حقيقة التنظيم الخاص
بقلم / الأستاذ محمود الصباغ
الإهـداء
- إلى كل من يهمه أمر تاريخ الإخوان المسلمين أهدي هذه الحقيقة التي حجبتها طبيعة الموضوع السرية، ففتحت الباب أمام كثير من الأقلام إلى الخيال والافتراء من غير دليل أو بينة أو برهان حتى صار التصحيح فرضا يستوجبه صالح العمل للإسلام والله هو الهادي إلى الحق بإذنه وإلى صراط مستقيم.
مقدمة الأستاذ مصطفي مشهور
أحمد الله تبارك وتعالى، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد سيد المرسلين، وإمام المجاهدين، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أحمده سبحانه أن أنعم عليَّ بنعمة الإسلام .. وهي أفضل النعم، ثم تفضل وأنعم عليَّ بنعمة الانتماء إلى «جماعة الإخوان المسلمين» التي أنشأها الإمام الشهيد «حسن البنا » رضي الله تعالى عنه وأرضاه.. وكان ذلك منذ أكثر من خمسين عامًا، سعدت خلالها بالعمل في حقل الدعوة الإسلام ية.. بما في ذلك المحن التي هي سنة الله في الدعوات... وقد زادتني الأيام والأحداث اعتزازًا بهذا الانتماء، وثقة بالجماعة ورسالتها، وتأثيرها الفعال على الساحة الإسلام ية.. بل على الساحة العالمية.. خاصة في إبراز الفهم الصحيح الشامل للإسلام كمنهاج كامل للحياة، وفي ضرورة تطبيق شريعة الله، وفي مجال التربية وتخريج نماذج رائعة للفرد المسلم، وللأسرة المسلمة القدوة.. وكذلك دورها في بعث روح الجهاد في سبيل الله، وحب الاستشهاد لإعلاء كلمة الله، وإقامة دولة الإسلام وخلافته.
وفي مجالات عملي بالجماعة شاركت في «النظام الخاص» وفي قيادته فترة من الزمان.. وقد أدى هذا الجهاز الدور الذي أنشئ من أجله ضد المحتل البريطاني، وضد العدو الصهيوني.. وقد عرض الأخ الأستاذ محمود الصباغ في هذا الكتاب الكثير من هذه الصفحات المشرقة.. فجزاه الله خيرًا، ونفعه ونفع به.
وقد تعرفت على الأخ محمود الصباغ في مراحل الدراسة الثانوية والجامعية.. وقد تشرف هو أيضا بالانتماء إلى «جماعة الإخوان المسلمين » وساهم بالعمل في مجالات الدعوة، وبالعمل في «النظام الخاص» وشارك في قيادته كذلك.
ولعله من توفيق الله عز وجل أن يعدون هذا الكتاب بعنوان «حقيقة النظام الخاص» فقد تميز بأن مؤلفه اجتهد في تحري الحقيقة من واقع الممارسة العملية.. لا النقل والسماع، وأنه أيد معظم ما جاء به بأحكام قضائية، وشهادات كبار الشهود..
هذا وقد درج غيره من الإخوان على كتابة كتب ومذكرات حول الجماعة عمومًا، وحول جهادها في فلسطين وفي القتال، وحول موقفها من رجال انقلاب يوليو 52.. إلى غير ذلك من مجالات عمل أو مواقف، وتعرض بعضهم في كتاباته إلى النظام الخاص من قريب أو بعيد.. والحقيقة أن معظم الذين كتبوا لم يكن لهم سابق ارتباط بالنظام، وما كتبوه عنه طريق السماع.
وبسبب ظروف المحن الشديدة التي مرت بالجماعة وبأفرادها، كتب معظم هؤلاء مذكراتهم بعد مرور عشرات السنين على الأحداث التي ذكروها.. ومن ثم تعرضت هذه الكتابات إلى شيء من عدم الدقة لتعرض الذاكرة إلى النسيان بسبب طول المدة.. وقد تختلف الروايات، وكذا وجهات النظر حول بعض القضايا عند أصحاب هذه المذكرات.
لذلك أحب في هذه المناسبة أن أنبه السادة القراء إلى أنه ليس من الإنصاف أخذ كل ما ذكر في هذه الكتب والمذكرات عن الجماعة أو عن النظام الخاص كقضايا مسلمة للأسباب التي ذكرتها سابقًا.. فالأمر يحتاج إلى قدرة من التوفيق والتبين.. وربما تعذر ذلك على القارئ لوفاة الكثرة ممن ساهموا في صنع هذا التاريخ رحمهم الله جميعًا.
ونحن مطالبون بحسن الظن بإخواننا الذين كتبوا المذكرات.. فمن اجتهد وأخطأ فله أجر.. ومن اجتهد وأصاب فله أجران.. وهذا الشعور يدفعني إلى أن أختم تقديمي لهذا الكتاب بقول الله تعالى ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾.
أسأل الله تعالى أن يختم لنا جميعًا بالخير، وأن يجمعنا بمن سبقونا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.. اللهم آمين.
بين يدي الكتاب
الإرهابيون نوعان: إرهابيون لأعداء الله وهؤلاء هم أرق الناس قلوبا وأرهفهم حسا، وإرهابيون لأحباب الله وهؤلاء هم أغلط الناس قلوبا وأكثرهم قسوة ووحشية.
ولكي ندرك هذه الحقيقة فإننا نستطيع أن نقسم الناس كافة من حيث إحساسهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه وإسهامهم في العمل على رفعة شأنه والنهوض بأمره إلى خمسة أنواع:
1- رجل لا يهتم إلا بشون نفسه، يسعى جاهدًا في طلب الخير لها، لا يهمه ممن حوله، إلا بقدر ما يسلب منهم سواء بالنصب والاحتيال، أو بالغدر والاعتداء، والعدوان، أو بالقهر والغلبة والسلطان.. وهذا النوع من الناس يحرص دائمًا على أن يلبس مسوح الملائكة الأطهار، وهو يخفي قلب الشيطان الماكر الغدار.. وهؤلاء هم أكثر الناس غلظة وقسوة ووحشية، ينخدع بمظهرهم من حولهم، ولا يشعرون بخطرهم إلا بعد أن يقعوا فريسة غدرهم وقسوتهم ووحشيتهم، فيعلمون أنهم كانوا بأبواق الدعاية مخدوعين، وبمعسول الكلام منومين، كما عبر عن ذلك مرة في كتابه «عودة الوعي» الأستاذ توفيق الحكيم!!
2- رجل لا يهتم إلا بشئون نفسه، يسعى جاهدًا في طلب الخير لها، ولكنه يلتزم في سعيه بأن لا يتجاوز حقه، لا يهمه إن ضل من حوله أوجاع، يقول مالي والناس، حسبي نفسي، ولو عمل كل لنفسه كما أعمل لارتفع شأن الأمة وعلا قدرها، وهؤلاء هم أغلظ الناس قلوبًا، وإن خلوا من الوحشية إلا أنهم يفتقرون إلى الرحمة التي دعا إليها رسول الله (ص) في قوله «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وينطبق عليهم الإحساس النابض لقلب ابن مصر وزعيمها مصطفى كامل «ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط».
3- رجل لا يهتم إلا بشئون نفسه وأهله، يسعى جاهدًا في طلب الخير لها ولهم، ويلتزم في سعيه بأن لا يتجاوز حقه، لا يهمه إلا نفسه وأهله، وإن جاع الوطن وضاع، وهؤلاء هم أقل الناس غلظة للقلوب، فهم لا يتحركون إلا إلى ذي رحم، يبذلون لهم من أموالهم وأنفسهم ما يستطيعون، ولكنهم إلى أبعد عن هذا الحد لا يتحركون، فهم لهذا السبب من غلاظ القلوب، التي لا تلين إلا لعلة نسب أو قرابة دم.
4- رجل يهتم بشئون نفسه وأهله ووطنه والناس جميعا، يبذل في سبيل إسعادهم جميعا في الدنيا كل ما يستطيع من جهد ومال وعلم وقول، يرحم ضعيفهم، ويطيب مريضهم ويعين محتاجهم بكل ما يملك من جهد ومال وهؤلاء هم الراحمون الذين يرحمهم من في السماء جزاء رحمتهم لمن في الأرض كما وعد بذلك حديث رسول الله (ص) في قوله: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».
5- رجل يهتم بشئون نفسه وأهله ووطنه والناس جميعا، يريد لهم سعادة الدارين الدنيا والآخرة، يمنحهم من قلبه وفكره وماله كل ما يستطيع، ثم يحميهم من عدوهم بدمه ونفسه وروحه لا يبتغي من أحدهم أجرًا إلا وجه الله، وهؤلاء هم الذين استجابوا لدعوة الرحمن، فأرهبوا جند الشيطان وحملوا السلاح في وجوههم مقاتلين، لا يهمهم إن دخلوا السجون أو كانوا من المقتولين، يسميهم الطغاة الإرهابيين ويسميهم الرحمن المجاهدين، هم أرق الناس قلوبا، لأنهم يبذلون لأوطانهم ولدينهم الأرواح رخيصة والمهج الغالية دون من أو إيذاء، يتحملون صنوف التعذيب، وفاحش القول والفعل من الأفاكين الغادرين، بإيمان ثابت، وقلب مطمئن بنصر الله، أولئك الذين استجابوا لدعوة الحق جل وعلا.
﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60]. وهم الذين أبرموا مع الله العقد والميثاق فباعوا نفوسهم لله، إعمالا لقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111].
وهم الأحياء الخالدون الذين تفنى الدنيا ولا يفنون مصداقا لقوله تعالى ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 169- 170].
وهم الذين عن عزمهم لا يثنون، يعملون للدنيا والآخرة لا يفترون.
اللهم احشرنا معهم، وأدخلنا في زمرتهم، واكتبنا بفضلك ورحمتك من المجاهدين الذين قلت فيهم وقولك الحق: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب: 23، 24].
هم أصحاب القلوب الرقيقة والحس المرهف، يقدمون دماءهم ليحموا دينهم وأوطانهم مستبشرين ببيعهم الذي بايعوا وذلك هو الفوز العظيم، لا يهمهم أن يقول عليهم الجهال إرهابيون أو غير إرهابيين، فهم وعلى كل الأحوال قد سمت نفوسهم وعلت همتهم، تسبح أرواحهم على الدوام في رحاب الله الواسعة، وإن تمكن بعض الفجار أن يجعلوا أبدانهم من المسجونين.
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله الذي بلغ الأمانة وأدى الرسالة ونصح الأمة وجاهد في سبيل الله حق جهاده حتى ارتفعت راية الإسلام خفاقة فملأت الأرض علما ونورًا وعدلا، بأيدي صحابة رسول الله وتابعيهم الذين تتلمذوا على مائدة القرآن الكريم، وعلى أقوال سيد البشر وأفعاله فأجادوا الدرس، وأخضعوا أفكارهم وحواسهم إلى أحكامه وشرائعه، فصاروا وكأنهم قرآنا يمشي أو شريعة سمحة تضيء أو هديا مباركا يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وألحقنا بهم مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
أما بعد:
فقد زالت دواعي السرية عن حقبة من تاريخ هذه الدعوة المباركة «دعوة الإخوان المسلمين » وقد كانت ضرورة من ضرورات عملها العسكري في سبيل الله، حيث يفرض ديننا الحنيف أن نستعين بالسرية والكتمان على قضاء حوائجنا، وبخاصة على أعداء الله الذين ينصر الله عليهم أحبابه وأنصاره بالرعب، فالسرية عنصر هام من عناصر الرعب والرهبة في القتال، وبها يضمن المقاتلون عنصر المفاجأة ومن ثم النصر.
وعلى الرغم مما تحقق على أيدي أبطال هذه الدعوة من إنجازات زلزلت الخصوم والأعداء في مصر وفلسطين وأسهمت في طرد المستعمر من مصر والتخلص من أعوانه حقبة.. من الزمن، فإن قوى الضلال تمكنت وما زالت متمكنة من عرقلة سير الدعوة حتى يقضوا على الإخوان المسلمين ووحدتهم الفكرية، ورابطتهم الروحية، التي تجعلهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ولكن كل العراقيل التي يضعها جند إبليس في طريق الدعوة قد انهارت، ما دام هناك الالتزام بأمر الله وسنة نبينا المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 62، 62].
ولابد لهؤلاء الإخوة وهم سيبذلون جهدهم في سبيل الله من أن يعرفوا الحقيقة عن ماضيهم، فيستزيدوا من الخير ويتجنبوا الشر، حتى تحفهم الملائكة ويتغمدهم الله برحمته ويكتب على أيديهم النصر بإذن الله، ويظلون كما تركهم الإمام الشهيد إخوانا متحابين، كأنهم البنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
وإني لأرجو من هذه الرسالة أن تسهم في تحقيق هذا الهدف المبارك الجليل راجيا الله تبارك وتعالى أن يكتبها لي في الصالحات، وأن يغفر لي ذنبي، ويقبل لي عثرتي ويصلح لي سري وعلانيتي وأن يكتبني عنده مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا..
10/1/ 1407هـ
محمود الصباغ
تمهيد : نصر من الله في أربع معارك قاصمة على مدى جيل واحد
ظل الناس يسمعون عن النظام الخاص في دعوة الإخوان المسلمين وعن وسائله وعن أهدافه، من وسائل الإعلام الحكومية المختلفة، تستوي في ذلك الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية، وبرامج الإذاعة والتلفزيون. ولم يتح لهم حتى اليوم الاستماع عن هذا الموضوع الهام من أي من أعضاء هذا النظام المؤسسين والمنفذين طوال فترة هذا النظام من مبدئة وحتى نهاية علم المؤلف عن مسيرته..
ولا شك أن طبيعة السرية التي يتصف بها مثل هذا النظام تجعل كل ما يقال عنه من غير أعضائه المؤسسين والمنفذين، موضع نظر حتى إذا كانوا من الأعضاء البارزين لجماعة الإخوان المسلمين الذين لم يلتحقوا بعضوية هذا النظام.
فما بالنا بوسائل الإعلام الحكومية المختلفة، التي تستخدم على أوسع نطاق في تأييد وجهة النظر الحكومية، إذا ما أعلنت الحكومة الحرب ضد الإخوان المسلمين ، بقصد إبادتهم والقضاء ع لى دعوتهم؟ إنها حينئذ تستبيح لنفسها أن تكيل التهم جزافا إلى الإخوان المسلمين ، ظنا منها أنها بتدعيم الحكومة في حربها الشرسة ضدهم، إنما تخدم الوطن وترعاه، وهي تستخدم في هذا الصدد جميع صيغ المبالغة والتضليل والتشهير دون تحفظ أو حياء، فهدفها هو أن يستقر في قلوب الناس أن الحكومة في حربها هذه، إنما تؤدي رسالة هامة بل حيوية لحماية أمن الوطن والمواطنين، ضد وحشية جماعة ضالة مضلة تستحل الدماء، وتنشد الخراب لا البناء!!! وهي تعلم يقينا أنها تدعم الباطل الأثيم ضد الحق المبين.
فأنت تسمع من كل وسائل الإعلام في هذه الحالة أن الجهاد في سبيل الله يسمى إرهابا، وأن المجاهدين في سبيل الله هم الإرهابيون، وأن هدف هؤلاء المجاهدين قد تبدل في طرفة عين من إرهاب الأعداء المعتدين إلى إرهاب المواطنين الصالحين!!!
والشعب يقرأ ويسمع ولكنه لا يصدق فهو يعرف هؤلاء الإخوان فردا فردا لأنهم جميعا من أعماق هذا الشعب الحر الأبي المكافح الصابر، الذكي الصامت يعرفون أخلاقهم وسلوكهم وإيجابياتهم في كل حركة وسكنة، لأنهم فتية آمنوا بربهم وأعلنوا الالتزام بمبادئ دعوتهم التي تقوم على مبادئ الشريعة الإسلام ية أسلوبًا ومنهاجًا، سواء في حياتهم الشخصية أو في حياتهم العامة بقصد الإسهام في حماية الوطن وأمنه، والمشاركة في صلاحه وعزه، تحقيقا لقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8].
وتنفيذ لشريعته التي فرضها جل وعلا على المؤمنين فقال عز من قائل:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60].
ولقد شهد الحق تبارك وتعالى بصدق الإخوان المسلمين فيما أسروا وأعلنوا فنصرهم على مدى جيل واحد في أربع معارك قاصمة، شنها عليهم إخوان في الوطن، أوهمهم الشيطان أنهم يجمعون أنفسهم كحكام، آمنين من مخالفيهم في الرأي والفقه والأسلوب، من الإخوان المسلمين ، وهم لا يدرون أنهم يحفرون قبورهم بأيديهم، ويرجعون بأوطانهم مئات السنين إلى الوراء، ظانين أنهم يحسنون صنعا!!! إذ مهما شدد الحاكم القيد، فلابد له أن ينكسر ومهما ضيق الحاكم على الشعب الخناق، فلابد للشعب في النهاية أن ينتصر، ولكن بعد الكثير من التضحيات، وأجلها ضياع الزمان والأوقات:
لقد شهد الكثيرون من قراء هذه الرسالة بأنفسهم المعركة الأولى التي أعلنها محمود فهمي النقراشي باشا رئيس وزراء مصر في نوفمبر 1948 م، ولعل التاريخ لم يشهد منذ أبينا آدم إلى اليوم ضلالا أجل وأخطر من ضلال محمود فهمي النقراشي باشا في هذه المعركة، فقد أعلن هذه الحرب على الإخوان المسلمين وهم أصدقاؤه الوحيدون على أرض مصر في ذلك الزمان حيث صدقوه، حين لبس مسوح الوطنية، وأخذ ينادي بجلاء الإنجليز عن مصر في هيئة الأمم المتحدة، يستصرخ العالم لنصرته في قضيته العادلة، بل وتحدى الإخوان المسلمين الزعيم المصري مصطفى النحاس باشا، الذي كان يعلم من وراء الكواليس من هو محمود فهمي النقراشي باشا، فأبرق إلى هيئة الأمم المتحدة يعلن أن هذا الرجل لا يمثل مصر ولكن الإخوان المسلمين ممثلين في مرشدهم الإمام الشهيد الأستاذ حسن البنا أبرقوا إلى هيئة الأمم المتحدة بأن ما يقوله النقراشي باشا هو رأي مصر وقول مصر متبعين في ذلك أمر دينهم الحنيف ﴿وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ [يوسف: 81].
