حقيقة التنظيم الخاص

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين


حقيقة التنظيم الخاص.jpg
الإهداء.jpg


بقلم / الأستاذ محمود الصباغ


الإهـداء


إلى كل من يهمه أمر تاريخ الإخوان المسلمين أهدي هذه الحقيقة التي حجبتها طبيعة الموضوع السرية، ففتحت الباب أمام كثير من الأقلام إلى الخيال والافتراء من غير دليل أو بينة أو برهان حتى صار التصحيح فرضا يستوجبه صالح العمل للإسلام والله هو الهادي إلى الحق بإذنه وإلى صراط مستقيم.


محمود الصباغ


10/1/ 1407هـ

مقدمة الأستاذ مصطفي مشهور


أحمد الله تبارك وتعالى، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد سيد المرسلين، وإمام المجاهدين، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أحمده سبحانه أن أنعم عليَّ بنعمة الإسلام .. وهي أفضل النعم، ثم تفضل وأنعم عليَّ بنعمة الانتماء إلى «جماعة الإخوان المسلمين» التي أنشأها الإمام الشهيد «حسن البنا » رضي الله تعالى عنه وأرضاه.. وكان ذلك منذ أكثر من خمسين عامًا، سعدت خلالها بالعمل في حقل الدعوة الإسلام ية.. بما في ذلك المحن التي هي سنة الله في الدعوات... وقد زادتني الأيام والأحداث اعتزازًا بهذا الانتماء، وثقة بالجماعة ورسالتها، وتأثيرها الفعال على الساحة الإسلام ية.. بل على الساحة العالمية.. خاصة في إبراز الفهم الصحيح الشامل للإسلام كمنهاج كامل للحياة، وفي ضرورة تطبيق شريعة الله، وفي مجال التربية وتخريج نماذج رائعة للفرد المسلم، وللأسرة المسلمة القدوة.. وكذلك دورها في بعث روح الجهاد في سبيل الله، وحب الاستشهاد لإعلاء كلمة الله، وإقامة دولة الإسلام وخلافته.

وفي مجالات عملي بالجماعة شاركت في «النظام الخاص» وفي قيادته فترة من الزمان.. وقد أدى هذا الجهاز الدور الذي أنشئ من أجله ضد المحتل البريطاني، وضد العدو الصهيوني.. وقد عرض الأخ الأستاذ محمود الصباغ في هذا الكتاب الكثير من هذه الصفحات المشرقة.. فجزاه الله خيرًا، ونفعه ونفع به.


وقد تعرفت على الأخ محمود الصباغ في مراحل الدراسة الثانوية والجامعية.. وقد تشرف هو أيضا بالانتماء إلى «جماعة الإخوان المسلمين » وساهم بالعمل في مجالات الدعوة، وبالعمل في «النظام الخاص» وشارك في قيادته كذلك.

ولعله من توفيق الله عز وجل أن يعدون هذا الكتاب بعنوان «حقيقة النظام الخاص» فقد تميز بأن مؤلفه اجتهد في تحري الحقيقة من واقع الممارسة العملية.. لا النقل والسماع، وأنه أيد معظم ما جاء به بأحكام قضائية، وشهادات كبار الشهود..


هذا وقد درج غيره من الإخوان على كتابة كتب ومذكرات حول الجماعة عمومًا، وحول جهادها في فلسطين وفي القتال، وحول موقفها من رجال انقلاب يوليو 52.. إلى غير ذلك من مجالات عمل أو مواقف، وتعرض بعضهم في كتاباته إلى النظام الخاص من قريب أو بعيد.. والحقيقة أن معظم الذين كتبوا لم يكن لهم سابق ارتباط بالنظام، وما كتبوه عنه طريق السماع.

وبسبب ظروف المحن الشديدة التي مرت بالجماعة وبأفرادها، كتب معظم هؤلاء مذكراتهم بعد مرور عشرات السنين على الأحداث التي ذكروها.. ومن ثم تعرضت هذه الكتابات إلى شيء من عدم الدقة لتعرض الذاكرة إلى النسيان بسبب طول المدة.. وقد تختلف الروايات، وكذا وجهات النظر حول بعض القضايا عند أصحاب هذه المذكرات.

لذلك أحب في هذه المناسبة أن أنبه السادة القراء إلى أنه ليس من الإنصاف أخذ كل ما ذكر في هذه الكتب والمذكرات عن الجماعة أو عن النظام الخاص كقضايا مسلمة للأسباب التي ذكرتها سابقًا.. فالأمر يحتاج إلى قدرة من التوفيق والتبين.. وربما تعذر ذلك على القارئ لوفاة الكثرة ممن ساهموا في صنع هذا التاريخ رحمهم الله جميعًا.

ونحن مطالبون بحسن الظن بإخواننا الذين كتبوا المذكرات.. فمن اجتهد وأخطأ فله أجر.. ومن اجتهد وأصاب فله أجران.. وهذا الشعور يدفعني إلى أن أختم تقديمي لهذا الكتاب بقول الله تعالى ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾.

أسأل الله تعالى أن يختم لنا جميعًا بالخير، وأن يجمعنا بمن سبقونا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.. اللهم آمين.

مصطفي مشهور

بين يدي الكتاب

الإرهابيون نوعان: إرهابيون لأعداء الله وهؤلاء هم أرق الناس قلوبا وأرهفهم حسا، وإرهابيون لأحباب الله وهؤلاء هم أغلط الناس قلوبا وأكثرهم قسوة ووحشية.

ولكي ندرك هذه الحقيقة فإننا نستطيع أن نقسم الناس كافة من حيث إحساسهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه وإسهامهم في العمل على رفعة شأنه والنهوض بأمره إلى خمسة أنواع:

1- رجل لا يهتم إلا بشون نفسه، يسعى جاهدًا في طلب الخير لها، لا يهمه ممن حوله، إلا بقدر ما يسلب منهم سواء بالنصب والاحتيال، أو بالغدر والاعتداء، والعدوان، أو بالقهر والغلبة والسلطان.. وهذا النوع من الناس يحرص دائمًا على أن يلبس مسوح الملائكة الأطهار، وهو يخفي قلب الشيطان الماكر الغدار.. وهؤلاء هم أكثر الناس غلظة وقسوة ووحشية، ينخدع بمظهرهم من حولهم، ولا يشعرون بخطرهم إلا بعد أن يقعوا فريسة غدرهم وقسوتهم ووحشيتهم، فيعلمون أنهم كانوا بأبواق الدعاية مخدوعين، وبمعسول الكلام منومين، كما عبر عن ذلك مرة في كتابه «عودة الوعي» الأستاذ توفيق الحكيم!!

2- رجل لا يهتم إلا بشئون نفسه، يسعى جاهدًا في طلب الخير لها، ولكنه يلتزم في سعيه بأن لا يتجاوز حقه، لا يهمه إن ضل من حوله أوجاع، يقول مالي والناس، حسبي نفسي، ولو عمل كل لنفسه كما أعمل لارتفع شأن الأمة وعلا قدرها، وهؤلاء هم أغلظ الناس قلوبًا، وإن خلوا من الوحشية إلا أنهم يفتقرون إلى الرحمة التي دعا إليها رسول الله (ص) في قوله «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وينطبق عليهم الإحساس النابض لقلب ابن مصر وزعيمها مصطفى كامل «ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط».

3- رجل لا يهتم إلا بشئون نفسه وأهله، يسعى جاهدًا في طلب الخير لها ولهم، ويلتزم في سعيه بأن لا يتجاوز حقه، لا يهمه إلا نفسه وأهله، وإن جاع الوطن وضاع، وهؤلاء هم أقل الناس غلظة للقلوب، فهم لا يتحركون إلا إلى ذي رحم، يبذلون لهم من أموالهم وأنفسهم ما يستطيعون، ولكنهم إلى أبعد عن هذا الحد لا يتحركون، فهم لهذا السبب من غلاظ القلوب، التي لا تلين إلا لعلة نسب أو قرابة دم.

4- رجل يهتم بشئون نفسه وأهله ووطنه والناس جميعا، يبذل في سبيل إسعادهم جميعا في الدنيا كل ما يستطيع من جهد ومال وعلم وقول، يرحم ضعيفهم، ويطيب مريضهم ويعين محتاجهم بكل ما يملك من جهد ومال وهؤلاء هم الراحمون الذين يرحمهم من في السماء جزاء رحمتهم لمن في الأرض كما وعد بذلك حديث رسول الله (ص) في قوله: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».

5- رجل يهتم بشئون نفسه وأهله ووطنه والناس جميعا، يريد لهم سعادة الدارين الدنيا والآخرة، يمنحهم من قلبه وفكره وماله كل ما يستطيع، ثم يحميهم من عدوهم بدمه ونفسه وروحه لا يبتغي من أحدهم أجرًا إلا وجه الله، وهؤلاء هم الذين استجابوا لدعوة الرحمن، فأرهبوا جند الشيطان وحملوا السلاح في وجوههم مقاتلين، لا يهمهم إن دخلوا السجون أو كانوا من المقتولين، يسميهم الطغاة الإرهابيين ويسميهم الرحمن المجاهدين، هم أرق الناس قلوبا، لأنهم يبذلون لأوطانهم ولدينهم الأرواح رخيصة والمهج الغالية دون من أو إيذاء، يتحملون صنوف التعذيب، وفاحش القول والفعل من الأفاكين الغادرين، بإيمان ثابت، وقلب مطمئن بنصر الله، أولئك الذين استجابوا لدعوة الحق جل وعلا.

﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60]. وهم الذين أبرموا مع الله العقد والميثاق فباعوا نفوسهم لله، إعمالا لقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111].

وهم الأحياء الخالدون الذين تفنى الدنيا ولا يفنون مصداقا لقوله تعالى ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 169- 170].

وهم الذين عن عزمهم لا يثنون، يعملون للدنيا والآخرة لا يفترون.

اللهم احشرنا معهم، وأدخلنا في زمرتهم، واكتبنا بفضلك ورحمتك من المجاهدين الذين قلت فيهم وقولك الحق: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب: 23، 24].

هم أصحاب القلوب الرقيقة والحس المرهف، يقدمون دماءهم ليحموا دينهم وأوطانهم مستبشرين ببيعهم الذي بايعوا وذلك هو الفوز العظيم، لا يهمهم أن يقول عليهم الجهال إرهابيون أو غير إرهابيين، فهم وعلى كل الأحوال قد سمت نفوسهم وعلت همتهم، تسبح أرواحهم على الدوام في رحاب الله الواسعة، وإن تمكن بعض الفجار أن يجعلوا أبدانهم من المسجونين.


