على أن أذهب إليه في مكة بالأوراق المطلوبة، ولكن يظهر أنه خلال كل هذه الاتصالات كانت أعين الاستخبارات من جهات متعددة تتابع هذا الموضوع وكان منها مخابرات أوفقير الذي كان يعمل لحساب كل من يدفع له مقابلاً، وكانت السفارة المصرية تنفق بسخاء وسعة في لبنان؛ ولذلك اعتقلت في بيروت.

لهذا الاعتقال قصة طويلة أخصص له "كراسة مستقلة" وقد حال هذا الاعتقال دون أن ألتقي بالأستاذ محمد بوستة ودون أن يذهب هو إلى مصر؛ لأنه عندما حضر إلى بيروت وعلم باعتقالي من القائم بالأعمال المغربية هناك عدل عن الذهاب إلى مصر وبقيت أنا في الاعتقال حتى جاء موسم الحج وأفرج عني بعد شهرين تقريبًا من الاعتقال

وكان من الواضح أن الكمين الذي نصب لي في بيروت كان مماثلاً للكمين الذي وقع فيه بن بركة قبل ذلك وأنه كان من إعداد المخابرات المصرية عن طريق العناصر اللبنانية التي كانت تتعاون تعاونًا وثيقًا مع الناصريين في لبنان ومع المخابرات المصرية والسفير المصري في ذلك الوقت، وكانت عناصر كثيرة فيها تعتبر عميلة للمخابرات المصرية

وكانوا يتلقون مبالغ طائلة مقابل ذلك المهم أنني من حسن الحظ خرجت من هذا الكمين رغم أنني كنت أقل الناس قدرة على التزام الحذر والحيطة، وعدت إلى السعودية وقد بقيت هناك أتابع محاكمة سيد قطب حتى جاء الصيف وكانت المحاكمة قد أوشكت على نهايتها ولذلك قررت أن أغادر السعودية إلى بعض الدول العربية في شمال أفريقيا

لأبحث عن وساطات لصالح سيد قطب لعلي أحجد من يقوم بالتوسط لدى الحكومة المصرية للإفراج عن الإخوان فذهبت إلى بيروت وهناك اقترح علي السيد محمد علي الطاهر الذي عرفته في مصر، والأستاذ هارون المجددي وكلاهما كان على علاقة وثيقة مع بورقيبه في تونس وقد نصحاني بأن أذهب أولاً إلى تونس.

إعدام "سيد قطب" وحوار مع "عرفات"

كان لي صلة شخصية ببورقيبه رغم اختلافنا في الرأي والاتجاه، وكان هذا من ضمن الأشياء الكثيرة التي يأخذها كثير من أصدقائي علي، وهي أنني كنت أفرق بين العلاقات الشخصية وبين الخلافات السياسية والفكرية، مثلاً بورقيبه كان يعلم أنني من الإخوان وأن الإخوان هم دعاة الإسلام، وكان يعلم أنني لن أتخلى عن هذا المبدأ، ومع ذلك كان يستقبلني ويذكر معي الأيام التي قضيناها في لقاءاتنا في القاهرة واتصالي معه ومع زعماء حزب الاستقلال والتعاون معهم.

خرجت من بيروت وذهبت إلى تونس عن طريق ألمانيا وكانت معي زوجتي، استقبلنا (بورقيبه) شخصيًّا في قصره وشرحت له القضية وقلت له إن هدفي هو إنقاذ سيد قطب لأنني أخشى أن تنتهي المحاكمة بالحكم عليه بالإعدام وهو شخصية فذة ومفكر إسلامي لا يجوز أن يقضي عليه، وكان بورقيبه رغم اختلافي معه فيما يتعلق باتجاهه اللاديني الذي أعرفه جيدًا وكنت على يقين منه

إلا أني كنت أقدر فيه الاعتزاز بالعلاقات الشخصية وأعرف فيه أنه كان يعتز بكل من له علاقة سابقة به مهما كان الخلاف معه، وكنت أعرف أيضًا أن له ثأرًا عند "عبد الناصر" بسبب هجومه عليه عندما دعا إلى التفاوض مع إسرائيل في بيروت وأقام الدنيا وأقعدها ضده، ولهذا السبب كان يعتبر نفسه خصمًا سياسيًّا لعبد الناصر ولما عرضت عليه القضية وجد أنها فرصة للتشهير بعبد الناصر والانتقام منه، وأصدر أوامره للصحافة والحزب والبرلمان وكل من في تونس للدفاع عن سيد قطب، وكان هذا الدفاع يأخذ في كثير من الأحيان صورة النقد والهجوم على الدكتاتورية الناصرية والاستبداد الناصري.

صدر حكم بإعدام "سيد قطب" وأنا في طريقي إلى المغرب، وقد ذهبت للمغرب لأنني أعرف أن علاقات المغرب بمصر تهيئ لهم أن يتوسطوا لتخفيف الحكم، فوصلت إلى المغرب وقمت بجهد عظيم بالتعاون مع صديقي الشارع الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري الذي كان قد اعتقل في بيروت، وسعينا لدى جميع المسئولين في المغرب وكان هناك إجماع من جميع الاتجاهات السياسية على الدفاع عن سيد قطب للمطالبة بالإفراج عنه

وكتبنا برقية وقوعها جميعًا وما زالت صورة هذه البرقية موجودة وموقعًا عليها من جميع زعماء الأحزاب المغربية سواء الذين في الحكم وغيرهم ممن هم خارج الحكم، يطالبون فيها الحكومة المصرية بالإفراج عن "سيد قطب" والعفو عنه لأنه بريء، وكان صديقي السيد محمد الشرقاوي وزير الخارجية في ذلك الوقت، وكان قبل ذلك سفيرًا للمغرب في باريس وزرته مع محمد خيضر هناك

وأذكر أننا يوم أن ذهبنا إليه في مكتبه بالرباط لنعرض عليه التوقيع على هذه البرقية أنه قال: إن السفير المصري كان عنده قبل وصولنا وكان يطالبه بإخراجي من المغرب وقال إنه لن يجيب هذا الطلب وإنه مستعد لأن يوقع على هذه البرقية، ولكنه يرى أن ذلك ليس من المصلحة؛ لأنه وزير الخارجية ولا يريد أن يقوم بعمل من ذلك القبيل حتى لا يسيء إلى علاقات حكومة المغرب مع الحكومة المصرية.

ولم تمنع مساعينا من تنفيذ حكم الإعدام على "سيد قطب" وزملائه، وسمعنا النبأ ونحن في الرباط، وكانت صدمة كبيرة لي ولكثيرين من المغاربة الذين رأيتهم يبكون عندما سمعوا هذا الخبر كما بكت زوجتي رغم أنها لم ترد سيد قطب ولم تعرفه، وشعور زوجتي كان هو شعور كثير من الشباب والطلاب في تونس والمغرب وإذا كنا فشلنا في إنقاذ حياة سيد قطب فإن دمه تحول إلى نهر من الطاقة المشتعلة يغذي حماس الطلاب والشباب والجماهير للفكر الإسلامي ولكتابات "سيد قطب" وكتابات الإخوان، وجرى في شرايين المجتمع تيار فكري للصحوة الإسلامية ظهرت آثاره ملموسة ومؤثرة فيما بعد.

إن ما بذلناه من جهد للدفاع عن سيد قطب لم يغير النتيجة بالنسبة لشخصه، ولكنه نشر فكره ودفع الشباب والجماهير نحو أفكاره وأفكار الإخوان عامة، لقد نمت أفكار سيد قطب وقوى تيار الفكر الإسلامي بسبب اغتياله وبسبب الحملة التي قمنا بها للدفاع عنه، وظهرت آثار ذلك في الصحوة الإسلامية في شمال أفريقيا وفي جميع الأقطار العربية بل والبلاد الإسلامية مثل إيران وتركيا، وقد ظن حكام الجزائر أنهم أكثر ثورية ووطنية من غيرهم؛

ولذلك فقد كانوا يظنون أن تيار الصحوة الإسلامية لن يكون له محل عندهم، واغتروا بالاشتراكية التي كانت تجلب لهم أسلحة ومساعدات من السوفيات وكتلها الشرعية، ولكن التيار الإسلامي كان أقوى من كل ذلك، واجتاز كل العقبات التي وضعوها في طريقه حتى اكتسح الساحة السياسية في الجزائر كما تبين لهم فيما بعد.

هناك مسألة خاصة بالجزائر لابد من ذكرها، وهي أنني في طريقي من تونس إلى المغرب كنت أنوي الذهاب إلى الجزائر، ولكني علمت بأن السيد بومدين –رحمه الله- قد اغتر بانتصاره على (بن بللا) وتصالحه مع الناصريين فجاوز الحد في تعاونه معهم، إذ إنه كان هناك بعض المصريين يعملون في الجزائر وكان أحدهم الشيخ "فتحي الرفاعي" وكان يقوم بالتدريس في إحدى مدى الجزائر وفجأة جاءت المخابرات المصرية وطلبت تسليمه إليها

فما كان من بومدين الوطني الشجاع الذي لم يدخل معركة واحدة أثناء الثورة الجزائرية بل قضى المدة كلها يكدس السلاح ويجمع القوات للاستيلاء على الثورة بعد الاستقلال ما كان من هذا الرئيس الشجاع، الذي غدر بصديقه بن بللا، إلا أن أمر بالقبض على فتحي الرفاعي ووضعه في طائرة نقلته من الجزائر إلى مصر ومعه ضابط المباحث ورجال المخابرات المصريون الذين جاءوا بطائرة خاصة (لتسلمه)

وكان هذا الخبر مؤلمًا على نفسي، فرأيت ألا أذهب إلى الجزائر واكتفيت باتصال تليفوني من باريس بصديقي الدكتور الهاشمي التيجاني رئيس جمعية القيم بالعاصمة الجزائرية، واقترحت عليه أن يرسل برقية باسم جمعيته إلى عبد الناصر يطلب فيها الإفراج عن سيد قطب، وقد فعل وتوجه مع وفد من جمعيته وسلموا البرقية للسفير المصري، وكان نتيجته أن اعتقل هو وبعض زملائه وحلت جمعية القيم بقرار من محافظ العاصمة بأمر من بومدين

وتبين أن الحملة التي قامت ضدها في عهد بن بللا كانت مستعمرة في دهاليز التيار الشيوعي، وكان هذا القرار (بحل الجمعية) في سبتمبر 1966م بعد إعدام سيد قطب –رحمه الله- بأيام معدودة وكان زيادة في التشفي والانتقام من التيار الإسلامي الذي كان يسري في شرايين المجتمع ويغذي القاعدة الشعبية والتجمعات الطلابية والشبابية التي آلمها سيطرة الإلحاديين والعلمانيين باسم الاشتراكية على الإعلام وعلى كثير من أجهزة الدولة والحزب الحاكم وحاشية الحكام في عهد بومدين وقبله في عهد بن بللا.

حكي لي الدكتور الهاشمي التيجاني كيف أن هذه البرقية لم تكن هي السبب الوحيد لاعتقاله الذي كان نتيجة متابعة ورقابة مستمرة، وأنه بقي في السجن مدة طويلة ولم يفرج عنه إلا بناء على تدخل من جانب ملك المغرب وحكومته بمسعى من والده الذي يقيم بالمغرب وبعض العلماء الجزائريين ممن كانوا يتعاونون مع الحكومة في ذلك الوقت وأن بومدين لم يكتف بذلك

بل صدر قرار وزاري بعد ذلك في 17 مارس 1970م بعد أربع سنوات تقريبًا بحل جمعية القيم في جميع أقاليم "الجمهورية الجزائرية الديمقراطية والشعبية" ، بعد أن تبين أن قرار الحل الأول الذي صدر في عام 1966م كان ساريًا فقط في العاصمة وما حولها وأن النشاط الإسلامي ظهر في جهات أخرى من الجزائر

وقد أزعج كهنة الدكتاتورية الذين كانوا مخدوعين بما يتخذونه من قرارات لمنع النشاط الإسلامي من الظهور على السطح، ولكنه رغمًا عنهم وجد لنفسه دروبًا ومسالك أخرى متعددة، منها جمعية القيم، مع أنها لم تكن إلا واجهة واحدة من بين صور عديدة سار فيها الفكر الإسلامي ليدفع تيار الصحوة الإسلامية لاقتلاع الدكتاتورية العسكرية والحزبية من جذورها.

أثناء وجودي بالمغرب ذكر لي السيد علال الفاسي أن القائم بأعمال السفارة المغربية في بيروت أثناء اعتقالي هناك، وكان من تلاميذه ومريديه، قد أبلغه بأنه تدخل لدى السلطات اللبنانية عندما سمع باعتقالي وأنه دافع عني بشدة، ولما دخلت السجن كان يستعد لزيارتي في السجن في بيروت ليتدخل للإفراج عني، ولكن وصلته تعليمات من وزارة الخارجية في المغرب بألا يتدخل في هذا الموضوع؛

لأنني لست مغربيًّا؛ ولأن المغرب كان بصدد تحسين علاقته مع الحكومة المصرية، ولاشك أن تحسن العلاقات بين المغرب ومصر بدأ منذ عام 1964م منذ انعقاد مؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة في يناير (1964م) وتأكد هذا التقارب في مؤتمر الدار البيضاء الذي أسفر عن ميثاق التضامن العربي الذي كان أول ثماره في نظر كثيرين هو التعاون الذي تم بين المخابرات المغربية والمخابرات المصرية في الكمين الذي نصب للمهدي بن بركة والذي أدى إلى اغتياله في باريس

وتلا ذلك الكمين الذي نصب لي في لبنان والذي أدى إلى اعتقالي هناك وكان المقصود منه هو نقلي إلى مصر كما هو المعتاد سواء في أحد الصناديق التي كانت تستعملها المخابرات المصرية "وكانت لها شهرة عالمية في ذلك الوقت بسبب ضبط أحد هذه الصناديق في مطار روما"، أو بأية وسيلة أخرى من وسائل الإكراه. كان أول ما فعلته عندما عدت إلى المملكة العربية السعودية بعد اعتقالي في بيروت أنني طلبت من الملك فيصل –رحمه الله- أن يعطيني جواز سفر سعوديًّا فقال: إننا لا نعطي جوازات سفر سعودية لغير السعوديين؛ ولذلك سوف نعطيك الجنسية فأعطاني الجنسية بمرسوم ملكي.

كنت سعيدًا عندما حصلت على الجنسية، حيث أن جواز السفر المغربي كان على وشك الانتهاء، وكان من الراجح أنه لن يجدد، ومع ذلك كنت أتردد على المغرب من حين لآخر ثلاث مرات في العام وأعود منها إلى السعودية حتى وقعت هزيمة 1967م، ثم حدث حريق المسجد الأقصى سنة 1969م الذي جعل الدول العربية جميعًا تستجيب لدعوة "الملك فيصل" للتضامن الإسلامي وعقد مؤتمر القمة الإسلامي الأول في الدار البيضاء بدعوة من "الملك الحسن الثاني"

وذهبت لمتابعة هذا المؤتمر، ولم يكن لي حق الحضور ولكني التقيت مع علال الفاسي والدكتور الخطيب وأصدقاء آخرين وقررنا أن نعمل اجتماعًا للهيئات الشعبية المؤيدة للتضامن الإسلامي ويكون مهمتها دعم نشاط منظمة المؤتمر الإسلامي، واجتمعنا في الرباط وأصدرنا بيانًا بذلك نشرته جريدة العلم وبعض وكالات الأنبياء وكان من بين من حضروا الاجتماع مندوب لمنظمة التحرير الفلسطينية في المغرب الذي كان على علاقة وطيدة مع علال الفاسي وعبد الكريم الخطيب

وكان يعتمد عليها في نشاطه بالمغرب، ولكن بعد نشر هذا البيان قامت ضجة كبيرة في صحافة بيروت من بعض الفصائل اليسارية واحتجوا على منظمة التحرير لأن مندوبها حضر اجتماعًا مع الهيئات المؤيدة لمسيرة (التضامن الإسلامي) التي يعتبرونها عدوة للاتجاه الاشتراكي!! وفوجئنا بأن المنظمة تصدر بيانًا من (بيروت) تتبرأ فيه من مشاركتها في هذا الاجتماع ومن أي تعاون بينها وبين الهيئات الإسلامية، وهكذا وجدنا منظمة التحرير الفلسطينية التي كافحنا من أجلها وساعدناها في كل وقت تعلن في الصحف تبرؤها من أي تعاون مع الاتجاه الإسلامي!!

لقد تصادف أن لقيت ياسر عرفات بعد ذلك في السعودية فعاتبته في ذلك وقلت له ألا تذكر ما قلته لي في المغرب عام 1965م من أنكم كنتم من الإخوان المسلمين وأنكم تعملون باسم الإسلام ألم تذكر أننا التقينا مع الملك فيصل وقال لك إننا نعاونكم لأن الإخوان المسلمين هم الذين قدموكم لنا

وأنك قلت له: إنك من الإخوان المسلمين، قال لي معتذرًا: نعم أذكر ذلك ولكن أنت تعرف أننا عندنا فصائل متعددة ومن واجبنا أن نحافظ على التعاون بين جميع هذه الفصائل حتى لا يشذ أحدها، وقال لي إن هذا الوضع يفرض علينا كثيرًا من التنازلات وأنت تعرف أننا كنا نصدر بيانات العاصفة، وفي السنة الأولى كنا نبدأها: "بسم الله الرحمن الرحيم" لكن بعد إنشاء منظمة التحرير وجدنا أن بعض الفصائل احتجت على ذلك

واجتمع المجلس التنفيذي للمنظمة ودرس احتجاجات أعضاء المنظمة على ذكر: "بسم الله الرحمن الرحيم" في بيانات العاصفة ولقد اضطررت أنا أن أجاريهم في ذلك وتعهدنا بحذف "بسم الله الرحمن الرحيم" من بيانات العاصفة منذ ذلك التاريخ وفرضوا علينا أن يكون خطنا خطًّا وطنيًا بحتًا ليس له أي طابع إسلامي والتزمنا بذلك...

قلت له: معنى ذلك أنكم وافقتم على أن تكونوا علمانيين.

قال: إذا كان هذا يمكننا من إنشاء دولة فلسطينية علمانية أو غير علمانية فنحن مستعدون لذلك، ونحن نريد أن نقنع العالم بأننا نريد إنشاء دولة تضم اليهود والعرب على حد سواء، ولا يمكن أن تكون هذه الدولة في نظرهم دولة إسلامية؛ ولذلك فنحن لا نريد أن نرفع شعارات إسلامية.

قلت له: أتذكر أنك طلبت مني أن أدعو "الإخوان المسلمين" للتعاون معكم وأن يأمروا أعضاءهم بالعمل في إطار منظمة فتح، وأنني بذلك جهدًا كبيرًا لإقناعهم بذلك ولكنهم كانوا أبعد مني نظرًا لأنهم كانوا يؤكدون أنكم لا تلتزمون بمنهج إسلامي وأن العمل الإسلامي يجب أن يكون مستقلاً عن المنظمات التي لا تلتزم بأهدافه.

منذ ذلك اليوم عرفت أن طريق "صديقي ياسر عرفات" غير طريقنا، وأن علاقتي الشخصية به قد ورطتني في اتجاه خاطئ، ومن حسن الحظ أن غيري من الإخوان كانوا أبعد نظرًا وفي مقدمة هؤلاء صديقي الأستاذ الشيخ عبد الرحمن خليفة المراقب العام للإخوان بالأردن، والآن أرى أنهم كانوا على حق وزاد اعترافي بصحة خطتهم وخطأ محاولاتي لصالح (فتح) بعد أن بدأت الانتفاضة بفضل جهود شباب الدعوة الإسلامية الذين دخلوا ميدان الجهاد وحدهم

عندما اتجهت منظمة التحرير إلى المفاوضات والمساومات والحلول الوقتية التي تعطي لإسرائيل فرصة تنفيذ استراتيجية طويلة المدى لتهويد القدس وزيادة عدد المستوطنات لتمزيق الضفة الغربية ولاقتلاع الهوية الفلسطينية التي لا تنفصل عن الإسلام، بل رأينا بكل أسف أن منظمة التحرير قبلت أن تتعاون مع إسرائيل ومع غيرها من الحكام للقضاء على الانتفاضة واقتلاع التيار الإسلامي من فلسطين بل ومن غيرها من البلاد المجاورة وغير المجاورة.

لقد كنت أنا المخطئ... وليس هذا هو الخطأ الوحيد الذي أستغفر الله منه، فقد وقعت في أخطاء كثيرة في جولاتي بين أقطار المغرب والمشرق...

أخي الأستاذ "عمر... "التلمساني" وأصدقائي الثلاثة

تلمسان... تذكرني بالشيخ عمر التلمساني زعيم الإخوان المسلمين، و"مصالي حاج" زعيم حزب الشعب الجزائري، وقد رأيتها تستقبل زعيمًا تلمسانيًّا آخر هو أحمد بن بللا..

عندما دخلت مدينة تلمسان في صيف عام 1962م لأول مرة مع بن بللا ومحمد خيضر، وسعدت برؤية أرض الجزائر المستقلة وأهلها لأشاركهم فرحتهم بالاستقلال في بلادهم، تذكرت صديقي ورفيقي الأستاذ عمر التلمساني المحامي في مصر، وبقيت صورته في خاطري طول مدة إقامتي في تلمسان التي تنتمي لها أسرته وينتسب لها باسمه دون أن يراها لأنه ولد في مصر، ولكن إسلامه الأصيل دفعه للانضمام للإخوان المسلمين مما أدى إلى اعتقاله معهم منذ عام 1954م.

لقد كنت معتقلاً معه في السجن الحربي عام 1954م، ثم نقلت إلى سجن مصر، ثم خرجت منه عام 1956م، أما هو فقد حكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة ليقضي بقية عمره في السجون في سبيل عقيدته ومبدئه، وقد نقل من سجن إلى سجن حتى وصل إلى سجن الواحات في الصحراء الغربية، وكان ما يزال هناك عندما كنت في تلمسان موطنه الحبيب الذي لم يره في حياته.

كنت أجلس كثيرًا في مسجد سيدي أبو مدين في تلمسان التي وصلت إليها عقب دخول بن بللا بعد خروجه من سجون فرنسا التي قضى فيها ست سنوات، جئت معه هو وأصحابه إلى تلمسان دون أن أعرف كثيرًا عن خطتهم أو علاقاتهم مع جهات كثيرة لقد حضرت المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه إنشاء المكتب السياسي ليكون في نظره وفي نظر الحاضرين هو الذي ستسلم له السلطة ليكون رئيسًا لأول حكومة جزائرية مستقلة، ولما سألت عن ذلك قالوا لي إن الحكومة المؤقتة تمزقها الخلافات والصراعات والمنافسات بين القادة في الداخل والخارج، ولا يجوز أن ندخل في هذه الصراعات.

إن الاستقلال جاء نتيجة لجهد الشعب الجزائري وتضحيات المجاهدين والشهداء في مقاومتهم للاستعمار الفرنسي، ولكني بدأت أرى دلائل جعلتني أخشى أن يكون وصول بن بللا إلى الزعامة التي كرسها له أصدقاؤه في تلمسان لم يكن الفضل فيه للجهاد الجزائري وحده وإنما جاء نتيجة لتخطيط بعض الحكومات، وعلى الأقل أجهزة المخابرات في ثلاث دول هي مصر وفرنسا والمغرب، وأن كلاً من هذه الجهات الثلاث كان يسعى لأهداف خاصة به، وكلهم يراهن على أن هذا الزعيم التلمساني (الجديد) سوف يسهل لهم الوصول إليها أكثر من سواه ولذلك يساعدونه لتسلم السلطة.

كنت أعرف أن بن بللا ولد في بلد قريب من الحدود المغربية تسمى "مغنية" وطالما ذكر لي أن أمه كانت ما تزال مقيمة بها، وهي ليست بعيدة عن تلمسان، فهو تلمساني الموطن مثل زعيمه "مصالي حاج" الذي أسس الحركة الوطنية الجزائرية وزعيم حزب الشعب الذي يعتز بن بللا بأنه نشأ فيه وبدأ كفاحه في صفوفه، وكان موطنه أيضًا قريبًا من تلمساني وبدأت أقارن بين حظوظ هؤلاء التلمسانيين الثلاثة ومواقفهم، وكان أقربهم إلي هو صديقي المحامي التلمساني الموجود في سجن الواحات في مصر.

كنت أرى أن هناك فرقًا كبيرًا بين التلمساني المصري في السجن في الواحات وصديقي التلمساني الذي جئت معه وهو في طريقه إلى تولي السلطة في العاصمة، في حين أن زعيمه التلمساني الأصيل "مصالي حاج" ما زال معتقلاً في فرنسا، وسألت نفسي هل من حق من جاهد في سبيل مبدأ وقضية أن يقبل مساومات مع جهات يظن أنها تستطيع أن تريحه بعض الوقت من مآسي السجن والاعتقال وأن ترفعه إلى مقاعد السلطة بدلاً من السجن أو الاغتيال، ومتى يعتبر مضطرًا لذلك أو معذورًا؟

إنني لاحظت أن من يسلك هذا الطريق غالبًا يمكنه أن يريح ضميره بالقول بأنه بهذا الأسلوب يمكنه أن يحقق هدفًا وطنيًّا أو مثاليًا؛ لأنه يعتبر نفسه أقدر من غيره على أن يحقق لبلاده مصلحة أعده القدر لتتحق على يديه إذا وصل إلى السلطة ولو كان ذلك بالتواطؤ أو التعاون مع جهات لها مصالحها التي قد تختلف إلى حد كبير عن مطالب شعبه وجماعته أو أمته.

شغلت عن هذه المقارنات والموازنات وتلك الخواطر منذ أن وصلت إلى العاصمة الجزائرية، ورأيت المسلسل الذي شاهدته أثناء إقامتي في الجزائر بعد استيلاء صديقي أحمد بن بللا وجماعته على السلطة وتحملهم مسئولية بناء الدولة الجزائرية الناشئة، ولاشك أنه لم تعجبني بعض التنازلات التي التزموا بها للجهات التي ساعدتهم على الوصول إلى السلطة رغم معارضتي ونصائحي

وقد أشرت إليها في حديث سابق، وكان من نتائجها بلاشك إقناعي بمغادرة الجزائر، وتركتهم غير آسف ليتمكنوا من مواصلة تعاونهم مع تلك الجهات التي ساعدتهم في الوصول إلى السلطة وغادرتها فيما بعد مختارًا؛ لأنني لا أريد أن أكون عقبة في طريقهم، ولم يكن هناك في نظري بديل إسلامي أصلح منهم في ذلك الوقت ولابد أن يمضي وقت ما قبل أن يوجد هذا البديل الإسلامي.

هذه المقارنات عادت إلى ذهني عام 1965م – بعد ثلاث سنوات فقط- كان ذلك في الطريق من طنجة إلى الرباط مع صديقي محمد خيضر الذي كان مسرورًا بأنباء الانقلاب العسكري الذي أدرى إلى اعتقال "أخيه" بن بللا وسجنه وقد يؤدي إلى قتله، وإذا بي أرى في خاطري صورة أخرى للتلمسانيين الثلاثة

وقد تساوت حظوظهم وأصبحوا في الاعتقال جميعًا بين فرنسا ومصر والجزائر، فها هو ذا الزعيم التلمساني "مصالي حاج" مازال معتقلاً في فرنسا، وإن كان تلاميذه وأعضاء حزبه يتسابقون إلى كراسي السلطة في غيابه، كما رأيت صورة الزعيم التلمساني الجديد يقاد إلى السجن في أحد معسكرات "الجيش الوطني الجزائري" بأمر من أصدقائه الذين تآمروا معه قبل ثلاث سنوات فقط ضد الحكومة الجزائرية المؤقتة في المنفى

لقد رأيت صورته وهو يواجه مخاطر السجن التي ما زال يواجهها التلمساني المصري في سجن الواحات منذ عام 1954م بأمر من عبد الناصر وجماعته الذين تآمروا ضد الإخوان المسلمين بعد سنتين فقط من مشاركتهم لهم في طرد فاروق عام 1952م، والذي يتحالف معه بن بللا وجماعته الذين احتفظت بصداقتهم اعتقادًا مني بأنهم إنما فعلوا ذلك لصالح الثورة الجزائرية.

بقيت صورة عمر التلمساني (الأول) في سجن الواحات ومصالي حاج المعتقل في فرنسا، وأحمد بن بللا الزعيم الجديد المعتقل في الجزائر في خاطري حتى مات عبد الناصر وجاء السادات، وبدأ مرحلة انفتاح وإزالة آثار الدكتاتورية الناصرية، فوجدت أن الفرصة سانحة للدفاع عن المعتقلين والمسجونين من الإخوان، وبدأت حملة واسعة لدعوة جميع أصدقاء الحرية والديمقراطية لإرسال برقيات ورسائل بهذا المعنى دون الرجوع إلى بعض إخواني في الخارج الذين عارضوا هذا، لعدم ثقتهم في صدق "السادات"

أما أنا فكنت أرى ضرورة الإسراع لأن "السادات" حتى ولو كان صادقًا فإنه لن يستمر طويلاً على هذا النهج فمن الأفضل المخاطرة والمبادرة وبالمسعى قبل أن تفوت الفرصة وقد استجابت لي كثير من الهيئات الإسلامية "بعض هذه البرقيات أرسلت لي صورها التي قد أنشرها مع المرفقات"، وأرسلت طلبات تلح في الإفراج عن "الإخوان" وفعلاً تم ذلك ابتهاجًا بالنصر العظيم في حرب أكتوبر، وكان صديقي عمر التلمساني من آخر من خرجوا.

بعد زيارتي تلمسان بثماني سنوات تسلمت في مدينة الرياض أول خطاب مؤرخ في (24 شعبان 1393 الموافق 21 سبتمبر 1973م) بخط يد صديقي الزعيم التلمساني الأول الأستاذ عمر التلمساني يبشرني بعودته إلى الحرية وإلى الجهاد بعد عشرين عامًا من السجن والاعتقال والاضطهاد والانتقال من سجن إلى آخر طول هذه المدة، إنه يطلب مني أن أكاتبه بعنوانه في القاهرة إن استطعت

"ولقد دهشت عندما وجدت في أوراقي أول رد لي على خطابه مؤرخًا في 12رمضان 1393هـ، 8 أكتوبر 1973م لكنه في مظروفه المغلق كما هو لم يرسل، والظاهر أنني نسيت إيداعه في البريد" ، كتبت له خطابًا في 28رمضان 1393هـ 24أكتوبر 1973م تسلمه ورد عليه بخطاب ثان أحتفظ به مؤرخ في 23شوال 1393هـ، 17نوفمبر 1973م "وسوف أنشر صور الخطابات الثلاثة التي عثرت عليها لمن يهمه أن يقرأ ما كتب منذ أكثر من عشرين عامًا... في ملحق الوثائق"...

كان أول لقاء لي مع صديقي عمر التلمساني بعد خروجه من السجن في عام 1975م عندما سمح لي بالعودة إلى مصر في عهد السادات بناء على مسعى أحد أقاربي الذي أصبح نائبًا في البرلمان في عهد السادات في ظل "الانفتاح" بعد أن أعلن السادات خطته للانفتاح الاقتصادي والسياسي (سأنشر صورة التصريح لي في ملحق الوثاق)

وبعد ذلك صدر قانون من البرلمان بإلغاء قرار فصل أساتذة الجامعة الذين طردهم مجلس قيادة الثورة عام 1954م وكنت منهم، وعدت إلى كرسي الأستاذية في كلية الحقوق التي أبعدت عنها طوال عشرين عامًا وبقيت في مصر سنتين ألقيت فيها دروسي بقسم الدكتوراه، ثم انتهزت فرصة بلوغي سن التقاعد 1978م فغادرت مصر بعد فترة قصيرة كافية لتصحيح وضعي في السلك الجامعي

وعدت إلى السعودية بعد أن قلت لصديقي عمر التلمساني إنني أفضل أن أبقى في السعودية حيث كنت؛ لأنني وجدت الأوضاع في المجتمع قد تغيرت حتى لم أعد أعرفه كما عرفته من قبل، وقلت له: إنني أحس بالشعور الذي وصفته لي في خطابك الثاني المؤرخ 17نوفمبر 1973م بقولك: خرجت يا أخي (من السجن) لأرى دنيا ما لي بها من عهد، واستوحشت وأحسست أنني غريب في دنيا الناس.

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت أعرف

في أحد لقاءاتي معه بالقاهرة ذكرت له قصة زيارتي لموطنه التلمساني مع أحمد بن بللا الذي ما زال في ذلك الوقت في سجن أخيه "بومدين"، وقلت له إنني منذ خرجت من الجزائر في عام 1964م، لم أعد إليها إلا مرة واحدة في عام 1974م بناءً على دعوة صديقي مولود قاسم الذي كان يعمل رفيقًا لي في فيلا "جولي" في فترة عملي مستشارًا للمكتب السياسي عام 1962م و 1963م

وأوائل عام 1964م، وأنني طلبت منه أن يحصل لي من رئيسه "هواري بومدين" على الإذن لكي أزور بن بللا "التلمساني الثاني" في سجنه ولكنه لم يستطع وقلت له إنني كنت غير نادم على منعي من دخولم صر طوال الفترة التي قضاها هو في سجن الواحات لأنه من المؤكد أنني لم أكن أستطيع زيارته ولا مكاتبته في تلك الفترة، ثم إنني قررت في نفسي ألا أزور الجزائر

حتى لو دعيت لذلك أو سمح لي به إلا بعد خروج بن بللا "التلمساني" من السجن، وآمل أن أحظى بزيارة ثانية إلى مسجد سيدي بومدين في تلمسان، وأن يكون هو معي، وقد يكون معنا بن بللا ليذكر ما قاموا به هناك، فربما يدرك أن بعض ما فعلوه في ذلك الوقت كان خطأ يبرر الندم، ولعله يدرك ما شعرت به في ذلك الوقت من قلق لما قاموا به، وآمل أن تكون الفترة التي قضاها في سجن صديقه بومدين ما يبرر ندمه!!

لقد أتيح لي أن أقص على صديقي عمر التلمساني خواطري التي شغلت بها في زيارتي الأولى والوحيدة إلى تلمسان التي يتنتسب لها، وما استرسلت له في ذهني من مقارنة بين الزعيم التلمساني بن بللا الذي كان يسير نحو مقعد الرئاسة وبين صورته هو في سجن الواحات، وبأن صورته هو وصوته لم يغيبا عني عندما كنت في مسجد سيدي بومدين في تلمسان، وزاد شوقي لرؤيته عندما قرأت في خطابه الأول قوله إن ما نسبه إلي من سجايا ظلت لوحة لا تغيب عن ناظره وأنني سعدت بهذا الثناء الذي يشهد له بكرم الخلق وصدق الوفاء.

كذلك ذكرته بما جاء في خطابه الثاني عن ذكريات حواري معه وقوله:

"كانت كلماتي عطشي إلى رنين كلماتك التي تشجيني على شط المزار وبعد الديار... " قلت له إنني عندما قرأتها أدركت أنه كان يلم بما ألم بي من خواطر وأنه كان بيننا حوار صامت متبادل عن بعد.

قال لي: صحيح إنه في فترة من الفترات جاء أحد حراس السجن فيا لواحات وحدثني عنك كثيرًا قائلاً إنه كان سجانًا في سجن مصر (قره ميدان) وكان مكلفًا بحراسة عنبر الإخوان المعتقلين الذي كانت فيه وكان دائمًا يذكرك بخير كثير، وكان ينتهز كل فرصة ليحدثني عنك، وكانت خواطري تتجه نحوك كثيرًا. قلت له إنني عندما كنت أجلس في مسجد سيدي بومدين في تلمسان كنت أرى صورته كأنه حاضر معي، وربما كان هناك نوع من الحوار عن بعد بما يسمى "التليباتي" بيننا من حين لآخر.

بعد وفاة المرشد الثاني للإخوان المسلمين الأستاذ "حسن الهضيبي" ألح كثيرون على ترشيح الشيخ "عمر التلمساني" لزعامة الجماعة المناضلة المضطهدة، وقد أصر هو على رفض هذا الترشيح فترة طويلة بسبب تواضعه الشديد، واكتفى برئاسة تحرير مجلة الدعوة ولكنه اضطر أخيرًا إلى قبول الترشيح

وكانت فترة زعامته للجماعة من أحسن الفترات وشهد له الجميع بالزعامة الحكيمة والخلق النبيل، وكانت شهادة أعداء الإخوان وخصومهم له ظاهرة يوم وفاته حيث كانت جنازته ملتقى قادة الفكر والرأي من جميع الاتجاهات السياسية والفكرية والثقافية... رحمه الله، ويؤسفني أنني لم أشارك في وداعه بسبب غيابي عن مصر في ذلك الوقت.

عودة للمغرب

قضيت مع أصدقائي في الجزائر فترة أقنعتني أن الحكومة في اتجاه الفكر الإسلامي بحجة الاشتراكية التي زاد نفوذ دعاتها وأنصارها من الجزائريين والفرنسيين، بل والمصريين في دوائر الحكومة والإعلام الحكومي بصفة خاصة الذي وصل به الحد إلى أن يصبح أداة للتشهير بالإسلام وقيمه وكل من يدعون له، وزاد ذلك في شهر رمضان حيث قامت حملة للدعوة لعدم الالتزام بالصوم مماثلة لما دعا له بورقيبه في تونس.

هذه الظواهر جعلتني أعتقد بأن التيار الإسلامي سيتجه إلى الأعماق والجذور لإيجاد جيل جديد يقتلع هذا النظام ويعيد الشعب إلى قيمه الثابتة ومقدساته التاريخية، وهذا عمل يحتاج إلى كتيبة من الشباب وليس لي مكان بينهم هناك في ذلك الوقت. لقد أيقنت أن وجودي في الجزائر لم يعد يحقق شيئًا لصالح شعبها المؤمن المجاهد لذلك استأذنت من أصدقائي للعودة إلى المغرب في عطلة الصيف.

رغم أنني غادرت أصدقائي لقضاء العطلة إلا أنني في الحقيقة لم أكن حريصًا على العودة للجزائر؛ لذلك تركت بعض أمتعتي لدى أحد الأصدقاء المصريين وكان مندوبًا للخطوط المصرية للطيران، وطلبت منه أن يرسلها إلي في حالة ما إذا لم أعد للجزائر وأذكر أنه بعد وصولي للمغرب اتصلت به وعرفته أنني لا أنوي العودة وطلبت منه أن يرسل هذه الأشياء مع أول قادم

وقد سلمها فعلاً للسفير المصري في المغرب الذي كان في الجزائر وجاء بالقطار وكان من بينها جهاز تسجيل، وفوجئت أن السفير عندما وصل قال إنه كان معه هذا الجهاز ولكن رجال الجمارك في القطار سألوه عنه فقال إنه ليس له وإنه لي سلمه لهم، وقال لي أنت تدبر حالك معهم، فذهبت للجمرك في الدار البيضاء ودفعت ما طلبوه.

أود أن أقول إنني عندما تركت الجزائر تركتها غاضبًا ومعتقدًا أن الأمور ربما تنصلح ويعودون إلى رشدهم ويسوون الخلافات بينهم، ولكن زادت الخلافات، وكان آخر شيء جلعني ساخطًا هو مقتل محمد الخمستي وزير الخارجية، وكان صديقي، وكان شابًا ناشئًا، وكان محل ثقة بن بللا، ومحل ثقتي شخصيًّا، وكان يحب مصر والمصريين وقد هنأته بزواجه وحضرت حفل الزفاف

وفوجئت بأنه اغتيل على يد أحد الجزائريين الذين شاركوا في الثورة فيما أعتقد وقيل إن السبب كان هو زواجه من هذه السيدة، ولكني لم أستبعد وجود اعتبارات سياسية ومعنى ذلك أن الثوار الجزائريين قد بدءوا يقتل بعضهم بعضًا في العاصمة، إن هذا الجو لا يمكن أبدأ أن يشجعني على الإقامة، وخصوصًا أنني لاحظت مثلاً أن بعض الجزائريين الذين كان لهم علاقة بالمصريين الناصريين ويحبون مصر كانوا يلمحون إلي بأن وجودي هنا ليس مناسبًا وليس في محله

وأنه لا يجوز أن أستغل صداقتي بخيضر أو حتى بن بللا لكي أفرض نفسي على المكتب السياسي، وكان آخر من سمعت منه هذا الكلام هو المرحوم (محمد شعباني)، وكنت أحبه جدًا؛ لأنه كان مسلمًا صادق الإسلام وكان متحمسًا في إسلامه وفي الفكر الإسلامي وكان قائد الولاية السادسة في جنوب الجزائر ممن أيدوا بن بللا منذ البداية، وكان عندما يحضر من مقر ولايته في الجنوب ينزل في شقة الضيافة التي أنزل بها في فيلا "جولي"

وكنت أجلس معه وأتحدث طويلاً، وكنا نتحدث عن الإسلام وكان يسرني أنه يتحمس للإسلام، وأنه يحب المصريين ولكني لاحظت أنه أصبح فجأة يتبرم بوجودي وظهر عليه القلق من وجودي في هذا المكان وفهمت أن هذا كان بسبب علاقته الوثيقة بالسفير المصري أو بعض العاملين في الاستخبارات المصرية الذين حذروه من الاتصال بي، وزاد الطين بلة أنه فجأة وقعت بينه وبين قادة الجيش والحكومة الجزائرية وبين بومدين بالذات خصومة

حتى إنه أعلن الثورة على الجيش الجزائري وعلى الحكومة الجزائرية، وبدأ نوعًا من التمرد العسكري والحرب الأهلية بينه وبين الجيش الوطني الذي يقوده بومدين الذي اعتقله وحاكمه عسكريًّا وأعدمه رميًا بالرصاص وكان لمقتله أثر كبير في نفسي "كان ذلك في شهر يونيو 1964م" ...

إن اغتيال خمستي وإعدام شعباني كلاهما قد أصابني باليأس والإحباط ومأساة شعباني كان أثرها أكبر لأني كنت أقدره شخصيًّا وأحبه رغم ما أبداه لي من جفاء كنت أعذره فيه؛ لأني كنت أعتقد أنه تأثر فيه بإيعاز من بعض الجهات الناصرية في ذلك الوقت وكنت أعتقد أنه ما دام مسلمًا فإنه سوف يقتنع في النهاية بأنه من يوغرون صدره علي إنما يكرهون الإسلام ويعادونه ولكن تمرده والمعركة بينه وبين جيش بومدين قد آلمني جدًا وآلمني أكثر أن الجيش الجزائري قد تمكن من القبض عليه

وأنه حوكم، وحكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم مع أنه كان من الممكن معالجة الخلاف بطريق أفضل، لهذا كله اعتقدت بأن الاتجاه الإسلامي داخل الجيش الجزائري قد فقد أقوى أركانه وأن محمد شعباني قد استدرج فعلاً إلى التمرد ودفع إليه دفعًا، ولم أبرئ المخابرات المصرية أو المعارضة الجزائرية من ذلك، واعتقدت أن هناك خطة لتصفية الإسلاميين من الجيش وأنها تنفذ بكل دقة؛ ولذلك قررت أن أغادر الجزائر وغادرتها فعلاً عائدًا إلى المغرب.

لقد تركت الجزائر لشعبها لكي يفرض إرادته وكنت واثقًا أن التيار الإسلامي يسير في مسالك الدعوة خلال القاعدة الشعبية والطلابية، وأنه سيكتسح جميع القوى التي تنكرت له وعارضته، لقد أنهيت كل تعاون بيني وبين المسئولين في جبهة التحرير، وصححت مساري بالعودة للمغرب انتظارًا لما كنت أتمناه من نمو حركة تدعو إلى الإنقاذ الإسلامي!

الجنرال "أوفقير"

لقد ذهبت من المغرب للجزائر صيف عام 1962م، وقضيت فيها العام القضائي 62/1963م، وفي نهاية عام (1963م) عدت إلى عملي بالمغرب، وفي أثناء وجودي بالمغرب بدأت العلاقات تسوء بين المغرب والجزائر، ووصل الحد إلى الحرب على الحدود بينهما في شهر أكتوبر 1963م، وكان هذا سببًا في أن بعض مراكز القوى في وزارة الداخلية المغربية التي كان يرأسها "الجنرال أوفقير"

وفيها عناصر تعمل بالتعاون مع بعض القوى الأجنبية انتهزت هذه الفرصة للقضاء على عملية التعريب في المغرب، وبمجرد بدء العمليات العسكرية سارعوا إلى القبض على جميع المصريين الذين يعملون في المغرب وخصوصًا في حقل التعليم كما استولوا على المدرسة المصرية وذلك من أجل وقف عملية التعريب نهائيًّا، وفوجئت في يوم من الأيام بأن الجنرال أوفقير وضع اسمي بين المصريين الذين يطردون من المغرب

وكان ذلك في نظري نتيجة صفقة مع المخابرات المصرية والفرنسية أيضًا لحساب أوفقير شخصيًّا لأن أوفقير كانت عبقريته في عملية الاستخبارات أنه يعمل لحساب عدة جهات في وقت واحد، ومن بين هذه الجهات وأولها ما ينفعه في علاقاته الشخصية بواسطة صفقات يعقدها مع المسئولين في أجهزة المخابرات على المستوى العالمي مقبل منافع ذاتية أو مالية له

فهو يبيع بعض تحركاته وأعماله ونشاطاته لفرنسا وبعضها لأمريكا وبعضها لمصر، وبعضها للملك والحكومة طبعًا، وبعضها لنفسه، فهو لا يطبق بقاء العناصر التي يخشى منافستها، أو معارضتها لنفوذه أو سلطته، وهذا هو الأهم؛ لأنه كان يسعى لكي يصبح هو الرجل القوي في المغرب

وقد صار فعلاً كذلك كما سنرى فيما بعد، الأمر الذي انتهى بتآمره على الملك شخصيًّا مرات متعددة أدى آخرها إلى قتله بعد فشل الانقلاب الثاني الذي دبره هو على الملك الحسن الثاني، وكثيرون يعتقدون أنه هو الذي دبر مؤامرة الصخيرات قبل ذلك، ثم تبرأ منها وأعدم كل المشاركين فيها بتفويض حصل عليه من الملك، وكان له مصلحة شخصية في قتلهم حتى لا ينكشف دوره في تدبيرها.

تجلت عبقريته في التلفيق، عندما ابتكر أولاً طريقًا بوليسيًّا لإخراجي من المغرب بأن اتهمني بحادث سيارة ادعى بوقوعه منذ أكثر من سنتين قبل سفري للجزائر، وقدم دليلاً عليه ورقة موقعًا عليها من أحد ضباط المخابرات الذي يقيم في باريس في "مهمة" عرفت فيما بعد أنها متعلقة باختطاف بن بركة واغتياله، ولم يحضر للتحقيق هذا الشاهد المزعوم ولم تسمع أقواله ولم يطلب لذلك.

التقيت به مرة واحدة في حياتي: عندما كنت في الجزائر، إذ حضر صديق عرفته من قبل وهو الكولونيل عبد الله التل الذي كان وطنيًّا متحمسًا استعان به الملك حسين لإخراج جلوب باشا من الأردن، ثم اختلف معه بعد ذلك ولجأ إلى مصر وتصادف أن حضر إلى الجزائر وذكر لي أنه سمع أن ملك المغرب سوف يزورها وقد طلب إليه أصدقاؤه الفلسطينيون أن يحضر لمقابلته هنا

وكان ملك المغرب أول رئيس دولة يزور الجزائر المستقلة وكانت المغرب حريصة على إعلان ذلك دليلاً على حسن العلاقات بينها وبين الجزائر وقد لاحظت أن الجزائريين وخاصة جماعة بن بللا قبلوا أن يقدموا له هذا التكريم نظرًا لما أحسوه من مساعدته لهم ومساعدة المغرب أثناء الثورة وبعدها، وقد أعطوا للسفارة المغربية قصرًا من القصور التي استولوا عليها من الفرنسيين

وأحد أصدقائي في باريس المقرب من الملك، هو السيد: محمد عواد كان أول سفير للمغرب في الجزائر وكنت أتردد عليه كثيرًا، ولما جاء الملك أقيمت له حفلات رسمية عديدة، وفي إحدى هذه الحفلات حضرت وكان أحد أعضاء الوفد الذي حضر مع الملك صديقي الدكتور عبد الكريم الخطيب ولكن بعد يوم أو يومين من الزيارة قال لي عبد الكريم إنه مضطر للعودة إلى المغرب لأمر يتعلق بعمله هناك

وقال لي: أريد منك أن تنوب عني في مساعدة هذا العقيد عبد الله التل الذي جاء من مصر وكان لاجئًا سياسيًّا فيها منذ أن اختلف مع ملك الأردن وكان على علاقة وطيدة بالمصريين ولكنه جاء للجزائر لأمر يتعلق ببعض الفلسطينيين الذين قبض عليهم في المغرب وقيل إنه كان معهم أسلحة أو ما شكل ذلك وطلب منه الفلسطينيون أن يأتي إلى الجزائر والمغرب ليبحث عمن يتوسط له لدى الملك الحسن الثاني للإفراج عن هؤلاء الفلسطينيين من أبناء الضفة الغربية التي كان يحبها هو أيضًا بسبب قيادته للجيش المرابط بها.

كان عبد الله التل يسكن في شقة الضيافة التي أسكنها في فيلا "جولي" وكانت لي معه أحاديث وجلسات، وقبل سفر الخطيب قال لي مرة أخرى إن عبدا لله التل طلب مني أن أحدث الملك في هذا الأمر وأنا عرضت الأمر على الملك فوعدني خيرًا وقال لي عليه أن يقابل أوفقير ليعرض علي الموضوع وقال إنني مضطر للسفر وقد حدثت أوفقير وكان مرافقًا للملك لكي يقوم بهذه المهمة ووعدني بذلك وكل ما أريده منك أنه في الحفلة التي سيحضرها الملك غدًا بعد سفري تذهب إلى أوفقير وتقدم له عبد الله التل وتقول هذا هو الشخص الذي كلمك عنه الدكتور عبد الكريم الخطيب ويرجوك أن تهتم بموضوعه وأن تقوم باللازم له لدى الملك

وأنا طبعًا لم أكن رأيت أوفقير من قبل ولا هو رآني فيما أعتقد، ولكنه هو كان معروفًا وذهبت إليه في الحفل وكان معي عبد الله التل وسلمت عليه وعرفته بنفسي وقلت له أنا صديق الدكتور عبد الكريم الخطيب ومستشار في المجلس الأعلى بالرباط وقد كلفني الدكتور الخطيب أن أقدم لك صديقنا العقيد عبد الله التل وأذكرك بما وعدته به من تقديمه للملك.

إنني لم أر أوفقير من قبل ولكن عندما كلمته في تلك الليلة نظر إلي نظرة غريبة لم أرها من قبل من أي شخص، ولم أر عينًا في مثل هذه العكارة والاصفرار وكان ينظر إلي وكأنه يستنكر عني أشياء كثيرة يعرفها ولكنه لا يستطيع أن يقولها وعلى العموم قال لي إنه سيقوم بالواجب وفعلاً ذهب إليه عبد الله التل وقال لي بعد ذلك إنه قدمه للملك وأن الملك أمره بأن يحضر إليه في المغرب، وفعلاً ذهب عبد الله التل إلى المغرب وأعتقد أنه نجح في مسعاه هناك. أريد أن أقول إن هذه النظرة من أوفقير أكدت لي أن هناك أشياء يخفيها بشأني.

بعد فترة قصيرة من عودتي للمغرب بدأت العلاقات تسوء بين المغرب والجزائر بسبب قضية الحدود وقضية "تندوف" وكانت قضية هامة في نظر المغرب؛ لأنهم يعتقدون أن الفرنسيين قد أخذوا جزءًا كبيرًا من بلادهم وضموه للجزائر قبل الثورة الجزائرية وقبل استقلال المغرب عندما قرروا أن يعيدوا الملك ويعترفوا باستقلال المغرب

لكن يظهر أنهم كانوا يريدون أن ينتقموا من المغرب فأخذوا هذا الجزء وضموه للجزائر على اعتبار أنهم سيبقون في الجزائر إلى الأبد، حتى ولو اقتضى الأمر أن يتركوا المغرب فمن المصلحة أن يأخذوا منه أكثر ما يستطيعون، فهنا كانوا يريدون أن ينهبوا جزءًا من الأرض وهي منطقة "تندوف" التي ألحقوها بالجزائر، وكنت أفهم من اتصالاتي أن ملك المغرب وحكومته كانوا دائمًا يذكرون هذه القضية

وكان كل ما يفعله الجزائريون هو أنهم يعدونهم بحلها بعد الاستقلال وكان هذا الحل المفهوم في نظر المغاربة هو عودة هذا الجزء المسلوب للمغرب، وربما لم يستكثر الجزائريون أنفسهم أن يعيدوا هذا الإقليم للمغرب نظير مساعداته لهم؛ لأنه لم يكن عندهم أمل كبير في أن يتحقق لهم الاستقلال بهذه السرعة ومعنى هذا أن الأمور قد تطول فلا ضرر من إعطاء وعود سوف يطول عليها الأمد.

لقد بدأت مناوشات على الحدود بين الجيش المغربي وبين الجزائريين، والظاهر أن بعض مراكز القوى في الجيش أو الإدارة المغربية، بل والجيش الجزائري أيضًا تعمدت إحداث هذه المصادمات لكي تثير الخصومات بين البلدين لمصلحة أطراف أخرى وخاصة فرنسا، والذي والذي حصل أن الحكومة المصرية أيدت حكومة بن بللا لتثبت له أنه في حاجة إلى مساعدتها، وأن صداقتها نافعة وضرورية

فأرسلت خبراء للجزائر وأمدتها بالسلاح وربما بفرق عسكرية وهذا طبعًا أغضب المغرب وفي اعتقادي أن أوفقير كان يعمل لحساب المغرب من ناحية، ولكن لحساب قوة أجنبية أخرى يهمها فساد العلاقات بين المغرب والجزائر ومصر طبعًا وأن يقتنع المغاربة أنهم كذلك في حاجة إلى تأييد أجنبي.

وفيما أعتقد أن هذه الجهة الأجنبية كانت فرنسا وكان لها هدف عاجل وهو انتهاز الفرصة لإيقاف عملية التعريب التي كانت تتم في المغرب في عهد حكومة حزب الاستقلال بواسطة معلمين مصريين، وكان هناك فعلاً فريق كبير من الأساتذة والمعلمين المصريين، وكان أول ما فعله أوفقير أنه أمر بطرد جميع الأساتذة والخبراء المصريين الذين يعملون في المغرب وكانت هناك مدرسة مصرية استولى عليها كذلك

وهكذا كان هذا الهدف الثقافي الفرنسي الفرانكفوني هو أول مكسب كسبه الفرنسيون من هذه العملية، ومن الغريب أن أوفقير الذي يعرف أنني على أسوأ العلاقات مع الحكومة المصرية وأنني لاجئ في المغرب سارع إلى وضع اسمي كأول شخص على قائمة المصريين الذين أمر بطردهم وأرسل لي خطابًا بإنهاء تعاقدي مع وزارة العدل.

إنه انتهز الفرصة لإخراجي من المغرب وعقب تسلمي هذا الخطاب بساعتين وجدت نفسي معتقلاً بأحد مراكز الشرطة لأواجه استجوابًا استمر ساعات طويلة إلى الفجر وكان الاستجواب عن علاقتي بالجزائر وحكومة الجزائر وبن بللا وإخوانه، وقد فهمت من الأسئلة التي وجهت إلي أن لديهم ملفًا كاملاً عن نشاطي في الجزائر وعلاقتي بالجزائريين وكنت قد كتبت خطابًا إلى بن بللا

وأرسلته بالبريد بعد وصولي للمغرب أخبره فيه بأنني لا أفكر في العودة إليهم بسبب بعض مواقفه التي اعتبرتها معادية لآرائي الإسلامية وضارة بالطابع الإسلامي للجزائر، وقلت له إنني فهمت من ذلك أن وجودي معهم لا فائدة له طالما كان هذا موقفه، ويظهر أن هذا الخطاب قد اطلع عليه أوفقير أو مخابراته وكان هذا الخطأ من جانبي هو الذي دفعهم إلى التعجيل بطردي لأعود إلى مصر وأبتعد عن الجزائر والمغرب معًا؛

لأن هناك جهات عديدة له علاقة بها لا تريد اتجاهًا إسلاميًّا في جميع أقطار أفريقيا الشمالية التي كانوا يحتلونها، وقد لاحظت أنهم لم يسألوني سؤالاً واحدًا عن علاقتي بحكومة مصر مثل باقي المصريين؛ لأنهم يعرفون أن الحكومة المصرية تحاربني وسبق لها أن طلبت منهم مرارًا إخراجي من المغرب؛

ولذلك اعتقدت أن هذه العملية ضدي لم تكن لصالح الفرنسيين فقط، بل ربما كانت أيضًا صفقة شخصية بين أوفقير وبعض العاملين في المخابرات المصرية الذين كان يضايقهم وجودي بالمغرب والجزائر، وكان اعتقالي تمهيدًا لإبعادي مع باقي الأساتذة المصريين الذين أعيدوا إلى مصر في نفس الليلة، لكن الدكتور عبد الكريم الخطيب رئيس مصلحة النواب في ذلك الوقت وصله النبأ فتدخل للإفراج عني فورًا وكان ذلك بمحض الصدفة البحتة.