كما صدقه الإخوان المسلمون حين أعلن أنه يحمي المجاهدين الفلسطين يين ممثلين في قائدهم سماحة الحاج أمين الحسيني رحمه الله، الذي نزل إلى أرض مصر هو وابن أخيه المرحوم الشهيد عبد القادر الحسيني في عام 1946 م يجهزون لمعركتهم الفاصلة لاستنقاذ وطنهم السليب فلسطين عندما يجلو عنه الإنجليز في 15 مايو 1945 م، وكيف لا يصدقه الإخوان المسلمون وقد أيد قوله بعمله فصرح لهم بجميع الأسلحة والمفرقعات اللازمة لهذه المعركة الفاصلة وتزويد الهيئة العربية العليا بها، وقد كان كاتب هذه السطور هو ضابط الاتصال بين الإخوان المسلمين والهيئة العربية العليا في أداء هذا الواجب المحتوم؟ وقد أداه الإخوان المسلمون على أحسن ما يكون الأداء وأفضل.
وكيف لا يصدقه الإخوان المسلمون ، وقد صرح لهم بالتدريب على استعمال الأسلحة والمفرقعات، على أرض مصر دون حظر أو قيد حتى يمكنهم من المساهمة إيجابيًا في تحرير فلسطين ، مع إخوانهم من رجال الهيئة العربية العليا؟
وكيف لا يصدقه الإخوان المسلمون ، وقد أعلن بكل شجاعة أنه سيقود المعركة بجيش مصر في 15مايو 1948 م جنبا إلى جنب مع إخوانه من العرب ومن المسلمين؟ وقد تحدى النقراشي باشا السياسي المصري الداهية إسماعيل صدقي باشا وهو يستصدر قرار دخولمصر الحرب من البرلمان المصري، قائلا له إن جيشنا الظافر ذاهب لتأديب بعض العصابات اليهودية وأن النصر مضمون بإذن الله وكان ذلك حين سأله إسماعيل صدقي باشا عن الحل البديل إذا ما قدر لجيش مصر الهزيمة لا قدر الله؟
كل هذه الشواهد والأعمال جعلت الإخوان المسلمين يطمئنون تماما إلى صدق النقراشي باشا في كل ما يفعل أو يقول، فوفقوا بمتطوعيهم جنبا إلى جنب مع قوات جيشنا الباسل مضحين بكل مرتخص وغال، وهم لا يدرون أن في الأمر خدعة يعلمها النقراشي باشا أولا يعلمها، فإن كان لا يدري فتلك مصيبة وإن كان يدري فالمصيبة أعظم!!
انهزم جيش مصر وضاعت فلسطين تحت سمع النقراشي باشا وبصره، ولكنه بدلا من أن يعد إلى جولة ثانية وأن يتخذ من الجولة الأولى عبرا ودروسا فيقوم الخطأ، ويقوي الصواب، انقلب على أخلص من استبسلوا مع جنوده في الجولة الأولى حبسًا، واعتقالا معلنا حل جماعتهم، وتحريم قيام جماعة في مصر تدعو إلى ما تدعو إليه جماعتهم، وكأنه يثأر لمن قتل على أيديهم من أعداء مصر والعروبة والإسلام من الصهيونيين، ثم استسلم إلى هدنة دائمة مع الأعداء استمرت من سنة 1948 م حتى نقضها الأعداء في هجومهم على مصر سنة 1956 م.
وإذا كان النقراشي باشا قد نجح في الانتصار إلى الصهاينة، بحبس واعتقال الإخوان المسلمين ، وعرقلة الحركة الإسلامية فترة من الزمن مثيرا بذلك فتنة عارمة في مصر كان هو أول ضحاياها، فقد انتصر الله لدعوته وعادت الإخوان المسلمون قوية أبية، وأذاق الله حزب النقراشي من نفس الكأس الذي سقاها للإخوان المسلمين فسلط عليه حليفه وسيده الملك فاروق الذي قرر إقالة إبراهيم عبد الهادي باشا خليفته في الحكم هدية الملك للشعب يوم العيد، بعد أن زلزل ثوار الشعب أركان حكم إبراهيم عبد الهادي ، وبعد أن سطر الإمام الشهيد الأستاذ: حسن البنا بدمه على أرض شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليا)، أن مصر العزيزة لا يحكمها إلا عصابة مجرمة تستبيح قتل الصالحين والأئمة من المسلمين جهارًا نهارا، دون خشية أو حياء وقد اتخذوا الإجرام مفخرة وعزا، فما كان أيسر على هذه الحكومة المجرمة، أن تقبض على حسن البنا ضمن من قبضت عليهم من آلاف الإخوان ، أو تقتله ضمن من قتلتهم من الإخوان باسم القانون، والله بريء ممن قتلوا الأبرار الأطهار سواء كان ذلك باسم القانون أو خروجها عليه.
وكان نصر الله للمؤمنين في المعركة الأولى نصرا عزيزا.
أما المعركة القاصمة الثانية فقد شهدها معظم قراء هذه الرسالة وهي حرب الإبادة المعلنة من جمال عبد الناصر ضد الإخوان المسلمين سنة 1954 م، وما أشبه الليلة بالبارحة فقد كان عبد الناصر عضوا في الإخوان المسلمين ، ثم صديقا لهم بصفته قائدًا لتنظيم وطني صديق هو تنظيم الضباط الأحرار، وقد صدقه الإخوان المسلمون ، وكيف لا يصدقونه وقد كان عضوًا من أعضائهم؟
وكيف لا يصدقونه وقد تقلد قيادة تنظيم الضباط الأحرار بعد مشورتهم والحصول على موافقتهم، والاطمئنان إلى مناصرتهم؟
وكيف لا يصدقونه وقد بدأت حركته بإعلان مبادئها الستة، في تحالف مع الإخوان المسلمين جعل الناس يثقون بأن حركة الضباط الأحرار ودعوة الإخوان المسلمين هما صورتان لحركة واحدة أساسها حماية الوطن ورعاية الدين؟
ولكنه نسى كل ذلك، عندما استقر في الحكم استقرارًا ظن أنه لن يزول!! واتخذ من بعض الخلافات في الرأي والأسلوب مبررًا لقرار الحرب المهلكة ضد الإخوان المسلمين الذين يجرءون على إعلان مخالفته وهو الزعيم الأوحد؟
ولم يستح أن يفسر حربه ضدهم فيقول عنهم وهم أساتذته «إنهم عصاة».
وقد كان الأجدر به أن يرد على الحجة بالحجة، وأن يرعى أخوة قديمة، وصداقة حديثة كان لها أبلغ الأثر في نجاح حركته، ولكنه لم يفعل، ولم يقف عند حد الاستبداد بالرأي وتنفيذ ما ظن أنه الصواب في ديكتاتورية محتملة، بل لجأ إلى الإبادة الآثمة بكل صور الفجور والطغيان فاعتقل وسجن وعذب وقتل وشرد ما شاء الله له أن يفعل دون رقيب أو حسيب إلا رب الأرباب، الذي سلط عليه ولم يمض سنتان على فعلته الشنعاء حلفاءه الذين عاهدهم بمعاهدة الجلاء فهجموا عليه سنة 1956 م مع أنصارهم من الصهاينة والفرنسيين، وهزم الصهاينة جيشه على الحدود الشرقية، وهزيمة منكرة، ضاعت فيها كرامة الجندي المصري وسمعته، أيما ضياع، حيث لهث الجنود وهم يجرون منهزمين عبر رمال سيناء إلى قناة السويس ممزقة ثيابهم، متورمة أقدامهم، تلهب ظهورهم بنادق العدو ورشاشاته وطائراته دون حماية أو عون من الزعيم الأوحد أو أحد من رجاله المغاوير!! الذين حققوا قول الشاعر:-
أسد علي وفي الحروب نعامة
- كأعظم ما يكون التحقيق والأنجاز!!
ولولا أن جمال عبد الناصر لم يكن قد بعد تماما عن الله، فتوجه إلى الأزهر الشريف، واستصرخ ربه هناك أن ينصره وهو السميع البصير، لكانت نهايته ونهاية مصر سنة 1956 م، ولكن الله العليم المحيط أمهله هذه المرة، وسلط على أعدائه حلفائهم من الأمريكان وأعدائهم من الروس فأنذروهم بالجلاء، فأجلوا عن مصر العزيزة، وخفف عبد الناصر قبضته على الإخوان المسلمين وأخرجهم من المعتقلات وأعادهم إلى أعمالهم، بعد أن صححت المحنة نفسه وأصلحت سريرته، ولكن إلى حين!!
وكان نصر الله للمؤمنين في المعركة الثانية نصرًا عزيزًا.
وما أن استتب الأمر لعبد الناصر حتى نسى أن الله هو الذي نصره، وادعى أنها مهارته السياسية والعسكرية، فأخذ يتغنى بهزيمته لثلاث دول استعمارية مجتمعة في 1956 ، بينما ظلت مصر تئن تحت استعمار دولة واحدة من الدول الثلاث بضعًا وسبعين عاما رغم ما قدم زعماؤها من جهاد وتضحيات، ولم يكف عن أن يردد أنه هزم الاستعمار مرتين في عام واحد حيث أخرج الإنجليز بمعاهدة الجلاء فيمايو 1956 م، وأخرجهم هم والفرنسيين واليهود في نوفمبر من نفس العام بقوة السلاح والنضال الذي أتقن حرفته وأجاد لعبته!!!، وانتهى الأمر بأن صدق نفسه، فقرر هجمته على الإخوان المسلمين في عام 1965 م وصمم على أن تكون هجمته هذه المرة مبيدة مهلكة، يرى فيها الإخوان من العذاب والتنكيل والتقتيل والتشريد، ما ضجت به الكتب التسجيلية بعد ذلك، والتي لم تصل ببلاغتها إلى وصف الحقيقة وقسوتها، لأن الحقيقة كانت ولا تزال أبعد من أن يصل إلى وصفها قلم كاتب أو خيال شاعر، وكانت الحقيقة فوق الوصف، حيث تحول الآدميون المتفردون بالسلطة إلى وحوش ضارية، بالغة الخسة في ضراوتها ووحشيتها إلى حد لا يصدقه عقل بشر.
ولقد صدق في جمال عبد الناصر في هذه الهجمة الهمجية الثالثة على الإخوان المسلمين الحديث القدسي (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) فكان انتقامه من جمال عبد الناصر في هذه المرة آية من الآيات الدالة على عظمة الخالق ولطيف عنايته، إذ ألقمه الضربة القاضية في عام 1967 م، حين خيلت له نفسه المريضة، الممتلئة قيحا ودما من دماء الإخوان المسلمين ، أنه مادام قد انتصر على اليهود والفرنسيين والإنجليز مجتمعين في سنة 1956 م، فلا أيسر من أن ينتصر على اليهود منفردين في سنة 1967 م وقد زوده حلفاؤه الروس بما لم يكن يخطر له على بال من أسلحة وعتاد، وأنتجت مصانعه من الصواريخ ما أسماه بالظافر وما أسماه بالقاهر فدق طبول الحرب معلنًا على العالم أجمع أنه اليوم في سنة 1967 م غيره في سنة 1956 م وأنه ليس (خرعا) مثل إيدن وزير خارجية بريطانيا الذي انهارات أعصابه عقب هزيمته في 1956 م، بل هو قادر حتى في حالة الهزيمة أن يصمد ويعيد الكرة بشبابه الغض، وبنيانه القوي المتين!!!
وهيأ له حلفاؤه الروس التمادي في استعراض العضلات، حتى إذا جد الجد وقربت ساعة الصفر تخلوا عنه في لحظة، فتحول الأسد إلى فأر واستجاب لتعليمات السفير الروسي بأن يقيد جنوده، كأوثق ما يكون القيد، ليتلقوا من عدوهم الضربة الأولى دون أدنى مقاومة أو دفاع!!!
أمر عدو نفسه قادة أسلحته الأربعة بالطيران إلى الجبهة ليشدوا وثاق القوات المصرية فلا تتحرك وهي تتلقى الضربة الأولى من العدو، انتظارًا لوعد آلهته من الروس بالانتصار له في هذه الحالة، فطاروا قبيل وقت الصفر، ليسهلوا لعدوهم أن يبيد جميع طائرات سلاح الطيران المصري المنتشرة على مطاراته الثمانية استعدادًا للهجوم وهي محملة بقنابلها في لحظة من الزمان، حيث توجهت ثمان طائرات صهيونية واحدة لكل من مطارات مصر العسكرية ترش الطائرات الجاثمة على الأرض برشاشاتها فتهلكها دون مقاومة، والقيادة في الهواء تطير حثيثا لتشد وثاق جيش مصر في الجبهة، حتى يصبح عريض القفا، فيتلقى على قفاه صفعة الذل والهوان التي لم يشهد مثلها جيشا من جيوش العالم، منذ أبينا آدم إلى اليوم!!!
ولقد علم جمال عبد الناصر في هذه المرة أنه لا حول ولا قوة إلا بالله ولكن بعد فوات الأوان، إذ حل عليه غضب الحق تبارك وتعالى فأصابه المرض العضال الذي أودى بحياته دون أن يرى للنصر ظلا، بل وهو يرتعد من احتمال هجمة الأعداء، فكانت قولته على إيدن حسرة وندامة عليه، ولم يسعفه شبابه المزعوم بصحوة يسترد فيها شرفه، ويعيد لهذا الشعب الحر الأبي المناضل الذي يحسن الصبر، ويجيد المغفرة لمن أذاقوه الويل والحرمان شيئا من الكرامة، وخلفه زميله في السلاح أنور السادات، ولم يكن أمامه إلا أن يحرك الأمور في عكس الاتجاه الذي كان يحركها فيه جمال عبد الناصر، حتى أطلق شعب مصر على سياسة أنور السادات فكاهته المشهورة، التي يسأل فيها سائق سيارته عند مفترق الطرق، كيف كان يتجه عبد الناصر في هذا المفترق؟
فيقول له السائق لقد كان يتجه يسارا، فيرد أنور السادات قائلا أعط الإشارة نحو اليسار واتجه أنت نحو اليمين!!!
كانأنور السادات مضطرًا أن يشيد بسلفه عبد الناصر لأنه امتداد له ولكنه كان مضطرا أيضا أن يعمل في عكس الاتجاه الذي عمل فيه عبد الناصر، لأنه رأى بعيني رأسه أن هذا الاتجاه أودى بعبد الناصر، وبمصر العزيزة معه إلى قاع الهوة السحيقة، وأنه لا يمكن أن تتجه حركتها إلا على عكس اتجاه النزول.
فخفف الوطأة على شعب مصر ، وأعلن قفل المعتقلات إلى الأبد، وأخرج الإخوان من السجون والمعتقلات، وأعادهم إلى أعمالهم، وصدقه هذا الشعب الطيب الكريم، وكيف لا يصدقه، وقد أباح حرية الكلمة، وتعدد الأحزاب وأخرج فعلا كل المسجونين السياسيين من سجونهم، وقفل باب الاعتقال فأحكم إقفاله، حتى أحبه الناس وساندوه وخاضوا معه معركة 1973 م الشهيرة بحرب العاشر من رمضان، حيث حطموا خط بارليف بقوة الله أكبر؟
ولم تتعد خسائر القوات المصرية في هذه المعركة التي أعادت لمصر مجدها، وللأمة العربية عزها، خسائر حادث سيارة أوتوبيس واحدة وفقا لما نشر من أقوال المعجبين بنصر الله وقتئذ وصدق الله العظيم القائل:
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 40، 41].
وكان نصر الله للمؤمنين في المعركة الثالثة نصرا عزيزا.
وما أن استقر الأمر للسادات واعتقد أن قواعد حكمه قد تمركزت على الأرض فلا يمكن أن ينزعها نازع، أخذت العزة بالإثم، فنفي نصر ربه، وظن أنه رب العائلة المصرية وحاميها، فلا رأي غير رأيه، ولا فعل غير فعله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تحولت الكلمات الحرة التي ينشرها مخالفوه في الرأي في جرائده الرسمية إلى وقر يصم آذانه ويعمي بصيرته، فأعتبرها هدما وتخريبا، بعد أن كانت له نورا وضياء، أضاءت له الطريق إلى نصر العاشر من رمضان، ثم سمح لنفسه أن يدين بهذه الكلمة الحرة جميع الاتجاهات الفكرية في مصر دون استثناء بدلا من أن يجلها ويحترمها وينتفع بها، لقد أدان السادات جميع النصارى وأدان المسلمين، أدان الوفديين، وأدان الشيوعيين، أدان الوطنيين وزج بهم جميعا في السجون والمعتقلات دون ذنب أو جريرة إلا كلمات الحق التي نشروها تصديقا منهم بأنه معيد الحريات وقافل المعتقلات ومحرر المسجونين، وكأنه يسخر من هؤلاء الأحرار كيف يصدقونه وهو أكذب الكاذبين؟!! فقد كان كاذبا كأجلى ما يكون الكذب وأوضح، أعماه كذبه فأنساه موثقه الذي عاهد عليه الله أن يقفل السجون والمعتقلات إلى الأبد، وأعلنه على رؤوس الأشهاد في كل وسائل الإعلام المحلية والعالمية عدة مرات، بل إنه أعاد فتح السجون والمعتقلات لكل المصريين لا للإخوان المسلمين وحدهم، ومن غير أدنى سبب ظاهري يداري به فعلته الشنعاء فلم ينسب إلى أحد منهم جريمة إلا كلمة الحق يقذف بها الباطل في الجريدة الرسمية المصرح له بها. فبلغ قمة الاستبداد والتأله على شعب منحه حبه، وضحى معه بدمه عزيزا مهراقا على أرض المعركة، وهو ظلم لا يرضي عنه خالق السموات والأرض، الذي أبدع كل شيء صنعا فسلط عليه شبابا من شباب مصر ، وأظلهم بظله فباغتوه في وضح النهار وهو في أوج زينته، وعزه، يستعرض قواته المسلحة ولا يرى فيهم إلا عبيدًا، له ينحنون، وبقوته وعظمته يشهدون، وإذا بهم سادة يقذفونه بالنار، ويدفعون عن أنفسهم وصمة الذل والعار والشنار.