محمود الصباغ

المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله الذي بلغ الأمانة وأدى الرسالة ونصح الأمة وجاهد في سبيل الله حق جهاده حتى ارتفعت راية الإسلام خفاقة فملأت الأرض علما ونورًا وعدلا، بأيدي صحابة رسول الله وتابعيهم الذين تتلمذوا على مائدة القرآن الكريم، وعلى أقوال سيد البشر وأفعاله فأجادوا الدرس، وأخضعوا أفكارهم وحواسهم إلى أحكامه وشرائعه، فصاروا وكأنهم قرآنا يمشي أو شريعة سمحة تضيء أو هديا مباركا يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وألحقنا بهم مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

أما بعد:

فقد زالت دواعي السرية عن حقبة من تاريخ هذه الدعوة المباركة «دعوة الإخوان المسلمين » وقد كانت ضرورة من ضرورات عملها العسكري في سبيل الله، حيث يفرض ديننا الحنيف أن نستعين بالسرية والكتمان على قضاء حوائجنا، وبخاصة على أعداء الله الذين ينصر الله عليهم أحبابه وأنصاره بالرعب، فالسرية عنصر هام من عناصر الرعب والرهبة في القتال، وبها يضمن المقاتلون عنصر المفاجأة ومن ثم النصر.

وعلى الرغم مما تحقق على أيدي أبطال هذه الدعوة من إنجازات زلزلت الخصوم والأعداء في مصر وفلسطين وأسهمت في طرد المستعمر من مصر والتخلص من أعوانه حقبة.. من الزمن، فإن قوى الضلال تمكنت وما زالت متمكنة من عرقلة سير الدعوة حتى يقضوا على الإخوان المسلمين ووحدتهم الفكرية، ورابطتهم الروحية، التي تجعلهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ولكن كل العراقيل التي يضعها جند إبليس في طريق الدعوة قد انهارت، ما دام هناك الالتزام بأمر الله وسنة نبينا المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 62، 62].

ولابد لهؤلاء الإخوة وهم سيبذلون جهدهم في سبيل الله من أن يعرفوا الحقيقة عن ماضيهم، فيستزيدوا من الخير ويتجنبوا الشر، حتى تحفهم الملائكة ويتغمدهم الله برحمته ويكتب على أيديهم النصر بإذن الله، ويظلون كما تركهم الإمام الشهيد إخوانا متحابين، كأنهم البنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.

وإني لأرجو من هذه الرسالة أن تسهم في تحقيق هذا الهدف المبارك الجليل راجيا الله تبارك وتعالى أن يكتبها لي في الصالحات، وأن يغفر لي ذنبي، ويقبل لي عثرتي ويصلح لي سري وعلانيتي وأن يكتبني عنده مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا..

والحمد لله رب العالمين

10/1/ 1407هـ

محمود الصباغ


تمهيد : نصر من الله في أربع معارك قاصمة على مدى جيل واحد


ظل الناس يسمعون عن النظام الخاص في دعوة الإخوان المسلمين وعن وسائله وعن أهدافه، من وسائل الإعلام الحكومية المختلفة، تستوي في ذلك الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية، وبرامج الإذاعة والتلفزيون. ولم يتح لهم حتى اليوم الاستماع عن هذا الموضوع الهام من أي من أعضاء هذا النظام المؤسسين والمنفذين طوال فترة هذا النظام من مبدئة وحتى نهاية علم المؤلف عن مسيرته.. ولا شك أن طبيعة السرية التي يتصف بها مثل هذا النظام تجعل كل ما يقال عنه من غير أعضائه المؤسسين والمنفذين، موضع نظر حتى إذا كانوا من الأعضاء البارزين لجماعة الإخوان المسلمين الذين لم يلتحقوا بعضوية هذا النظام.


فما بالنا بوسائل الإعلام الحكومية المختلفة، التي تستخدم على أوسع نطاق في تأييد وجهة النظر الحكومية، إذا ما أعلنت الحكومة الحرب ضد الإخوان المسلمين ، بقصد إبادتهم والقضاء ع لى دعوتهم؟ إنها حينئذ تستبيح لنفسها أن تكيل التهم جزافا إلى الإخوان المسلمين ، ظنا منها أنها بتدعيم الحكومة في حربها الشرسة ضدهم، إنما تخدم الوطن وترعاه، وهي تستخدم في هذا الصدد جميع صيغ المبالغة والتضليل والتشهير دون تحفظ أو حياء، فهدفها هو أن يستقر في قلوب الناس أن الحكومة في حربها هذه، إنما تؤدي رسالة هامة بل حيوية لحماية أمن الوطن والمواطنين، ضد وحشية جماعة ضالة مضلة تستحل الدماء، وتنشد الخراب لا البناء!!! وهي تعلم يقينا أنها تدعم الباطل الأثيم ضد الحق المبين.

فأنت تسمع من كل وسائل الإعلام في هذه الحالة أن الجهاد في سبيل الله يسمى إرهابا، وأن المجاهدين في سبيل الله هم الإرهابيون، وأن هدف هؤلاء المجاهدين قد تبدل في طرفة عين من إرهاب الأعداء المعتدين إلى إرهاب المواطنين الصالحين!!!

والشعب يقرأ ويسمع ولكنه لا يصدق فهو يعرف هؤلاء الإخوان فردا فردا لأنهم جميعا من أعماق هذا الشعب الحر الأبي المكافح الصابر، الذكي الصامت يعرفون أخلاقهم وسلوكهم وإيجابياتهم في كل حركة وسكنة، لأنهم فتية آمنوا بربهم وأعلنوا الالتزام بمبادئ دعوتهم التي تقوم على مبادئ الشريعة الإسلام ية أسلوبًا ومنهاجًا، سواء في حياتهم الشخصية أو في حياتهم العامة بقصد الإسهام في حماية الوطن وأمنه، والمشاركة في صلاحه وعزه، تحقيقا لقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8].

وتنفيذ لشريعته التي فرضها جل وعلا على المؤمنين فقال عز من قائل:

﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60].

ولقد شهد الحق تبارك وتعالى بصدق الإخوان المسلمين فيما أسروا وأعلنوا فنصرهم على مدى جيل واحد في أربع معارك قاصمة، شنها عليهم إخوان في الوطن، أوهمهم الشيطان أنهم يجمعون أنفسهم كحكام، آمنين من مخالفيهم في الرأي والفقه والأسلوب، من الإخوان المسلمين ، وهم لا يدرون أنهم يحفرون قبورهم بأيديهم، ويرجعون بأوطانهم مئات السنين إلى الوراء، ظانين أنهم يحسنون صنعا!!! إذ مهما شدد الحاكم القيد، فلابد له أن ينكسر ومهما ضيق الحاكم على الشعب الخناق، فلابد للشعب في النهاية أن ينتصر، ولكن بعد الكثير من التضحيات، وأجلها ضياع الزمان والأوقات:


لقد شهد الكثيرون من قراء هذه الرسالة بأنفسهم المعركة الأولى التي أعلنها محمود فهمي النقراشي باشا رئيس وزراء مصر في نوفمبر 1948 م، ولعل التاريخ لم يشهد منذ أبينا آدم إلى اليوم ضلالا أجل وأخطر من ضلال محمود فهمي النقراشي باشا في هذه المعركة، فقد أعلن هذه الحرب على الإخوان المسلمين وهم أصدقاؤه الوحيدون على أرض مصر في ذلك الزمان حيث صدقوه، حين لبس مسوح الوطنية، وأخذ ينادي بجلاء الإنجليز عن مصر في هيئة الأمم المتحدة، يستصرخ العالم لنصرته في قضيته العادلة، بل وتحدى الإخوان المسلمين الزعيم المصري مصطفى النحاس باشا، الذي كان يعلم من وراء الكواليس من هو محمود فهمي النقراشي باشا، فأبرق إلى هيئة الأمم المتحدة يعلن أن هذا الرجل لا يمثل مصر ولكن الإخوان المسلمين ممثلين في مرشدهم الإمام الشهيد الأستاذ حسن البنا أبرقوا إلى هيئة الأمم المتحدة بأن ما يقوله النقراشي باشا هو رأي مصر وقول مصر متبعين في ذلك أمر دينهم الحنيف ﴿وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ [يوسف: 81].


كما صدقه الإخوان المسلمون حين أعلن أنه يحمي المجاهدين الفلسطين يين ممثلين في قائدهم سماحة الحاج أمين الحسيني رحمه الله، الذي نزل إلى أرض مصر هو وابن أخيه المرحوم الشهيد عبد القادر الحسيني في عام 1946 م يجهزون لمعركتهم الفاصلة لاستنقاذ وطنهم السليب فلسطين عندما يجلو عنه الإنجليز في 15 مايو 1945 م، وكيف لا يصدقه الإخوان المسلمون وقد أيد قوله بعمله فصرح لهم بجميع الأسلحة والمفرقعات اللازمة لهذه المعركة الفاصلة وتزويد الهيئة العربية العليا بها، وقد كان كاتب هذه السطور هو ضابط الاتصال بين الإخوان المسلمين والهيئة العربية العليا في أداء هذا الواجب المحتوم؟ وقد أداه الإخوان المسلمون على أحسن ما يكون الأداء وأفضل.

وكيف لا يصدقه الإخوان المسلمون ، وقد صرح لهم بالتدريب على استعمال الأسلحة والمفرقعات، على أرض مصر دون حظر أو قيد حتى يمكنهم من المساهمة إيجابيًا في تحرير فلسطين ، مع إخوانهم من رجال الهيئة العربية العليا؟

وكيف لا يصدقه الإخوان المسلمون ، وقد أعلن بكل شجاعة أنه سيقود المعركة بجيش مصر في 15مايو 1948 م جنبا إلى جنب مع إخوانه من العرب ومن المسلمين؟ وقد تحدى النقراشي باشا السياسي المصري الداهية إسماعيل صدقي باشا وهو يستصدر قرار دخولمصر الحرب من البرلمان المصري، قائلا له إن جيشنا الظافر ذاهب لتأديب بعض العصابات اليهودية وأن النصر مضمون بإذن الله وكان ذلك حين سأله إسماعيل صدقي باشا عن الحل البديل إذا ما قدر لجيش مصر الهزيمة لا قدر الله؟

كل هذه الشواهد والأعمال جعلت الإخوان المسلمين يطمئنون تماما إلى صدق النقراشي باشا في كل ما يفعل أو يقول، فوفقوا بمتطوعيهم جنبا إلى جنب مع قوات جيشنا الباسل مضحين بكل مرتخص وغال، وهم لا يدرون أن في الأمر خدعة يعلمها النقراشي باشا أولا يعلمها، فإن كان لا يدري فتلك مصيبة وإن كان يدري فالمصيبة أعظم!!

انهزم جيش مصر وضاعت فلسطين تحت سمع النقراشي باشا وبصره، ولكنه بدلا من أن يعد إلى جولة ثانية وأن يتخذ من الجولة الأولى عبرا ودروسا فيقوم الخطأ، ويقوي الصواب، انقلب على أخلص من استبسلوا مع جنوده في الجولة الأولى حبسًا، واعتقالا معلنا حل جماعتهم، وتحريم قيام جماعة في مصر تدعو إلى ما تدعو إليه جماعتهم، وكأنه يثأر لمن قتل على أيديهم من أعداء مصر والعروبة والإسلام من الصهيونيين، ثم استسلم إلى هدنة دائمة مع الأعداء استمرت من سنة 1948 م حتى نقضها الأعداء في هجومهم على مصر سنة 1956 م.