ولولا أن الله سخر لي من دافع عني وهو الدكتور عبد الكريم الخطيب في تلك الليلة لكنت أخرجت من المغرب وليس أمامي إلا أن أعود إلى مصر وأنا طبعًا أعرف ماذا ينتظرني في مصر، وذلك لأنه لم يكن معي جواز سفر فقد أخذت السفارة المصرية جوازي المصري وأخذ أوفقير مني الجواز المغربي فكنت سأتعرض لمحنة شديدة وهذا هو جزائي الذي أراد أوفقير ومن وراءه أن يسعى إليه لسبب واحد وهو أنني كنت في صف الجزائريين ليس ضد المغرب

ولكن ضد الفرنسيين ومن يوالونهم في داخل الجزائر، الذين كانوا يريدون أن يكون استقلال الجزائر هزيمة للإسلام والعروبة ليس في الجزائر وإنما في المغرب العربي كله وكانوا يريدون أن تكون الجزائر قاعدة للفرانكفونية ولتنفيذ خططهم المعادية للفكر والثقافة العربية الإسلامية ووحدة المغرب والوحدة العربية والإسلامية كذلك.

وهذا هو ما حدث بالتفصيل:

في أحد الأيام كنت في خارج المنزل في زيارة لصديقي سفير المملكة السعودية المرحوم الشيخ خير الدين الزركلي، وجاء إلي أخي عمر هناك، وقال إن هناك بعض رجال الشرطة يريدون مقابلتي وينتظرونني بالمنزل، فذهبت إليهم فأخذوني إلى قسم من أقسام الشرطة، ومن حسن الحظ والمصادفة البحتة أثناء ذهابي معهم التقيت مع أحد معارفي وهو "سعد جبر" الذي جاء لزيارتي في منزلي وعرف أنني ذاهب إلى الشرطة

وطلبت منه أن ينتظرني بالمنزل حتى أعود ظنًا مني أن الأمر سيستغرق دقائق، لكنه بقي مع أخي في المنزل ينتظر عودتي، ولما لم أعد شك في الأمر وذهب إلى الدكتور عبد الكريم الخطيب يبحث عنه في منزله ثم في المجلس الوطني (البرلمان) وكانت جلسات المجلس تعقد في المساء ولم يستطع مقابلته إلا بعد انتهاء الجلسة؛ لأنه كان يرأس المجلس، وعرض عليه الموضوع فتدخل لدى الملك شخصيًّا فأمر بإلغاء الطرد وأفرج عني في الفجر أو في صباح اليوم التالي، بعد أن قضيت اليلة كلها في القسم رغم أنني عندما ذهبت إلى القسم كنت أظن أنه سوف تؤخذ أقوالي في خمس دقائق أو ربع ساعة وأعود إلى منزلي

ولكنهم أدخلوني غرفة بها سرير وفهمت أنها معدة للإقامة الطويلة، وحضر إلي أحد ضباط المخابرات وأخذ يستجوبني طول الليل ويسجل أقوالي كلها عن علاقتي بالجزائر وبن بللا وجماعته وجميع ما قمت به من أجل القضية الجزائرية، وأعتقد أن هذا لم يكن فقط لصالح المغرب وإنما لصالح جهات أجنبية أخرى يعمل لحسابها الجنرال أوفقير شخصيًّا؛ لأنه لم يهدأ له بال بعد ذلك إلا بعد أن أخرجني نهائيًّا من المغرب.

إن حرب المغرب والجزائر لم تطل، ورغم أن المغاربة كانوا حاقدين على الحكام المصريين للمساعدات العسكرية التي قدمتها مصر للجزائر أثناء الحرب، إلا أنه من الواضح أنه كان لوساطة المصريين يد طولى في إنهاء الحرب والوصول إلى تفاهم بين الطرفين وكان بن بللا هو صاحب الفضل الأكبر في ذلك، بل كان أكثر الجزائريين رغبة في الصلح، ويظهر أن الآخرين، وخاصة جماعة بومدين وبعض ضباط الجيش قد أخذوا عليه ذلك، وكان هذا من أهم الأسباب التي استغلت لتدبير الانقلاب العسكري الذي قاده بومدين ضده.

زواج في السجن

منذ (19 يونيو 1965م)، بقي (بن بللا) مسجونًا بأمر صديقه (بومدين) الذي كان يتحاشى ذكر اسمه، وكان يصر على أنه ليس مسجونًا وإنما موضوع "تحت الإقامة الجبرية" ورفض جميع المساعي التي بذلت للإفراج عنه من بعض رؤساء الدول مثل الجنرال ديجول والرئيس كاسترو والرئيس عبد الناصر الذي كان الحليف الأكبر لبن بللا

ويقال إن بومدين عندما عرض عليه وساطة عبد الناصر أجاب بأنه مستعد للحديث في هذا الموضوع بعد أن يفرج عبد الناصر عن محمد نجيب الرئيس الأول لجمهورية مصر، والواقع أن محمد نجيب لم يجد من يدافع عنه على المستوى الدولي لأن الجو في تلك الفترة مكن الاشتراكيين واليساريين الفرنسيين من أن يبذلوا مجهودات كبيرة لصالح بن بللا الذي كانوا يعتبرونه واحدًا منهم، وواصلوا مساعيهم حتى أفرج عنه في عهد (بن جديد)...

كان صديقي الدكتور حافظ إبراهيم في مدريد من أكثر أصدقائه وفاء وقد سارع بمجرد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس بن بللا إلى إرسال خطاب إلى رئيس الانقلابيين يلفت نظره إلى الحالة الصحية للرئيس بن بللا، ونشر هذا الخطاب في إحدى الصحف الفرنسية بالمغرب، ويشير فيه إلى تقرير طبي وقع عليه أحد الأخصائيين الأسبان الذي وقع كشفًا على بن بللا بتاريخ 23/9/1965م، (سوف ينشر هذا الخطاب والتقرير في المرفقات)

وكان يزودني بكل ما يقوم به دفاعًا عنه وما زلت أحتفظ بكثير من هذه الرسائل وما أرفق بها من مقالات في الصحف الفرنسية، وأذكر منها مقالاً نشرته مجلة أفريقيا الفتاة (جين أفريك الفرنسية) بتوقيع المسيو بوجيس بتاريخ 15 يوليو 1977م وهو من الفرنسيين الذين استعان بهم بن بللا عندما كان رئيسًا للحكومة، وفي مقاله كان يدعو الحكومة الجزائرية إلى أن تنظر في الإفراج عن بن بللا ويدعو الحكومة الفرنسية إلى التدخل لصالحه.

وفي عام 1977م كتب إلي حافظ إبراهيم بأن لجنة عالمية أنشئت لهذا الغرض وأرسل إلي أوراقها وطلب مني الانضمام إليها ومساعدتها، وقد ذهبت بنفسي إلى باريس والتقيت بالمحامي "فيرجيس" الذي يتولى الموضوع مع السيدة المحامية المعروفة "لافي فيرون" وقد جلست مع "فيرجيس" الذي يتولى الموضوع مع السيدة المحامية "لافي قيرون" وقد جلست مع "فيرجيس" وقتًا طويلاً واتفقنا على ما نستطيع عمله لنجاح اللجنة وسلمني صورة لما قدمته اللجنة من مذكرات للدفاع عن وجهة نظرها وقدمت إحداها للرئيس "كارتر" الأمريكي بتاريخ 19/3/1977م.

وقد نشرت اللجنة أسماء عدد كبير ممن يؤيدونها، وكان على رأسهم المشير السلال والقس ديماس، كما نشرت صورة خطاب وجهته هذه اللجنة إلى بومدين تطلب منه الإفراج عن بن بللا، ويتبين من منشورات هذه اللجنة أنه قد انضم إليها وأيدها عدد كبير من البلاد العربية وكذلك البلاد الأوروبية والأفريقية وخاصة من الاشتراكيين واليساريين ومن بين ما أرسلته إلي صورة مقال نشرته مجلة "باري ماتش" الفرنسية المصورة يروي ما يتعرض له بن بللا في سجنه من مضايقات ويستعرض قصة زواجه في السجن وهي قصة مثيرة كتبت بأسلوب مثير ولابد من الإشارة إليها.

كانت والدته هي الوحيدة التي صرح لها بزيارته خمس أو ست مرات كل سنة ولما بلغت سن الثمانين وشعرت بالقلق على ابنها بعد وفاتها عرضت عليه أن تزوجه فوافق على ذلك بشرط أن تجد له من تقبل مشاركته في حياة السجن ومخاطره وقسوته، وأن يراها قبل أن يتزوج بها، ولم يكن هناك فتيات كثيرات يقبلن هذه المغامرة

ولكنها وجدت ضالتها أخيرًا في الآنةس "زهرة سلامي" وكانت سنها في ذلك الوقت ثمانية وعشرين عامًا وكانت تشتغل صحافية في مجلة جزائرية فرنسية تسمى "الثورة الإفريقية" وكانت ذات اتجاهات أكثر يسارية (اشتراكية) من بن بللا، ومع ذلك قبلت أن تزوره رغم أنها لم تكن متحمسة لآرائه من قبل لأنها كانت تعتبره معتدلاً في الاشتراكية

وقد حملت والدة بن بللا صورتها إلى ابنها ووافق على زيارتها له ليراها ويتحدث إليها، وكلف والدته بأن تحصل لها على إذن بهذه الزيارة، وحصلت على الإذن ودامت الزيارة بضع ساعات انتهت باتفاقهما على الزواج على أن يكون بأسرع ما يمكن، ويقال إن ضغوطًا وقعت على هذه الفتاة لتحولها عن قرارها بالموافقة على الزواج ووصلت هذه الضغوط إلى حد فصلها من عملها

بل حاول أهلها أن يثنوها عن الإسراع وحذورها من المخاطرة بأن تحيا في السجن مع رجل أكبر منها سنًا، ولا يعرف مصيره، ومع ذلك فإن إرادتها تغلبت على كل الضغوط والمصاعب، وأخيرًا وافق والدها وأقيم حفل الزفاف في بيت والدها دون حضور الزوج الموعود، وتم الزواج بوكيل عن الزوج طبقًا للشريعة الإسلامية وحضور شاهدين

وتم العقد في العاصمة بإشراف مفتي الجزائر وأحد القضاة الذي وقع العقد مكتفيًا بشهادة اثنين مع وكيل عن الزوج، وارتدت العروس ثوب الزفاف واحتفلت العائلة في غياب الزوج، ولكن كان هناك عدد كبير من الأصدقاء، وقد لقي المفتي والقاضي اللذين أتما العقد كثيرًا من المصاعب بعد ذلك من الجهات الرسمية وفي نفس الليلة توجهت الزوجة إلى المعتقل الذي يقيم فيه بن بللا واجتازت حواجز الحراسة الشديدة وتعرضت للتفتيش لكي تدخل السجن راضية بمشاركة الرجل الذي اختارت الزواج منه وعاشا معًا في المعتقل طوال مدة اعتقاله، وكان طعامهما مماثلاً لما يأكله الجنود الذين يحرسون المعتقل

وما كاد الزواج يتم حتى انتقلت والدته إلى جوار ربها بعد خمسة شهور فقط، وقد دفنت في قريتها "مغنية" وقد حضرت "زهرة" المأتم ولم يحضر بن بللا، وفي إحدى المرات التي صرح لها بالخروج لزيارة والديها عرضت عليها إحدى صديقاتها أن تتبنى طفلة حديثة الولادة وسميت هذه الفتاة "مهدية" وسر بها بن بللا وعاشت في حضانتهما عامين.

وقد عادت زهرة إلى تبني طفلة ثانية سمتها "نورة" وكانت سنها عامين، وكانت طفلة سوداء معاقة، لكنها أصرت على تننيها وحملتها إلى زوجها ووافق على تنبيها وأصبحت العائلة تضم طفلتين عاشتا معهما طول مدة السجن الطويلة، وقد رأيت هاتين الطفلتين بعد ذلك بأعوام عندما أفرج عن بن بللا وحضر هو وزوجته وطفلتاه إلى العمرة أولاً، والحج ثانيًا.

عندما تولى "الشاذلي بن جديد" رئاسة الجمهورية الجزائرية استجاب للمساعي العديدة التي بذلت للدفاع عن بن بللا وأفرج عنه وخصص له "فيلا" في إحدى ضواحي الجزائر وبمجرد أن نشر الخبر في الصحف استطعت أن أحصل على رقم هاتفه واتصلت به هاتفيًا فعرفني بأنه ينوي أن يحضر لأداء العمرة هو وأسرته وقد طلب الحصول على التأشيرة من السفارة السعودية.

وقد سارعت بالذهاب إلى وكيل وزارة الخارجية في جدة لكي أعرف إن كان هناك ترتيب خاص له أو أتولى ذلك بنفسي، وقد أخبرني بأن السفير الجزائري قد أخبرهم بموعد حضوره وأنه سيكون في ضيافتهم، وفعلاً التقيت به بمجرد وصوله ونزوله في ضيافة الحكومة السعودية وصحبته هو وأسرته في بعض الجولات في جدة وفي الحرم وقد لاحظت أنهم كانوا متأثرين جدًا بهذه العمرة وكانوا يطيلون الجلوس في الحرم، وكانوا متعلقين بهذه الأماكن المقدسة حتى إنه قال لي عندما غادر المملكة إنه سيحضر للحج في أول فرصة وكنت على اتصال دائم به تلفونيًّا بمنزله في الجزائر حتى جاء موعد الحج وأبلغني بعزمه على أداء الفريضة هو وأسرته.

وقد تفضلت الحكومة السعودية باستضافته في الحج كما استضافته في العمرة، وحضر الحفلة الملكية التي تقام في موسم الحج لكبار الحجاج الرسميين، وأخبرني عند سفره أنه ينوي ألا يعود إلى الجزائر وأن يقيم في الخارج وأنه سوف يتوجه إلى باريس ويقيم بها لأنه غير راض عن الأوضاع السياسية السيئة التي تعيشها البلاد وأنه سيتولى قيادة المعارضة النشطة حتى يصلح هذه الأوضاع. وقد اتصلت به مرارًا تلفونيًّا في باريس وزرته هناك وقضيت معه ساعات في منزله ولاحظت أنه يحظى بحراسة وتسهيلات توفرها له السلطات الفرنسية، كما أنه شارك مع الأمير محمد الفيصل والصادق المهدي وسالم عزام في إنشاء لجنة إسلامية للدفاع عن حقوق الإنسان مقرها باريس.

ويظهر لي أن رضاء الحكومة الفرنسية عن نشاطه كان مؤقتًا وكانت تقصد بذلك الضغط على الحكومة الجزائرية حتى تحصل منها على مطالب خاصة بها، ولما تحقق لها غرضها وحصلت من الحكومة الجزائرية على ما كانت تريده، فاجأت بن بللا بتغيير موقفهم منه، وحذرته بأنه ستوقف كل نشاطه وتحاصره، وعلمت بأنهم فتشوا مكتبه وقبضوا على من يعملون في حراسته، وأبلغني أنه اضطر إلى اللجوء إلى سويسرا وأقام في لوزان.

اتصلت به تلفونيًّا في منزله بلوزان وزرته هناك عدة مرات وكان حديثه معي عن الإسلام، وأنه يرى أنه الحل الوحيد للأوضاع السيئة في الجزائر، وقال لي إنه أنشأ حركة أو حزبًا للدفاع عن الديمقراطية وأصدر مجلة بعنوان "البديل" عربية وفرنسية، وكان يؤكد فيها اعتقاده الجازم بأن النظام الإسلامي هو البديل الذي يريده الشعب، وأن مستقبل الجزائر في الإسلام

وكان يبدي حماسه وسروره لنجاح الثورة الإسلامية الإيرانية ويعلن تأييده لها في كل مناسبة، ولكني عرفت أن حكومة إيران عاتبته لسبب لقائه مع "بني صدر" الذي كان رئيسًا لجمهورية إيران وهرب منها وانضم إلى المعارضة بسبب علاقته العائلية مع زعيم جماعة مجاهدي خلق، وهي في نظر الحكومة الإيرانية عميلة للقوى الأجنبية التي تعادي الإسلام والثورة الإسلامية في إيران

وقد أتيح لي أن أتحدث مع بن بللا في هذا الموضوع، فعرفني بأنه خدع وأن أحد الأفراد دعاه إلى عشاء وفوجئ بأنه دعا بعض رموز المعارضة الإيرانية، ونظرًا لأن له معرفة سابقة ببني صدر فإنه تحدث معه ولكنهم استطاعوا أخذ صورة له دون إذنه واستغلوها في الدعاية للمعارضة، وقال لي إنه لم يتردد في أن يقدم لبني صدر نصيحة حازمة في عدم الترط في عمل مناهض لحكومة بلاده ذات الاتجاه الإسلامي

التي تواجه عداء شديد من الدول التي تحارب العرب والمسلمين في كل مكان وأنه يأمل أن يأخذ بني صدر بهذه النصائح، وقال إنه يتمنى أن يزور إيران ولكنه يخشى أن يتخذ ذلك حجة لدى بعض المسئولين في الجزائر لتوجيه اتهامات جديدة لإيران كما يفعل غيرهم من الحكومات؛ ولذلك رأى أنه ليس من المصلحة أن يقوم بهذه الزيارة في ذلك الوقت.

لقد تكلمت معه كثيرًا عن الإسلام ولم تكن هذه أول مرة أحدثه في هذا فقد ذكرت أنه كان من قبل يعتبر الإسلام عقيدة قلبية وسلوكًا شخصيًّا؛ ولذلك فإن إسلامه لم يتكن يتعارض مع اتجاهه الاشتراكي، وهذا أدى إلى التعاون مع اليساريين والاشتراكيين الجزائريين والفرنسيين وفضلاً عن ذلك فإن علاقته بعبد الناصر كانت تفرض عليه الفكر الاشتراكي بل تجاوز ذلك عملاً إذ كان عليه أن يبتعد عن كل من يخاصمون عبد الناصر، وقد فرضت عليه علاقته بعبد الناصر والاشتراكيين أن يعلن عداءه لكثير من الإسلاميين وخاصة جمعية العلماء في الجزائر والإخوان المسلمين في مصر، وفهمت أنني مقصود بذلك.

بالنسبة لي شخصيًّا كان يشير إلي من حين لآخر أن وجودي معهم في الجزائر يثير عليه انتقادات كبيرة من جانب المسئولين في مصر ومن يمثلهم في الجزائر، ولكنه كان يصرح لي بأنه لا يهتم بهذه الانتقادات، ولكنني أنا شخصيًّا رأيت من الأفضل لي وله أن أترك الجزائر وأعود للمغرب كما أشرت من قبل

وخصوصًا عندما سار في اتجاه مخالف لآرائي فيما يتعلق بتسمية الجمهورية باسم الجمهورية الديمقراطية والشعبية، وفيما يتعلق بالجنسية، وكذلك بشأن الدستور وإن كان هو في جميع هذه الحالات يحتج بأنه مضطر لعدم الأخذ بنصائحي بسبب معارضة إخوانه في المكتب السياسي وخاصة الذين كانت لهم اتجاهات غير عربية وغير إسلامية مثل عباس فرحات...

ذكر لي في أحد لقاءاتنا في سويسرا أنه جاءه بعض الناصريين المصريين، وذكر لي أسماءهم، وأنه تحدث معهم في ضرورة الانفتاح على الفكر الإسلامي بصورة أكثر حتى يتجاوزوا الخصومة التي حدثت بين عبد الناصر والإخوان، وأن أحدهم على الأقل "المرحوم الأستاذ الدكتور عصمت سيف الدولة" التزم بذلك وسار في هذا الاتجاه فعلاً كما ذكر لي أن "الشيخ محفوظ نحناح" الذي يرأس الإخوان المسلمين في الجزائر زاره وتحدث معه ويعتقد أنه سيكون هناك تعاون بين حزبه وبين الإخوان في الجزائر.

ولكن بعد نشأة جبهة الانقاذ في عام 1981م لم تتح لي فرصة للقاء بن بللا أو التحدث معه بشأن جبهة الانقاذ ولم أكن حريصًا على ذلك؛ لأني وجهت وجهي شطر الجزائر ووجد الطريق مفتوحًا أمامي للتعاون مع التيار الإسلامي الجديد الذي تمثله هذه الجبهة. أما بن بللا فكنت أرى كثيرًا مما ينشر عنه في الصحافة الفرنسية والأوروبية، وكان يفهم منه أنهم يأملون أن يكون حزبه بديلاً عن جبهة الإنقاذ الإسلامية ويدفعونه لذلك دفعًا ولاحظت أن عواطف الشعب الجزائري تنصرف عنه لهذا السبب، وقد ظهر هذا واضحًا عند عودته للجزائر حيث لم يلق الاستقبال الشعبي الذي كان يتوقعه.

المثالية والواقعية "1989م"

في جميع الحركات الإسلامية أو السياسية يوجد قدر كبير من الحوار بين دعاة الحماس والاندفاع العاطفي وبين من يمارسون الأسلوب العملي والواقعي، وفي الإخوان المسلمين كان هناك فريق الخطباء والدعاة الذين يشعلون حماس الجماهير فهتف الله أكبر، وتندفع نحو المظاهرات أو نحو التضحية والاستشهاد، وبعض هؤلاء كانوا يظنون أن الجميع يجب أن يسير في هذا الاتجاه لكني كنت أمارس أسلوبًا آخر فيه قدر كبير من الواقعية تأخذ في اعتبارها الظروف التي نمر بها وما نستطيع عمله وما لا نستطيع.

هذه الواقعية جعلتني أمتنع عن دخول الجزائر منذ خرجت منها في عام 1964م حتى عام 1974م ثم بعد ذلك إلى عام 1989م، وهي فترة المخاض التي كان فيها التيار الإسلامي يشب وينمو، ويتسم بكثير من الميل إلى "الجزأرة" التي لا ترحب بالتوجيه أو الدعوة من الشرق، وكنت أعتبر هذه الفترة من صور "البيات الشتوي" الذي تمارسه بعض "الزواحف" ولا بأس في ذلك ما داموا يسيرون في طريق التعريب الذي أعتبره الخطوة الضرورية لنمو التيار الإسلامي رغم عداء النظام الحاكم له ومقاومتهم لدعاته.

لقد ابتعدت عن الجزائر منذ خروجي من المغرب إلى السعودية في عام 1965م؛ لأن الفكر الإسلامي الأصيل هناك أخذ دفعة جبارة، وظهر فيلسوف الإسلام "مالك بن نبي" وتأثر المجتمع الجزائري بنشاطه وكتبه التي أوجدت تيارًا فكريًّا عصريًّا اعتز به الجزائريون، وصار يغذي حلقات فكرية عديدة وجماعات متفرقة، وأنشأ جيلاً جديدًا من دعاة الأصالة الإسلامية، رفع كثير منهم شعار (الجزأرة) اعتزازًا منهم بأصالة الفكير الإسلامي الجزائري والتجديد الذاتي الذي يعتبرونه أكثر تقدمًا من الفكر المشرقي

ثم إن بومدين بعد أن تولى السلطة سار بجد نحو التعريب، وكنت واثقًا بأن خطة التعريب ستوجد جيلاً جديدًا يواصل مسيرة الكفاح والجهاد الإسلامي لتستعيد الجزائر أصالتها التي حاول الاشتراكيون إبعادها عنها وقد وجد هذا الجيل فعلاً رغم اضطهاد بومدين لجمعية القيم وأنصارها، وهذا الجيل أنشأ جبهة الإنقاذ الإسلامية التي تزعمها عباس مدني الذي عرفته من أنشط العاملين في جمعية القيم "المنحلة" أو "المحظورة" .

إن بومدين لم يكن ممن التقيت بهم في باريس مدة إقامتي بها، ولم يكن من ذوي الثقافة الفرنسية كأكثر من عرفتهم من قادة جبهة التحرير ومؤيديها، وجاء إلى مصر طالبًا "بالأزهر" بعد أن بدأ دراسته في "الزيتونة" بتونس، وكان من بين الطلاب الجزائريين الذين انضموا إلى جبهة التحرير الوطني عند تأسيسها في القاهرة في عام 1954م وتلقى تدريبًا للعمل الفدائي

ثم عاد للجزائر لينضم إلى كتاب المجاهدين في منطقة وهران غرب الجزائر وكان لذلك أثره في نهجه السياسي إذ أنه على العكس من صديقي بن بللا سار بعد وصوله للسلطة في نهج عملي وجدي في خطة التعريب في الجزائر، وكان من أهم أسباب اندفاعه في هذا الاتجاه عامل شخصي هو أنه على خلاف أكثر قادة المقاومة والثورة كان أقلهم حظًّا من اللغة الفرنسية وكان الاتجاه للتعريب من حسناته التي أعترف بها والتي يجب أن يذكرها التاريخ وأعتقد أن أعضاء جبهة التحرير وقادتها من تلاميذ جمعية العلماء كان لهم حظ أكبر من بين حاشيته ومستشاريه وأعوانه، ولهم الفضل الأكبر في تشجيعه وتأييده عمومًا، وفي تنفيذ خطط التعريب بصفة خاصة

ومنهم صديقي العزيز المرحوم الأستاذ مولود قاسم الذي تعاون معه طول مدة حكمه وكان له فضل كبير في مواصلته لخطة التعريب في التعليم والإدارة والثقافة في الجزائر، واستمر فيها في عهد خلفه (الشاذلي بن جديد)، حتى صدر قانون التعريب الإجباري الأخير في القطاع الخاص الذي كان إلغاؤه أو تعطيله أول عمل قام به الانقلابيون بعد إقالة بن جديد عام (1992م) وأظنه كان من شروط فرنسا لتقديم الدعم المالي للحكومة الانقلابية.

لقد أشرت من قبل إلى ما لاحظته من اتجاه (بن بللا) إلى السير في النهج الذي رسمه له مستشاروه وأصدقاؤه الاشتراكيون الجزائريون والفرنسيون الذين اعتبروا اللغة الفرنسية "بل والتعاون مع فرنسا" شرطًا ضروريًّا لتعميق النهج الاشتراكي الذي كان يعني لدى كثير منهم السير نحو الإلحاد الماركسي المتناقض مع عقائد الإسلام ومبادئه

فضلاً عن أنه يعني الانتماء إلى الكتلة الاشتراكية والابتعاد عن فكرة الوحدة الإسلامية وعن الفكر الإسلامي ومعاداته، حتى وصل بهم الأمر إلى تعمد تشويه عقائد الإسلام والتشهير بقيمه ومبادئه وشريعته مما اضطرني إلى اليأس من فائدة بقائي في الجزائر، وتركت صديقي بن بللا وحكومته تسير في نهجها الاشتراكي الذي كان يرضي الاشتراكيين في فرنسا ومصر في عهد عبد الناصر كذلك.

صحيح أن (بومدين) قد استمر هو أيضًا في سياسة الالتزام بالاشتراكية والتقرب من الكتلة السوفياتية، لكنه وجد من المستشارين الذين التفوا حوله من استطاعوا أن يستبعدوا التناقض المصطنع بين التعريب كخطة ثقافية والاشتراكية كمنهج اقتصادي أو سياسي واجتماعي، وكان أغلب هؤلاء من تلاميذ جمعية العلماء التي كانت الحاشية الاشتراكية المتفرنسة سببًا في دفع بن بللا إلى الغلو في معادتها بل ومعاداة ذوي الثقافة العربية الإسلامية عمومًا وكان من مظاهر ذلك أنه بدأ سياسة التضييق على جمعية القيم، بل وجمعية العلماء.

ومن المؤكد أيضًا أن بومدين استمر في اضطهاد أصدقائي في جمعية "القيم" وأنه هو الذي أمر بحلها مرتين واعتقال رئيسها وأعضائها، لكن ذلك لم يعطل سياسة التعريب وأعتقد أن الفضل الأكبر في ذلك يرجع إلى نفوذ صديقي المرحوم مولود قاسم الذي درس في جامعة القاهرة وأحب مصر والعروبة، وعمل مديرًا لمكتب محمد خيضر الأمين العام للمكتب السياسي أثناء وجودي في الجزائر

وكانت له جرأة عجيبة في الدفاع عن وجهات نظره مهما تكون شاذة في نظر كثيرين، وأعتقد أن هذا هو ما أعجب بومدين وجعله يقربه وأطلق يده في تنفيذ خطط التعريب إلى أقصى حد ممكن، وهو الذي بدأ سياسة تنظيم ملتقى الفكر الإسلامي السنوي في الجزائر، وكان له الفضل في أنني دعين له مرة واحدة عام 1974م، ولم أعد للجزائر بعدها إلا في عهد الشاذلي بن جديد بعد أن بدأ سياسة التعددية السياسية في عام 1988م وهي التي أتاحت للإسلاميين إنشاء جبهة الإنقاذ في عام 1989م.

إنني أنتهز هذه الفرصة لأبين وجهة نظري في الأسلوب الذي كنت أسير عليه رغم اعتراض بعض أصدقائي الذين عملوا معي في إطار حركة "الإخوان المسلمين" وخاصة أولئك الذين كانوا يعملون في نطاق الدعوة أو "التربية الإخوانية" وكانوا يأخذون علي صداقتي أو علاقتي مع بعض من يعتبرونهم غير إسلاميين أو غير عروبيين أو أعداء التيار الإسلامي أو خصوم الدعوة أو من يسيرون في غير اتجاهها

بل ودفاعي عن بعض منجزاتهم التي كنت أؤيدها وأحافظ على علاقتي بهم أو الصداقة الشخصية التي تربطني ببعضهم رغم معارضتي لهم ونقد مواقفهم وأخطائهم وسياستهم في عمومها، كمثال على ذلك أذكر أن صديقي الحاج "صالح بورقيق" قضى معي فترة قصيرة في باريس وكان يأخذ علي أنني في لقاءاتي مع أصدقائي من أبناء المغرب العربي الذين كانوا يقيمون هناك للدراسة أو العمل كنت أتكلم معهم باللغة الفرنسية

وكان يقترح علي أن أصر على الحوار معهم باللغة العربية حتى يتعودوا عليها ويتعلموها، ولكني رددت عليه أن هذا الأسلوب يثير عند بعضهم مركب نقص إزاء "المشارقة" ويبعدهم عنا بل قد يصرفهم عن التعاون معنا في ميادين السياسة أو الكفاح الوطني، وأنا أريد أن أعمل معهم في هذا النطاق وأترك لك أن تعمل أنت وأمثالك في نطاق الدعوة والتربية.

أهم من السياسة الواقعية هو مستلزمات الخطط الاستراتيجية طويلة المدى التي جعلتني أسعى للاستفادة من بعض مواقف الوطنيين أو القوميين لصالح مسيرة شعوبنا نحو التحرر والوحدة الإسلامية والعربية، لقد يئست مثلاً من توجيه بن بللا وأصدقائه إلى التعاون مع التيار الإسلامي أو عدم مقاومته، كما يئست من تهدئة اندفاعهم في المنهج الاشتراكي اندفاعًا جعلهم يسلمون قيادتهم لمستشارين وأصدقاء من المتفرنسين والإلحاديين

ولذلك تركتهم وعدت إلى المغرب، ثم انتقلت إلى الشرق بعد ذلك، وابتعدت عن الجزائر مدة تزيد عن خمسة وعشرين عامًا بدأت قبل انقلاب بومدين عام 1965م وانتهت بعد صدور دستور "بن جديد" وحوادث 1988م، وكانت هذه فترة المخاض التي تحول فيها التيار الإسلامي من جمعية القيم "المنحلة" إلى جبهة الإنقاذ التي ما زالوا يصفونها بأنها "محظورة" لمجرد أنها حصلت في الانتخابات الحرة على أغلبية كاسحة!!!

لقد احتفظت بصداقتي وعلاقتي الشخصية مع كثيرين في حدود معينة، ولم أقطع شعرة معاوية التي تصلني بهم، بل ودافعت عن خصومنا في بعض مناسبات مقتنعًا بأن بعدهم عن الحركة الإسلامية أو عداءهم لها سببه تأثرهم بالثقافات الأجنبية أو التعليم الرسمي الأجوف المفرغ من الثقافة القرآنية الخالي مما نعرفه نحن من قيم الإسلام ومقومات ثقافته، إنهم يعملون بما يعرفونه وما يستطيعونه، وكل محاولة لتغيير اتجاههم تستغرق وقتًا طويلاً يجب ألا نبتعد عنهم خلاله، بل علينا إلى أن يتم ذلك أن نستفيد بما نقره من أعمالهم وإن كانت منطلقاتهم فيها مخالفة تمامًا لمنطلقاتنا الإسلامية.

لقد اندفع بن بللا في المنهج الاشتراكي، وأخذ عليه كثيرون وأنا منهم، أنه غالى في ذلك، لكنني كنت سعيدًا عندما كنت أسمع منه كيف طرد المعمرين الذين جلبهم الاحتلال الفرنسي وملكهم المزارع الواسعة، وكيف أخرجهم من البلاد وسلم الأرض للعمال والفلاحين الجزائريين باسم "التسيير الذاتي" والاشتراكية، وهي السياسة التي ينتقدها كثيرون الآن لأنها أضعفت الزراعة وأتلفت كثيرًا من المزارع

لكنني كنت أعتقد أن إخراج المعمرين الفرنسيين من الجزائر هدف استراتيجي ضروري لتطهير المجتمع الجزائري من قوة مالية واجتماعية خطيرة كان يمكن أن تعوق مسيرة التحرر أو أن تزج بالبلاد إلى حرب أهلية وإذا كان خروجهم قد تم باسم الاشتراكية في ذلك فإن ذلك قد جعل فرنسيين كثيرين يؤيدونه ويدافعون عنه حتى تمت الخطة كاملة، ولم يبق في الجزائر كلها فلاح فرنسي واحد ممن كانوا يملكون الأراضي ويزرعونها، وكان يسمونهم "ذوي الأقدام السوداء" ولو حاول بن بللا ذلك أو غيره باسم الإسلام، لقامت الدنيا وقعدت وما استطاع أن ينفذ شيئًا.

إن بن بللا ما زال صديقًا لي حتى الآن؛ لأنني بقيت صديقًا له، ولم أتنكر له كما تنكر كثيرون ممن كانوا أعوانه، وكان يثق بهم ويقربهم كوزراء أو مستشارين له ثم أصبحوا في ليلة واحدة وزراء وأعوانًا لمن أخرجوه وانقلبوا عليه واعتقلوه، ومع ذلك يجب أن أقر بأنني لم أقصر مطلقًا في نقد كثير مما قام به، وتنبيهه إلى ما كنت أعتبره خطأ سواء في مواجته أو في غيابه، وليس هذا جديدًا علي فقد كنت دائمًا وأنا معه أطرح له بآرائي حتى نفذ صبره ذات مرة وقال لي بالفرنسية كلمة لا أنساها: "إنك دائمًا تجد شيئًا تنتقده".

Tu trouves toujours quelque a chosecritique

أما بومدين فإنني لم تتح لي فرصة التعاون معه حتى أعتبره صديقًا، وأذكر أنني لم أره طوال مدة رئاسته للجزائر بعد انقلابه على بن بللا، ولذلك لم أستطع أن أوجه له انتقاداتي أو أسمع تبرمه بها كما فعل صديقي بن بللا، إنني رغم هجومه على جمعية القيم واعتقال أصدقائي ومسيريها، كنت أتابع ما قام به من أجل تعريب التعليم والإدارة في بلاده، ولابد أن أعترف بأن هذا إنجاز استراتيجي كبير لابد أن نسجله له ونعتز به، بل ونستفيد منه في دعم الفكر والتيار الإسلامي الذي كان هو يتبرم به ويخاصمه ويطارد دعاته.

لقد كنت دائمًا معارضًا "لعبد الناصر" وتحملت بسبب هذه المعارضة مخاطر كثيرة وقاسيت محنًا أليمة، ومع ذلك كانت لي صداقة ومعرفة مع بعض من كانوا يتعاونون معه من أجل قضايا بلادهم مثل "بن بللا وخيضر" ، وبل وبن بركة وجماعته كلها ممن عرفهم ومازالت أعرفهم إلى الآن، ولم أكن مقصرًا مطلقًا في تحذيرهم من السير في طريق التعاون معه

بل حرصت على أن أبين لهم المخاطر الكبيرة التي تنتج عن سياسته الدكتاتورية الخاطئة التي تهدد مستقبل الشعب المصري وحريته، بل وشعوبهم ذاتها والعالم العربي والإسلامي كله بسبب هذا البغي الدكتاتوري، إلا أنني كنت من حين لآخر أقول لهم إنني مستعد لكي أغفر له كثيرًا من أخطائه بل وجرائمه مقابل ما قام به من تأييد للثورة الجزائرية ومساعدته لعناصر الكفاح المسلح الذين قاوموا الاحتلال الفرنسي طوال مدة الثورة التي مكنت شعبًا من أنبل الشعوب من تحرير بلاده

رغم معرفتي بأنه فعل ذلك من أجل مطامع شخصية وليس من أجل الأهداف السامية التي نعمل لها، وأعترف بأنني أخطأت لأنني لم أكن أعرف أو أتوقع أن يسرق الاشتراكيون والمتفرنسون ثمار الثورة ومزايا الاستقلال ويستغلوها لمقاومة التيار الإسلامي بالصورة التي حدثت فيما بعد بتأييد منه منذ تولي بن بللا السلطة بالأسلوب الانقلابي الذي أشرت إليه ولم أدرك أبعاده إلا بعد فوات الأوان هذا الأسلونب الانقلابي ذاته هو الذي مكن أصدقاء بن بللا وأعوانه العسكريين من الانقلاب عليه فيما بعد بزعامة بومدين، ومكن بعض قادة جبهة التحرير في عهده أو بعد ذلك من اعتبار الإسلام عقبة في سبيل ما يسمونه بالاشتراكية التي يعتبرونها (علمانية أو لادينية).

ولم أعرف "السادات" قط، ولا التقيت به مرة واحدة في حياتي، لكنني كنت ألاحظ ولاءه المطلق لسياسة "عبد الناصر" والسير في ركابه قبل وفاته، لكني بمجرد أن تولى الرئاسة وبدأ سياسته الليبرالية الانفتاحية التي أخذها فيما بعد وسيلة للتقرب من الأمريكان الذين ساقوه للتعاون مع أصدقائهم من الصهاينة، وكنت أتولى مسئولية الاتصالات في الخارج سارعت إلى تنظيم أصدقائي الذين عملوا معي في إطار "تنظيم الإخوان" في الخارج عارضوا ذلك وانتقدوه واعتبروا ذلك تعاونًا معه أو تقربًا منه

ولكنني واصلت حملة المطالبة والإلحاح حتى تم الإفراج عن جميع "الإخوان" المسجونين والمعتقلين، ومازلت أعترف بأن ذلك م حسناته وبمجرد خروج "المرشد" وغيره من المسجونين سلمت لهم جميع أمور الحركة، وأعلنت لهم أنني سأتفرغ للعمل في ميدان التعليم والاقتصاد الإسلامي وبدأت إنشاء مدارس المناورات وساهمت في إنشاء بنوك فيصل الإسلامية مع "الأمير محمد الفيصل" ؛ لأن العمل في ميدان التعليم والاقتصاد هدف استراتيجي للحركة الإسلامية.

هذا هو أسلوب العمل الواقعي الذي سرت فيه، أما في نطاق الفكر والتأليف والكتابة فقد كنت دائمًا –ومازلت- معتزًا بالدفاع عن الدعوة ومنهجها الإسلامي الذي أعتبره الطريق الوحيد لنهضة الأمة ووحدة شعوبها، وكتبي التي نشرتها هي الوسيلة الوحيدة التي كانت أمامي، ومقاومة كل من ينحرف عن هذه الأهداف أو يعطل مسيرة الأمة نحوها.

وتطبيقًا لهذه السياسة الواقعية ابتعدت عن الجزائر طوال مدة حكم بومدين؛ لأنه سار بجد نحو التعريب. لكن المعارضة والمقاومة لا تستلزم قطع العلاقات الشخصية إذا وجدت أسبابها، طالما أن الطرف الآخر يحرص على ذلك مع علمه وإدراكه لهذا الخلاف في الرأي والمنهج والاتجاه والغاية، طبقًا للمبدأ الذي عبر عنه شوقي في بيته الشهير "اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية".

أما موقفنا من التصرفات المعادية للتيار والفكر الإسلامي أو الظالمة للحركة أو للإسلاميين عمومًا فهو المقاومة والنقد والعداء بلاشك، ومع ذلك فإن العداء ضرورة يحكمها المبدأ الإسلامي في فقهنا، وهو أن الضرورة تقدر بقدرها، فما نفعله نتيجة لذلك يتوقف مع ما نواجهه من أعمال الطرف الآخر.

لذلك فإنني لم يخطر ببالي قط أن أقدم معونة لمن يهاجم الفكر والحركة الإسلامية ولا أن أساهم معه في الهجوم عليها، بحجة النقد الذاتي كما فعل ذوو الفكر الإسلامي الذين تعاونوا مع "عبد الناصر" وساهموا في تشهيره "بالإخوان" وهجومه عليهم مع ما يرونه من الظلم والبغي والاضطهاد والتشريد والاعتقال والسجن بل والقتل الذي أصاب الإخوان.

وقد كانت لي علاقة ود مع بعض هؤلاء لكني ابتعدت عنهم، ولم أتصل بأحد منهم إلا بعد أن مرت المحنة، وأذكر أن أحدهم التقيت به في إحدى عواصم الخليج ودعاني للغداء معه، ولما قدم لي بناته وهن عرائس، قلت له: لم أكن أعرف أن لك بنات في هذه السن، فقال كلمة اعتبرتها اعتذارًا منه عن مواقفه السابقة، هؤلاء هم الذين قال عنهم الرسول الكريم "الولد مجبنة مبخلة" ولم أعلق على قوله حتى لا أنكأ جروحًا قديمة. رغم الواقعية التي التزمتها في نطاق العلاقات الشخصية، فإنني في نطاق العمل الفكري والسياسي والعمل العام عمومًا كنت مثاليًّا إلى أقصى حد ممكن، وكانت لي جولات في معارضة جميع الخارجين عن نطاق المنهج الإسلامي أو من يعارضونه أو يقاومنه.

إن هذه المثالية قد جعلتني لا أتحول عن الهدف الإسلامي الأصيل وهو وحدة الأمة ونهضتها الشاملة، وكانت هذه الغاية هي التي ترسم المنهج الذي التزمته في ميدان العمل العام وفي نطاق الفكر والتأليف والكتابة فإن كل كتبي تدور حول هذه المحور رغم محاولات متكررة من أصدقاء كثيرين كانوا ينصحونني بألا أواجه خصومنا بذلك، وأن أتركه للمسئولين في الجماعة؛ لأنهم كانوا يلاحظون عدم حرصي على الارتباط التنظيمي إلا في حالة ما إذا تعرضت الجماعة للاضهاد والمواجهة مع السلطة الغاشمة.

في عام (1965م)، كنت في المغرب بعيدًا عن مشاكل لمصر وما يجري فيها ولكن عندما جاءت الأنباء بحملة اعتقالات شاملة وأعلن ذلك "عبد الناصر" في موسكو، أدركت أن وراء هذه الحملة قوى أجنبية، فسارعت إلى الكويت، وعندما التقيت بإخواني هناك طلبت منهم أن يقوم "الإخوان" بالخارج بواجبهم إزاء الحركة حتى تتغير الأحوال في مصر فوجئ بعضهم بذلك حتى قال لي صديقي "حسن العشماوي" كأننا لا نراك إلا في الأيام السوداء!! هذه شهادة منه أعتز بها.

ذلك أنني طويت مدة إقامتي في فرنسا من عام 1945م إلى عام 1950م كنت بعيدًا عن شئون الجماعة ومتفرغًا لشئون شمال أفريقيا، ولما عدت إلى مصر وجدت الجماعة مهددة بالشقاق بسبب الخلاف على من يخلف المرشد العام "الشهيد حسن البنا". فقمت بواجبي نحو الجماعة وشاركت في كل الاجتماعات والمشاورات من أجل اختيار المرشد الثاني "المستشار الهضيبي" حتى لا تبقى[[ الجماعة]] بدون رئيس ولا تمزقها الخلافات الناتجة عن تنافس المرشحين وأنصار كل منهم.

استقرت أحوال الجماعة بعد اختيار المرشد الثاني، فابتعدت عن شئونها وتفرغت للعمل في الجامعة وفي الكتابة والتأليف، وكان "حسن العشماوي" في ذلك الوقت مشغولاً مع مجموعة المرحوم "منير دلة" في اتصالات بضباط الحركة المباركة!! وكنت أعرف ذلك ولكني لم أتدخل فيه. كنت أسكن في شارع سعد زغلول بالجيزة، وكان يسكن في العمارة المواجهة لسكنى أحد ضباط الجيش، وأعتقد أن اسمه كان "كفافي" وذات ليلة صحو على حركة غير عادية في الشارع ولاحظت أن الشرطة دخلت مسكن هذا الضابط وفتشته.

وفي الصباح التقيت بالأخ "صلاح شادي" ، ووقفنا نتحدث أمام مسكن صديقنا الأستاذ "فريد عبد الخالق"، وقلت له يظهر أن هناك شيئًا يدور في صفوف الجيش، فهل أنتم منتبهون لذلك؟ قال اطمئن فنحن نتابع كل هذا، وهناك أساتذة على اتصال دائم بهذا الموضوع، وفهمت بعد ذلك أن "حسن العشماوي" هو الذي يختص بهذا الموضوع ولذلك لم أسأل بعد ذلك، وبقيت أترقب عن بعد.

وبعد نجاح حركة الجيش غرق "حسن العشماوي" في اتصالات بأعضاء مجلس قيادة الثورة في بدايتها، وبقيت بعيدًا عن هذا الموضوع، في حين كان عدد من أعضاء الهيئة التأسيسية يتسابقون إلى الاتصال بالضباط من كل ناحية، وعندما ساءت العلاقات بين الإخوان والضباط، اعتقلت مع "الإخوان" ونشرت مقالاتي في جريدة المصري التي أدت إلى اعتقالي مرة أخرى وما لقيته من تعذيب.

بعد ذلك سافرت إلى المغرب عام 1958م، وبقيت هناك إلى عام 1965م، ولما سمعت أخبار الحملة التي بدأت باعتقال "سيد قطب" وإخوانه تركت المغرب وذهبت إلى المشرق لأقوم بواجبي في نشاط "الإخوان" بالخارج، كما لاحظه حسن العشماوي وبقيت أعمل حتى أفرج عن المسجونين من الإخوان وجاء "المرشد المرحوم الأستاذ حسن الهضيبي" لأداء فريضة الحج فسلمته كل مسئولياتي وقلت له: إنني سوف أتفرغ للعمل في المدارس والبنوك الإسلامية، وكذلك الأمر في عهد صديقي "الأستاذ التلمساني" فقد وافقني على هذا المنهج، وما زلت أعتبر نفسي عليه حتى الآن.

في أول يوم دخلت فيه المركز العام للإخوان المسلمين وقدمني أحد أصدقائي للشهيد "حسن البنا" على أنني من الطلبة الأوائل المتفوقين، وأنني راغب في الانضمام إلى الجماعة قال لي: "إذن ستكون مساهمتك في نشاط الجماعة هو المحافظة على تفوقك في دراستك وعلومك" ... وقد جعلت هذا التوجيه نصب عيني دائمًا؛ ولذلك فإن كثيرين يلاحظون عدم مساهمتي في أي عمل تنظيمي إلا عند الضرورة وبقدر ما تقتضيه هذه الضرورة وهذا هو ما عناه المرحوم "حسن العشماوي" وهو أنهم لا يروني إلا في أيام المحن والشدائد وذلك لأنني منذ بداية عملي القانوني والعلمي، وخاصة في الإجراءات الجنائية جعلت الدفاع عن حقوق الإنسان وحريات الأفراد الهدف الأول لكل نشاط أقدم عليه

ومسارعتي إلى الشرق في عام (1965م) إنما كانت في نظري أداء الواجب القيام بعملي للدفاع عن المسجونين والمعتقلين من الإخوان ظلمًا وعدوانًا، وبمجرد الإفراج عنهم في عهد السادات عدت إلى العمل في المجال العلمي والتعليمي والاجتماعي، الذي اعتبرت إنشاء البنوك والمدارس الإسلامية هو الهدف الأساسي له منذ ذلك التاريخ حتى اليوم...

قسنطينة الغالية ومستقبل القارة الإفريقية 1974م

أحببت قسنطينة قبل أن أراها منذ سمعت أنباء حوادث "سطيف وقسنطينة" في عام 1945م، وفي عام 1974م زرتها لأول مرة لإلقاء محاضرة عن (مستقبل القارة الأفريقية) بعد حضوري ملتقى الفكر الإسلامي في "تيزي أوزو". التقيت في موسم الحج ببعض علماء الجزائر الذين عرفتهم قبل الاستقلال، واقترحوا علي أن أشارك في ملتقى الفكر الإسلامي الذي تنظمه وزارة الأوقام والتعليم الأصلي ووافقت على ذلك لأن وزيرها في ذلك الوقت كان صديقي الأستاذ مولود قاسم وبمجرد وصول خطاب الدعوة سافرت من جدة إلى الجزائر

واضطررت إلى النزول "ترانزيت" في مطار القاهرة رغم ما في ذلك من مخاطرة؛ لأنني في ذلك الوقت كنت مازلت مطاردًا ومحرومًا من الجنسية المصرية، وخاصة بعد حادث اعتقالي ومحاكمتي في "بيروت" عام 1966م، وما سبقه من حرماني من جواز السفر والجنسية المصرية التي كانت حكرًا في ذلك الوقت للناصريين ومن ترضى عنهم مباحث عبد الناصر وأجهزة مخابراته المتعددة.

وأنا جالس في صالة الترانزيت بمطار القاهرة فوجئت بأن عددًا من العلماء والمفكرين المصريين في طريقهم إلى الجزائر على نفس الطائرة التي سأركبها، وسعدت بأن على رأسهم أستاذي "الشيخ محمد أبو زهرة" الذي رحب بي بمجرد أن رآني ولم يتردد في معانقتي والترحيب بي بعكس الآخرين الذين تحاشى بعضهم التحدث معي أو الاقتراب مني

وقد استمرت مقابلاتي وأحاديثي مع المرحوم الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة طوال مدة إقامتنا في "تيزي أوزو" التي عقد فيها الملتقى في ذلك العام، وأطلعني على ما يواجهه من متاعب ومشاكل في مصر، وغضب "عبد الناصر" وعملائه عليه، حتى إنهم منعوه من التكلم في الإذاعة أو التلفزيون وطاردوا كتبه ومؤلفاته وكل نشاطه، وقال لي إن سبب ذلك هو أنه في تأبينه لأحد أصدقائه وهو الدكتور محمد عبد الله العربي ألقى كلمة على قبره ذكر فيها أن فراق هذا الصديق ذكره بآلامه لفراق صديقه المرحوم "الشهيد عبد القادر عودة" وأنه عرف فيما بعد أن "عبد الناصر" أخذ عليه اعتزازه بصداقته عودة ووصفه بأنه شهيد مع علمه بأنه هو الذي أمر بإعدامه.

أذكر أنني كنت أحضر في لجنة الشئون القانونية، لكنني كنت أتابع مناقشات لجنة الشئون الاجتماعية وكانت تحضرها الحاجة زينب الغزالي، ولما بدأ مقرر اللجنة يعد توصياتها للملتقى اقترحت علي السيدة زينب الغزالي أن تقدم مشروع توصية بالدعوة للاقتصاد الإسلامي وضرورة إنشاء بنوك إسلامية وسوق مشتركة للعالم الإسلامي.

ولما جاءت جلسة اللجنة لمناقشة مسودة التوصيات التي أعدها المقرر، وهو صديق الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة وكان يرافقه كظله، وجدت أنه تجاهل هذه النقطة ولم يشر إليها، فاعترضت عليه وثرت على هذا الأسلوب الذي يتجاهل أهمية الفكر الاقتصادي الإسلامي وضرورة الاهتمام به كمنطلق للنهضة والوحدة الاقتصادية للأمة الإسلامية، وحاول المقرر الرد علي، فثرت عليه بحدة، وتدخل الشيخ محمد أبو زهرة وأقنعه بقبوله اقتراحي.

بعد الجلسة استدعاني وحاول الإصلاح بيني وبين صديقه، وقال له كلمة لا أنساها أبدًا: (هؤلاء الناس "الإخوان المسلمون" لهم حقوق علينا، إنهم امتحنوا فصبروا وصمدوا أما نحن فلا ندري إذا امتحنا، من منا يصير ومن لا يصمد). اقترح علي صديقي الأستاذ مولود قاسم أن أزور جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية في قسنطينة وألقى فيها محاضرة، فقبلت ذلك، واخترت عنوان المحاضرة "دور الإسلام في مستقبل القارة الإفريقية" وقلت فيها إنني في عام 1954م قبل عشرين عامًا ألقيت في جامعة الخرطوم محاضرة عن "دور السودان في مستقبل القارة الإفريقية"

وكان محورها أن الإسلام هو الذي حمى شمال أفريقيا من المصير الذي حل بجنوب القارة حيث نجح المستوطنون الأوروبيون هناك في الاستيطان والاستقرار وفي إقامة حكم عنصري لصالحهم وأنشئوا دولة على أساس التمييز العنصري الذي يقصي الأهالي السود الأصليين عن كل نفوذ أو سلطة في ذلك النظام الذي كانوا يصفونه بأنه ديمقراطي!

وقلت إن هدف الاستعمار كان وما يزال دائمًا هو الاستيلاء على الشمال الإفريقي وإقامة مجتمع استطاني لاستعباد السكان الأصليين المسلمين واستغلالهم، وكانوا يظنون ذلك سهلاً لأنه أقرب إليهم وأهم من النواحي الاقتصادية والاستراتيجية، لكنهم عجزوا عن ذلك في الماضي بسبب وجود حائط قوي محصن من الإرادة الشعبية التي أعزها الإسلام وحصنها بعقيدته وحضارته

وقيمه الثابتة التي دفعت شعوبنا إلى الجهاد والمقاومة الباسلة التي تشهد بها الوقائع العديدة والهجمات الفاشلة المتوالية التي شنها الأوروبيون جميعًا على شواطئ الشمال الأفريقي وغرب آسيا، ولكنهم فشلوا في الاستيلاء عليها أو الاستقرار بها فتوجهوا إلى الجنوب والغرب والشرق الإفريقي واستولوا على شواطئه واستعبدوا شعوبه وأذلوهم بقصد إبادتهم وساروا على خطة التمييز العنصري التي مازال الأفارقة يقاومونها حتى الآن.

وها نحن الآن نرى شعب الجزائر وغيره من شعوب شمال أفريقيا المسلمة يدعمون هذه المقاومة ويناضلون من أجل دعم حركات التحرر الإفريقي، ويدفعون الرأي العام العالمي لنبذ الاستعلاء والتمييز العنصري والقضاء عليه، لأن أول مبادئ الإسلام هو المساواة والأخوة بين البشر؛ لأن أباهم واحد وإلههم واحد كما قال رسولنا الكريم في حجة الوداع.

إذا انتصرت إفريقية بفضل مبادئ الإسلام وتضامن الشعوب الإسلامية مع أشقائهم الأفارقة، فإن هذا الانتصار يرشح تلك القارة لكي يكون لها دور قيادي في الحضارة العالمية بعد انهيار الحضارة الأوروبية التي أفسدها الترف وأضلها البغي والعدوان الاستعماري وقضت عيها الشيخوخة التي تحدث عنها كثير من الفلاسفة وخاصة ابن خلدون الذي أكد أن الأمم المتمدنة تتعرض للانهيار بسبب توفر أسباب الترف وتفشي أسباب الفساد وتجري سنة الكون بأن يأتي دور الأمم الناشئة التي احتفظت بخشونة البداوة وقيم الفطرة الإنسانية وأنها مرشحة لكي تنتصر على الدول المتقدمة، وجديرة بأن تحل محلها في قيادة الإنسانية.

لقد قلت للسودانيين منذ عشرين عامًا إن دوركم هو أن تكونوا الجسر الذي يصل قلب العالم الإسلامي بجميع أنحاء القارة الإفريقية، وأنا أقول للجزائريين إنكم سوف تكونون دائمًا طليعة الشعوب التي تهاجم معاقل الاستعمار الأوروبي وترده صاغرًا إلى شواطئ أوروبا، وتأخذ بثأر شعوبنا الإسلامية والإفريقية التي قامت من الاستعمار الأوروبي

وأن شعب الجزائر وشعوب إفريقية الشمالية إذا تسلحوا بقيم الإسلام وأصالته واعتزوا بعقائده ومبادئه فإنهم سيكونون جديرين بقيادة الشعوب الإفريقية نحو النهضة الفتية والقوة التي تؤهل هذه القارة الغنية لتقوم بدورها في بناء مستقبل الإنسانية، وأنا أعتقد أن ذلك هو الراجح إذ إن آسيا وأوروبا وأمريكا التي تعتبر امتدادًا لأوروبا قد قامت في الماضي بالدور القيادي في الحضارة العالمية وأعتقد أن أفريقيا ما زالت بكرًا وأن كثيرين يعتبرونها قارة مسلمة لأن أغلب سكانها من المسلمين ولذلك أرشحها للقيادة في المستقبل إذا تسلحت بالإسلام وعقائده وقيمه الحضارية والأخلاقية...

لاحظت أن عددًا من الطلاب اليساريين أدعياء الاشتراكية في ذلك الوقت لم يعجبهم تركيزي على دور الإسلام في أفريقيا وفي مستقبل العالم كله، وبدءوا يعارضون ما قلت ويحتجون بأن الواقع لا يؤيد هذه التنبؤات، بل إن الظاهر أمامهم هو أن الكتلة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وشرق أوروبا وآسيا هي التي ستقود العالم بعد انهيار الرأسمالية الأمريكية والأوروبية، أجبت بأن سنة الكون تفرض التغيير وتأبى بقاء واقع السيطرة الأوروبية والأمريكية إلى الأبد مهما تكن النظم السياسية السائدة فيها، وأننا نعتبر الكتلة الاشتراكية جزءًا وصورة من صور الحضارة الأوروبية التي استنفدت أغراضها وأصابتها الشيخوخة.