وعادت لمصر عزتها وانتصر الله للمؤمنين في المعركة الرابعة نصرًا عزيزًا.
إنهم يبنون الآن مع البانين، ويبذلون العرق والجهد لإصلاح ما فات مع المصلحين، لا يكررون دراسة التاريخ الأليم، للتشفي ولا للكيد، وإنما يستعرضونه للاستفادة من حكمه البالغة، حتى يحمي الله مصر ، من أن ينقلب عليها بعض أبنائها كما فعل السابقون، وقد صار دعاؤهم ليل نهار اللهم ارحمنا من أصدقائنا وإخواننا أما أعداؤنا فنحن كفيلون بهم، بعونك يا أرحم الراحمين.
وإنني إذ أمهد لكتابي بهذا السرد الموجز لحقائق المرحلة التي لعب فيها النظام الخاص دورا بارزًا في تاريخ مصر إنما أرجو أن تكون الكلمة الحرة القوية أداة تنبيه وإيقاظ لا أداة تشف واغتياظ، أقولها حبا في الخصوم في الرأي لا كرها فيهم، متبعا قول ربي الكريم في قرآنه العظيم ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ ولَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ صدق الله العظيم [فصلت: 34، 35].
الفصل الأول : الجهاد فطرة وشرعًا
الفطرة السليمة
نشأت في الريف المصري في قرية تدعى «هرية رزنة» هي الآن ضاحية من ضواحي بندر الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية بجمهورية مصر العربية، وكان منزلنا بهرية رزنه مشتركا في جدار واحد مع منزل بطل الثورة العرابية المرحوم أحمد عرابي باشا.
ترعرعت محبًا للعزلة، إلا مع أقراني في الدراسة، أو أصدقائي في المسجد، أو رفاقي في النادي الرياضي الذي أسسته وأنا طالب بالثانوية في قرتي هرية رزنه، وأطلقت عليه اسم نادي أحمد عرابي تيمنا باسم هذا البطل المصري العظيم، وكان نشاط هذا النادي في ذلك الوقت محصورا في لعبة كرة القدم، وفيها أشتهر بفوز فريقه دائما على فرق القرى المجاورة مثل بني عامر وبنايوس وكفر الحمام، وكان أهالي هرية رزنة يسعدون كل السعادة وهم يقرأون انتصار فريق أحمد عرابي بهزية رزنة على كل من هذه الفرق بجريدة الاهرام فيهشون لنا ويفرحون بنا، أيما فرح، ويبدون وكأنهم حققوا بنا أعز الأماني والأمجاد..
لقد كانت جريدة الاهرام مع شهرتها في هذه الأيام، أكبر الجرائد اليومية وأوسعها انتشارًا في مصر والبلاد العربية جمعاء، ومع ذلك كان يكفيها أن يصلها في خطاب مرسل بالبريد العادي رسمه خمسة مليمات مصرية، أخبار انتصار فريقنا على فرق القرى المجاورة فتنشرها، كرما منها وتشجيعا لروح الرياضة الجديدة في ريف مصر العزيزة، وما كان أيسر علينا أن نرسل لها مثل هذا الخطاب.
لم أفكر إطلاقا حتى نهاية دراستي الثانوية، في الاشتغال بالسياسة أو الخدمة العامة فقد كانت مصر محتلة بالقوات الإنجليزية، بينما تنادي كل الأحزاب المصر ية المصرح لها بالعمل علنا في الحقل السياسي، بأن الجلاء بالدماء وبأنها أنشئت بهدف واحد هو تحريرمصر من المحتل الغاصب الغاشم، ولم يكن ينطلي على عقلي الفطري شيء من هذه الأقوال ولا هذه الشعارات، إذ كيف يمكن أن يصرح الإنجليز وهم يحكمون مصر بالحديد والنار لحزب من هذه الأحزاب أن يحكم مصر وهو ينادي بهذه الشعارات الوطنية المعادية للإنجليز في فصاحة نادرة وقوة بيان!! إلا أن يكون في الأمر خدعة؟
كان الأمر عندي لا يعدو أن يكون اتفاقا بين كل هذه الأحزاب وبين الإنجليز الذي يمنحون كل حزب منهم الفرصة ليعتلي حكم مصر فترة من الزمان بتناوب رتيب لا خلل فيه ولا عدوان فشعاراتهم هذه لم تكن في نظري إلا سياسة متفق عليها للاستهلاك المحلي بينهم وبين الإنجليز ليست للتنفيذ أو التطبيق، ومن ثم فكان من البديهي أن لا يجذبني شيء من هذه الشعارات، وما كان أيسر علي من الاعتذار لمن يعرض على العمل في حزبه أو جماعته لخدمة مصر ، فالأمر الواقع في جانبي حيث أنهم جميعا أعلا الناس أبواقا وهم خارج الحكم، وأكثرهم التزاما وخضوعا لحكم الإنجليز وهم داخل الحكم، والأمر بينهم جميعا في تناوب رتيب، وكأنها تركة موروثة يأخذ كل منهم حظه فيها بقدر نصيبه من الميراث، وما أيسر أن يحصل أي حزب من هذه الأحزاب جاء دوره في حكم مصر على الأغلبية في مقاعد مجلس النواب والشيوخ، حتى حزب الشعب الذي أسسه إسماعيل صدقي باشا سنة 1930 ولم يتجاوز عدد أعضائه العشرات من النفعيين فقد حصل هذا الحزب على أغلبية ساحقة في انتخابات حرة تماما لم يتدخل فيها رجل من رجال البوليس حيث اكتفى صدقي باشا بإلقاء جميع صناديق الانتخابات الحرة بعيدًا عن مراكز الفرز وإحلال صناديق أخرى مملوءة ببطاقات الانتخابات المزورة محلها لتفرز وتظهر النتائج متعارضة مع كل الحقائق الصارخة على أرض مصر فيسقط زعيم مصر مصطفى النحاس باشا في هذه الانتخابات ويسقط مكرم عبيد باشا وهو علم من أعلام حزب الوفد حينئذ كما سقط زعيمه دون خجل أو حياء ويعتلي إسماعيل صدقي باشا حكم مصر في ديمقراطية ظاهرة لا يمكن أن يؤاخذه عليها إلا علام الغيوب تحت حماية صريحة واضحة هي حماية المحتل الغاصب.
ولو كان أحد من هؤلاء الزعماء صادقًا فيما يدعيه من الحرص على الجلاء لاشتبك مع القوات الإنجليزية في جهاد مسلح حتى أدماها، وأجلاها عن أرض الوطن، دون تردد، فلا يفل الحديد إلا الحديد. هذه هي الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، لا يختلف فيها اثنان يسلمان من الهوى والرياء، ولكنهم أبوا إلا الدجل على رجال مصر وشبابها واقتصروا على قيادة المظاهرات الصاخبة، التي تنادي بالجلاء والدماء، فلا يهدر فيها إلا دماء شباب مصر الأحرار أمثال عبد الحكيم الجراحي وغيره برصاص حكام مصر الخونة الفجار.
الجهاد في تاريخ الشعوب سنة ربانية
ليست مصر هي البلد الوحيد في بلاد العالم الذي احتلته قوات أجنبية، ولكن الصراع المسلح بين البشر سنة ربانية منذ خلق الله الأرض ومن عليها، شرعه الله للإصلاح رغم ما فيه من سفك للأرواح، الأرواح الخيرة والأرواح الشريرة على السواء. قال تعالى في وصف إحدى معارك المسلمين مع الكفار: ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251].
وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم ببَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 49].
إذن فالقتال بين البشر من أجل الإصلاح هو أمر يدفعه الله دفعًا ليحمي به أرضه من أن تفسد، وصوامعه وبيعه وصلواته ومساجده، من أن تهدم، ولتبقى هذه الصوامع والبيع والمساجد ذاخرة بالمصلين، الذين يذكرون اسم الله ويسبحونه بالغدو والآصال، ولا يحل لإنسان كائنا من كان أن ينظر إلى هذا الصراع على أنه شر كله، بل هو دائما خير يريده الله، لحكم يعلمها.
فالنفس البشرية الواقعة تحت تأثير وسوسة الشيطان الدائمة، كثيرًا ما يستبد بها الغرور والرغبة في العدوان على الخير والحق تعاليًا على غيرها من البشر واستعلاء في الأرض يستوي في ذلك الأفراد والحكام والدول، لا يردها إلا الجهاد في سبيل الله سواء بالكلمة أو بالحسام، ولقد رأينا في عصرنا الحديث الأمة الألمانية تحت تأثير زعيمها الدكتاتور « أودلف هتلر » تنادي بأنها فوق الجميع، وتستعد لحكم العالم وقهره بقوة السلاح، ولولا دفع الله دول الحلفاء، ليقفوا في وجهه ويتحملوا ما يوقعه بهم من خسائر فادحة في الأموال والأرواح، حتى ينتصروا عليه، ويوقفوا هذا التسيد الذي يهدد البشرية جمعاء، عند حد الاعتدال، لتمكن هتلر من حكم العالم، ولكان له ما أراد، حتى يقول للناس: أنا ربكم الأعلى، كما سبق أن قالها فرعون مصر في القديم، ويقولها غيره في القديم والحديث وفي كل مكان، هذا مثل واحد من أمثلة جهاد الشعوب يغنينا عن مئات الأمثلة التي يذخر بها تاريخ البشرية على مر العصور.
ولكن ماذا تفعل الشعوب إذا انهزمت قواتها المسلحة أمام أسلحة المعتدين الغاصبين؟ هل يحق لها أن تستسلم وتتعاون مع العدو، وتقدم له خدماتها مخلصة باسم القانون المسطور خصيصًا لخدمة هذا المحتل الغاصب؟
إنها إن فعلت كانت شعوبًا مهزومة لا تستحق أن تقوم لها قائمة، وهو ما لا يقبله شعب من شعوب العالم مهما كانت درجته من العلم والمعرفة، ولنضرب المثل في هذه الحالة أيضًا من واقع صراع العالم ضد تسيد مستبد كهتلر..
لقد رأينا الجنرال ديجول في فرنسا ينظم المقاومة الشعبية ضد الغزاة الألمان في تنظيمات سرية وأخرى، علنية، ويلاحقهم بضرباته الموجعة في كل مكان حتى تحقق له النصر، فتنصبه فرنسا عليها زعيمًا وقائدًا، ولم يجرؤ أحد أن ينسب إليه، ولا إلى أحد من رجاله صفة الإجرام حين كانت أعمالهم كلها جرائم في نظر القانون النازي، الذي يحكم به الانهزاميون الفرنسيون شعبهم، بل إن الأقلام كلها لتشيد الآن ببطولة ديجول ورجاله على ما بذلوا من أرواح وأموال في مقاومة العدو الغاصب، ضاربين عرض الحائط بقانون الأعداء.
تلك هي الأقلام الشريفة التي تبنى النفوس البشرية بما تسطره من عبارات الحق والحكمة، على حب الوطن والتضحية من أجله والفداء، وتحميها من شر الأنانية والنكوص، والاستسلام لحكم القهر والطغيان.
الجهاد فريضة على كل مسلم
فرض الله الجهاد على كل مسلم فريضة لازمة جازمة لا مناص منها ولا مفر، ورغب فيها أعظم الترغيب، وأجزل ثواب المجاهدين والشهداء، فلم يلحقهم في مثوبتهم إلا من عمل بمثل عملهم، ومن اقتدى بهم في جهادهم، ومنحهم من الامتيازات الروحية والعلمية في الدنيا والآخرة ما لم يمنحها سواهم، وجعل دمائهم الطاهرة الزكية عربون النصر في الدنيا، وعنوان الفوز والفلاح في العقبى، وتوعد المخلفين القاعدين بأفظع العقوبات، ورماهم بأبشع النعوت والصفات ووبخهم على الجبن والقعود، ونعى عليهم الضعف والتخلف، وأعد لهم في الدنيا خزيا لا يرفع إلا أن جاهدوا، وفي الآخرة عذابا لا يفلتون منه ولو كان لهم مثل أحد ذهبا، واعتبر القعود والفرار كبيرة من أعظم الكبائر، وأحدى السبع الموبقات المهلكات.
ولست تجد نظاما قديما أو حديثا دينيا أو مدنيا عنى بشأن الجهاد والجندية واستنفار الأمة وحشدها كلها صفا واحدا للدفاع بكل قواها عن الحق، كما تجد ذلك في دين الإسلام وتعاليمه، وآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول العظيم (ص) فياضة بكل هذه المعاني السامية، داعية بأفصح عبارة، وأوضح أسلوب إلى الجهاد والقتال والجندية وتقوية وسائل الدفاع والكفاح بكل أنواعها من برية بحرية وغيرها على كل الأحوال والملابسات.
فمن القرآن الكريم قوله تعالى:
1- ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].
ومعنى كتب: فرض كما قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ في نفس السورة.
2- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: 156 - 158].
ومعنى ضربوا في الأرض: خرجوا فيها مجاهدين، وغزا: غزاة محاربين.
3- ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 169 - 170].
4- ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 74]
5- ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60]
6- ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: 65]
وليرجع القارئ إلى سورة الأنفال فكلها حث على القتال وحض على الثبات فيه، وبيان لكثير من أحكامه، ولهذا اتخذها المسلمون الأولون رضوان الله عليهم نشيدا حربيا، يتلونه إذا اشتد الكرب وحمى الوطيس، وحسبنا في هذا المجال ما قدمنا من هذه السورة المباركة.
7- ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيخْزِهِمْ وَينصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبهِمْ وَيتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 14- 15]
8- ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29].
9- ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 29]
10- ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ [التوبة: 81 - 83]
11- ﴿لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 88- 89]
12- ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111]
وسورة التوبة كلها حث على القتال وبيان لأحكامه، وفيها حث على قتال المشركين وقتال غير المؤمنين من أهل الكتاب، والدعوة إلى النفير العام والتنديد الصارخ بموقف القاعدين الجبناء الأنذال، وحرمانهم من شرف الجهاد أبد الآبدين، والإشادة بموقف المجاهدين وعلى رأسهم سيدهم الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وبيان أن هذه سنته المطهرة وسنة أصحابه الغر الميامين، ثم البيعة الجامعة المانعة التي لا تدع عذرا لمعتذر، فليرجع إلى هذه السورة الكريمة من أراد أن يقف على كل هذه الأحكام، وحسبنا ما قدمنا منها في هذا المجال من آيات بينات.
13- ﴿وَيقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾ [محمد: 20 - 21].
وسورة محمد تسمى أحيانا سورة القتال: إشارة إلى أن القتال في سبيل الله هو أمر استحق من التكريم أن تنزل سورة كاملة باسمه.
14- ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ [الصف: 4]
15- ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [الفتح: 18- 19].
تصور يا أخي أن سورة محمد كما ذكرنا من قبل تسمى أيضا سورة القتال، وكأن اسم محمد عليه الصلاة السلام واسم القتال علمان على سورة واحدة تبين أحكام قتال الكفار والمشركين ولترجع إليها وإلى غيرها من السور الكثيرة في كتاب الله الكريم التي ورد فيها ذكر الجهاد من هذا الباب لترى العجب العجيب وتده لغفلة المسلمين عن اغتنام هذا الباب.
ومن أحاديث رسول الله (ص) في الجهاد:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل» (رواه البخاري) السرية: القطعة من الجيش لا يكون فيها القائد العام.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: «والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك».
(الكلم: الجراح. ويكلم: يجرح).
3- وعن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضير عن قتال بدر فقال يا رسول الله: غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعني أصحابه) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعني المشركين) ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد ابن معاذ الجنة ورب النصر، إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. قال أنس فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة بالرمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد غير أخته ببنانة، قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب: 23، 24]. (رواه البخاري).
من دون أحد: أي من جهة أحد.
4- وعن أم حارثة بنت سراقة أنها أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة- وكان قبل يوم بدر أصابه سهم غرب -فإن كان في الجنة صبرت وإن كان في غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء. قال يا أم حارثة «إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى» (أخرجه البخاري). السهم الغرب: الذي لا يعرف راميه.
5- وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: «اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» (أخرجه الشيخان وأبو داود).
6- وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: «من جهز غازيًا في سبيل الله تعالى فقد غزا ومن خلف غازيًا في سبيل الله بخير فقد غزا» (رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي). فقد غزا: أي له أجره.
7- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): «من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده، فإن شبعه وربه وروثه في ميزانه يوم القيامة» (رواه البخاري).