وإذا كان النقراشي باشا قد نجح في الانتصار إلى الصهاينة، بحبس واعتقال الإخوان المسلمين ، وعرقلة الحركة الإسلامية فترة من الزمن مثيرا بذلك فتنة عارمة في مصر كان هو أول ضحاياها، فقد انتصر الله لدعوته وعادت الإخوان المسلمون قوية أبية، وأذاق الله حزب النقراشي من نفس الكأس الذي سقاها للإخوان المسلمين فسلط عليه حليفه وسيده الملك فاروق الذي قرر إقالة إبراهيم عبد الهادي باشا خليفته في الحكم هدية الملك للشعب يوم العيد، بعد أن زلزل ثوار الشعب أركان حكم إبراهيم عبد الهادي ، وبعد أن سطر الإمام الشهيد الأستاذ: حسن البنا بدمه على أرض شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليا)، أن مصر العزيزة لا يحكمها إلا عصابة مجرمة تستبيح قتل الصالحين والأئمة من المسلمين جهارًا نهارا، دون خشية أو حياء وقد اتخذوا الإجرام مفخرة وعزا، فما كان أيسر على هذه الحكومة المجرمة، أن تقبض على حسن البنا ضمن من قبضت عليهم من آلاف الإخوان ، أو تقتله ضمن من قتلتهم من الإخوان باسم القانون، والله بريء ممن قتلوا الأبرار الأطهار سواء كان ذلك باسم القانون أو خروجها عليه. وكان نصر الله للمؤمنين في المعركة الأولى نصرا عزيزا.


أما المعركة القاصمة الثانية فقد شهدها معظم قراء هذه الرسالة وهي حرب الإبادة المعلنة من جمال عبد الناصر ضد الإخوان المسلمين سنة 1954 م، وما أشبه الليلة بالبارحة فقد كان عبد الناصر عضوا في الإخوان المسلمين ، ثم صديقا لهم بصفته قائدًا لتنظيم وطني صديق هو تنظيم الضباط الأحرار، وقد صدقه الإخوان المسلمون ، وكيف لا يصدقونه وقد كان عضوًا من أعضائهم؟

وكيف لا يصدقونه وقد تقلد قيادة تنظيم الضباط الأحرار بعد مشورتهم والحصول على موافقتهم، والاطمئنان إلى مناصرتهم؟

وكيف لا يصدقونه وقد بدأت حركته بإعلان مبادئها الستة، في تحالف مع الإخوان المسلمين جعل الناس يثقون بأن حركة الضباط الأحرار ودعوة الإخوان المسلمين هما صورتان لحركة واحدة أساسها حماية الوطن ورعاية الدين؟


ولكنه نسى كل ذلك، عندما استقر في الحكم استقرارًا ظن أنه لن يزول!! واتخذ من بعض الخلافات في الرأي والأسلوب مبررًا لقرار الحرب المهلكة ضد الإخوان المسلمين الذين يجرءون على إعلان مخالفته وهو الزعيم الأوحد؟

ولم يستح أن يفسر حربه ضدهم فيقول عنهم وهم أساتذته «إنهم عصاة».

وقد كان الأجدر به أن يرد على الحجة بالحجة، وأن يرعى أخوة قديمة، وصداقة حديثة كان لها أبلغ الأثر في نجاح حركته، ولكنه لم يفعل، ولم يقف عند حد الاستبداد بالرأي وتنفيذ ما ظن أنه الصواب في ديكتاتورية محتملة، بل لجأ إلى الإبادة الآثمة بكل صور الفجور والطغيان فاعتقل وسجن وعذب وقتل وشرد ما شاء الله له أن يفعل دون رقيب أو حسيب إلا رب الأرباب، الذي سلط عليه ولم يمض سنتان على فعلته الشنعاء حلفاءه الذين عاهدهم بمعاهدة الجلاء فهجموا عليه سنة 1956 م مع أنصارهم من الصهاينة والفرنسيين، وهزم الصهاينة جيشه على الحدود الشرقية، وهزيمة منكرة، ضاعت فيها كرامة الجندي المصري وسمعته، أيما ضياع، حيث لهث الجنود وهم يجرون منهزمين عبر رمال سيناء إلى قناة السويس ممزقة ثيابهم، متورمة أقدامهم، تلهب ظهورهم بنادق العدو ورشاشاته وطائراته دون حماية أو عون من الزعيم الأوحد أو أحد من رجاله المغاوير!! الذين حققوا قول الشاعر:-

أسد علي وفي الحروب نعامة

كأعظم ما يكون التحقيق والأنجاز!!

ولولا أن جمال عبد الناصر لم يكن قد بعد تماما عن الله، فتوجه إلى الأزهر الشريف، واستصرخ ربه هناك أن ينصره وهو السميع البصير، لكانت نهايته ونهاية مصر سنة 1956 م، ولكن الله العليم المحيط أمهله هذه المرة، وسلط على أعدائه حلفائهم من الأمريكان وأعدائهم من الروس فأنذروهم بالجلاء، فأجلوا عن مصر العزيزة، وخفف عبد الناصر قبضته على الإخوان المسلمين وأخرجهم من المعتقلات وأعادهم إلى أعمالهم، بعد أن صححت المحنة نفسه وأصلحت سريرته، ولكن إلى حين!!

وكان نصر الله للمؤمنين في المعركة الثانية نصرًا عزيزًا.


وما أن استتب الأمر لعبد الناصر حتى نسى أن الله هو الذي نصره، وادعى أنها مهارته السياسية والعسكرية، فأخذ يتغنى بهزيمته لثلاث دول استعمارية مجتمعة في 1956 ، بينما ظلت مصر تئن تحت استعمار دولة واحدة من الدول الثلاث بضعًا وسبعين عاما رغم ما قدم زعماؤها من جهاد وتضحيات، ولم يكف عن أن يردد أنه هزم الاستعمار مرتين في عام واحد حيث أخرج الإنجليز بمعاهدة الجلاء فيمايو 1956 م، وأخرجهم هم والفرنسيين واليهود في نوفمبر من نفس العام بقوة السلاح والنضال الذي أتقن حرفته وأجاد لعبته!!!، وانتهى الأمر بأن صدق نفسه، فقرر هجمته على الإخوان المسلمين في عام 1965 م وصمم على أن تكون هجمته هذه المرة مبيدة مهلكة، يرى فيها الإخوان من العذاب والتنكيل والتقتيل والتشريد، ما ضجت به الكتب التسجيلية بعد ذلك، والتي لم تصل ببلاغتها إلى وصف الحقيقة وقسوتها، لأن الحقيقة كانت ولا تزال أبعد من أن يصل إلى وصفها قلم كاتب أو خيال شاعر، وكانت الحقيقة فوق الوصف، حيث تحول الآدميون المتفردون بالسلطة إلى وحوش ضارية، بالغة الخسة في ضراوتها ووحشيتها إلى حد لا يصدقه عقل بشر.

ولقد صدق في جمال عبد الناصر في هذه الهجمة الهمجية الثالثة على الإخوان المسلمين الحديث القدسي (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) فكان انتقامه من جمال عبد الناصر في هذه المرة آية من الآيات الدالة على عظمة الخالق ولطيف عنايته، إذ ألقمه الضربة القاضية في عام 1967 م، حين خيلت له نفسه المريضة، الممتلئة قيحا ودما من دماء الإخوان المسلمين ، أنه مادام قد انتصر على اليهود والفرنسيين والإنجليز مجتمعين في سنة 1956 م، فلا أيسر من أن ينتصر على اليهود منفردين في سنة 1967 م وقد زوده حلفاؤه الروس بما لم يكن يخطر له على بال من أسلحة وعتاد، وأنتجت مصانعه من الصواريخ ما أسماه بالظافر وما أسماه بالقاهر فدق طبول الحرب معلنًا على العالم أجمع أنه اليوم في سنة 1967 م غيره في سنة 1956 م وأنه ليس (خرعا) مثل إيدن وزير خارجية بريطانيا الذي انهارات أعصابه عقب هزيمته في 1956 م، بل هو قادر حتى في حالة الهزيمة أن يصمد ويعيد الكرة بشبابه الغض، وبنيانه القوي المتين!!!

وهيأ له حلفاؤه الروس التمادي في استعراض العضلات، حتى إذا جد الجد وقربت ساعة الصفر تخلوا عنه في لحظة، فتحول الأسد إلى فأر واستجاب لتعليمات السفير الروسي بأن يقيد جنوده، كأوثق ما يكون القيد، ليتلقوا من عدوهم الضربة الأولى دون أدنى مقاومة أو دفاع!!!

أمر عدو نفسه قادة أسلحته الأربعة بالطيران إلى الجبهة ليشدوا وثاق القوات المصرية فلا تتحرك وهي تتلقى الضربة الأولى من العدو، انتظارًا لوعد آلهته من الروس بالانتصار له في هذه الحالة، فطاروا قبيل وقت الصفر، ليسهلوا لعدوهم أن يبيد جميع طائرات سلاح الطيران المصري المنتشرة على مطاراته الثمانية استعدادًا للهجوم وهي محملة بقنابلها في لحظة من الزمان، حيث توجهت ثمان طائرات صهيونية واحدة لكل من مطارات مصر العسكرية ترش الطائرات الجاثمة على الأرض برشاشاتها فتهلكها دون مقاومة، والقيادة في الهواء تطير حثيثا لتشد وثاق جيش مصر في الجبهة، حتى يصبح عريض القفا، فيتلقى على قفاه صفعة الذل والهوان التي لم يشهد مثلها جيشا من جيوش العالم، منذ أبينا آدم إلى اليوم!!!

ولقد علم جمال عبد الناصر في هذه المرة أنه لا حول ولا قوة إلا بالله ولكن بعد فوات الأوان، إذ حل عليه غضب الحق تبارك وتعالى فأصابه المرض العضال الذي أودى بحياته دون أن يرى للنصر ظلا، بل وهو يرتعد من احتمال هجمة الأعداء، فكانت قولته على إيدن حسرة وندامة عليه، ولم يسعفه شبابه المزعوم بصحوة يسترد فيها شرفه، ويعيد لهذا الشعب الحر الأبي المناضل الذي يحسن الصبر، ويجيد المغفرة لمن أذاقوه الويل والحرمان شيئا من الكرامة، وخلفه زميله في السلاح أنور السادات، ولم يكن أمامه إلا أن يحرك الأمور في عكس الاتجاه الذي كان يحركها فيه جمال عبد الناصر، حتى أطلق شعب مصر على سياسة أنور السادات فكاهته المشهورة، التي يسأل فيها سائق سيارته عند مفترق الطرق، كيف كان يتجه عبد الناصر في هذا المفترق؟


فيقول له السائق لقد كان يتجه يسارا، فيرد أنور السادات قائلا أعط الإشارة نحو اليسار واتجه أنت نحو اليمين!!!

كانأنور السادات مضطرًا أن يشيد بسلفه عبد الناصر لأنه امتداد له ولكنه كان مضطرا أيضا أن يعمل في عكس الاتجاه الذي عمل فيه عبد الناصر، لأنه رأى بعيني رأسه أن هذا الاتجاه أودى بعبد الناصر، وبمصر العزيزة معه إلى قاع الهوة السحيقة، وأنه لا يمكن أن تتجه حركتها إلا على عكس اتجاه النزول.