بعد هذه المناقشات الساخنة لاحظت أن الدعوة لم توجه لي مرة ثانية لهذا الملتقى الإسلامي، ولم أعد إلى الجزائر إلا في عام 1989م، عندما دعيت إلى قسنطينة لإلقاء محاضرة ثانية في هذه الجامعة الإسلامية ذاتها، وكانت الدعوة من رابطة الجامعات الإسلامية التي عقدت مؤتمرها السنوي هناك.

المخاض

لقد سررت عندما علمت أن صديقي القديم (التيجاني هدام) قد عين سفيرًا لبلاده في المملكة العربية السعودية فسارعت للاتصال به تليفونيًّا، وزرته في مقر سفارته في جدة (في ذلك الوقت).

كانت معرفتي به قديمة منذ كنت في باريس، ولكني لا أذكر أني التقيت به بعد الاستقلال، وقد أدى ذلك إلى "نكتة" طريفة، ذلك أنني قد نسيت صورته، ويظهر أنه كذلك قد نسي صورتي لأني صرت شخصًا سعوديًّا يختلف بلاشك عما كنت في شبابي طالبًا في باريس، وأذكر أنني عندما ذهبت إلى مكتبه كان واقفًا بأعلى السلم ينتظر صعودي ليحرب بي، وكان بجواري ابن أخي أحمد المقيم بأمريكا

والذي كان في زيارة للعمرة، وقد أخذته معي ليتعرف عليه، وكان شابًا أنيقًا يلبس "بذلة أمريكية" أما أنا فكنت ألبس الثوب والعباءة والغطرة السعودية، لذلك لم يعرفني صديقي وانصرف عني متجهًا إلى بان أخي الشاب يعانقه ويقبله قبل أن أقول له إنني "توفيق" ولما علقت على ذلك بقولي إنه كان يحيي شبابي كما عرفه قال ويظهر لي أنني أيضًا كنت أعانق شبابي لأنني ذهبت إلى أمريكا وقضيت فترة في دراسة الجراحة الدقيقة.

طال بنا الحديث عن أوضاع الجزائر وكان متفائلاً بالدستور الجديد الذي أصدره (الشاذلي بن جديد) وبعمله الدبلوماسي الذي يواصل فيها جهاده كمناضل قديم وقد طلبت منه أن يزودني بنص هذا الدستور فأعطاني النص العربي والفرنسي وأكد لي أنه يتميز عن الدستور السابق بالناحية الإسلامية

ولما عدت إلى منزلي وقرأته لم أجد فيه ما يؤكد تفاؤله الذي أبداه لي من الناحية الإسلامية، بل كان أهم ما فيه هو زيادة تركيز السلطة في يد الرئيس، ولا أثر لتأكيد التوجه نحو الإسلام الذي أشار له صديقي التيجاني سوى ما ورد في المادة التاسعة، وأنه يشترط في رئيس الجمهورية أن يكون مسلمًا (المادة/70) ويتضمن اليمين الذي يؤديه: (أن يحترم الدين الإسلامي ويمجده...).

ولكنه نص صراحة في المادة (40) على أن حق إنشاء الجمعيات ذات الطابع السياسي (الأحزاب) معترف به. بعد ذلك قرأت نقدًا عنيفًا لهذا الدستور الجديد في مجلة المجتمع بتوقيع صديقي محفوظ نحناح وعلمت أنه اعتقل بسبب ذلك وسجن كما سجن كثيرون من العلماء الذين احتجوا على هذا الدستور الذي خيب آمال الشعب المتعلق بالإسلام.

لقد تضاربت الأقوال عن القوى التي قامت بالدور الرئيسي في إشعال روح الانتفاضة الشعبية التي أدت إلى الأحداث الدامية في مظاهرات الجزائر عام 1988م، لكن الظاهر أن الرئيس الشاذلي بن جديد أيقن أن الإسلاميين قاموا بالدور الأكبر، ذلك أنه كان قد انتهز فرصة الاضطرابات الطلابية في الجامعة لاعتقال أكبر عدد من الإسلاميين المعروفين وعلى رأسهم الشيخ (سحنون) وكثير من العلماء، وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين المعروفين لدى السلطة، لكنه اضطر بعد ذلك للإفراج عنهم والسير نحو تهدئة العواطف الإسلامية لدى الجماهير بإجراءات عديدة كان أهمها العناية بجامعة الأمير عبد القادر الجزائري في قسنطينة

وتعيين صديقنا "الشيخ محمد الغزالي" مديرًا لها، والتصريح بإنشاء جبهة الإنقاذ الإسلامية، وكان كل ذلك مشجعًا لرابطة الجامعات الإسلامية لعقد اجتماعها السنوي بتلك الجامعة باعتبارها عضوًا بها، ودعيت لإلقاء محاضرة بها للمرة الثانية عام (1989م). كانت فرصة سعيدة لزيارة هذه المدينة الجميلة التي زرتها من قبل عام 1974م وألقيت فيها محاضرة بدعوة من صديقي المرحوم الأستاذ مولود قاسم الذي كان وزيرًا للتعليم الأصلي في ذلك الوقت وكان له فضل كبير في دفع عملية التعريب وإنشاء هذه الجامعة في عهد بومدين.

لم أفاجأ بما حدث في الانتفاضة الشعبية بالجزائر العاصمة عام 1988م التي فرضت على الرئيس الشاذلي بن جديد أن ينهي سياسة احتكار حزب جبهة التحرير للحكم ويفتح الباب للتعددية السياسية، ويسمح بإنشاء جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر لتكون أول حزب إسلامي معترف به في العالم العربي كله.

لقد كنت أتابع نمو المد الإسلامي الشعبي في الجزائر وأرى صداه في اتجاه بن بللا لإدخال الإسلام أساسًا لبرنامج حزبه الذي أنشأه بالمنفى، كانت تصله تقارير دورية عن الأحوال في بلاده وكان يؤكد لي دائمًا أن الشعب الجزائري لم يعد يقبل أي اتجاه يتحدى الإسلام أو يبعده عنه وأنه يسير نحو ثورة جديدة تماثل ثورة التحرير الأولى، لكنها هذه المرة ستكون ثورة إسلامية، وأنه يعد حزبه لتكوين إطارها ويعد نفسه لقيادتها.

لقد تكررت زياراتي لصديقي "بن بللا" في منزله في باريس أولاً، ثم في لوزان بعد ذلك، وكنت أقضي معه أطول وقت ممكن أستمتع بالحديث معه، وكان الحديث معه دائمًا عن الإسلام وأوضاع الجزائر، وكنت أحس أن انفتاحه على الفكر الإسلامي يزداد في كل مرة عن الأخرى وفهمت منه أن الشعب الجزائري ينمو سخطه على النظام الحاكم واحتكار الحزب الواحد للسلطة، وأن آماله وعواطفه تتجه نحو الإسلام وأنه سعيد لذلك رغم أنه ما زال يعلن تعلقه بالفكر الاشتراكي، إلا أنه يرى أنه لا تعارض بين ذلك وبين الإيمان بالإسلام والالتزام به كعقيدة وفكر، وأن أبعاد الاشتراكية عن الإسلام هو الذي مكن لنظام الحزب الواحد من أن يصبح أداة للطغيان والفساد في بلاده.

سمعت كثيرًا من "بن بللا"، وقرأت له ما أقنعني بإيمانه بقرب الثورة الإسلامية في الجزائر، وإيمانه بأن يواصل كفاحه السياسي لقيادة تلك الثورة التي ظهر لي أنه يهيئ نفسه لها حتى صرت أتمنى ذلك، وأذكر أنني في إحدى المرات عندما أعطاني مجموعة من أعداد مجلته وكان اسمها "البديل" اقترحت عليه أن يغير اسمها ويجعلها "البديل الإسلامي" وقد أبدى لي سروره بهذا الاقتراح واقتناعه به ووعد بتنفيذه

ولكني لما عدت لزيارته بعد ذلك لاحظت أن وعده لم ينفذ وسألته عن السبب فقال إن (الإخوة) رأوا أن الوقت غير مناسب لذلك، ويكفينا ما بداخل المجلة دون حاجة لتغيير الاسم، وقد سألت نفسي مرارًا عما إذا كان هؤلاء "الإخوة" هم مستشاريه في الماضي الذين جعلوا الاشتراكية بديلاً عن الإسلام وعما إذا كانوا قد رسموا له خطًّا أحمر لا يتجاوزه فيما يتعلق بالناحية الإسلامية.

لقد بدأت أشك في أن (الإخوة) الذين يشير إليهم هم الذين يسيرون الحزب الجديد وأن إخراجه من فرنسا وإبعاده إلى سويسرا ربما كان يقصده أو يستغله بعض أصدقائه الفرنسيون لاستعمال الأساليب التي استغلوها من قبل مع (مصالي حاج) الذي فرضوا عليه الإقامة الجبرية طوال حياته ليبقى أسيرًا لمن يحيطون به ولتمكين جهات معينة من إدخال بعض العناصر لاختراق حزبه وتوجيهه لصالح قوى أجنبية في مسائل معينة على الأقل.

وبسبب ما أحسست به من ندم على عدم انتباهي لعلاقاته الأخرى عندما صحبته من المغرب إلى الجزائر وعملت معه ومع محمد خيضر في المكتب السياسي دون أن أكتشف هذا الاختراق إلا بعد فوات الأوان في المرة الماضية، أصبحت هذه المرة أكثر حذرًا بل وربما بالغت في الحذر والشك إلى حد الوسوسة التي أدت بي في النهاية إلى الانصراف عنه والاتجاه إلى الجزائر ذاتها عندما وجدت الفرصة سانحة لمتابعة المسيرة التي أدت فعلاً إلى ما كان يسميه بالثورة الإسلامية ولكن بغير زعامته كما سنرى فيما بعد.

كنت من جانبي أحمل إليه كثيرًا من الكتب والمطبوعات الإسلامية من الشرق ولكني كنت ألاحظ أنه أكثر تأثرًا بما ينشر عن الإسلام باللغة الفرنسية من الأجانب الذين لا أثق بحسن نيتهم، وأيقنت أن حوله جماعات توالي تزويده بها من فرنسا، وكان يشكو من تفرق حكام البلاد العربية ومن اضطهاد حكام الجزائر والعالم العربي عمومًا للفكر الإسلامي مع أنه هو الذي يزود الشعب بطاقة ثورية لا حدود لها كما دلت على ذلك الثورة الإيرانية

وكما تدل عليه التقارير التي تصله من الجزائر عن نمو التيار الإسلامي وخاصة بين أبناء الجيل الجديد من الأساتذة والطلاب والشباب عامة، وكنت أعتقد أن جهات عديدة لها مصلحة في تشجيع معارضته للنظام الجزائري وأنها لذلك كانت تمده بكثير من التقارير التي مكنته من متابعة مسيرة المعارضة الإسلامية في الجزائر، ورغم صداقتي القديمة له إلا أنني في هذه الفترة كنت أكثر خشية من صلته ببعض الجهات التي لا أعرفها وخاصة اتصالاته بالعناصر الفرنسية التي أيدته في المرة السابقة وساعدته في الوصول إلى السلطة

والاستيلاء عليها بعد ثورة التحرير، وذلك بأساليب أدت إلى تمكين الاشتراكيين من جعل الحكم دكتاتوريًّا لا دينيًّا أو علمانيًّا وكنت نادًا لأنني لم أكتشف مدى علاقته بها في ذلك الوقت إلا بعد فوات الأوان أي بعد أن صاحبته في دخول الجزائر وعملت معه ومع محمد خيضر في المكتب السياسي في الفترة التي أقمتها في الجزائر وشاهدت فيها مراحل الخطة التي مكنته من أن يسبق الحكومة المؤقتة إلى الاستيلاء على السلطة وتسليمها للاشتراكيين الذين جنوا بذلك ثمار النصر الذي حققته الحكومة المؤقتة والمجاهدون باسم الإسلام

وباسم جبهة التحرير الوطني الجزائرية إنه مكن للاشتراكيين أن يحتكروه وأبعدوا الإسلاميين الذين جاهدوا بفضل عقيدتهم الإسلامية التي تفرض الجهاد والاستشهاد لمقاومة أعداء الدين والوطن، لقد تألمت عندما رأيت أن نظامه يسعى لمحاصرة جمعية العلماء وأنه اعتقل رئيسها الشيخ الإبراهيمي وسمح لإعلامه وحكومته بالتضييق على جمعية القيم...

في بداية مقابلاتي له بعد خروجه من المعتقل كنت أعتقد أن اهتمامه بالفكر الإسلامي فيه مجاملي لي لأنه يعلم أنني من "الإخوان المسلمين" ، وتمشيًا مع أسلوبه الذي عرفته في إرضاء جميع من يؤيدونه مهما تكن معتقداتهم واتجاهاتهم، لكنني لاحظت أن ذلك أصبح محورًا رئيسيًّا في دعايته ومنهجه الذي ينشره على أبناء الشعب الجزائري الذي يوجه إليه الخطاب سواء في منشورات حزبه أو الكتيبات التي يوزعها لتثقيف كوادره، والمجلة التي ينشرها دوريًّا لشرح برنامجه ومنهاجه لأبناء الجزائر وغيرهم ممن يتابعون تطور فكره ومعالم خططه المستقبلية.

منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران زاد تركيزه على الناحية الإسلامية وإبرازه لها في كتاباته وأحاديثه، وكان يحدثني كثيرًا عن سروره بانتصار الإسلام في إيران، وإعجابه بشخصية "الخميني" حتى قال لي ذ ات مرة إنه سوف يعود للجزائر قريبًا ليقود ثورة شعبية عارمة يمكنها أن تكتسح كل عناصر الفساد في المجتمع وخاصة النظام الحاكم ورموزه وقياداته

ويبشرني بأنه سيأتي قريبًا اليوم الذي يعود فيه لبلاده ظافرًا حاملاً علم الثورة الإسلامية في الجزائر كما حملها "الخميني" في إيران، مع فارق واحد كان يؤكده دائمًا وهو عدم تمكين العلماء والفقهاء من السلطة؛ لأن هذه كانت نقطة ثابتة عنده منذ كان من مؤيدي حزب الشعب الذي أسسه "مصالي" الذي دخل أنصاره في معركة مع جمعية العلماء لإحكام سيطرتهم على الجماهير رافعين شعار الاستقلال الذي كان محظورًا على العلماء أن ينطقوا به وإلا أقفلت مدارسهم وحرموا من أي نشاط ثقافي للدعوة والتربية.

كان بن بللا يتوسع في شرح مظاهر الفساد الإداري والانحراف الذي جعل الشعب يكره الحكم القائم الذي يستغل رصيد جبهة التحرير الوطني ويرفع شعارها، وأن دكتاتورية الحزب الواحد باسم الاشتراكية مكنت عناصر الفساد والنفاق والاستغلال من الزحف على مراكز القوى حتى احتكرت مفاتيح السلطة وأفسدت النظام كله وكان نقده من هذه الناحية يوجهه بصفة خاصة إلى الرئيس الشاذلي بن جديد وحاشيته من كبار الضباط والمستوزرين وجماعات المنتفعين الذين يستغلون انفراد جبهة التحرير بالسلطة لتحقيق مطامعهم وأهوائهم وكان يشير من حين لآخر إلى أن شكوى الجماهير من الفساد الإداري والأخلاقي هي من أهم عوامل تأييدهم للتيار الإسلامي

وتزيد من تطلعهم إلى كل شعار يتصل بالإسلام لاعتقاد الجميع بأن مبادئ الإسلام وقيمه الأخلاقية والسلوكية هي وحدها التي يمكن أن تطهر المجتمع من عناصر الاستغلال والفساد... وكان يبدي في حديثه أنه لذلك مصر على رفع الشعار الإسلامي وإن كنت قد لاحظت أن بعض الإخوة العاملين معه يحرصون على عدم التركيز عليه...

ومع ذلك فإن هذا الاتجاه بقي واضحًا في أحاديثه، ولذلك كان يكثر من عبارات الاعجاب بالخميني وثورته في إيران... حتى قال لي مرة إنه يتمنى أن يعود إلى الجزائر قائدًا لثورة مماثلة لثورة الخميني الإسلامية... ومن الناحية العربية كان كثير الشكوك من الخلافات والنزاعات بين الدول العربية حتى قال لي في يوم من الأيام إنه يدعو الله أن يقيض للعرب من يوحدهم، ويتمنى ذلك، وأنه مستعد لتأييده... ولو كان شيطانًا كبيرًا...

ضرورة التنسيق (1991م)

جاء إلى مكة "الشيخ عباس مدني" لأداء العمرة، وكانت فرصة تحدثنا فيها طويلاً وقد فهمت من أحاديثي معه ومع غيره أن الجماهير تدفع الجبهة دفعًا لرفع شعارات تثير الحكومة وجبهة التحرير الحاكمة، وقد تؤدي إلى التصادم معها، وقد حذرته من ترك زمام الجبهة في يد عامة الجماهير العاطفية الثائرة ضد النظام والحزب الحاكم

وطلبت منه ألا يجاري الجماهير في هذا الاندفاع، كما اقترحت عليه ألا يحاول توسيع نطاق عمل جبهة الإنقاذ، وأن يكتفي بالعمل السياسي والحزبي، ويترك مجال الدعوة والتربية لجماعة الإخوان في إطار (جمعية الإرشاد)، كما أوضحت في رسالتي التي تركتها له في الجزائر، بل أضفت لذلك رأيي بعدم الاسترسال في التشهير بجبهة التحرير لأن لها دورًا لا يمكن تجاهله في المعترك السياسي...

قلت له: إنها أقرب الأحزاب إلى جبهة الإنقاذ، ويجمع بينهما العروبة والوطنية الصادقة والعمل لمقاومة المؤامرات الأجنبية؛ ولذلك فإنه في حالة وجود توازن بينهما فإن النظام الديمقراطي سيكون سليمًا، ويكون هناك تداول حقيقي للسلطة، ويمكن لهما أن يقفا صفًا واحدًا لمواجهة المؤامرات الخارجية التي تمول تيارات فرانكفونية أو إلحادية أو انفصالية أو علمانية، تمثلها في الغالب أحزاب مصطنعة لا تستند إلى رصيد شعبي

ولذلك فإن كثيرًا منها تستجدي الدعم والتوجيه الأجنبي المعادي للعروبة والإسلام وتعوق التقدم الحقيقي الذي يتوقف على التقارب والتضامن مع جميع الشعوب العربية والإسلامية والإفريقية المتحررة هذه الأحزاب المصطنعة العميلة للقوى الأجنبية بعضها لا يجد وسيلة للبقاء إلا التعاون مع السلطة القائمة مهما تكون سياستها، وبعضهم يدفعها دفعًا للارتباط بالنفوذ الأجنبي.

قال لي عباس مدني إن له عتابًا على الإخوان المسلمين؛ لأنهم يعطون للشيخ محفوظ نحناح (كارت بلانش) أي تفويضًا مطلقًا جعله يعتبر الدعوة ملكًا شخصيًّا له، ويسير في الجزائر في طريق التعاون مع الحكومة ومساعدتها، لوقف دعاية الجبهة وتعطيل نشاطها بمناوشات كثيرة.

وذكر لي أنه حضر إلى مكة في موسم الحج الماضي وقابل "المرشد"، وأبدى له رأيه فيما يقوم به الشيخ محفوظ، لكنه نصحه بالتفاهم مع محفوظ، فغضب لذلك وانصرف عنه وعن "الإخوان" في الجزائر، وبدأ العمل مع العناصر الإسلامية الأخرى وأنشأنا هذه الجبهة التي يقاومها الآن الشيخ محفوظ ومن معه.

اقترحت عليه أن يكتب خطابًا للمرشد، ووعدته بأن أقوم بمحاولة التوفيق أو التنسيق بينهم، فرحب بذلك وكتب الخطاب، واتفقنا على أن يرسله إلى القاهرة مع أحد أصدقائه، وعندما عدت للقاهرة وجدت أن "المرشد" قد أعد خطابًا مشجعًا للرد على هذه الرسالة، فاقترحت عليه أن أحمل الرد معي لأسلمه بنفسي للشيخ (عباس مدني)؛ لأنني اعتزمت الذهاب للجزائر، لحضور ندوة عن "قضايا المستقبل الإسلامي".

كان المنظم لهذه الندوة هو الأستاذ محمد الهاشمي الحامدي، أحد المحررين في الشرق الأوسط في ذلك الوقت بالتعاون مع السلطات الجزائرية التي كان يمثلها مركز البحوث الاستراتيجية الجزائري، ويرأسه صديقي القديم السيد محمد يزيد... وعندما وصلت إلى مطار الجزائر وجدت أن جميع الجهات الرسمية تعمل لإنجاح هذا اللقاء، وكان يمثل الحكومة الأستاذ محمد يزيد، الي عملت معه مدة طويلة عندما كان في فرنسا

وقد سر بلقائي وحدثني كثيرًا عن الندوة وأهدافها، وأوضح لي أن الرئيس (بن جديد) يريد ألا تأخذ الندوة صفة رسمية وأن يبقى لها طابعها الشعبي؛ ولذلك دعوا لها عددًا من قادة الفكر العربي والإسلامي وخاصة من الإخوان المسلمين في مصر والجزائر، وقد توقعت أن يكون معهم عباس مدني وعلي بلحاج وعندما وصلت إلى فندق الأوراسي، اتصلت بالشيخ عباس مدني فحضر لي

ولما سألته عن مشاركته في الندوة، قال: إنه لم توجه له دعوة لذلك، رغم أنهم دعوا كثيرًا من العناصر الإسلامية في الداخل والخارج، وسارعت بمقابلة الأستاذ الحامدي وسألته لماذا لم توجه دعوة للشيخ عباس مدني وقادة جبهة الإنقاذ فقال: إنه دعاهم ولكنهم احتجوا بأنهم لا يحضرون ندوة تنظمها الحكومة وتنفق عليها، فقلت له إن الشيخ عباس مدني قال: إنه لم تصله أي دعوة، ولا يليق أن يكون بعيدًا عن هذا اللقاء، واقترحت عليه أن يعطيني دعوة مكتوبة للشيخ عباس؛

لأقدمها له بنفسي حتى لا يكون له عذر فوعد بذلك لكنه تعرب... وماطل، ولم يفعل شيئًا، وفهمت أن هناك مانعًا سياسيًّا، وفي أحاديثي مع الأستاذ محمد يزيد أدركت أن الحكومة لا تحرص على مشاركة الجبهة في هذا اللقاء مما استنتج منه البعض أن هدف المنظمين للندوة هو عزل ذوي الفكر الإسلامي في خارج الجزائر عن جبهة الإنقاذ الجزائرية، لكنهم لم ينجحوا في ذلك؛

لأن كثيرًا من المدعوين للندوة التقوا بالشيخ (عباسي مدني)، وزاروا مقر الجبهة في العاصمة، بل إن منهم من أخر عودته لبلاده وذهب إلى بعض الاجتماعات التي تنظمها جبهة الإنقاذ في الأقاليم، أما أنا فقد قللت من حضوري في اجتماعات الندوة واكتفيت بتلخيص البحث الذي أعددته لها عن نموذج مقترح لمواجهة الحكم الشمولي في المستقبل وكنت أقضي أغلب وقتي في لقاءاتي مع الشيخ عباسي وأصحابه كلما سنحت لي الفرصة

بل اقترحت على قادة الإخوان المصريين أن يعقدوا اجتماعًا للتقريب بينه وبين الشيخ محفوظ نحناح، وعقد هذا الاجتماع فعلاً بمطعم الفندق، وجاء الشيخ عباسي وتعشى معنا وجلس مع الجميع، وعندما بدأنا الحوار تجمعت عناصر كثيرة من الحاضرين في المطعم، وبدأ بعضهم يتدخل في الحوار، فاحتج الشيخ عباسي وطلب إنهاء الجلسة؛ لأن المكان لا يصلح لهذا الحديث وقد اندس فيه بعض عملاء المخابرات... فلابد من مكان آخر.

تكررت لقاءاتي مع "الشيخ عباس مدني" في غرفتي بالفندق، وكان عددهم من المشاركين في الندوة من المصريين يشاركون في هذه اللقاءات، وفيما يخص الندوة اقترحت عليهم أن تتحول إلى مؤسسة دائمة تنظم لقاءات وتتخذ المواقف الضرورية للتنسيق بين الهيئات الإسلامية حتى لا تشغلهم المنافسات والخصومات فيما بينهم عن مواجهة القوى الأجنبية المعادية للإسلام

واقترح الشيخ يوسف القرضاوي أن تكون بدايته تأسيس اتحاد للكتاب الإسلاميين و...ووافق عدد منهم ووقعوا بيانًا لذلك؛ لأنهم اعتقدوا أن الجزائر سوف تحتضن المشروع واقترحت على المنظمين للندوة إدخال ذلك في توصيات الندوة لكنهم ماطلوا... وتهربوا واعتقدت أن سبب المماطلة هو أن منظمي اللقاء أحسوا أنني على علاقة وثيقة مع الشيخ عباسي، وقادة الجبهة...

إنني عرضت هذا الاقتراح فعلاً على "الشيخ عباسي"، فوافق عليه، وبدأت العمل له على هذا الأساس، ولما سافر عباسي خارج العاصمة طلبت من أحد أصدقائي أن يتصل بالشيخ علي بلحاج، لكي ألتقي معه، وحضر فعلاً مع أحد أصدقائه ولكنه رفض دخول الفندق فركبت معه السيارة، وجلسنا نتحدث فيها في أحد الطرق القريبة من الفندق وشمل حديثنا أمورًا عديدة منها هذا الاقتراح فوافق عليه

ثم دعاني أحد أصدقائنا، الدكتور صديق التاوتي، ودعاه أيضًا للغداء معه في منزله، وكانت فرصة أخرى للحوار ركزت فيها على فكرة الوحدة الإسلامية والتضامن بين جميع الهيئات والتنسيق بين جميع عناصر التيار الإسلامي، وهذا التنسيق يستلزم تخصص كل منها بإطار معين إقليمي أو نوعي حتى لا يحدث تزاحم أو تنافس أو خصام فيما بينهم.

وفي إحدى زياراتي لمقر جبهة الإنقاذ حضرت اجتماعًا للجنة التنفيذية للجبهة وكان من بينهم من عرفتهم من قبل شخصيًّا، وآخرون كانوا يعرفون الإخوان قديمًا، ويتعابون نشاطهم ويؤيدونه، لكن البعض أعلن عتابه لقادة "الإخوان" في مصر بسبب سكوتهم عن الخطة التي يسير فيها الشيخ نحناح، ويعتبرونها منحازة للحكومة وممالئة للسلطة ولجبهة التحرير. قال لي الشيخ عباسي: إنه بصدد إعداد برنامج للجبهة، وطلب مني أن أعاونهم في ذلك، ووعد بأن يرسل لي مسودته لأطلع عليها وأبدي ملاحظاتي بشأنها، ووافقت على ذلك.

وتأكيدًا لما قلته له ولإخوانه سلمته ورقة تبين بوضوح رأيي في ضرورة التنسيق بينه وبين الإخوان (أي جمعية الإرشاد)، بل وبين جبهة التحرير الوطني أيضًا، وأن يكون محور عمل الجميع ومناهجهم هو فكرة الوحدة الشاملة شواء في الإطار المغاربي أو العربي أو الإسلامي وسوف أعرض نصها على القارئ، لأن التنسيق المطلوب لا يقتصر على الحركات الإسلامية بل يشمل كل الاتجاهات الوطنية الأصيلة التي تقاوم النزعات الإلحادية والانفصالية والعميلة للقوى الأجنبية... مهما تكن الشعارات التي ترفعها.

سيادة الشريعة الإسلامية "قضية المستقبل"

نشرت في عام (1988م) كتابًا عن (سيادة الشريعة الإسلامية)، واعتبرت هذا المبدأ من أهم مزايا الفقه الإسلامي التي يجب أن نفخر بها ونقدمها للعالم الذي يحتاج إليها لوقف تيار البغي في الداخل، والعدوان الخارجي الاستعماري الذي يزداد خطره يومًا بعد يوم في جميع أنحاء العالم، وأنها لذلك في نظري أول قضايا المستقبل.

وقرأت بمحض الصدفة في جريدة (الشرق الأوسط) أن هناك ندوة عن (قضايا المستقبل في العالم الإسلامي) وأنها ستعقد في الجزائر، ويدعو لها أحد كبار محرري تلك الجريدة الأستاذ الهاشمي الحامدي، ولذلك سارعت بالكتابة إليه وأخطرته بأنني سوف أحضر للمشاركة في تلك الندوة، وإن لم يصلني منه دعوة، ويظهر أنه فوجئ بذلك؛ لأنه لم يكن له معرفة سابقة بعلاقتي القديمة مع الجزائر والجزائريين، لكني وجدته في المطار يستقبلني كما استقبل غيري ممن دعاهم للمشاركة في الندوة.

وفي الفندق الذي نزلنا فيه التقيت ثانية بالسيد محمد يزيد، وهو من قدماء أعضاء حزب الشعب الذي عرفته في باريس ممثلاً للحزب في عام (1947م) ولي معه صداقة قديمة فأشار إلي أنه المكلف بالإشراف على الندوة من قبل رئيس الجمهورية. ذهبت لحضور الندوة لعرض رأيي الخاص بضرورة تقديم مبدأ سيادة الشريعة في الفقه الإسلامي، باعتباره أول قضية مستقبلية يحتاجها العالم لمواجهة الطغيان والاستعمار. في نظري أن الاتجاه المستقبلي للفكر الإسلامي، يوجب علينا أن نقدم العالم اجتهادات فقهية عصرية لاستنباط المبادئ الدستورية والقواعد الدولية التي تقوم على مبدأ سيادة الشريعة الإلهية في المجتمع واستقلالها عن الدول والحكام.

ولا يمكن أن نقتحم هذا الميدان إلا إذا تحررنا من مركب النقص الذي كان يدفع كثيرًا من مفكرينا إلى الاكتفاء بالوقوف عند حد الدفاع عن مبادئنا، وكان هذا الدفاع في نظر كثيرين يكفي فيه أن نثبت أن أقصى ما تقدمه شريعتنا هو أن توفر لنا المبادئ التي توصلت إليها النظريات العصرية والفكر الأوروبي، وليس هذا كافيًا في نظرنا.

إن نقطة البداية في الدراسة المستقبلية للفكر الإسلامي يجب أن تكون: إبراز المبادئ التي قررتها شريعتنا، ولكن النظريات العصرية لم تصل إليها حتى الآن، وهي في نظرنا لابد أن تسير نحوها وتسعى لإقرارها في المستقبل، وأول مثال من هذه المبادئ في نظرنا هو مبدأ سيادة الشريعة الإلهية على المجتمع والدول، واستقلال العلم والفقه الذي يستنبط أحكامها متحررًا عن سلطة الدولة وحكامها وتقييده لما يسمى الآن بسيادتها التشريعية، ويصبح الفقه والفكر هما المصدر الوحيد المباشر لتقنيناتها وتشريعاتها ودساتيرها. إن هذه البداية هي تبعير عن أصالة الفكر الإسلامي وسموه وسبقه للفكر العصري.

صحيح أن السبق الزمني قد أثبته المفكرون الإسلاميون الذين وقفوا موقف الدفاع عن مبادئ الفكر الإسلامي التي لها نظير في النظم العصرية مثل مبدأ (الفصل بين السلطات) وكذلك مبدأ (مساءلة الحكام) و(حق الأمة في اختيارهم ومحاسبتهم وعزلهم بمعرفة أهل الحل والعقد الذين يمثلونها)، وهو الذي يعبر عنه بـ(سيادة الشعب) التي هي أساس النظم الديمقراطية حاليًا. هذه المبادئ التي توصلت إليها النظريات الأوروبية في العصر الحديث، قد قررتها الشريعة قبل ذلك بألف عام على الأقل، وهذا سبق مؤكد لاشك فيه.

لكن مزايا شريعتنا لا تقف عند هذا الحد، إذ إن كثيرًا من المبادئ التي قررتها تعتبر في العصر الحاضر مبادئ مستقبلية، بمعنى أنها ليست موجودة الآن في النظريات أو النظيم العصرية، ولكننا واثقون من أننا في أشد الحاجة إليها لحماية الإنسانية من الأخطار التي تواجهها في الحاضر والمستقبل... وأن التقدم الإنساني سوف يتجه نحوها، وأن واجبنا هو أن نقدمها للعالم في المستقبل.

إذا كان هناك من يشك في حاجة النظم العصرية إلى هذا المبدأ الشرعي، فإننا نؤكد له بأن النظم الحديثة قد أقرت بهذه الحاجة، بل إنها سارت خطوات عديدة في هذا الاتجاه ويكفي أن نذكر من هذه الخطوات ما يلي:

أولاً: النظم الدستورية الاتحادية "الفيدرالية"...

يكفي أن نذكر كنموذج لها (الدستور الأمريكي) الذي يقوم على مبدأ تحجيم سيادة الدولة وتقييدها من ناحيتين:

(أ) الدولة في هذا الدستور أصبحت (دويلة) وهي ما نسميه (الولاية) في اللغة العربية، وتعتبر الولايات أو الدويلات أو الدول الفيدرالية أجزاء داخل الاتحاد الأمريكي وخاضعة له ومقيدة بسلطانه، وعلى ذلك فهي لا تتمتع بما يسمى السيادة التي تدعيها الدول الصغيرة الناشئة الضعيفة المتفرقة في العالم الثالث، والتي يحاول حكامها أن يتخذوا سيادتها مبررًا لاستعباد شعوبها وأفرادها بواسطة قوانين وضعية لا تلتزم بالشريعة السماوية.
(ب) حكومة الاتحاد التي تهيمن على هذه الدول، لا توصف بأنها دولة، ولا تدعي لنفسها سيادة الدولة، وإنما تسمى (إدارة)، وعندما يريدون أن يتكلموا باسم الاتحاد، فإنما يذكرون (الأمة)، وكلمة الأمة تفتح الباب لوجود مؤسسات متعددة مستقلة عن إدارة الاتحاد

مثل:

  1. الدستور الاتحادي الذي يلتزم الاتحاد وجميع الولايات أو الدويلات بالخضوع لمبادئه وأحكامه.
  2. المحكمة العليا التي تستقل بحماية الدستور وتفسيره وتعطيل التشريعات أو القوانين الوضعية الفيدرالية أو المحلية التي ترى أنها تخالف نصوص الدستور الاتحادي.
  3. الكونجرس الذي يستقل عن الإدارة استقلالاً كبيرًا فيما يتعلق بوضع القوانين، بل ويختص كثيرًا من أعمال السياسة الخارجية إلى حد كبير، مثل إعلان الحرب وعقد المعاهدات، وما إلى ذلك.

يسير الرأي العام العالمي نحو إيجاد منظمات عالمية مثل عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، ومنظمة الأمم المتحدة القائمة حاليًا، والمنظمات المنبثقة عنها مثل اليونسكو والهيئة العالمية للصحة والزراعة ومحكمة العدل الدولية، وغير ذلك. والهدف من هذه المنظمات هو إيجاد هيئات تعلو فوق الدول، وتستطيع اتخاذ قرارات لها طابع عالمي، ومن أهم هذه القرارات ما سمي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يستغل كثيرًا في الدعاية ضد النظم الاستبدادية.

والعيب الأساسي في هذه المنظمات الدولية أنها لا تتمتع بسلطة تنفيذية تستطيع بها أن تنفذ قراراتها أو تفرضها على الدول مما مكن الدول الكبرى من السيطرة عليها واستعمالها ستارًا للتدخل في شئون الدول الصغيرة، ولهذا فإنها لم تحقق الهدف الذي أنشئت من أجله وبقيت فقط منبرًا للحوار وأداة للداعاية التي تستغلها الدول الكبرى، لحماية ما تعتبره من مصالحها ومطامعها.

وقد استطاعت الدول الكبرى باستعمالها (حق الفيتو)، ثم عن طريق ما تقدمه لميزانية هذه المنظمات من مساهمة أن تعطي لنفسها سلطة فعلية مطلقة في الضغط عليها، ومنعها من أن تتخذ قرارات لا توافق أهواء حكامها أو مصالحها الأخرى مثل (إسرائيل) في نظر أمريكا و(الصرب) في نظر روسيا.

ومن ذلك يتبين أن هذه المنظمات عاجزة عن أن تحول دون طغيان الدول الكبرى على الشعوب الأخرى، كما أنها لا تستطيع أن تحد من استبداد الدول في داخل إقليمها، وخاصة إذا كانت موالية أو حليفة لإحدى القوى الكبرى؛ لأن كل هؤلاء يتسلحون بمبدأ السيادة التي تدعيها الدول الكبرى والدول الصغرى على السواء. لابد إذن من وجود قانون أسمى أو شريعة إلهية لها سيادة عليا تخضع لها الدول مجتمعة أو متفرقة، كبيرة أو صغيرة، وكذلك تلتزم بها المنظمات الدولية، ويحاولون الآن أن يحل محلها القانون الطبيعي أو مبادئ العدالة وحقوق الإنسان.

لقد حاول المفكرون والقانونيون المعاصرون إيجاد قانون يعلو على سلطان الدول ويقيد سيادتها سماه البعض (القانون الطبيعي) ويسميه الآخرون (المبادئ الإنسانية العليا) ولكن هذه التسميات جوفاء ليس لها محتوى معروف أو محدد أو ثابت تؤمن به الشعوب والأفراد، ويمكنها من أن تمارس حقها في تقييد سلطات الدول وإلزام الحكومات بالوقوف عند حدودها؛

ولذلك بقي القانون الطبيعي والمبادئ الإنسانية والمنظمات العالمية وما يصدر عنها من قرارات أو إعلانات مجرد مواد للدعاية تستغلها الدول في الداخل والخارج دون أن تلتزم بها فعلاً، زيادة على ذلك أصبحت الدول الكبرى التي تسيطر على الإعلام العالمي، ولديها الإمكانات المالية والتقنية للسيطرة على الدعاية والتوجيه الثقافي في جميع أنحاء العالم تتجه عمليًا إلى استغلال هذا كله لزيادة هيمنتها وفرض طغيانها على الأمم والشعوب والأفراد.

إن هذه المبادئ الإنسانية والقانون الطبيعي مازالت أفكارًا محصورة في كتابات الفلاسفة ودوائر الفكر والإعلام – ولا دور للجماهير والأفراد في فرض الالتزام بها- لكن شريعتنا قد عالجت هذا النقص عندما ربطت مبادئها وأصولها بمصادر سماوية وعقيدة إلهية خالدة، يؤمن بها الأفراد ويستندون إليها في الدفاع عن حرياتهم وحقوقهم الإنسانية.

يكفي الشريعة الإسلامية فخرًا أنها قدمت للإنسانية منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا الحل الوحيد الذي يمكن به إعطاء الأفراد والشعوب قوة إيمانية وعقيدة تمكنها من فرض سيادة الشريعة على الدولة والمجتمع، استنادًا إلى مصادرها الإلهية وطابعها السماوي الذي يمد الأفراد والشعوب بطاقة عقيدية تستطيع بها أن تفرض على الدول والحكومات عدم استخدام سلطة التشريع الوضعي لفرض طغيانها، حتى ولو استطاع الحكام ممارسة أعمال استبدادية فإنها تبقى تصرفات غير شرعية.

ثم إن شريعتنا حصنت أحكامها في نطاق العلم والفقه، إنها جعلت استنباط الأحكام والمبادئ في الإسلام من اختصاص العلم والفكر الحر، لا من اختصاص الدولة بحجة ممارسة السيادة. إن هذا المبدأ الشرعي هو السلاح الذي يحمي الأفراد والشعوب من طغيان الدول في الداخل والخارج بحجة ممارسة سيادتها التشريعية، وفرض قوانين وقرارات وضعية لا تتقيد بمبادئ إلهية أو حدود شرعية.

بقي أن يوجد بيننا من يكونون على المستوى الذي يمكنهم من الاعتزاز بهذه المبادئ المستقبلية وتقديمها للعالم كعقيدة سماوية، لابد منها لإنقاذ مستقبل الشعوب والأفراد من طغيان الدول والحكام، ولا يكون ذلك إلا بممارستها فعلاً في نظمنا الدستورية وفرضها على دولنا وحكامنا باسم سيادة الشريعة والالتزام بها قبل أن نخاطب الآخرين... أو ندعو إليها... وقد تقدمت للمشاركة في الندوة لهذا الغرض...

ندوة قضايا المستقبل ودعوة لوقف تيار النظم الشمولية

هذه هي الورقة التي قدمتها لندوة الجزائر عن قضايا المستقبل، أعيد نشرها؛ لأننا ما زلنا في أشد الحاجة لما جاء بها:

الدراسة المستقبلية للفكر الإسلامي تستلزم عرض الأفكار التي يمكن لأصحاب الفكر الإسلامي ودعاته وباحثيه أن يقدموها لأمتهم وللعالم كله، لعلاج المشاكل التي يواجهها العالم في المستقبل وتدعيم مسيرة الإنسانية نحو السلام والأمن والنمو الحضاري.

ونقصد بالدراسات المستقبلية تلك الآراء التي تتجاوز الخطط الواقعية التي تعلنها الدول والحكومات، أو البرامج السياسية التي تلتزم بها الأحزاب؛ لأن الفكر الحر يجب أن يسبق ما ترسمه لنفسها الدول أو الحكومات أو الأحزاب، بل والحركات السياسية أيضًا من خطط وبرامج ليفتح أمامها آفاق المستقبل أوسع وأبعد مما تصل إليه، ولكنه مستقبل عملي يستند إلى أصول عملية أو جذور تاريخية، ولا يدخل في نطاق الخيال، حتى ولو سميناه خيالاً علميًّا.

إن الأفكار المستقبلية الإسلامية يمكن أن تمتد إلى جميع نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وهي قابلة للتنوع والتعدد، لكن تعددها لا يعني اختلافها ولا التعارض بينها طالما أنها تستمد من منبع واحد هو عقيدة الإسلام وشريعته وأن هدفها هو أن ترسلم خطوط المنهج الإسلامي البعيد المدى على ضوء تاريخه في الماضي وواقعه وواقع العالم كله في الحاضر، وما يحتمل أن تواجهه أمتنا ويواجهه العالم كله في المستقبل.

ونكتفي الآن بفكرة واحدة نعتقد أنها تعبر تعبيرًا واضحًا عما يجب أن يقدمه الإسلام وشريعته لمستقبل الإنسانية التي يهددها خطر الطغيان والعدوان الذي يمارسه الحكم الشمولي الذي تنتشر صوره وتزداد نماذجه في جميع أنحاء العالم، وفي كثير من أقطارنا بصفة خاصة. إن ما يجب علينا تقديمه للنظم الدستورية في المستقبل هو المبدأ الشرعي الأصيل الذي يعطي للشريعة السيادة في المجتمع، ويجعلها مستقلة عن سلطات الدولة مهيمنة عليها فلا تستطيع الدولة أن تصدر قوانين تتعارض مع مبادئها وأصولها.

هذا المبدأ يؤدي إلى الحد من سلطات الدولة التشريعية ومن يمارسونها أو يتكلمون باسمها، فلا يستطيعون ممارسة سلطة مطلقة أو طغيان شمولي بلا حدود ولا قيود استنادًا إلى ما يسمى بسيادة الدولة بما في ذلك ما يسمى الآن بالسيادة التشريعية. إن طغيان الحكام في كثير من دول العالم المتقدمة والمتخلفة يرجع سببه الأول إلى تضخم سلطة الدولة وتغولها وإهدارها لحقوق الأفراد وحرياتهم، وهذا ناتج عن إعطائها سلطة مطلقة في التشريع الوضعي اعتمادًا على النظريات الأوروبية التي تبنت فكرة "أن القوانين تعبير عن إرادة الدولة" هذه الفكرة تجعل سيادة القانون مجرد محاولة للحد من سلطة الموظفين العاملين بالدولة

لكنها لا تحد من سلطة الدولة ذاتها أو الجهة التي تتولى إصدار القوانين في الدولة ومن يسيطرون عليها ويتكلمون باسمها (بالحق أو بالباطل) لأنهم يمارسون سيادة تشريعية مطلقة تمكنهم من إصدار النصوص والقراءات والإجراءات التي تسمح لهم بكل ما تريده أهواؤهم تحت ستار زائف من الشعارات الكاذبة مثل سيادة الدولة، أو الثورية أو الاشتراكية أو الليبرالية الرأسمالية...

قد يقول البعض إن الطغيان الشمولي محصور الآن في البلاد التي تحكمها دكتاتوريات فردية أو جماعية (بواسطة دكتاتورية الحزب الواحد أو الحزب المصطنع الذي يصنع أغلبيته بالتزييف والتزوير) أما ما يسمى بالديمقراطيات الرأسمالية في العالم الغربي فإنها في نظرهم لا تمارس الحكم الشمولي؛ لأنها تعترف لأفراد شعوبها بحرياتهم وتحمي حقوق الإنسان في بلادها!!!

إن من يقولون هذا القول يستبعدون أن نصف حكومات هذه الدول (الديمقراطية) تمارس الطغيان الشمولي استنادًا إلى أن سلطتها في التشريع مطلقة لا تتقيد بدين ولا قيم أخلاقية ثابتة، ولا شريعة سماوية... ونحن نرد على هؤلاء بأن هذه الديمقراطيات لا تعترف بالحقوق الإنسانية والحريات للشعوب المستضعفة التي تسيطر عليها

أو تستغلها أو تستذلها وتستعمل لإخضاعها لنفوذها الاستعماري أو سلطانها اسم النظام العالمي أو بواسطة مؤامرات الغدر والحصار والانقلابات والغعزو العسكري، وتصدر لها عوامل الفساد والاسبتداد، كما تصدر لها النفايات الضارة أو المشعة أو السامة، وتعمل كل ما تستطيع لكي تدفعها دفعًا في طريق الإبادة والفناء. إننا نعتقد أن ما توفره تلك الديمقراطيات لأفرادها من حقوق إنسانية أو حريات ديمقراطية، إنما تحتكرها، وتخص بها المقيمين على إقليمها أو لصالح أبنائها، لكن هذا لا يجوز أن يخفى عنا سياستها العدوانية وطغيانها على حقوق الآخرين، من أبناء الشعوب المستضعفة أو المستعمرة أو الناشئة.

إن ما يتمتع به مواطنو الديمقراطيات الغربية من حقوق ليس إلا نوعًا من الترف الذي يوفره لهم حكامها مقابل مشاركتهم في العدوان والطغيان الإمبريالي والاستعماري الذي تمارسه تلك الدول على شعوب أخرى، ولا تختلف هذه الميزات التي تتوفر لمواطني تلك الدول عن الترف والحريات التي تتمتع بها طبقة الحكام وأعوانهم وحاشيتهم من رجال السلطة وأعضاء الحزب الواحد المستبد في الدول الدكتاتورية الشمولية

والفرق الوحيد بين الحالتين هو أن طغيان الحكومات الدكتاتورية يكون في إقليمها وبلادها على أبناء شعبها، أما طغيان الديمقراطيات الغربية فإنه يتجاوز حدودها، وتقاسي منه أقطار شاسعة تدخل ضمن إمبراطوريتها الاستعمارية أو ضمن نطاق نفوذها وهيمنتها العالمية أو ضمن ما يسمونه العالم الثالث...

إذا كانت الدكتاتوريات العسكرية أو الشيوعية تمارس الطغيان ضد شعوبها، فإن الديمقراطيات الأوروبية والأمريكية تمارس الطغيان فعلاً ضد شعوب أخرى مثل شعب فلسطين وكثير من شعوب أفريقية والشرق الأوسط والعالم الإسلامي والشعوب الأسيوية وأمريكا اللاتينية التي تفرض عليها الدول الديمقراطية الكبرى هيمنتها ونفوذها بطريق مباشر أو غير مباشر وتسغل ثرواتها، وتستخدم لاستغلالها حكامًا مستبدين تدعم استبدادهم بالأسلحة والأموال وتشملهم بحمايتها وإن كانوا من أبناء تلك البلاد.

إن ادعاء الدولة سلطة مطلقة في سياستها الخارجية أو الداخلية أو في وضع القوانين سواء كان نظامها دكتاتوريًّا أو ديمقراطيًّا، يؤدي إلى وثنية الدولة، وهي صورة عصرية للوثنيات القديمة التي كانت تسمح للحكام بالتأله وممارسة السلطة التشريعية المطلقة التي لا تتقيد بشريعة سماوية، وتمكن الدولة أو من يمارس سلطتها أو يتكلم باسمها أو يدعي تمثيلها من ممارسة خصائص الألوهية كما فعل فرعون وأمثاله من رؤساء الدول أو الحكومات التي تسير على أنها لا تسأل عما تفعل.

لقد قضى الإسلام على وثنية الدولة، وقررت شريعتنا نزع سلطة التشريع المطلقة من الحكام الذين يمثلونها، وأصبحت الشريعة تستمد من مصادر إلهية عبر عنها الوحي ويكملها ويفسرها ويعبر عنها العلم والفكر الاجتهادي المستقل عن سلطة الحكام وبذلك لا تسمح شريعتنا للحكام أو من يستولون على السلطة بممارسة سلطة تشريعية مطلقة باسم سيادة الدولة أيًّا كانت صورتها أو نظام الحكم فيها بحجة أن التشريع تعبير عن إرادة الدولة. في اعتقادنا أن هذا المبدأ في سيادة الشريعة يقدم للعالم في المستقبل الفكرة التي هو في أشد الحاجة إليها للحد من تأله الدولة أو تغول الحكام واستبداد النظم وطغيانها الذي تمارسه ضد شعوبها أو ضد الشعوب الأخرى، والذي نرى آثاره في كثير من الدول المتقدمة أو المتخلفة.

إن الشريعة بهذا المبدأ تقدم للإنسانية وسيلة لوقف تيار استبداد الدكتاتوريات ضد إرادة شعوبها والحد من طغيان الدول الكبرى الاستعمارية التي تدعي لنفسها هيمنة عالمية تستعبد بها شعوب الدول الأخرى وتمارس ضد الشعوب الصغيرة أسوأ أساليب الاستغلال والطغيان بل والإبادة في بعض الأحيان كام يحدث في فلسطين والبوسنة والهرسك (والشيشان الآن) ولا يمنع من ذلك أن ترفع هذه الدول شعار الثورية أو الليبرالية أو الديمقراطية في داخل إقليمها.

إن هذه الفكرة الإسلامية المستمدة من سيادة الشريعة الإلهية واستقلالها عن سلطان الدولة وحكامها، واختصاص العلم والفكر الحر وحده باستنباط أحكامها مستقلاً عن الحكام والدول، هي في نظرنا الفكرة المستقبلية التي يستطيع الفقه الإسلامي أن يثري بها الفكر الإنساني في نطاق النظم الدستورية والعلاقات الدولية والإنسانية.

"مشروع" اتحاد الكتاب

عندما اجتمعنا في ندوة "قضايا المستقبل" في الجزائر، كان الشيخ "محمد الغزالي" قد استقال من منصبه كرئيس لجامعة الأمير عبد القادر الإسلامية رغم إلحاح الرئيس الشاذلي بن جديد عليه في الاستمرار بالجزائر، لكنه اعتذر لأسباب صحية، ورشح مكانه الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي الذي شجعته جهات كثيرة على قبول هذا الترشيح وقد بدأ فعلاً نشاطه بالجزائر في هذه الفترة الحرجة.

... كانت لي معه جلسات عديدة، وقد اقترحت عليه أن نستفيد من اجتماع عدد كبير من الكتاب والمفكرين الإسلاميين في هذه الندوة لكي نتفق معهم على إنشاء هيئة دائمة تجتمع دوريًّا للتشاور في بعض القضايا الفكرية، وتحدثت مع آخرين من أصدقائنا الحاضرين في الندوة ومنهم الشيخ "محمد الغزالي" فوافقوا جميعًا، وقدم الشيخ "يوسف القرضاوي" هذا الاقتراح أثناء المناقشات

واقترح أن تسمى (ندوة الكتاب) وطلب مني أن أعد ورقة بذلك وأعرضها على من يوافقون على الاشتراك في هذه الندوة، وأعددت صيغة البيان وسارعت بالحصول على توقيعات المؤيدين للفكرة في لقاءات جانبية، وترددنا كثيرًا في تحديد مقر الندوة، واستعرضنا عواصم العالم العربي، فاستقر رأي معظمنا على أن (الجزائر) أنسبها، لكي يكون هذا صورة أخرى لندوات الفكر الإسلامي التي كانت تحتضنها الجزائر من قبل.

وأنشر فيما يلي الأوراق التي ما زلت أحتفظ بها لهذا المشروع، وقد بلغ اهتمامي بهذا المشروع إلى حد أنني ذهبت إلى تونس وعرضت الأوراق على صديقي الشيخ "عبد الفتاح مورو" ، فواق على إضافة اسمه بخطه والتوقيع بذلك، وكل هذا كان أساسه التفاؤل بموقف الحكومة الجزائرية واستقرار الأحوال بهذا البلد العزيز، لكن آمالنا لم تتحقق إذ إن تطور المشاكل في الجزائر والانقلاب العسكري قد عطل المسيرة، ولم يتم إنشاء الاتحاد لأسباب عديدة أهمها اضطراب أحوال الجزائر مما دفع الشيخ القرضاوي إلى ترك الجزائر ومغادرتها بعد فترة قصيرة.

... أضيف هنا نص البيان الذي أعددته:

بيان بالنظام التأسيسي لمنتدى اتحاد الكتاب الإسلاميين

المشاركون في ندوة الجزائر حول قضايا المستقبل بدعوة كريمة من مركز دراسات المستقبل الإسلامي، ومعونة العهد الوطني للدراسات الاستراتيجية الشاملة بالجزائر في الفترة من (9 إلى 12 شوال 1410هـ الموافق 4 إلى 7مايو 1990م).

إيمانًا منا بأهمية الحوار والتشاور بين أصحاب الفكر، وحرصًا منا على الإسهام في مسيرة أمتنا ونهضتها ووحدتها، ورغبة في تمهيد السبيل لكل مشاركة إيجابية في التصدي لمواجهة مشاكل الحاضر والمستقبل وشعورًا منا بالحاجة إلى منتدى يتيح للجميع تبادل الرأي والحوار الحر

وافقنا على اقتراح الدكتور "يوسف القرضاوي" بإنشاء منتدى للفكر على الأسس التالية:

أولاً: تشكيل مجلس تنفيذي مؤقت لحين اجتماع الجمعية التأسيسية.

ثانيًا: تفويض المكتب التنفيذي لإعداد النظام الأساسي بواسطة الخبراء المختصين على أن يراعى فيه ما يلي:

  1. أن يكون الغرض منه إيجاد الوسائل اللازمة للحوار وتبدل الآراء بين الباحثين والمفكرين والكتاب الذين يعبرون عن فكر الأمة وتوجهاتها المستقبلية دون تمييز بينهم بسبب جنسياتهم أو معتقداتهم أو أماكن إقامتهم أو اتجاهاتهم الأيديولوجية.
  2. أن يكون هدفه هو تنمية روح التعاون والتضامن فيما بين الأعضاء للدفاع عن حرية الرأي وتشجيع الحوار وتبادل الآراء.
  3. أن يكون أعضاؤه هم المؤسسين الموقعين على هذا ومن ينضم إليهم من ذوي الرأي والعلم والثقافة، وتمنح لهم العضوية بقرار من المكتب بناءً على طلبهم وتزكية اثنين من الأعضاء.
  4. يشترك جميع الأعضاء في مداولات الجمعية العمومية، ويساهمون في النشاطات واللقاءات والمشروعات التي يقوم بها المنتدى.
  5. تقر الجمعية العمومية خطة عمل بناءً على اقتراح من المكتب لمدة سنتين، وقد فوض المجلس التأسيسي المكتب لكي يضع خطة السنتين الأوليين على أن تعرض على أول جمعية عمومية لمناقشتها وإقرارها.
  6. يختار المكتب رئيسًا وأمينًا عامًا ومراقبًا، ويضع نظامًا لتوزيع الاختصاصات والمسئوليات.
  7. الرئيس يمثل المنتدى أمام القضاء، وفي علاقاته مع الغير سواء كان أفرادًا أو هيئات خاصة أو جهات رسمية، وله أن يفوض أحد الأعضاء لينوب عنه في بعض اختصاصاته.
  8. للمكتب أن يختار رئيسًا مندوبًا يقوم بالعمل في حالة غياب الرئيس، ويعاونه في جميع الأحوال، كما أن له أن يختار أمينًا عامًا مساعدًا.
  9. تمويل نشاط المنتدى يعتمد على اشتراكات الأعضاء وتبرعاتهم، كما أن للمكتب أن يقبل التبرعات والهبات والأوقاف التي لا تقيد بشروط تخالف النظام أو الأهداف التي أنشئ من أجلها.
  10. يجوز للمكتب أن يقترح على الجمعية العمومية فصل العضو الذي يتخلف عن سداد اشتراكه لمدة سنتين، أو من يقوم بنشاط يتعارض مع رسالة وأهداف المنتدى.
  11. يعد المكتب الميزانية لكل دورة مالية تشمل عامين، ويعمل بها بعد إقرار الجمعية العمومية.
  12. للجمعية العمومية إدخال التعديلات التي تراها مناسبة على هذا النظام ويعمل بها فور إقرارها... والله الموفق.