8- وعن أبي هريرة قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، ثم قال «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد» (رواه الستة إلا أبا داود).
9- وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (ص): «ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس، إن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله على ظهر فرسه أو ظهر بعيره، أو على قدمه حتى يأتيه الموت، وإن شر الناس رجلا يقرأ كتاب الله لا يرعوي بشيء منه» (رواه النسائي).
لا يرعوي: أي لا يتعظ ولا ينزجر وهو حال أغلب المسلمين اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
10- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقوله: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى». (رواه الترمذي)
11- وعن أبي عميرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): «لأن أقتل في سبيل الله أحب إلي من أن يكون لي أهل المدر والوبر» (أخرجه النسائي)
أهل المدر والوبر: أي أهل الحواضر والبوادي.
12- وعن راشد بن سعد رضي الله عنه عن رجل من الصحابة أن رجلا قال: يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ فقال: «كفاه ببارقة السيوف على رأسه فتنة» (أخرجه النسائي) 13- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: «ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة» (رواه الترمذي والنسائي والدارمي وقال الترمذي حسن غريب)
14- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) قال: «عجب ربنا تبارك وتعالى من رجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه فعمل ما عليه فرجع حتى أريق دمه، فيقول الله للملائكة انظروا إلى عبدي رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي حتى أريق دمه أشدكم أني قد غفرت له».
شفقا: خوفا.
وأريق دمه: سال دمه.
15- وعن عبد الخير بن ثابت بن قبس بن شماس عن أبيه عن جده قال: جاءت امرأة إلى رسول الله (ص) يقال لها أم خلاد وهي متنقبة تسال عن ابن لها قتل في سبيل الله فقال لها بعض أصحابه: جئت تسألين عن ابنك وأنت متنقبة، فقالت إن أرزأ ابني فلن أرزأ حياتي. فقال لها النبي (ص): «إن ابنك له أجر شهيدين» قالت ولم؟ قال: «لأنه قتله أهل الكتاب» (أخرجه أبو داود)
أرزأ ابني: أي افقده وأصابه فيه وفي هذا الحديث إشارة إلى وجوب قتال أهل الكتاب الذين يقاتلون المسلمين وأن الله يضاعف أجر من قاتلهم، وليس الجهاد للمشركين فقط، ولكن لكل من لم يسلم من الأعداء.
16- وعن سهل بن حنيف (ص) أن رسول الله (ص) قال: «من سال الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» (أخرجه الخمسة( ) إلا البخاري).
17- وعن خريم بن فاتك قال: قال رسول الله (ص): «من أتفق نفقة في سبيل الله تعالى كتبت له بسبعمائة ضعف» (رواه الترمذي وحسنه الألباني)
18- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر رجل من أصحاب رسول الله (ص) بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته فقال لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، فذكر ذلك لرسول الله (ص) فقال: «لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته سبعين عاما، لا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم جنته، اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة» (رواه الترمذي) عيينة: عين صغيرة تفيض بالماء.
19- وعن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله (ص): «للشهيد عند الله ستة خصال: يغفر له من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، والياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه» (رواه الترمذي وابن ماجه).
20- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): «من لقي الله بغير أثر من جهاد، لقي الله وفيه ثلمة» (رواه الترمذي وابن ماجة)
21- وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه» (رواه مسلم)
22- وعن عثمان بن عفان (ص) عن النبي (ص) قال: «من رابط ليلة في سبيل الله سببحانه وتعالى كانت كألف ليلة صيامها وقيامها» (رواه ابن ماجة).
23- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: «غزوة في البحر مثل غزوات في البر، والذي يسدر في البحر كالمتشحط في دمه في سبيل الله» (رواه ابن ماجة).
يسدر: يميل ويهتز وترتج به السفينة. وفيه إشارة بغزوة البحر، ولفظ نظر الأمة إلى وجوب العناية بحفظ سواحلها وتقوية أسطولها ويقاس عليه الجو، فيضاعف الله للغزاة في الجو في سبيله أضعافا مضاعفة.
24- وعن جابر بن عبد الله يقول: لما قتل عبد الله بن عمرو بن حزام يوم أحد قال رسول الله (ص) : «يا جابر ألا أخبرك ما قال الله -عز وجل- لأبيك؟» قلت بلى. قال: «ما كلم الله أحدًا إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحًا فقال يا عبدي فمن عليَّ أعطيك. قال يا رب تحييني لأقتل فيك ثانية. قال إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال يا رب فأبلغ من ورائي. فأنزل الله -عز وجل- هذه الآية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169- 171] (رواه ابن ماجة).
25- وعن أنس عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال: «لأن أشيع مجاهدًا في سبيل الله فأكففه على رحله غدوة أو روحه أحب إلي من الدنيا وما فيها» (رواه ابن ماجة).
فأكففه على رحله: فأسعده عليه
غدوة: بالغدو وهو الصباح.
روحة: في الرواح وهو المساء.
26- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): «وفد الله ثلاثة: الغازي والحاج والمعتمر» (رواه مسلم).
27- وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله (ص) : «يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته» (رواه أبو الدرداء).
28- عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (ص): «إذا تبايعتم بالنسيئة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم» (رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم).
29- وعن أبي هريرة قال: انطلق رسول الله (ص) وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله (ص): «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» قال عمير بن الحمام: بخ بخ، فقال رسول الله (ص) : «ما يحملك على قولك بخ بخ» قال لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: «فإنك من أهلها» قال: فأخرج ثمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن حييت حتى آكل ثمراتي إنها لحياة طويلة فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل» (رواه مسلم).
39- عن أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفًا عظيمًا من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل بينهم فصاح الناس وقالوا سبحان الله يلقى بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: أيها الناس أنتم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرًا دون رسول الله (ص) أن أموالنا قد ضاعت وأن الله تعالى أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه ما يرد علينا ما قلناه: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195] وكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصًا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم» (رواه الترمذي).
ولاحظ يا أخي أن أبا أيوب حين يقول هذا كان في سن كبيرة قد جاوز الشباب والكهولة ومع هذا فقلبه وروحه وإيمانه مثال للفتوة القوية بتأييد الله وعزة الإسلام .
31- وعن أبي هريرة عن رسول الله (ص) أنه قال: «من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق» (رواه مسلم وأبو داود ونظائره كثيرة).
والأحاديث الكريمة والآيات القرآنية في تفصيل أحكام القتال أكثر من أن يحيط بها مجلد كبير وندلك على كتاب «العبرة فيما ورد عن رسول الله في الغزو والجهاد والهجرة» للسيد حسن صديق خان، وكتاب: «مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق» «ومثير الغرام إلى دار السلام» وما جاء في كتب الحديث كلها في باب الجهاد ففيها الكثير الطيب من هذا الباب، وما جاء في فقه السنة للسيد سابق في باب الجهاد.
حكم الجهاد عند فقهاء الأمة
1- قال صاحب مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر مقررًا أحكام الجهاد في مذهب الأحناف: «الجهاد في اللغة بذل ما في الوسع من القول والفعل، وفي الشريعة قتل الكفار ونحوه من ضربهم ونهب أموالهم وهدم معابدهم وكسر أصنامهم، والمراد الاجتهاد في تقوية الدين بنحو قتال الحربيين والذميين (إذا نقضوا) والمرتدين الذين هم أخبث الكفار للنقض بعد الإقرار، والباغين- بدأ منا- فرض كفاية، يعني يفرض علينا أن نبدأهم بالقتال بعد بلوغ الدعوة وإن لم يقاتلونا، فيجب على الإمام أن يبعث سرية إلى دار الحرب كل سنة مرة، أو مرتين، وعلى الرعية إعانته وإذا قام به بعض سقط عن الباقين، فإذا لم تقع الكفاية بذلك البعض وجب على الأقرب فالأقرب فإن لم تقع الكفاية إلا بجميع الناس فحينئذ صار فرض عين كالصلاة، أما الفريضة فلقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: 5] ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» وإن تركه الكل أثموا، إلى أن قال: فإن غلب العدو على بلد من بلاد الإسلام أو ناحية من نواحيها ففرض عين، فتخرج المرأة والعبد بلا إذن الزوج والمولى، وكذا يخرج الولد من غير إذن والديه والغريم بغير إذن دائنه.
وفي كتاب البحر: «امرأة مسلمة سُبِيَتْ بالمشرق وجب على أهل المغرب تخليصها ما لم تدخل حصونهم وحرزهم».
2- وقال صاحب: «بلغة السالك لأقرب المسالك في مذهب الإمام مالك» الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله تعالى كل سنة فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ويتعين (أي يصير فرض عين كالصلاة والصوم) بتعيين الإمام وبهجوم العدو على محلة قوم، فيتعين عليهم وعلى من يقربهم إن عجزوا، ويتعين على المرأة والرقيق مع هذه الحالة، ولو منعهم الولي والزوج والسيد ورب الدين إن كان مدينا، ويتعين أيضا بالنذر، وللوالدين المنع فيه في فرض الكفاية فقط، وفك الأسير من الحربيين إن لم يكن له مال يفك منه، فرض كفاية، وإن أتى على جميع أموال المسلمين».
3- وفي متن المنهاج للإمام النووي -الشافعي- كان الجهاد في عهد رسول الله (ص) فرض كفاية وقيل عين، وأما بعده فللكفار حالان:
أحدهما: يكونون ببلادهم فرض كفاية إذا فعله من فيهم الكفاية من المسلمين سقط الحرج عن الباقين. والثاني: يدخلون بلدة لنا فيلزم أهلها الدفع بالممكن، وإن أمكن تأهب لقتال وجب الممكن حتى على الفقير وولد ومدين وعبد بلا إذن.
4- وفي المعنى لابن قدامة الحنبلي قال: مسألة الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين ويتعين في ثلاثة مواضع:
(أ) إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف ويتعين عليه المقام.
(ب) إذا نزل الكفار ببلدة تعين على أهله قتالهم ودفعهم.
(ج) إذا استنفر الإمام قومًا لزمهم النفير معه.
قال أبو عبد الله: (يعني الإمام أحمد بن حنبل) لا أعلم شيئًا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد، وغزوة البحر أفضل من غزوة البر. قال أنس بن مالك : نام رسول الله (ص) ثم استيقظ وهو يضحك قالت أم حرام فقلت ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله يركبون ثيج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة» متفق عليه، ومن تمام الحديث أن أم حرام سألت النبي (ص) أن يدعو الله لها لتكون من هؤلاء فدعى لها فعمرت حتى ركبت البحر في أسطول المسلمين الذي فتح جزيرة قبرص، وماتت بها ودفنت فيها، وهناك مسجد ومشهد ينسب إليها رحمها الله ورضي عنها.
5- وقال في المحلى لابن حزم الظاهري -مسألة- والجهاد فرض على المسلمين فإذا قام به من يدفع العدو ويغزوهم في عقر دارهم ويحمي ثغور المسلمين سقط فرضه عن الباقين، وإلا فلا. قال الله تعالى: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 41] ولا يجوز إلا بإذن الأبوين إلا أن ينزل العدو بقوم من المسلمين، ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم معينًا لهم أذن الأبوان أم لم يأذنا إلا أن يضيعا أو أحدهما بعده فلا يحل له ترك من يضيع منهما.
6- وقال الشوكاني في السيل الجرار: «الأدلة الواردة في فرضية الجهاد كتابًا وسنة أكثر من أن تكتب ها هنا، ولكن لا يجب ذلك إلا على الكفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عين على كل مكلف، وهكذا يجب على من استنفره الإمام أن ينفر ويتعين ذلك عليه.
الخلاصة:
هاأنت ذا ترى من ذلك كله كيف أجمع أهل العلم مجتهدين ومقلدين، سلفيين وخلفيين على أن الجهاد فرض كفاية على الأمة الإسلامية لنشر الدعوة، وفرض عين لدفع هجوم الكفار عليها.
والمسلمون الآن كما تعلم مستذلون لغيرهم، محكومون بالكفار، قد ديست أرضهم وانتهكت حرماتهم، وتحكم في شئونهم خصامهم، وتعطلت شعائر دينهم في ديارهم، فضلا عن عجزهم عن نشر دعوتهم. فوجب وجبوًا عينيًا لا مناص أن يتجهز كل مسلم وأن ينطوي على نية الجهاد وإعداد العدة له حتى تحين الفرصة ويقضي الله أمرًا كان مفعولا.
ولعل من تمام هذا البحث أن أذكر لك أن المسلمين في أي عصر من عصورهم قبل هذا العصر المظلم الذي ماتت فيه نخوتهم، لم يتركوا الجهاد، ولم يفرطوا فيه، حتى علماؤهم والمتصوفة منهم والمحترفون وغيرهم، فكان جميعًا على أهبة الاستعداد، كان عبد الله بن المبارك الفقيه الزاهد متطوعا في أكثر أوقاته بالجهاد، وكان الواحد بن زيد الصوفي الزاهد كذلك، وكان شقيق البلخي شيخ الصوفية في وقته يحمل نفسه وتلامذته على الجهاد، وكان البدر العيني شارح البخاري الفقيه المحدث يغزو سنة ويدرس العلم سنة ويحج سنة، وكان القاضي أسد بن الفرات المالكي أميرًا للبحر في وقته، وكان الإمام الشافعي يرمي عشرة ولا يخطئ.
كذلك كان السلف رضوان الله عليهم، فأين نحن من هذا التاريخ؟ آن لي أن أقول كان فضيلة الشيخ سيد سابق غازيًا مع أول مجموعة من متطوعي النظام الخاص في حرب فلسطين سنة 1948 من الإخوان المسلمين ، محييًا بذلك سيرة السلف من العلماء والعارفين.
لماذا يقاتل المسلم ؟
فرض الله الجهاد على المسلمين لا أداة للعدوان، ولا وسيلة للمطامع الشخصية، ولكن حماية للدعوة وضمانًا للسلم وأداء للرسالة الكبرى التي حمل عبئها المسلمون، رسالة هداية الناس إلى الحق والعدل، وأن الإسلام كما فرض القتال أشاد بالسلام فقال الحق تبارك وتعالى: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 61، 61].
كان المسلم يخرج للقتال وفي نفسه أمر واحد أن يجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، وقد فرض دينه عليه أن لا يخلط بهذا المقصد غاية أخرى، فحب الجاه عليه حرام، وحب الظهور عليه حرام، وحب المال عليه حرام، والغلول من الغنيمة عليه حرام، وقصد الغلب بغير الحق عليه حرام، والحلال أمر واحد أن يقد دمه وروحه فداء لعقيدته وهداية للناس.
عن الحارث بن مسلم بن الحارث عن أبيه قال: بعثنا رسول الله (ص) في سرية، فلما بلغنا المغار استحثت فرسي، فسبقت أصحابي، فتلقاني أهل الحي بالرنين، فقلت لهم قولوا لا إله إلا الله تحرزوا، فقالوها، فلامني أصحابي وقالوا حرمتنا الغنيمة، فلما قدمنا على رسول الله (ص)أخبروه بالذي صنعت، فدعاني فحسن لي ما صنعت ثم قال لي: ألا إن الله تعالى قد كتب لكل إنسان كذا وكذا من الأجر، وقال: أما إني سأكتب لك بالوصاية بعدي ففعل وختم عليه ودفعه إلي» (أخرجه أبو داود).
وعن شداد بن الهادي : أن رجلا من الأعراب جاء فآمن بالنبي (ص) ثم قال أهاجر معك، فأوصى به النبي (ص) بعض أصحابه، فكانت غزاة غنم فيها النبي (ص) شيئا فقسم وقسم له، فقال: ما هذا؟ فقال قسمته لك. فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمي إلى ههنا -وأشار بيده إلى حلقة- بسهم فأموت فأدخل الجنة. قال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتى به النبي محمولا وقد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي (ص) أهو هو؟ ثم قدمه فصلى عليه فكان مما ظهر من صلاته: «اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدًا وأنا شهيد على ذلك» (أخرجه النسائي).
وعن أبي هريرة (ص) أن رجلا قال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضًا من الدنيا، فقال: لا أجر له. فأعادها عليه ثلاثا كل ذلك يقول: «لا أجر له» (أخرجه أبو داود).
وعن أبي موسى (ص) قال: سئل رسول الله (ص)عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سيبل الله؟
قال (ص) : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (أخرجه الخمسة).
وأنت إذا قرأت وقائع الصحابة رضوان الله عليهم ومسالكهم في البلاد التي فتحوها رأيت مبلغ عزوفهم عن المطامع والأهواء، وانصرافهم لغايتهم الأساسية الأصيلة وهي إرشاد الخلق إلى الحق حتى تكون كلمة الله هي العليا، ورأيت مبلغ الخطأ في اتهامهم رضوان الله عليهم بأنهم إنما كانوا يريدون الغلب على الشعوب والاستبداد بالأمم والحصول على الأرزاق.
الرحمة في الجهاد الإسلامي
لما كانت الغاية في الجهاد الإسلامي أنبل الغايات، كانت وسيلته كذلك أفضل الوسائل، فقد حرم الله العدوان، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190].
وأمر بالعدل حتى مع الأعداء والخصوم فقال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8].
وأرشد المسلمين إلى منتهى الرحمة، فهم حينما يقاتلون لا يعتدون ولا يفجرون ولا يمثلون ولا يسرقون، ولا ينتهبون الأموال، ولا ينتهكون الحرمات، ولا يتقدمون بالأذى، فهم في حربهم خير المحاربين، كما أنهم في سلمهم أفضل مسالمين.
عن بريدة قال: كان رسول الله (ص)إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلو ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا» (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): «إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه» (أخرجه الشيخان).