فخفف الوطأة على شعب مصر ، وأعلن قفل المعتقلات إلى الأبد، وأخرج الإخوان من السجون والمعتقلات، وأعادهم إلى أعمالهم، وصدقه هذا الشعب الطيب الكريم، وكيف لا يصدقه، وقد أباح حرية الكلمة، وتعدد الأحزاب وأخرج فعلا كل المسجونين السياسيين من سجونهم، وقفل باب الاعتقال فأحكم إقفاله، حتى أحبه الناس وساندوه وخاضوا معه معركة 1973 م الشهيرة بحرب العاشر من رمضان، حيث حطموا خط بارليف بقوة الله أكبر؟

ولم تتعد خسائر القوات المصرية في هذه المعركة التي أعادت لمصر مجدها، وللأمة العربية عزها، خسائر حادث سيارة أوتوبيس واحدة وفقا لما نشر من أقوال المعجبين بنصر الله وقتئذ وصدق الله العظيم القائل:

﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 40، 41].

وكان نصر الله للمؤمنين في المعركة الثالثة نصرا عزيزا.

وما أن استقر الأمر للسادات واعتقد أن قواعد حكمه قد تمركزت على الأرض فلا يمكن أن ينزعها نازع، أخذت العزة بالإثم، فنفي نصر ربه، وظن أنه رب العائلة المصرية وحاميها، فلا رأي غير رأيه، ولا فعل غير فعله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

تحولت الكلمات الحرة التي ينشرها مخالفوه في الرأي في جرائده الرسمية إلى وقر يصم آذانه ويعمي بصيرته، فأعتبرها هدما وتخريبا، بعد أن كانت له نورا وضياء، أضاءت له الطريق إلى نصر العاشر من رمضان، ثم سمح لنفسه أن يدين بهذه الكلمة الحرة جميع الاتجاهات الفكرية في مصر دون استثناء بدلا من أن يجلها ويحترمها وينتفع بها، لقد أدان السادات جميع النصارى وأدان المسلمين، أدان الوفديين، وأدان الشيوعيين، أدان الوطنيين وزج بهم جميعا في السجون والمعتقلات دون ذنب أو جريرة إلا كلمات الحق التي نشروها تصديقا منهم بأنه معيد الحريات وقافل المعتقلات ومحرر المسجونين، وكأنه يسخر من هؤلاء الأحرار كيف يصدقونه وهو أكذب الكاذبين؟!! فقد كان كاذبا كأجلى ما يكون الكذب وأوضح، أعماه كذبه فأنساه موثقه الذي عاهد عليه الله أن يقفل السجون والمعتقلات إلى الأبد، وأعلنه على رؤوس الأشهاد في كل وسائل الإعلام المحلية والعالمية عدة مرات، بل إنه أعاد فتح السجون والمعتقلات لكل المصريين لا للإخوان المسلمين وحدهم، ومن غير أدنى سبب ظاهري يداري به فعلته الشنعاء فلم ينسب إلى أحد منهم جريمة إلا كلمة الحق يقذف بها الباطل في الجريدة الرسمية المصرح له بها. فبلغ قمة الاستبداد والتأله على شعب منحه حبه، وضحى معه بدمه عزيزا مهراقا على أرض المعركة، وهو ظلم لا يرضي عنه خالق السموات والأرض، الذي أبدع كل شيء صنعا فسلط عليه شبابا من شباب مصر ، وأظلهم بظله فباغتوه في وضح النهار وهو في أوج زينته، وعزه، يستعرض قواته المسلحة ولا يرى فيهم إلا عبيدًا، له ينحنون، وبقوته وعظمته يشهدون، وإذا بهم سادة يقذفونه بالنار، ويدفعون عن أنفسهم وصمة الذل والعار والشنار.

وعادت لمصر عزتها وانتصر الله للمؤمنين في المعركة الرابعة نصرًا عزيزًا.

إنهم يبنون الآن مع البانين، ويبذلون العرق والجهد لإصلاح ما فات مع المصلحين، لا يكررون دراسة التاريخ الأليم، للتشفي ولا للكيد، وإنما يستعرضونه للاستفادة من حكمه البالغة، حتى يحمي الله مصر ، من أن ينقلب عليها بعض أبنائها كما فعل السابقون، وقد صار دعاؤهم ليل نهار اللهم ارحمنا من أصدقائنا وإخواننا أما أعداؤنا فنحن كفيلون بهم، بعونك يا أرحم الراحمين.


وإنني إذ أمهد لكتابي بهذا السرد الموجز لحقائق المرحلة التي لعب فيها النظام الخاص دورا بارزًا في تاريخ مصر إنما أرجو أن تكون الكلمة الحرة القوية أداة تنبيه وإيقاظ لا أداة تشف واغتياظ، أقولها حبا في الخصوم في الرأي لا كرها فيهم، متبعا قول ربي الكريم في قرآنه العظيم ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ ولَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ صدق الله العظيم [فصلت: 34، 35].


محمود الصباغ

الفصل الأول : الجهاد فطرة وشرعًا


الفطرة السليمة


نشأت في الريف المصري في قرية تدعى «هرية رزنة» هي الآن ضاحية من ضواحي بندر الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية بجمهورية مصر العربية، وكان منزلنا بهرية رزنه مشتركا في جدار واحد مع منزل بطل الثورة العرابية المرحوم أحمد عرابي باشا.

ترعرعت محبًا للعزلة، إلا مع أقراني في الدراسة، أو أصدقائي في المسجد، أو رفاقي في النادي الرياضي الذي أسسته وأنا طالب بالثانوية في قرتي هرية رزنه، وأطلقت عليه اسم نادي أحمد عرابي تيمنا باسم هذا البطل المصري العظيم، وكان نشاط هذا النادي في ذلك الوقت محصورا في لعبة كرة القدم، وفيها أشتهر بفوز فريقه دائما على فرق القرى المجاورة مثل بني عامر وبنايوس وكفر الحمام، وكان أهالي هرية رزنة يسعدون كل السعادة وهم يقرأون انتصار فريق أحمد عرابي بهزية رزنة على كل من هذه الفرق بجريدة الاهرام فيهشون لنا ويفرحون بنا، أيما فرح، ويبدون وكأنهم حققوا بنا أعز الأماني والأمجاد..

لقد كانت جريدة الاهرام مع شهرتها في هذه الأيام، أكبر الجرائد اليومية وأوسعها انتشارًا في مصر والبلاد العربية جمعاء، ومع ذلك كان يكفيها أن يصلها في خطاب مرسل بالبريد العادي رسمه خمسة مليمات مصرية، أخبار انتصار فريقنا على فرق القرى المجاورة فتنشرها، كرما منها وتشجيعا لروح الرياضة الجديدة في ريف مصر العزيزة، وما كان أيسر علينا أن نرسل لها مثل هذا الخطاب.

لم أفكر إطلاقا حتى نهاية دراستي الثانوية، في الاشتغال بالسياسة أو الخدمة العامة فقد كانت مصر محتلة بالقوات الإنجليزية، بينما تنادي كل الأحزاب المصر ية المصرح لها بالعمل علنا في الحقل السياسي، بأن الجلاء بالدماء وبأنها أنشئت بهدف واحد هو تحريرمصر من المحتل الغاصب الغاشم، ولم يكن ينطلي على عقلي الفطري شيء من هذه الأقوال ولا هذه الشعارات، إذ كيف يمكن أن يصرح الإنجليز وهم يحكمون مصر بالحديد والنار لحزب من هذه الأحزاب أن يحكم مصر وهو ينادي بهذه الشعارات الوطنية المعادية للإنجليز في فصاحة نادرة وقوة بيان!! إلا أن يكون في الأمر خدعة؟

كان الأمر عندي لا يعدو أن يكون اتفاقا بين كل هذه الأحزاب وبين الإنجليز الذي يمنحون كل حزب منهم الفرصة ليعتلي حكم مصر فترة من الزمان بتناوب رتيب لا خلل فيه ولا عدوان فشعاراتهم هذه لم تكن في نظري إلا سياسة متفق عليها للاستهلاك المحلي بينهم وبين الإنجليز ليست للتنفيذ أو التطبيق، ومن ثم فكان من البديهي أن لا يجذبني شيء من هذه الشعارات، وما كان أيسر علي من الاعتذار لمن يعرض على العمل في حزبه أو جماعته لخدمة مصر ، فالأمر الواقع في جانبي حيث أنهم جميعا أعلا الناس أبواقا وهم خارج الحكم، وأكثرهم التزاما وخضوعا لحكم الإنجليز وهم داخل الحكم، والأمر بينهم جميعا في تناوب رتيب، وكأنها تركة موروثة يأخذ كل منهم حظه فيها بقدر نصيبه من الميراث، وما أيسر أن يحصل أي حزب من هذه الأحزاب جاء دوره في حكم مصر على الأغلبية في مقاعد مجلس النواب والشيوخ، حتى حزب الشعب الذي أسسه إسماعيل صدقي باشا سنة 1930 ولم يتجاوز عدد أعضائه العشرات من النفعيين فقد حصل هذا الحزب على أغلبية ساحقة في انتخابات حرة تماما لم يتدخل فيها رجل من رجال البوليس حيث اكتفى صدقي باشا بإلقاء جميع صناديق الانتخابات الحرة بعيدًا عن مراكز الفرز وإحلال صناديق أخرى مملوءة ببطاقات الانتخابات المزورة محلها لتفرز وتظهر النتائج متعارضة مع كل الحقائق الصارخة على أرض مصر فيسقط زعيم مصر مصطفى النحاس باشا في هذه الانتخابات ويسقط مكرم عبيد باشا وهو علم من أعلام حزب الوفد حينئذ كما سقط زعيمه دون خجل أو حياء ويعتلي إسماعيل صدقي باشا حكم مصر في ديمقراطية ظاهرة لا يمكن أن يؤاخذه عليها إلا علام الغيوب تحت حماية صريحة واضحة هي حماية المحتل الغاصب.

ولو كان أحد من هؤلاء الزعماء صادقًا فيما يدعيه من الحرص على الجلاء لاشتبك مع القوات الإنجليزية في جهاد مسلح حتى أدماها، وأجلاها عن أرض الوطن، دون تردد، فلا يفل الحديد إلا الحديد. هذه هي الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، لا يختلف فيها اثنان يسلمان من الهوى والرياء، ولكنهم أبوا إلا الدجل على رجال مصر وشبابها واقتصروا على قيادة المظاهرات الصاخبة، التي تنادي بالجلاء والدماء، فلا يهدر فيها إلا دماء شباب مصر الأحرار أمثال عبد الحكيم الجراحي وغيره برصاص حكام مصر الخونة الفجار.


الجهاد في تاريخ الشعوب سنة ربانية

ليست مصر هي البلد الوحيد في بلاد العالم الذي احتلته قوات أجنبية، ولكن الصراع المسلح بين البشر سنة ربانية منذ خلق الله الأرض ومن عليها، شرعه الله للإصلاح رغم ما فيه من سفك للأرواح، الأرواح الخيرة والأرواح الشريرة على السواء. قال تعالى في وصف إحدى معارك المسلمين مع الكفار: ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251].

وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم ببَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 49].