المؤسسون

  1. الشيخ محمد الغزالي.
  2. الأستاذ محمد بريش.
  3. الدكتور يوسف القرضاوي.
  4. الأستاذ عادل حسين.
  5. الدكتور توفيق الشاوي.
  6. الدكتور محمد عمارة.
  7. الدكتور راشد المبارك.
  8. المستشار طارق البشري.
  9. الدكتور محمد سليم العوا.
  10. الشيخ محفوظ نحناح.
  11. الدكتور بشير موسى نافع.
  12. الدكتور حسن الترابي.
  13. الأستاذ إبراهيم بن علي الوزير.
  14. الأستاذ راشد الغنوشي.
  15. الدكتور محمد أحمد الرشيد.
  16. الدكتور توفيق القصير.
  17. الدكتور أحمد عثمان التويجري.
  18. الدكتور مانع الجهني.
  19. الدكتور عبد المجيد النجار.
  20. الأستاذ محمد فتحي عثمان.
  21. الأستاذ فهمي هويدي.
  22. الأستاذ منير شفيق.
  23. الأستاذ محمد الهاشمي الحامدي.
  24. الشيخ عبد الفتاح مورو.
  25. الدكتور أحمد عروة.

... وغيرهم لا داعي لذكرهم الآن...

تلا ذلك الاجتماع للمكتب التنفيذي المؤقت، وهذا هو محضره:

في اجتماع عقد بمدينة الجزائر لمناقشة الخطوات العملية لتنفيذ النظام الأساسي والبيان الصادر به، وبناءً عليه اقترح الأستاذ الدكتور "يوسف القرضاوي" تأسيس اتحاد للكتاب أو رابطة أو منتدى أو ندوة للمفكرين، وقد اتفق الموقعون على هذا البيان على أن يكونوا مؤسسين، كما اجتمع أعضاء المكتب التنفيذي المؤقت

وقرروا ما يلي:

(1) اختيار الإخوة الموقعين على هذا ليكونوا أعضاء في المجلس التنفيذي ومسئوليات كل منهم على النحو التالي:

شكل المجلس المؤقت على النحو التالي:

  1. الأستاذ الشيخ يوسف القرضاوي... رئيسًا.
  2. يقوم الأستاذ الشيخ محمد الغزالي بمهمة الرئيس المناوب.
  3. يقوم الدكتور توفيق الشاوي بمهمة الأمين العام (لحين اجتماعنا القادم).
  4. يكون الدكتور أحمد عروة أمينًا عامًا مناوبًا (لحين اجتماعنا القادم).
  5. يقسم الأعضاء إلى خمس مجموعات إقليمية هي (الشمال الإفريقي... مجموعة البحر الأحمر... الخليج العربي... الشرق الأدنى... المغتربون)، وتختار كل مجموعة إقليمية ممثلاً لها في المجلس التنفيذي، كما تختار عضوًا مناوبًا يحل محل ممثلها الأصلي في حالة غيابه.
  6. يتولى الأمين العام ومناوبه مهمة إعداد المقر، والحصول على الترخيص الرسمي.
  1. محمد سليم العوا.
  2. محمد الغزالي.
  3. راشد الغنوشي.
  4. يوسف القرضاوي.

وقد كان أول موضوع اقترحت مناقشته في إطار هذا الاتحاد هو موقف القوي الاستعمارية واستغلالها لكتاب المدعو سلمان رشدي، واتخاذه وسيلة لإثارة جماهير المسلمين وعامتهم كلما كان لهم فائدة في ذلك، وتحدثت مع بعض إخواني في ذلك فطلبوا مني إعداد اقتراح لعرضه في أول اجتماع للاتحاد، وقد أعددته فعلاً ولكنه لم يعرض ولم يناقش، ويحسن أن أعرضه لأن الموضوع في نظري يستحق التأمل وما زال يستلزم علاجًا حاسمًا...

من وجهة نظري سوف يكون هذا الموضوع أول تجربة يخوضها الاتحاد لإثبات قدرته على الدفاع عن مبدأ حرية الرأي، وحدود هذه الحرية من أجل وضع حد لاستغلال أعداء الإسلام كتاب المدعو سلمان رشدي، وذلك باقتراح أسلوب قانوني لمواجهة الحملة على مبادئ الإسلام ومقدساته، وأحكام الشريعة الغراء بعيدًا عن المزايدات الإعلامية الأجنبية التي يقصد بها إثارة العواطف الانفعالية للجماهيرية الإسلامية لاستغلال ما تؤدي إليه هذه الانفعالات من فوضى واضطرابات –إننا يجب أن نسعى لوضع الأمر في يد القضاء والمختصين من خبراء الفقه والقانون.

وأقترح أن يراعى في هذه القضية المبادئ الإسلامية الآتية:

  1. أنه لا يجوز لأي مسلم أن يقوم بأي عمل يهدد حياة الإنسان أو حريته إلا بناء على حكم قضائي صادر من محكمة شرعية، وأن يطبق ذلك على سلمان رشدي وأمثاله.
  2. أن الفتوى أو الفتاوى الصادرة في هذا الشأن لا تصدر إلا من محكمة إسلامية مختصة تنظر في الدعوى وفقًا للإجراءات الجنائية المقررة لتلك المحكمة من جانب سلطات الدولة أو الهيئة الدولية التي أنشأتها.
  3. أن التهمة التي تبرر حكم بالإعدام هي جريمة الردة عن الإسلام التي هي خيانة لأمته، ومن واجب المحكمة التي يقدم لها المتهم طبقًا للمبادئ الإسلامية أن تعطيه فرصة التوبة وفقًا لأحكام الشريعة قبل إصدار الحكم.
  4. أنه لا يجوز محاكمة المتهم عن جريمة الردة أو غيرها من الجرائم إلا بعد حضوره أو القبض عليه، وإعطائه فرصة للتوبة قبل الحكم عليه، وقبل تنفيذ الحكم.
  5. أن الحكم الصادر على المرتد لا ينفذ إلا بواسطة ولي الأمر في البلد الذي صدر فيه الحكم، وطبقًا للإجراءات المقررة في ذلك البلد.
  6. أنه لا يجوز للمسلم أن يمس سلامة المتهم أو يهدد حياته بدون تفويض السلطة المختصة في البلد الذي أصدر الحكم، وتحمل مسئوليته، ولا يكون ذلك إلا بعد صدور الحكم فعلاً.
  7. أن هناك احتمالاً كبيرًا أن تبادر إحدى القوى المعادية للإسلام بإغراء عملائها للاعتداء على حياة سلمان رشدي أو أمثاله؛ لكي ينسب الاعتداء للمسلمين، ويتخذ وسيلة للتشهير بهم، ودفع بعض الدول الأجنبية لاتخاذ إجراءات انتقامية.
  8. أن الذي يثير جماهير المسلمين وأفرادهم ليس هو ارتداد المدعو سلمان رشدي؛ لأن هناك مرتدين كثيرين يتباهون بذلك ويعلنونه في داخل أقطار العالم الإسلامي وخارجه لا يهتم بهم أحد، لكن استغلال الإعلام الأجنبي لهذا الكتاب ومبادرة بعض ذوي السلطان في الدول الأجنبية لتشجيعه، ودفع مؤلفه لإعلان تصريحات بذيئة تثير الجماهير ومسارعة بعض الحكومات والهيئات الأجنبية للدفاع عن الإهانات التي وجهها للإسلام ورسوله وتاريخه هي التي تثير جماهير المسلمين باعتبارها خيانة عظمى، ومن الصواب أن يوجه سخطهم وانتقادهم أولاً إلى تلك الدول والحكومات بدلاً من الوقوع في فخاخ الإعلام الأجنبي الذي يوجه العامة للانتقام من شخص معين؛ لكي يتخذ ذلك أداة لتنفيذ أهدافهم العدوانية ضد الإسلام والمسلمين، أو لكي يلبسوا من يؤيدونه رداء البطولة الزائفة.

يؤسفني أنه لم تتح لي إلى الآن فرصة الاستماع إلى آراء إخواني الذين أعددت هذه المقترحات لمناقشتها معهم، ومع ذلك فإني أرى أنه لا بأس من اطلاع القراء عليها، ومازلت أرى أننا في حاجة لموقف فكري حازم في موضوع الردة.

سطيف الحرة الأبية (1991م)

عرفت "سطيف" واستقر اسمها في ذاكرتي منذ سمعت أخبار العدوان الاستعماري عليها في (8/5/1945م)، ذلك العدوان الغادر الذي أسفر عن مصرع آلاف من أبنائها، والذي أثارني واستفزني وأنا شاب، فكتبت مقالتي التي جعلت عنوانها (سطيف والمجد الطريف) ونشرتها الرسالة منذ أكثر من خمسين عامًا. وفي عام (1991م) أتيحت لي الفرصة لرؤية (سطيف) التي أحببتها؛ لأنها شقيقة (فسنطينة) الغالية وشريكتها في كل عمل في سبيل (المجد الطريف)، مجد النهضة الإسلامية والجهاد ضد قوى البغي والعدوان.

كنت أتابع تطورات الحال في الجزائر، وقد بدأت تتلاشى أمارات التفاؤل الذي أنعشنا عندما كنا في ملتقى قضايا المستقبل حين بدأنا نفكر في إنشاء اتحاد للكتاب الإسلاميين ونجعل مقره هناك، لكن بعد ظهور نتائج الانتخابات البلدية لصالح جبهة الإنقاذ تراجعت الحكومة عن سياسة الانفتاح على الفكر والتيار الإسلامي وبدأت في سياستها لتعطيل الانتخابات البرلمانية بكل أساليب المراوغة والمماطلة مما أثار الرأي العام وقلق الجماهير المؤيدة لجبهة الإنقاذ، الذين ساءهم أن جهات أجنبية تفرض ذلك على الحكومة لتطول فترة حملتها ضد الإسلام والإسلاميين أطول مدة ممكنة حتى ييئس الرأي العام ويفتر حماس مؤيدي الجبهة

ولم يستطع قادة الجبهة السكوت على ذلك فدعوا إلى مظاهرة تتجه إلى مقر رئيس الجمهورية لكي يقدموا له مطالبتهم بتحديد موعد الانتخابات البرلمانية، وتكررت تصريحاتهم أن الجبهة لن تسكت على ذلك وسوف تدعو الشعب لتحمل مسئوليته وقد تضطر لإعلان الجهاد ضد السلطة التي تعطل حق الشعب في التعبير عن رأيه واختيار ممثليه وممارسة سيادته وسلطانه

وارتفعت نبرة التحدي من الطرفين بصورة أزعجت كثيرين من دعاة الاستقرار والوحدة بين الوطنيين، واقترح بعضهم علي أن أتوجه للجزائر لعمل شيء لتهدئة الأوضاع هناك، وكان موقف الحكومة سببًا لإشعال نار الفتنة داخل التيار الإسلامي نفسه، فقد تعددت حوادث التصادم بين أنصار الجبهة وأنصار الشيخ "محفوظ"

مما أحدث بلبلة وإزعاجًا لكثير من الإسلاميين وخاصة أولئك الذين يعطفون على جبهة الإنقاذ ويؤيدونها ويرون أن كل من يثير المشاكل لها إنما يعمل لصالح السلطة الاستبدادية بل ولصالح القوى الأجنبية التي لا تخفي خوفها من أن انتصار الجبهة في الانتخابات البرلمانية سوف يؤدي لوصولها إلى السلطة طبقًا للأصول الديمقراطية المعترف بها

وهنا دول كبرى لا يسرها ذلك ولا يخدم مصالحها في تلك البلاد، كما أن هناك حكومات عربية تعتبر مجرد التفكير في ذلك مصدر رعب لها؛ لأنها وصلت للسلطة بغير طريق ديمقراطي سنحن لي فرصة السفر عندما دعتني جماعة ثقافية من أبناء (سطيف) لحضور احتفال بذكرى حوادث عام (1945م) التي نشرت عنها مقالي بالرسالة

فسارعت للسفر إلى الجزائر، ومنها سافرت مع أحد أعضاء تلك الجماعة بالقطار، وكانت هذه أول مرة أسافر بالقطار في الجزائر، وألقيت محاضرة هناك وعرضت عليهم نسخة من مقالي الذي نشرته في عام (1945م)، وأنا في سن العشرين وسعدت بالحوار معهم فترة طويلة وودعتهم بعد أخذوا علي ميثاقًا أن أزورهم مرة أخرى، في ذكرى مرور خمسين عامًا على تلك الحوادث الأليمة وها هو ذا الموعد قد قرب وأنا أكتب هذه السطور في عام (1995م) وليس عندي أمل في أن أستطيع الوفاء بوعدي، وأسعد بلقائهم هناك.

إن من دعوني كانوا ينتمون إلى جمعية الإرشاد التي يرأسها الشيخ محفوظ، وكان من الطبيعي أن أواجه بأسئلة عن رأيي في الخلاف بين الإنقاذ وحماس، فقلت لهم إن حمى الاستعداد للانتخابات البرلمانية ينتج عنها مصادمات بين أنصار المرشحين من الأحزاب المختلفة ولذلك فإنني أسعى لكي يتفق الطرفان على تقسيم الدوائر حتى لا يوجد في أي دائرة مرشحان إسلاميان متنافسان، فإذا وافق الطرفان على ذلك، فإننا نستطيع أن نحول دون استمرار هذه المصادمات.

وعندما عدت إلى العاصمة التقيت بالشيخ محفوظ، وعرضت عليه اقتراحي، وكذلك عرضته على الشيخ عباسي، وكلاهما قال إن ذلك صعب، فقلت: إنني سأعد خطة مكتوبة وأعرضها عليهما. كانت خطتي هي أن يترك لجبهة الإنقاذ أن ترشح وحدها في جميع الدوائر التي نجحت فيها في الانتخابات البلدية والجمهورية دون أن يتقدم فيها منافسون إسلاميون وأن تقسم بقية الدوائر بين الأحزاب الإسلامية التي توافق على هذه الخطة بنسبة معينة يتفق عليها.

كل ما قاله "الشيخ عباسي" هو أنه سيطرح الاقتراح على إخوانه في المجلس التنفيذي ومجلس الشورى، أما "الشيخ محفوظ" ، فاعترض على الشق الأول قائلاً: إنه يريد الترشيح في بعض الدوائر الهامة في العاصمة وضواحيها، ولا يستطيع أن يتركها للإنقاذ فقلت له: عليك أن تتصل بالمسئولين في الجبهة وتتفاهم معهم، وغادرت الجزائر دون أن يكون لدي أمل كبير في وصولهم إلى اتفاق.

أذكر أنه قبل هذه الزيارة تابعت أنباء عودة "بن بللا" إلى الجزائر، بعد أن غادرها مدة طويلة، وأعلن في الصحف أنه سيستأجر باخرة تنقله من أحد موانئ أسبانيا إلى الجزائر، ودعا لمرافقته فيها عددًا كبيرًا من رجال الصحافة والإعلام والأصدقاء والمؤيدين قال بعضهم إن عددهم حوالي (ألف)، آملين أن يشهدوا الجماهير الحاشدة التي سترحب بعودة الرئيس الأسبق إلى الوطن

وفعلاً بذل أنصار حزبه جهدًا كبيرًا في إحضار أكبر عدد ممكن لكن الجماهير لم تشاركهم بالصورة التي كانوا يريدونها، والتي كان يتوقعها "بن بللا" نفسه والظاهر أن أهم أسباب ذلك هو أنه ذكر في بعض الصحف أنه صرح بانتقادات لجبهة الإنقاذ والتيار الشعبي الذي يؤيدها، ويظهر أن بعض أنصاره قد حاولوا التقليل من شأن الجبهة وأوهموه بأن حزبه سيكون البديل، الذي يستعد له منذ إنشائه، كما شهد بذلك عنوان مجلته التي كنت أتابع أكثر أعدادها.

زرت الجزائر بعد وصول "بن بللا" بمدة قصيرة، واتصلت بأحد أصدقائه، وحدد لي موعدًا للقائه، وذهبت معه إلى المقر الذي اتخذه لنشاطه ومقابلاته وهو فندق على مشارف العاصمة، ورحبت به وهنأته على العودة إلى وطنه وطمأنني على أن أموره تسير على ما يرام ولكن لم يستطرد هو إلى أي موضوع يتعلق ببرنامجه أو علاقته بالحكومة أو جبهة الإنقاذ أو الأحزاب الأخرى، فآثرت ألا أفتح معه تلك الموضوعات.

قبل أن أغادر الجزائر تحدثت طويلاً مع الشيخ "عباسي" في منزله محاولاً إقناعه بالتنسيق مع جماعة الشيخ "محفوظ" وقلت له: إن هذا التنسيق يجري عندنا بين جميع الأحزاب المختلفة في اتجاهاتها ومناهجها، وذلك لتخفيف عبء المعركة الانتخابية ولكي يحصل كل منها على أصوات من يؤيدون الطرف الآخر في الدوائر التي تترك له، فكان جوابه: أن هناك معارضة كبيرة في صفوف الجبهة ضد أي فكرة للتعاون مع الشيخ محفوظ وجماعة حماس

لسببين أولهما: أنه ليس لها أي رصيد شعبي يفيدنا في الدوائر التي ستخصص لنا، وثانيهما: أن هذا الاتفاق يمكن حدوثه بين حزبين في صف واحد من حيث معارضة الحكومة مع اختلافهما في سبب المعارضة، أما الاتفاق مع حزب يؤيد الحكومة مثل "حماس" فغير جائز؛ لأن الحكومة تتخذه أداة لمؤامراتها ودسائسها، ولهذا فإنه غير ممكن، إلا إذا تأكدنا أنهم لا يعملون لصالح الحكومة.

أما الشيخ "محفوظ" فقد فهمت منه أنه غير مستعد للمبادرة بالاتصال مع قيادة الجبهة، فقلت له عندما – يئست من إقناعه- لا مانع عندي من أن تنسق مع جبهة التحرير وتتعاون معها إذا كنت لا تستطيع التعاون مع الإنقاذ، فاكتفى بأن قال لي: إن بن بللا قد أرسل له من يدعوه لمقابلته، وطلب مني رأيي؛ لأنه يعلم علاقتي مع بن بللا ولكني قلت له: إنني لا أرى لي في هذا الموضوع؛ لأن ما أريده هو التنسيق مع الإنقاذ أو مع جبهة التحرير. ...وغادرت الجزائر يائسًا من أي محاولة لإقناعه بهذا التنسيق...

ندوة الاقتصاد الإسلامي

إن حكومة الرئيس "الشاذلي بن جديد"، بدأت سباقًا مع الزمن لتساير نمو التيار الإسلامي في الجزائر، وتتخذ تدابير تجتذب بها عواطف الجماهير التي تدفعها نحو التيار الإسلامي عمومًا، ونحو جبهة الإنقاذ بصفة خاصة، إنها لاحظت أن سبب نجاح الجبهة هو أنها صارت منذ إنشائها واجهة سياسية للتيار الإسلامي الذي يحظى بالتأييد المتزايد من عامة الشعوب، ومن كل من يرفعون الشعارات الوطنية الأصيلة في العالم العربي، الذين أصبح كثيرون منهم يؤيدون جبهة الإنقاذ ويعتبرونها المعبرة عن هذا الاتجاه الأصيل.

كانت أهم بوادر هذا الاتجاه لدى الرئيس الشاذلي هو العناية بجامعة الأمير عبد القادر في قسنطينة، وتعيين الأستاذ الشيخ "محمد الغزالي" رئيسًا لها، وفتح الباب أمامه لإلقاء محاضرات في الإذاعة والتلفزيون، كانت الجماهير تترقبها أسبوعيًّا.

كان انعقاد المؤتمر السنوي لرابطة الجامعات الإسلامية في رحاب تلك الجامعة الذي حضرته في قسنطينة دليلاً على ترحيب الإسلاميين المشارقة بهذا الاتجاه وتأييده والمساهمة فيه؛ ولذلك فإني أعلنت للأستاذ الشيخ "محمد الغزالي" أنني أؤيده في تعاونه مع الرئيس الشاذلي في هذا النهج، وجاءت ندوة قضايا المستقبل الإسلام في العاصمة والتي شاركت فيها دليلاً آخر على هذه السياسة.

كان من نتائج هذا الاتجاه في التقارب مع الفكر الإسلامي في خارج الجزائر أن الشيخ "صالح كامل" صاحب بنوك البركة الإسلامية عرض على الحكومة الجزائرية إنشاء بنك إسلامي برأس مال مشترك ونجح في مسعاه إلى حد أن تم الإعلان عن الاتفاق بينه وبين الوزارة المختصة والبنك المركزي الجزائري، وانتهز الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية هذه الفرصة فاتفق مع وزارة الأوقاف الجزائري على تنظيم ندوة عن الاقتصاد الإسلامي والبنوك الإسلامية بالعاصمة الجزائرية، ودعيت لهذه الندوة التي أتاحت لي فرصة ثالثة لزيارة الجزائر بعد الزيارتين السابقتين.

وفي هذه الزيارة صحبتني ابنتي "كريمة" التي رأت الجزائر لأول مرة وتعرفت على أسرة "الشيخ عباسي مدني"، ووثقت علاقتها بزوجته، وذهبت معها إلى الأستاذ الرياضي خارج العاصمة لحضور اجتماع جماهيري نظمته جبهة الإنقاذ، وخطب فيه الشيخ "عباسي" وسط آلاف مؤلفة من الجماهير المؤيدة للجبهة ليذكر خصومه بأنه يستند إلى تأييد الأغلبية الساحقة للشعب الجزائري

كان ذلك في بداية عام (1990م)، وكانت حرب الخليج الثانية قد بدأت، وحضرت هذا الاجتماع كما حضره وفد من العلماء الكويتيين الذين جاءوا في جولة للدعوة لقضية بلادهم، وتقدم أحدهم وهو الشيخ أحمد القطان وألقى كلمة حماسية في هذا الاجتماع، فشرح موقف بلاده وحكومته، وكان ذلك دليلاً على اتجاه قادة الإنقاذ لاتخاذ موقف متوازن في هذه المشكلة التي أثارت انقسامات عديدة بين الإسلاميين، بل وفي صفوف "الإخوان المسلمين" أنفسهم.

لكن جماهير الشعب الجزائري كانت مشغولة بقضاياها الداخلية، وكان هجوم الإعلام الفرنسي والأجنبي عمومًا يزيد يومًا بعد يوم على الإسلام وعلى جبهة الإنقاذ التي تمثله في نظر عامة الجزائريين، مما كان يذكرها دائمًا بأن هناك تضامنًا بين الدول الكبرى في مواجهة نمو التيار الإسلامي ومقاومته بشتى الطرق حتى إنهم ابتكروا له اسمًا مسيحيًّا إذ تصفه دعايهم "بالأصولية" ...

هذا التضامن الإعلامي السياسي الإمبريالي العدواني كان في نظر عامة الشعب هو السبب في وقوف فرنسا والدول الأوروبية عمومًا وتحالفها لاستغلال الغزو العراقي للكويت لفرض وجودها العسكري والسياسي في الخليج لأهداف إمبريالية واقتصادية جعلت كثيرين يعارضون هذا التحالف الذي اعتبروه مقدمة للتسلل إلى منطقة الخليج وأقاليم العالم العربي عمومًا، وبسط نفوذهم على ثرواتهم البترولية والمالية.

هذا التحالف الأوروبي الأمريكي جعل عواطف كثير من الجماهير تعلن عدم اقتناعها بما يدعونه من أن هدفهم هو الدفاع عن الكويت أو رغبتهم في تحريرها، مما جعل مهمة القادة في السيطرة على هذا الاتجاه الشعبي صعبة ودقيقة وخاصة في الجزائر وشمال أفريقية على العموم، بل إن الحكومات في تلك الأقطار اضطرت إلى مسايرة عواطف الجماهير في هذا الموضوع، رغم علاقتها الوثيقة بالدول الكبرى.

لم تكن قضية الجماهير المؤيدة لجبهة الإنقاذ محصورة في مقاومة الإمبريالية والحكومة الجزائرية، بل شكا كثيرون من الصراع المتواصل بين أنصار الإنقاذ وبعض الإسلاميين الجزائريين وخاصة الشيخ "محفوظ نحناح" الممثل للإخوان في الجزائر، وأذكر أن أحد أساتذة الجامعة الجزائرية الذين أثق بآرائهم وأعتز بصداقتهم حضر إلي في قاعة الاجتماعات المخصصة للندوة وأعطاني صور كاملة عن المصادمات التي تقع في مناطق عديدة بين الطرفين وناشدني أن أستعين بالمفكرين الحاضرين في هذه الندوة لوضع حد لهذا الانقسام داخل التيار الإسلامي.

ولقد استعنت فعلاً بصديقي المرحوم الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري، الذي كانت له مكانة كبيرة لدى الجميع، والتقيت عدة مرات مع الشيخ محفوظ والأستاذ محمد السليماني، وعرضت عليهما اقتراحي بعدم الدخول في ميدان السياسة الحزبية، لكي يبقى الإخوان بعيدين عن مشاكلها

وقلت لهما إنني أفضل أن تبقوا فوق الأحزاب لتكونوا واسطة بين جميع الأطراف المتخاصمة وتحتفظوا بقدر كاف من حسن التفاهم مع كل الهيئات والأحزاب وأفضل أن تتفرغوا للعمل التربوي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي لإيجاد جيل من الشباب يحمل مسئولية بناء المجتمع ونهضته على الأصول الإسلامية من خلال الأحزاب أو المؤسسات والحكومية والشعبية.

فوجئت بأن الشيخ محفوظ يخبرني بأنه ينوي إنشاء حزب سياسي، وأنه سيعلن ذلك ودعاني لحضور الاجتماع الذي سينظمه لهذا الغرض؛ لكنني رفضت ذلك وأكدت له عدم موافقتي على رأيه، وقلت له: إذا كان مصرا على اقتحام ميدان العمل الحزبي، ولا يمكن تعاونه مع جبهة الإنقاذ، فالأولى أن يكون ذلك بالانضمام إلى جبهة التحرير أو من خلال التعاون معها

وقلت له: إنني أعتقد أن الرئيس "الشاذلي بن جديد" يسعى لإخراج ممثلي الجيش من أجهزة جبهة التحرير، بل وبعض العناصر اليسارية المتطرفة وهذا يؤدي إلى فراغ في أجهزة ذلك الحزب، وأفضل أن يملأه إسلاميون من الإخوان بدلاً من أن يحتله الإلحاديون والشيوعيون المنافقون الذين يتسترون وراء الشعارات الاشتراكية أو الديمقراطية العلمانية وأكدت له أن من مصلحتنا تقوية العناصر الإسلامية داخل جبهة التحرير، وتشجيع الرئيس الشاذلي بن جديد في سياسته لتدعيم الفكر الإسلامي في الجزائر.

لكنه اعتذر بأن الرأي العام معبأ ضد جبهة التحرير، ولن يستفيد كثيرًا من الانضمام إليها أو التعاون معها، وأن الجميع يتسابقون لإنشاء أحزاب سياسية، فلا نستطيع أن نقف بعيدًا عن هذا الميدان. وأخبرني بعد ذلك بأنه اختار لحزبه اسم "حماس" اختصارًا لاسمها وهو "حركة المجتمع الإسلامي" وتأييدًا لجهاد حماس في فلسطين.

في نفس الوقت علمت أن الشيخ "عبد الله جاب الله" أحد كبار الدعاة الإسلاميين في شرق الجزائر ينوي أن يعلن إنشاء حزب إسلامي، وأنه اختار له اسم "حزب النهضة"، وقد التقيت به في الفندق الذي نزلنا به، وعرفت منه أنه سيسجل حوارًا تلفزيونيًّا فأخذت عليه تعهدًا بألا يستدرجه الصحافيون لمهاجمة الإنقاذ أو مسئولييها.

وفي زيارة الرئيس السابق للحكومة الجزائرية المؤقتة السيد (يوسف بن خده) بمنزله تحدثت معه طويلاً عن ذكرياتنا في ثورة الجزائر الأولى، فأبدى لي أنه عازم على الحصول على ترخيص حكومي بإنشاء حزب إسلامي جديد يسميه (حزب الأمة)، وأعطاني صورة المنشور الذي يعده لذلك، ومع ذلك فإني أشرت إليه بعدم موافقتي

وقلت له إن دوره الشخصي باعتباره من القادة التاريخيين للثورة وجبهة التحرير يمكنه أن يعلب دورًا كبيرًا للتنسيق بين الأحزاب الإسلامية والقومية، وهو دور هام في مستقبل الجزائر رغم أن كثيرين لا يفكرون فيه لانشغالهم بالخصومات الحزبية، وأنه بذلك يمكنه أن يخدم الاتجاه الإسلامي والوطنية الأصيلة أكثر مما يحققه بإنشاء حزب إسلامي آخر، قد يعتبره الآخرون منافسًا لهم وعقبة في طريق الدعاية لأحزابهم، ولكنه أصر على رأيه.

إنني كنت أعارض فكرة إنشاء هذه الأحزاب المتعددة رغم أن اتجاهها إسلامي خشية أن يشغلها التنافس فيما بينها عن مقاومة التيار الفرانكفوني والعلماني والعنصري والتغريبي الذي تموله القوى الأجنبية الإمبريالية، والتي لاحظت أنها تدفع كثيرًا من عملائها لإنشاء أحزاب علمانية لادينية لمقاومة المد الإسلامي تحت أسماء متعددة، لكن عندما حصلت تلك الأحزاب على موافقة الحكومة لإنشائها

رأيت أن ذلك يمكن الاستفادة منه في المستقبل لتأكيد حق الاتجاه الإسلامي في العمل السياسي وإنشاء أحزاب معترف بها لإحباط المؤامرة الأجنبية المعادية للإسلام، والتي تهدف لإقصاء الإسلام عن ميدان العمل العام الذي تسير نحوه بعض الحكومات العربية، وتردده دعاياتها تحت ستار عدم جواز إنشاء أحزاب (دينية) أو بحجة فصل الدين عن الدولة أو أنه لا إسلام في السياسة كما كان يقول السادات رغم أن دعايته كانت تسميه الرئيس المؤمن.

كل هذا جعلني أحدد مهمتي، وهي العمل على وقف مسلسل المصادمات بين قادة هذه الأحزاب الإسلامية وجماهيرها ومؤيدي كل منها، والتنسيق فيما بينها، بل وبينها وبين جبهة التحرير ذاتها.

الرابطة وجمعية الإرشاد (1990م)

بعد أن زرت قسنطينة للمرة الثانية لحضور اجتماع رابطة الجامعات الإسلامية عدت إلى العاصمة الجزائرية، وكان أول من لقيته هو الشيخ "سحنون" الذي له مكانة كبيرة بين الإسلاميين باعتباره الرمز المعتمد لجمعية العلماء الجزائريين، ورغم سنه المتقدمة إلا أنه قد أثبت أنه أكثر حيوية وشبابًا من كثير من أبناء هذا الجيل؛ ولذلك ترأس رابطة الحركات الإسلامية في الجزائر التي انضوى تحت لوائها جميع الهيئات التي تعمل في الحقل الإسلامي.

وفي أول لقاء له معه شكا لي من انفراد الشيخ "عباسي مدني" باتخاذ مبادرة لطلب الترخيص الرسمي لجبهة الإنقاذ الإسلامية دون موافقة الرابطة والمنضمين لها رغم أنه هو الذي حضر إليه في عام (1988م)، واقترح إنشاء هذه الرابطة لتجمع شمل جميع من يعملون في الحقل الإسلامي وتقوم بالدور الأساسي في التنسيق والتعاون بينهم من أجل الأهداف المشتركة.

قال: إن الرابطة درست الدستور الذي أصدره "بن جديد" واعتبرته دستورًا دكتاتوريًّا؛ لأنه يركز السلطة في يد رئيس الجمهورية، وأنه غير إسلامي؛ لأنه لا يصرح بالانتماء الإسلامي وسيادة الشريعة؛ ولذلك فإن الرابطة قررت ألا تتحول إلى حزب سياسي لأن دخول السياسة الحزبية في ظل هذا الدستور تعني المشاركة في نظام سياسي دكتاتوري غير إسلامي

لكن "عباسي مدني" انفرد بالإقدام على مبادرة منفردة، وتقدم مع "علي بلحاج" وانضم لهما بعض أصدقائهما والمتحمسين ممن كانوا يمارسون المقاومة المسلحة في الفترة الماضية... تقدموا بطلب تأسيس حزب سموه "جبهة الإنقاذ الإسلامية" دون موافقة الرابطة أو الاعتداد بقرارها.

قال: إنه يعتقد أن الحكومة قد أعطت الإذن بتأسيس هذا الحزب؛ لأنه لا يمثل في نظرها إلا جانبًا من أصحاب التيار الإسلامي –يعتبرونه أقلية محدودة- ولأنه يفتح للجماعات الإسلامية التي كانت تثير قلاقل ضد الحكومة الطريق لكي تظهر على السطح وتمارس النشاط السياسي العلني كغيرها من القوى السياسية، وقال لي: إن كثيرًا من الإسلاميين مازالوا يشكون في فائدة هذه التجربة.

التقيت مع صديقي "عباسي مدني" ، وعرفت تصميمه على دخول الجبهة ميدان العمل السياسي الذي فتحت الحكومة بابه، رغم اعتراضات كثيرين من ذوي الفكر الإسلامي الذي يشكون في نوايا السلطة واتجاهاتها، وأعطاني صورة النظام الأساسي للجبهة لأطلع عليها ووعدته بأن أقدم له ملاحظاتي على ما ورد بها.

في هذا الوقت كانت هناك دوائر أجنبية وبعض الدول العربية تهاجم الرئيس "الشاذلي بن جديد" بسبب سماحه بإنشاء أحزاب إسلامية في الجزائر؛ لأن تلك الدوائر كانت تهدف لفرض مبدأ استعماري جديد ابتكروه لإثارة الفتنة بين النظم الحاكمة وشعوبها في البلاد العربية عن طريق إلزام تلك النظم بعدم الاعتراف بوجود أحزاب إسلامية في تلك الأقطار مع أن المفروض أن الاعتراف بالأحزاب وتحديد قيمة كل منها يرجع فيه إلى الرأي العام في انتخابات حرة؛

لكن قوى أجنبية قررت أن تحرم الرأي العام وجماهير شعوبنا من حقها في إعطاء ثقتها لهيئات أو أحزاب إسلامية؛ لأن هذه الثقة الشعبية تؤهل تلك الهيئات –متى حصلت على ثة الرأي العام- أن تتولى السلطة، وبعض القوى الأجنبية مصممة على إقصاء الإسلام والإسلاميين عن ميدان العمل السياسي والعمل العام عمومًا

وقد استطاعت هذه الدوائر الأجنبية أن تفرض "بن علي" في تونس، بل تلزمه برفض الاعتراف بأصحاب الاتجاه الإسلامي الذين طلبوا الاعتراف بهم كحزب سياسي باسم "حزب النهضة"، بل فرضوا هذا المبدأ في مصر أيضًا، ومازالت هناك سياسة تهدف لحرمان "الإخوان المسلمين" من الاعتراف بهم...

أما سوريا والعراق فقد قام حزب البعث لهذا الغرض، وطبق مبدأ إقصاء جميع الحركات الإسلامية من ميدان السياسة، وخاصة "الإخوان المسلمين"، بل وعملوا على إبادتها وأصحاب هذا الاتجاه أطلقوا على الهيئات الإسلامية تسمية "حركات الإسلام السياسي" أو الأصوليين، وسخروا طاقاتهم الإعلامية لتشويه صورها، ونسبة جميع العيوب لها، حتى تخشاها الجماهير وتبتعد عنها.

لاحظت أن هذا المخطط تعمل له الدعاية والخطط الصهيونية التي تعرف أن العقيدة الإسلامية هي المنبع الأول لحركات الجهاد التي تعارض مخططاغتها الاستيطانية والتوسعية في العالم العربي والإسلامي، وأنها تستغل نفوذها في الإعلام العالمي وتأثيرها السياسي لتدفع فرنسا وبريطانيا وأمريكا، وبعض الدول الأجنبية الأخرى في هذا الطريق.

أما في العالم العربي، فإن كثيرًا من الحكومات المحلية تتورط فيه لأهداف حزبية أو وقتية دون إدراك للأهداف البعيدة لهذه السياسة التي ترمي لها القوى الأجنبية التي تصر على فرضها على دولنا جميعًا، بقصد عزلها عن جماهير شعوبها التي تعلن ولاءها للإسلام وثقتها بدعاته.

إنني أعتقد أن هذه القوى الأجنبية بدأت هذه الخطة منذ نجحت في استغلال النظام العسكري الذي أقامه (أتاتورك) في إلغاء الخلافة والتنكر للشريعة والوحدة الإسلامية ونجاحهم في تركيا زين لهم أن يقيموا في جميع أنحاء العالم الإسلامي نظمًا لادينية أو علمانية وفي نظرهم أن إقصاء الإسلاميين عن العمل السياسي يمكنهم من فرض النظم اللادينية.

وقد نشرت (جريدة الشرق الأوسط) تصريحًا للرئيس "بن جديد" سئل فيه عن السبب في إعطاء الإذن لجبهة الإنقاذ لتكون حزبًا سياسيًّا إسلاميًّا معترفًا به؟ فقال: إنني لا أستطيع أن أعترف بالأحزاب التي ترفع شعارات شيوعية أو اشتراكية، وأرفض الاعتراف بالأحزاب الإسلامية، وكان هذا تلميحًا لاستنكار ما فعله "بورقيبه" من اعتراف بالحزب الشيوعي في تونس، ورفض الاعتراف بالاتجاه الإسلامي، وهو المبدأ الذي ما زال يسير عليه خلفه "بن علي"!!!

التقيت بالشيخ "محفوظ نحناح" والمرحوم محمد سليماني (نائبه) الذي دعاني لزيارة مراكز (جمعية الإرشاد) والاطلاع على نشاطها الثقافي والاجتماعي، وحضرت معهما اجتماعًا واسعًا لإطارات الجمعية، وكان معنا زوار من بعض البلاد العربية، الذين كانوا يقومون بجولة في أقطار أفريقيا الشمالية

وعرفت من الشيخ محفوظ أنه حصل على ترخيص رسمي لجمعية الإرشاد باعتبارها مؤسسة ثقافية واجتماعية، وأنه يمارس نشاطه في هذا الاتجاه، فشجعته على ذلك، واقترحت عليه أن يتفادى أي منافسة أو خصومة في المجال السياسي مع جبهة الإنقاذ عندما شكا لي من انفراد (عباسي مدني) بإنشائها دون الاتفاق مع الرابطة أو الاستماع لآراء أعضائها، وأبدى شكه في نجاح هذه التجربة.

قلت له: إننا يجب أن نعطي للجبهة هذه الفرصة، فإن نجحت كان نجاحها لصالح التيار الإسلامي في جميع البلاد العربية، وإن فشلت فإن مسئولية ذلك ستقع على مؤسسيها، وقلت له: إنني أفرق بين الدعوة الإسلامية التي تهدف لتجديد الفكر الإسلامي وتربية جيل جديد يحمل رسالة الإسلام في العصر الحاضر وبين الحزبية السياسية

وإنني أرى عدم الخلط بين الأمرين، وعدم التزاحم بين القائمين بالعمل في كل ناحية من هذه النواحي لأن العمل في المجال الاقتصادي أو التربوي والاجتماعي يحتاج لظروف تتعارض مع العمل السياسي وما يجره من خصومات وتطورات، وأنه يجب التنسيق بين جميع الهيئات العامة في الحقل الإسلامي دون حاجة لاندماجها.

وقلت له: إن الظن بأن العمل السياسي تحتكره الأحزاب هو ظن خاطئ؛ لأن الأصل أن كل مواطن له حرية العمل السياسي، وبالتالي فإن الإخوان يمارسون نشاطهم السياسي من خلال جميع الهيئات العاملة في الحقل الثقافي والاجتماعي والنقابي والاقتصادي التي لها دور كبير في هذا المجال

رغم أنها ليست أحزابًا سياسية، إذ إن إطاراتها وجمهورها كلهم أفراد ومواطنون يتمتعون بالحق في أن كون لهم آراؤهم ومواقفهم السياسية التي تكون في العادة متقاربة، وبالتالي فإن هذه المنظمات لها وزن سياسي لا يمكن تجاهله، وإن لم تكن أحزابًا سياسية في عرف الدستور أو القانون أو الرأي العام، كما أن المواطنين الذين لا ينتمون للأحزاب السياسية يكونون نسبة كبيرة من الناخبين الذين يختارون ممثلي الشعب.

هذا الكلام قلته أيضًا للشيخ "عباسي مدني" في أول لقاء لي به، وتوسعت فيه وأكدته بعد ذلك كلما التقيت به في العاصمة؛ لأنه في ذلك الوقت كان كثير الأسفار في نهاية كل أسبوع إلى أحد الأقاليم لتنظيم فروع الجبهة والدعوة لها، استعدادًا للانتخابات البلدية والإقليمية التي سارعت الحكومة بتحديد موعدها.

لقد قال لي: إن الحكومة ليست جادة في التعددية الحزبية، ولا تريد جبهة التحرير المسيطرة أن تواجه تداول السلطة، بل يعملون كل ما يستطيعون للبقاء فيها، ويستغلون سلطة الحكومة الحالية لتعطيل نشاط جبهة الإنقاذ، ومقاومتهم لها تزداد كلما زاد تعلق الجماهير بها وإقبالهم عليها

وإن الحكومة لتحقيق هذا الهدف قد حددت موعدًا قريبًا لإجراء الانتخابات البلدية بقصد الإسراع فيها قبل أن تتمكن الأحزاب الجديدة من إتمام استعدادتها لدخول هذه المعركة وخاصة جبهة الإنقاذ التي بدا لها أنها تكسب كل يوم نفوذًا شعبيًا متزايدًا، فرأت أن الإسراع في الانتخابات البلدية يمكن لحزب جبهة التحرير المستقر منذ ثلاثين عامًا بفروعه ومراكزه وعضويته وأمواله وصحافته، من أن يكسب الجولة بسهولة ويسر.

لهذا كان هو وزملاؤه مستغرقين في جولات متتالية في الأقاليم، وقال: إن الحكومة وأنصارها يشجعون بعض العناصر ويدفعونها لكي تثير مناوشات وتنافسًا بين أنصاره وأنصار الشيخ محفوظ، وأن الشيخ "محفوظ" كثيرًا ما يستدرج لذلك دون داعٍ.

وكان بيننا موعد للقاء قبل سفري، لكنه كان خارج العاصمة ولم يعد في الوقت المحدد، وكان الشيخ "محفوظ" خارج البلاد فتركت رسالة أبين فيها وجهة نظري التي حاولت إقناع كل منهما بها، وتدور حول ضرورة التنسيق بين الجماعات العاملة في الحقل الإسلامي حتى لا ينشغلوا بالتنافس فيما بينهم عن الأهداف الكبرى للدعوة الإسلامية... هذا هو نصها:

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته... "وبعد".

فإني اود أن أبعث لكم بتحيتي وسلامي؛ لأننا لم نلتق قبل سفري حسب الموعد، ويسرني أن أؤكد ما قلته من قبل، وهو أملي في نجاح المسيرة التي تقودونها، في هذه الظروف الصعبة التي تجتازونها، وثقتي في هذا النجاح يؤكد ما رأيته من حرصكم على جنب شوائب العمل الحزبي في هذه الأيام

وتركيز جهودكم في تربية القادة وتجميع الصفوة المؤمنة وتوثيق عرا الأخوة ليقوم العمل الإصلاحي على صف متين، وإني أهنئكم على هذا المسلك الحكيم وأدعو الله أن يجنبكم مزالق العمل الحزبي والمنافسات السياسية وأرجو ألا يصرفكم عن هذا الأسلوب ما يلجأ إليه العاملون في الميدان الجماهيري من تزاحم وتسابق على الظهور في مسرح السياسية...

إنني أرى من الواجب أن أذكركم بتجارب العمل الإسلامي في بلاد أخرى، وما استفدناه منها من دروس ألخصها فيما يلي:

  1. إن مجالات العمل الإسلامي واسعة ومتعددة بل ومتنوعة، ومن أهم أسباب النجاح في أي مجال من المجالات هو تخصيص العاملين في كل مجال، وتفرغهم له وعدم إقحامهم في مجالات أخرى؛ لأن ظروف العمل في كل منها تختلف عن ظروف المجالات الأخرى، ومخاطره تختلف عن مخاطرها.
  2. إن أهم عوامل النجاح في المنهج التربوي للصفوة هو الاستقرار والاستمرار، ومن مصلحة القائمين به أن يبتعدوا عن عواطف السياسة ومغامراتها ومخاطرها في الوقت الحاضر.
  3. إن الدور السياسي لهذه الصفوة هو العمل لاستقرار ضمانات الحرية السياسية في الدستور والقوانين، والدعوة للاعتراف بمبدأ التزام الأفراد والمجتمع والدولة بسيادة شريعة الله.
  4. إن العمل السياسي لإقرار مبدأ سيادة الشريعة يعتمدًا أولاً على تجنيد الجماهير الواسعة وفرصة النجاح تكون مضمونة كلما تحققت الاستجابة لضغط الجماهير وإرضاء مطالبها.
  5. إن الجماهير تكون أقدر على الكفاح من أجل تقرير مبدأ أن الإسلام هو الحل)، كلما اقتنعت بأنها هي المسئولة عن فرض هذا الاتجاه، بل وقيادته وتحمل مخاطره ومسئولياته.
  6. إن قيادة الجماهير في العمل الحزبي تحتاج لمؤهلات وأساليب تتناسب مع ما يلجأ إليه خصومها من تحركات غوغائية تستفزها وتفرض عليها المجابهة مع من يعارضونها ومواجهة تحركاتهم.
  7. إن الصفوة الملتزمة ليس من مصلحتها أن تتعرض لهذه المغامرات ويكفي أن يتصدى لمواجهتها فئة ممن يحسنون هذه الأساليب، وتتوفر لهم صفات من المرونة والمحاورة والمناورة التي قد لا يستسيغها من تربوا على منهج الصفوة وأساليبها، في هذه المرحلة.
  8. إن أكبر خطر يهدد العمل الإسلامي هو التنافر أو التصادم بين العاملين في ميدان السياسة، والعاملين في مجال التربية، والأخيرون هم الذين يتحملون المسئولية الكبرى لأنهم أكثر انضباطًا والتزامًا من غيرهم.
  9. إن جمهور العاملين في المجال الحزبي يتصف بالتهور، وقدر كبير من التسيب، فلا يجوز أن يعتبر كل ما يصدر عنهم من استفزاز للصفوة صادرًا من قيادتهم أو المسئولين عنهم، ولا أن تتحمل هذه الصفوة مسئولية اندفاعهم وتهورهم.
  10. إنه لذلك يجب أن يكون هناك خط أحمر للتنيق بين من تصدوا للعمل الحزبي، ومن يلتزمون بالعمل التربوي للدعوة؛ لأنه ضروري للتعاون على تجاوز ما يقع من بعض العاملين في الميدانين من مشاكل أو منافسات أو مصادمات، لابد من علاجها قبل أن تتحول إلى خصومة بين الجماعتين أو القيادتين.

وإني لعل يقين بأنكم قادرون على تهيئة الظروف لتحقيق هذه الغاية في المرحلة القادمة التي تجتازونها، وهي مرحلة الانتخابات البلدية والجهوية والإقليمية.

والله الموفق...

أخوكم... توفيق الشاوي

أسس التنسيق في المرحلة الحالية

إن المرحلة القادمة في كفاح شعوبنا هي بناء وحدة شاملة تخرجهم من أواضع التجزئة التي تحول دون نموها الاقتصادي والسياسي والعسكري، وتمكنها من أن يكون لها وزن في المجال الدولي في عصر التكتلات الكبرى.

وما نشاهده من مخاوف أعدائها من نمو الصحوة الإسلامية التي يصفونها بالأصولية ليدل على أنهم واثقون بأن لهذه الصحوة دورًا كبيرًا في بناء وحدة أوسع نطاقًا وأعمق أصولاً في هذه المنطقة التي يتحكمون فيها ويرسمون الخطط لاستمرار سيطرتهم عليها واستغلال ثرواتها وإذلال شعوبها بالضغوط الاقتصادية، أو عن طريق تدعيم القوة العسكرية الصهيونية التوسعية العدوانية.

وأهمية الصحوة ناتجة عن التأييد الشعبي لشعاراتها ودعاتها، وعلينا أن نبحث في الكيفية التي تمكننا من توظيف هذه الطاقة الشعبية الهائلة من أجل بناء الوحدة، سواء في النطاق المغاربي أو العربي أو الإسلامي أو الإفريقي الأسيوي أو العالمي. إن الجزائر هي الدولة المرشحة أكثر من غيرها لقيادة حركة الوحدة الجدية الاندماجية بين أقطار المغرب العربي، والتي يجب أن تبنى على أساس الاندماج الكامل لجميع الأقطار في ظل دولة موحدة أو اتحاد إقليمي أو فيدرالي يحقق التكامل الاقتصادي في جميع النواحي الاقتصادية أولاً، ثم في النواحي الثقافية والسياسية والقوة العسكرية.

ولا يمكن أن نسير في هذا الاتجاه بصورة جدية إلا إذا جندنا لهذا الهدف الطاقة الشعبية المؤيدة للاتجاه الإسلامي، والتي يخشى أعداؤنا نموها، ويحسبون ألف حساب لخطرها عن مخططاتهم. إن أعداءنا يرسمون الخطط ويرصدون الميزانيات الضخمة، ويستغلون سيطرتهم الإعلامية لتدعيم كل من يجارونهم في العمل على وقف نمو هذه الصحوة أو القضاء عليها وبدلاً من تشتيت جهودنا نستطيع نحن أن نستفيد منها في إدماج هذه الشعوب وتوجيه طاقتها العقيدية والفكرية لتحطيم الحواجز التي تفصل بينها.

وكما أن أعداءنا يستخدمون المنظمات والهيئات والزعامات المتعددة الموالية لهم بل وينسقون بينها، فإننا يجب أن نستفيد من تعدد الجماعات والهيئات الإسلامية، ونعمل للتنسيق والتعاون بينها، على أن يرسم لكل منها دور محدد توجه إليه، ونساعدها على القيام به وعدم الانحراف عنه نحو معارك داخلية عقيمة، أو أهداف جانبية تشوه مسيرة شعوبنا وتصرفها عن الهدف الأصلي المشترك المتفق عليه بين الجميع، وهو وحدة الأمة الإسلامية ونهضتها...

وذلك على الأسس التالية:

  1. إن الحركات الإسلامية هي أولى القوى الوطنية وأهمها؛ لأن وطنها شامل لجميع أنحاء العالم الإسلامي.
  2. رسم خطة تحدد لكل قوة وطنية مسارها وتوجهها في خط مستقيم لتقوم بدور محدد في طريق بناء الوحدة الشاملة سواء على المستوى المغاربي أو العربي أو الإسلامي.
  3. السهر على منع هذه القوى الوطنية من الدخول في معارك ضد بعضها البعض تستنزف جهودها وتخلق جوًّا يشجع الفتن العنصرية والانفصالية والتغريبية وعملاء القوى الأجنبية.
  4. إعطاء الأولوية للعمل الثقافي والاجتماعي على أساس العقيدة والمثل العليا الدينية والأخلاقية التي يتعلق بها الشعب؛ لأن هذا الميدان هو القاعدة الحقيقية لأي عمل سياسي في الحاضر أو المستقبل ويجب أن يبقى بعيدًا عن الخلافات والنزاعات الحزبية والتقلبات السياسية.
  5. وفيما يخص الجزائر يمكننا أن نرسم خطة أولية لتوزيع المسئوليات بين القوى والهيئات الوطنية على التفصل الآتي:

(1) جمعية الإرشاد:

هذه الجمعية هي التي تمثل حركة "الإخوان المسلمين" على النطاق القطري، ونرى أنه يحسن أن توجه طاقاتها للعمل التربوي والثقافي والاقتصدي، وتوحيد الجماهير حول عقيدتها الخالدة دون أن تبدد مجهوداتها في الميدان السياسي، وأن يفسح لها المجال في اقتحام ميدان التعليم والاقتصاد والدعوة والإرشاد، وعليها أن تهتم بمناطق القبائل والبربر لتسد الطريق على دعاة الفرانكفونية والنزعات العنصرية والانفصالية في هذه المناطق وتساعدها على السير في الاتجاه التضامني والوحدوي.

وطالما أنها تحصر نشاطها خارج السياسة، فإن ذلك يسهل لها إقامة علاقات تعاون مع الهيئات الإسلامية في المغرب وتونس، وكثير من الأقطار العربية والإسلامية القريبة أو البعيدة، ويمكن أن نسير لها سبل الاتصال لتكون عاملاً يجذب الهيئات الإسلامية في الخارج لكي تقوم بدور إيجابي في إدماج الشعوب في إطار أمة موحدة عظيمة تمتد شعوبها من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي.

وبقاء هذه المجموعة خارج دائرة الصراعات الحزبية ضروري؛ لكي تقوم بهذا الدور...

(2) جبهة الإنقاذ:

إنها حركة إسلامية جزائرية صحيحة، تمثل الأصالة الجزائرية الإسلامية، لكنها حركة سياسية، ونرى أن الميدان الهام الذي يجب مساعدتها على السير فيه هو مقاومة المنظمات العميلة التي ترفع شعارات تؤيدها القوى الأجنبية، خاصة الأحزاب والزعامات التي تتجاوب مع الخطط الاستعمارية والمتفرنسة، ويلزم على وجه الخصوص أن يوجه نشاطها للدفاع عن وحدة الشعب وأصالته، وألا تسمح للدعايات الأجنبية لتمزيق وحدة الشعب أو عزله عن مقوماته الإسلامية التي توحد بينه وبين الشعوب العربية والإسلامية كلها.

ويمكن أن يكون دورها في الجو الديمقراطي هو إيجاد تعددية حقيقية تقوم على وجود حزبين كبيرين لهما قوتان متوازنتان، وسد الطريق على من يعملون للعودة إلى نظام الحزب الواحد المسيطر، وكثير منهم ما يزالون يعملون في نطاق جبهة التحرير وباسمها وخاصة الشيوعيون واليساريون عمومًا الذين لا يستطيعون الاستناد إلى قوة شعبية أو جماهيرية تمكنهم من الوصول إلى السلطة، وقد تعودوا أن يمارسوها في إطار الحزب الواحد المحتكر للسلطة الشمولية.

إن وجود هذه الجبهة يشجع الهيئات التي ترفع شعارات إسلامية في تونس والمغرب على أن توجه جهودها نحو الوحدة الاندماجية مع الجزائر التي يصبح استقرارها الهدف الأول لديهم لتغيير الأوضاع الطاغية المتحكمة في كثير من الأقطار العربية؛ لأن الطغاة لا يقبلون إزالة الحواجز بين أقطارهم والأقطار المجاورة، وكل ما يقبلونه عندما يرفعون شعار وحدة المغرب أو القومية العربية هو إيجاد واجهات شكلية تشغل الجماهير عن الوحدة الحقيقية كما فعلت القومية العربية المزعومة التي لم تحقق خطوة واحدة نحو الوحدة الاندماجية منذ إنشائها إلى اليوم.

(3) جبهة التحرير الوطني:

إن هذه الجبهة الوطنية التي قادت البلاد في المرحلة الماضية يجب أن تقتنع بضرورة وجود تعددية ديمقراطية حقيقية، وإذا استدعى الأمير تغيير اسمها وتجديد إطاراتها لتتلاءم مع الجو الديمقراطي القائم على التعددية المتوازنة، فيحسن الإقدام على ذلك لقطع الطريق على العناصر الرجعية التي مازالت تحلم بالعودة إلى نظام الحزب الواحد والدكتاتورية التي ترفع شعارات كاذبة اشتراكية أو ديمقراطية.

ومن المستحسن ألا تقع الحكومة التي تنتمي لجبهة التحرير في الفخاخ التي يستدرجها البعض إليها، ويريدون منها اصطناع عدد كبير من الأحزاب الصغيرة المتناحرة والمتصارعة لا يمكن أن تكون بديلة عنها، ولا أن تحل محلها في ممارسة السلطة، بل تسعى السلطة المتحكمة لترويضها لتصبح مستأنسة وواجهة صورية لتعددية شكلية تكون شعارًا لنظام دكتاتوري كما في بعض البلاد الأخرى. إن التعددية الجدية لا يمكن أن تتوفر إلا إذا وجد حزبان كبيران يمثلان قتين متعادلتين على أساس أن كلا منهما يقتنع مقدمًا بأن الحركة الأخرى تكون بديلة عنه في حالة اتجاه الجماهير إلى التغيير.

ونعتقد أن إحدى هاتين القوتين هي جبهة التحرير الوطني سواء احتفظت بهذا الاسم أو غيرته، أما القوة أو الهيئة الثانية فإن الانتخابات الحرة هي التي تبرزها كما هو الشأن بالنسبة لجبهة الإنقاذ، وفي هذه الحالة فإن الدولة لا يجوز أن تبدد طاقاتها في محاولة عميقة لاستبعادها أو تحطيمها؛ لأن ذلك يخدم المخططات الأجنبية ويفتح لها الباب للتدخل في شئوننا بإنشاء هيئات منشقة وأحزاب صغيرة وزعامات مصطنعة تمولها وتعمل لحسابها وتدور في فلكها وتنفذ مخططاتها.