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله (ص): «أعف الناس قتلة أهل الإيمان» (أخرجه أبو داود).
وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري قال: «نهى رسول الله (ص) عن النهب والمثلة» (أخرجه البخاري).
كما ورد النهي عن قتل النساء والصبيان والشيوخ والإجهاز على الجرحى وإهاجة الرهبان والمنعزلين ومن لا يقاتل من المؤمنين، فأين هذه الرحمة من غارات المتمدينين المدمرة المهلكة للحرث والنسل؟ وأين قانونهم الدولي من هذا العدل الرباني الشامل؟ وأقول وما قنابل هيروشيما وناجازاكي عنا ببعيد!!!
اللهم فقه المسلمين في دينهم وأنقذ العالم من هذه الظلمات بأنوار الإسلام .
الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر
شاع بين كثير من المسلمين أن قتال العدو هو الجهاد الأصغر وأن هناك جهادًا أكبر هو جهاد النفس، وكثير منهم يستدل لذلك بما يروي في الأثر: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب أو جهاد النفس».
وبعضهم يحاول بهذا أن يصرف الناس عن أهمية القتال والاستعداد له ونية الجهاد والأخذ في سبيله، فأما هذا الأثر فليس بحديث على الصحيح، قال الحافظ بن حجر في تسديد القوس: (هو مشهور على الألسنة وهو من كلام إبراهيم بن عبله).
وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: رواه البيهقي بسند ضعيف عن جابر ورواه الخطيب في تاريخه عن جابر، على أنه لو صح فليس يعطي أبدًا الانصراف عن الجهاد والاستعداد لإنقاذ بلاد المسلمين، ورد عادية أهل الكفر عنها، وإنما يكون معناه وجوب مجاهدة النفس حتى تخلص لله في كل عملها ومنه الجهاد فليعلم.
ما يلحق بالجهاد:
هناك أمور تلحق بالجهاد منها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد جاء في الحديث: «إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر».
ولكن شيئا لا يوجب لصاحبه الشهادة الكبرى وثواب المجاهدين إلا أن يقتل أو يقتل في سبيل الله.
خاتمة : رسالةالجهاد للإمام الشهيد الأستاذ حسن البنا
لعل أبلغ ما نقدم به موضوع الجهاد في شريعة الإسلام هو رسالة الجهاد، كما كتبها الإمام الشهيد الأستاذ: حسن البنا مع تصرف بسيط في حدود المسموح به، لأنها تلقي الضوء على فكر الإخوان المسلمين ، ومصادر هذا الفكر من الشريعة الإسلامية، خاصة وأن رسالة الجهاد هي نفسها رسالة النظام الخاص في دعوة الإخوان المسلمين كما رآها قائد هذه الدعوة وفقهها، وفقه فيها إخوانه المسلمين، وهي رسالة منشورة وموفورة لمن أراد الرجوع إلى أصلها في معظم المكتبات.
يقول فيها :
أيها الإخوان : إن الأمة التي تحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهم الذي أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت، فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة، واعلموا أن الموت لا بد منه وأنه لا يكون إلا مرة واحدة، فإن جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربح الدنيا وثواب الآخرة، وما يصيبكم إلا ما كتب الله لكم، وتدبروا جيدا قول الله تبارك وتعالى ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 154].
فاعملوا للموتة الكريمة تظفروا بالسعادة الكاملة. رزقنا الله وإياكم كرامة الاستشهاد في سبيله.
رثاء المؤلف للإمام الشهيد:
لا بد لي يا أخي في الله، الإمام الشهيد وأنا أسطر آخر سطر في رسالتك الفياضة عن الجهاد أن أرثيك بما شهدته منك من حق وصدق.
فقد علمتنا يرحمك الله أصول ديننا التي غيبتها عنا البرامج الدراسية منذ الصغر حتى صرنا رجالا بالغين، ولولا وجودك بيننا لبقينا كما بقي غيرنا ممن لم يتصلوا بدعوتك، واقتصروا على علوم الدنيا، حتى بلغوا أرقى الدرجات العلمية، جهلة بأمر هذا الدين الحنيف وأوامره الحقة ونواهيه، ولكنا مثل الكثير منهم، حربًا على دعاة الإسلام من فرط جهلنا بما هو الإسلام ونحن نحسب أننا من المحسنين!!
لقد أخذنا عنك أن الجهاد فرض عين في هذا الزمان المظلم من حياة المسلمين وعلمنا أنك قد صدقتنا، فعاهدنا الله على الجهاد في سيله حتى نلقاه أو نلهك دون دعوته.
لقد رأينا فيك الداعية الصادق المجاهد الذي صدق الله وهو يدعو لنفسه ولنا أن يرزقنا الشهادة، وكان تصميمك في فبراير 1948 على الخروج إلى فلسطين مجاهدًا ومن معك من الإخوان المسلمين ، لا تعود حتى تنال الشهادة أو تتحرر فلسطين دليل صدقك لله في دعوتك ولولا أن كفيناك ذلك في هذه الأيام لكنت أول الخارجين إلى الجهاد في سبيل الله.
لقد صدقك الله حين صدقته فرزقك أجمل الشهادات وأبهاها في سبيله، شهادة أهرق فيه دمك الزكي الطاهر على أرض شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليًا) ليسجل للناس كافة أن حكام هذا الزمان ليسوا إلا عصابة من المجرمين السفاكين القتلة، الخائنين للعهد والأمانة، وقد أتقنوا تضليل الناس عن حقيقتهم، حتى كشفتها شهادتك واضحة راسخة، مؤكدة لا يختلف فيها اثنان، وبقي على الناس أن يسيروا على دربك حتى ينتصر الإسلام ويعود له عزه.
يرحمك الله يا أخي الإمام الشهيد رحمة واسعة ويفسح لك في جناته، ويلحقنا بك في الصالحين آمين.
الفصل الثاني
- التعرف على الزميل مصطفى مشهور..
- البيعة.
- تكوين جيش مسلم..
- المحكمة تبرئ جماعة الإخوان المسلمين..
- من قتل محمود النقراشي باشا.
- المحكمة تعلن أن تهمة تدخل الجماعة الدينية في السياسة لا تتفق مع الحقيقة المعلومة أن الإسلام دين ودولة..
- براءة النظام الخاص..
- المحكمة تواجه النيابة بأنها تحمل الألفاظ أمورًا لا تحتملها بغير أساس على الإطلاق..
- المحكمة تقرر أن التهم المسندة إلى المتهمين لا أساس لها على الإطلاق..
- المحكمة تبرئ جميع المتهمين من تهمة إحراز أجهزة لاسلكية..
- فشل محاولة حرق أوراق السيارة الجيب..
- ضبط السيارة الجيب كان تدبيرًا سماويًا لحماية الدعوة.
مقدمة
لقد علمنا الإمام الشهيد ضمن ما علمنا من الأذكار والأوراد، ورد المحاسبة وهو استعراض أعمال اليوم ساعة النوم، فإن وجد الأخ خيرًا فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فليستغفر وليسأل ربه، ثم يجدد التوبة وينام على أفضل العزائم .
وعلى هذا الدرب أجد نفسي مضطرًا لأن أحاسبها وأنا في خريف العمر أقرب ما أكون إلى ساعة الرقدة الأخيرة، من هذه الدنيا، حسابا علنيًا، لا أبتغي منه إلا تصحيح الحقائق عن النظام الخاص للإخوان المسلمين، التي تكلم عنها رجال من صفوة الإخوان المسلمين ، فغيبوها، لا لشيء إلا لأنهم باعترافهم لم يكونوا من أعضاء هذا النظام، وإن كانوا من قادة الإخوان المسلمين ، بل ومنهم مرشدهم الثالث فضيلة الأخ الكريم الأستاذ عمر التلمساني يرحمه الله.
ولقد قضيت ثلاثة وثلاثين عامًا متصلة أقتصر على تصحيح هذه الحقائق شفاهة لمن تحدث معي فيها من الإخوان المسلمين ، وكتابة لجميع أعضاء الهيئة التأسيسية و مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين عام 1953، من قبل أن تصيبهم هجمة عبد الناصر الشرسة عليهم عام 1954 وكان ذلك يكفيني رضى عن قيامي بواجبي، لولا أن تعرض عدد من قادة الإخوان المسلمين حاليًا للكتابة عن هذا النظام في الجرائد السيارة والمجلات الأسبوعية، بل وفي كتبهم المؤلفة بما لم يحيطوا بعلمه، إلا أنهم باعترافهم وكما قلت من قبل لم يكونوا في يوم من الأيام أعضاء في هذا النظام، فأني لهم بالحقيقة وطبيعة هذا النظام السرية التامة إلا على أعضائه المؤسسين والمنفذين؟
ولقد كنت أتمنى أن يعفيني الله من هذا الحساب العلني الشاق، لو مد الله في عمر فقيدنا الكريم المرحوم الأستاذ عمر التلمساني، فتلقى خطابي المفتوح الذي أرسلته إليه عن طريق جريدة الشرق الأوسط، باعتبارها أولى الجرائد الكبرى التي نشرت مذكرات فضيلته ومست هذا الموضوع إذن لكان رده على خطابي يكفيني مئونة هذا العناء، ولكن إرادة الله غالبة وقضاؤه حتمي لا راد له إلا هو، والخير فيما اختاره رب العالمين.
التعرف على الزميل مصطفى مشهور مشهور
شاء قدري الطيب أن أكون جارا في الفصل الدراسي بمدرسة الزقازيق الثانوية لتلميذ من سن ي هو التلميذ مصطفى مشهور مشهور، وكنا حينئذ لم نتجاوز الثانية عشرة من أعمارنا بالسنة الأولى الثانوية، ولكن صحبتي ل مصطفى في هذا العام لم تدم إلا شهرًا واحدًا أو أكثر قليلا حيث حول قيده من الزقازيق الثانوية إلى العباسية الثانوية منتقلاً بذلك من الحياة في مديرية الشرقية إلى الحياة في مدينة القاهرة، ولم يجمعني بهذا التلميذ الزميل إلا براءة الطفولة، فكنا أحبابًا نستمع إلى دروسنا، ونلعب سويًا في أوقات الفسحة، بقطعة من الطوب، نتمثلها كرة قدم، يلاعب كل منا صاحبه ليظفر منه بالكرة كلما استطاع حتى نهاية الفسحة.
وانتهت دراستي الثانوية سنة 1938 منطويًا عن أي مجال في الخدمة العامة للأسباب التي أوضحتها في الفصل الأول من هذا الكتاب. اللهم إلا العلاقات الشخصية مع زملائي وأقراني في المدرسة أو المسجد أو القرية حيث أسسنا فريقًا لكرة القدم أطلقنا عليه اسم فريق أحمد عرابي باشا مثلما سبقت الإشارة إليه.
والتحقت بكلية العلوم شعبة الرياضة والفيزياء في هذا العام بقدر رباني هو أقرب ما يكون إلى الأحداث العجيبة، التي يحمل ذكرها لما تحمله من عرض لبعض ظروف الوطن السياسية والاقتصادية وأثر ذلك على الحياة العامة في ذلك الزمان.
فقد كان والدي من تجار القطن المصدرين الذين تأثروا بانخفاض أسعار القطن تأثرًا كبيرًا، ولكنه استمر يعمل في هذا المجال قدر جهده محتفظًا بعلاقات الصداقة القديمة مع كبا التجار الذين نالوا حظا أوفر من هذه التجارة، وكان من أبرز أصدقائه منهم عبد العزيز رضوان باشا.
وحدث ذات يوم أن صحبني والدي في إحدى زياراته لعبد العزيز باشا، فلما تعرف علي تعجب أكبر العجب من هذا التلميذ الذي يراه صغيرًا جدًا، ولكنه طالب بشهادة البكالوريا، وصمم على أن يأخذني معه إلى صديقه المرحوم بهي الدين بركات باشا وزير المعارف حينئذ ليطلعه على هذه الظاهرة العجيبة -من وجهة نظره طبعًا- ولم يكن أمامي أنا وأبي أمام مظاهر ابتهاج عبد العزيز باشا بمقابلتي وتصميمه على عرضي على وزير المعارف إلا أن نقبل عرضه كمتفرجين.
وفوجئت بعد العرض بقرار من وزير المعارف بمنحي مجانية كاملة دائمة بمدرسة الزقازيق الثانوية، رغم أنني كنت أوشكت على اتمام الدراسة بها، ودفعت فعلا القسط الأول والقسط الثاني ورسوم الامتحان للسنة النهائية بها، ولكن أبي فكر أن يستفيد بهذا القرار أكبر فائدة ممكنة، فقال لي اسمع يامحمود: أنت الآن لا تزال صغير السن، وليس لنا أقارب في القاهرة يمكن أن اعتمد عليهم في رعايتك إذا أنت نجحت هذا العام والتحقت بالجامعة، وما دامت مجانيتك كاملة دائمة، فأرى أن تعيد السنة النهائية مرة ثانية بالزقازيق الثانوية، لتدخل الجامعة في سن أكبر يمكنك معها تحمل مسئولية حياتك وحيدًا في الغربة، وسوف لا نتكلف شيئا بسبب هذه الإعادة لأن مصاريف هذه السنة ستكون على نفقة الحكومة بقرار الوزير الأخير.
ورحبت باقتراح أبي وأخذت حظي من الراحة واللعب حتى قرب الامتحان، ولم يبق عليه إلا أسبوع، فعمدت إلى مراجعة سريعة للمواد حتى لا أضطر أن اترك ورق الإجابة فارغًا عند الامتحان حفاظًا لماء وجهي أمام المراقبين، ودخلت الامتحان ولم انتظر النتيجة حتى مضى على ظهورها أكثر من أسبوعين دون أن أعلم، وفي غروب اليوم السادس عشر لظهور النتيجة فوجئت عند دخولي القرية بعد يوم من المرح والرياضة على شاطئ الترعة الكبيرة، ببدال من القرية هو صاحب أول دكان عند دخولها يقول لي مبروك يا أستاذ محمود لقد نجحت، الفراش ينتظرك بالمنزل ليأخذ بشرى النجاح.
ذهلت من هذا الخبر غير المتوقع، ولما لاحظ الفراش ذهولي اعتقد أنني أتظاهر بذلك لأهرب من بشرى النجاح، فنفيت له اعتقاده وأكدت له ما لا يعقله بشر في ذلك الوقت وهو أنني فعلا لم أطلع على النتيجة إلى اليوم، وأنني أشك كثيرًا في معلوماته خاصة وأنه ذكر لي أنباء عجيبة أولها أن كلا من الزملاء الزميل محمد عبد المعبود الجبيلي- وزير الطاقة الذرية فيما بعد – والزميل ميشيل صليب قد فاز بترتيب الثاني مكرر على المملكة في شعبة العلوم، ولم يكن لأي منهما اسم بارز بين المتفوقين في المدرسة في حدود علمي، وثانيها أن الزميل محمد إبراهيم ناصر وكان دائما الأول على مديرية الشرقية، وأبرز طلبة المدرسة تفوقًا واقتدارًا جاء ترتيبه الثامن على المملكة في شعبة الرياضة، وأنه غاضب أشد الغضب من هذه النتيجة وقد قرر أن يدخل امتحان شعبة العلوم في الدور الثاني ليحصل على الترتيب الأول وعلى المملكة، فتفوقه على كل من الثاني مكرر في شعبة العلوم أمر معلوم وظاهر لكل طلبة المدرسة لأن ترتيبه كان الأول دائما على جميع طلبة المدرسة طوال السنوات الدراسية بها، كما كان ترتيبه الأول على مديرية الشرقية في شهادة إتمام الدراسة الابتدائية أو ثالث هذه الأنباء العجيبة فإن الزميل إبراهيم حسن عوض وكان ترتيبه الأول على فصلي الدراسي في السنة النهائية في الامتحانات الشهرية قدر سب، فهل يمكن بعد كل هذا التناقض في النتائج التي يقول بها فراش المدرسة أن أصدق أني نجحت؟
انتظر المسكين في منزلنا حتى عثرت على جريدة نشرت النتيجة في منزل سماحة الشيخ السيد أحمد أمين المصيلحي شيخ الطريقة الصوفية بهرية رزنه وتحققت من صدق الرجل فأعطيته البشرى بعد أن عطلته ساعة أو أكثر وقف راجعًا إلى الزقازيق في رضى ظاهر والحمد لله، ولما حان موعد القبول في الجامعة ظهر أن مجموعي وكان بطبيعة الحال أقرب ما يكون إلى الحد الأدنى (1.5%)، لا يؤهلني لدخول كلية من الكليات العلمية.
فعميد كلية العلوم المرحوم علي مصطفى مشرفه باشا لم يقبل إلا ثمانية طلبة في شعبة الرياضة من عدد الطلبة الناجحين في هذه الشعبة في هذا العام، والذين يربو عددهم على ألفين من الطلاب، وقد شاهد أبي هؤلاء الثمانية واقفين كالزهرة داخل حرم كلية العلوم يتحدثون في شأن قرار الكلية بقبولهم دون سواهم من الناجحين، وقد كان المتحدث منهم هو الزميل محي الدين السنباطي الفائز بالترتيب الثاني على المملكة في هذه الشعبة لهذا العام، وكان يقول مؤيدًا لقرار العميد: إن كلية العلوم مختصة بتخريج العلماء، وتأهيلهم يكلف الدولة أموالا طائلة ومن حق العميد أن يقتصر على قبول هذا العدد، ليضمن تأهيلهم كعلماء، أما المستويات الأدنى فأمامهم كلية التربية، يؤدون منها رسالة التعليم للأجيال القادمة.