إذن فالقتال بين البشر من أجل الإصلاح هو أمر يدفعه الله دفعًا ليحمي به أرضه من أن تفسد، وصوامعه وبيعه وصلواته ومساجده، من أن تهدم، ولتبقى هذه الصوامع والبيع والمساجد ذاخرة بالمصلين، الذين يذكرون اسم الله ويسبحونه بالغدو والآصال، ولا يحل لإنسان كائنا من كان أن ينظر إلى هذا الصراع على أنه شر كله، بل هو دائما خير يريده الله، لحكم يعلمها.

فالنفس البشرية الواقعة تحت تأثير وسوسة الشيطان الدائمة، كثيرًا ما يستبد بها الغرور والرغبة في العدوان على الخير والحق تعاليًا على غيرها من البشر واستعلاء في الأرض يستوي في ذلك الأفراد والحكام والدول، لا يردها إلا الجهاد في سبيل الله سواء بالكلمة أو بالحسام، ولقد رأينا في عصرنا الحديث الأمة الألمانية تحت تأثير زعيمها الدكتاتور « أودلف هتلر » تنادي بأنها فوق الجميع، وتستعد لحكم العالم وقهره بقوة السلاح، ولولا دفع الله دول الحلفاء، ليقفوا في وجهه ويتحملوا ما يوقعه بهم من خسائر فادحة في الأموال والأرواح، حتى ينتصروا عليه، ويوقفوا هذا التسيد الذي يهدد البشرية جمعاء، عند حد الاعتدال، لتمكن هتلر من حكم العالم، ولكان له ما أراد، حتى يقول للناس: أنا ربكم الأعلى، كما سبق أن قالها فرعون مصر في القديم، ويقولها غيره في القديم والحديث وفي كل مكان، هذا مثل واحد من أمثلة جهاد الشعوب يغنينا عن مئات الأمثلة التي يذخر بها تاريخ البشرية على مر العصور.

ولكن ماذا تفعل الشعوب إذا انهزمت قواتها المسلحة أمام أسلحة المعتدين الغاصبين؟ هل يحق لها أن تستسلم وتتعاون مع العدو، وتقدم له خدماتها مخلصة باسم القانون المسطور خصيصًا لخدمة هذا المحتل الغاصب؟

إنها إن فعلت كانت شعوبًا مهزومة لا تستحق أن تقوم لها قائمة، وهو ما لا يقبله شعب من شعوب العالم مهما كانت درجته من العلم والمعرفة، ولنضرب المثل في هذه الحالة أيضًا من واقع صراع العالم ضد تسيد مستبد كهتلر..

لقد رأينا الجنرال ديجول في فرنسا ينظم المقاومة الشعبية ضد الغزاة الألمان في تنظيمات سرية وأخرى، علنية، ويلاحقهم بضرباته الموجعة في كل مكان حتى تحقق له النصر، فتنصبه فرنسا عليها زعيمًا وقائدًا، ولم يجرؤ أحد أن ينسب إليه، ولا إلى أحد من رجاله صفة الإجرام حين كانت أعمالهم كلها جرائم في نظر القانون النازي، الذي يحكم به الانهزاميون الفرنسيون شعبهم، بل إن الأقلام كلها لتشيد الآن ببطولة ديجول ورجاله على ما بذلوا من أرواح وأموال في مقاومة العدو الغاصب، ضاربين عرض الحائط بقانون الأعداء.

تلك هي الأقلام الشريفة التي تبنى النفوس البشرية بما تسطره من عبارات الحق والحكمة، على حب الوطن والتضحية من أجله والفداء، وتحميها من شر الأنانية والنكوص، والاستسلام لحكم القهر والطغيان.

الجهاد فريضة على كل مسلم

فرض الله الجهاد على كل مسلم فريضة لازمة جازمة لا مناص منها ولا مفر، ورغب فيها أعظم الترغيب، وأجزل ثواب المجاهدين والشهداء، فلم يلحقهم في مثوبتهم إلا من عمل بمثل عملهم، ومن اقتدى بهم في جهادهم، ومنحهم من الامتيازات الروحية والعلمية في الدنيا والآخرة ما لم يمنحها سواهم، وجعل دمائهم الطاهرة الزكية عربون النصر في الدنيا، وعنوان الفوز والفلاح في العقبى، وتوعد المخلفين القاعدين بأفظع العقوبات، ورماهم بأبشع النعوت والصفات ووبخهم على الجبن والقعود، ونعى عليهم الضعف والتخلف، وأعد لهم في الدنيا خزيا لا يرفع إلا أن جاهدوا، وفي الآخرة عذابا لا يفلتون منه ولو كان لهم مثل أحد ذهبا، واعتبر القعود والفرار كبيرة من أعظم الكبائر، وأحدى السبع الموبقات المهلكات.

ولست تجد نظاما قديما أو حديثا دينيا أو مدنيا عنى بشأن الجهاد والجندية واستنفار الأمة وحشدها كلها صفا واحدا للدفاع بكل قواها عن الحق، كما تجد ذلك في دين الإسلام وتعاليمه، وآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول العظيم (ص) فياضة بكل هذه المعاني السامية، داعية بأفصح عبارة، وأوضح أسلوب إلى الجهاد والقتال والجندية وتقوية وسائل الدفاع والكفاح بكل أنواعها من برية بحرية وغيرها على كل الأحوال والملابسات.

فمن القرآن الكريم قوله تعالى:

1- ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].

ومعنى كتب: فرض كما قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ في نفس السورة.

2- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: 156 - 158].

ومعنى ضربوا في الأرض: خرجوا فيها مجاهدين، وغزا: غزاة محاربين.

3- ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 169 - 170].

4- ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 74]

5- ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60]

6- ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: 65]

وليرجع القارئ إلى سورة الأنفال فكلها حث على القتال وحض على الثبات فيه، وبيان لكثير من أحكامه، ولهذا اتخذها المسلمون الأولون رضوان الله عليهم نشيدا حربيا، يتلونه إذا اشتد الكرب وحمى الوطيس، وحسبنا في هذا المجال ما قدمنا من هذه السورة المباركة.

7- ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيخْزِهِمْ وَينصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبهِمْ وَيتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 14- 15]

8- ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29].

9- ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 29]

10- ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ [التوبة: 81 - 83]

11- ﴿لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 88- 89]

12- ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111]

وسورة التوبة كلها حث على القتال وبيان لأحكامه، وفيها حث على قتال المشركين وقتال غير المؤمنين من أهل الكتاب، والدعوة إلى النفير العام والتنديد الصارخ بموقف القاعدين الجبناء الأنذال، وحرمانهم من شرف الجهاد أبد الآبدين، والإشادة بموقف المجاهدين وعلى رأسهم سيدهم الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وبيان أن هذه سنته المطهرة وسنة أصحابه الغر الميامين، ثم البيعة الجامعة المانعة التي لا تدع عذرا لمعتذر، فليرجع إلى هذه السورة الكريمة من أراد أن يقف على كل هذه الأحكام، وحسبنا ما قدمنا منها في هذا المجال من آيات بينات.

13- ﴿وَيقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾ [محمد: 20 - 21].

وسورة محمد تسمى أحيانا سورة القتال: إشارة إلى أن القتال في سبيل الله هو أمر استحق من التكريم أن تنزل سورة كاملة باسمه.

14- ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ [الصف: 4]

15- ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [الفتح: 18- 19].

تصور يا أخي أن سورة محمد كما ذكرنا من قبل تسمى أيضا سورة القتال، وكأن اسم محمد عليه الصلاة السلام واسم القتال علمان على سورة واحدة تبين أحكام قتال الكفار والمشركين ولترجع إليها وإلى غيرها من السور الكثيرة في كتاب الله الكريم التي ورد فيها ذكر الجهاد من هذا الباب لترى العجب العجيب وتده لغفلة المسلمين عن اغتنام هذا الباب.

ومن أحاديث رسول الله (ص) في الجهاد:

1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل» (رواه البخاري) السرية: القطعة من الجيش لا يكون فيها القائد العام.

2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: «والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك».

(الكلم: الجراح. ويكلم: يجرح).

3- وعن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضير عن قتال بدر فقال يا رسول الله: غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعني أصحابه) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعني المشركين) ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد ابن معاذ الجنة ورب النصر، إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. قال أنس فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة بالرمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد غير أخته ببنانة، قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه:

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب: 23، 24]. (رواه البخاري).

من دون أحد: أي من جهة أحد.

4- وعن أم حارثة بنت سراقة أنها أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة- وكان قبل يوم بدر أصابه سهم غرب -فإن كان في الجنة صبرت وإن كان في غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء. قال يا أم حارثة «إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى» (أخرجه البخاري). السهم الغرب: الذي لا يعرف راميه.

5- وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: «اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» (أخرجه الشيخان وأبو داود).

6- وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: «من جهز غازيًا في سبيل الله تعالى فقد غزا ومن خلف غازيًا في سبيل الله بخير فقد غزا» (رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي). فقد غزا: أي له أجره.

7- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): «من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده، فإن شبعه وربه وروثه في ميزانه يوم القيامة» (رواه البخاري).

8- وعن أبي هريرة قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، ثم قال «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد» (رواه الستة إلا أبا داود).

9- وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (ص): «ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس، إن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله على ظهر فرسه أو ظهر بعيره، أو على قدمه حتى يأتيه الموت، وإن شر الناس رجلا يقرأ كتاب الله لا يرعوي بشيء منه» (رواه النسائي).

لا يرعوي: أي لا يتعظ ولا ينزجر وهو حال أغلب المسلمين اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله.

10- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقوله: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى». (رواه الترمذي)

11- وعن أبي عميرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): «لأن أقتل في سبيل الله أحب إلي من أن يكون لي أهل المدر والوبر» (أخرجه النسائي)

أهل المدر والوبر: أي أهل الحواضر والبوادي.

12- وعن راشد بن سعد رضي الله عنه عن رجل من الصحابة أن رجلا قال: يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ فقال: «كفاه ببارقة السيوف على رأسه فتنة» (أخرجه النسائي) 13- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: «ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة» (رواه الترمذي والنسائي والدارمي وقال الترمذي حسن غريب)

14- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) قال: «عجب ربنا تبارك وتعالى من رجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه فعمل ما عليه فرجع حتى أريق دمه، فيقول الله للملائكة انظروا إلى عبدي رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي حتى أريق دمه أشدكم أني قد غفرت له».

شفقا: خوفا.

وأريق دمه: سال دمه.

15- وعن عبد الخير بن ثابت بن قبس بن شماس عن أبيه عن جده قال: جاءت امرأة إلى رسول الله (ص) يقال لها أم خلاد وهي متنقبة تسال عن ابن لها قتل في سبيل الله فقال لها بعض أصحابه: جئت تسألين عن ابنك وأنت متنقبة، فقالت إن أرزأ ابني فلن أرزأ حياتي. فقال لها النبي (ص): «إن ابنك له أجر شهيدين» قالت ولم؟ قال: «لأنه قتله أهل الكتاب» (أخرجه أبو داود)

أرزأ ابني: أي افقده وأصابه فيه وفي هذا الحديث إشارة إلى وجوب قتال أهل الكتاب الذين يقاتلون المسلمين وأن الله يضاعف أجر من قاتلهم، وليس الجهاد للمشركين فقط، ولكن لكل من لم يسلم من الأعداء.