ولما كانت جبهة التحرير قد أنشئت على أساس الاشتراكية التي بدأت شعوب العالم كلها تعارض أساليبها الشمولية والدكتاتورية، فإن جبهة التحرير يجب أن تسارع لتطوير أفكارها الاشتراكية وتتبنى خطًّا اشتراكيًا ديمقراطيًا معتدلاً بعيدًا عن الفلسفة الماركسية التي كرهت الشعوب أسسها الإلحادية وأساليبها الدكتاتورية التي قامت على نظام الحزب الواحد الذي يحارب العقائد الإسلامية، ويعمل لاقتلاع الدين من مناهج التعليم والثقافة والإعلام.

وإذا سارت جبهة التحرير في هذا الخط الاشتراكي الديمقراطي المعتدل فإنها يجب أن تبقى لكي تكون قوة تنجذب إليها فلول الأحزاب والاتجاهات اليسارية في المغرب والمشرق لكي تؤدي دورًا جديًا في الالتفاف حول الجزائر التي تقود مسيرتها وتتقدمها نحو الوحدة الاندماجية الشاملة.

(4) دور المؤسسات الوطنية:

نقصد بذلك المؤسسات التي تعلو فوق الأحزاب والاتجاهات السياسية والفكرية المتعددة مثل رئاسة الدولة والجيش والقضاء، بل والأوقاف والتعليم والثقافة والإعلام أيضًا.

ودور هذه المؤسسات يقوم على مبدأين:

الأول: أن تكون فوق الاتجاهات المتنافسة في السياسة الداخلية، وألا تفكر في الانحياز إلى إحدى الهيئات والقيام بأي عمل يثير شبهة لهذا الانحياز لكي تبقى في نظر الجماهير مرجعًا قوميًا ومنزهًا عن الأغراض الحزبية.
الثاني: أن يكون استقرارها واستقلالها أساسًا لحفظ التوازن بين الأحزاب والقوى السياسية المختلفة وسد الطريق أمام الاتجاهات الإلحادية باسم الاشتراكية أو الديمقراطية ومنع القوى الأجنبية من التدخل في الشئون الجزائرية الوطنية باستغلال الهيئات أو الأحزاب المصطنعة التي ترفع شعارات معادية للعروبة والإسلام والوحدة الشاملة التي هي الهدف الأساسي لكفاحنا في هذه المرحلة.

مظاهرات

بعد حضور ندوة قضايا المستقبل كنت أتابع أخبار الجزائر، ولاحظت أنه كلما اقترب الموعد الذي حددته الحكومة لإجراء الانتخابات البلدية والجهوية في (12/6/1990م) زاد إقبال الجماهير على تأييد جبهة الإنقاذ والانضمام لها، وقابل ذلك ازدياد التهجم عليها في وسائل الإعلام الأجنبي والصحافة الفرنسية والجزائرية والتشهير بها

والتخويف من تصاعد قوتها ونفوذها لدى عامة الشعب وجماهيره وبدأت التنبؤات بأنها قد تحصل على نسبة كبيرة من الأصوات وتسيطر على عدد من البلديات وخاصة في المدن الكبرى، كما توالت حوادث المصادمات بين أنصارها وبين أنصار جبهة التحرير وغيرها من الأحزاب والهيئات، لكنها كانت حوادث فردية.

بعد شهور قليلة من عودتي من رحلتي للجزائر أعلنت جبهة التحرير الحاكمة في ذلك الوقت دعوتها للتظاهر في جميع أنحاء القطر الجزائري لتأييد الحكومة وحزبها، وكانت تعتمد على أنه لا يوجد أي حزب آخر له فروع مستقرة في جميع المدن والقرى كما لجبهة التحرير المستقرة في السلطة منذ ثلاثين عامًا، فضلاً عن أن جميع أجهزة الدولة تعمل لحسابها وانتقدت ذلك جبهة الإنقاذ واحتجت عليه

واعتبرت ذلك تحديًا لها، فأعلنت أنها تدعو لمظاهرة كبرى بالعاصمة الجزائرية للرد على مظاهرات الحكومة، عند ذلك خشيت الحكومة أن يقع صدام مع الجماهير كما حدث عام (1988م)، وبدأت تتصل بالمسئولين عن الجبهة وبمن له علاقة بها، وعرض بعض الوسطاء الإسلاميين إيقاف هذا التحدي المتبادل، وإلغاء الدعوة للتظاهر من الجانبين

فألغت الحكومة أو جبهة التحرير دعوتها للتظاهر، لكن المسئولين عن جبهة الإنقاذ رفضوا إلغاء مظاهرتهم رغم إلحاح بعض الوسطاء، ومنهم الشيخ محفوظ نحناح، والشيخ سحنون، الذين اعتبروا رفض الجبهة تمردًا على رابطة الهيئات الإسلامية التي يرأسها الشيخ سحنون؛ ولذلك استجابوا لدعوة الحكومة وأصدروا بيانًا دعوا فيه الشعب لعدم الاشتراك في المظاهرة التي دعت لها جبهة الإنقاذ أصرت على تنظيم مظاهرتها في العاصمة الجزائرية لإثبات مدى التجاوب الشعبي معها

واتصل بي بعض الأصدقاء من الجزائر لأحاول إقناع الشيخ عباسي بالعدول عن ذلك، فاتصلت به تليفونيًّا فأخبروني أنه سافر إلى الإمارات بالخليج لإلقاء محاضرة، فاتصلت به هناك وقلت له: إنني أرجوه أن يتفادى أي تصادم مع الشيخ سحنون والشيخ محفوظ، ومع جبهة التحرير، وبل والحكومة كما اقترحت سابقًا لكنه قال: إن الأمر قد خرج من يده وأن الجماهير قد عبئت ولا يستطيع أحد أن يوقفها، ووعدني بأنه لن يحدث أي تصادم، وشكا لي من البيان الذي أصدره الشيخ سحنون والشيخ محفوظ، وأنهما أعطيا الجماهير فرصة للاختيار بين الإنقاذ وبينهم.

كان كثيرون ينتظرون أنباء تلك المظاهرة التي اعتبرت في نظر أجهزة الإعلام مقياسًا حقيقيًّا لشعبية الجبهة وقدرتها على تحريك الجماهير وتنظيمها، وفوجئوا بضخامتها وبالتنظيم الدقيق الذي حال دون وقوع أي حادث رغم الاستفزازات التي كانت متوقعة وثارت الصحف الفرنسية محذروة من نمو هذا التيار الشعبي المعارض للحكومة

وأعدت "جبهة الإنقاذ" شريط فيديو يسجل مسيرة المظاهرة السلمية ويبرز ضخامتها ونظامها ووزع هذا الشريط على أجهزة الإعلام في كثير من البلاد، وجاءت نتيجة الانتخابات البلدية والجهوية مؤيدة لحصول الجبهة على أغلبية ساحقة بصورة لم يكن يتوقعها أحد خارج الجزائر أو داخلها بل أعتقد أنها فاقت كل ما توقعته الجبهة ذاتها كلما علمت بعد ذلك.

كمت في داكار عاصمة السنغال في أحد الاجتماعات التي عقدتها منظمة المؤتمر الإسلامي للجنة الإعلام والثقافة التي يرأسها (عبده ضيوف) رئيس جمهورية السنغال، وكنت أتابع الانتخابات ونتائجها على التلفزيون، وبمجرد إعلان النتيجة اتصلت تليفونيًّا بالشيخ عباسي بمنزله، وهنأته وألح علي في المرور بالجزائر في طريق عودتي كما وعدته من قبل، فوعدته بذلك.

في هذا اللقاء أعدت عليه فكرتي في تفادي التصاد مع الحكومة حتى لا يعطيها فرصة لتأجيل الانتخابات التشريعة التي وعدت بإجرائها، واقترحت عليه ألا يخلط بين الحكومة وحزب جبهة التحرير أو الرئيس الشاذلي بن جديد؛ لأن اعتقادي أن هناك عناصر في السلطة والجيش لها اتجاهات متطرفة تتأثر بتوجيهات القوى الأجنبية أكثر من توجيهات الرئيس الشاذلي أو جبهة التحرير

وأن وسائل الإعلام والقوى السياسية الأجنبية بدأت تشن حملة كبيرة للتخويف من انتصارات جبهة الإنقاذ ومن طموحات عباسي مدني شخصيًّا، وقد استمتع إلي بكل انتباه، وقال: إننا نتوقع أن تماطل الحكومة في تحديد موعد الانتخابات البرلمانية، لكن الشعب لن يسمح بذلك، ولن يسكت عليه، ونحن نريد تفادي أي مجابهة ولكن لا يمكن أن نسكت على محاولات تعطيل الانتخابات البرلمانية؛ لأن في ذلك مصادرة لإرادة الشعب وسيادته وحريته.

زرت الشيخ سحنون، وجلست معه عدة مرات وأبلغته شكوى الشيخ عباسي من البيان الذي أصدره هو والشيخ محفوظ بدعوة الجماهير لعدم المشاركة في مظاهرة دعت لها جبهة الإنقاذ، فاعتذر بأنه قصد من ذلك تهدئة الأمور؛ لأن الشيخ محفوظ أقنعه بأن هذه المظاهرة سيترتب عليها مصادمات دموية مع الشرطة أو الجيش كما حدث من قبل عام (1988م)

وشكا لي من أن الشيخ عباسي مصمم على الانفراد بتسيير الجبهة وعدم التشاور مع الرابطة، وأنه دعي لاجتماع الرابطة، وطلبنا منه أن تكون الجبهة واجهة للرابطة وملتزمة بسياستها، لكنه رفض ذلك، مع العلم بأنه هو الذي كان أول من اقترح إنشاء هذه الرابطة في عام (1988م)، ولكنه بعد أن وافقت الحكومة على طلبه بإنشاء "جبهة الإنقاذ" يرفض إشراف الرابطة عليها، أو تعاونهما معًا.

عند ذلك قلت له: إنني لا أؤيد رأيه في الارتباط بين الرابطة والجبهة؛ لأنني أفضل أن تبقى الرابطة عامة في نطاق الدعوة وألا يكون لها مسئولية سياسية؛ لأن السياسة لها مخاطر وتقلبات ليس من مصلحة الرابطة أن تعرض نفسها أو نشاطها لها، وأن الجبهة حزب له قيادته وبرامجه واستقلاله ونحن جميعًا نقدم لهم النصائح والمشورة حتى يسيروا نحو الأهداف الإسلامية، والأولى في نظري أن يتحمل قادتها المسئولية وحدهم فإن نجحوا فإن الحركات الإسلامية كلها سوف تستفيد من هذا النجاح وإن فشلوا كان ذلك درسًا آخر نستفيد منه كثير من الدروس التي مازلنا نحاول الاستفادة منها في بلاد أخرى.

استمرت الحكومة تراوغ وتماطل في تحديد موعد الانتخابات البرلمانية، وزادت حدة الحملة الإعلامية في الداخل والخارج على الجبهة وعلى الإسلاميين عامة، بل تعدت إلى التشهير بالمبادئ الإسلامية وأحكام الشريعة بزعم أنها تتعارض مع الديمقراطية التي أصبح دعاتها يعتبرون أنها هي اللادينية أو العلمانية، وأنها الفرانكفونية

وكل ما ينتسب إلى ما يسمونه الثقافة الأوروبية والتنوير الفرنسي لدرجة كشفت الأهداف الاستعمارية التي ترمي إليها تلك الحملة، مما زاد في تعلق جماهير الشعب بالجبهة وتأييدها، والغريب أن مروجي هذه الأكاذيب بعد أن تجاوزوا فيها حدود المنطق والعقل والأمانة، بدءوا يصدقون أنفسهم ويدعون أن دعايتهم الضخمة سوف تفقد الجبهة نفوذها الذي كسبته في الانتخابات البلدية

وأن الأحزاب المصطنعة العديدة التي انحازت للدعايات الأجنبية سوف تحقق انتصارًا وعللوا ذلك بأن البلديات التي سيطرت عليها الجبهة تعثرت وعجزت عن تنفيذ برامجها ورأى الشعب في القرى والمدن التي نجح فيها ممثلو الجبهة، وصاروا مسيطرين على المجالس البلدية والجهوية فيها، وأنهم لم يحققوا أي إنجاز أ مطلب جدي.

لكن الواقع أن الجماهير رأت بعينها أن الحكومة تضيق على هذه البلديات وتتخذ جميع الإجراءات لمنعها من القيام بأي مشروع، وأن ذلك هو الذي ساعد في إقناع الشعب برأي قادة الجبهة بأن أي إصلاح لا يمكن إلا بعد تغيير تلك الحكومة، بل وتغيير النظام الذي قاسوا من فساده وانحرافاته طويلاً، وأصبحت الجماهير أكثر إلحاحًا في ضرورة الإسراع بإجراء الانتخابات البرلمانية لوضع حد لهذا التناقض بين سياسة الحكومة ونشاط البلديات والمجالس الجهوية التي لا تمثل جبهة التحرير.

التقيت بالشيخ "محفوظ" وتناولت معه الغداء، وعاتبته كما عاتبت الشيخ سحنون على إصدار بيان يستفز جبهة الإنقاذ أو يستغله أعداء التيار الإسلامي لشق صفوف مؤيديه وإظهار الإسلاميين بمظهر الفرقة والانقسام، في حين أننا دعاة وحدة وتصالح وتعاون حتى مع غير الإسلاميين.

كانت وجهة نظر "الشيخ محفوظ" هي أن عناصر الجبهة غير منضبطة، وأنهم يستخدمون القوة والعنف لمنع أنصار جمعية الإرشاد من الخطابة في المساجد ويفرضون سيطرتهم على المساجد، وأن كثيرًا من العلماء يشكون من ذلك، وأن السلطة عاجزة عن مواجهتهم في كثير من الجهات، وخاصة في الأقاليم البعيدة، وأنه ينوي دعوة عدد من العلماء لإصدار بيان يشجب هذه التصرفات

قلت له: إن مقاومة العنف والمحافظة على النظام هي مسئولية الحكومة، وكل عمل من جانبكم في هذا الاتجاه تفسره الجبهة على أنه انحياز للسلطة وتقرب لها وتأييد لسياستها التي يعتبرونها موجهة ضد الإسلام وضد جبهة الإنقاذ بالذات، وأرى ألا تقدموا على أي عمل يفسر على أنه انحياز للحكومة؛ لأن الحكومة لديها إمكانات كبيرة لفرض سياستها وتحمل مسئوليتها، وأنتم لا تشاركون فيها، فيحسن ألا تحملوا أنفسكم مسئولية سياساتها المعادية لجبهة الإنقاذ.

وقلت له: إذا كنت مقتنعًا بسياسة الحكومة وجبهة التحرير فالأولى أن تنضم لها صراحة، حتى يكون لك دور في توجيه سياستها والمشاركة في مسئولياتها، بدلاً من أن تحمل جماعتك مسئوليات سياسة حكومية، لا رأي لكم فيها، ولا تعرفون اتجاهاتها ولا من يسيرها

قال: إننا فعلاً فكرنا في ذلك وقدمنا بعض إخواننا كمرشحين في بعض البلديات ضمن قائمة جبهة التحرير التي وافقت على ذلك لتستفيد من نفوذ جمعيتنا، ولكن إخواننا لاحظوا أن موجة العداء للحكومة وجبهة التحرير كبيرة لدرجة أنها سوف تسيء لنا، وانسحبوا فعلاً من تلك القوائم؛ ولذلك بدأنا نفكر في إنشاء حزب مستقل، قلت له: إنني لا أوافق على ذلك، ولم نصل إلى اتفاق في هذا الموضوع.

بعد عودتي من الجزائر كنت أتابع أخبارها في الصحافة الأجنبية وبعض الصحف الجزائرية التي كانت تصلني متأخرة، ولاحظت أن بعض القوى الأجنبية لم تكتف باتخاذ إعلامها وسيلة لمقاومة المد الإسلامي الشعبي في الجزائر، بل جعلت ذلك سياسة ثابتة معلنة وبدأت تدفع عملاءها لإنشاء أحزاب مصطنعة لتتخذها أداة للضغط على الحكومة الجزائرية ذاتها، وتحرضها وتدفعها دفعًا للتصادم مع الجماهير التي يزداد حماسها لجبهة الإنقاذ يومًا بعد يوم.

وكعادة القوى الأجنبية الظاهرة والمستترة، بدأت تحرك بعض النساء اللاتي تعجبهن الشهرة التي يوفرها الإعلام الفرنسي والأجنبي عمومًا ورسمت لهن خطة لإثارة الجزائريات المسلمات ضد الجبهة، بل ضد الشريعة والعقيدة إن أمكن ذلك، وفوجئنا بالدعوة إلى مظاهرة نسائية بحجة المطالبة بحرية المرأة، وكان مخططوا هذه الحركة يعلمون أن النساء في الجزائر لهن حق الانتخاب

وزينت لهم شياطينهم أن شعار حرية المرأة سوف تجتذب الناخبات نحو الأحزاب العلمانية الفرانكفونية، ولم تخف الحكومة الجزائرية، والفرنسية تشجيعها لهذه الحركة النسوية الموجهة من الخارج، لكن استجابة النساء لها كانت ضعيفة إلى حد كبير، ومع ذلك خرجت وسائل الإعلام تهلل لهذه المظاهرة المحدودة وتعتبرها دليلاً آخر على أن دعايتها ضد الإسلام والإسلاميين سوف تضعف الحماس الشعبي لجبهة الإنقاذ كلما تأخر موعد الانتخابات البرلمانية؛ ولذلك فإن العناصر الموالية للقوى الأجنبية في الجيش والسلطة جعلت هدفها هو تأخير الانتخابات أو تعطيلها أطول فترة ممكنة أو إلى ما لا نهاية.

ردًّا على هذه المظاهرة النسوية دعت جبهة الإنقاذ إلى مظاهرة نسائية للدفاع عن الشريعة وعن مبادئ الإسلام التي لاحظوا أن التشهير بها قد تجاوز جميع الحدود وكان لهذه الدعوة أثر كبير في الرأي العام، حتى إن الشيخ سحنون قام بدور كبير في التشجيع عليها، مما اعتبره البعض اعتذارًا عن معارضته للمظاهرة السابقة، وأعتقد أن هذا التحول لم يكن مقصورًا على الشيخ سحنون، بل صار عامًا لصالح جبهة الإنقاذ وذلك بسبب مغالاة السياسة الفرنسية والإعلام الأجنبي الذي لم يقتصر على التشهير بالجبهة بل تجاوزه إلى التهجم على الشريعة وعلى قيم الإسلام ومبادئه وتاريخه كذلك.

فوجئ الإعلام الأجنبي والرأي العام الفرنسي بنجاح هذه المظاهرة وخروج أغلب النساء المحجبات والسافرات للمشاركة فيها؛ لأن الشعار الإسلامي في نظر الجميع أصبح رمزًا للتحرر والاستقلال، طالما أن من يتصدرون للتشهير به كانوا في نظرهم من اللادينيين والفرانكفونيين الذين يسمونهم "حزب فرنسا".

في الزيارة التالية للجزائر لاحظت أن الشيخ سحنون قد أصبح من أكبر المؤيدين للجبهة والمعجبين بصلابة قيادتها وشجاعتها، وقال لي في أحد اللقاءات: إن عباسي مدني منذ نشأته جريء وشجاع، حتى إنه كان أول من نفذ دعوة جبهة التحرير في أول نوفمبر عام (1954م)، وكانت مجموعته هي التي ألقت أول قنبلة على دار الإذاعة

وكانت هذه القنبلة هي فاتحة الكفاح المسلح في ثورة التحرير، وترتب على ذلك أنه اعتقل وسجن وبقي في السجن طوال مدة الثورة، ولم يخرج إلا بعد إعلان الاستقلال، وها هو ذا يسير في طريق الثورة الثانية، للدفاع عن مبادئ الإسلام وأصالة الشعب وهويته، ضد قوى التبعية والإلحاد.

وداع

كنت في المغرب ومررت في عودتي على الجزائر، والتقيت مع الشيخ عباسي، وعرفت منه أن الحكومة مازالت تراوغ وتماطل في تحديد موعد الانتخابات البرلمانية، وأن صبره وصبر جميع أنصار الجبهة قد نفد، وأنه سيضطر إلى الدعوة إلى عصيان مدني شعبي للضغط على الحكومة وتبين لي من اطلاعي على الصحف ومقابلاتي مع كثير ممن أعرفهم أن بعض العناصر في السلطة

وخاصة من العسكريين تعمل كل ما في وسعها لمنع أي تقارب بين الطرفين، ومنع الرئيس الشاذلي من اتخاذ أية خطوة نحو هذا التقارب، وأن هناك قوى أجنبية لا تريد أن تتم أي خطوة تؤدي إلى الاستقرار في الجزائر، وحاولت مرة أخرى القيام بأي عمل للتوفيق أو التنسيق بين الإنقاذ وحماس لكي يكون الإسلاميون جميعًا صفًا واحدًا في مواجهة هذا الخطر، لكنني لم أنجح في ذلك.

أدركت أن العناصر المعادية للاستقرار في الجزائر لها دخل في هذا الخلاف كذلك وأن الوسائل التي تتخذ لزيادة الخصومة بين السلطة الحاكمة وبين الإسلاميين عمومًا هي ذاتها التي تعمل للتفريق بين الإسلاميين والإيقاع بين قادتهم وهيئاتهم بل وأنصارهم أيضًا.

إن المصالح أو المطامع الشخصية والطموحات الأنانية لبعض الأشخاص هي أكبر عامل في ذلك، ومن المؤكد أن المتسللين الذين تستغلهم القوى الأجنبية لاختراق أجهزة السلطة أو التنظيمات الحزبية أو الهيئات الشعبية يستغلون هذه الطموحات الشخصية للإيقاع بين القادة والمسئولين في الدولة والأحزاب المعارضة أو المؤيدة لها، بل بين الأحزاب فيما بينها وأيضًا في داخل الأحزاب والهيئات ذاتها.

إن الخلافات التي تضعف مجتمعنا وتعطل مسيرتنا ليست مقصورة على ما يفرق بين الحكومة والأحزاب، ولا بين الأحزاب المختلفة المتعددة، بل إنها موجودة ومستمرة بصورة أكبر في داخل كل هيئة وكل حزب من الأحزاب. لقد أحسست أن الذين يوقعون بين حماس والإنقاذ يسعون أيضًا للإيقاع بين عباسي وبلحاج أو يحاولون ذلك، وقد حذرت عباسي عدة مرات من أن يتأثر بهذه المحاولات وقلت له: إن مجرد الاختلاف في الرأي لا يجوز أن يفرق بين المسئولين في الجبهة، ووافقني على ذلك وإن كان لم يذكر لي شيئًا مما يدور في داخل الحركة

وكل ما سمعته عن ذلك كان من خلال بعض الأفراد خارج الجبهة ومن تعليقات الصحف الأجنبية التي دأبت على ترديد نغمة القول بأن علي بلحاج (متطرف) وأن عباي كان أكثر اعتدالاً ومرونة، وهم يقولون ذلك ظانين أن ذلك كاف للإيقاع أو التفريق بينهما، وبقصد إيجاد هذه الفتنة.

لقد حاولت كثيرًا أن أقنع "الشيخ عباسي" بالتفاهم أو التقارب مع الشيخ محفوظ أو التعاون مع جماعته، لكنني لم أنجح؛ لأنه يعتبرني من الإخوان، كما حاولت إقناع الشيخ محفوظ بوقف تصرفاته أو تصريحاته التي كانت غير موفقة في كثير من الأحيان لأنها تظهره بمظهر المعادي للجبهة وتثير أنصار الإنقاذ، وتوغر صدورهم عليه وعلى جماعته وكان المتسللون والعناصر المخربة هي التي تتخذ التطرف والنفاق وسيلة للتأثير على المسئولين لإحداث الشقاق بين الجميع.

ومما لاشك فيه أن حب الزعامة والرياسة هو مرض شائع لدى كثير من الوطنيين بل والعرب والإسلاميين أيضًا، والحجج التي يقدمها كل منهم لتبرير خصومته أو العاملين معه تكون في كثير من الأحيان ستارًا يخفي حب الظهور والتطلع للزعامة أو طموحه للانفراد بالزعامة أو الرياسة أو السلطة، سواء داخل الحكومة أو الحزب أو الهيئة.

والأصل أن الإسلام والسلوك الإسلامي يوجب معالجة هذا المرض الموروث لدى العرب خصوصًا، ولدى كثير من المسلمين، إلا أنه إلى الآن لم يقض على هذه الظاهرة ظاهرة الخلاف المتكررة والمتزايدة في صفوف العرب والمسلمين، التي تؤدي إلى الفتن التي تزعزع كيان الدولة والأمة، والتي تصل في بعض الأحيان إلى شغلهم بالخلافات الداخلية عن مواجهة المؤامرات والعداوات الأجنبية التي تهدد بلادهم وشعوبهم ومستقبلهم جميعًا.

في نفس الوقت كنت أتابع موقف القوى الأجنبية وخاصة الصهيونية التي يظن كثيرون أنها بعيدة عن أحداث الجزائر، وأعلم أنها تستفيد من هذه الشقاقات والخلافات والفتن، بل ولها دور في إشعال نارها. إنني منذ اتصالي بهذه القضية في عام (1945م) كنت أعتقد أن الصهيونية والماسونية لها دور كبير في السياسة الفرنسية إزاء الجزائر، ذلك أن تجربة الاستيطان الفرنسي والأوروبي في الجزائر لتكوين مجتمع عنصري فرنسي مهاجر ومستوطن يطرد أهالي البلاد أو يقضي عليهم أو يذيبهم في المجتمع الأجنبي العصري المكون من مستوطنين يمكنون من الاستيلاء على الأراضي وعلى الثروة والاقتصاد

وعلى السلطة والإدارة هو نموذج تحتذيه السياسة الصهيونية لنقل مستوطنين يهود إلى فلسطين واستيلائهم على الأراضي والمال والاقتصاد، ثم السيطرة السياسية لتوطين دولة عنصرية صغيرة معتدية لتكون قاعدة للتوسع وقادرة على إبادة أهالي البلاد الأصليين، ثم السيطرة على المنطقة كلها. والعدوان الثلاثي الذي اشتركت فيه فرنسا مع إسرائيل وبريطانيا في عام (1956م) يؤيد ذلك.

في نظري أن الإسرائيليين لم يكونوا بعيدين عن المشروع الذي عرضه ديجول في عام (1960م) لتقسيم الجزائر إلى دولتين إحداهما للمستوطنين الفرنسيين والأخرى للعرب ولم يكن هذا إلا تكرارًا لعملية تقسيم فلسطين الذي قررته الأمم المتحدة في عام (1947م)

وتضمن إنشاء دولة صهيونية في جزء من فلسطين، يكون مؤهلاً لابتلاعها كلها، بل وإبادة شعبها والسيطرة على المنطقة بعد ذلك، ولكن إرادة الله مكنت شعب الجزائر من إفشال المخطط الفرنسي، ثم مكنت الشعب الإفريقي في جنوب إفريقية من القضاء على النظام العنصري ولم يبق إلا العرب في المشرق الذين يقع عليهم القضاء على النظام العنصري الصهيوني في فلسطين.

ولولا بطولة الشعب الجزائري وصموده وإصراره على وحدة أراضيه وعدم قبوله أي محاولة للتقسيم، لكان عندنا الآن دولة فرنسية عنصرية في شمال إفريقيا لا تقل خطرًا عن إسرائيل في المشرق، كان من المقرر أن تتعاون الدولتان العنصريتان مع جنوب إفريقيا العنصرية لمحاصرة شعوب العالم الإسلامي والشعوب الإفريقية كلها، ويكون لهذه الدول العنصرية التفوق العسكري والأسلحة النووية لإذلال الشعوب الإسلامية والإفريقية وتمكين القوى الأجنبية ومهاجريها من إبادتها كما أبادوا السكان الأصليين في أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية واستراليا...

لذلك كنت أتفق مع "عباسي مدني" على أن جبهة الإنقاذ تخوض ثورة جزائرية وطنية صميمة ضد النفوذ الأجنبي والفرنسي خاصة لتمكين شعب الجزائر من الدفاع عن هويته وأصالته، وأن عداء فرنسا لجبهة الإنقاذ ليس لصالح الحكومة الجزائرية أو العناصر العسكرية المسيطرة عليها، وإنما هو لأهداف استراتيجية للسيطرة الأجنبية الإمبريالية على شمال إفريقيا، وإفريقيا كلها، وإبقائها تحت النفوذ الفرنسي والأجنبي على العموم، والمنى أن كثيرين في الجزائر وخارج الجزائر لا يدركون ذلك، بل لاحظت أن منهم بعض الإسلاميين بكل أسف.

كان "عباسي مدني" يقول عن حركته:

إنها هو الثورة الثانية، بل الثورة الحقيقية لشعب أصيل يدافع عن مقوماته وشخصيته ووحدته، إنها مرحلة ضرورية لاستكمال أهداف الثورات السابقة، ليس فقط ثورة التحرير التي انتهت بالاستقلال، بل الثورات المتتالية منذ بدءوا الغزو الإستعماري للجزائر ومقاومة الأمير عبد القادر والثورات العديدة المتوالية بعد ذلك، لأنه كلها ثورات إسلامية للدفاع عن أرض الإسلام وقيمه وسيادة أمته وشعوبها، كل ما هنالك أن فترة الحكم الوطني وحكومات جبهة التحرير الوطني عجزت عن تحقيق طموحات الشعب
ومكنت العناصر المتفرنسة والعميلة من احتلال مراكز القوى في الإدارة والجيش، وهذه العناصر ذاتها هي التي دبرت الانقلاب فيما بعد، ومازالت القوى الأجنبية تساعدها وتدفعها دفعًا لكي تقضي على مقومات الشعب الأصيل وإذلاله وفرض عملية التغريب والفرنسية والتمزيق، ولو أدى ذلك إلى إبادة العناصر الحية الأصيلة فيه ليستسلم للسيطرة الأجنبية التي قاومتها شعوبنا جميعًا ومازالت تقاومها حتى الآن.

لهذا السبب كنت معارضًا لقادة الهيئات والأحزاب الأخرى وخاصة من يرفعون شعارات إسلامية مثل الشيخ "محفوظ نحناح" لأنهم يتخلون تدريجيًّا عن المشاركة في هذه الانتفاضة الشعبية، بل ويعاونون العناصر المسيطرة على الدولة المتآمرة على الإنقاذ التي تقود هذه الثورة الإسلامية.

عندما قررت السفر عائدًا أصر "الشيخ عباسي" على أن يوصلني بسيارته إلى المطار، وفي الطريق كنا وحدنا ودار بيننا حديث طويل حاولت فيه أن أسبر أبعاد خطته ومدى ثباته وصلابته؛ لأنني كنت أخشى أن يكون هذا آخر لقاء بيني وبينه وكنت أتوقع حملة مركزة على شخصه بل واغتياله، وإن كنت لم أصرح له بذلك، كان حديثي عن المرحلة الحالية في تاريخ الأمة الإسلامية، ونهضتها ووحدتها التي تعارضها القوى الأجنبية.

سألته إن كان يدرك دور القوى الأجنبية والصهيونية خاصة فيا نواجهه من مشاكل وما نخوضه من معارك في جميع أقطارنا، فقال: هذا هو بيت القصيد، وهذا هو ما يعرفه كل مسلم في الجزائر بصفة خاصة، إن تأييد الجماهير للجبهة سببه أنهم يعتبرون هذه الحركة مكملة لكفاحهم الوطني وأنهم مازالوا يخوضون معارك الجهاد في ثورة التحرير التي كان الفرنسيون فيها يصفونهم بأنهم المسلمون في الجزائر

وكان الشهداء الذين ماتوا فيها والأبطال الذين لم يموتوا يعتبرون أنفسهم مجاهدين في سبيل الإسلام، إن الإسلام كان عقيدتهم ووطنهم وهويتهم وقوتهم، وهم يعتبرون أن جبهة التحرير قد خانت هذا الهدف ومكنت الاشتراكيين والعلمانيين بل والمتفرنسين من سرقة الاستقلال الذي حققه الشعب بجهاده ووحدته وتضحياته، وذلك كله تحت شعارات زائفة مثل التقدمية أو الاشتراكية أو القومية أو العلمانية إن العناصر التي ساءها انتصار الجبهة في الانتخابات البلدية

وتحاول أن تدفع الجيش والحكومة لاغتصاب سيادة الشعب ومنع الإسلاميين من الوصول إلى السلطة إنما هي عناصر في مجموعها من الفرانكفونيين وبقايا اليساريين والعلمانيين الذين تسللوا إلى مراكز القوى في ظل حكومات جبهة التحرير ويستخدمونها الآن في مقاومة جبهة الإنقاذ لإتمام مهمتهم في اقتلاع الإسلام من هذه البلاد؛ ولذلك فإن الشعب يعتبرهم العدو، هم (حزب فرنسا) في نظرهم.

قلت: إننا متفقون إذًا، بقي أن أقول لك إن الخطة الاستعمارية الحالية هي دفع البلاد إلى فتنة أو حرب أهلية، وتكون السلطة أو الدولة هي العدو الأول وننسى دور القوى الأجنبية ويصبح دور السلطة المحلية هو أن تنفذ خطط الاستعمار وتوجيهاته مقابل إمداده لهم بالمال والسلاح وتمكين العناصر الموالية لهذه السياسة من احتكار السلطة والحكم أطول مدة ممكنة، فكيف نستطيع مقاومة هذه "الفتنة"؟

قال: إن الشعب الجزائري يعرف هذا، ولذلك فإننا نصر على إجراء الانتخابات البرلمانية بأسرع وقت ممكن حتى يستطيع ممثلو الشعب المسلم أن يحقق هدفه في التحرير الكامل الشامل بأسلوب دستوري وقانوني وسلمي، ينهي سيطرة هذه العناصر التي تسللت إلى مراكز القوى في الحكومة والجيش والدولة، ولكنهم يسدون علينا هذا الطريق السلمي ولن يكون أمامنا إلا دعوة الشعب للجهاد والمقاومة.

قلت: إنك تعرف أن الفتنة إذا وصلت إلى حد القتال واستعمال السلاح فإنه يصعب السيطرة عليها، ويصبح التغلب للأقوى وهم يعتبرون أنفسهم أصحاب القوة وليس فقط بسيطرتهم على الحكم بل وبالسيطرة العالمية للقوى الأجنبية التي تؤيدهم وتزودهم بكل ما يحتاجون إليه للقضاء على المقاومة الشعبية، ولو اقتضى الأمر تخريب البلاد وتمزيق وحدتها.

قال: إن هذا الشعب قاوم أعداءه وخاض معارك طويلة ضد الاستعمار منذ بدأ الغزو الفرنسي، وهو الآن يواصل جهاده للتحرر والنهضة والدفاع عن كيانه وذاته وأصالته وهويته، وقد نجح في طرد الجيوش الأجنبية من أرضه وهو واثق من قدرته على القضاء على أذناب الاستعمار ورواسبه لإتمام تحرره الكامل.

قلت: هناك شيء أريد أن أتذكره، وهو أن القوى الأجنبية لها هدف مباشر هو دفع الحكومة إلى حل جبهة الإنقاذ وتحطيم تنظيمها واعتقال أنصارها وإبعادها من الساحة السياسية كما فعلوا معنا في مصر، وقد حققوا هذا الهدف بالنسبة (للإخوان) في مصر وحققوه مرة ثانية بالقضاء على تنظيم (النهضة) في تونس، وهذا هو ما يريدونه الآن في الجزائر، لكي يستقر في العالم العربي قاعدة عامة هي وجود أحزاب إسلامية أو أصولية –كما يسمونها- تعمل في الساحة السياسية.

إن أول خطوة تتجه إليها السلطة الموالية للقوى الأجنبية في الجزائر ستكون حل جبهة الإنقاذ واعتقال أنصارها ومحاكمة قادتها والحكم عليهم، حتى تصبحوا أنتم مثل الإخوان في مصر والنهضة في تونس، ويكون أمامكم سنين طويلة مثل السنوات التي مرت علينا ونحن نواجه وصف حركتنا بأنها (جماعة منحلة).

قال: إن ما واجهه "الإخوان" في مصر لم يزدهم إلا قوة وانتشارًا، وشعبنا سوف يزداد عزمًا وتصميمًا، ولن يسلم أو يستسلم وسيواصل جهاده الذي بدأ منذ أكثر من مائة وخسمين عامًا.

قلت: إن هذا صحيح، لكن هذا الجهاد كان له ضحايا وقدم شهداء وأبطالاً استشهدوا لأنهم صمدوا ولم يتراجعوا أمام القوة الغاشمة، وأنت تعرف الإخوان وأبطالهم الذين واجهوا الاضطهاد والتعذيب وأحكام السجن والإعدام، وأخشى أن تكون أنت مستهدفًا كما أخشى إذا تطورت الأحداث أن تكون أنت وقادة الإنقاذ معرضين لهذا المصير.

قال: أنا على أتم الاستعداد وأعلم ذلك يقينًا.

قلت: لقد أديت واجبي وعرضت عليك حالنا والدروس التي أرجو أن تعيها أنت وإخوانك من تاريخ الإسلام والحركة الإسلامية خارج بلادكم، والأمر لكم ولسنا نحن الذين نصدكم عن الجهاد طالما أنتم واعون لهذا الدرس.

كانت هذه آخر كلماتي للشيخ عباسي عندما عانقني مودعًا في مطار الجزائر، وبعد ذلك بأسابيع قليلة اعتقل الشيخان "عباسي مدني وعلي بلحاج"، ولم أتلق بهما إلا في ديسمبر عام (1994م) لمتابعة محاولات الوساطة.

الجهاد

كلما كانت السلطات الجزائرية تماطل في تحديد موعد الانتخابات البرلمانية كان كل ما يقوله الشيخ عباسي مدني لمن يحاورونه هو أنه سيضطر إلى دعوة الشعب للجهاد. إن حجته أن شعبنا الأصيل له السيادة الكاملة في وطنه، وأنه إذا كان يريد دولة إسلامية لا تريدها فرنسا ولا دول أخرى كبيرة أو صغيرة، فإن حرمانه من التصويت في انتخابات حتى يعتبر عدوانًا على سيادته يفرض عليه الجهاد.

وإذا سُئل عن مدى هذا الجهاد كان يقول:

إنه سيدعو إلى المقاومة السلمية أو العصيان المدني، ولم يقل أمامي في يوم من الأيام إنه سيدعو إلى العنف أو المقاومة المسلحة وأنا واثق أنه كان صادقًا في ذلك، بدليل أنه لم يقع أي حادث يمكن أن يسمى عنفًا أو إرهابًا إلا بعد اعتقاله.

في نظري أن الذي دفع فريقًا من أبناء الجزائر إلى العنف والمقاومة المسلحة هو أخطاء الذين استولوا على السلطة بطريق الانقلاب؛ لكي يلغوا نتائج الانتخابات التي أجريت بمعرفة حكومة جبهة التحرير المعادية لجبهة الإنقاذ، ومنع إتمام تلك الانتخابات، وذلك بتحريض وتشجيع من دول أخرى أجنبية وعربية لمصالحها الذاتية، رغم أن ذلك يغرق الجزائر في فتنة تأكل الأخضر واليابس؛ لأن مصلحة الجزائر ليست في حسابهم ولا تهمهم ولا يريدون لها استقرارًا ولا نهضة ولا قوة إذا كان ذلك يعطل أهدافهم السياسية الأنانية، بل والعدوانية الإجرامية.

إنهم قرروا اعتقال الشيخين عباسي وبلحاج لمنعهما من الاتصال بالجماهير والسيطرة عليها، إنهم دفعوا الجماهير بذلك دفعًا إلى الجهاد المسلح، لكن بدون قيادة قادرة على ضبطه والتحكم في مسيرته. إنهم قصدوا تحويل الجهاد إلى فوضى وعنف يسمونه إرهابًا؛ لكي يشوهوا هذا المبدأ الذي تفرضه الشريعة ويعتز به المسلمون، ويخشاه الأعداء الطامعون وعملاؤهم.

أحدث اعتقال الشيخين عباسي مدني، وعلي بلحاج صدمة عنيفة لدى الرأي العام وصاحب ذلك حملة إعلامية فرنسية في الخارج وحملة حكومة الجزائر في الداخل لتجريح جبهة الإنقاذ والسخرية من مبادئها وقيادتها وأنصارها، وزاد سيطرة الحكومة الجزائرية على الإعلام الذي جاوزت أكاذيبه الحدود وتمادى في ذلك حتى صارت الحكومة تصدق ما يطلقه من أكاذيب وافتراءات وتشهير بجبهة الإنقاذ

وفي الجانب الآخر تعالت الأصوات تطالب بالإفراج عن الزعيمين الأسيرين حتى اطمأنت الحكومة إلى أن الشعب قد انشغل بهذه القضية الجانبية ونسي موضوع الانتخابات البرلمانية وأهلها، وعند ذلك أعلنت السلطات تحديد موعد الانتخابات التشريعية، وتوالت الأصوات هنا وهناك تعلن في صورة احتجاج أن الشعب لا يمكن أن يقبل إجراء هذه الانتخابات في غيبة قادة الجبهة وزعمائها، وتوقعت الحكومة ذلك أو روجته.

تصادف أن التقيت ببعض الجزائريين في أوروبا من بينهم (سلمان) أحد أبناء الشيخ عباسي، الذي فر من القبض عليه، وفهمت منه أن هناك اتجاهًا قويًا في صفوف الجبهة للدعوة لمقاطعة الانتخابات التشريعية إلى أن يفرج عن الشيخين ومن اعتقل من أنصارهما فرجوته أن يتصل بوالده وبمن يعرف من قادة الجبهة ويبلغهم بأنني ألح عليهم في عدم مجاراة دعاة مقاطعة الانتخابات؛ لأن هذا هو ما تريده الحكومة ويحقق لها فرصة إيجاد برلمان زائف يصدر لها ما تريده من قوانين وقرارات وفي مقدمتها حل الجبهة.

بقي الجميع يترقبون قرار الجبهة بشأن دخول الانتخابات أو مقاطعتها، ولم ينجل الأمر إلا قبيل الموعد المحدد لإجراء الانتخابات بأيام معدودة، إذ فوجئ الجميع بإعلان الجبهة دخول مرشحيها للانتخابات رغم كل ما يلاقونه من صعوبات، ودهش الجميع لهذه المفاجأة؛ لأن الرأي السائد كان يرجح اتجاه الجبهة إصدار قرار بالمقاطعة.

كانت المفاجأة أكبر عندما أسفرت هذه الانتخابات عن فوز الجبهة بنسبة أكبر من فوزها في الانتخابات البلدية، وصعق الذين راهنوا على المقاطعة وعلى تخلي الشعب عن الجبهة التي توجه لها الحكومة والإعلام الأجنبي الاتهامات وحملات التشهير بصورة ظنوا أنها أفزعت الرأي العام وصرفته عن هذه الجبهة التي لم يمض على تأسيسها عامان. لقد اعتقل "الشيخان" وغيرهما من قادة الجبهة عقابًا لهما على جريمة تجرؤها على رفع شعار الإسلام الذي تخشى القوى الأجنبية نتائجه؛ لأنه يثير الجماهير ويوقد في نفوس الجزائريين الثأر من القوى الاستعمارية التي احتلت بلادهم وأذلت آباءهم وأجدادهم جيلاً بعد جيل.

وهذا التأييد الكاسح الذي لم يتوقعه أحد من أعدائنا، ولم يدخل في حساب قادة الإنقاذ أنفسهم ولا مؤيديهم قد أذهل كثيرين، واعتبره أعداؤنا تحولاً تاريخيًّا لم يحسبوا حسابه من قبل، فقد انطلقت شعلة الحماسة الإسلامية في شرايين المجتمع وأيقظت القاعدة الشعبية العريضة، بعد أن كانت الدعوة الإسلامية فيما مضى تيارًا فكريًا في إطار الثقافة والإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، أو في التجديد الفقهي والديني على الأكثر، إنها الآن دفعت المسيرة الجماهيرية نحو الإسلام السياسي، وحركت زلزالاً لم يتوقعه خبراء الاستعمار ومستشاروه وعلماؤه ومفكروه.

إنهم راهنوا دائمًا على غفلة جماهيرنا وغرقها في بحار التخلف والانحطاط والتدهور الذي شل قواها ومزق أنسجة مجتمعها السياسي وأعطاهم الفرصة تلو الفرصة لكي ينشئوا مراكز الاستشراق ويؤسسوا أجيالاً من الخبراء ويجندوا السياسيين الموالين لهم لجني ثمار هذا التخلف، وقطف ثماره عن طريق الاحتلال تارة وعن طريق السيطرة والاستغلال المالي والاقتصادي تارة أخرى

بل وعن طريق الاستيطان والإباد، كذلك نجحوا في غرس المعمرين الأوروبيين وملكوهم الأراضي والمساكن والسلطة والمال، واستقر لهم الأمر زمنًا طويلاً قبل ثورة التحرير والاستقلال الوطني، وكان المعمرون فرنسيين في الجزائر أو إيطاليين في ليبيا أو هولنديين وإنجليزًا في جنوب إفريقية، ثم صهيونيين في فلسطين والمشرق.

لقد تجاوز تأييد الناخبين لجبهة الإنقاذ جميع التوقعات، كان أكثر المتفائلين يتمنى لها أن تحصل على ربع عدد مقاعد المجلس النيابي أو خمسها، لكن النتائج الأولى أعطتها أغلبية تتجاوز الستين في المائة، وبقيت عدة مقاعد مضمونة لها في الجولة الثانية من الانتخابات مما يرجح حصولها على أغلبية الثلثين التي تمكنها من استصدار قرارات ديمقراطية بتعديل الدستور وتغيير النظام القانوني والإداري، وهذه هي الطامة الكبرى التي لا تستطيع قوى الاستعمار مواجهتها، ولم تحسب حسابها.

تعرض شعب الجزائر لهجمة تتارية عسكرية لم يشهدها، حتى في عهد الاستعمار الأجنبي، ولم يكن ذلك لصالح الجزائر، بل لصالح نظم أخرى قريبة أو مجاورة أو دول كبرى لا تطيق أن ترى نظام حكم يرفع راية الإسلام التي تذكر المستعمرين بالفتوحات العربية في القرون الوسطى، وتذكر بعض الحكام بأن الشعوب قد أعلنت إرادتها في فرض الحل الإسلامي وأنها ستفعل ذلك في كل قطر عربي تجري فيه انتخابات حرة.

إن الديمقراطية والشورى التي تستوجب انتخابات حرة تعطي الجماهير سيادتها وحقها في اختيار حكامها ومحاسبتهم وعزلهم، أصبحت أكبر خطر يهدد مصالح القوى الأجنبية وحكامًا ومحاسبتهم وعزلهم، أصبحت أكبر خطر يهدد مصالح القوى الأجنبية وحكامًا مستبدين في عدد من الأقطار العربية، مما دفع الطرفين لإقامة حلف مقدس علني وصريح لمقاومة أي اتجاه للديمقراطية التي توجب حرية الانتخابات طالما أنها تؤدي إلى انتصار التيار الإسلامي، واندفعوا لذلك قبل أن يعطوا لفلاسفتهم ومنظريهم الوقت الكافي لتفسير ذلك لشعوبهم وشعوبنا.

ولم تكن المفاجأة في جانب واحد، بل إن الجبهة فوجئت كذلك بهذا النصر الكبير، وفوجئت كذلك باشتداد الحملة البوليسية الإعلامية التي كانت تزداد عنفًا وضراوة في الداخل والخارج، وخاصة التأييد الأحمق الذي أعلنته الأوساط الأجنبية وحلفاؤها في العالم العربي، وتشجعيهم للأساليب الانقلابية والتدابير العسكرية التي انساق لها عملاء (الطغمة العسكرية) الذين أصدروا قرارات بحل الحزب الذي حاز على تأييد الأغلبية الساحقة في الانتخابات، وألغوا نتائج الانتخابات التي أجرتها وسيرتها حكومة معارضة للجبهة

وأعدت لها جميع الظروف التي كانت كافية في نظر أنصارها لصرف الجماهير عن تأييد الجبهة، واعتقلت هذه الطغمة الانقلابية جميع النواب الذين نجحوا في الانتخابات، وأنشئوا معسكرات الاعتقال في الصحراء، وحشدوا فيها كل من يعتبرونه مؤيدًا للجبهة أو للشعارات الإسلامية التي روجتها وشجعها على ذلك أن انهالت عليها المساعدات المالية والعسكرية والتأيدات السياسية من دول كبرى وصغرى، الأمر الذي زاد في تهييج الجماهير المستفزة فانطلقت وراء الشعارات الثورية ضد من سمتهم (حزب فرنسا) الذي يريد أن يعيد لها نفوذها الذي ظنوا أن الاستقلال قد قضي عليه.

هذا الاتجاه الشعبي الثوري لم يتوقعه مخططو القوى الأجنبية وحلفاؤها الذين استهانوا بشعارات الجبهة ونفوذها الشعبي، وكان من أهم أسباب تلك الاستهانة أن دعايات الجبهة وبرامجها كانت في نظرهم سطحية وارتجالية، وتشير إلى اصلاحات جزئية في مسائل داخلية مثل المساكن الشعبية والشرطة والجيش والضرائب والميزانية، ولم تقدم برنامجًا راديكاليًا جذريًّا من الطراز الذي يعتبرونه ثوريًّا.

لقد أتيح لي أن أحضر مقابلة صحفية أجراها أحد الصحفيين الفرنسيين المتخصصين في شئون الحركات الإسلامية مع عباسي مدني قبل الانتخابات وسأله: ماذا تريدون بالدولة الإسلامية التي تطالبون بها في الجزائر؟ فأجابه بكل بساطة... إذا كنت لا تعرفها، فهي الدولة التي جاءت الحملة الفرنسية في عام (1830م) للقضاء عليها واحتلال الجزائر لمدة مائة وثلاثين عامًا.

طبيعي أن هذا يعني أنها دولة متحررة من السيطرة الأجنبية والنفوذ الفرنسي بالذات، هذا ما فهمه الفرنسي، لكن دعايات العلمانيين والفرانكفونيي وعملاء القوى الأجنبية فسرت ذلك بأن الجبهة حركة رجعية، وأنها تريد هدم جميع المؤسسات الوطنية التي يدعون أن خبراءهم الاشتراكيين الفرنسيين هم الذين خططوا لها باسم الاشتراكية التي رفع شعارها (بن بللا وبومدين) من بعده

والتي مكنتهم من احتلال جميع مراكز القوى في الإدارة والسياسة والثقافة والإعلام والفن والصحافة... إلى آخر، لكن البرنامج الذي أعلنته الجبهة لا يتضمن أي شيء عن المؤسسات البديلة التي سوف تحل محلها. إن ذلك ليس واردًا عند أحد من الإسلاميين، فهم يريدون إصلاح المؤسسات القائمة لا هدمها كما يفعل الثوريون الماركسيون وأشباههم في نظمهم الشمولية والطبقية.

أذكر واقعة لا أنساها: ففي عام (1937م) عندما كنا طلبة في الجامعة، وكنت في السنة الثانية دعونا الشيخ "حسن البنا" لإلقاء محاضرة بمناسبة رأس السنة الهجرية حضرها آلاف من الطلبة في قاعة الحفلات العامة بجامعة القاهرة، وبعدها أصر المرحوم "حسن البنا" على أن يمشي على قدميه من الجامعة إلى ميدان الجيزة ليركب الأتوبيس إلى ميدان السيدة زينب، وكنت ممن التفوا حوله يحاصرونه بأسئلتهم واستفساراتهم، وسمعت أحد الزملاء يقول له: إن دعوتنا طريقها طويل جدًا، وسنلاقي صعوبات جمة لأن كل شيء في المجتمع يحتاج إلى تغيير، وهذا التغيير يحتاج إلى إمكانيات ضخمة...

قال الشهيد "حسن البنا" مبتسمًا هون عليك يا أخي، فنحن لا نريد إلا تغيير شيء واحد وهو "النفوس" ؛ لأن الله –عز وجل- قال: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، وإذا ما اصطلحت نفوس الناس مع عقيدتهم ودينهم وأصالتهم فإنهم هم الذين سيغيرون بأنفسهم كل شيء، ولسنا نحن الذين نلتزم بذلك، إن هذه الأمة تملك من القدرات ما يمكنها من السير في طريق النهضة، وهي سائرة فيه فعلاً بكل جد.

كنا قد وصلنا إلى ميدان الجيزة، وكان الترام يسير على شريطه قادمًا من شارع الجيزة ورجل متواضع يمسك بالعصا ويغرسها بين القضبان فيحول المسيرة نحو شارع الهرم فأشار له المرشد الأول الشهيد "حسن البنا" قائلاً: ألا ترى هذا الرجل، إنه لا يسير الترام ولكنه بعصاه يحول طريقه إلى الجهة التي يقصدها بهذه العصا المتواضعة، وهذا ما نريد أن نقوم به.

الواقع أن رجال الفكر والسياسة والإعلام والثقافة في أوروبا وأمريكا، بل وفي العالم العربي أيضًا تأثروا إلى حد كبير بقاموس الدعاية الماركسية الذي يصنف الأحزاب والحركات السياسية أصنافًا فحسب مناهجهم الاشتراكية الطبقية إلى اليمين واليسار ولاراديكالية والثورية ويستخدمون المقاييس الماركسية التي تدور حول مدى الاتجاه للتغيير في السلطة الداخلية ونقلها من طبقة إلى أخرى. إن هؤلاء دائمًا يتجاهلون منطق الإسلاميين الذي يختلف اختلافًا كاملاً عن هذا المنطق الأوروبي؛ ولذلك أخطئوا في حساباتهم...

إن "الحركات الإسلامية" جميعها هدفها الداخلي محدود إلى حد كبير كما قال "الشهيد حسن البنا"، إنه لا يتجاوز أهدافًا إصلاحية في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تستمد من مبدأ التجديد الذي يفرضه الإسلام بناء على الأثر الذي يقول: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها إيمانها..." والتجديد يبدأ بالاجتهادات الفقهية التي يكون دور الجماهير والشعوب فيها هو الاتباع والتأييد والتنفيذ فالمفكرون يرسمون الطريق وعلى الجماهير ذاتها أن تسير فيه.

وعلى ذلك فإن الدعوة الإسلامية المعاصرة في جميع الأقطار العربية الإسلامية تقوم بها جماعات وحركات إصلاحية لا يمكن أن توصف بأنها "ثورية" من الناحية الداخلية بالمقاييس الشائعة المستمدة من المنطق الماركسي. وهذا هو سبب الجدال الذي يثور في جميع البلاد العربية الإسلامية حيث نجد خصوم الحركات الإسلامية يتهمونها بأنها لا تقدم برنامجًا عمليًا وتكتفي بشعارات ومبادئ عامة دون تقديم خطط عملية للتغيير في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الداخلي في نظرهم.

إن كثيرين لا يفهمون الحركات الإسلامية المعاصرة عندما تعتبر أن هدفها الوحيد إصلاح النفوس وتجديد القيم الأصيلة، ويعتبرون أن أول شرط لذلك هو تحريرها من العدوان الاستعماري والقهر الاستبدادي، وأنه متى تحررت الشعوب من هذين الخطرين واستردت حريتها الكاملة فإنها ستسير على نهج الإسلام الذي يؤمنون به ولا يتزحزحون عنه.

الحقيقة أن الثورية الوحيدة التي تعرفها جماهيرنا هي ما يسمونه الجهاد، وهو مقاومة من يصفونهم بأنهم أعداء الإسلام، ومنذ الهجوم الاستعماري على أقطارنا كان الاستعمار والقوى الأجنبية الغازية أو المحتلفة هي التي توصف بذلك؛ ولذلك كان الجهاد في نظر الشعوب الإسلامية هو مقاومة الاستعمار الأجنبي، وهذا هو ما تفهمه جيدًا القوى الكبرى الطامعة التي مازالت تقاوم الصحوة الإسلامية؛ لأنها تعرف جيدًا أنها تعتبر مقاومة مطامعها ونفوذها فريضة إسلامية اسمها "الجهاد".

بعض السياسيين الفرنسيين والأجانب قد سارعوا إلى اتخاذ موقف صريح وعلني في التحيز ضد التيار الإسلامي وضد جبهة الإنقاذ خاصة، وتشجيع عملائهم من المستغربين والعلمانيين وبقايا اليساريين والعنصريين الانفصاليين، ودفعهم لشن حملة إعلانية في خارج الجزائر وداخلها ضد الاتجاه الإسلامي، بل وضد الإسلام ذاته ومبادئه وشريعته ظنًا منهم أن ذلك يضعف موقف الجبهة في الانتخابات، لكن ذلك كان خطأً كبيرًا، لا في حق شعب الجزائر وحده، بل ضد مصالحهم وضد السلم العالمي ذاته؛

لأنه أشعل في الجماهير روح الجهاد والمقاومة ضد أعداء الجبهة باعتبارهم عملاء للقوى الأجنبية والفرنسية بصفة خاصة حتى إنهم أطلقوا عليهم تسمية (حزب فرنسا) ودفعهم إلى اعتبار هذه المقاومة جهادًا في سبيل الله، ودفاعًا عن الإسلام وأرض الإسلام ودعاة الإسلام... وانطلقت الجماهير تتسابق إلى المقاومة المسلحة التي يصفها الحكام وحلفاؤهم بأنها إرهاب أو عنف، وزادوا فارتكبوا هم أشد أنواع القهر والعنف والطغيان ضد شعوبهم مما زاد في حماس الأفراد والجماعات لهذا الجهاد.

وكان هذا في حد ذاته انتصارًا حقيقيًّا لجبهة الإنقاذ؛ لأن معركتها أصبحت هي معركة الشعب ذاته للدفاع عن حقوقه وعقيدته وهويته وحريته... وليست معركة من أجل السلطة كما يريد خصومها تصويرها.