وكان تقدير والدي لهذا المنطق القوي الذي يسمعه من زميل في نفس المرحلة التي أمر بها تقديرًا عظيمًا إلى حد أن قرصني إعجابا به وهو يقول شايف الأولاد العباقرة، وكأنه نسى أنه هو الذي أمرني بالرسوب هذا العام، وأنني نجحت مع الأسف رغم إرادتي.
ولكن العجيب أنني قبلت في كلية العلوم شبعة الرياضة والفيزياء في نفس العام ولم أقبل وحدي، بل قبل معي كل الطلبة الراغبين في الالتحاق بكلية العلوم، واضطروا إلى الالتحاق بكليات أخرى لعدم حصولهم على التقدير المعتمد من عميد الكلية، إلى أن حولوا جميعًا إلى كلية العلوم وقبلوا بها بقرار من الأستاذ أحمد نجيب الهلالي باشا وزير المعارف حينئذ والرئيس الأعلى للجامعات رغم أنف عميد الكلية!!
وكان القدر العجيب الذي أدى إلى هذا القرار هو مصادفة أن يكون هذا العام هو عام الخلاف بين مكرم عبيد باشا و مصطفى النحاس باشا وانشقاق الأول من حزب الوفد وتشكيله حزبًا جديدًا أطلق عليه اسم الكتلة الوفدية.
وقد علم أولياء أمور الطلبة الوفديين الراغبين في الالتحاق بكلية العلوم ولكنهم لم ينالوه، بأن هناك صداقة فنية بين كل من على مصطفى مشرفة باشا ومكرم عبيد باشا، فقد كان على مصطفى مشرفة باشا من أمهر لاعبي البيانو لعلاقة هذه اللعبة بتخصصه العلمي العالي في الرياضة البحتة والرياضة التطبيقية، أما مكرم عبيد باشا فقد كان رخيم الصوت محبًا للغناء، ولم يكن في الإمكان أن يمارس هذان العملاقان هوايتهما إلا على المستوى الفردي داخل مساكنهما، مما جعل الارتباط الشخصي وثيقًا بينهما في هذا المجال.
استغل أولياء أمور الطلبة الوفديين هذه العلاقة وتوجهوا إلى وزير المعارف أحمد نجيب الهلالي باشا وكانت حكومته هي حكومة الوفد، وقالوا له تصور يا باشا أن على مصطفى مشرفة باشا -فيما بعد- يعمل على كراهية الشعبللوفد بكل جهده وبسبب صداقته الحميمة لمكرم عبيد باشا، فلم يقبل في كليته من جميع أنحاء القطر في شعبة الرياضة إلا ثمانية طلاب فقط ليثير الناس ضد الحزب، وما هذا الافتراء؟ فتحمس الهلالي باشا دفاعًا عن حزبه واتخذ قراره بقبول كل من نجح في هذا العام في شعبة الرياضة طالبًا بكلية العلوم، وتنفذ القرار، وكان ذلك بعد شهرين من بدء الدراسة فتحول إلى الكلية ثمانون طالبًا بشعبة الرياضة، وقبلت معهم حيث لم أكن قدمت أوراقي لكلية أخرى غير كلية العلوم. وكأن القدر الرباني قد رتب ذلك الأمر لحكمة لا يعلمها إلا الله، أن ألتقي في هذه الكلية بزميل صباي في مدرسة الزقازيق الثانوية مصطفى مشهور مشهور الذي كان سببًا في التغيير الشامل لمجري حياتي.
اللقاء الثاني بمصطفى مشهور والبيعة
كان مصطفى مشهور قد تخلف عني سنة كاملة في دراسته لظروف لا أعلمها، ولكني لاحظت ذلك عند تخلفي في السنة الأولى لكلية العلوم، ومشاهدتي لمصطفى مشهور طالبًا مستجدًا معي في نفس الشعبة في السنة المعادة، وقد قبل في الكلية لتفوقه ونال منها عند القبول مكافأة دراسية قدرها عشرون جنيهًا لحصوله على التقدير اللازم لنيل هذه المكافأة في امتحان تجريه الكلية للمستجدين في اللغة الإنجليزية.
أما أنا فقد كان رسوبي في أول عام بالكلية سببًا مباشرًا للقائي بأخي مصطفى، ولو نجحت لكنت في السنة الثانية وكان هو في السنة الأولى وقد لا نلتقي، كما أن رسوبي هذا كان سببًا في تفوقي في السنة المعادة وحصولي على تقدير يؤهلني إلى مجانية كاملة بكلية العلوم حافظت عليها بحمد الله حتى التخرج، يرحم الله عالم مصر العالمي الدكتور علي مصطفى مشرفة باشا، فقد كان عالمًا عادلاً صادقًا يضع القواعد الصحيحة وينفذها دون استثناء، إلا أن يجبر على غير ذلك إجبارًا يرفع عنه المسئولية والحرج، كما حدث له مع قرار الهلالي باشا الأخير.
وكانت من القواعد التي وضعها هي استحقاق الطالب الذي يحصل على أكثر من 75% في الامتحان النهائي لأي سنة دراسية بالكلية على مجانية كاملة للعام التالي، وذلك بدون أن يتقدم بطلب رسمي لينال هذه المجانية، وتستمر معه هذه المجانية إذا حافظ على هذا المستوى في السنوات التالية، وترفع نهائيًا أو تخفض نسبتها إذا حصل على معدلات أقل في أي سنة من السنين وفقًا لقواعد حددها وأعلنها بالكلية، وكان أن تمتعت بإتمام دراستي بالكلية مجانا رحمة من الله بوالدي الذي كان حريصًا على إتمام تعليمي وكانت هذه المجانية عاملا مخففًا لأداء هذا الغرض المنشود، والحمد لله رب العالمين.
عرفت مصطفى فور وقوع نظري عليه، ولكنه لم يذكرني، فقد كانت صحبتنا السابقة لفترة وجيزة ونحن في مقتبل العمر، افترقنا بعدها ست سنوات كاملة، ولكن عندما ذكرته بزمالتنا في الزقازيق الثانوية تذكرها وصرنا أصدقاء.
لاحظ مصطفى انطوائي بالكلية إلا مع القلة التي ألفتها وألفتني كما لاحظ انصرافي من الدراسة إلى المنزل في انتظام رتيب لا يتخلله وقت ضائع أو لهو فارغ، فتخيل أنه يستطيع أن يضمني إلى الإخوان المسلمين التي سبقت عضويته فيها دون أن أعلم عندما انتقل من الزقازيق إلى القاهرة، ولما اطمأن إلى سلامة ما رأى فاتحني في الموضوع فواجهته برأي السابق في كل الأحزاب والجماعات العاملة في الحقل السياسي العام بمصر ، ومن أنها جميعًا لا تعدو أن تكون واجهات مختلفة الأسلوب للحكم الاستعماري من وراء ستار، الذي ابتدعه الإنجليز، وأتقنوا احترافه، ولكنه رد علي قائلاً إن الإخوان لم يستهدفوا أن يصلوا إلى الحكم في ظل الاستعمار في يوم من الأيام، وأنهم جادون في محاربة الإنجليز، ومقاومتهم بقوة السلاح حتى يجلوا عن أرض مصر تطبيقًا للشريعة الإسلامية التي جعلت الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة، من المصريين في هذه الظروف التي يحتل فيها العدو الكافر أرضهم المسلمة، فقلت له إن المستحيل نفسه هو أن يسمح الإنجليز بأن يستمر نشاط مثل هذه الجماعة، وهم يعلمون عزمها على إجلائهم، وما دامت هذه الجماعة تحيا وتنشط على أرض مصر تحت سمع الإنجليز وبصرهم، فلابد أن يكون هناك في الأمر سرًا بين قادتها وبين الإنجليز، ولكنه بادرني بآيات القرآن الكريم كنت أسمعها لأول مرة في حياتي مثل: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60].
وغيرها من الآيات الكثيرة التي علمها الإمام الشهيد للإخوان المسلمين في رسالته عن الجهاد والتي ذكرناها في الفصل الأول من هذا الكتاب، وكنت أستمع لهذه الآيات وأحس بمعانيها لأول مرة في حياتي، حتى أني تعجبت أن يكون في القرآن مثل هذه الآيات، وأن يغفلها المسلمون كل هذا الإغفال، حتى صاروا مستسلمين للكفار يأتمرون بأمرهم ويسعون لودهم، ما وسعهم السعي، في تسابق ملحوظ بين القادة والمفكرين وأولى الرأي منهم، تجنبًا لغضبهم، وطمعًا في دنياهم، ولم أخف هذا العجب العجاب عن أخي مصطفى، فقد عشت حتى بلغت سن الرشد في قرية مسلمة كأحسن ما يكون المسلمون، وتعلمت في مدارس مسلمة كأحسن ما يكون الإسلام ، نتلقى حصص الدين، وندعى إلى الصلاة في مسجد المدرسة، ولم أسمع، ولم أحس طوال هذه المدة من حياتي أن في الإسلام جهاد.
كان انطباعي عن الإسلام الذي نقلته عن كل ما قرأت وسمعت منذ نعومة أظفاري، وحتى دخولي الجامعة، أنه الإيمان بالله ربا وبمحمد (ص) رسولاً، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، وكانت كل الآيات القرآنية التي أسمعها من خطباء المسجد وفي صلواتهم، وأحفظها من المقررات الدينية في المدارس الابتدائية والثانوية، لا تخرج عن تثبيت هذه المعاني التي بنى عليها الإسلام ، مع الدعوة إلى تزكية النفس وتطهيرها وحسن التعامل والأدب مع الله ومع الناس، وكنت بهذا كله فخورًا بديني سعيدًا به، وأتمسك به عن اقتناع صادق، لا عن إرث منقول، وأطبقه كما علمت ما وفقني الله فيه من التطبيق على نفسي.
فلما فاجأني مصطفى بهذا العنصر الهام من عناصر الشريعة الإسلامية بنصوص القرآن الكريم، صدقت بقول الله جل وعلا، واستبعدت أن يكون على أرض مصر من يعمل على تطبيق هذه النصوص، ودعاني مصطفى لزيارة المركز العام للإخوان المسلمين مرة واحدة لأستمع إلى الإمام الشهيد ثم أحكم بما أرى وأسمع بعد ذلك، وما على من تثريب، فقبلت الدعوة مؤكدًا له أنني سأكشف له عن جوانب تؤيد وجهة نظري عندما أرى وأسمع ما شاء لي أن أراه وأن أسمعه.
والتقينا في المركز العام وكان ذلك عام 1939، وكان هذا المركز لا يزال محدودًا في الدار القديمة بالحلمية الجديدة، ورأيت الإمام الشهيد لأول مرة في حياتي يشرح الإسلام ودعوته لعدد لا يزيد على العشرة من طلبة الجامعة يجلسون على مقاعد خشبية قديمة، بينما يجلس الأستاذ على كرسي خيرزان عادي وأمامه منضدة خشبية قديمة، ولكن ما كان يسوقه من آيات بينات رسمها الله للمسلمين شرعة ومنهاجًا في هذه الحياة، تعالج ما نحن فيه في زماننا الحالي رغم نزولها منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، وكأنها مفصلة تفصيلا لعلاج أمورنا وتغيير أحوالنا في العصر الحديث على أحسن ما يكون العلاج، وإلى أرقى ما يمكن أن ترتفع إليه الأحوال، في صدق ظاهر وإيمان عميق، وعزم أكيد كان وكأنه نور ساطع يشع بأن الرجل لا يتكلم عن هوى، فهو لم ينسب لنفسه في دعوته رأيًا أو فكرة، وإنما كان يسوق إلينا أوامر الله وشريعته منسوبة إلى منزل الكتاب في آيات ثابتة من القرآن الكريم وأحاديث صحيحة عن نبيه الكريم لم تدع مجالاً لمجتهد، بل جاءت كاملة مفصلة لا ينقصها إلا العزم الأكيد على الأتباع والتنفيذ -خرجت وأنا أقول ولماذا التباطؤ في التنفيذ؟ وهو عبادة يفرضها علينا رب العالمين- خرجت مسلمًا صحيح الإسلام - عضوًا في جماعة الإخوان المسلمين دون أن أكتب استمارة عضوية أو أدفع اشتركًا شهريًا أو سنويًا، أبحث مع مصطفى وسيلة التنفيذ.
تكوين جيش مسلم
كانت وسيلة التنفيذ بأتباع ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله واضحة ظاهرة، حيث لا بد لمقاتلة العدو، من جيش مسلم معد بسلاح يتناسب مع أسلحة العدو، ولكن قدر الاستطاعة، فلم يكلفنا ربنا غير حدود الاستطاعة، وكان النصر مؤكدًا لو أننا صدقنا الله، فذلك وعده المحتوم لمن ينصره من الصادقين، وهو الله الذي هو على كل شيء قدير، وقد أكدت ذلك لمصطفى.
فعرفني على أخي في الله المرحوم الأستاذ عبد الرحمن السندي بصفته المسئول عن إعداد هذا الجيش المسلم في تنظيم الإخوان المسلمين ، وقد كان يرحمه الله فتى صادق الوعد، قوي العزم، رقيق الحس، ملتزمًا بدينه كأحسن ما يكون الالتزام وأوفى، ولا أزكي على الله أحدًا، وسريعًا ما استقر عزمنا على ضرورة وضع القواعد التنظيمية لهذا الجيش المسلم إعمالا لقول نبينا الكريم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» خاصة وأن الأمر جد لا هزل فيه، وأن القوانين التي تحكم مصر قد صيغت كلها لتجريم أي عمل يستهدف المقاومة المسلحة للعدو، حتى ولو كان كلام لم يصحبه عمل أو تنفيذ.
ولعل من عظيم تدبير الله وحكمته أن يكتمل بناء هذا الجيش، وأن يوفقنا الله إلى القيام بكثير من الأعمال الفدائية التي ألهبت ظهر العدو، وأجبرته على الجلاء عن أرض مصر وأوقعت الخسائر بالصهاينة قدر ما سمحت به ظروف العمل الوطني في مصر ، التي حكمتها المكائد الدولية بجبروتها، والانحرافات المحلية بمخازيها، فاستطاع الصهاينة الاستمرار حتى اليوم جاثمين فوق أرض الوطن العزيز، يدعمهم ويثبت قواعدهم ما يقع فيه أبناء هذا الوطن من أخطاء جسام، متباعدين عن شريعتهم السمحة، بل ومعادين لها أشد العداء وكأن الأبصار قد عميت، والقلوب قد أغلقت، فاتفق المرضى على ترك الدواء، وقتل الأطباء، مستعذبين حلاوة الأحلام وإحلال المودة للعدو محل الخصام، ظانين أنهم قادرون على الاحتفاظ بالسلام على الدوام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولقد حق فيهم قول الشاعر:
يا طالب النصر من أعداك مت كمدا
- كطالب السمن من أنياب ثعبان
كما أنه من فضل الله ورحمته أن يحاكم هذا الجيش وتحاكم أعماله وأفكاره بقضاة يمثلون حكومة أعدائه، تشكلت محكمتهم، لتدين هذا الجيش وتصمه بالخيانة والإجرام، متسلحة بالقوانين الاستثنائية التي تضمن لها الإدانة بالإعدام على أدنى المخالفات وأقل الهفوات وقد وضعها حكام ثبت إجرامهم بقتل الإمام الشهيد على قارعة الطريق دون تهمة توجه إليه أو محكمة تحاكمه، ولكن قتلهم له كان خروجًا فاجرًا ودون أي ضرورة، على كل القواعد التي استقر عليها أحكام الظلمة الفجار ممن سبقت لهم سيادة على دولة من الدول على مدى الزمان، فما كان أيسر عليهم أن يفعلوا كما يفعل كل الحكام الفجار فيقبضون عليه ويودعونه السجن ويقتلونه علنًا بقوة السلطان، ولكن الله أراد أن يعميهم فيفضحوا أنفسهم ويعلنوا عن حقيقتهم بأنهم عصابة إجرامية لا دولة مستبدة، فهل من مدكر؟
ولقد عزمت على أن لا أقد للقراء عن هذا الجيش وأهدافه ووسائله إلا ما أعلنه هؤلاء القضاة، ليطمئنوا جميعا أن ما يقرأون في هذا الصدد إنما هو الحقيقة الخالية من كل زيف، المبرأة من كل غرض، فالفضل ما شهدت به الأعداء.
قضية السيارة الجيب
بعد استسلام محمود فهمي النقراشي باشا للعدو الصهيوني، معلنًا عجزه عن الاستمرار في القتال الذي لم يزد مداه عن عدة أيام، مستصرخًا هيئة الأمم المتحدة أن تقرر هدنة دائمة مع العدو، فأقرتها والعدو متهلل مستبشر بأكاليل النصر الخرافي التي قلدها له محمود فهمي النقراشي باشا طائعًا مختارًا، ولم يغير من هذه السعادة والاستبشار أني ضع النقراشي باشا والقادة العرب رءوسهم في الرمال، فينكرون قيام دولة إسرائيل فوق أكتافهم العريضة، ويمسكون بقبضة من حديد على الهواء مدعين أنها إسرائيل المزعومة!! وهم يتعامون عن أن كل دول العالم العظمى من شرقه إلى غربه قد اعترفت بها، وأيدتها ودعمتها بكل ما تملك من قوة!! فهذه الدول تختلف فيما بينها ما شاء الله لها أن تختلف ولكنها تتفق وعلى الفور، على كل ما يؤدي إلى القضاء على دولة الإسلام ، التي حكمت العالم من قبل خمسة قرون متصلة، من أجل هذا لم يكن من الممكن ل محمود فهمي النقراشي باشا، أن يحقق ما زعمه للناس تحت قبة البرلمان أن قواته الظافرة لا تدخل فلسطين لمواجهة عدو يمكن أن يحسب له حساب، وإنما تدخلها لتؤدب عصابات صهيونية خائرة لا وزن لها ولا اعتبار، ولم يكن من الممكن لدولته أن يظهر للناس وجهه بعد ظهور الحقيقة دون تعليل لهذه النتيجة المؤسفة لكل من كان عنده إحساس أو حياء.