16- وعن سهل بن حنيف (ص) أن رسول الله (ص) قال: «من سال الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» (أخرجه الخمسة( ) إلا البخاري).

17- وعن خريم بن فاتك قال: قال رسول الله (ص): «من أتفق نفقة في سبيل الله تعالى كتبت له بسبعمائة ضعف» (رواه الترمذي وحسنه الألباني)

18- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر رجل من أصحاب رسول الله (ص) بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته فقال لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، فذكر ذلك لرسول الله (ص) فقال: «لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته سبعين عاما، لا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم جنته، اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة» (رواه الترمذي) عيينة: عين صغيرة تفيض بالماء. 19- وعن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله (ص): «للشهيد عند الله ستة خصال: يغفر له من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، والياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه» (رواه الترمذي وابن ماجه).

20- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): «من لقي الله بغير أثر من جهاد، لقي الله وفيه ثلمة» (رواه الترمذي وابن ماجة)

21- وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه» (رواه مسلم)

22- وعن عثمان بن عفان (ص) عن النبي (ص) قال: «من رابط ليلة في سبيل الله سببحانه وتعالى كانت كألف ليلة صيامها وقيامها» (رواه ابن ماجة).

23- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: «غزوة في البحر مثل غزوات في البر، والذي يسدر في البحر كالمتشحط في دمه في سبيل الله» (رواه ابن ماجة).

يسدر: يميل ويهتز وترتج به السفينة. وفيه إشارة بغزوة البحر، ولفظ نظر الأمة إلى وجوب العناية بحفظ سواحلها وتقوية أسطولها ويقاس عليه الجو، فيضاعف الله للغزاة في الجو في سبيله أضعافا مضاعفة.

24- وعن جابر بن عبد الله يقول: لما قتل عبد الله بن عمرو بن حزام يوم أحد قال رسول الله (ص) : «يا جابر ألا أخبرك ما قال الله -عز وجل- لأبيك؟» قلت بلى. قال: «ما كلم الله أحدًا إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحًا فقال يا عبدي فمن عليَّ أعطيك. قال يا رب تحييني لأقتل فيك ثانية. قال إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال يا رب فأبلغ من ورائي. فأنزل الله -عز وجل- هذه الآية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169- 171] (رواه ابن ماجة).

25- وعن أنس عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال: «لأن أشيع مجاهدًا في سبيل الله فأكففه على رحله غدوة أو روحه أحب إلي من الدنيا وما فيها» (رواه ابن ماجة).

فأكففه على رحله: فأسعده عليه

غدوة: بالغدو وهو الصباح.

روحة: في الرواح وهو المساء.

26- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): «وفد الله ثلاثة: الغازي والحاج والمعتمر» (رواه مسلم).

27- وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله (ص) : «يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته» (رواه أبو الدرداء).

28- عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (ص): «إذا تبايعتم بالنسيئة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم» (رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم).

29- وعن أبي هريرة قال: انطلق رسول الله (ص) وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله (ص): «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» قال عمير بن الحمام: بخ بخ، فقال رسول الله (ص) : «ما يحملك على قولك بخ بخ» قال لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: «فإنك من أهلها» قال: فأخرج ثمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن حييت حتى آكل ثمراتي إنها لحياة طويلة فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل» (رواه مسلم).

39- عن أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفًا عظيمًا من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل بينهم فصاح الناس وقالوا سبحان الله يلقى بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: أيها الناس أنتم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرًا دون رسول الله (ص) أن أموالنا قد ضاعت وأن الله تعالى أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه ما يرد علينا ما قلناه: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195] وكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصًا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم» (رواه الترمذي).

ولاحظ يا أخي أن أبا أيوب حين يقول هذا كان في سن كبيرة قد جاوز الشباب والكهولة ومع هذا فقلبه وروحه وإيمانه مثال للفتوة القوية بتأييد الله وعزة الإسلام .

31- وعن أبي هريرة عن رسول الله (ص) أنه قال: «من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق» (رواه مسلم وأبو داود ونظائره كثيرة).

والأحاديث الكريمة والآيات القرآنية في تفصيل أحكام القتال أكثر من أن يحيط بها مجلد كبير وندلك على كتاب «العبرة فيما ورد عن رسول الله في الغزو والجهاد والهجرة» للسيد حسن صديق خان، وكتاب: «مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق» «ومثير الغرام إلى دار السلام» وما جاء في كتب الحديث كلها في باب الجهاد ففيها الكثير الطيب من هذا الباب، وما جاء في فقه السنة للسيد سابق في باب الجهاد.

حكم الجهاد عند فقهاء الأمة

1- قال صاحب مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر مقررًا أحكام الجهاد في مذهب الأحناف: «الجهاد في اللغة بذل ما في الوسع من القول والفعل، وفي الشريعة قتل الكفار ونحوه من ضربهم ونهب أموالهم وهدم معابدهم وكسر أصنامهم، والمراد الاجتهاد في تقوية الدين بنحو قتال الحربيين والذميين (إذا نقضوا) والمرتدين الذين هم أخبث الكفار للنقض بعد الإقرار، والباغين- بدأ منا- فرض كفاية، يعني يفرض علينا أن نبدأهم بالقتال بعد بلوغ الدعوة وإن لم يقاتلونا، فيجب على الإمام أن يبعث سرية إلى دار الحرب كل سنة مرة، أو مرتين، وعلى الرعية إعانته وإذا قام به بعض سقط عن الباقين، فإذا لم تقع الكفاية بذلك البعض وجب على الأقرب فالأقرب فإن لم تقع الكفاية إلا بجميع الناس فحينئذ صار فرض عين كالصلاة، أما الفريضة فلقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: 5] ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» وإن تركه الكل أثموا، إلى أن قال: فإن غلب العدو على بلد من بلاد الإسلام أو ناحية من نواحيها ففرض عين، فتخرج المرأة والعبد بلا إذن الزوج والمولى، وكذا يخرج الولد من غير إذن والديه والغريم بغير إذن دائنه.

وفي كتاب البحر: «امرأة مسلمة سُبِيَتْ بالمشرق وجب على أهل المغرب تخليصها ما لم تدخل حصونهم وحرزهم».

2- وقال صاحب: «بلغة السالك لأقرب المسالك في مذهب الإمام مالك» الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله تعالى كل سنة فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ويتعين (أي يصير فرض عين كالصلاة والصوم) بتعيين الإمام وبهجوم العدو على محلة قوم، فيتعين عليهم وعلى من يقربهم إن عجزوا، ويتعين على المرأة والرقيق مع هذه الحالة، ولو منعهم الولي والزوج والسيد ورب الدين إن كان مدينا، ويتعين أيضا بالنذر، وللوالدين المنع فيه في فرض الكفاية فقط، وفك الأسير من الحربيين إن لم يكن له مال يفك منه، فرض كفاية، وإن أتى على جميع أموال المسلمين».

3- وفي متن المنهاج للإمام النووي -الشافعي- كان الجهاد في عهد رسول الله (ص) فرض كفاية وقيل عين، وأما بعده فللكفار حالان:

أحدهما: يكونون ببلادهم فرض كفاية إذا فعله من فيهم الكفاية من المسلمين سقط الحرج عن الباقين. والثاني: يدخلون بلدة لنا فيلزم أهلها الدفع بالممكن، وإن أمكن تأهب لقتال وجب الممكن حتى على الفقير وولد ومدين وعبد بلا إذن.

4- وفي المعنى لابن قدامة الحنبلي قال: مسألة الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين ويتعين في ثلاثة مواضع:

(أ) إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف ويتعين عليه المقام.

(ب) إذا نزل الكفار ببلدة تعين على أهله قتالهم ودفعهم.

(ج) إذا استنفر الإمام قومًا لزمهم النفير معه.

قال أبو عبد الله: (يعني الإمام أحمد بن حنبل) لا أعلم شيئًا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد، وغزوة البحر أفضل من غزوة البر. قال أنس بن مالك : نام رسول الله (ص) ثم استيقظ وهو يضحك قالت أم حرام فقلت ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله يركبون ثيج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة» متفق عليه، ومن تمام الحديث أن أم حرام سألت النبي (ص) أن يدعو الله لها لتكون من هؤلاء فدعى لها فعمرت حتى ركبت البحر في أسطول المسلمين الذي فتح جزيرة قبرص، وماتت بها ودفنت فيها، وهناك مسجد ومشهد ينسب إليها رحمها الله ورضي عنها.

5- وقال في المحلى لابن حزم الظاهري -مسألة- والجهاد فرض على المسلمين فإذا قام به من يدفع العدو ويغزوهم في عقر دارهم ويحمي ثغور المسلمين سقط فرضه عن الباقين، وإلا فلا. قال الله تعالى: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 41] ولا يجوز إلا بإذن الأبوين إلا أن ينزل العدو بقوم من المسلمين، ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم معينًا لهم أذن الأبوان أم لم يأذنا إلا أن يضيعا أو أحدهما بعده فلا يحل له ترك من يضيع منهما.

6- وقال الشوكاني في السيل الجرار: «الأدلة الواردة في فرضية الجهاد كتابًا وسنة أكثر من أن تكتب ها هنا، ولكن لا يجب ذلك إلا على الكفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عين على كل مكلف، وهكذا يجب على من استنفره الإمام أن ينفر ويتعين ذلك عليه.

الخلاصة:

هاأنت ذا ترى من ذلك كله كيف أجمع أهل العلم مجتهدين ومقلدين، سلفيين وخلفيين على أن الجهاد فرض كفاية على الأمة الإسلامية لنشر الدعوة، وفرض عين لدفع هجوم الكفار عليها.

والمسلمون الآن كما تعلم مستذلون لغيرهم، محكومون بالكفار، قد ديست أرضهم وانتهكت حرماتهم، وتحكم في شئونهم خصامهم، وتعطلت شعائر دينهم في ديارهم، فضلا عن عجزهم عن نشر دعوتهم. فوجب وجبوًا عينيًا لا مناص أن يتجهز كل مسلم وأن ينطوي على نية الجهاد وإعداد العدة له حتى تحين الفرصة ويقضي الله أمرًا كان مفعولا.

ولعل من تمام هذا البحث أن أذكر لك أن المسلمين في أي عصر من عصورهم قبل هذا العصر المظلم الذي ماتت فيه نخوتهم، لم يتركوا الجهاد، ولم يفرطوا فيه، حتى علماؤهم والمتصوفة منهم والمحترفون وغيرهم، فكان جميعًا على أهبة الاستعداد، كان عبد الله بن المبارك الفقيه الزاهد متطوعا في أكثر أوقاته بالجهاد، وكان الواحد بن زيد الصوفي الزاهد كذلك، وكان شقيق البلخي شيخ الصوفية في وقته يحمل نفسه وتلامذته على الجهاد، وكان البدر العيني شارح البخاري الفقيه المحدث يغزو سنة ويدرس العلم سنة ويحج سنة، وكان القاضي أسد بن الفرات المالكي أميرًا للبحر في وقته، وكان الإمام الشافعي يرمي عشرة ولا يخطئ.