محاولات الوساطة بين "الحكومة" و"جبهة الإنقاذ"

"الوساطة"

ساءتنا كثيرًا أبناء الفتنة في الجزائر، وبدأ أمامنا نور أمل خافت عندما علمنا أن الرئيس "زروال" بدأ الانفتاح على الحوار مع جبهة الإنقاذ بصفة غير رسمية وغير علنية وأنه أخرج الشيخين "عباسي وبلحاج" من سجن البليدة ووضعهما تحت الإقامة الجبرية في أحد المساكن الحكومية في العاصمة، وصرح لهما بالاتصال تليفونيًّا بمن يريدون التشاور معهم، وجاء صديقنا "محمد صديق التاوتي" للعمرة في المملكة

والتقينا به وتشاورنا فيما يمكننا عمله، وسألناه عما إذا كنا نستطيع أن نفعل شيئًا لإخراج تلك البلاد العزيزة من هذه الحال التي وصلت إليها، وكان يشترك معنا في الحوار "الدكتور محمد عمر زبير"، و"الدكتور محمد عمر جمجوم"، وقال أحدنا: "هل ترى من الممكن أن يذهب وفد من العلماء والحكماء إلى هناك للتدخل لدى الحكومة لتهدئة الحال أو مساعدتها في ذلك إن كانت ترغب"!!؟

التقينا على عشاء مع الدكتور حامد الغابن الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي وسألناه عن رأيه فأبدى أسفه لما يسمعه عن أنباء القتل والسجن والمحاكمات والإعدامات واقترحنا عليه أن يقوم بمبادرة للتوسط شخصيًّا في هذه المشلكة، فقال إنه لا يستطيع أن يتدخل في قضية داخلية إلا إذا وافقت الحكومة الجزائرية، ووعدنا بأن يتصل بسفير الجزائر لهذا الغرض، وبعد عدة شهور سألناه عما تم بشأن توسطه فقال: إن السفير لم يرد عليّ للآن ومعنى ذلك أن الحكومة الجزائرية لا توافق أو أنها ترى الوقت غير مناسب.

كان الشيخ "محفوظ نحناح" يتردد على السعودية، وكنت أتحاشى مقابلته لأنني كنت معارضًا في أسلوبه الذي يعتبره كثيرون انحيازًا للسلطة الإنقلابية بسبب تكرار التصريحات التي يعتبرها الإنقاذيون ترديدًا لوجهة النظر الرسمية، ومع ذلك خطر لي أن نستفيد من علاقته بالحكومة للحصول على رد منها للأمين العام وهل يستطيع إقناع المسئولين في الحكومة بذلك، فوعد بذلك، فأخذته معي وذهبنا للدكتور "الغابد" في مكتبه بالأمانة العامة

وعرضت عليه اقتراحي بأن يقوم الشيخ "محفوظ" بالاتصال بالمسئولين في السلطة للحصول على موافقة الحكومة على وساطته، قال: لا مانع عندي ولكن أعتقد أنني لن أستطيع أن أتوسط شخصيًّا بل كل ما أفعله هو إرسال وفد أو شخص مقبول من الطرفين لهذه المهمة، وأقترح أن تقوم أنت بهذه المهمة، وأيد ذلك "الشيخ محفوظ" نظرًا لأنه يعرف علاقتي مع "الشيخ عباسي" ووعد بأن يلتقي مع رئيس الدولة ويعرف رأيه، ويبلغني بذلك في أول فرصة

ولم يطل الوقت حتى اتصل بي تليفونيًّا من لندن يبلغني بأن الوقت مناسب وأنه أرسل لي التأشيرة للسفارة الجزائرية في القاهرة ويرجو أن أسارع في الحضور، فاعتذرت له عن عدم إمكان الحضور فورًا لالتزامي بمواعيد هامة وأنني أنوي الحضور إلى تونس أثناء مؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي الذي سيعقد في الصيف "صيف عام 1994م" ومستعد لزيارة الجزائر في هذه الرحلة إذا وجدت أن الظروف مواتية

فألح إلحاحًا شديدًا أرابني وجعلني أصر على الرفض، وفي اليوم التالي اطلعت على تصريح له في الشرق الأوسط بأنه سوف يتوسط بين الحكومة والجبهة وسوف يزور الشيخين "عباسي مدني وعلي بلحاج" في المعتقل، فتأكدت مخاوفي أنه يريد أن أسهل له القيام بهذا الدور، الذي أعرف استحالته لأنني أعرف رأي الشيخ عباسي من قديم ومتأكد أنه لن يقبل أن يلتقي مع الشيخ "محفوظ" أو يتحدث منعه حتى ولو كنت معه... هذا هو ما حدث بالضبط...

يظهر أن الشيخ "محفوظ" اتصل بالدكتور "محمد عمر زبير" الذي وعده ببحث الأمر والتفكير فيه، وذهب إلى الدكتور "محمد أحمد علي" الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي واقترح عليه أن ترسل الرابطة وفدًا للجزائر ليقوم بمهمة الوساطة كما فعل بالنسبة لأفغانستان، واقتنع الدكتور "محمد أحمد علي" بهذه الفكرة

لكنه قال: لابد من استئذان المسئولين في السعودية، وأعد قائمة بالأشخاص الذين يقترح اشتراكهم في الوفد وهم الأشخاص الذين سبق أن زاروا أفغانستان بمن فيهم الدكتور "محمد عمر زبير"، ولم أكن منهم، لكنه لم يتلق موافقة رسمية، وعندما ألح الشيخ "محفوظ" قال له الدكتور "زبير" إنني مستعد للذهاب بصفة شخصية لكن بشرط موافقة الطرفين، فأعطاه الشيخ محفوظ رقم التليفون في المقر الذي يعتقل فيه الشيخان

ولما اتصل "بالشيخ عباسي" وعرض عليه رغبته في زيارته لمحاولة التوفيق، أجابه: بأن الوقت غير مناسب وفي الوقت نفسه كان قد اتصل بالشيخ "عبد الله جاب الله" وطلب منه أن يتصل بالمسئولين في السلطة ويبلغهم رغبته في التوسط بصفة شخصية ويعرف رأيهم، وبعد فترة أجابه الشيخ "عبد الله" بأنهم ليس لديهم مانع من حضوره وألح عليه من جانبه أن يسرع لأن احتفالات أول نوفمبر تقترب ويحسن تنقية الجو قبلها، كل ذلك لم يكن لي به صلة وتم في غيابي عن المملكة، ولم أعلم به...

في هذه الفترة ذهبت إلى "بيروت" في شهر أكتوبر، وحضرت مؤتمر الحوار الإسلامي القومي، والتقيت هناك بالأستاذ "عبد الحميد المهري" الأمين العام لجبهة التحرير الوطني الجزائري، وجلست معه جلسة طويلة تذاكرنا فيها مقابلاتنا السابقة، وسألته عن رأيه في الأحداث الداخلية فأبدى انتقاده لسياسة الإبادة والإقصاء والاستئصال التي تسير عليها السلطة، ورأيه أنه لابد من الحوار مع الجبهة والإقرار بشرعيتها

وبغير ذلك لا يمكن أن تتحمل مسئوليتها في وضع حد لمسلسل العنف الذي يهدد مستقبل البلاد، وفوجئت في نفس اليوم بتليفون من الشيخ "محفوظ نحناح" من "سويسرا" يخبرني فيه أنه سأل عني في جدة و"القاهرة" وعرف بوجودي في "سرت" وأنه يقترح أن أذهب من "بيروت" إلى جنيف لنذهب سويًّا إلى الجزائر لمقابلة الشيخين، وألح إلحاحًا شديدًا في ذلك

فكررت له اعتذاري مكررًا أنني سوف أذهب للمغرب في شهر ديسمبر لحضور مؤتمر وزراء الخارجية الإسلامية ويمكن أن أفكر في زيارة الجزائر في طريقي للذهاب أو العودة من المؤتمر وليس قبل ذلك بسبب ارتباطاتي في "القاهرة" و"جدة" ، والتقيت بالشيخ "عبد الله جاب الله" أيضًا في "بيروت" وعرفني بأنه حضر في "لندن" اجتماعًا دعت له إحدى المنظمات بشأن قضية الجزائر، وهو في طريقه إلى "بيروت"

ولما عرضت عليه ما اقترح الشيخ محفوظ من حضوري للجزائر أيد ذلك وقال لي:

"إن الجميع يترقبون احتفالات أول نوفمبر ويتوقعون أن تعلن الحكومة خطوة جديدة نحو التهدئة، وحضوري قبل ذلك قد يفيد في تشجيعها على ذلك، وأعطاني تليفونه وعنوانه بالجزائر لمتابعة الاتصال به لهذا الغرض، وكذلك فعل السيد "عبد الحميد المهري".

بعد فترة قصير من عودتي "للقاهرة" فوجئت باتصال تليفوني من دكتور عمر زبير عرفني فيه بأنه في "القاهرة" في طريقه إلى الجزائر، وحضر إلي بمنزلي وتحادثنا طويلاً وكان يلح علي في أن أذهب معه أو أن ألحق به على الأقل، ولخص لي اتصالاته التي أشرت إليها من قبل والتي جعلته يتخذ المبادرة للسفر بصفة شخصية بعد أن توقفت جهود رابطة العالم الإسلامي التي بدأها الدكتور "أحمد علي".

لقد شجعته على السفر بعد أن أكد لي أنه مقتنع بأن أول خطوة نحو الحل هي الاعتراف بالجبهة؛ لأنه لا يعقل أن تتحاور الحكومة مع المسئولين عنها وهي تتمسك بقرار انقلابي يحظر نشاطها... وبعد سفره بأيام قليلة سمعنا أخبار الاحتفال الرسمي بذكرى الثورة في أول نوفمبر وفوجئنا بإعلان الرئيس "زروال" سخطه على الأحزاب جميعًا وعلى "جبهة الإنقاذ" ، وإعلانه أن الحوار مع الأحزاب "المعترف بها لدى السلطة" قد أوقف لعدم تجاوبهم مع السلطة

والذي أدهشني هو اتصال تليفوني من دكتور "زبير" إلى مكتبي "بجدة" يرجوهم فيه إبلاغي ضرورة حضوري فورًا إلى الجزائر لأنه في حاجة إلي هناك في هذه الفترة، ولم أستطع مكالمته فاضطررت إلى الاتصال بمنزل صديقنا الدكتور "صديق التاوتي" وأعطيته الرقم وطلبت منه أن يتصل به ويخبره بعدم إمكان حضوري لأنني ملتزم بالذهاب إلى "جدة" لحضور مؤتمر مجلس المحافظين لبنك التنمية الإسلامي

وطلبت منه أن يرد عليّ بعد الاتصال به لتعذر مكالمتي له من هنا، وقد رد علي بعد ساعة ليخبرني بأن الدكتور "زبير" يقيم في ضيافة الحكومة، ولهذا لا يمكن لأحد الاتصال به إلا بعد الحصول على إذن وزارة الإعلام، وأنه أبلغه رسالتي، ورغم ذلك فإنه يلح عليّ بالحضور وسوف يتصل بي مباشرة وقد اتصل بي الدكتور "زبير" بعد ذلك ليخبرني أنه انتقل إلى فندق "الجزائر" وأنه يلح علي في حضوري؛ لأن الظروف هناك تقتضي ذلك الآن، ولما اعتذرت تأسف لإصراري على عدم الذهاب في ذلك الوقت وأبلغني أنه أطال إقامته هناك أسبوعًا ثالثًا وسيحضر بعد ذلك.

عاد الدكتور "زبير" وحدثني بكل ما قام به، وعرفني أنه التقى مع "الرئيس زروال"، ومع مسئولين في الحكومة الذين تجاوبوا معه عندما طلب هو والشيخ "عبدالله جاب الله" عدم تنفيذ ما أعلنوه من إعادة الشيخين للسجن في البليدة، وأعادوا لهما الاتصالات التليفونية التي كانوا قد أمروا بقطعها عنهما في أول نوفمبر عندما أعلن الرئيس قطع الحوار مع الأحزاب؛

بل أفادني أنه توصل معهم إلى قبول اقتراح بإعلان من الحكومة عن الاعتراف بالجبهة وإن كانوا يشترطون تغيير اسمها، الأمر الذي رفضه الشيخان، كما رفضا إعلان أي شيء باسم الجبهة إلا بعد التشاور بطريقة انفرادية بالمراسلة أو بالواسطة، أي بواسطة عدد من القادة الذين يطلبون أن تفرج عنهم السلطة، وطلب من المسئولين بالسلطة أن يتجاوبوا مع مقترحاته ووعدهم بالعودة إذا وافقوا عليها لإقناع الشيخين بها

وأنه سيقنعني بالحضور معه لهذا الغرض، واتصل وهو في "القاهرة" بعدد من أصدقائنا الذين يهمهم هذا الموضوع وخاصة الأستاذ الشيخ "محمد الغزالي" والأستاذ "فهمي هويدي" وعرفهم بأنه إذا تجاوبت الحكومة مع مقترحاته فقد يكون من المناسب أن يوقع بعض العلماء على نداء للتهدئة، ويعود به الشيخين لعلهما يستجيبان له، وخاصة إذا ذهبت معه... قلت له: لن أذهب إلا إذا وافقت الحكومة على طلبك بإلغاء قرار حل الجبهة، وبشرط أن يتصل بي الشيخ "عباسي" ويبلغني بموافقته على حضوري.

عدنا إلى "جدة" وداوم الدكتور "زبير" الاتصال بالشيخ "عبد الله جاب الله" ومع أحد المسئولين في السلطة في محاولاته الدائبة لإقناعها باتخاذ الخطوة التي اقترحتها للتهدئة وفجأة أكد لي عزمه على العودة للجزائر، وإلحاحه بأن أذهب معه هذه المرة لكنني اعتذرت وعدت "للقاهرة" ... وجاء إلى "القاهرة" وكرر طلبه بسفري معه، وأقنعته بأن يسافر وحده ليتأكد من حسن نية الحكومة وعند ذلك يبلغني لكي أحضر إليه على أن يكون ذلك في طريقي إلى مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية في "الدار البيضاء" المحدد له "10-14 ديسمبر 1994م" ...

عقب سفره قررت الذهاب إلى "ميونيخ" مع كريمتي لأمور خاصة بها، ولمراجعة الطبيب بشأن حالتي الصحية، على أن أتوجه من هناك إلى "المغرب" في الموعد المحدد لمؤتمر وزراء الخارجية، وبعد يومين فقط من وصولي "ألمانيا" اتصل بي الدكتور "زبير" من الجزائر واقترح علي أن أمر عليه بالجزائر، وشرح أسبابًا معقولة لذلك، وألح أن يكون ذلك قبل المؤتمر لا بعده... فوعدته بذلك.

توجهت فورًا إلى المغرب، والتقيت هناك ببعض أصدقائي، واتصلت تليفونيًّا لأول مرة بالشيخ "عباسي" في الرقم الذي أعطاه لي الدكتور "زبير" وأبلغته برغبتي في زيارتهما إذا لم يكن عنده مانع من ذلك. أجاب: إن الوقت مازال غير مناسب، قلت له: إنني الآن في المغرب، ولدي فرصة لزيارته لمجرد رؤيته والسلام عليه وعلى الشيخ "علي بلحاج" دون أي غرض آخر

فقال: إذا كان الأمر كذلك وسمحوا به "أي الحكومة" فلا مانع لدي، فذهبت فورًا في يوم الأحد "4/12/94" إلى الجزائر، معتمدًا على الله، وإن كان كثير من أصدقائي قد حذروني ونصحوني بالعدول عن ذلك خشية أن يدبر لي كمين من جانب السلطة أو من غيرهم ممن يعارضون كل محاولة للتقريب بين الطرفين

بل إن دكتور زبير نفسه عندما اتصلت به من "الرباط" لأبشره بموعد وصولي لم يعد يتكلم بحماسه السابق، وقال لي: إنه شخصيًّا سوف يعود بعد يومين أو ثلاثة إلى بلاده، وفهمت من ذلك أنه لم يعد متفائلاً كما كان قبل ذلك، ورغم ذلك فقد استخرت الله وسافرت إلى الجزائر معتمدًا على الله –عز وجل...

في اتصال تليفوني "بابتني" التي تركتها وحيدة في "ميونيخ" عبرت لي عن قلقها مما يمكن أن أتعرض له في هذه المخاطرة، لكنني طمأنتها... لكي أطمئن نفسي... في الطائرة المغربية التي حملتني إلى عاصمة الجزائر، فكرت في الأشخاص الذين سألتقي بهم إذا تيسر لي ذلك، وأعددت برنامج لقاءاتي، إذا لم يوجد ما يغير هذا البرنامج وأحمد الله –عز وجل- أن وفقني إلى تمامه كاملاً...

كما يلي:

  1. زيارة الشيخين "عباسي مدني وعلي بلحاج" وسبر أغوار أفكارهما ومدى صلابتهما.
  2. زيارة الأستاذ "عبد الحميد المهري" لدراسة موقف جبهة التحرير واتجاهاتها.
  3. زيارة الشيخ "سحنون" والشيخ "عبد الله جاب الله" والشيخ "محفوظ".
  4. زيارة كل من أستطيع من أساتذة الجامعات الجزائرية، ورجال الفكر.

وسوف أعرض نتائج اللقاءات بهذا الترتيب..

الزيارة الأولى للشيخين "المعتقلين"

صباح الاثنين "5 من ديسمبر 1994م" قمت مع دكتور "زبير" والشيخ "عبدالله" بأول زيارة للشيخين "عباسي مدني وعلي بلحاج" في المكان الذي فرضت عليهما فيه الإقامة الجبرية تحت حراسة مشددة حولته إلى ثكنة عسكرية...

قبل الزيارة تحدثت مع زميلي دكتور "محمد عمر زبير" والشيخ "عبد الله جاب الله" واتفقنا على ما يمكنني أن أقوم به، وأقنعتهما بأن يكون هدفي هو دراسة الأوضاع من جميع جوانبها، وأن يكون دوري محصورًا في الحديث مع الشيخين وأنصارهما وغيرهم من ذوي الفكر والرأي على أن يتولوا هم مواصلة الحوار مع من يمثلون السلطة والحكومة وهو ما بدءوه منذ الزيارة السابقة للدكتور "زبير" ولم أشارك فيه.

بناءً على ذلك كنت أثناء هذه الزيارة الأولى مستمعًا، وقبل أن نبدأ الحديث أشار الشيخ "عباسي" إلى السقف والحوائط بما يفهم منه وجوب الاحتراس؛ لأن هناك أجهزة تنصت وتسجيل لكل ما يقال؛ لذلك قصرت حديثي على الموضوعات العامة التي عالجتها في كتبي التي حملت لهما منها نسخًا وخاصة "فقه الشورى" و"فقه الخلافة" كما لاحظت أنهما من جانبهما صمما على عدم قبولهما لأي تنازل قبل الإفراج عنهما والتشاور مع إخوانهما في الخارج والداخل.

بدأ الحديث الشيخ عباسي بقوله:

  1. إن المشكل الكبرى هي إنعدام الثقة بين الطرفين، بصراحة نحن لا نثق فيهم؛ لأننا مازلنا رهائن لديهم في هذا المكان، ولا نعرف ماذا يفعلون بنا في النهاية، إنهم يريدون منا أن نعلن استنكارنا لأعمال ينسبونها هم للذين يقاومون السلطة من أجل حق الجبهة في الشرعية وحقنا في لحرية دون أن يكون لدينا وسيلة لمعرفة حقيقة هذه الأفعال وحقيقة من ارتكبوها، ولا أي ضمان لحسن نيتهم؛ لأن أي تصريح يأخذونه منا يمكن للسلطة أن تستغله في دعايتها لإحداث خلخلة وخلافات داخل صفوف الجبهة، وهم يعلمون أن نتيجة ذلك هي شق الجبهة الإسلامية وفتح باب الصراع بين من يسمونهم معتدلين ومن يعتبرونهم متطرفين ليستطيعوا بذلك أن يقضوا على الطرفين أو يقضي بعضم على بعض وهذا ليس وقفًا للعنف كما يدعون بل هو زيادة فيه وإشعال نار فتن جديدة يستفيد منها أعداؤنا الأجانب... ثم هم من جانبهم لا يثقون بنا بدليل أنهم يرفضون أن يعيدوا لنا حقنا في الحرية باعتبار أن هذا حق دستوري وطبيعي لنا كمواطنين في هذا البلد، بل إنني اقترحت أن يطلقوا سراح أحدنا "ويبقوا الثاني رهينة" وهذا يكفيهم، لكنهم لا يجيبون ويريدون أن نساعدهم في مخططاتهم للاستقرار في السلطة فقط، حتى دون الاعتراف للشعب بحريته في اختيار ممثليه في انتخابات حرة هم الذين أجروها ثم انقلبوا عليها وألغوها بدون حق...
  2. ليس هناك دليل على أن من يتحدثون معنا هم الذين يتخذون القرار بل الظاهر أنهم منفذون فقط، والذين يتخذون القرارات ويفرضونها عليهم وعلينا نخشى أنهم لا يريدون استقرارًا ولا نهضة ولا ديمقراطية ولا حرية في الجزائر، لكن الشعب يريد ذلك ويصر على الكفاح من أجله...
  3. هذه الفتن بدأت بعد اعتقالنا... فلا يمكننا أن نحكم فيها بناءً على أقوالهم دون أن نسمع قول الآخرين، ولو كانوا يريدون إنهاءها لأفرجوا عنا فعلاً ما دام اعتقالنا هو سببها؛ لأنه إذا زال السبب يزول المسبب...

تكلم الشيخ "عبد الله" قائلاً:

إن الرئيس "زروال" جاد في سعيه للمصالحة، وهذه فرصة يجب ألا نضيعها، قد يكون هناك عناصر في الجيش والسلطة، بل والمعارضة تعمل لاستئصال المقاومة، بعضهم لا يقف عند حد السعي إلى إبادة العناصر التي تحمل السلاح أو تمارس العنف، بل إنهم يريدون القضاء على التيار الإسلامي كله ويدعون لذلك، بل إن بعضهم يريد أن يبدءوا بالمعتدلين ليتفرغوا بعد ذلك لمن يقاومون، لكنه واثق أن الرئيس "زروال" ليس من هؤلاء؛ ولذلك فإن من وجهة نظره أن بعض المرونة يمكن أن تساعد الرئيس على فرض اتجاهه وسياسته...

كان الدكتور "زبير" مؤيدًا لهذا الرأي وملحًا عليّ في أن أقول شيئًا لتأييده، ورغم أنني لم أكن أريد إبداء رأي في الموضوع إلا أنني قلت للشيخ "عبدالله" : إن الشيخين يريان أن مطالبة السلطة لهما بإصدار بيان بوقف أعمال العنف ليس المقصود منه المصالحة كما يدعي الحكام؛ لأن مجرد إصدار بيان لا يقنع المقاومين بوقف تلك الأعمال، بل لابد من الحوار معهم لإقناعهم بذلك، وقال الشيخ "علي بلحاج": إن من بالخارج لن يقتنعوا بما يعلنه معتقلون يعتبرونهم مكرهين ليسوا أحرارًا في إعلان رأيهم ومعرضون لضغوط السلطة فما نعلنه في المعتقل هو رأي السلطة في نظرهم، وليس رأينا الحقيقي...

عند ذلك قلت للشيخ "عبد الله جاب الله":

ما داموا لا يستطيعون ولا يريدون الدعوة للهدنة إلا بعد تحقق ضمانات معينة تؤكد لهما حسن نية السلطة وجديتها، فعليكم أن تسعوا لإقناع المسئولين بعمل شيء يقنعهما بذلك، وإذا قبلت الحكومة ذلك يمكن أن تقترحوا عليهما اتخاذ مبادرات محدودة قد لا تصل إلى حد إحراجهما مع إخوانهما الذين يقاومون من أجل تحريرها...

طال الحديث ودعونا للغداء معهما، واستمر الحوار على المادة وقال دكتور "زبير" إن الحكومة تجد صعوبة في إلغاء قرار حظر الجبهة ويعدون بالاعتراف بها تحت اسم آخر، كما أنهم يجدون صعوبة في العدول عن قرار إلغاء الانتخابات التي نجحت فيها الجبهة، ويقترحون إجراء انتخابات جديدة...

الثلاثة المفرج عنهم

أخبرنا الشيخ "عبد الله" بأنه حدد موعدًا للقاء مع ثلاثة من قادة الجبهة الذين أفرجت عنهم الحكومة بناءً على طلب الشيخين، وكان ذلك في عصر اليوم التالي "الثلاثاء 6ديسمبر 1994م" ...

في منزل أحد هؤلاء الثلاثة بإحدى المدن القريبة من العاصمة جلسنا معهم وقبل أن يبدأ زميلاي في الحديث استأذنتهما في أن أتكلم في موضوع بإيجاز هو أنني سبق أن التقيت مع الأستاذ "عبدالحميد المهري" الأمين العام لجبهة التحرير الوطني أثناء ندوة الحوار القومي الإسلامي في "بيروت" ووجدت منه استعدادًا لتنفيذ توصيات تلك الندوة بإيجاد صيغة لهذا التعاون بين الحركة الإسلامية والحركة الوطنية في الجزائر وأنني التقيت به في مكتبه بالعاصمة وسألته عما إذا كانوا قد توصلوا لشيء في هذا الصدد في ندوة الأحزاب الجزائرية في روما، فأجاب بأن ذلك لم يتم لأنه لم يكن مفوضًا من قبل اللجنة المركزية؛ لذلك فإنه سيسعى للحصول على التفويض في اجتماع اللجنة القادمة

وقلت لهم: إنني أرى أن يتابعوا هذا الموضوع مع السيد "المهري"، وأن تعطي له الفرصة ليقوم بعملية التنسيق بين الهيئات الإسلامية والقومية، ولو أدى ذلك إلى إنشاء جبهة وطنية عريضة لمواجهة المؤامرات الأجنبية التي تستخدم بعض عملائها من الأفراد أو الهيئات المصطنعة لإحداث فتنة ضد الثوابت الوطنية وخاصة الإسلام والعروبة ووحدة الجزائر...

وعدني الإخوة الثلاثة بذلك، وعرض دكتور "زبير" والشيخ "عبد الله" رأيهما في ضرورة التجاوب مع مساعي التقريب بين ممثلي السلطة والجبهة، وأن الشيخين إذا كان يتعذر عليهما ذلك بسبب اعتقالهما فإن من أفرج عنهم يمكن أن يقوموا بالمبادرات المناسبة حتى لا تضيع الفرصة التي سنحت بوجود الرئيس "زروال" وحسن نيته التي يثقون فيها...

هنا قال "بو خمخم" إن السلطة ما زالت تماطل في الإفراج عن المسئولين الذين هم أقدر منا على ذلك، وذكر أسماء بعضهم ومنهم السيد "عبد القادر حشاني" الذي كان المسئول بعد اعتقال الشيخين وأضاف أنهم يواصلون مساعيهم مع من يتصلون بهم من ممثلي السلطة لهذا الغرض، وألمح أحدهم إلى أن من يتصلون بهم من جانب السلطة يطالبون بتقديم مشروع شامل متكامل!! ونحن بصدد إعداده...

قال دكتور "زبير" ما دمتم تتصلون مباشرة بهؤلاء ولا مانع لديكم من إعداد المشروع الذي يطلبونه، فإنني أعتقد أن مهمتنا قد نجحت، ولم يبق أمامنا إلا شيء واحد هو أن نساعدكم في إقناع الشيخين بما تقترحونه أنتم وترون إقناعهما به... وهذا هو ما أبلغته الشيخين في لقائي الثاني معهما بعد سفر دكتور "زبير" في اليوم التالي "الأربعاء 7 ديسمبر"...

بعد ذلك بيوم واحد سعدت بأن أتيحت لي فرصة الحديث مع هؤلاء الإخوة الثلاثة منفردًا، في جلسة طويلة بعد حضورنا جنازة المرحوم "محمد سعيد" اليوم التالي لسفر الدكتور "محمد عمر زبير" الخميس "8 ديسمبر 1994م" ... كان هذا اليوم هو المحدد لعودتي للمغرب، وكان في نيتي حضور هذه الجنازة في طريقي إلى المطار، لكن في صباح ذلك اليوم دعيت لمقابلة رئيس الدولة "كما سأوضحه فيما بعد" وترتب على هذه الدعوة أن غيرت موعد سفري وقررت الحجز على طائرة أخرى...

كان حضوري إلى مقابر "القبة" في جنازة المرحوم "محمدي سعيد" فرصة طيبة للقاء بعض الأصدقاء الذين حضروا هذه المناسبة ممن عرفتهم من قبل ولم يكن في برنامجي مقابلتهم... وسررت عندمنا وجدت هناك الثلاثة المفرج عنهم من قادة جبهة الإنقاذ الذين جلسنا معهم من قبل منذ يومين، واقترحت عليهم أن يوصلوني بسيارتهم إلى الفندق...

طول الطريق وأنا أشرح لهم وجهة نظري التي لم أستطع عرضها على الشيخين وقلت لهم: إنني قدمت مذكرة إلى ندوة "بيروت" عنوانها: "موضوع مقترح للتعاون بين الإسلاميين والقوميين" وفيها أن عالم اليوم هو عالم المال والاقتصاد، والدول الكبرى تضمن لنفسها التفوق في هذا المجال مضافًا إليه التفوق العلمي والتكنولوجي والاستقرار السياسي فضلاً عن القوة العسكرية

وأضافوا لذلك كله التضامن والاتحاد في ظل تكتلات كبرى في أمريكا وأوروبا، وكلما كان لإحدى هذه الدول أطماع في بلادنا كان الجميع يؤيدونها ويساندونها ويشاركونها في التآمر والعدوان علينا... كما ترون ذلك أنتم أكثر منا، ويظن كثيرون أننا لا حيلة لنا في مواجهة هذه القوى المتحالفة المعادية، وأننا لذلك سوف نستسلم حتمًا، وفي رأيهم أن الأسرع هو الأفضل...

إنني أرى أن الشعوب الناشئة في العالم العربي الإسلامي يجب ألا تستسلم؛ لأن هذه المجتمعات المتقدمة مصيرها الانهيار، وسيكون انهيارها من الداخل كما حدث للاتحاد السوفياتي، وعلينا الصبر والمثابرة والصمود لأطول مدة ممكنة، وأن نسلك الطرق التي تمكننا من إحداث الخلل والارتباط في القوة الاقتصادية الاجتماعية لأعدائنا، وأقترح أن يكون ذلك بتربية شعوبنا وأفرادنا على التحكم في قدرتهم الاستهلاكية بصورة تؤثر في وارداتنا من بضائع معينة عن طريق الامتناع عن شرائها وأن يكون ذلك عملاً شعبيًّا سلميًّا طويل الأمد...

وقلت لهم: إننا وصلنا الآن إلى أضعف حالة اقتصادية، وأصبحنا شعوبًا مستهلكة لا تنتج ما تحتاج إليه حتى غذائها وطعامها، فعلينا أن نجعل سلاحنا الأخير هو تزويد مجتمعنا الاستهلاكي بطاقة فعالة ومؤثرة عن طريق دعوته لاستعمال سلاح الإرادة الشعبية في اختيار البضائع التي نشتريها، وأن نسعى لدعوة الجماهير وإقناعها باستعماله على نطاق واسع على مستوى العالم العربي والإسلامي كله؛ وبذلك نبدأ طريقًا عمليًا للتضامن والاتحاد والوحدة المصيرية...

إن المقاطعة الشعبية الصامدة لبضاعة معينة لها مزايا كثيرة أهمها:

  1. أنها عمل سلمي لا يمكن الأعداء من مواصلة تكتيل شعوبهم ضدنا بحجة مقاومة الإرهاب...
  2. أنها لذلك يمكن أن تستمر مدة طويلة بخلاف المقاومة المسلحة التي أرى أنها سوف تنتهي سواء باتفاق مع الحكومة أو بانتصار المعارضة أو الحكومة، ذلك الانتصار الذي يأمله كل من الطرفين ويتنافسون في السباق نحوه...
  3. أنها تفتح لنا طريقًا للخروج من الفتنة والمعارك الداخلية التي تؤدي إلى حرب أهلية تنهك مجتمعنا وتخرب اقتصادنا وتشوه سمعتنا، وتفتح لنا طريقًا لبناء اقتصاد ذاتي داخلي...
  4. أنها تفرض علينا البحث عن بدائل للمستوردات الأجنبية وتلزمنا بتشجيع منتجاتنا أو منتجات أصدقائنا، والاعتماد عليها وعدم الاستمرار في التبعية للقوى الاقتصادية الأجنبية التي تعادينا...
  5. أنها تضطرنا اضطرارًا إلى دفع جماهير شعوبنا للتضامن العملي في الميدان الاقتصادي بدلاً من الاستمرار في التضامن العاطفي بالبكاء والشكوى كما نرى الآن.
  6. أنها تخرجنا من دائرة الحصار الذي تفرضه القوى المعادية المتضامنة كما نرى بالنسبة لبعض شعوبنا في العراق والسودان وليبيا...إلخ.
  7. أنها تسهل لنا الانفتاح على الجماعات والطوائف والشعوب التي تستفيد من هذه المقاطعة لبضاعة معينة، وتشجيع بديل وطني أو مستورد ممن لا يعادوننا، ذلك أننا سنجد أن العمال الوطنيين الذين يعملون في هذه المنتجات البديلة، بل والشركات الوطنية أو الأجنبية التي تنتجها ستكون حليفة لنا ومشجعة ومشاركة، بل قد توجد مجابهة بين الدول المتنافسة في التصدير مما يحدث مزيدًا من الشقاق والصراع على الأسواق فيما بينها وهو الصراع الذي نرى بوادره الآن، وقد يؤدي إلى اندفاعهم في الفتن فيما بينهم، في حين نندفع إلى مزيد من التضامن والثقة بالنفس والاعتماد على شعوبنا وإمكانياتنا والسير نحو الاستقلال بقدر أكبر...

وضربت لذلك مثلاً: إذا استطعنا الدعوة لمقاطعة السيارات أو السجائر التي تنتجها دولة معادية لنا فإن نجاح ذلك سوف يضطرنا إلى دعوة الشعوب المجاورة أو الصديقة لمشاركتنا في ذلك ليزداد التضامن العملي بين شعوبنا العربية والإسلامية والإفريقية، وسيكون المنتجون الآخرون وأصحاب المؤسسات التي تورد لنا السيارات أو سجائر بديلة أو التي تصنع قطع الغيار للسيارات

والعمال الذين يعملون بها في الداخل أو الخارج –مشجعين ومؤيدين لنا، بل إن بعض الشركات والدول التي تستفيد بزيادة صادراتها من السيارات أو السجائر لنا سوف تنتهز هذه الفرصة لتحل محل هذه السيارات أو السجائر التي نقاطعها وتتنافس في ذلك مما يزيد الخلاف فيما بين المنتجين؛ لذلك يجب أن يوجد تخطيط ينظم المقاطعة حتى يصاب اقتصاد خصومنا ومجتمعهم بضرر أكبر مما يصيبنا...

قلت لهم: إنني أدعو لهذه الفكرة منذ عامين، وقد التقيت في أوروبا بصديق لهم وأعطيته مذكرة، وسُر بها واقتنع بما فيها ووعد بعرضها على المسئولين عندكم، فأرجو البحث عنه والتعاون معه في هذا الاتجاه، كما أن الشيخ "جاب الله" عنده المذكرة التي قدمتها في "بيروت" فأرجو أن تأخذوا منه صورة منها...

ثم قلت: إن أهمية هذا الاقتراح هو أنه يفرض علينا سلوك طريق سلمي للبناء الذاتي لاقتصادنا وتدعيم انتاجنا الزراعي والصناعي، وهذا الطريق يجب أن نمهد له من الآن ويلزم لنا التفكير جديًّا في المحافظة على البنية الأساسية الموجودة لدينا والتي تكون أساسًا ثابتًا لهذه الانطلاقة في الانتاج والبناء الاقتصادي والتكامل والاكتفاء الذاتي... إن ذلك كله يوجب علينا من الآن أن نلتزم بعدم تخريب البنية الأساسية المتكونة من الطرق والمواصلات والمصانع والمزارع وما إلى ذلك، حتى يمكننا تنمية اقتصادنا وزيادة منتجاتنا...

وإذا كنتم بصدد مشروع متكامل للتفاوض مع الحكومة بشأنه، فإنني أقترح أن تتم المصالحة الفعلية على خطوات ومراحل بحيث يقوم كل طرف بخطوة من جانبه مقابل ما يقدمه الطرف الآخر، وأقترح أن يكون أول هذه الخطوات من جانبكم هو توجيه جميع القوى الشعبية لحماية المنشآت القائمة التي هي أمانة في يد هذا الجيل، يلتزم بحمايتها وصيانتها لتسليمها للجيل القادم مثل المصانع والمواصلات والمدارس والمباني... إلخ، وعدم السماح بإتلافها أو تخريبها بحجة المقاومة للسلطة؛ لأنها ملك الأمة وليس ملك السلطة...

وقلت لهم: إنني سوف أشرح اقتراحي للشيخين إذا سنحت لي الفرصة، وسوف أطلب من "الشيخ جاب الله" أن يعطيكم نسخة من المذكرة التي قدمتها في "بيروت" والتي لم تحظ باهتمام الندوة لأنهم يكتفون دائمًا بالكلمات والتوصيات ولا يفكرون في السير في خطة عملية في أي اتجاه، ولكني أعتقد أنكم تستطيعون...

إنني أعرف مقدمًا جواب "الشيخين" وهو الإصرار على عدم اتخاذ أية مبادرة من جانبها طالما هما في المعتقل، لكنكم أنتم في الخارج ويمكنكم أن تبدءوا في تمهيد الجو وتقديم ما تروم من مقترحات... لقد فوجئوا بهذا الحديث؛ لأن تيار المشاكل السياسية يصرف الجميع عن التفكير في الناحية الاقتصادية؛ لذلك لم يبدوا رأيًّا في الموضوع ووعدوا بدراسته، وأوصلوني إلى الفندق ولم ألتق بهم بعد ذلك...

أما الشيخين "عباسي مدني وعلي بلحاج" فلم أشأ أن أدخل معهما في أي مناقشات جدية، واكتفيت دائمًا بأحاديث عامة منذ أن نبهوني مرارًا إلى أن كل ما يقال لهم أو يقولونه لزوارهم يسجل عليهم بأجهزة خفية، وتذكرت أننا في أول لقاء معهم كنت قد تجاوزت "الخط الأحمر" ...

عندما قلت: إذا كانوا قد ألغوا نتائج "الانتخابات السابقة" ؛ لأن الجبهة قد فازت فيها، فما هو الضمان لنا أنهم لن يلغوا "الانتخابات القادمة" إذا جاءت بنفس النتيجة؟ إلا إذا كانوا يدبرون خطة لتزويرها، كما ينصحهم بعض جيرانهم... وقد تذكرت أن الشيخ "عباسي" قد طلب فورًا أن نخرج إلى الحديقة، وفهمت أنه خشي من تجاوزي لتحذيراتهم... وأسفت لذلك...

زيارة ثانية وثالثة للشيخين

شعرت بالوحدة وتناوبتني الوساوس والمخاوف بعد سفر الدكتور "محمد عمر زبير" ولكنني لم أتردد في إتمام برنامج الزيارة طالما لا يوجد ما يحول دون ذلك، وقررت الاستفادة مما أبلغني به دكتور زبير عندما ودعني صباح ذلك اليوم بأن من يتصل به من جانب الحكومة أبلغه بأنهم سوف يتصلون بي مساءً لتحديد موعد لمقابلة الرئيس، ورغم أنني فوجئت بذلك فإنني زدت إصرارًا على أن أحقق أكبر قدر من الاتصال والبحث حتى أكون قد حققت كل ما أستطيع من المرحلة قبل أن يتغير الحال إذا حدث ذلك لا قدر الله –عز وجل.

بعد الغداء توجهت إلى مقر الشيخين وقلت لهما: إنني جئت لأودعكما لأنني على نية السفر غدًا ظهرًا عقب مقابلتي للرئيس، والآن أريد معرفة رأيكما في هذه الدعوة لمقابلة الرئيس "زروال" قبل السفر، قالا: إن من المصلحة أن تقابله بشرط أن تمر علينا بعدها لتعطينا فكرة عما دار فيها... ودار بيننا حديث طويل شرحت لهما فيه مقابلتي مع السيد "عبد الحميد المهري" وذكرت الشيخ "عباسي" بما قلته له دائمًا من أن تعاونهم مع جبهة التحرير ضروري لصالح البلاد ومحاصرة عملاء التغريب والفرانكفونية والانفصالية الذين يرسمون الخطط لمحاصرة التيار الإسلامي وعزله عن القوى الوطنية والقومية

وشرحت لهما ما دار في مقابلاتي مع "المهري" في "بيروت" أولاً ثم في هذه الزيارة وأنني أرى أنه في نظري من أفضل العناصر الوطنية في الجبهة وأكثرها إيمانًا بالعروبة التي لا يمكن أن تنفصل عن الإسلام وأعدت لهما ما قلته للإخوة الثلاثة المفرج عنهم وإلحاحي عليهم في متابعة الاتصالات معه ووعدهم بذلك في لقائنا معهم بالأمس "الثلاثاء 7/12".

ثم إنني ذكرت لهما خلاصة الحوار الذي دار بيني وبين الثلاثة المفرج عنهم وأن دورهم في نظري سيكون مهمًا في مواصلة الحوار مع من يتصل بهم من ممثلي السلطة وأن هذا الحوار سيكون مفيدًا وضروريًّا في المستقبل لتشجيع المخلصين في الحكومة على مقاومة الضغوط الأجنبية التي تحاول عرقلة أي مسعى للتقريب بين الحكومة والإنقاذ وهدفها من ذلك تحقيق مصالح أجنبية تستلزم في نظرهم مع استقرار الأوضاع في الجزائر وتعطيل مسيرتها في طريق النهضة والقضاء على نفوذها التي استغلته في دعم حركات التحرير في إفريقيا والعالم كله، ودعم الكفاح الفلسطيني في الفترة الماضية...

خرجنا إلى الحديقة وبدأت أعرض وجهة نظري في ضرورة التعاون مع جبهة التحرير، وأن الوقت الحالي مناسب لذلك، وقلت لهما: إنه رغم الأخطاء التي ارتكبتها حكومات جبهة التحرير ومظاهر الفساد الذي استشرى في صفوف مؤيديها إلا أن الاستعمار كان يكرهها ويحاول القضاء عليها لأنها تمارس دورًا كبيرًا في دعم حركات التحرر الوطني في كثير من البلاد؛ ولأنها سارت في طريق التعريب شوطًا كبيرًا ولم يكن في إمكانها التخلي عنه رغم كل الضغوط التي مارستها فرنسا لتعطيل مسيرة التعريب...

لقد قلت لهما: إنني على يقين بأن الخطة الاستعمارية تسعى لاستبعاد جبهة التحرير من الميدان السياسي بنفس القوة والتصميم الذي تريد به استبعاد جبهة الإنقاذ وأن الجبهتين يواجهان خطرًا واحدًا من جانب الاستعمار والأحزاب المصطنعة التي تمولها القوى الأجنبية التي تعادي الإسلام والعروبة تارة باسم الفرانكفونية أو الاشتراكية أو البربرية أو الحداثة... أو ما إلى ذلك...

إن القوى المعادية لشعوبنا تعتبر أن العروبة والإسلام وجهان لعملة واحدة، وقد استغلت التيار الاشتراكي الذي افتنن به قادة جبهة التحرير في الفترة الماضية سعيًا وراء إغراءات الدعم السوفياتي وكتلته الاشتراكية في المجال الدولي والعالمي، والآن وقد انهارت هذه الكتلة اليسارية وانحاز عملاؤها إلى صف الإمبريالية الغربية في هجومهم على الإسلام وشعوبه فإننا نرى الوطنيين المخلصين في جبهة التحرير ومؤيديها لا يجدون أي غضاضة في مساندة دعوة التحرر التي تمثلها جبهة الإنقاذ وكثير منهم لا يمكن أن يتخذوا موقفًا ضد من يرفعون الشعارات الإسلامية ويشعرون بخطر عملاء القوى الأجنبية سواء المتغربون أو الفرانكفونيون أو العنصريون الانفصاليون...

إنني أدعو جبهة الإنقاذ لكي تتخلص من رواسب المعركة الانتخابية عندما كانت تتخذ مهاجمهة جبهة التحرير وسيلة لاجتذاب الجماهير الساخطة على الحكومات السابقة والذين كانوا يثورون على حكم تلك الجبهة... إن جبهة التحرير الوطني في المعارضة الآن، هي غير الجبهة التي كانت تحتكر السلطة ومكنت الاشتراكيين والعسكريين من الاستيلاء على مراكز القوى في الإعلام والإدارة والجيش... إلى آخره...

إنني أقترح توجيه إخوانكم في الداخل والخارج الذين يستطيعون التحرك والاتصال ألا يضيعوا هذه الفرصة وأن يتابعوا خط جديدة للتنسيق مع جبهة التحرير أو التعاون معها على أسس جديدة واضحة... إن هذا التعاون سيكون له تأثير كبير في تشجيع العناصر الوطنية في السلطة من بقايا جبهة التحرير في الإدارة والجيش على مقاومة السيطرة التي يمارسها الآن العناصر الفرانكفونية التي ربطت مصيرها بالقوى الأجنبية وخاصة فرنسا...

لقد قلت لهما: إنني مازلت أعتقد أن في السلطة عناصر وطنية، لكنها تسير مع عملاء فرنسا اعتقادًا منهم أن فرنسا تهددهم بتحريك عملاءها في الأحزاب الموالية لها لمعارضة الحكومة إذا تصالحت مع الإنقاذ...

إنني فهمت من المتابعين للسياسة الفرنسية أن العناصر الموالية للصهيونية والماسونية تمول وتسلح بعض العناصر الانفصالية والمستغربة وتلمح للمسئولين في الجيش والحكومة الجزائرية بأنها إذا اقتربت من جبهة الإنقاذ أو تصالحت معها فإن هناك تنظيمات مسلحة سوف تبدأ حركة مسلحة ضد وحدة البلاد وعروبتها وإسلامها، ويستنتج البعض من ذلك أن هناك عناصر وطنية في السلطة تأخذ هذه التهديدات مأخذ الجد وتساير حزب فرنسا بحجة إنقاذ وحدة البلاد من خطر هذه الحركات الانفصالية، إن هذه العناصر الوطنية مازالت في نظري موالية لجبهة التحرير، وكل تعاون مع هذه الجبهة يشجعها على مقاومة "حزب فرنسا" ...

كان هدف هذه الزيارة الثانية في نظري هو توديعهما على أساس حجزي للسفر في اليوم التالي، لكنني بدأت أعتقد أن ما سمعته عن مقابلتي لرئيس الجمهورية قد تفتح لي باب أمل جديد أو باب تحول لا أستطيع أن أحدد مداه ولا اتجاهه، وعاودتني مخاوف من تربص عناصر يسؤوها وجودي وما يترتب على ذلك في الظروف التي تجتازها البلاد التي يلتفت فيها كل من يمشي في شوارع الجزائر خشية أن يصاب بمكروه، أو رصاصة لا يعرف أحد من أطلقها، لكنني مع ذلك قررت أن أطيل إقامتي مهما تكن هذه المخاطر...

عندما عدت إلى الفندق وجدت رسالة تليفونية من أحد المسئولين برئاسة الجمهورية يخبرني بأنه سيرسل لي سيارة في التاسعة صباحًا لتقلني لمقابلة رئيس الجمهوية تساءلت إن كانوا سيعيدني إلى الفندق لأغادر الجزائر أم سيذهب بي إلى مكان مجهول وفكرت فيما أقوله له، واستقر رأيي على أن أكون صريحًا وواضحًا، ولم يكن لدي شيء من كتبي، إلا أن معي ملفًا يحوي عشرين مقالاً نشرتها في "مجلة المجتمع" الكويتية بعنوان "طريق الجزائر" فطلبت من مرافقي "حسن" أن يصور لي نسختين منها وقررت أن أقدم إحداها للرئيس "زروال" ليعرف حقيقة اتجاهاتي وأفكاري...

بعد لقائي مع الرئيس "زروال" ذهبت مباشرة في زيارة ثالثة للشيخين ولخصت لهما حديثي مع الرئيس، وأضفت أنني أعتقد أن الرجل حريص على أن يحقق تقدمًا في الحوار مع جبهة الإنقاذ، وذلك ليدعم مركزه أمام العسكريين الذين أعتقد أنهم هم الذين يمسكون بزمام السلطة، وإن كان هو لا يسلم بذلك...

ويقول: إنه هو الرئيس وأمره مطاع، وهو يعتقد أنه قدم تنازلات بنقلكما من السجن إلى الإقامة الجبرية والإفراج عن ثلاثة من قادة الجبهة، ويتوقع أن تقدموا له مقابلاً لذلك يمكنه من اتخاذ خطوات أخرى فيمكن في نظري أن نفكر في خطوة محدودة لا تصل إلى حد التورط في البيانات التي يطلبونها...

وقلت لهما: إن هذه المقابلة تحتاج إلى وقت أطول للمناقشة، ولذلك فإنني آثرت تأجيل سفري الذي كان محددًا له عصر ذلك اليوم إلى موعد آخر لكي أعود لهما مساءً وأقدم لهما بعض الآراء على ضوء ما سمعته من الرئيس، واستأذنتهما في الذهاب إلى القبة لأشارك في جنازة المرحوم "محمدي السعيد" ...

وكنت آمل أن أعود لهما بعد ذلك في نفس اليوم، لكنني شغلت بلقائي الثاني مع إخوانهما الثلاثة المفرج عنهم الذي فصلت قصته فيما قبل، وبعدها عدت للفندق متعبًا وأجلت زيارتي الرابعة لهما إلى اليوم التالي "الجمعة 9/12/1994م" على أمل أن أغادرهما إلى المطار للعودة في نفس اليوم إلى الدار البيضاء لحضور المؤتمر الذي جئت من أجله...

في مساء ذلك اليوم فوجئت بمرافقي "حسن" الذي طلبت منه تغيير موعد سفري للغد بقوله لي: إن طائرة الجمعة تغادر في التاسعة صباحًا، ومعنى ذلك أنني لن أستطيع الذهاب إلى الشيخين قبل الذهاب للمطار، ونظرًا لأنني كنت حريصًا على هذا اللقاء فقد طلبت منه الحجز لليوم التالي السبت "10/12/1994م"

واتصلت بصديقي الدكتور "صديق التاوتي" وقلت له: إنك دعوتني للغداء واعتذرت لك بضيق الوقت والآن وقد أجلت سفري فإني أكون سعيدًا لو تغديت عندك بعد صلاة الجمعة بشرط أن تدعو صديقي القديم الدكتور "الهاشمي التجياني" مؤسس جمعية القيم في عام "1962م" لأنني قصرت في الاتصال به ولقائه فسر بذلك ووعد به...

كنت قد حاولت الاتصال مرارًا بعميد كلية أصول الدين بالعاصمة الدكتور "عبد الرازق قسوم" الذي يصدر مجلة تحمل اسم "الموافقات" إحياء لذكرى "الشاطبي" الفقيه العظيم مؤلف كتابه القيم الذي يحمل هذا الاسم، وقد وصلني العدد الأول من تلك المجلة وأعجبت بما جاء فيها من أبحاث فقهية... فسارعت بإرسال مقال لنشره بها موضوعه "الإجماع شورى ملزمة" لكن لم يصلني العدد الذي نشر به هذا المقال، وحرصت على لقائه وتركت له رسالة ليتصل بي، وفوجئت صباح الأرعباء بزيارته لي في الفندق، وتمعت بالحديث معه عن نشاط هذا المعهد الفريد

وحمل إليّ مجموعة الأعداد التي صدرت من مجلته ومن بينها العدد الذي نشر به البحث الذي أرسلته له، وطلب مني أن أزور مقر المعهد وألقي به محاضرة إن أمكن لكنني اعتذرت في ذلك اليوم بسبب نيتي في السفر يوم "الخميس 9/12" ، وعندما أخرت سفري إلى السبت اتصلت بالدكتور "التاوتي" ورجوته إن أمكن أن يدعوه على الغداء معنا يوم الجمعة فرحب بذلك وسعدت به...

زيارة رابعة وخامسة "للشيخين"

صباح الجمعة "9/12/1994م" توجهت لزيارة الشيخين للمرة الرابعة لأتم حديثي معهما عن مقابلتي مع الرئيس "زروال" ولأودعهما "مرة ثانية" لكي أسافر للمغرب في اليوم التالي السبت "10/12/1994م" ... أوضحت لهما اعتقادي بأن الرئيس "زروال" يبدو لي حسن النية، لكنه في مأزق بسبب ضغوط، يواجهها من العسكريين الذين لا هدف لهم إلا البقاء في السلطة والقضاء على الاتجاه الإسلامي الذي يتمتع بشعبية تؤهله للحكم بمقتضى مبادئ الديمقراطية والدستور...

كان حديثنا في الحديقة، وكنت موجزًا في المصارحة والوضوح لكي ألحق صلاة الجمعة في موعدها، ولكي أغادرهما للمرة الثانية بنية السفر غدًا عائدًا للمغرب في اليوم التالي ورغم نيتي في التزام الحذر... فإنني انتهزت الفرصة لأعرض لهما رأيي في ضرورة الاهتمام بالناحية المالية والاقتصادية كأساس للتحرر الحقيقي في العصر الحاضر، وأن مستقبل شعوبنا جميعًا يتوقف على بناء اقتصادها الذاتي؛

لأن بعض الحكومات أصبحت أسيرة القروض والمساعدات الأجنبية؛ ولأن القوى الأجنبية تفرض على الحكومات الموالية لها سياسة بعيدة المدى تفرض التبعية الاقتصادية للدول والتكتلات الأجنبية على شعوبها حتى لا تستطيع الشعوب أن تسير في طريق المقاومة للهيمنة والاستغلال الأجنبي طالما أن سيف الحصار الاقتصادي مسلط عليها فتصبح هي بدورها أسيرة مثل حكوماتها وحكامها... إن الحصار الاقتصادي هو سجن تعده القوى الأجنبية لإخضاع الشعوب الصغيرة ولسلب إرادة المقاومة من هذه الشعوب الناهضة حتى ينشغل أفرادها بالبحث عن لقمة العيش ويستسلموا للحكام الذين يستطيعون أن يحصلوا على المساعدات الأجنبية مقابل التخلي عن حرية شعوبهم وسيادتهم واستقلالها...

إن شعوبنا مازالت تقاوم السيطرة الأجنبية وتكرهها، لكن أعداءنا نجحوا في استقطاب حكام يعملون لحسابهم ودفعوهم للوقوف في وجه المقاومة حتى إنهم وضعوا أنفسهم في صفوف القوى الأجنبية وحرسًا لمصالح الدول التي ترسم الخطط للسيطرة على شعوبنا وذلك بأن تنشغل الشعوب بمعركتها ضد الحكومات، وتنسى معركتها الحقيقية ضد العدو الأجنبي، لقد انسحبت الجيوش الأجنبية لكنهم دفعوا الحكومات

لكي تسخر القوى العسكرية الوطنية لتقوم مقام جيوش الاحتلال الأجنبي في إخضاع الشعوب، ودفعوها لكي تستغل صفتها الوطنية لكي تمارس إجراءات ضد أفراد شعوبها لم تكن القوات الاستعمارية ذاتها تجرؤ على ممارستها... لخصت لهما كل ما قلته لإخوانهما الثلاثة في هذا الصدد "على النحو الذي شرحته عند الكلام عن مقابلتي الثانية معهما في اليوم السابق" ...

وأضفت إلى ذلك أنني أرجو أن يراعي زعماء الجبهة والمسئولون عنها أن مقاومة الحكام الوطنيين لا تكفي، ولابد من البحث عن طرق المواجهة المباشرة مع القوى الأجنبية الطامعة التي تسخرهم لمصلحتها، ولا يوجد طريق يمكننا من ذلك إلا بالتأثير على مصالحهم الاقتصادية بإجراءات شعبية سلمية بواسطة مقاطعة المستوردات التي تهدد مصانع الشركات والمصانع الأجنبية فتدفع حكوماتها لتغير سياستها؛ لأن رؤوس الأموال هي التي تسير الحكومات الآن وتؤثر عليها، فكل إجراء ضدها يدفعها لتوجيه حكوماتها لكي تغير سياستها...

وقلت: إن هذه المقاطعة لكي يتجاوب معها الشعب يجب أن يشعر بأنها لصالح منتجاتنا الوطنية واقتصادنا الذاتي وليس فقط لأهداف سياسية، وعند ذلك ستسارع طوائف العمال وأصحاب رؤوس الأموال والشركات الوطنية التي سترى أن المقاطعة الشعبية ستحمي منتجاتها من بضائع أجنبية منافسة لها وأنها ضرورية للنهضة الاقتصادية الوطنية...

إن بناء اقتصادنا الذاتي وتنميته هو الذي يوحد الجماهير والأفراد وراء دعاة الكفاح الوطني ويمكنها من التحرر في هذا العصر الذي أصبحت الضرورات والحاجات الاقتصادية لها الأولوية في ذهن الأفراد والجماهير، ويجب الآن أن يشعروا بأننا لا نتجاهل مصالحهم الاقتصادية، وهذا يستوجب تحذير رجال المقاومة من عمليات التخريب التي تؤثر على البنية الأساسية للأمة؛ لأن تعويضها إو إصلاحها يستغرق وقتًا طويلاً، كما أن تخريبها يؤثر على معيشة الأفراد ومصالح الطبقة العاملة بل والشركات الوطنية والإنتاج الوطني...