ويا لهول ما تفتقت عنه قريحته الفذة من عذر هو أشد قبحًا من ذنب!! قالت أبواقه الإعلامية من صحافة وإذاعة في ذلك الوقت إن عدوًا بالداخل أشد شراسة وأشد خطرًا على مصر من الصهاينة في فلسطين قد ظهر فجأة، وأنه لا بد لمصر أن تتلخص من هذا العدو بالداخل بأن تجهز عليه قبل أن تفكر في مواجهة العدو الخارجي، وأن هذا العدو هوالإخوان المسلمون، الذين ظهر تآمرهم على قلب نظام الحكم وتخريب كل مرافق مصر تخريبًا تامًا، وادعت أن أجهزة الأمن قد ضبطت من الوثائق والأوراق والأسلحة والذخائر ما يؤكد هذا الاتهام، داخل سيارة جيب في منطقة العباسية بالقاهرة، وأنه لهذا السبب اضطر دولة النقراشي باشا لإصدار أمر عسكري بحل هذه الجماعة التي ثبت أن خطرها على مصر هو أشد وأكبر من خطر عصابات الهاجاناه وشترن، وأنه لو دخلت هذه العصاباتالصهيونية إلى مصر فإنها لا تستطيع أن تفعل عشر معشار ما عزم الإخوان المسلمون على عمله في مصر من التخريب والتقتيل والإرهاب!!
تسلطت أبواق وسائل الإعلام على آذان شعب مصر الذي يسمع ولا يصدق بهذا الهراء الواهم، لأنه يجيء في وقت كانت جنود الإخوان المسلمين فيه لا تزال تشترك مع القوات المصرية الرابضة على أرضنا الطاهرة «فلسطين» في عمليات فدائية خارقة، أشاد بها قادة هذه القوات، وكرروا مطالبة دولته بإرسال المزيد من جنود الإخوان المسلمين للوقوف معهم جنبًا إلى جنب إلى فلسطين ، وهل يعقل بشر أن أسلحة وأوراق تضبط في سيارة جيب صغيرة تكفي لهزيمة أجهزة الأمن في مصر وقلب نظام الحكم بها مهما كانت كمية هذه الأسلحة والأوراق وخطرها؟
اسمع يا سيدي قرار الاتهام في هذه القضية الشهيرة باسم قضية السيارة الجيب والتي فجر بها النقراشي باشا الفتنة في مصر ليستر خيانته العظمة في فلسطين ، دون أن ينتظر حكم القضاء فيها، هذا الحكم الفاصل في شأن النظام الخاص ووسائله وأهدافه وأعماله منذ نشأته حتى نهاية حكم الملك السابق فاروق وبداية ثورة 23يوليو، لأنه صادر من محكمة تمثل حكومة النقراشي باشا المدعية على الإخوان المسلمين ، ومن ثم فإنه يلزمها الحجة دون جدال أو نقاش خاصة أن النيابة العامة لم تجد فيه ثغرة واحدة تسمح لها بنقضه، بل أقرت بكل ما جاء فيه اعترافًا منها أنها كانت على خطأ كبير، فقد اشتملت الأوراق المضبوطة في السيارة الجيب على كل أسرار هذا النظام ووسائله وأهدافه، ولم تكن إلا أشرف الوسائل وأنبل الغايات، ولكن النيابة العامة خضوعًا منها لرئيس الدولة وأغراضه وأهدافه قد قرأتها على ما يبدو بالمقلوب حتى صحح لها القضاء القراءة فوقعت الطامة على رأس هذا العهد البائد ثم أزاله الله من الوجود في يوليو 1952 مكللاً بكل صفات الفساد والانحلال التي يمكن أن يتصف بها بشر.
الحكم في قضية السيارة الجيب ويشتمل أيضًا على قرار اتهام الإخوان المسلمين :
محكمة جنايات القاهرة
الحكم الصادر في قضية النيابة العمومية رقم 3394 الوايلي 1950 ورقم 227 سنة 1950 كلي سيارة الجيب المتهم فيها عبد الرحمن السندي وآخرين.
محكمة جنايات القاهرة المشكلة علنًا برياسة حضرة صاحب العزة أحمد كامل بك وكيل محكمة استئناف القاهرة، وحضور حضرتي صاحب العزة محمود عبد اللطيف بك و محمد زكي شرف بك المستشارين بمحكمة استئناف القاهرة وحضرة الأستاذ محمد عبد السلام رئيس نيابة استئناف القاهرة و محمد علي عبده أفندي سكرتير المحكمة أصدرت الحكم الآتي في قضية النيابة العمومية رقم 3394 الوايلي 1950 ورقم 227 سنة 1950 كلي:
الإسم | السن | العمل |
---|---|---|
عبد الرحمن علي فراج السندي | 32 | موظف بوزارة الزراعة |
مصطفى مشهور مشهور | 29 | موظف بمصلحة الأرصاد الجوية |
محمود السيد خليل الصباغ | 30 | موظف بمصلحة الأرصاد الجوية |
أحمد زكي حسن | 26 | مدرس بالجيزة الابتدائية مصر القديمة |
أحمد محمد حسنين | 30 | مراقب حسابات بشركة المعادن بالسيدة عائشة |
محمد فرغلي النخيلي | 30 | تاجر معادن بشارع غيط النوبي |
أحمد قدري الحارثي | 24 | مهندس بمصلحة الطيران المدني |
محمد حسني أحمد عبد الباقي | 35 | عضو مجلس مديرية الجيزة |
أحمد متولي حجازي | 30 | مهندس |
السيد فايز عبد المطلب | 30 | مهندس |
أحمد عادل كمال | 24 | موظف بالبنك الأهلي المصري |
طاهرعماد الدين | 25 | مهندس معماري |
إبراهيم محمود علي | 27 | ترزي |
دكتور أحمد الملط | 34 | طبيب |
جمال الدين إبراهيم فوزي | 34 | موظف بمصلحة البريد |
محمود حلمي فرغي | 26 | موظف بالداخلية |
محمد أحمد علي | 26 | موظف بمصلحة المجاري |
عبد الرحمن عثمان | 24 | طالب حقوق |
السيد إسماعيل شلبي | 44 | تاجر |
أسعد السيد أحمد | 28 | موظف بسلاح الصيانة |
محمد بكر سليمان | 24 | نساخ بشركة النيل |
صلاح الدين محمد عبد العال | 20 | طالب توجيهي |
جماد الدين طه محمود الشافعي | 24 | مدرس |
جلال الدين يس | 20 | طالب وموظف بوزارة التجارة |
محمد الطاهر حجازي | 24 | مدرس بالمعارف |
عبد العزيز أحمد البقلي | 26 | ترزي |
كمال السيد القزاز | 27 | نجار |
محمد سعد الدين السنانيري | 31 | تاجر ومقاول نقل |
علي محمد حسنين الحريري | 29 | تاجر وقمسيونجي |
محمد محمد فرغلي | 44 | واعظ منطقة الإسماعيلية |
محمد إبراهيم سويلم | 35 | فلاح |
سليمان مصطفى عيسى | 24 | مدرس |
من حيث أن النيابة العامة اتهمت المتهمين المذكورين بأنهم في خلال سنة 1946 - 1947- 1948 ميلادية والموافقة 1365- 1366- 1367- 1368 هجرية بدائرة مدينتي القاهرة والإسماعيلية وغيرها من بلاد المملكة:
أولاً: اشتركوا فيما بينهم ومع آخرين لم يعلموا في اتفاق جنائي الغرض منه ارتكاب الجنايات والجنح المذكورة بعد، واتخاذها وسيلة للوصول إلى الاستيلاء على الحكم بالقوة، واتحدت إرادتهم على الأعمال المسهلة والمجهزة لارتكابها، كما تداخل المتهمون العشرة الأول والرابع عشر والخامس عشر والثلاثون في إدارة حركة هذا الاتفاق وكان لهم شأن فيها، وذلك بأن كون المتهمون من أنفسهم ومن غيرهم جماعة إرهابية ذات قيادة وأركان وجنود وخلايا، واختاروا أفرادها طبقا لنظام موضوع مفصل، وبعد فحصهم طبيًا لمعرفة مدى لياقتهم للعمل جسمانيا وعصبيًا، ولقنوهم دروسًا روحية ورياضية وفي تبرير القتل وفي حرب العصابات واستعمال الأسلحة والمفجرات وفي تعقب الأشخاص واغتيالهم سياسيين كانوا أو عسكريين أو مدنيين، وقاموا بمراقبة الأماكن التي عقدوا النية على ارتكاب جرائمهم فيها، وإعداد التقارير والرسوم الدقيقة عنها واختيار مواضع التنفيذ وزمانه ومكانه وأعدوا برامج شاملة لمختلف الهيئات الإرهابية التي أنشأوها، ولمصادر الأموال اللازمة لها من إعانات وترهيب وسطو على البنوك والمتاجر والإذاعة والدعاية الداخلية والخارجية والمخابرات والتجسس على الأحزاب والهيئات المختلفة وإشاعة الفوضى والذعر والإخلال بالأمن في البلاد تحقيقًا للغرض المتقدم ذكره وهذه الجرائم هي:
1- قلب وتغيير دستور الدولة وشكل الحكومة بالقوة بواسطة عصابات مسلحة وباستعمال قنابل وآلات مفرقعة بنية ارتكاب هذه الجريمة وبغرض ارتكاب قتل سياسي الأمر المنطبق على المادتين 87، 88 فقرة أولى من قانون العقوبات.
2- إتلاف سيارات وأسلحة الجيش المصري المعدة للدفاع عن البلاد الأمر المنطبق على المادة 81 من قانون العقوبات.
3- تخريب المنشآت الحكومية وأقسام ومراكز البوليس ومحطات الإضاءة والمياه وغيرها، الأمر المنطبق على المادة 90 من قانون العقوبات.
4- قتل عدد كبير من المصريين والأجانب مبينين بالمحضر، وذلك عمدًا مع سبق الإصرار والترصد، الأمر المنطبق على المواد 230، 231، 232 من قانون العقوبات.
5- تعريض حياة الناس وأموالهم عمدًا للخطر باستعمال القنابل والمفرقعات في عدد من السفارات والقنصليات الأجنبية وغيرها من الأماكن العامة والخاصة المأهولة بالسكان والمبينة بالمحضر، الأمر المنطبق على المادة 358 فقرة ثانية وثالثة من قانون العقوبات.
6- تعطيل وسائل النقل العامة بنسف قطارات السكك الحديدية وجسورها وخطوطها، ونسف الطرق والكباري العامة وسيارات الأوتوبيس وتعطيل القوى الكهربائية المولدة لحركة خطوط ترام القاهرة، الأمر المنطبق على المادة 167 من قانون العقوبات.
7- إتلاف الخطوط التغلرافية والتليفونية الحكومية عمدًا في زمن الفتنة التي اعتزموا نشرها بقطع أسلاكها وقوائمها ونسف أدواتها أو إتلافها بوسائل أخرى مما يترتب عليه انقطاع المخابرات بين ذوي السلطة العمومية ومنع توصيل المخابرات بين الناس، الأمر المنطبق على المادتين 165، 166 من قانون العقوبات.
8- سرقة البنك الأهلي وبعض المحال التجارية بطريق الإكراه، وذلك باقتحامها بواسطة أشخاص مسلحين بالمدافع والقنابل وقتل من يعترض سبيلهم من الحراس أو غيرهم والاستيلاء بذلك على ما فيها من أموال وبضائع الأمر المنطبق على المادة 314 من قانون العقوبات.
9- إتلاف مباني شركة قنال السويس وترام القاهرة، وذلك عمدًا بقصد الإساءة، مما ينشأ عنه تعطيل وتوقيف أعمالها ذات المنفعة العامة، ويترتب عليه جعل حياة الناس وأمنهم في خطر، الأمر المنطبق على المادة 361 فقرة أولى وثانية من قانون العقوبات.
10- قتل خيول البوليس عمدا بدون مقتضى بطريق التسمم، الأمر المنطبق على المادة 355 (أولا وثانيًا) من قانون العقوبات.
11- إقامة واستعمال محطات سرية للإذاعة اللاسلكية بدون إخطار إدارة تلغرافات وتليفونات الحكومة المصرية، وبغير ترخيص منها، الأمر المنطبق على المواد 1، 2، 5 من الأمر العسكري رقم 8.
ثانيًا: أحرزوا وحازوا مقادير كبيرة من القنابل اليدوية والفوسفورية والجيلجانيت والديناميت والمادة الناسفة المعروفة باسم. P. T. N والألغام وساعات التفجير الزمنية والمفجرات الكهربائية والطرقية وغيرها من المفرقعات والآلات المفرقعة، وذلك بدون ترخيص وبغرض ارتكاب قتل سياسي وبنية قلب وتغيير دستور الدولة وشكل الحكومة بالقوة.
ثالثًا: أحرزوا وحازوا أسلحة نارية -مدافع سريعة الطلقات ومسدسات وذخائر مخصصة لها وكذا أسلحة بيضاء، وذلك بدون ترخيص.
رابعًا: حازوا أجهزة وأدوات خاصة بمحطة إذاعة لاسلكية بدون إخطار إدارة تلغرافات وتليفونات الحكومة المصرية وبغير ترخيص وأقاموها في منزل بإحدى الضواحي أعدوه لهذا الغرض.
تعليق المؤلف على هذا القرار:
إن التهم الإحدى عشر الأولى التي وجهتها النيابة العامة الإخوان المسلمين كلها وبنص القرار هي تهم على اتفاق جنائي لم يصل إلى حد التنفيذ شيء منها، ومع ذلك فإن مواد قانون العقوبات المذكورة فيها، موضوعة في القانون الوضعي بمعرفة المستعمر الإنجليزي بعد قتل بطرس غالي باشا، بقصد تمكين السلطة من إخماد أي صوت أو فكر أو حركة ضده فور الإحساس بها وبدون حاجة إلى دليل على التنفيذ وتقضي معظم موادها على من يقع تحت طائلتها بالإعدام.
أما الشريعة الإسلامية فلا تعترف بأي من هذه المواد، فالأصل أن من نوى معصية ولم ينفذها كتبت له حسنة، ومن نوى حسنة ونفذها ضاعف الله له الحسنات ما شاء له أن يضاعفها، ولو أننا نحتكم إلى الشريعة الإسلامية لاستراحت النيابة من كل هذا العناء، والجهاد الضائع، حيث لم يقع خطأ أصلا على فرض صحة كلام النيابة فما بالنا وكلام النيابة خطأ جملة وتفصيلا على النحو الذي سجلته المحكمة في مناقشتها لتهمة الاتفاق الجنائي على قلب نظام الحكم والذي انتهت بعدها إلى الحكم بالبراءة من هذه التهمة لكل المتهمين ولجميع أفراد جماعة الإخوان المسلمين عامة، ذلك بالنص الآتي المنقول عن الصفحات من 93 إلى 103 من حكم المحكمة بعد أن استعرضت كافة الأوراق والوثائق المضبوطة في القضية:
مناقشة تهمة الاتفاق الجنائي على قلب نظام الحكم كما جاءت في نص حكم المحكمة:
وحيث أنه عندما وجهت هذه التهمة كانت فكرة الاتهام أن تكون شاملة عددًا كبيرًا لا يقف عند حد المتهمين المعدودين محل هذه المحاكمة، بل إن النيابة العامة قصدت في أقوالها إلى تصوير أن الجماعة بأسرها رمت إلى قلب نظام الحكم وأن أقوال مرشدها العام كانت تحمل معاني التحريض السافر على القيام بهذه الجريمة، وأن المتهمين وزملائهم فهموا من كلام المرشد أنه يرمي إلى ذلك، فالاتهام بهذا التصوير أراد أن يحمل الجماعة مسئولية هذه الجريمة بدليل أنه خلص إلى القول بأن الغرض النهائي هو إقامة جمهورية على رأسها المرشد العام.
فكان طبيعيًا والتهمة موجهة إلىجماعة الإخوان والمرشد أن تعرض المحكمة لنشأتها وأغراضها ووسائلها وتطورها وما يستنتج من أقوال مؤسسها.
حكم المحكمة بشأن الإخوان المسلمين :
وحيث إنه تبين للمحكمة من الأوراق المقدمة من الدفاع وما ضبط في دار المركز العام أنه في عام 1928 أنشأ الشيخ حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين ووضع لها مع آخرين قانونا جاء فيه: أن الغرض منها تكوين جيل جديد يفهم الإسلام فهمًا صحيحًا ويعمل بتعاليمه وأن رسائلها لتحقيق هذا الغرض هي تغذية الفضائل الخلقية وإحياء الشعور بكرامة الأمة وتحرير النفوس من الضعف والتحذير من الاندفاع في حياة المتعة والترف ونشر الثقافة والمحافظة على القرآن ومحاربة الأمية وتأسيس المنشآت النافعة للأمة كالمستوصفات الطبية ومحاربة الآفات الاجتماعية كالمخدرات والمسكرات والمقامرة والبغاء، وتشجيع أعمال الخير وتقوية روابط التعارف بين الشعوب الإسلامية، مع تنمية روح التعاون والاقتصاد والدفاع عن الإسلام ومقاومة كل عدوان يراد به، وتقوية الروح الرياضية في نفوس الشباب.