كذلك كان السلف رضوان الله عليهم، فأين نحن من هذا التاريخ؟ آن لي أن أقول كان فضيلة الشيخ سيد سابق غازيًا مع أول مجموعة من متطوعي النظام الخاص في حرب فلسطين سنة 1948 من الإخوان المسلمين ، محييًا بذلك سيرة السلف من العلماء والعارفين.

لماذا يقاتل المسلم ؟

فرض الله الجهاد على المسلمين لا أداة للعدوان، ولا وسيلة للمطامع الشخصية، ولكن حماية للدعوة وضمانًا للسلم وأداء للرسالة الكبرى التي حمل عبئها المسلمون، رسالة هداية الناس إلى الحق والعدل، وأن الإسلام كما فرض القتال أشاد بالسلام فقال الحق تبارك وتعالى: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 61، 61].

كان المسلم يخرج للقتال وفي نفسه أمر واحد أن يجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، وقد فرض دينه عليه أن لا يخلط بهذا المقصد غاية أخرى، فحب الجاه عليه حرام، وحب الظهور عليه حرام، وحب المال عليه حرام، والغلول من الغنيمة عليه حرام، وقصد الغلب بغير الحق عليه حرام، والحلال أمر واحد أن يقد دمه وروحه فداء لعقيدته وهداية للناس.

عن الحارث بن مسلم بن الحارث عن أبيه قال: بعثنا رسول الله (ص) في سرية، فلما بلغنا المغار استحثت فرسي، فسبقت أصحابي، فتلقاني أهل الحي بالرنين، فقلت لهم قولوا لا إله إلا الله تحرزوا، فقالوها، فلامني أصحابي وقالوا حرمتنا الغنيمة، فلما قدمنا على رسول الله (ص)أخبروه بالذي صنعت، فدعاني فحسن لي ما صنعت ثم قال لي: ألا إن الله تعالى قد كتب لكل إنسان كذا وكذا من الأجر، وقال: أما إني سأكتب لك بالوصاية بعدي ففعل وختم عليه ودفعه إلي» (أخرجه أبو داود).

وعن شداد بن الهادي : أن رجلا من الأعراب جاء فآمن بالنبي (ص) ثم قال أهاجر معك، فأوصى به النبي (ص) بعض أصحابه، فكانت غزاة غنم فيها النبي (ص) شيئا فقسم وقسم له، فقال: ما هذا؟ فقال قسمته لك. فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمي إلى ههنا -وأشار بيده إلى حلقة- بسهم فأموت فأدخل الجنة. قال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتى به النبي محمولا وقد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي (ص) أهو هو؟ ثم قدمه فصلى عليه فكان مما ظهر من صلاته: «اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدًا وأنا شهيد على ذلك» (أخرجه النسائي).

وعن أبي هريرة (ص) أن رجلا قال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضًا من الدنيا، فقال: لا أجر له. فأعادها عليه ثلاثا كل ذلك يقول: «لا أجر له» (أخرجه أبو داود).

وعن أبي موسى (ص) قال: سئل رسول الله (ص)عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سيبل الله؟

قال (ص) : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (أخرجه الخمسة).

وأنت إذا قرأت وقائع الصحابة رضوان الله عليهم ومسالكهم في البلاد التي فتحوها رأيت مبلغ عزوفهم عن المطامع والأهواء، وانصرافهم لغايتهم الأساسية الأصيلة وهي إرشاد الخلق إلى الحق حتى تكون كلمة الله هي العليا، ورأيت مبلغ الخطأ في اتهامهم رضوان الله عليهم بأنهم إنما كانوا يريدون الغلب على الشعوب والاستبداد بالأمم والحصول على الأرزاق.


الرحمة في الجهاد الإسلامي

لما كانت الغاية في الجهاد الإسلامي أنبل الغايات، كانت وسيلته كذلك أفضل الوسائل، فقد حرم الله العدوان، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190].

وأمر بالعدل حتى مع الأعداء والخصوم فقال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8].

وأرشد المسلمين إلى منتهى الرحمة، فهم حينما يقاتلون لا يعتدون ولا يفجرون ولا يمثلون ولا يسرقون، ولا ينتهبون الأموال، ولا ينتهكون الحرمات، ولا يتقدمون بالأذى، فهم في حربهم خير المحاربين، كما أنهم في سلمهم أفضل مسالمين.

عن بريدة قال: كان رسول الله (ص)إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلو ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا» (رواه مسلم).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): «إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه» (أخرجه الشيخان).

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله (ص): «أعف الناس قتلة أهل الإيمان» (أخرجه أبو داود).

وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري قال: «نهى رسول الله (ص) عن النهب والمثلة» (أخرجه البخاري).

كما ورد النهي عن قتل النساء والصبيان والشيوخ والإجهاز على الجرحى وإهاجة الرهبان والمنعزلين ومن لا يقاتل من المؤمنين، فأين هذه الرحمة من غارات المتمدينين المدمرة المهلكة للحرث والنسل؟ وأين قانونهم الدولي من هذا العدل الرباني الشامل؟ وأقول وما قنابل هيروشيما وناجازاكي عنا ببعيد!!!

اللهم فقه المسلمين في دينهم وأنقذ العالم من هذه الظلمات بأنوار الإسلام .


الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر

شاع بين كثير من المسلمين أن قتال العدو هو الجهاد الأصغر وأن هناك جهادًا أكبر هو جهاد النفس، وكثير منهم يستدل لذلك بما يروي في الأثر: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب أو جهاد النفس».

وبعضهم يحاول بهذا أن يصرف الناس عن أهمية القتال والاستعداد له ونية الجهاد والأخذ في سبيله، فأما هذا الأثر فليس بحديث على الصحيح، قال الحافظ بن حجر في تسديد القوس: (هو مشهور على الألسنة وهو من كلام إبراهيم بن عبله).

وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: رواه البيهقي بسند ضعيف عن جابر ورواه الخطيب في تاريخه عن جابر، على أنه لو صح فليس يعطي أبدًا الانصراف عن الجهاد والاستعداد لإنقاذ بلاد المسلمين، ورد عادية أهل الكفر عنها، وإنما يكون معناه وجوب مجاهدة النفس حتى تخلص لله في كل عملها ومنه الجهاد فليعلم.

ما يلحق بالجهاد:

هناك أمور تلحق بالجهاد منها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد جاء في الحديث: «إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر».

ولكن شيئا لا يوجب لصاحبه الشهادة الكبرى وثواب المجاهدين إلا أن يقتل أو يقتل في سبيل الله.

خاتمة : رسالةالجهاد للإمام الشهيد الأستاذ حسن البنا

لعل أبلغ ما نقدم به موضوع الجهاد في شريعة الإسلام هو رسالة الجهاد، كما كتبها الإمام الشهيد الأستاذ: حسن البنا مع تصرف بسيط في حدود المسموح به، لأنها تلقي الضوء على فكر الإخوان المسلمين ، ومصادر هذا الفكر من الشريعة الإسلامية، خاصة وأن رسالة الجهاد هي نفسها رسالة النظام الخاص في دعوة الإخوان المسلمين كما رآها قائد هذه الدعوة وفقهها، وفقه فيها إخوانه المسلمين، وهي رسالة منشورة وموفورة لمن أراد الرجوع إلى أصلها في معظم المكتبات.

يقول فيها :

أيها الإخوان : إن الأمة التي تحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهم الذي أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت، فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة، واعلموا أن الموت لا بد منه وأنه لا يكون إلا مرة واحدة، فإن جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربح الدنيا وثواب الآخرة، وما يصيبكم إلا ما كتب الله لكم، وتدبروا جيدا قول الله تبارك وتعالى ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 154].

فاعملوا للموتة الكريمة تظفروا بالسعادة الكاملة. رزقنا الله وإياكم كرامة الاستشهاد في سبيله.


رثاء المؤلف للإمام الشهيد:

لا بد لي يا أخي في الله، الإمام الشهيد وأنا أسطر آخر سطر في رسالتك الفياضة عن الجهاد أن أرثيك بما شهدته منك من حق وصدق.

فقد علمتنا يرحمك الله أصول ديننا التي غيبتها عنا البرامج الدراسية منذ الصغر حتى صرنا رجالا بالغين، ولولا وجودك بيننا لبقينا كما بقي غيرنا ممن لم يتصلوا بدعوتك، واقتصروا على علوم الدنيا، حتى بلغوا أرقى الدرجات العلمية، جهلة بأمر هذا الدين الحنيف وأوامره الحقة ونواهيه، ولكنا مثل الكثير منهم، حربًا على دعاة الإسلام من فرط جهلنا بما هو الإسلام ونحن نحسب أننا من المحسنين!!

لقد أخذنا عنك أن الجهاد فرض عين في هذا الزمان المظلم من حياة المسلمين وعلمنا أنك قد صدقتنا، فعاهدنا الله على الجهاد في سيله حتى نلقاه أو نلهك دون دعوته.


لقد رأينا فيك الداعية الصادق المجاهد الذي صدق الله وهو يدعو لنفسه ولنا أن يرزقنا الشهادة، وكان تصميمك في فبراير 1948 على الخروج إلى فلسطين مجاهدًا ومن معك من الإخوان المسلمين ، لا تعود حتى تنال الشهادة أو تتحرر فلسطين دليل صدقك لله في دعوتك ولولا أن كفيناك ذلك في هذه الأيام لكنت أول الخارجين إلى الجهاد في سبيل الله.

لقد صدقك الله حين صدقته فرزقك أجمل الشهادات وأبهاها في سبيله، شهادة أهرق فيه دمك الزكي الطاهر على أرض شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليًا) ليسجل للناس كافة أن حكام هذا الزمان ليسوا إلا عصابة من المجرمين السفاكين القتلة، الخائنين للعهد والأمانة، وقد أتقنوا تضليل الناس عن حقيقتهم، حتى كشفتها شهادتك واضحة راسخة، مؤكدة لا يختلف فيها اثنان، وبقي على الناس أن يسيروا على دربك حتى ينتصر الإسلام ويعود له عزه.

يرحمك الله يا أخي الإمام الشهيد رحمة واسعة ويفسح لك في جناته، ويلحقنا بك في الصالحين آمين.

الفصل الثاني

  • البيعة.
  • تكوين جيش مسلم..
  • المحكمة تعلن أن تهمة تدخل الجماعة الدينية في السياسة لا تتفق مع الحقيقة المعلومة أن الإسلام دين ودولة..
  • براءة النظام الخاص..
  • المحكمة تواجه النيابة بأنها تحمل الألفاظ أمورًا لا تحتملها بغير أساس على الإطلاق..
  • المحكمة تقرر أن التهم المسندة إلى المتهمين لا أساس لها على الإطلاق..
  • المحكمة تبرئ جميع المتهمين من تهمة إحراز أجهزة لاسلكية..


مقدمة


لقد علمنا الإمام الشهيد ضمن ما علمنا من الأذكار والأوراد، ورد المحاسبة وهو استعراض أعمال اليوم ساعة النوم، فإن وجد الأخ خيرًا فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فليستغفر وليسأل ربه، ثم يجدد التوبة وينام على أفضل العزائم .