إن إخوانكم قالوا: إنهم بصدد إعداد مشروع متكامل يقدمونه لممثلي السلطة للتقريب بين وجهات نظر الحكومة والإنقاذ، وقد اقترحت عليهم أن يتكون المشروع من عدة خطوات كل خطوة من جانب الحكومة يقابلها خطوة من جانبكم، وطلبت منهم أن تكون أولى الخطوات التي تعرض الجبهة القيام بها هي دعوة الشعب للمحافظة على المؤسسات الاقتصادية ومنع أي عمل لتخريبها...

وهذه الدعوة الموجهة للشعب من جانبكم يفهم منها أن من يؤيدونكم أو يعملون لصالح الإنقاذ لا يجوز لهم أن يسمحوا بتخريب مصادر الإنتاج والبناء الاقتصادي والاجتماعي مثل المدارس المصانع والسكك الحديدية والطرق ومحطات الكهرباء ومصادر الطاقة وخاصة البترول والغاز الطبيعي...

كان كلامي جديدًا عليهم، بل غريبًا إلى حد أن الشيخ "علي بلحاج" قال لي إنه في ثورة التحرير الوطني كانت أعمال المقاومة تشمل عمليات لتخريب جزء من الاقتصاد الفرنسي فالإضرار به كان يضر بفرنسا، أما اليوم فإننا نريد اقتصادنا مستقلاً قويًّا نقاوم به المستوردات الأجنبية ويحمينا من الحاجة المتزايدة للمساعدات الأجنبية سواء كانت مالية أو فنية، فكل ضرر بالمنشآت المنتجة أو البنية الأساسية سيضعف موقفنا في هذه المعركة ويزيد من حجة أولئك الذين يرون أننا لا نستطيع أن نعيش بدون المساعدات الأجنبية التي هي في الحقيقة قيود على استقلالنا وسبيل إلى التبعية للاقتصاد الأجنبي، إنني أدعوكم لكي تفكروا جيدًا في هذه الناحية...

عندما حان وقت صلاة الجمعة اعتذرت عن إطالة الحديث وقلت لهم: إن هذه مجرد اقتراحات أرجو أن تدرسوها جيدًا وأن توجهوا أصدقاءكم في الخارج لكي يأخذوها جديًا ويدخلوها في اعتبارهم، وودعتهم على أساس أنني عازم على مغادرة الجزائر بإذن الله –عز وجل- في اليوم التالي "السبت 10/12/1994م" إذا لم يوجد ما يمنع سفري...

لقد سررت عندما حزمت حقيبتي وأوصلتني السيارة إلى المطار دون أن أشعر بأن هناك أي مانع مما كنت أخشاه أو أحسب حسابه، وجلست في قاعة الانتظار حتى جاء موعد إقلاع الطائرة، وأنا أحمد الله –عز وجل- أن يسر لي سبيل العودة سالمًا بعد هذه المغامرة لكني فوجئت بما لم يدر في خاطري، وهو أن مرافقي "حسن" جاء إليّ معتذرًا ليخبرني بأنه لا سفر اليوم؛ لأن الطائرة المغربية التي حجزت عليها لم تصل، ولن تصل لأن رحلتها قد ألغيت...

معنى ذلك أن الرحلة قد امتدت رغم أنفي بصورة غير متوقعة، فاكتفيت بأن طلبت من مرافقي أن يحجز لي على رحلة اليوم التالي "الأحد 11/12/1994م" وركبنا السيارة عائدين إلى الفندق، وأول ما عملته هو الاتصال بالشيخين وقلت لهما: إن الله قدر لي أن أعود لزيارتهما للمرة الخامسة، وفعلاً قمت بهذه الزيارة؛ لأنه لم يعد لدي أي هدف غيرهما في ذلك الوقت...

في هذه الزيارة الأخيرة كنت مستمعًا، وقد سرني أن كل ما سمعته يؤكد لي عزمهما الثابت على الصبر والصمود، وقبول كل ما يترتب على ذلك مهما تكن النتائج، ولما سألتهما إن كان معنى ذلك أن كل ما اقترحته لا قيمة له، قال الشيخ عباسي: إن آراءك لها كل اعتبار وسوف نفكر فيها وندرسها، ولكن لكل شيء وقته وأوانه، وعندما يحين الوقت المناسب سنستفيد منها إن شاء الله –عز وجل.

بعد أن استمعت لكل ما عندهما قلت: إن عندي نقطة أخيرة أعتقد أن الله –عز وجل- كتب ألا أسافر اليوم لكي أحدثكم عنها بكل اطمئنان... لقد قلت للرئيس "زروال" إنني أعتقد أن هناك قوى أجنبية لها مصلحة كبيرة في استمرار الفتنة الداخلية لاستنزاف قوى الحكومة والجبهة واستئصال أكبر عدد ممكن من الأفراد وتخريب أكبر عدد من المؤسسات حتى تصبح الجزائر عاجزة عن القيام بدورها الرائد في العالم العربي والإسلامي والعالم الإفريقي بالذات...

وقلت له: إنني أعتقد أن هذه القوى الأجنبية استطاعت زرع عناصر عميلة لها لكي ترتكب أفعالاً إرهابية ضد الحكومة من ناحية، وضد الإسلاميين من ناحية أخرى لكن الإعلام يعتبر كل عمل ضد الحكومة صادرًا عن المقاومة الإسلامية، ويردد ذلك دون التأكد من أن هناك طرفًا ثالثًا هو الذي دبرها...

كما أن الإسلاميين يعتبرون كل عمل ضدهم صادرًا عن السلطة أو عملائها وأجهزتها العميلة والسرية، دون بحث عما إذا كانت هناك جهة أجنبية هي التي دبرتها ونفذتها وبذلك تزداد أسباب الخصومة بين الجانبين بفعل هذا الطرف الثالث، والآن أدعوكم أن تراعوا ذلك ولا تنساقوا وراء الإعلام، ولا وراء الاعتبارات السطحية أو العاطفية دون بحث جدي ودون التنبه إلى القوى الأجنبية التي أصبحت في نظري طرفًا ثالثًا له دور كبير في استمرار المعارك بين الحكومة والمعارضين لها...

أكثر من ذلك أنني أعتقد أن الأساليب التي تلجأ إليها هذه العناصر العميلة هي تدبير فتن بين الفئات الإسلامية المختلفة، وخاصة بين الإنقاذ وحماس، بل بين الإنقذا والجماعات الإسلامية التي تسلك سبيل المزايدة عليها، وتدفع بعض من يتحدثون باسم هذه الجماعات لاتهام الإنقاذ وقادتها بالخيانة أو الجبن أو التراجع كلما بدا منكم أي مباردة للتفاهم مع السلطة أو مع غيرها من الأحزاب مثل جبهة التحرير...

إنني أرجو أن تأخذوا في اعتباركم أن بعض القوى الأجنبية مصممة على إفشال أي مصالحة وطنية في الجزائر، وأن لها عملاء يتسللون داخل بعض جماعات المقاومة أو ينشئون تنظيمات مشبوهة تستعمل أسلوب المزايدة على الإنقاذ لمنعها من الوصول إلى أي حل سياسي يخرج البلاد من مستنقع الفتن الداخلية...

إن هذه الجماعات المشبوهة لا تعرفونها ولا يعرفها أحد إلا من البيانات التي تنشرها الصحف وأجهزة الإعلام الأجنبية، وهذه الأجهزة في عمومها تحركها القوى الأجنبية المعادية للجزائر وللعروبة وللإسلام، ويسهل عليها نشر بيانات مزعومة تدعي أنها صادرة من جماعات مسلمة تتهم جبهة الإنقاذ بالخيانة كلما بدا منها أي اتجاه للحل السياسي...

إنني أحذركم وأحذر الجميع من هذه البيانات المشبوهة، ومن هذه الجماعات المزعومة، وأعتقد أن كثيرًا منها لا وجود له إلا في خطط المخابرات الأجنبية وخاصة الصهيونية والماسونية... حتى ولو كانت هذه الجماعات موجودة أو تعرفونها فإن هناك وسائل كثيرة لعملاء القوى الأجنبية يستعملونها لاختراقها وتوجيهها نحو معاداة جبهة الإنقاذ ومعاداة الحل السلمي بصفة خاصة، ومن هذه الوسائل تزويد تلك الجماعات بالسلاح أو بالمال أو بالدعاية في الخارج التي تسيطر عليها وكالات الأنباء الأجنبية، وتضخيم صورتها لكي تكون بديلاً عن الإنقاذ في حالة وصولكم إلى هذا الحل السياسي...

لقد التقيت بأحد المسئولين الإسلاميين الذي اختطف وأفلت من القتل قضاءً وقدرًا، وعرفت منه أن الذين اختطفوه لم يكونوا إسلاميين ولا يعرفون شيئًا عن الإسلام وأنه يعتقد أن هؤلاء هم الذين قتلوا الشيخ "السليماني" نائب الشيخ "محفوظ نحناح" ومع ذلك سارع الشيخ "نحناح" وإخوانه باتهام الإسلاميين وأنصار الإنقاذ بقتل "السليماني"، ويضيف الشيخ "محفوظ" أنهم يهددونه شخصيًّا بالقتل، ومازال يروج لهذه الدعاية رغم أني أشك في صحتها...

المؤسف أن كثيرًا من الجهات أو الهيئات التي ينسب الإعلام لها ارتكاب الحوادث التي دبرها طرف ثالث أجنبي، لا تجد داعيًا لكي تنكر ذلك أو تستنكره، وبعض المسئولين عن الحكومة أو الجماعات المعارضة لها يسرهم أن ينسب لهم أعمال لم يرتكبوها ولا يعرفون عنها شيئًا، معتقدين أن نسبة أي حادث لهم إنما يزيد في رصيدهم وهيبتهم، ويذكر الرأي العام بوجودهم وقوتهم وقدرتهم على تنفيذ مثل هذه الحوادث...

إنني أعلم أن بعض الحكومات العربية تقع فيها حوادث اغتيال أو نسف، وتكشف أجهزتها للحكومة أنها من تدبير الموساد الصهيونية، ومع ذلك تستمر أجهزة الإعلام الرسمية في اتهام الجماعات الإسلامية في بلادها بهذه الحوادث، وتصر على ذلك لتبرر به عمليات القمع والتعذيب ومطاردة الجماعات والتشهير بالحركات الإسلامية...

أكثر من ذلك فإن بعض الأجهزة الحكومية تتباهى يوميًّا بالإعلان عن مقتل من يصفونهم بأهم إرهابيون أو معارضون على يد رجال الأمن ولو كان في ذلك مبالغة، كأنهم يعتقدون أنه كلما زاد عدد القتلى ممن يسمونهم مسلمين أو إرهابيين يزيد احترام القوى الأجنبية لهم وتقديرهم لسياستهم الناجحة فيما يسمونه مقاومة "الإرهاب" ...

كذلك نرى بعض عناصر المقاومة الوطنية أو الإسلامية لا تتنصل من الحوادث التي تنسب لها ظلمًا، رغم أنها تشك في أن هناك طرفًا ثالثًا ارتكبها؛ لأن زيادة عدد الحوادث التي تنسب لها تشجع في نظرهم حركة المقاومة وتدعمها... هكذا فإنني أخشى أن طريق المزايدة من الطرفين يفتح للقوى الأجنبية ولأطراف أخرى بابًا لكي يؤخروا أي حل سياسي أو يفشلوا أي مسعى في هذا الاتجاه... إن هذه مجرد أفكار أذكرها لكم حتى تأخذوها في اعتباركم إن شاء الله –عز وجل.

وعلى هذا ودعت الشيخين لأغادر الجزائر في صباح الأحد "11/12/1994م" ، لقد استمعت لهما كثيرًا بعدما سمعوه مني، وسعدت لأني فهمت أن عنادهما لا يرجع لعدم ثقتهما في حسن نية الرئيس "زروال" وإنما لاعتقادهما أن الأمر ليس بيده، بل إن مجموعة أخرى هي التي تقرر

وأن أي مبادرة منهما لإرضائه لن تزيد هذه المجموعة المتحكمة إلا إصرارًا في السير في سياسة الاستئصال التي ترضي القوى الأجنبية ومحاولات لشق صفوف "الجبهة والمقاومة"، ولن يترددوا في الإطاحة بزروال" كما أطاحوا من قبل بسلفه "بوضياف" وأن الذي يدعم موقف "زروال" ليست هي البيانات التي يراد استغلالها وإنما هو نمو المقاومة الشعبية التي تقنع هذه المجموعة العسكرية بأنها فشلت في مشروعها الإنقلابي...

بت "ليلة ثالثة" وأنا غير واثق لما سأجده في الصباح، وزاد في مخاوفي أن "حسن" أخبرني أنه قد اتصل بالأمس بالمسئول في السلطة الذي قابله "د. زبير" قبل سفره وسأله إن كان يرى فائدة في أن ألتقي به بعد أن قابلت رئيس الجمهورية، فأجابه بأنه مشغول "هذين اليومين" ولن يمكنه ذلك الاتصال إلا بعد يوم الاثنين!

ولكني أخبرته بتصميمي على السفر إن وجدت الطائرة التي حجزنا عليها الأحد صباحًا... وفهمت بعد عودتي للمغرب أن سبب انشغال هذا المسئول الكبير هو أن الرئيس "مبارك" قرر التوقف في الجزائر للقاء الرئيس "زروال" ومن حسن الحظ أن ذلك كان بعد سفري فعلاً ووصولي "للدار البيضاء" ...

الرئيس "زروال"

بعد مقابلتنا للشيخين ولإخوانهما الثلاثة الذين أفرج عنهم، عدنا إلى العاصمة مساءً وأخبرني الدكتور "زبير" أن مهمتنا قد انتهت بعد أن فهمنا من الثلاثة أنهم على اتصال مباشر مع المسئولين في السلطة؛ ولذلك فإنه حجز للعودة في صباح اليوم التالي "الأربعاء 7/12/1994م" وقد تألمت لذلك ورجوته أن يؤجل سفره إلى يوم الخميس لنسافر معًا، إنني توجست خيفة من بقائي وحدي وتعرضي لكمين من جانب أعداء الجبهة أو أعداء المصالحة، إلا أنني لم أصرح له بأنني أخشى أن أتعرض بعد سفره لمضايقات أو أخطار لأنني وجدته مصرا على السفر فأسلمت أمري لله –عز وجل.

بعد التاسعة مساءً في ذلك اليوم جاءني "د. زبير" وأخبرني أنه اتصل ببعض المسئولين في السلطة ليودعهم وأبلغهم بأنني سوف أسافر في اليوم التالي لسفره، فأبلغوه بأنهم سوف يحددون لي موعدًا لمقابلة رئيس الجمهورية السيد "الأمين زروال"، وأنهم سوف يتصلون بي اليوم التالي "الأربعاء 7/12" لتحديد الموعد، قلت له: إنني لم أطلب هذه المقابلة كما تعرف، فهل أنت الذي طلبت ذلك؟

قال: لا!! ولما أحس شكوكي ومخاوفي من البقاء وحدي قال لي: إنه سيعاود الاتصال بهم وإخبارهم بأنه مستعد لتأجيل سفره إذا كانوا يرون فائدة من حضوره معي في هذا اللقاء، وكنت أتمنى ذلك لشكي في أن بقائي وحدي سيكون فرصة للإيقاع بي بأية وسيلة، وانتظرت رده لكنه لم يرد علي إلا في صباح اليوم التالي حيث وجدته قد أعد حقائبه واستعد للسفر، فكان هذا مؤيدًا لمخاوفي من أن هناك كمينًا يدبر لي بعد سفره فأسلمت أمري لله –عز وجل- وقررت أن أزور الشيخين في ذلك الصباح "الأربعاء 7/12" بعد سفره لأودعهما على أمل أن أسافر يوم الخميس ولكي أعرف رأيهما في ذلك...

في يوم الأربعاء "7/12" عدت إلى الفندق ووجدت رسالة من أحد المسئولين في رئاسة الجمهورية يخبرني بأن موعد مقابلتي للرئيس "زروال" سيكون يوم الخميس الساعة العاشرة صباحًا، وأنه سيرسل إلي سيارة في الساعة التساعة صباحًا لنتوجه بها إلى الرئاسة... في الموعد المحدد دخلت على مكتب رئيس الجمهورية الذي استقبلني ببشاشة فائقة لم تكن كافية "رغم ذلك كله" لتبديد مخاوفي من الكمين الذي كنت أتوقعه... لم يكن قد بقي معي نسخة من كتبي التي كانت معي حيث وزعتها جميعًا سوى صورة من مجموعة مقالاتي العشرين الأولى التي نشرت في المجتمع، فرأيت أن أقدمها له حتى يكون على بينة من اتجاهاتي وآرائي...

في أول اللقاء قلت له: إنني لا أرى داعيًا لتقديم نفسي له؛ ولذلك أعطيه نسخة من هذه "المقالات" التي نشرتها تبين ما قمت به من أجل قضية الجزائر منذ عام "1945م" وأن الطريق الذي سرت فيه خمسين عامًا كاملة كما سيرى في هذه المقالات بدايته كانت العروبة والإسلام، وغايته هي العروبة والإسلام!!، وأنه لم يعد عندي في هذه السن أي فرصة لأن أسلك طريقًا آخر، فإذا كان هناك شيء يمكن أن أعمله من أجل عروبة الجزائر وإسلامها فسيكون من أجل هذه الغاية التي كافحت من أجلها طول حياتي التي قاربت من نهايتها...

قال: إن العروبة والإسلام هما شيء مستقر في نفس جميع الجزائريين ولا يمكن تجاهلهما، ثم أضاف إننا نعرف جيدًا ما قمت به من أجل الجزائر، قلت: إذا كان الأمر هكذا فإنني على استعداد لأن أقوم بكل ما أستطيع في هذا الإطار، فماذا ترى يمكن أن أفعله؟ قال: إنه يعتقد أنني أستطيع أن أعاون في الحوار الدائر بينه وبين الشيخين، وبين أنه التقى بهما وهو وزير للدفاع قبل أن يكون رئيسًا للجمهورية

واتفق معهما على خطة تؤدي إلى التفاهم وأنه قام فعلاً من جانبه بأمور كثيرة منها: نقلهما من السجن في "البليدة" إلى العاصمة في إقامة جبرية، وأنه يمكنهما من استقبال كل من يريدون التشاور معه، ومن الاتصال تليفونيًّا بمن يريدون الاتصال به، وكذلك تم الإفراج عن ثلاثة من القادة المعتقلين بناءً على طلبهم ومع ذلك فإنهما حتى الآن لم يقوما بأي خطوة نحو التهدئة ووقف العنف، بل عيتقد أنهما يشجعان العناصر التي ترتكب أعمال العنف باسم الجبهة أو باسم الإسلام...

قلت له: أحب أن أقول بصراحة أن المشلكة في نظرهما هي مشكلة إنعدام الثقة بين الطرفين، وأن الشيخ "عباسي" قال: إن السلطة لا تثق بنا بدليل أنهم يصرون على حرماننا من الحرية التي يتمتع بها جميع المواطنين والتي هي حق طبيعي وإنساني لنا، وخصوصًا أننا اعتقلنا قبل أن يبدأ أي شيء مما سمي عندهم بالعنف، وقال أيضًا: أننا نحن لا نثق فيهم لأنهم يصرون على مطالبتنا ببيانات تدين أعمال المقاومة والتي تجري الآن باسم الجبهة أو باسم الإسلام

وهم يعلمون أننا لا نملك إصدار هذا البيان دون التشاور والتفاهم مع مجلس الشورى للجبهة، وأن إصرارهم عليه ليس الغرض منه وقف العنف؛ لأن وقف العنف لا يكفي فيه بيان، وإنما لابد من إقناع من يسيرون في هذا الطريق بالعدول عنه، وهذا يستلزم أن نلتقي بهم ونتشاور معهم وأن إصرار السلطة على إصدار هذا البيان

ونحن لا نتمتع بالحرية يقصد به تشويه صورتنا أمام الجماهير والمسئولين عنها الذين سوف يفسرونه على أنه خضوع منا لضغوط السلطة أو مساومتها، وبالتالي فهم يريدون الإيقاع بيننا وبين إخواننا في الجبهة ويعرضون الجبهة للإنشقاق والاقتتال، ويدفعون عناصرها للشقاق... إنهم لا يريدون وقف العنف، بل يريدون زيادته بإضافة عنف داخل الجبهة بين من يسمونهم متطرفين ومن يسمونهم معتدلين...

وقلت له: إنني شخصيًّا أعتقد أن إصرار بيان بالدعوة إلى الهدنة أو وقف القتال من أشخاص تحت الإقامة الجبرية لن يقنع أحدًا بذلك، وأنه ليس من المصلحة الإصرار على ذلك؛ لأن نتيجته الحتمية هو إظهارهم أمام أنصار الجبهة والجماعات الإسلامية بأنهم تخلوا عمن يقاومون من أجل تحريرهم ومن أجل استعادة الجبهة لشرعيتها وحقوقها التي حرمت منها بقرارات غير دستورية في نظرهم...

وقلت: إنهم يعلمون أنك لن تشارك في هذه القرارات؛ ولذلك فهم مستعدون أن يثقوا في نيتك، لكنهم يقولون بأنه يوجد في السلطة وفي الجيش عناصر ليست محل ثقتهم، وهي عناصر تراهن على الحل الأمن، وتعمل لاستئصال الحركة الإسلامية وكل من يعمل لتأييدها، وأن هذه العناصر تعطل أي إجراءات في سبيل التفاهم بينك وبين الجبهة قال: هذا غير صحيح إنني رئيس الجمهورية وما أقوله يلزم الجميع ولا يستطيع أحد أن يخرج عن نطاقه...

قلت: إذا كان الأمر كذلك فإنني أؤكد أن هناك قوى خارجية تسعى لإشعال الفتنة واستمرارها وإحباط كل محاولة للمصالحة، وأحب أن أقول لك رأيي الشخصي وهو أن ما تسمونه من أعمال العنف التي تنسبها الدعاية الرسمية إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ أو إلى الجماعات الإسلامية نسبة كبيرة منها ليست من فعلهم، وإنما يرتكبها طرف ثالث أو أطراف أخرى تعمل لحساب قوى أجنبية كل هدفها هو منع المصالحة الوطنية والإيقاع بين الإسلاميين والسلطة

لأن هدفها هو تخريب الجزائر ولا يهمها مصلحة الحكومة ولا مصلحة الجبهة، ومن ناحية أخرى فإن كثيرًا من الأعمال التي يشكو منها الإسلاميون ويتهمون السلطة بارتكابها فإنها في نظري ليست من أعمال الحكومة أو السلطة، بل هناك عناصر تعمل لحساب قوى أجنبية تنفذها بقصد استمرار الفتنة بين الحكومة والإسلاميين عمومًا والإساءة إلى "الإسلام" وتشويهه في نظر الجمهور والرأي العام، وفي نظر العالم الخارجي...

قال: هل تستطيع أن تذكر أمثلة لذلك، قلت: ومن أمثلة هذه الأعمال ما نسب إلى الإسلاميين من وضع قنابل في أحد المقابر أدت إلى مقتل أطفال الجوالة، ومن أمثلته أيضًا: ما ينسب إلى الحكومة من قتل بعض العناصر القيادية في الحركة الإسلامية وأنا أعتقد بأن جهات أجنبية لها عملاء ينفذون ذلك...

قال: ولكن فيما يتعلق بقنبلة المقابر فإن مرتكبيها قد اعترفوا بذلك، فقلت: إن اعترافهم لا يكفي للتدليل على أنهم لا يعملون لحساب قوى أجنبية، بل على العكس هو في نظري يؤيد هذا الفرض؛ لأن مثل تلك القوى الأجنبية حريصة على أن تنسب الأفعال التي يرتكبها عملاؤها إلى أحد الطرفين في الداخل، ويلزمون عملاءهم بأن يعلنوا انتماءهم لها لكي يؤيدوا هذا في اعترافاتهم ودعاياتهم

وقلت: إنني على يقين أن بعض القيادات في الجماعات المسلحة أو في السلطة ذاتها يسرها كثيرًا أن تنسب إليها أعمال لم تقم فعلاً بها بل تسارع بإدعاء نسبتها إليها لكي تكسب في الرأي العام أهمية أكبر مما لها؛ ولأن ذلك في نظرها يزيد في إضعاف الطرف الآخر، ثم إن الإعلان الذي ينسب لأي جهة جزائرية بأنها مسئولة عن حادث معين يكون من مصادر غير معروفة، وهذا لا يكفي في نظري لكي أصدق هذا الإعلان إن مثل هذه الإعلانات تصدر من شخص مجهول بطريقة لا يمكن التحقق من تمثيله لتلك الجماعات أو الجهات الرسمية...

قال لي: إنه يوافق على أن هناك أيديًا أجنبية يهمها زيادة العنف المنسوب إلى الجانبين، ولكن لا توجد وسيلة للتحقيق من ذلك، قلت: إن الوسيلة الوحيدة في نظري هي اتفاق جدي حاسم بين الطرفين الوطنيين على وقف أعمال العنف، عند ذلك سيتضح أن عناصر من عملاء الجهات الأجنبية هي التي ستحاول الاستمرار فيه، وسيكون ذلك مؤكدًا لاشك فيه...

قال: إن الشيخين لا يقدمان أي دليل على هذا الاتجاه، بل هناك ما يدل على تضامنهما مع من يرتكبون أعمال العنف، قلت: إن السلطة إذا كانت جادة في التصالح وتطلب من الشيخين أن ينفذا عملية وقف العنف فمن مصلحتها ألا يدخل هذان الزعيمان الآن في خصومة مع المسئولين الذين تعتقد أنهم يقومون بهذه الأعمال في الوقت الحاضر لأن نجاحهما في السيطرة على هذه العناصر ليس سهلاً

ولا يمكن لهما استكمال هذه السيطرة جديًا إلا إذا احتفظا بثقة هذه العناصر وتوثيق علاقتهما بها، فلا أرى من مصلحة المسئولين الاعتراض على ما يقومان به لتوثيق صلتهم بأصدقاء لهم في الخارج يمكنهم في الوقت المناسب مساعدتهم في السيطرة على القائمين بأعمال العنف، خصوصًا أنك تعلم أنها بدأت فعلاً بعد اعتقالهما فلا يستطيعان أن يعرفا من يقومون بها، قال لي: إنهما يجب أن يقدما دليلاً على صدق نيتهما وإلى الآن لم يقدما هذا الدليل...

قلت: إنه من الضروري أن أكون صادقًا معك، فهما أيضًا يريدان من الحكومة أن تقدم دليلاً مقنعًا على صدق اتجاهها للمصالحة، قال: إنني نفذت ما تعهدت به وأخرجتهما من سجن البليدة ويقيمان هنا في العاصمة ويتمتعان بحرية الاتصال بمن يشاءون...

قلت: إنهم يعتبران أن الإقامة الجبرية هي سجن آخر، وأن الحكومة لو كانت صادقة في منحها حرية الاتصال فإن ذلك يستلزم إنهاء هذه الإقامة الجبرية حتى يذهبا إلى إخوانهما ويتشاورا معهم ويقنعاهم بسلوك طريق آخر، إنهم يشعران أن الإقامة الجبرية تحرمهما من حريتهما كمواطنين في هذا البلد، إن كل ما يقولانه لمن يزورهما يسجل عليهما ويتخذ مادة للدعاية ضد الجبهة...

إنني لاحظت أنهما يحذران كل من يقابلهما بأن كل ما يقوله أو يسمعه سيصل لأجهزة الدولة، وقد تستغله لتبرير سياستها في استمرار حل الجبهة وعدم الاعتراف بها ثم إنهم يتساءلان كيف تريد الحكومة منا أن نتكلم باسم "الجبهة" وندعو الشعب للثقة بالحكومة في حين أن هذه "الحكومة" لا تعترف "بالجبهة" وتصر على وصفها بأنها "محظورة" ...

قال: إن كل شيء له أوانه، ولابد أولاً أن يثبتوا حسن نيتهم، ألا تعلم أن أحدهما قال إنهما يريدان الخروج دون الالتزام بشيء، بل قال: إن التشاور قد يؤدي إلى رفض طلب الحكومة لوقف أعمال العنف التي تخرج البلد وتشعل الفتنة، هل يعجبك الوضع الآن في البلاد؟

قلت: إنهما يقولان إنهما لا يستطيعان أن يتخذا موقفًا باسم الجبهة دون اعتراف الحكومة بها ودون التشاور مع المسئولين فيها، ولماذا تصر الحكومة على إلغاء وجودها؟

قال: إنني لم أكن في السلطة عند صدور هذا القرار الذي حظر نشاط الجبهة ولكي أتكلم في هذا لابد أولاً أن أتأكد من حسن نيتهم، وأنا مصر على السير في طريق المصالحة الكاملة متى تأكدت من حسن نيتهم...

قلت: إنني سأذهب لهما الآن وأحاول إقناعهما بذلك قبل سفري، فأرجو أن تأمر "السيارة" التي أحضرتني ألا تذهب بي إلى الفندق، وأن تحملني إلى مقر إقامتهما الجبرية فأمر بذلك فورًا...

كنت قلقًا بسبب تأخري عن حضور مؤتمر القمة بالدار البيضاء الذي جئت من أجله، واتصلت بالسيد مختار أمبو، واطمأنيت لحضوره في المؤتمر، كان السيد "أحمد مختار أمبو" مدير المنظمة اليونسكو، وعمل جهده لتشجيع الثقافة العربية والإسلامية وكان شجاعًا في مواقفه ضد الضغوط الأمريكية والصهيونية في كل ما يتعلق بمصالح العالم العربي والإفريقي والعالم الثالث على العموم؛ ولذلك عندما تقدمنا بطلب لتسجيل الاتحاد العالمي للمدارس العربية والإسلامية في اليونسكو شجعنا وساعدنا على ذلك، ولما خرج من اليونسكو اقترحنا عليه أن يتعاون مع الاتحاد وقبل أن يمثله في بعض المؤتمرات والاجتماعات...

وبمناسبة مؤتمر القمة الإسلامي السابع في الدار البيضاء اقترحت عليه أن يرأس وفد الاتحاد فقبل ذلك، وذكرت له نيتي في السفر إلى الجزائر فأبدى تخوفه من هذه المخاطرة قلت: إنني أعلم ذلك ولهذا جئت لأتأكد من عزمه على حضور المؤتمر في حالة تعذر عودتي من الجزائر لأي سبب من الأسباب...

وعندما تأخر سفري عن الموعد الذي حددته يوم الخميس "8/12/1994م" اتصلت به تليفونيًّا أذكره بوعده في حضور المؤتمر وطمأنته بأنني حجزت للسفر الجمعة "9/12" ولما عدلت عن السفر يوم الجمعة وجعلته يوم السبت "10/12" وأبلغته زاد شكوكه، وللمرة الثالثة اتصلت به لإبلاغه بتأخر سفري للأحد ولم يكن موجودًا في منزله وعرفت من زوجته أنه فعلاً ذهب إلى الدار البيضاء لحضور المؤتمر وأنها سوف تلحق به... فاطمأننت وقررت متابعة برنامج زيارتي للجزائر...

عبد الحميد المهري وجبهة التحرير الوطني

من أول ما فكرت فيه بعد لقائي الأول مع "الشيخين" هو الاتصال بصديقي القديم الأستاذ "عبد الحميد المهري" الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، وزيارته كما وعدته عندما التقيت به منذ شهر فقط في مؤتمر "بيروت" الذي كان موضوعه "الحوار الإسلامي القومي"، فاتصلت به في مكتبه، واتفقت معه على موعد للقاء في صباح اليوم التالي "السادس من ديسمبر 1994م"، وزرته في مكتبه، وكان معي الدكتور "محمد عمر زبير" والشيخ "عبد الله جاب الله" وطلبت منهما أن يعطياني فرصة للكلام معه في الموضوع الذي يهمني على أن يتكلما فيما بعد في الموضوع الذي يهمهما...

سألت "المهري" عما توصلوا إليه في حوارهم في "روما"، قال لي "السيد المهري": إننا لم نتخذ قرارات أو توصيات رغم أن السيد "أنور هدام" الذي كان يمثل جبهة الإنقاذ اقترح فعلاً أن نعلن اتفاقنا على المبادئ المشتركة التي نرى أنها تمكننا من السر نحو المصالحة الوطنية في الجزائر، ولكنني اعتذرت، وكذلك اعتذر "حسين آية أحمد" وكان عذرنا أننا لم نكن مفوضين من الحزب الذي نمثله...

قلت له: إنني أرى أن يسير في النهج الذي توصل إليه الحوار الإسلامي القومي في "بيروت" وهو ضرورة التعاون بين الإسلاميين والقوميين، وإنني أرى أنه من المصلحة أن تخطو جبهة التحرير، وجبهة الإنقاذ، وجبهة القوى الاشتراكية نحو التعاون لتكوين جبهة وطنية موسعة تضم جميع الأحزاب والهيئات الإسلامية والوطنية التي ترغب في ذلك أجاب بأنه سوف يعرض الأمر على اللجنة المركزية التي ستنعقد في "23/12/1994م" لتتخذ ما تراه من قرار... بعد ذلك تكلم الشيخ "عبد الله" والدكتور "زبير" في الموضوع الذي يهمهما وهو الحوار بين السلطة وزعماء جبهة الإنقاذ، وكنت مستمعًا ولم أبد رأي في هذا الصدد...

وعندما التقينا مع الثلاثة المفرج عنهم في مسكن أحدهم كان أول ما قلته هو إخبارهما بالمقابلة مع "عبد الحميد المهري"، وأنني تأكدت من عزمه على تحقيق أكبر قدر من التنسيق مع جبهة الإنقاذ متى وافقت اللجنة المركزية على ذلك في اجتماعها القادم يوم "23/12/1994م" ورجوتهم أن يتعابوا هذا الموضوع معه ومع من يعرفونهم من أعضاء اللجنة المسئولين في جبهة التحرير الوطني...

وقلت لهم: إنني أعتقد أن "الشيخين" لن يعارضا ذلك...

لما التقيت مع "الشيخين" بعد ذلك توسعت معهما في الحديث حول هذا الموضوع ورجوتهما توجيه "إخوانهما" نحوه، وذكرت لهما ما تقرر في ندوة "بيروت" بشأن التعاون بين الإسلاميين والقوميين؛ لأنهم أكثر استعدادًا لهذا الآن بعد انهيار الاشتراكيين الذين كانوا يعملون لحساب الاتحاد السوفياتي وينفذون خططه التي كانت تهدف لاقتلاع الإسلام من هذه المنطقة لكي يفرض سيطرته عليها كما فعل مع "آسيا الوسطى الإسلامية"، وأن التيار الإسلامي أكبر عقبة في سبيل تعاونهم مع الكتلة الاشتراكية التي توفر لهم دعمًا كبيرًا على المستوى الدولي...

وقلت لهم: إننا ندعم تيار الوحدة العربية كخطوة في سبيل الوحدة الإسلامية نتعامل مع التيار القومي على أنه تيار للوحدة العربية، وأن العروبة في نظرنا لا تتعارض مع الإسلام طالما أنها تطهرت من النزعات العنصرية، وأن مستقبلنا سيشهد تكتلاً بين العروبيين والإسلاميين... بعد عودتي إلى مصر تابعت أنباء اجتماع اللجنة المركزية لجبهة التحرير وقراراتها واتصلت بالأستاذ "المهري" فطمأنني بأنها كانت إيجابية وطلبت منه إرسال نسخة منها... ففعل ذلك...

تابعت بعد ذلك الاتصالات بين ممثلي الأحزاب الجزائرية لعقد اجتماع ثانٍ لهم في "روما"، وتوصلوا في هذا الاجتماع إلى مبادئ متفق عليها للحوار مع السلطة، وقد لقيت هذه المبادئ ترحيبًا من جهات كثيرة على المستوى العالمي، أما في الجزائر فقد ساءنا أن الحكومة قد أشارت إلى تصريح للرئيس "زروال" يخفف هذا الموقف، ومازلنا في انتظار الخطوات التالية من أحد الجانبين...

محمد سعيد وجمهورية الجزائر الإسلامية

في السيارة التي أقلتني من "المطار" إلى العاصمة الجزائرية بدأت أحدث الدكتور "زبير" ورفيقيه "حسن وعلي" من جماعة النهضة التي يتزعمها الشيخ "جاب الله" عن زيارتي الأولى للجزائر المستقلة عام "1962م" مع "محمد خيضر" و"بن بللا" ، وما حدث من خلافاتي مع "بن بللا" أدت إلى خروجي من الجزائر، وأول هذه الخلافات كانت بشأن اقتراحي اسم "جمهورية الجزائر العربية الإسلامية" في بيان إعلان الاستقلال الذي أعددته للمكتب السياسي

وواجهوني بإصرارهم على أن تكون "ديمقراطية وشعبية" فقط محتجين برأي "عباس فرحات" الذي يتمسك بأن "ميثاق طرابلس" الذي أعدوه مع الاشتراكيين نص على ذلك، وذكرت محاولاتي لإقناع أعضاء المكتب السياسي برأيي، ولإعجابي بالموقف الشجاع الذي وقفه "محمدي سعيد" عضو المكتب السياسي في ذلك الوقت الذي وقف في الجمعية الوطنية مطالبًا بأن تكون "الجمهورية إسلامية" وقلت لهم: إن أول ما أريد أن أفعله هو أن أتقابل معه وأذكره بما قاله في المجلس الوطني "المعين طبقًا لاتفاقية عام 1962م" ووقوفه بشجاعة وثقة في هذا المجلس معلنا أن الشعب يريد أن تكون الجمهورية إسلامية...

قلت لهم: إن ذلك المجلس الذي كان يرأسه "عباس فرحات" قد تجاهل اعتراضاته وقرر تأييد المشروع الذي أعده المكتب السياسي بتسمية الجمهورية الجزائرية "شعبية وديمقراطية" بدلاً مما اقترحه "محمدي سعيد" بأن تكون جمهورية إسلامية، لكن ما يحدث الآن في الجزائر يؤكد تصميم الشعب الجزائري على فرض إرادته لكي تكون جمهوريته إسلامية كما اقترح ذلك "محمدي سعيد" منذ ثلاثين عامًا؛ لذلك فإنني أرغب في أن يكون "محمدي سعيد" أول من ألقاه في الجزائر هذه المرة...

وفي مساء يوم الاثنين "5/12/1994م" أجابني "حسن" بأنه توجه إلى منزل "محمدي سعيد" فوجد أنه في فرنسا تحت العلاج، وأنه في غرفة الإنعاش هناك ولا يمكن الاتصال به تليفونيًّا، وفي مساء الأربعاء "7/12" أبلغني بأنه قد توفي إلى رحمة الله، فتألمت لأنني لن ألقاه في هذه الدنيا، وعلمت بأن جنازته ستشيع في ظهر اليوم التالي وهو يوم الخميس "8/12/1994م" فعزمت على أن أشارك في هذه "الجنازة" قبل أن أتوجه إلى المطار للعودة إلى المغرب، وكان حضوري في هذه "الجنازة" فرصة التقيت فيها بعدد ممن عرفتهم من قبل...

عندما زرت الشيخين: "عباسي وبلحاج" في مكان إقامتهما الجبرية "بعد لقائي مع الرئيس زروال صباح ذلك اليوم، وكنت عازمًا للعودة للمغرب في نفس اليوم، لكن هذه المقابة جعلتني أؤجل سفري" وقلت لهم إنني سأوجل سفري إلى الغد حتى ألقاهما مرة أخرى، لأنني مضطر إلى الذهاب إلى "جنازة" المرحوم "محمدي سعيد"، قال لي الشيخ "عباسي" أرجو أن تبلغ تعزيتي الشخصية لابنه؛ لأن الفقيد كان أول من أيد الجبهة، بل إنه انضم إليها...

في مقابر "القبة" دُفن "محمدي سعيد" وعندما وصلت إلى هناك وجدت جمعًا غفيرًا من قدماء المجاهدين، وسألت عن ابنه وبلغته تعزية الشيخ "عباسي" ووجدت هناك "الأصدقاء الثلاثة" "للشيخين" الذين التقينا بهم وتحدثت معهم طويلاً كما شرحت ذلك... لم يكن في الوقت متسع لأذكر لمن لقيته من الأصدقاء في تلك الرحلة كل ما دار بيني وبين "محمدي سعيد" من حوار، وكنت أفضل أن يسمعوا منه شخصيًّا ما سمعته منذ ثلاثين عامًا في لقائي معه بعد تلك الجلسة في عام "1962م" ولكن الآن وقد انتقل إلى جوار ربه أجد أنه من حق القراء أن يطلعوا على هذا الحديث...

لقد قصصت عليه كل ما دار بيني وبين "بن بللا ومحمد خيضر" بشأن اقتراحي، وأنهما كانا مقتنعين برأيي أولاً، ولكن في اليوم التالي جاءني بن "بللا" وقال: إن "عباس فرحات" رفض هذا الاقتراح وأنه سيحضر اليوم هو وصديقه "فرنسيس" فيمكنك أن تناقشهما لعلهما يقتنعان برأيك...

قال "محمدي سعيد": إن الموضوع ليس مسألة آراء وأفكار، إن "عباس فرحات" كان زعيم دعاة "الفرنسة" والاندماج في "الاتحاد الفرنسي"، وأسس حزبًا كان هدفه "فرنسة" الجزائر، ومع ذلك فإنه فجأة وفي عام "1956م" بدأ المتفرنسون يتسللون إلى أجهزة الثورة سواء في الداخل أو في الخارج، وكان أولهم "عباس فرحات" الذي ذهب إلى القاهرة التي كانت قد بدأت المعركة ضد "الإخوان المسلمين" في "مصر" وجاءتنا أنباء إعدام قادة "الإخوان" في "الجزائر"، وهللت الصحافة "الفرنسية" طوال عام 1955م...

كان هدف هؤلاء المتسللين استغلال الخصومة بين حزب الحكومة الناصرية والإخوان، ونقل ذلك إلى مسيرة الثورة الجزائرية، وتحريض الحكومة المصرية لتنفيذ خطتهم لإزاحة جميع الإسلاميين من قيادة جبهة التحرير الناشئة، وشجعهم على ذلك أن بعض أجهزة الحكومة المصرية في ذلك الوقت كانت ترحب بكل من كانوا معادين للإخوان وتستعين بهم حتى أصبح مقياس الثقة في أي شخص في نظرهم عدم وجود اتجاه إسلامي في فكره واتجاهاته أو تاريخه؛ لأن كل صاحب فكر إسلامي يفترض فيه أن يكون، أو سيكون في المستقبل نصيرًا للإخوان أو مؤيدًا لهم حتى ولو لم يكن من أعضاء الجماعة...

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن التسلل كان أكبر في صفوف المقاومة في الداخل حتى إنه في أشد مراحل الثورة في أغسطس "1956م" نجح بعض المتسللين في تشجيع بعض العسكريين القياديين في الداخل لتحويل مسيرة الثورة عن الإسلام بحجة الاشتراكية وعقدوا لهذا الغرض اجتماعًا شهيرًا في "وادي الصمام" ضم بعض العسكريين الذين خدعتهم دعايات المتسللين من المتفرنسين واليساريين الذين بدءوا خطتهم لسرقة الثورة التي قامت باسم الإسلام والجهاد الإسلامي

وتحويلها إلى التبعية للاشتراكية الفرنسية والسوفياتية أو الناصرية عند الاقتضاء ومازال المؤرخون الفرنسيون يعطون لهذا الاجتماع في "وادي الصمام" أهمية كبرى ويوهمون الناس بأنه وضع فيه برنامج الثورة؛ لأن أهم ما فيه في نظرهم هو تجاهل الإسلام باعتباره أساس الجهاد ومنبع الثورة وغايتها، وإدخال الشعارات الاشتراكية في برنامجها كبديل عن الإسلام...

لكن قادة الثورة في معظم المناطق لم يعترفوا بهذا المؤتمر ولا قراراته، وعارضوه لأنه لم ينص على أن تكون الجزائر دولة إسلامية عربية، واجتمعوا بعد بضعة أشعر في "15ديسمبر" من نفس العام، وأعلنوا رفضهم لقرارات مؤتمر "وادي الصمام" وذلك لأنها تخالف الاتجاه الأول للثورة الذي كان يؤكد أن الدولة الجزائرية ستكون في إطار الإسلام مما يستلزم أن تكون الجزائر دولة إسلامية عربية... في ذلك الوقت كانت هذه المعلومات التي سمعتها من "محمدي سعيد" جديدة عليّ وقلت له: إنني عندما أعددت اقتراحي لم أكن أعلم أن المسألة بهذا العمق، وأن لها أبعادًا تاريخية...

قال: إن عام "1956م" شهد صراعات دموية استطاع فيها المتسللون اليساريون والمتفرنسون ومن تبعوهم اغتيال عدد كبير من أعظم رجال الثورة من الإسلاميين وقادتها مثل الشهيد "مصطفى أبو العيد" و"يوسف زيروت" ، بل دبرت مؤامرة اختطاف طائرة "بن بللا" ورفاقه كجزء من هذه المؤامرة الاشتراكية...

قلت: ومع ذلك فإن "بن بللا" الآن قد سلم رئاسة المجلس الوطني "لعباس فرحات" الذي نعتبره من المتسللي، قال: إن "بن بللا" فعل ذلك لأن "عباس فرحات" بعد اعتقاله حاز ثقة كثير من قادة الجبهة في "القاهرة" من المحترفين الذين جاهدوا في الفنادق والمناصب العليا في الجبهة حتى إنهم اختاروه ليكون أول رئيس للحكومة الجزائرية في المنفى التي شكلت في "القاهرة" ولم يعترض المصريون على ذلك والذي زكاه لديهم أنه لم يكن له أي علاقة بالإسلاميين...

ولم يتسلل "عباس فرحات" ، وإنما دخل معه كبار أصدقائه أمثال "فرنسيس" الذي استطاع أن يصل إلى حد أن رشحه "عباس فرحات" ليكون رئيسًا لوفد الجبهة في مفاوضات "إفيان" لولا أن كثيرين اعترضوا على ذلك، فجعلوا "كريم بلقاسم" هو الرئيس الرسمي، ولكن بقي "فرنسيس" هو المفاوض الفعلي إلى حد كبير...

لقد تذكرت هذا الحديث عندما بدأ الخلاف بين "بن بللا" و"خيضر" بشأن الأرصدة التي تسلمها باعتباره أمينًا عامًا للمكتب السياسي، وكان أول ما عرفته عن هذا الخلاف عندما كنت "مستشارًا قانونيًا للمكتب السياسي" الذي لم أكن أعرف من أعضائه سوى "بن بللا ومحمد خيضر"، وبدأ "خيضر" يشكو من انحياز "بن بللا" إلى "بومدين" وجماعته وقال لي ذات يوم: إن "بن بللا" طلب منه مبلغًا ضخمًا ليشتري به "بومدين" سيارات للجيش

وسألته: لماذا يرفض ذلك؟ قال لي: إني لا أسلم أرصدة الجبهة لجيش "بومدين" وقال لي إن "بومدين" يعتبر الجيش ملكًا له وحده، ويعده ليسيطر به على "بن بللا" نفسه وعلى الجزائر، وأنه استبعد منه جميع كبار قواد الولايات الذين جاهدوا داخل الجزائر، وسلم رئاسات الجيش لأعوانه الذين بقوا في خارج الجزائر طوال فترة الثورة على الحدود التونسية أو املغربية يجمعون الأسلحة ويخزنونها ليقفزوا بها على السلطة بعد الاستقلال

وزاد على ذلك بأن منح ثقته للضباط الذين كانوا في الجيش الفرنسي وخاضوا معارك "فيتنام" لحساب فرنسا، وهؤلاء تسللوا واحدًا بعد الآخر إلى صفوف المجاهدين في نهاية عهد الثورة بحجة أنهم استقالوا من الجيش الفرنسي، والواقع أن "الفرنسيين" هم الذين نصحوهم بذلك لكي يتمكنوا من السيطرة على الجيش واعتمد عليهم "بومدين" ليكونوا أعوانه ويعتمد عليهم في إنشاء جيش جديد سماه "الجيش الوطني" بدلاً من جيش التحرير الذي حارب فرنسا طوال مدة الثورة، وكان ضباطه من المتطوعين الذين لم يتعلموا في فرنسا، ولم يتدربوا في الجيش الفرنسي، ولم يعملوا لصالح فرنسا...

الآن أتذكر هذه الأحاديث كلها عندما أرى منشورات المقاومة ضد الانقلاب العسكري الأخير الذي أجبر "الشاذلي بن جديد" على الاستقالة، إن هذه المنشورات تصف قادة الجيش الانقلابيين بأنهم "الطغمة العسكرية" التي تتحكم في الجزائر الآن لتنفيذ السياسة الاستعمارية التي أعلنتها فرنسا للقضاء على جبهة التحرير وجبهة الإنقاذ وإبادة الإسلاميين والوطنيين حتى تستمر الجزائر خاضعة لها وتابعة لسياستها...

ويصفونهم بأنهم "الطغمة العسكرية" التي انقلبت على "الشاذلي بن جديد" وتهمته الوحيدة أنه أجرى انتخابات حرة فازت فيها جبهة الإنقاذ... لقد اطلعت أخيرًا على كتاب نشره السفير "فتحي الديب" بعنوان "عبد الناصر وثورة الجزائر" حوى كثيرًا من الوثائق التي تثبت دعم حكومة "مصر" لثورة الجزائر...

لكنني لاحظت أن الفكرة الرئيسية في كتابه أن "عبد الناصر" هو الذي صنع هذه الثورة، أو أنها بدأت بلقائه هو باعتباره رجل المخابرات الناصرية المكلف بالعلاقات العربية، وتعرف على "بن بللا" في "القاهرة" في عام "1954م" ووثق به لمجرد أنه كان يهاجم الأحزاب الوطنية وتجاهل في تسجيله لتاريخ الثورة دور "حزب الشعب" الذي أسسه "مصالي حاج" وقدم ضحايا عديدين في مقاومته للاستعمار الفرنسي

وقضى في سجن الأشغال الشاقة أكثر من عشر سنوات، ثم قضى بقية حياته سجين الإقامة الجبرية في فرنسا حتى مات وهو في ذلك المعتقل، بل كرر اتهامه لجميع من لم يتعاونوا مع المخابرات المصرية بأنهم "مشتبه فيهم" وخص بهذا الوصع جميع الإسلاميين الجزائريين، ووصل الحد إلى إطلاق هذا الوصف على الشيخ "البشير الإبراهيمي" رئيس علماء الجزائر والشيخ "الفضيل" ممثلها في القاهرة لمجرد أنهم كانوا يريدون أن تكون جبهة التحرير شاملة لجميع الوطنيين المخلصين ولا يحتكرها عملاء المخابرات المصرية في ذلك الوقت...

إن "بن بللا" نفسه بعد خروجه من إقامته الجبرية التي فرضها عليه "بومدين" وبعد انقلابه عليه في عام "1965م" كان أول ما فعله هو التوجه إلى قبر "مصالي حاج" ليترحم عليه ويعتذر عما اقترفه في حقه هو وإخوانه الذين سيطروا على جبهة التحرير وكتب مقدمة لمذكرات "مصالي حاج" التي نشرها أحد أعوانه بعد وفاته... معتذرًا عن أخطائه وأخطاء إخوانه في هذا الصدد...

وإنني أتمنى أن يقرأ السيد السفير "فتحي الديب" هذه المقدمة التي كتبها "بن بللا" لعله يعتذر كما اعتذر "بن بللا" عما فعله لتشويه صورة هذا الزعيم الفذ، والتحريض على جميع من تعاونوا معه من المجاهدين، وما قصة "مزغنة والشاذلي" ببعيدة... ولهذا سأفرد مقالاً خاصًا لبعض ما ورد في مقدمة "بن بللا" لعله يطلع عليها هو وغيره ممن ساروا في هذه الخطة بحجة مقاومة "الإخوان المسلمين" ...

الشيخ "سحنون"

عرفت هذا "الشيخ" عندما زرته في منزله وصليت معه في مسجد "أسامة بن زيد" الذي يخطب فيه الجمعة ويؤم المصلين منذ سنوات عديدة، قطعتها فترة اعتقاله في عهد الرئيس "الشاذلي بن جديد" بسبب معارضته للاتجاهات الاستبدادية والدكتاتورية التي تضمنها الدستور الذي أصدره، وكان محل نقد من جانب الإسلاميين عمومًا

وقامت مظاهرات في الجامعة وخارجها، وخطب فيها الشيخ "سحنون" بحماس وقوة يحسده عليها كثير من الشباب رغم أنه أشرف على الثمانين... كنت أحب حديثه الهادئ الذي ينزل على قلب كل مؤمن كما تنزل قطرات الندى على زهور الربيع، وأعجبني فيه شجاعته وعزمه على المضي في طريق العمل الإسلامي رغم ما يواجهه من مخاطر ومصاعب...

عرفت أنه بعد خروجه من المعتقل تجمع حوله عدد من الإسلاميين وطلبوا منه أن ينشئ هيئة تضم جميع الحركات الإسلامية الجزائرية على اختلاف مسارها واتجاهاتها وأن يرأس هذه الهيئة التي أطلقوا عليها اسم "رابطة الحركات الإسلامية" بعد المظاهرات الدامية في عام "1988م" ... عندما وصلنا إلى الفندق في أول يوم من أيام هذه الزيارة قلت لزملائي: إنني أريد أن ألتقي مع الشيخ "سحنون" وأصلي معه في مسجد "أسامة بن زيد" لأنه كان أول من التقيت بهم عندما استأنفت زياراتي للجزائر بعد الانتفاضة الشعبية عام "1988م".

في مساء اليوم ذاته توجهنا جميعًا إلى مسجد "أسامة بن زيد" وجلسنا بعد صلاة المغرب مع الشيخ "سحنون" حتى صلاة العشاء، وكان حديثه شكوى من الإجراءات التي تفرضها السلطة على كل من يتكلم عن الإسلام أو يدعو له، وكان معه اثنان من مريديه أحدهما شاب كان حديثه حماسيًا مقنعًا حتى سيطر هذا الشاب على الحوار بما لديه من حجج قوية يؤيد بها وجهة نظره في نمو المقاومة الشعبية وانتصارها الحتمي على سياسة العنف والقتل والاستئصال التي تنفذها السلطة المغتصبة...

وكان الشيخ مؤيدًا لهذا التفاؤل رغم ما أبداه زملائي من شكوك وخوف من سياسة الحكام في التعاون مع القوى الأجنبية التي تصر على إبادة الاتجاه الإسلامي ولو اقتضى ذلك تخريب البلاد والقضاء على كيانها الاقتصادي والسياسي... لقد كنت مستمعًا، ولكنني طلبت من الشيخ أن يعيد نشاط الرابطة الإسلامية التي يرأسها والتي قال إن سبب توقفها هو أن أعضاءها اتجهوا جميعًا لإنشاء أحزاب سياسية مختلفة ومتفرقة فقلت له: يجب إقناعهم بأن عمل الرابطة في مجال الدعوة والثقافة لا يجوز وقفه بسبب انشغالهم بالسياسة الحزبية...

إنني لابد أن أوضح للقارئ في هذه الماسبة ما أراه بشأن موضوع التسابق لإنشاء أحزاب سياسية إسلامية في الإطار القطري، إن التسابق لإنشاء أحزاب سياسية تمثل التيار الإسلامي في كل قطر من أقطارنا هو رد فعل لاتجاه بعض النظم لعدم الاعتراف بالأحزاب السياسية الإسلامية تنفيذًا للمبدأ الذي ابتدعه عملاء القوى الأجنبية لمقاومة ما يسمونه بالإسلام السياسي، ويدفعون بعض النظم القطرية لتنفيذ هذه الخطة لصالح بعض القوى الأجنبية...

إن تبني بعض الحكام لهذا المبدأ لم يكن في نظرنا إلا خصوعًا لما تمليه قوى أجنبية معادية للإسلام؛ لأنها ترى في نمو الأصالة الإسلامية خطرًا يعوق تنفيذ خططها للسيطرة على العالم الإسلامي، وأول شرط في نظرها لتمكينها من هذا الهدف هو تمزيق وحدة الشعوب الإسلامية والتفرقة بينها حتى تتمكن من إذلال كل شعب على حدة دون أن يتضامن معه أشقاؤه وجيرانه...

إن أول ما يخشاه أعداؤنا من "الإسلام السياسي" هو مبدأ التضامن والوحدة بين شعوبنا باعتبارها مكونة لأمة واحدة تشمل جميع الأقطار الإسلامية، ولذلك فإن الأصل الذي يجب مراعاته هو أن التيار الإسلامي يعمل في نطاق وحدة الأمة بجميع شعوبها، وأن وجود حركات أو هيئات قطرية هو وضع مؤقت وانتقالي... إن الوحدة الإسلامية هي أول خطر يهدد النفوذ والغزو الاستعماري وخاصة الغزو الاستيطاني الذي حاولته "فرنسا" في "الجزائر" ، وحاولته "إيطاليا" في "ليبيا" وتحاوله "الصهيونية" الآن في "فلسطين" وما حولها...

إن مهمة الحركات الإسلامية الأولى هي مقاومة الخطط الأجنبية لمنع التعاون والتضامن والوحدة الإسلامية، ويؤسفني أن بعض الإسلاميين في الجزائر وغيرها من الأقطار يقيسون نجاحهم بما يحققونه من نفوذ على المستوى القطري دون أي مجهود يبذل في مشروع الوحدة الإسلامية، وأخشى أن يكون ذلك نتيجة عدوى تصيبهم مما سبقتهم إليه الحركات الوطنية التي قامت كلها على أساس قطري ولأهداف قطرية أو قومية أو محلية...