وبتاريخ 8 سبتمبر 1945 أدخلت الجمعية العمومية لهيئة الإخوان المسلمين تعديلات على قانونها النظامي، ثم أدخلت تعديلات أخرى في 30 يناير سنة 1948 وهذه التعديلات لم تمس الجوهر لكنها تناولت التفاصيل، فجاء فيما يتصل بأغراض الجماعة أنها ترمي إلى شرح دعوة القرآن الكريم وعرضها عرضًا يوافق روح العصر وتنمية الثروة العمومية وتحقيق العدالة الاجتماعية والتأمين الاجتماعي لأفراد الأمة، ومكافحة الفقر والجهل والمرض والسعي إلى تحرير وادي النيل والبلاد العربية جميعًا والوطن الإسلام ي بكل أجزائه من أي سلطان أجنبي، وتأييد الوحدة العربية والسير إلى الجامعة الإسلامية، وقيام الدولة الصالحة التي تنفذ أحكام الإسلام ، ومناصرة التعاون العالمي في ظل المثل العليا الفاضلة.
ثم تحدث القانون عن الوسائل التي تتبعتها الجماعة لتحقيق الأغراض سابقة الذكر، فقال إنها الدعوة بطريق النشر والتربية الدينية والروحية والمدنية الصالحة، مع تثبيت معنى الإخوة الصادقة والتعاون ليتكون رأي عام موحد، مع وضع المناهج الصالحة في كل شئون المجتمع من تربية وتعليم وتشريع وغيرها، والتقدم بهذه المناهج إلى الجهات المختصة والوصول بها إلى الهيئات النيابية والتشريعية والتنفيذية في الدولة، لتخرج من دور التفكير النظري إلى دور التطبيق العملي، ومن بين الوسائل أيضا العمل على إنشاء مؤسسات اقتصادية واجتماعية وعلمية ودينية وتأليف لجان لتنظيم الزكاة وأعمال البر، ومقاومة الآفات الاجتماعية وإرشاد الشباب إلى طريق الاستقامة وشغل وقت الفراغ بما ينفع، وتنشأ لذلك أقسام مستقلة طبقا للوائح وخاصة القانون 49 سنة 1945 الخاص بتنظيم الجمعيات الخيرية، وأعمال البر وتسجيلها بوزارة الشئون الاجتماعية، وجاء في القانون أيضًا أن الأعضاء يستعينون بكل وسيلة مشروعة أخرى.
فيبين مما تقدم أن الجماعة كانت حريصة على أن تسجل في قانونها التزام الأوضاع الدستورية لتحقيق أغراضها.
وقد عملت الجماعة على تنفيذ الأغراض التي وضحت في قانونها وطبقًا للوسائل المشار إليها، فأنشأوا صحيفة يومية لنشر دعوتهم، وأقاموا مؤسسات اقتصادية ومستوصفات، كما كونوا فرقًا للجوالة، وكان رئيسهم يتابع نشر الدعوة وتفهيم الناس بحقيقتها وذلك بإلقاء أحاديث دورية أسبوعية ومحاضرات وخطب في المناسبات.
وكان من بين ما ألقاه المرشد العام ونشر في رسائل، كتيب عنوانه: «بين الأمس واليوم» ضبط في دار المركز العام، تناول فيه رسالة النبي الأمين ومنهاج القرآن الكريم، ثم القواعد الأساسية في الإصلاح الاجتماعي الكامل كما جاءت في القرآن الكريم ونظام الدولة الإسلامية الأعلى، مع شرح عوامل التحليل التي طرأت على كيانها وبيان الصراع السياسي والاجتماعي بين المسلمين وطغيان المادة على بلادهم وأشار أيضًا إلى أن دعوة الإخوان هي دعوة البعث والإنقاذ، ثم تساءل عن أهداف الجماعة العامة، ونفى أن أغراضها جمع المال وهو عرض زائل، والجبروت في الأرض: ﴿الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [الأعراف: 128].
وانتقل بعد ذلك إلى القول بأن للجماعة هدفين أساسيين هما: تحرير الوطن الإسلام ي من كل سلطان أجنبي، وأن تقوم فيه دولة إسلامية حرة تعمل بأحكام الإسلام وتبلغ دعوته للناس.
ثم تحدث عن الأهداف الخاصة فقال: إنها إصلاح التعليم ومحاربة الفقر والجهل والمرض والجريمة مشيرًا إلى أن أكثر من 60% من المصريين يعيشون أقل من معيشة الحيوان، وأن مصر مهددة بمجاعة قاتلة وهي أكثر بلاد العالم المتمدين أمراضًا وأوبئة وعاهات، وأن أكثر من 90% من الشعب مهدد بضعف البنية ومختلف العلل، وأنمصر لم تستطع إلى الآن «1946» أن تجهز فرقة واحدة كاملة المعدات.
ثم انتقل المرشد بعد ذلك إلى تحديد الوسائل، فقال: إن الخطب والأقوال لا تجدي ولا تحقق غاية، ولكن الوسائل التي لا تتغير ولا تتبدل هي الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل.
ثم قال بعد ذلك تحت عنوان (العقبات في طريقنا): أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لازالت مجهولة عند كثير من الناس ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة، ونبه أعضاء الجماعة إلى ما عساه أن يلقوه من مشقات في سبيل الوصول إلى أهدافهم شأنهم في ذلك شأن أصحاب الدعوات مشيرًا في تفصيل العقبات إلى أن الحكومة ستقف في وجوههم محاولة الحد من نشاطهم، كما أن الغاصبين سيتذرعون بكل طريق لمناهضة الجماعة وإطفاء نور دعوتهم، ويستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة.
ثم خاطب الإخوان بعد ذلك بقوله: إنهم ليسوا جمعية خيرية ولا حزبًا سياسيًا إلى غير ذلك من الأقوال التي سبق إثباتها عند الكلام على الأدلة التي ساقها الاتهام.
وانتهى كتاب المرشد العام بتنبيه الإخوان إلى الإيمان بالله ولا يخافون غيره ولا يرهبون سواه وأن يؤدوا فرائضه ويتجنبوا نواهيه ويتخلقوا بالفضائل، ويتمسكوا بالكمالات ويتدارسوا القرآن والسيرة النبوية وأن يكونوا عمليين لا جدليين.
وإلى هنا ينبغي لنا أن نقف وقفة للتعليق على ما أثبتته المحكمة في حكمهاعن جماعة الإخوان المسلمين، ونشأتها وأغراضها ووسائلها وتطورها، حتى نتبين من هذه النصوص من هو القائل الحقيقي لمحمود فهمي النقراشي باشا:
1- يتضح مما سجلته المحكمة أعلاه أن المحكمة قد حكمت:
أولاً: بأن الجماعة كانت حريصة على أن تسجل في قانونها التزام الأوضاع الدستورية بتحقيق أغراضها. ثانيًا: أن الجماعة عملت فعلا على تنفيذ الأغراض التي وضحت في قانونها وطبقا للوسائل المشار إليها، فأنشأوا صحيفة يومية لنشر دعوتهم وأقاموا مؤسسات اقتصادية ومستوصفات، كما كونوا فرقًا للجوالة، وكان رئيسهم يتابع نشر الدعوة وتفهيم الناس بحقيقتها وذلك بإلقاء أحاديث دورية أسبوعية ومحاضرات وخطب في المناسبات، فلم يعد بعد ذلك هذا الحكم النهائي الصادر من محكمة مشكلة بقرار صادر من حكومة هي أعدى أعداء الإخوان المسلمين ، وقد وافق عليه ممثل الاتهام في هذه الحكومة بدليل أنه لم يتقدم إلى محكمة النقض لنقضه اعترافًا منه بعدالة هذا الحكم ومطابقته للأمر الواقع.
ولم يعد بعد ذلك لمؤرخ أو كاتب أن يتهجم على دعوة الإخوان المسلمين وأغراضها ووسائلها، لأنه إن فعل شيئا من ذلك كان كاذبًا على التاريخ إن كان مؤرخًا وكاذبًا على الأمة إن كان كاتبًا دون جدال.
2- يتضح مما سجلته المحكمة في حكمها نقلاً عن رسالة بين الأمس واليوم للإمام الشهيد أن الإمام الشهيد وهو يكتب هذه الرسالة في سنة 1946 كان يرى بنور الله ما لا يراه عامة الناس، حيث سجل صراحة أن الحكومة ستقف في وجوههم محاولة الحد من نشاطهم، كما أن الغاصبين سيتذرعون بكل طريق لمناهضة الجماعة وإطفاء نور دعوتهم، ويستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة.
وقد تحقق ذلك كله كفلق الصبح في سنة 1948 وما بعدها، حيث تصدت حكومةمحمود فهمي النقراشي باشا إلى هذه الجماعة بالحل والاعتقال ومصادرة الأموال، وهي صديقة له تقف معه في حربه للصهاينة، وتختلط دماء شهدائها بدماء جنوده، ويدفع رجالها من مالهم الخاص تكاليف اشتراكهم في المعركة من سلاح ومعدات حربية، ونقل ومعيشة، دون أي تفسير من جانب حكومة النقراشي باشا لهذا الفعل الغادر، إلا قول الإمام الشهيد في رؤيته النورانية لما يمكن أن يقع من أحداث قبل وقوعها بسنتين كاملتين أن الحكومة ستقف في وجوههم محاولة الحد من نشاطهم، كما أن الغاصبين سيتذرعون بكل طريق لمناهضة الجماعة وإطفاء نور دعوتهم ويستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة.
وهل يمكن أن تكون هناك حكومة أضعف من حكومة تخضع للعدو الغاصب، فتدخل بتوجيه منه حربًا لم تحسن الإعداد لها بدليل أنها لم تصمد أمام عصابات يهودية لا دولة يهودية أسبوعًا واحدًا، وهو ما كان يهدف إليه العدو لإثبات أن ما تسميه مصر عصابات هو في الحقيقة دولة أقوى من دولتها، ثم لا تغضب هذه الحكومة لكرامتها وقد انكشفت لها خطة العدو الغاصب، بل تخضع لتعليماته فتضرب أعز أبنائها، لمجرد أنهم أثبتوا بسالة نادرة، وجدية حقيقية في ميدان القتال، بوهم أنهم ما داموا بهذه الجدية والبسالة، فقد أصبحوا خطرًا عليها، لا درعًا لها وكأنها كانت تريد من شعب مصر أن يتخلف عنها وعن نظامها في الإعداد والتكوين لتطمئن إلى أن هذا الشعب أسير يدها حبيس إرادتها، فإن ظهر لها غير ذلك كان هذا الشعب الذي فرض الله عليها أن تحميه وأن ترعاه، هو أعدى أعدائها، وكان أخطر عليها من عصابات الهاجناه وشترن الصهيونية !! هل يمكن أن تكون هناك حكومة أشد ضعفًا وأسد خبلا من ذلك؟
بل إن هذه الحكومة المتخاذلة المجنونة لم تقتصر على ضرب الأفراد في حرياتهم وأبدانهم وأموالهم، بل بلغ من جنونها أن تنحرف إلى ضرب مبادئ الإسلام ذاتها التي أحيت في هؤلاء الأفراد أسباب العزة والكرامة والفداء وجعلتهم على النقيض منها ومن نظامها رهبانًا بالليل وفرسانًا بالنهار.
حيث جاء نص المادة الثانية من الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 الصادر في يوم الأربعاء 7 صفر 1368هـ الموافق 8 ديسمبر 1948 م بحل الإخوان المسلمين على النحو التالي:
مادة (2): يحظر إنشاء جمعية أو هيئة من أي نوع كانت أو تحويل طبيعة جمعية أو هيئة قائمة إذا كان الغرض من الإنشاء أو التحويل بطريق مباشر أو غير مباشر بالنشاط الذي كانت تتولاه الجمعية المنحلة أو إحياء هذه الجمعية على أي صورة من الصور كما يحظر الاشتراك في كل ذلك أو الشروع فيه.
إن المطلع على هذه المادة من قرار حل جماعة الإخوان المسلمين يدرك ومن أول وهلة أن المقصود هو أن يحظر على المصريين قيام أي جمعية أو هيئة من أي نوع كانت تدعو إلى ما كانت تدعو إليه جماعة الإخوان المسلمين من مبادئ أو تتولى أوجه النشاط الذي كانت تتولاه جماعة الإخوان المسلمين في جسد الدولة سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، بل ويحظر القرار على المصريين مجرد التفكير في ذلك أو الشروع فيه.
وقد سبق أن سجلت المحكمة أغراض هذه الجماعة وأوجه نشاطها من واقع المضبوطات التي قدمتها النيابة إليها كدليل إدانة فقالت:
إن الغرض من جماعة الإخوان المسلمين هو تكوين جيل جديد يفهم الإسلام فهمًا صحيحًا ويعمل بتعاليمه، وأن وسائلها لتحقيق هذا الغرض هو تغذية الفضائل الخلقية وإحياء الشعور بكرامة الأمة وتحرير النفوس من الضعف والتحذير من الاندفاع في حياة المتعة والترف ونشر الثقافة والمحافظة على القرآن ومحاربة الأمية وتأسيس المنشآت النافعة للأمة كالمستوصفات الطبية ومحاربة الآفات الاجتماعية كالمخدرات والمسكرات والمقامرة والبغاء، وتشجيع أعمال الخير وتقوية روابط التعارف بين الشعوب الإسلامية مع تنمية روح التعاون والاقتصاد والدفاع عن الإسلام ، ومقاومة كل عدوان يراد به، وتقوية الروح الرياضية في نفوس الشباب.
فهل يكن لعاقل أن يتصور صدور حظر شامل على كل المصريين لا على الإخوان المسلمين وحدهم أن يفكر أحد منهم أو يشرع أو يعمل على إحياء هذه المبادئ والقيم السامية في جسد الأمة إلا أن يكون هذا الأمر صادرًا من أعدى أعداء مصر والعروبة والإسلام ؟ إذا أغفلت الجمعيات والهيئات العمل على إحياء هذه المبادئ والقيم السامية في جسد الأمة، فلا يكون أمامها إلا أن تنشر بين أعضائها المفاسد والرذائل والانحلال وسوء الأخلاق فهل يرضى عاقل أن يكون ذلك هو حال الجمعيات والهيئات العامة فيمصر الواجب الالتزام به تنفيذًا للأمر العسكري من الحاكم العسكري محمود فهمي النقراشي باشا؟
من قتل محمود فهمي النقراشي باشا؟
إن الدماء لتغلي في عروق أي إنسان عنده ذرة من إحساس يحب هذا الوطن وهو يرى حاكم مصر العسكري يصدر مثل هذا الأمر، فكيف لا تغلي في دماء شباب باعوا أنفسهم لله واستهدفوا أن يقدموا أرواحهم رخيصة من أجل انتصار الإسلام وقيمه السامية في ربوع الوطن الإسلام ي؟
وإذا غلت الدماء في عروق من يقرأ هذا الأمر، فمن يكون المسئول عن هذا الغليان مصدر الأمر، أم من صدر عليه الأمر لقهره واستدلاله؟
وهل تحتاج الدماء في هذه الحالة إلى أوامر من أحد لتغلي في العروق؟ أما إنها ستغلي لا إراديًا من فرط ما ترى من إفساد عمد بقوة السلاح، ولا يفل السلاح إلا السلاح..
وهل يمكن أن يلوم أحد شابًا مسلمًا أو عدة شباب مسلمين إذا ما اتحدت إرادتهم في هذا الظرف المثير على قتل صاحب هذا القرار الداعي إلى الكفر بالله وهو يدعي أنه مسلم؟
إن اللوم كل اللوم إنما يقع على صاحب القرار، وقد حفر قبره بيده، وهو يعلم ذلك يقينًا من قبل أن يوقع القرار، وقد قالها علنًا حيث قال وهو يضحك: إنه يعلم أنه سيدفع ثمنًا لهذا القرار رصاصة أو رصاصتين في صدره !! إنه يعلم أن هذه هي النتيجة الحتمية للمقدمة الشرسة التي فرضها على الأمة، علم اليقين، وقد كان شابا من نفس هذا النوع من الشباب الذي يغلي الدم في عروقه لا إراديًا، ثورة من أجل مصر ، وتلك مصيبة المسكين العظمى أنه يدري!! وقد كان، فقتله الشاب المسلم عبد المجيد أحمد حسن الطالب بكلية الطب البيطري وعضو النظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين ، وهو في وسط جنده وعساكره وفي قلب مركز قيادته ومقر سلطانه يعاونه باقي أفراد مجموعته في النظام الخاص ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].
لقد كان عبد المجيد أحمد حسن ومعاونيه متأكدين وهم يقومون بهذا العمل، أنهم يقدمون دماءهم شهداء من أجلمصر ، فلم يكن أمامهم وقد اختاروا هذا الموقع لتنفيذ ما استقر عليهم رأيهم، إلا أن يقبض على عبد المجيد متلبسًا فيدل عليهم، ولكنهم كانوا رجالا قد تعلموا أن قتل المحاربين للإسلام فرض عين على كل مسلم ومسلمة، وقد تحقق لهم بعد إطلاعهم على هذا الأمر العسكري أن من وقعه محارب غادر للإسلام والمسلمين دون نزاع، فأقدموا على هذه العبادة المفروضة عليهم من لدن الحكيم الخبير دون حاجة إلى توجيه من جماعة أو هيئة ولا شك أنه لو تأخر عبد المجيد أحمد حسن وإخوانه عن أداء هذه العبادة لأداها غيرهم من ملايين شباب مصر الذين غلت دماؤهم كما غلت دماء عبد المجيد أحمد حسن وإخوانه فذلك قدر محتوم لكل من يتحدى إرادة الشعوب