إن أهداف الحركة الإسلامية تتجاوز المسائل الوطنية التي تعمل في إطارها الحركات الوطنية والقومية، ولذلك أخشى أن يكون التسابق إلى تشكيل أحزاب سياسية قطرية بداية لتحول التيار الإسلامي إلى الاتجاه القومي والقطري، وتخلي البعض عن مستلزمات القضايا الإسلامية المشتركة وأولها قضية الوحدة والتجديد الإسلامي...

ومن ناحية أخرى فإنني أرى أن هذا التسابق نحو إنشاء أحزاب إسلامية وطنية سببه التسليم بأن الأحزاب القومية أو الوطنية تحتكر الساحة السياسية، وأنها وحدها هي التي تملك حق النشاط في هذه الساحة، وأن غيرها من الهيئات والجماعات والأفراد ليس لهم الحق في اتخاذ مواقف سياسية أو آراء تخرج عن نطاق برامج الأحزاب التي تعترف بها الدولة القطرية، وتضع القوانين للتحكم في برامجها ومسيرتها ونشاطها... إن هذا المبدأ الذي تعلنه بعض الحكومات خاطئ وخطر ولا يجوز لنا كإسلاميين أن نقره، أو أن نعمل في إطاره...

إنني قلت وأكرر إن العمل السياسي حق إنساني وواجب شرعي على كل فرد في المجتمع، ولا يجوز لأية سلطة أن تحرم مواطنًا من إعلان رأيه السياسي والدفاع عنه والعمل من أجله، والإسلاميون في كل بلد مواطنون في بلادهم ولا يقبلون أن يتنازلوا عن حقهم الدستوري الإنساني والشرعي في ممارسة النشاط السياسي أفرادًا أو جماعات

كما لا يجوز لهم أن يقروا سياسة بعض الحكام الفاشلين الذين يزعمون أن الإسلاميين لا حق لهم في العمل السياسي إلا إذا كانوا حزبًا سياسيًّا، والحق أنهم يقاومون الإسلاميين بسبب التأييد الشعبي المتزايد لدعوتهم وإقبال الشباب بصفة خاصة على الالتزام بمناهجهم والمشاركة في نشاطاتهم... لذلك أعتقد أن دور الإسلاميين الرئيسي في المجتمع هو الدفاع عن حقوق الإنسان عامة، وخاصة حقوقهم السياسية كأفراد، ومن باب أولى كهيئة أو جماعة، إنهم يلتزمون بأن يقاوموا الخطة التي تفرضها بعض القوى الأجنبية وتسير عليها بعض النظم الحاكمة وهدف إلى جعل العمل السياسي حكرًا لطائفة محدودة من ذوي المصالح

ومحترفي السياسة الذين يسيطرون على الأحزاب بالمال أو بالدعم الأجنبي، إن بعض الحكام يحاول جعل العمل السياسي حكرًا للأحزاب التي يرضون عنها وحرمان بقية المواطنين من ممارسة حقهم الشرعي في ذلك، إلا إذا قاموا بتشكيل حزب سياسي يحصل على رخصة من الحكومة التي تعطي من تشاء... وتحرم من تشاء.

إن هذه السياسة المفروضة من الخارج يقصد بها جعل العمل السياسي حكرًا لمن ترضى عنهم الحكومات القطرية التي تدعي لنفسها الحق في إعطاء الترخيص للأحزاب المستأنسة التي لا تخرج عن نطاق السياسة القطرية التي ترضى عنها، لكننا نرد عليهم بأن الإسلاميين جميعًا في كل قطر من واجبهم ومن حقهم أن يمارسوا العمل السياسي كأفراد وجماعات دون أن يكونوا حزبًا، وأن يعارضوا المبدأ الاستعماري الذي يقصر النشاط السياسي على الأحزاب المعترف بها من الحكومات القطرية، وبهذا وحده يبطلون الخطط الاستعمارية التي تنفذها بعض الحكومات القطرية تحت شعار مقاومة "الإسلام السياسي".

إنهم يقاومون "الإسلام الساسي" لسبب واضح هو أن القواعد الشعبية تتجاوب معه وتؤيده؛ لأنه تعبير عن أصالتها وهويتها ووحدتها التي تعتز بها وتعتبرها رصيدًا كبيرًا لكفاحها الوطني من أجل حريتها وسيادتها ونهضتها وتقدمها... إن هدف مقاومة "الإسلام السياسي" هو حرمان الشعوب من حريتها في تأييد الشعارات الإسلامية والدفاع عن المبادئ الإسلامية وحقها في منح ثقتها لمن يرفعون هذه الشعارات ويعملون للالتزام بهذه المبادئ، فشعار مقاومة الإسلام السياسي هو في حقيقته شعار لحرمان الشعوب من حقها الديمقراطي في الانتخابات الحرة التي تمكنها من منح ثقتها لمن يؤيدون الشعارات والمبادئ الإسلامية

والشعوب كفيلة بمقاومة هذه الخطط الاستعمارية فواجبنا هو الدفاع عن حق شعوبنا في تقريب مصيرها وممارسة سيادتها وحريتها في اختيار نوابها وحكامها ومحاسبتهم، وهي لن تعطي ثقتها إلا لأصحاب المبادئ والشعارات الإسلامية سواء كانوا يمثلوا أحزابًا أو خارج نطاق الأحزاب...

وعندما عدنا إلى الفندق طلبت من الشيخ "عبد الله جاب الله" أن يشارك في إعداد هذه الرابطة على أن يكون في مجال الدعوة والثقافة، وقلت ذلك للشيخ "محفوظ نحناح" ، وإن لم أجد لديهما حماسًا، وكلاهما كان مشغولاً بالناحية السياسية؛ لأنه يرى أن الفتنة السياسية يجب توجيه جميع الجهود لمقاومتها، وأن العمل لها يستلزم وجود أحزاب إسلامية معترف بها، وأن أحزابهم توجه جهودها لوقف نزيم الدم الذي يهدد المجتمع كله

ووقف سياسة الاستئصال المستمرة التي تزودها القوى الأجنبية كل يوم بأسلحة وخبراء وأموال تكفي في نظرهما لتمكينها من تحقيق أهدافه الشيطانية، وكان كلاهما يدعونا لكي نساعده في إقناع "الشيخين" لتفادي هذه النتائج الخطيرة، وكان هذا هدفهما من دعوتنا لهذه الزيارة كأن الرابطة أو الشيخ "سحنون" ليس لهما دور في هذه المحاولات... وكنت أرى عكس ذلك تمامً؛ لأن جبهة الإنقاذ وقياداتها مهما كان نفوذهم لن يستطيعوا السيطرة الكاملة على العناصر التي تمارس المقاومة أو العنف إلا إذا دعمت هذه الخطة جميع عناصر الفكر الإسلامي والأصولي على المستوى الثقافي والفكري، وهنا يكون نشاط الرابطة مفيدًا وضروريًّا...

إن هذا الشيخ الوقور يمثل جمعية العلماء الجزائريين التي قامت بدور تاريخي في بعث روح الأصالة العربية الإسلامية في هذا الشعب الذي جثم الاستعمار على صدره ما يزيد على مائة وثلاثين عامًا، ومازال يستخدم عملاءه وأعوانه لتنفيذ خططه لاقتلاع التيار الإسلامي من أفريقيا كلها ومن الجزائر بصفة خاصة، ولم ينجح بسبب قوة الفكر والعقيدة التي يحرسها ويغذيها هؤلاء العلماء...

إن حديثه يعطيني شحنة قوية في الأمل في انتصار الاتجاه الإسلامي ونمو التأييد الشعبي لمن يقاومون المؤامرات الأجنبية، سواء كانوا في الجيش أو في الحكومة أو الإعلام أو الفن أو الاقتصاد... إلى آخره. لقد كنت أحس أنه بجانبي في كل لحظة، وأحرص على تأييده لكل ما أقدمت عليه من خطوات، لكنني لم أستطع العودة إلى منزله إلا في يوم سفري عائدًا للمغرب...

كان أول ما فعلته بعد وصولي للجزائر هو زيارة هذا الشيخ، فقد كان آخر ما فعلته وأنا في طريقي من الفندق إلى المطار أن مررت عليه وودعته، ولم أطل الوداع حتى لا أكشف له عن قلقي ومخاوفي، وفي المطار جلسنا طويلاً ننتظر الطائرة التي تأخر موعد إقلاعها ليزيد قلقي، لكن من حسن حظي أنني وجدت في الصالة وزير الثقافة وعرفت أنه ابن صديقي الشاعر "مفدى زكريا" فبادرته بالحديث عن صداقتي مع والده، وسره ذلك وقلت له إنني مازلت أحتفظ ببعض قصائده موقعًا منه عليها، فرجاني أن أبعث له بصورة منها...

بعد هذه الزيارة ببضعة أعوام فوجئت بنبأ محاولة اغتيال الشيخ سحنون وهو يؤم المصلين لصلاة الفجر في مسجد أسامة بن زيد... وبقي تحت العلاج مدة طويلة، وأعتقد أنه للآن لم يعد إلى نشاطه المعادي، وهذا هو ما أراده المعتدون الذي يعتقد كثيرون أنهم عملاء إحدى الجهات الأجنبية التي تريد اقتلاع التيار الإسلامي من الجزائر وغيرها بواسطة دعاة استئصال دعاة الإسلام وفكره وثقافته وصحوته...

الشيخ "محفوظ نحناح"

الشيخ "محفوظ نحناح" عرفته منذ فترة طويلة من خلال زياراته العديدة للمشرق وإن كان لا يستطيع دخول مصر الآن ومنذ فترة طويلة، رغم أنه يمثل تيارًا يعتبره كثيرون لصالح الحكومة الانقلابية التي تؤيدها حكومة مصر الحالية بكل قوة، وهذا مثال آخر يدل على أن السياسة الحالية للحكومة المصرية أكثر تطرفًا في محاولتها لمحاصرة الفكر الإسلامي بصورة أبعد مما وصل إليه الحكم الانقلابي في الجزائر...

رغم صداقتي للشيخ "محفوظ" فإنني لم أخف عليه عدم موافقتي على النهج الذي يسير فيه ويثير عليه خصومة شديدة من جانب قادة الإنقاذ وشبابها بصفة خاصة وكثيرًا ما رجوته أن يبقى الإخوان في الجزائر يعملون في نشر الدعوة، وأن ذلك لا يمنعهم من اتخاذ ما يستلزم من مواقف، حتى ولو اعتبرها البعض عملاً سياسيًّا؛ لأن الإسلام لا يقر لأي جهة أن تحتكر العمل السياسي سواء كانت هذه الجهة هي الحكومة أو الأحزاب التي تسمح بإنشائها وتروضها وتدعمها أو تستبعدها كما تشاء، وسواء كان ذلك لصالحها أو لصالح قوى أجنبية تمارس ضغوطًا وتهديدات عليها...

رغم ما أبديته من اعتراضات فإنه سار في خطة إنشاء حزب سياسي برئاسته، وأطلق عليه اسم "حماس" وقال إن هذا اختصار لتسمية "حركة المجتمع الإسلامي" في حين أن تسمية "حماس" الفلسطينية اختصار لتسمية "حركة المقاومة الإسلامية" وهناك فرق كبير بين هذين الاسمين والمنهجين لكن كثيرين لا يلاحظون ذلك...

لقد أعلن عن إنشاء هذا الحزب في اجتماع عام عقد بإحدى القاعات بالعاصمة الجزائرية، ورغم أنني كنت في الجزائر في ذلك الوقت، إلا أنني لم أحضر هذا الاجتماع لأنني لم أوافق على هذا الاتجاه؛ لأن كثيرين من مؤيدي جبهة الإنقاذ يعتقدون أنه سيكون وسيلة لإحداث شق في صفوف الإسلاميين... بعد إنشاء هذا الحزب نتج ما توقعته من زيادة الخصام والصدام بين أنصار الإنقاذ والجماعات الإسلامية المعارضة للحكومة وبين أنصار الشيخ "محفوظ" ، ومازال كثيرون يلاحظون ازدياد هذه المصادمات بين الطرفين حتى الآن، وخاصة أن الجماعات الإسلامية التي تعارض الحكومة الانقلابية تستفزها تصريحات الشيخ "محفوظ"

وتعتبر أنها تردد وجهة نظر الحكومة أو تؤيدها وكان هو يعللها بأن أنصار هذه الجماعات يعتدون على جماعته، بل يصرح بأنهم يهددونه ويطاردون أنصاره، حتى أنهم قتلوا سائق سيارته بل إنه يتهمهم باغتيال المرحوم "محمد سليماني" الذي كنت أعرفه معرفة وثيقة وأعتز بصداقته وأعتقد أنه كان في غاية الاعتدال ومحل تقدير الجميع وثقتهم ولذلك لا أستطيع أن أعرف الهدف من اغتياله...

زرت "الجزائر" عدة مرات بعد ذلك، لكنني لم ألتقي بالشيخ "محفوظ نحناح" لوجوده في الخارج، ولكنني كنت أسعد بمقابلة المرحوم الشيخ "محمد السليماني" والحديث معه، وكان يدعوني لزيارة شعب الجمعية التي كان يمثلها والتي بقيت معترفًا بها كجمعية غير سياسية منفصلة عن الحزب... وقد رأيت بنفسي درجة العداء التي يبديها شباب الجزائر من أنصار المقاومة للحكم الذاتي الإنقلابي في الجزائر في كل مناسبة للشيخ "محفوظ" ومن يمثلونه في الاجتماعات الطلابية والشبابية في أوروبا، وفكرت كثيرًا فيما يجب عمله لتفادي هذا الشقاق...

كان الشيخ "محفوط" أول من طلب مني الذهاب للجزائر للمشاركة في مساعي التهدئة والوساطة بين السلطة والمعارضة على النحو الذي شرحته فيما سبق، وعندما ذهبت إلى الجزائر لهذا الغرض أخيرًا في شهر ديسمبر "1994م" اتصلت به وحضر لي مرتين في الفندق وفي المرة الأولى كان معي صديقي الدكتور "محمد عمر زبير" الذي بادر الشيخ محفوظ بنقد موقفه ورجاه ألا يثير الشباب المعارضين للحكومة بتصريحاته

وفي المرة الثانية كنت وحدي وكررت مثل هذا الرجاء ووعدني بالاستجابة وطلبت منه أن يبلغ صديقي الأستاذ "محمد يزيد" الذي أعرف علاقته به رغبتي في لقائه، وقد حضر لي فعلاً، وأبلغني أن الشيخ "محفوظ" ذهب إلى ليبيا بدعوة من "القذافي" ودهشت لذلك لأنني أعرف أن القذافي ينتهز كل مناسبة للتعريض بالإخوان ومهاجمتهم كما يهاجم كل من لا يكونون معه وخاصة جبهة الإنقاذ الجزائرية، وقد رجوت صديقي الأستاذ "محمد يزيد" أن يؤيدني في مطالبتي للشيخ "محفوظ" بأن يتفادى كل ما يثير الجماعات الإسلامية المعارضة، ووعدني بذلك أيضًا...

قبل سفري حضر إلي أحد أصدقاء الشيخ "محفوظ" وأخبرني باغتيال أحد إخوانه المخلصين الذي كان أستاذًا في جامعة "تيزي أوزو" وهي مركز دعوة الانفصاليين العنصريين، وأنه لذلك يعتقد أنهم هم الذين دبروا اغتياله، قلت له: ألا تعتقد أنهم هم المسئولون عن اغتيال الشيخ "سليماني" فأكد أن هذا الاحتمال راجح لدى كثيرين

وقلت له: أرجو أن تبلغ ذلك الشيخ "محفوظ" وتذكره بأن أعداء الإسلام يكرهون الإخوان ويعملون للقضاء عليهم كما يفعلون بالنسبة للإنقاذ أو الجماعات الإسلامية... وسيستمرون في ذلك مهما أعلن هو معارضته لهذه الجماعات؛ لأن العداء للإخوان سياسة عالمية قديمة لم تتغير للآن لأنهم يعتبرون دعوة الإخوان هي التي أضاءت الطريق لجميع هذه الحركات...

قلت له: إن الإنجليز هم الذين بدءوا تنفيذ هذه الخطة منذ نشأة الإخوان حتى إنهم اعترضوا على ترشيح الشهيد الشيخ "حسن البنا" للبرلمان في دائرة الإسماعيلية مع أن هذا الترشيح معناه اتجاه الإخوان للعمل السياسي السلمي، ولكنهم هددوا "النحاس باشا" إذا لم يمنعه من دخول البرلمان فهم لا يطيقون أن يدخل واحد فقط من الإخوان في البرلمان من بين أربعمائة نائب

ولكن "النحاس" كان رجلاً نزيهًا فلم ينسب ذلك العداء لنفسه، ولم يلجأ لتزوير الانتخابات، ولم يصدر أمرًا بحل جماعة الإخوان وإنما استدعى المرحوم "حسن البنا" وعرفه بما يريده الإنجليز، وأقنعه بأن ينازل باختياره عن ترشيح نفسه، وفعل الشيخ "حسن البنا" ذلك إرضاءً للنحاس، ومنعًا لإحراجه أمام السلطة الاستعمارية...

إن الذين حلوا الإخوان مرة أولى وثانية وثالثة، والذين يصرون على وصفها بأنها جماعة منحلة إنما فعلوا ذلك، ومازالوا يفعلونه تنفيذًا لخطط استعمارية وإرضاءً لقوى أجنبية من بينها إسرائيل التي لا تطيق أن يمارس الإخوان كجماعة أو أفراد حقوقهم السياسية لأنهم يؤيدون الانتفاضة الفلسطينية ويدعمون المقاومة الشعبية للاحتلال الإسرائيلي، ومما يؤسف له أنه مازال هناك حكام ليسوا في نزاهة "النحاس" ولا شجاعته

ويحاربون الإخوان أفرادًا أو جماعة لصالح دول أجنبية أو لصالح إسرائيل وتنفيذًا لرغبتها وتحقيقًا لمطالبها فيصدرون أوامر عسكرية أو قوانين أو أحكامًا لحرمان جماعة الإخوان من أن تكون حزبًا سياسيًّا حتى لا يكون لها حق اتخاذ مواقف سياسية، وغرضهم في ذلك حرمان أفرادها من حقهم الإنساني والشرعي والطبيعي في اتخاذ مواقف سياسية أو ممارسة حرياتهم وحقوقهم السياسية

ومقاومتنا لهذه السياسة الخاطئة لا تكون بطلب ترخيص بإنشاء حزب سياسي نعرف أنه لن يعطي لنا إلا إذا قدمنا الضمانات لمن يعطونه بالسير في خطتهمخ والتزامنا بأن ندعم سياستهم، بل واجبنا أن نمارس حقنا الشرعي والدستوري في إعلان مواقفنا وآرائنا كأفراد وجماعات لا تتخذ صبغة حزب سياسي؛ لأن حرمان الإخوان من اتخاذ مواقف سياسية أو العمل أفرادًا أو جماعات في الميدان السياسي ليس إلا وسيلة ملتوية لإخفاء خضوع هذه النظم لمطالب بعض الدول الكبرى وإسرائيل أيضًا...

إن هذه القوانين أو الأوامر التي تحرمنا من حق العمل السياسي باطلة ومخالفة للدستور وجميع المبادئ الإنسانية والأصول الشرعية، وهم يعلمون بذلك، ولكنها في نظرهم مجرد وسيلة شكلية لتحويل الأنظار عن تواطئهم مع العدو الأجنبي وخضوعهم لسياسة الدول الأجنبية المعادية للإسلام... أكثر من ذلك لقد ابتدع بعضهم مبدأ ظالمًا وباغيًا إذ أعطوا لهذه القرارات الباطلة قداسة أبدية تحرم القضاء من البحث في شرعيتها، الأمر الذي جعل إحدى المحاكم تلتزم بذلك في قضية المطالبة بإلغاء قرار حل الإخوان في مصر، بعد أن بقيت منظورة أمام القضاء أكثر من خمسة عشر عامًا...

كل ذلك لإيهام الناس بأن إصرارهم على وصف الإخوان بأنها جماعة محظورة أو منحلة إنما هو سياسة داخلية، في حين أنها في حقيقتها ليست إلا سياسة استعمارية أو إسرائيلية فرضتها عليهم تلك القوى الأجنبية ولن تسمح لهم بغيرها، ومن يفعل ذلك أو يسمح بإنشاء حزب إسلامي يكون مصيره مثل "الشاذلي بن جديد" الذي انقلبت عليه الطغمة العسكرية وأبعدته لأنه تجاوز الخط الأحمر الاستعماري الذي التزم به غيره من الحكام بل وبعض الملوك والأمراء أيضًا...

بعدما عدت للقاهرة، وبعد زيارة الشيخ "محفوظ" إلى ليبيا بأيام معدودة كان أول ما سمعته من الأنباء هو تصريح للقذافي يهاجم جبهة الإنقاذ الجزائرية... فلا حول ولا قوة إلا بالله...

الشيخ "عبد الله جاب الله"

لقد أشرت مرارًا إلى نشاط هذا الشيخ الشاب الذي أنشأ جماعة مستقلة منذ انتفاضة عام "1988م" ثم حولها إلى حزب يحمل اسم "النهضة" ولقد لقيته لأول مرة في الجزائر في عام 1989م وقد دعته الإذاعة الجزائرية إلى حوار كما فعلت مع جميع رؤساء الأحزاب في عهد الرئيس "الشاذلي بن جديد" الذي كان مازال يواصل سياسته في محاولة احتواء التيار الإسلامي وترويض زعمائه وقادته الأمر الذي ضايق جهات أجنبية ودفع عملاءها للانقلاب عليه وإبعاده وإقامة نظام انقلابي عسكري أدت سياسته إلى الفتنة التي خسرت فيها الجزائر آلافًا من أبنائها وشبابها...

بعد أن تعارفت معه قلت له ما قلته للشيخ "محفوظ" من قبل، إن لي رجاءً واحدً ذلك أنهم في حوارهم معك في التلفزيون سوف يحاولون أن يدفعوك دفعًا لإثارة جبهة الإنقاذ ومهاجمتها، وليس ذلك في مصلحتك ولا مصلحة الإسلام عامة، فوعدني بذلك والتزم به ومازال يلتزم به حتى الآن، ولذلك شجعت صديقنا الدكتور "زبير" على الاستجابة لدعوته لبدء جهود المصالحة والتقريب بين الحكومة والمعارضين لها، وشاركت في هذه المحاولات على النحو الذي أوضحته تفصيلاً فيما سبق...

إن الشيخ "جاب الله" يكتب أكثر مما يتكلم، وهو يتفضل بتزويدي في كل مرة ألقاه بها بمجموعة من مجلة "النهضة" ومنشورات حزبه وقراراته، وكلها بالطبع من إعداده وصياغته، وكثيرون يحسدونه على هدوئه ومثابرته وثباته، وتقدير الجميع له... ومازال "الشيخ جاب الله" يحظى بثقة الجميع، ويقيم علاقات متوازنة مع جميع الأحزاب والهيئات، بل ومع الحكومة التي استجابت إلى حد معين لمساعيه في التهدئة والمصالحة التي شاركنا فيها ولم تشترط السلطة لذلك إلا أن تكون الاتصالات شخصية وغير علنية حتى يمكن أن تؤدي فعلاً إلى نتيجتها، وهذا ما نرجوه وما عملنا له، وقد بذلنا جهدنا والأمر بعد ذلك لله –عز وجل- وحده، وهو ولي التوفيق...

وإذا ذكرت الشيخ "عبد الله" فإني أذكر دائمًا أعوانه الذين كانوا يرافقونني طوال هذه الرحلة وكانت مساعدتهم لي وعنايتهم بي أكبر مشجع لي في هذه المغامرة التي كانت محفوفة بمخاطر كثيرة أشكر الله –عز وجل- على أنه مكنني من ختام مهمتي بصورة أكبر كثيرًا مما كنت أرجوه أو أتوقعه، وأشكر هؤلاء الأعوان لما قاموا به، وفي مقدمتهم الرفيق الساهر الدائب الأخ "حسن العريبي" وهو من ولاية "سوق أهراس" المعروفة بكفاحها الطويل المجيد أثناء الثورة، وزميله "علي بن قوبة" أبو الحسنين من أبناء العاصمة "الجزائر".

وأتمنى أن يأتي اليوم الذي ألقاهما فيه سواء في الجزائر أو غيرها، وهي في حال أفضل مما كانت فيه خلال هذه الرحلة وأحسن مما كانت فيه يوم ودعاني في مطار العاصمة عائدًا إلى المغرب...

خاتمة

مرحلة الاستعمار الجديد إمبريالية "الأوتاد" و"الدواب"

آباؤنا وأجدادنا العرب كانوا يتباهون بشعور العزة الذي يدفعهم لمقاومة أي لون من ألوان الإذلال أو الإهانة أو الضيم، حتى كان الخطيب عندما يريد إشعال حماسهم يخاطبهم قائلاً "أباة الضيم" ويتبرءون ممن لا يقاومون الضيم،

وحتى قال شاعرهم هذا البيت المشهور:

لا يقيم على ضيم يراد به

إلا الأذلان عير الحي والوتد

ونحمد الله –عز وجل - أن شعوبنا ما زالت تكره الضيم، وتأبى الاستسلام للمذلة والهوان رغم تكاثر الأعداء وتحالفهم وازدياد قوتهم وبغيرهم يومًا بعد يوم. ومع ذلك فإني في بلادنا طوائف شذت عن هذه القاعدة، واستسلمت للأعداء وقبلت الضيم؛ لذلك فإن سياسة الأعداء اتجهت إلى استخدام هذه الطوائف الذليلة المستسلمة التي مكنتها من فرض نظم أو حكام يسيرون في طريق منع شعوبهم من المقاومة لبغي المعتدين

ونرى أفرادها يبتعدون عن مشاعر الجماهير، وعندما استولوا على السلطة جعلوها عديدة من القوى الأجنبية وأعوانها، إنهم يقبلون الولاء لأعدائنا مها فرضوا عليهم من مظاهر الإذلال والهوان والضيم، الذي يترفع عنه الأصلاء أباة الضيم الذين يقاومون البغي مهما كلفهم ذلك من تضحيات وأعباء، ويطلبون الشهادة في سبيل المقاومة العنيدة.

لقد شهدت شعوبنا خلال عصورها أصنافًا عديدة من الطغيان والاستبداد والفساد وكانت تعتبرها كلها عيوبًا في بعض طوائف المجتمع أو فصائله أو عناصره التي بقيت لديها رواسب الجاهلية الفرعونية، أو الكسروية، أو الرومية، أو العنصرية السابقة على الإسلام القائمة على استعباد الطغاة للشعوب والأفراد

وهي العبودية الجاهلية التي جاء الإسلام ليحرر شعوبنا منها وعبر عن ذلك "رسول" رسول المسلمين –صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى حين قال له: (بأننا جئنا لنخرج الناس من عبادة البشر "الطغاة أمثال كسرى وقيصر وغيرهما من الطغاة المستبدين" إلى عبادة الله الواحد القهار)، وما زال الطريق طويلاً لاقتلاع هذه الرواسب وتطهير مجتمعنا منها...

وقد شهدت كثير من أقطارنا عدوان "الاستعمار القديم" في صورة الاحتلال أما الآن فإننا نواجه نوعًا جديدًا من الاستعمار هو "إمبريالية الأوتاد والدواب" ... وإذا كان الاستعمار القديم هو احتلال العدو للبلاد، وفرض سيطرته المباشرة على شعوبها فإن هذا الاستعمار الجديد يفرض سيطرته بطريق غير مباشر يستخدم فيها وسطاء من أهل البلاد يقبلون "الضيم" الذي قال شاعرنا إنه لا يرضى به إلا "العير والأوتاد"...

هذا الاستعمار الجديد يفرض نوعًا من الطغيان لم تره شعوبنا طوال عصور تاريخها لأنه طغيان لحساب القوى الأجنبية التي تستخدم بعض العناصر أو الطوائف لتحقيق أغراضها وتستفيد مما يوجد في مجتمعنا من ثغرات أو عيوب موروثة أو مستحدثة. إننا نعيش بحق في عصر "إمبريالية الاستعمار الجديد" الذي ينفذ سياسته العدوانية على أوطاننا وشعوبنا بأعوان وعملاء استسلموا له، وفلسفوا هذا الاستسلام حتى أصبح سلوكهم خيانة في نظر "أباة الضيم" الذين يعتبرون الطوائف المتحالفة مع القوى الأجنبية بمثابة الأوتاد والدواب التي تستخدمها الإمبريالية لتحقيق أهدافها ومطامعها...

لذلك كان لابد أن نستعين بأقوال شعرائنا لتنبيه القراء إلى ما نواجهه الآن، مما لم يواجهه من قبل أي جيل من أجيالنا، فعلينا أن نستبط وسائل جديدة لمواجهته، ولا يكفي استخدام أساليب المقاومة التقليدية، بل لابد من أساليب مبتكرة، علينا أن نبحث عنها.

إننا نسمع صباح كل يوم بعض السلطات تسجل على نفسها أعداد من قتلتهم من أبناء وطنها كأن هذه هي مهمتها التي وجدت من أجلها. في الوقت نفسه نجد الطوائف التي تقبل (الضيم) وتستريح له، تنعم بما يوفره لها العدو الأجنبي من (معونات ومساعدات) مالية وعينية، مع ثناء متواصل من وسائل الإعلام الأجنبية، مقابل استسلامهم "للإذلال والضيم". إن شاعرنا العربي وصف الذين يقبلون المهانة تلو المهانة، ويرضون بما يفرض عليهم من "ضيم وإذلال" بأنهم نوعان:

إما أوتاد أو دواب تقيد في الأوتاد، وهذا ينطبق الآن على أعوان القوى الأجنبية في بلادنا وهم فريقان:

والصنف الأول هم المستكبرون الذين يعملون لحساب القوى الأجنبية ويقبلون منهم الإذلال رغم أنهم يعاملونهم بالضرب على رؤوسهم، وكلما زادوهم ضربًا... زادوا لهم طاعة وخضوعًا، كأنه يسعدهم ويتباهون بأنهم بفضل هذا الإذلال والضرب على رؤوسهم يزدادون ثباتًا في مواقعهم ومناصبهم، وخاصة تلك التي اغتصبوها بدون حق، وهم في ذلك يشبهون "الأوتاد" التي يغرسها البدوي بالضرب على رأسها بالمطرقة التي نسميها في بلادنا "المدقة" ، وكلما زاد على رأسها بالضرب ز ادت نزولاً في طين الأرض وثباتًا وتشبثًا بها.

إن بعض كبار مغتصبي السلطة في بلادنا نراهم من حين لآخر يقبلون كل شيء يفرضه عليهم أعداؤنا، ليدعموا نظامهم، حتى يبقوا في السلطة أطول فترة ممكنة، بل إنهم كلما زاد العدو في إذلالهم، والضرب على رؤوسهم مرة بعد مرة.. زادوا هم تشبثًا بالسلطة ومقاعدها ومظاهرها، وزادوا ذلة وانغماسًا في أرض الهوان وطين الطاعة والاستسلام وهذا هو ما يريده العدو، ويستفيد منه؛

لأنه يتخذهم أوتادًا لتثبيت مظلة نفوذه وسلطانه حتى ولو كانت هذه المظلة هي القنبلة النووية الإسرائيلية التي تهدد مصير شعوبنا وأمتنا وحياتنا ومستقبلنا، ومع ذلك يستسلم بعض الحكام لما يريده العدو الذي يحمي التفوق العسكري لأعدائنا ويستخدم بعض الحكام في بلادنا أوتادًا لتثبيت مظلة الهيمنة الأجنبية والسيطرة الإسرائيلية وما يتبعها من القهر والإذلال على العالم العربي كله، وهم يقبلون ذلك ويستسلمون له؛ لأنهم ليسوا من "أباة الضيم" !!!

أما النوع الثاني من الأذلاء: فقد وصفهم الشاعر بأنهم "العير" وقد استطاع الأعداء بفضل ما لهم ونفوذهم وإعلامهم أن يحيطوا هذه الأوتاد بجوقة من المثقفين يفلسفون لهم الاستسلام والذلة بحجة أنه لم يعد هناك مجال للمقاومة أو التحدي وينصحونهم بالانبطاح تحت أقدام هذا العدو مهما تمادى في بغيه وعدوانه.

هذه الجوقة من الفلاسفة والمنظرين هي من النوع الثاني من الأذلاء الذين أشار لهم شاعرنا القديم، ووصفهم بأنهم عير الحي، أي دواب الركوب والنقل يضاف لهم طوائف أخرى "من الدواب" يستخدمها أعوان القوى الأجنبية لتحمل أوزارهم وجواسيسهم ومبعوثيهم الذين يفدون إلى مجتمعاتنا في أزياء السياح أو أصحاب الثروة والمال، زاعمين أنهم مستثمرون وهم ليسوا إلا مستغلين طامعين في ثرواتنا، ويساعدهم في ذلك عملاء النفوذ السياسي والإعلامي، أو مديرو مراكز الاستخبارات والجاسوسية، أو غيرهم ممن يعملون تحت ستار مؤسسات البحث العلمي التي تسهل مهمة الجاسوسية والتآمر الأجنبي وتدبير الأعمال الإرهابية وتزويد مرتكبيها بالمال والسلاح ليواصلوا تخريب المجتمع وتمزيق الصف...

هذه الطوائف من عملاء الدرجة الثانية هي "الدواب" التي توضع في عنقها الأغلال التي تربطها بالأوتاد الثابتة في الطين، وهؤلاء هم العير أو الدواب التي تسلط عليها العصا التي تسيرها ذليلة عندما تبتعد عن أوتادها؛ لذلك يصفها الشاعر بأنها "عير الحي"، وفي لغتنا يقولون إن "العير" في الأصل هي "قوافل الحمير"، ثم اتسع معناها لتطلق على جميع الدواب

والآن نراها تمثل طوائف من البشر الذين يحملون الأثقال والأوزار لصالح الطاغية المستبد والأجنبي المسيطر، مقابل ما يقدم لهم من أسباب المعيشة والطعام بل والشراب والمال المحرم الذي يزودهم به السيد الذي يضربهم بالعصا أو يقيدهم في الأوتاد وهم يقبلون هذا الضيم بحكم طبيعتهم المستسلمة الذليلة التي تفرض عليهم العجز، والاعتماد على المساعدات والقروض الأجنبية حتى لا تكون لهم إرادة تمكنهم من الاعتماد على أنفسهم في معاشهم وحياتهم

حتى عبر عن ذلك شاعرنا البدوي بقوله:

كالعير في البيداء يقتلها الظما

والماء فوق ظهورها محمول

هؤلاء العملاء الأذلاء تستغلهم القوى الأجنبية وتركبهم، وهم في نظرها (عير) يعملون لحسابها، إنهم صنف آخر من الأذلاء الذين يقبلون الضيم والإذلال، ويعاملهم السادة الأجانب والمسيطرون كما يعامل البدوي دابته، فهو يطمعها ويسمنها، لكنه في الوقت ذاته يقيدها في الأوتاد بأغلال الذلة والمهانة، بل يضربها من حين لآخر ولا يترك العصا من يده.

إن الشاعر العربي وصفهم بأنهم من "الدواب" أو "الحمير" التي تضرب لتطيع، وتقيد في أوتاد الذلة والمهانة، أو تطعم وتسمن، وكلما زاد العدو ضربًا زادوا ذلة وطاعة وسارعوا إلى تنفيذ خططه وحمل أفراده ومؤامراته ودسائسه، وفتنه ومصالحه المالية والسياسية بل يزودونه بالمعلومات والدراسات التي تمكنه من معرفة كل ما يدور في مجتمعنا من تيارات.

إن الأغلال لا تفارق أعناق هؤلاء مهما قدموا من فروض الطاعة والولاء لسادتهم الطغاة ومن يستخدمهم من القوى الأجنبية والإمبريالية العالمية، إنها أغلال من المنافع والمصالح والأهواء والمطامع التي يوفرها لهم السادة الأجانب، أو يلوحون لهم بها ليستدرجهم بعيدًا عن شعوبهم التي تأبى الضيم، وتريد العزة وا لسيادة والحرية بل يصل بعضهم إلى المجابهة والعداء للقوى الحية التي تدافع عن حرية الشعوب واستقلالها وحقوقها وقيمها وأصالتها ومستقبلها. إنني أعتقد الآن أن شعوبنا توجد فيها هذه الطوائف العميلة التي استطاعت القوى الأجنبية أن تستغلها وتمكنها من السيطرة على بعض حكوماتنا ومؤسساتنا، وخاصة ما يتعلق منها بالإعلام والثقافة بل والتعليم.

ونحن على أبواب مرحلة جديدة آمل أن يدرك الجميع ضخامة الأخطار التي تواجهنا، وهي مرحلة الاتجاه السافر المعلن من أعدائنا للسيطرة على العالم العربي والإسلامي وهو هدف ينادي به بعض ساسة أوروبا وأمريكا الموالين للصهيونية، فلا يكتفون بفرض القوة النووية الإسرائيلية علينا، بل وصل الأمر بمن يمثل حلف الأطلنطي للدعوة لنصب صواريخ على الشاطئ الشمالي للبحر المتوسط توجه إلى مدن وأقطار الشاطئ الجنوبي لهذا البحر أي إلى العالم العربي والإسلامي "كله" إذا أعلن إسلامه أو حكمه الإسلاميون أو من يرفضون الخضوع لهم أيًّا كان اتجاههم!!

من المؤلم أن الطامعين في السيطرة علينا يدعون حكام دول معينة وهم من أبنائها للتحاف معهم في هذا الاستعداد العسكري بحجة مقاومة الأصالة، والأصوليين، وإذا كانوا يدعون أنهم يقصدون التيار الإسلامي، فإنما يقصدونه لأنه في نظرهم أول المدافعين عن حرية الشعوب وأصالتها واستقلالها وهويتها، وهم يستهدفون قطعًا كل من يقاومون الضيم وهم أغلبية شعوبنا، حتى ولو كانوا من دعاة الثورية الاشتراكية أو الأحداث العصرية.

إن كل ما قدمته يوجب "علي" ...

أن أبين: لمن يسارعون للاستسلام ومقاومة الأصالة أنهم خدعوا وغرر بهم واستدرجوا لتنفيذ هدف استعماري هو اقتلاع المقاومة الوطنية الأصيلة بجميع فصائلها واتجاهاتها سواء كانت إسلامية أو غير ذلك، وما يجري في فلسطين الآن يؤكد أن الأصالة الإسلامية هي المعين الذي لا ينضب لكل من يريدون الدفاع عن مصيرهم ووطنهم وكرامتهم مهما تكون اتجاهاتهم أو شعاراتهم.

الفهرس

إهداء

تقديم

  1. الحركات الوطنية في شمال أفريقيا
  2. البداية كانت فلسطين
  3. قسنطينة وسطيف وطلائع المجد الطريف
  4. الفضيل الورتلاني "الجزائري"
  5. عبد الرحمن عزام من الجامعة العربية إلى التضامن الإسلامي
  6. أمة المستقبل
  7. فارس القضية العربية "العرب أمة المستقبل رائعة عزامية"
  8. مفتي فلسطين الحاج "أمين الحسيني"
  9. مؤمنون ومسلمون - "والوحدة الإسلامية والخلافة الجديدة للسنهوري"
  10. جمعية أصدقاء فلسطين العربية
  11. دكتور "أبو السعود" وإبعاده من فرنسا - "مشروع قانون لمكافحة الصهيونية في مصر"
  12. صورة شهيد جزائري
  13. أمير البيان "شكيب أرسلان" - "مفجر الحركة الوطنية المغربية لمقاومة السياسة الفرنسية"
  14. الحركة الإسلامية في ميادين الكفاح الوطني
  15. "المنصف باي" ... زيارة إلى "بو" و"لورد" 1946م
  16. جامعة القرويين في "فاس" - "مبعث الكفاح الإسلامي ضد الاستعمار التنصيري"
  17. المغرب الأقصى بين "محمد الخامس" "وعبد الكريم الخطابي"
  18. ثورة اليمن الأولى "1948م"
  19. الفتنة "1950 : 1952م"
  20. تونس ثغرة في الحائط العربي الإسلامي
  21. زيارة تونس تحت الحماية
  22. في الجنوب التونسي "الإسلام يوحد البربر مع العرب"
  23. الحج في أسبانيا والدكتور "حافظ إبراهيم" "1949م"
  24. زيارة "الأندلس" "1949م"
  25. عظمة الحضارة العربية
  26. "علال الفاسي" "وطنجة" المدينة الدولية "1949م"
  27. "تطوان" والمغرب الشمالي
  28. شكوى "المغرب" أمام هيئة الأمم "ديسمبر 1951م"
  29. الدكتور "محمد صلاح الدين" والدكتور "طه حسين"
  30. المفاوضات بين "فرنسا" وحزب "بورقيبه"
  31. استقلال في "ليبيا" ليمنع وحدتها "1951م"
  32. التجزئة القطرية طريق التبعية الحتمية
  33. الحركة الإسلامية والاستقلال الوطني
  34. بين الحكم "الوطني" العصري والتيار الإسلامي
  35. مهادنة المستعمر ومعاداة الحركة الإسلامية
  36. مهمة جزائرية في فرنسا في صيف عام "1954م"
  37. زيارة "لبورقيبه" "1954م"
  38. جزائريون في "السجن الحربي"
  39. الأساليب الثورية
  40. سياسة اقتلاع الأصول وزرع الفتن والفساد
  41. "معيزة" و"مصالي حاج" وحزب الشعب الجزائري
  42. ابن الشعب العربي المسلم... زعيم حزب الشعب الجزائري
  43. المؤامرة التخريبية
  44. الإسلام والجهاد والدولة الإسلامية
  45. التنسيق والتعاون - "مع القوى الأجنبية لمحاصرة الصحوة الإسلامية"
  46. حلقة مفقودة طولها ستة أشهر
  47. "الموضة" العسكرية الثورية
  48. العدوان الثلاثي
  49. الابتزاز الرباعي
  50. الهدف المشترك... مقاومة التيار الإسلامي
  51. الإسلاميون والوطنيون في ساحات العمل الفدائي والإنساني
  52. الفصل بين العروبة والإسلام تمهيدًا للتحول الاشتراكي
  53. الوطنيون المغاربة "1958م"
  54. الإسلام والاشتراكية في المغرب الأقصى "1959م"
  55. ظاهرة الانفصال الثقافي
  56. أصدقائي في المغرب الأقصى "1960م"
  57. مدريد والرباط ومولاي إدريس "1959م"
  58. قاموس استعماري "1961م"
  59. الأصالة والهوية "1959م"
  60. دور القوى الأجنبية في الشقاق الحزبي "1960م"
  61. تونس في مولد الزعيم المناستيرلي
  62. تونس... زيارة ثالثة "1966م" - للدفاع عن "سيد قطب" وإخوانه
  63. دفاع عن الاتجاه الإسلامي في تونس
  64. بين المغرب والجزائر "1962... 1963م"
  65. الاشتراكية في طريق الجزائر 1963م
  66. الصهيونية استغلت التطرف القومي والاشتراكي لوقف التيار الإسلامي
  67. زفة إعلامية ومؤامرة فرنسية 1962م
  68. جاءوا من الغرب
  69. الزعامة التلمسانية 1962م
  70. رحلة خطيرة 1962م
  71. فيلا جولي
  72. يا محمد مبروك عليك.. هي الجزائر عادت إليك
  73. إعلان الاستقلال
  74. غنائم الثورة وجراثيم الفساد وجمعية القيم الإسلامية
  75. الحرية والجنسية
  76. رمضان وحافظ إبراهيم
  77. رياح من الشرق
  78. بين بن بللا.. ومحمد خيضر
  79. خيضر وحركة فتح
  80. المغرب إلى أين
  81. من المحيط إلى الخليج
  82. إعدام سيد قطب
  83. أخي الأستاذ عمر التلمساني وأصدقائي الثلاثة
  84. عودة للمغرب
  85. الجنرال أوفقير
  86. زواج بن بللا
  87. المثالية والواقعية
  88. قسنطينة الغالية ومستقبل القارة الإفريقية 1974م
  89. المخاض
  90. ضرورة التنسيق 1990م
  91. سيادة الشريعة الإسلامية قضية المستقبل
  92. ندوة قضايا المستقبل ودعوة لوقف تيار النظم الشمولية
  93. مشروع اتحاد الكتاب
  94. سطيف الحرة الأبية
  95. ندوة الاقتصاد الإسلامي
  96. الرابطة وجمعية الإرشاد
  97. أسس التنسيق في المرحلة الحالية
  98. مظاهرات 1989م
  99. وداع
  100. الجهاد
  101. الوساطة
  102. الزيارة الأولى للشيخين
  103. الثلاثة المفرج عنهم
  104. زيارة ثانية وثالثة للشيخين
  105. زيارة رابعة وخامسة للشيخين
  106. الرئيس زروال
  107. عبد الحميد المهري وجبهة التحرير الوطني
  108. محمدي سعيد وجمهورية الجزائر الإسلامية
  109. الشيخ سحنون
  110. الشيخ محفوظ نحناح
  111. الشيخ عبد الله جاب الله
  112. خاتمة.. "الأوتاد والأغلال"
  113. فهرست.
  114. كتب وأبحاث للمؤلف

تعريف بالمؤلف

في عام "1945" ميلادية، الذي بدأت فيه هذه المسيرة كان المؤلف يستعد للسفر إلى فرنسا لدراسة الدكتوراه في جامعة باريس، وحصل عليها في نهاية عام "1949م" ليعود لمصر، ويعين مدرسًا بكلية الحقوق بجامعة القاهرة...

قبل سفره كان قد عين مدرسًا مساعدًا في الكلية التي حصل منها على الليسانس في "1941م" ثم عين في سلك القضاء وكيلاً للنيابة العامة لمدة سنتين قبل أن ينقل منها للجامعة في 1944م ... في عام 1954م فصل من الجامعة مع عدد كبير من لأساتذة الذين غضب عليهم الحكم العسكري الناصري، ولم يعد إليها إلا بعد عشرين عامًا في عام 1974م، وبعد تقاعده استمر يعمل في المحاماة والاستشارات القانونية حتى الآن... هذه هي مسيرته كأستاذ للقانون في مصر.. لكن الذي يهمنا هنا هو اتجاهه الإسلامي الذي أدى به إلى هذه المسيرة الطويلة في طريق العمل للصحوة الإسلامية، وهي موضوع هذا الكتاب..

لقد حفظ القرآن الكريم في قريته قبل أن يدخل المدرسة الابتدائية في مدينة المنصورة؛ وبسبب ذلك أصبح للقرآن الكريم دور هام في ثقافته الإسلامية؛ حتى أنه قرأ أكثر الكتب الإسلامية وخاصة كتب الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومصطفى صادق الرافعي.. وهو مازال في المدرسة الابتدائية، ثم تابع قراءاته في فترة دراسته الثانوية والجامعية، وما كان يدخل كلية الحقوق حتى انضم إلى مجموعة الإخوان المسلمين من أصدقائه بالجامعة، وبقي ملتزمًا بهذا الانتماء، حتى إنه فصل من الجامعة واعتقل بسبب ذلك من عام 1954م إلى عام 1956م.

وعندما اختارته الجامعة للسفر في بعثة إلى أمريكا 1945م لدراسة الاقتصاد السياسي، اضطر إلى تغيير بعثته إلى باريس استجابة لنصائح الشهيد حسن البنا وأصدقائه من ممثلي الحركات الوطنية في بلاد شمال إفريقية، والهيئة العربية العليا الفلسطينية الذين كلفوه بأن يكون حلقة اتصال بينهم وبين الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر، الذي كان في الإقامة الجبرية في باريس، التي لجأ إليها بعد هروبه من ألمانيا عقب هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وكذلك زعماء ومندوبي الحركات الوطنية في الجزائر والمغرب وتونس الذين اتخذوا فرنسا قاعدة لنشاطهم...

لقد تعاون مع هؤلاء الوطنيين وعاش بينهم على أنه مكلف من الإخوان بالتعاون معهم كضابط اتصال بينهم وبين تلك الجماعة، وأصبح كثيرون من قادة الحركات الوطنية الإفريقية أصدقاء شخصيين له مع بقائهم ملتزمين بأحزابهم وتنظيماتهم الوطنية، واعتبروه مكافحًا وطنيًّا وليس مجرد داعية للإخوان أو اتجاههم الإسلامي.. حتى قال أحدهم: إنه يسير على نهج الرهبان المسيحيين الذين يعيشون مع العمال ويشاركونهم أعمالهم المهنية الشاقة، ونشاطاتهم النقابية، ويلقبونهم بالرهبان العمال.

بمجرد خروجه من الاعتقال في مصر عام 1956م كان المغرب وتونس قد أعلنا استقلالهما، ودعاه أصدقاؤه من الوزراء المغاربة إلى التقاعد مع حكومتهم، وعين قاضيًا بالمحكمة العليا بالرباط 1959م وأستاذًا بجامعة محمد الخامس، ثم مستشارًا قانونيًّا للبرلمان المغربي حتى انتقل إلى المملكة العربية السعودية في عام 1965م حينما تعاقدت معه وزارة البترول مستشارًا قانونيًّا لإدارة الثروة المعدنية في جدة..

عينه الملك فيصل عضوًا بالمجلس الأعلى لجامعة الرياض 1965م، وفي عام 1966م أعطاه الجنسية السعودية بعد حادث اعتقال في بيروت ومحاكمته والحكم عليه بتهمة أنه داعية للتضامن الإسلامي الذي دعا له الملك فيصل، كذلك عين أستاذًا للقانون والفقه المقارن بكلية الاقتصاد بجامعة الملك عبد العزيز بجدة عام 1968م، وبعد تقاعده استمر يتعاون مع الأمير محمد الفيصل في مشروعه لإنشاء مدارس المنارات وإدارتها ابتداء من 1971م، والاتحاد العالمي للمدارس الإسلامية الدولية الذي أنشئ تحت إشراف منظمة المؤتمر الإسلامي 1976م...

كما تعاون مع تكنو عبد الرحمن عندما كان الأمين العام الأول لتلك المنطقة في إعداد اتفاقية تأسيس البنك الإسلامي للتنمية، ثم شارك الأمير محمد الفيصل وأصدقاؤه من دعاة الاقتصاد الإسلام في تأسيس بنك فيصل الإسلامي بالخرطوم وبالقاهرة، وبقي عضوًا بمجلس إدارة هذا البنك عشر سنوات، مما أدى به إلى نشر ثلاثة كتب عن الاقتصاد الإسلامي في التطبيق

أولها كتابه عن تأسيس بنك فيصل الإسلامي ونظامه الأساسي، وثانيهما عن اقتصاد المستقبل، ومحاولات إنشاء مؤسساته من عام 1960م إلى عام 1974م، وأخيرًا كتاب عن بنك التنمية الإسلامي ونظامه الأساسي الذي شارك في إعداده من عام 1971م إلى عام 1974م.. على أن القارئ سيجد قائمة بكتب الثقافة العامة، والفكر الإسلامي التي نشرها المؤلف في نهاية الكتاب مع قائمة الكتب والأبحاث القانونية التي نشرت له في مختلف مراحل حياته العلمية والعملية..

المؤلفات والأبحاث

كتب قانونية باللغة العربية

  1. تعليقات على قانون المرافعات الجنائية المصرية – الناشر دار الكتاب العربي بالقاهرة (1371هـ - 1951م).
  2. جرائم الأموال في قانون العقوبات المصري – الناشر دار الكتاب العربي بالقاهرة (1372هـ - 1952م).
  3. فقه الإجراءات الجنائية الجزء الأول – الناشر دار الكتاب العربي (1374هـ -1954م).
  4. المبادئ الأساسية للتشريع الجنائي في الدول العربية – الناشر معهد الدراسات العربية العالمية التابع لجامعة الدول العربية (1374هـ - 1954م).
  5. أسس التنظيم القضائي في الدول العربية – الناشر معهد الدراسات العربية العالمية – القاهرة (1377هـ - 1957م).
  6. المسئولية الجنائية في التشريعات العربية – الناشر معهد الدراسات العربية العالمية – القاهرة (1378هـ - 1958م).
  7. العقوبات الجنائية في التشريعات العربية المقارنة – القاهرة – الناشر معهد الدراسات العربية العالمية – القاهرة (1379هـ - 1959م).
  8. قضاء المجلس الأعلى بالمغرب في المواد الجنائية في السنوات الأربع الأولى – الناشر وزارة العدل المغربية وكلية الحقوق بجامعة الرباط (1382هـ - 1962م).
  9. شرح وتعليقات على القانون الجنائي المغربي الجديد – الناشر دار الكتاب – الدار البيضاء – المغرب (1388هـ - 1968م).
  10. مبدأ المشروعية في الإجراءات الجنائية – دروس الدكتوراه بكلية الحقوق -- جامعة القاهرة (1976م).

أبحاث ومقالات قانونية وفقهية باللغة العربية

  1. بطلان التحقيق الابتدائي بسبب استعمال التعذيب والإكراه – بحث منشور بمجلة كلية الحقوق بجامعة القاهرة – مجلة القانون والاقتصاد (1371هـ-1951م).
  2. مدى سلطة ضباط الشرطة القضائية في تفتيش الأشخاص المقبوض عليهم.
  3. بطلان إذن التفتيش في الإجراءات الجنائية – في مجلة المحامين بالقاهرة (1373هـ - 1953م).
  4. التجريد من الحقوق الوطنية والإقامة الجبرية – عقوبتان جنائيتان جديدتان في قانون العقوبات المغربي.. بحث في مجلة وزارة العدل المغربية – مجلة القضاء والقانون – الرباط (1383هـ - 1962م).
  5. مبدأ رجعية القوانين في مجموعة القانون الجنائي المغربي الموحد – في مجلة القضاء والقانون (1383هـ - 1963م).
  6. الشريعة الإسلامية بين الفقه والتقنين – بحث مقدم لمؤتمر إسلامية المعرفة المنعقد في الخرطوم (1986م).
  7. الشورى والاستشارة – بحث نشر بمجلة المجتمع بالكويت – 5 ديسمبر 1988م.
  8. خطة علمية لتطوير القوانين العربية وتوحيدها على أساس الشريعة الإسلامية – بحث مقدم لندوة توحيد القوانين العربية نظمتها الأمانة العامة لمجلس وزراء العدل العرب بالرباط.

كتب ثقافة عامة باللغة العربية

  1. سيادة الشريعة الإسلامية في مصر – الناشر دار الزهراء للإعلام العربي (1406هـ - 1986م).
  2. فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية للأستاذ الدكتور السنهوري – ترجمة ومراجعة وتعليق وتقديم المؤلف بالاشتراك مع الدكتوره نادية السنهوري – الناشر الهيئة العامة المصرية للكتاب – الطبعة الأولى (1989م) – الطبعة الثانية (1993م) – الطبعة الثالثة: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة (1994م).
  3. عبد الرزاق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية – الناشر دار الزهراء للإعلام العربي – (1408هـ - 1988م).
  4. فقه الشورى والاستشارة- الناشر دار الوفاء بمصر – الطبعة الأولى (1412هـ - 1992م) – الطبعة الثانية (1413هـ - 1993م). قصة البنوك الإسلامية
  5. تأسيس بنك فيصل الإسلامي المصري ونظامه الأساسي – نشره المؤلف بالقاهرة (1399هـ - 1979م).
  6. تأسيس البنك الإسلامي للتنمية بجدة – الناشر دار الزهراء للإعلام العربي (1414هـ - 1994م).
  7. اقتصاد المستقبل: تجربتي في الاقتصاد الإسلامي ومحاولات إنشاء مؤسسات استثمارية إسلامية - الناشر دار الزهراء للإعلام العربي (1414هـ - 1949م).
  8. الشرق الأوسط والأمة الوسط – الناشر دار الزهراء للإعلام العربي (1414هـ - 1994م).
  9. الشورى أعلى مراتب الديمقراطية – الناشر دار الزهراء للإعلام العربي – الطبعة الأولى (1414هـ - 1994م).
  10. فقه الحكومة الإسلامية بين السنة والشيعة وقراءة في فكر الثورة الإيرانية منشورات العصر الحديث (1995م).
  11. مسيرة نصف قرن في طريق الصحوة الإسلامية – الناشر دار الشروق بالقاهرة وبيروت (1419هـ - 1998م).
  12. موسوعة عصرية للفقه الجنائي الإسلامي – للمؤلف ويشارك فيه أكبر مجموعة من كبار رجال القانون في العالم الإسلامي (تحت الطبع).

كتب وأبحاث علمية باللغة الفرنسية والإنجليزية

  1. النظرية العامة للتفتيش في القانون الجنائي الفرنسي والمصري – رسالة الدكتوراه المقدمة لجامعة باريس 1949م – حازت على جائزة التفوق في كلية الحقوق بباريس – نشرتها جامعة القاهرة مع مقدمة للأستاذ هوجيني أستاذ القانون الجنائي بجامعة باريس (1370هـ - 1950م).
  2. حرية الأسرار والحق في السر – بحث منشور بمجلة العلوم الجنائية بباريس (1370هـ - 1950م).
  3. نظام السجون المفتوحة ومستقبله بالشرق الأوسط – بحث مقدم لمؤتمر مكافحة الجريمة ومعاملة المسجونين في دول الشرق الأوسط (1373هـ -1953م).
  4. بحث خاص بالسجون المفتوحة مقدم أيضًا لمؤتمر مكافحة الجريمة (1374هـ - 1954م).
  5. مقدمة عن الشريعة والفقه – دروس في الفقه المقارن لطلبة الجامعة الإسلامية العالمية في كوالالمبور ماليزيا.