وعلى هذا الدرب أجد نفسي مضطرًا لأن أحاسبها وأنا في خريف العمر أقرب ما أكون إلى ساعة الرقدة الأخيرة، من هذه الدنيا، حسابا علنيًا، لا أبتغي منه إلا تصحيح الحقائق عن النظام الخاص للإخوان المسلمين، التي تكلم عنها رجال من صفوة الإخوان المسلمين ، فغيبوها، لا لشيء إلا لأنهم باعترافهم لم يكونوا من أعضاء هذا النظام، وإن كانوا من قادة الإخوان المسلمين ، بل ومنهم مرشدهم الثالث فضيلة الأخ الكريم الأستاذ عمر التلمساني يرحمه الله.


ولقد قضيت ثلاثة وثلاثين عامًا متصلة أقتصر على تصحيح هذه الحقائق شفاهة لمن تحدث معي فيها من الإخوان المسلمين ، وكتابة لجميع أعضاء الهيئة التأسيسية و مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين عام 1953، من قبل أن تصيبهم هجمة عبد الناصر الشرسة عليهم عام 1954 وكان ذلك يكفيني رضى عن قيامي بواجبي، لولا أن تعرض عدد من قادة الإخوان المسلمين حاليًا للكتابة عن هذا النظام في الجرائد السيارة والمجلات الأسبوعية، بل وفي كتبهم المؤلفة بما لم يحيطوا بعلمه، إلا أنهم باعترافهم وكما قلت من قبل لم يكونوا في يوم من الأيام أعضاء في هذا النظام، فأني لهم بالحقيقة وطبيعة هذا النظام السرية التامة إلا على أعضائه المؤسسين والمنفذين؟

ولقد كنت أتمنى أن يعفيني الله من هذا الحساب العلني الشاق، لو مد الله في عمر فقيدنا الكريم المرحوم الأستاذ عمر التلمساني، فتلقى خطابي المفتوح الذي أرسلته إليه عن طريق جريدة الشرق الأوسط، باعتبارها أولى الجرائد الكبرى التي نشرت مذكرات فضيلته ومست هذا الموضوع إذن لكان رده على خطابي يكفيني مئونة هذا العناء، ولكن إرادة الله غالبة وقضاؤه حتمي لا راد له إلا هو، والخير فيما اختاره رب العالمين.

التعرف على الزميل مصطفى مشهور مشهور


شاء قدري الطيب أن أكون جارا في الفصل الدراسي بمدرسة الزقازيق الثانوية لتلميذ من سن ي هو التلميذ مصطفى مشهور مشهور، وكنا حينئذ لم نتجاوز الثانية عشرة من أعمارنا بالسنة الأولى الثانوية، ولكن صحبتي ل مصطفى في هذا العام لم تدم إلا شهرًا واحدًا أو أكثر قليلا حيث حول قيده من الزقازيق الثانوية إلى العباسية الثانوية منتقلاً بذلك من الحياة في مديرية الشرقية إلى الحياة في مدينة القاهرة، ولم يجمعني بهذا التلميذ الزميل إلا براءة الطفولة، فكنا أحبابًا نستمع إلى دروسنا، ونلعب سويًا في أوقات الفسحة، بقطعة من الطوب، نتمثلها كرة قدم، يلاعب كل منا صاحبه ليظفر منه بالكرة كلما استطاع حتى نهاية الفسحة.


وانتهت دراستي الثانوية سنة 1938 منطويًا عن أي مجال في الخدمة العامة للأسباب التي أوضحتها في الفصل الأول من هذا الكتاب. اللهم إلا العلاقات الشخصية مع زملائي وأقراني في المدرسة أو المسجد أو القرية حيث أسسنا فريقًا لكرة القدم أطلقنا عليه اسم فريق أحمد عرابي باشا مثلما سبقت الإشارة إليه.

والتحقت بكلية العلوم شعبة الرياضة والفيزياء في هذا العام بقدر رباني هو أقرب ما يكون إلى الأحداث العجيبة، التي يحمل ذكرها لما تحمله من عرض لبعض ظروف الوطن السياسية والاقتصادية وأثر ذلك على الحياة العامة في ذلك الزمان.

فقد كان والدي من تجار القطن المصدرين الذين تأثروا بانخفاض أسعار القطن تأثرًا كبيرًا، ولكنه استمر يعمل في هذا المجال قدر جهده محتفظًا بعلاقات الصداقة القديمة مع كبا التجار الذين نالوا حظا أوفر من هذه التجارة، وكان من أبرز أصدقائه منهم عبد العزيز رضوان باشا.

وحدث ذات يوم أن صحبني والدي في إحدى زياراته لعبد العزيز باشا، فلما تعرف علي تعجب أكبر العجب من هذا التلميذ الذي يراه صغيرًا جدًا، ولكنه طالب بشهادة البكالوريا، وصمم على أن يأخذني معه إلى صديقه المرحوم بهي الدين بركات باشا وزير المعارف حينئذ ليطلعه على هذه الظاهرة العجيبة -من وجهة نظره طبعًا- ولم يكن أمامي أنا وأبي أمام مظاهر ابتهاج عبد العزيز باشا بمقابلتي وتصميمه على عرضي على وزير المعارف إلا أن نقبل عرضه كمتفرجين.


وفوجئت بعد العرض بقرار من وزير المعارف بمنحي مجانية كاملة دائمة بمدرسة الزقازيق الثانوية، رغم أنني كنت أوشكت على اتمام الدراسة بها، ودفعت فعلا القسط الأول والقسط الثاني ورسوم الامتحان للسنة النهائية بها، ولكن أبي فكر أن يستفيد بهذا القرار أكبر فائدة ممكنة، فقال لي اسمع يامحمود: أنت الآن لا تزال صغير السن، وليس لنا أقارب في القاهرة يمكن أن اعتمد عليهم في رعايتك إذا أنت نجحت هذا العام والتحقت بالجامعة، وما دامت مجانيتك كاملة دائمة، فأرى أن تعيد السنة النهائية مرة ثانية بالزقازيق الثانوية، لتدخل الجامعة في سن أكبر يمكنك معها تحمل مسئولية حياتك وحيدًا في الغربة، وسوف لا نتكلف شيئا بسبب هذه الإعادة لأن مصاريف هذه السنة ستكون على نفقة الحكومة بقرار الوزير الأخير.

ورحبت باقتراح أبي وأخذت حظي من الراحة واللعب حتى قرب الامتحان، ولم يبق عليه إلا أسبوع، فعمدت إلى مراجعة سريعة للمواد حتى لا أضطر أن اترك ورق الإجابة فارغًا عند الامتحان حفاظًا لماء وجهي أمام المراقبين، ودخلت الامتحان ولم انتظر النتيجة حتى مضى على ظهورها أكثر من أسبوعين دون أن أعلم، وفي غروب اليوم السادس عشر لظهور النتيجة فوجئت عند دخولي القرية بعد يوم من المرح والرياضة على شاطئ الترعة الكبيرة، ببدال من القرية هو صاحب أول دكان عند دخولها يقول لي مبروك يا أستاذ محمود لقد نجحت، الفراش ينتظرك بالمنزل ليأخذ بشرى النجاح.

ذهلت من هذا الخبر غير المتوقع، ولما لاحظ الفراش ذهولي اعتقد أنني أتظاهر بذلك لأهرب من بشرى النجاح، فنفيت له اعتقاده وأكدت له ما لا يعقله بشر في ذلك الوقت وهو أنني فعلا لم أطلع على النتيجة إلى اليوم، وأنني أشك كثيرًا في معلوماته خاصة وأنه ذكر لي أنباء عجيبة أولها أن كلا من الزملاء الزميل محمد عبد المعبود الجبيلي- وزير الطاقة الذرية فيما بعد – والزميل ميشيل صليب قد فاز بترتيب الثاني مكرر على المملكة في شعبة العلوم، ولم يكن لأي منهما اسم بارز بين المتفوقين في المدرسة في حدود علمي، وثانيها أن الزميل محمد إبراهيم ناصر وكان دائما الأول على مديرية الشرقية، وأبرز طلبة المدرسة تفوقًا واقتدارًا جاء ترتيبه الثامن على المملكة في شعبة الرياضة، وأنه غاضب أشد الغضب من هذه النتيجة وقد قرر أن يدخل امتحان شعبة العلوم في الدور الثاني ليحصل على الترتيب الأول وعلى المملكة، فتفوقه على كل من الثاني مكرر في شعبة العلوم أمر معلوم وظاهر لكل طلبة المدرسة لأن ترتيبه كان الأول دائما على جميع طلبة المدرسة طوال السنوات الدراسية بها، كما كان ترتيبه الأول على مديرية الشرقية في شهادة إتمام الدراسة الابتدائية أو ثالث هذه الأنباء العجيبة فإن الزميل إبراهيم حسن عوض وكان ترتيبه الأول على فصلي الدراسي في السنة النهائية في الامتحانات الشهرية قدر سب، فهل يمكن بعد كل هذا التناقض في النتائج التي يقول بها فراش المدرسة أن أصدق أني نجحت؟

انتظر المسكين في منزلنا حتى عثرت على جريدة نشرت النتيجة في منزل سماحة الشيخ السيد أحمد أمين المصيلحي شيخ الطريقة الصوفية بهرية رزنه وتحققت من صدق الرجل فأعطيته البشرى بعد أن عطلته ساعة أو أكثر وقف راجعًا إلى الزقازيق في رضى ظاهر والحمد لله، ولما حان موعد القبول في الجامعة ظهر أن مجموعي وكان بطبيعة الحال أقرب ما يكون إلى الحد الأدنى (1.5%)، لا يؤهلني لدخول كلية من الكليات العلمية.

فعميد كلية العلوم المرحوم علي مصطفى مشرفه باشا لم يقبل إلا ثمانية طلبة في شعبة الرياضة من عدد الطلبة الناجحين في هذه الشعبة في هذا العام، والذين يربو عددهم على ألفين من الطلاب، وقد شاهد أبي هؤلاء الثمانية واقفين كالزهرة داخل حرم كلية العلوم يتحدثون في شأن قرار الكلية بقبولهم دون سواهم من الناجحين، وقد كان المتحدث منهم هو الزميل محي الدين السنباطي الفائز بالترتيب الثاني على المملكة في هذه الشعبة لهذا العام، وكان يقول مؤيدًا لقرار العميد: إن كلية العلوم مختصة بتخريج العلماء، وتأهيلهم يكلف الدولة أموالا طائلة ومن حق العميد أن يقتصر على قبول هذا العدد، ليضمن تأهيلهم كعلماء، أما المستويات الأدنى فأمامهم كلية التربية، يؤدون منها رسالة التعليم للأجيال القادمة.

وكان تقدير والدي لهذا المنطق القوي الذي يسمعه من زميل في نفس المرحلة التي أمر بها تقديرًا عظيمًا إلى حد أن قرصني إعجابا به وهو يقول شايف الأولاد العباقرة، وكأنه نسى أنه هو الذي أمرني بالرسوب هذا العام، وأنني نجحت مع الأسف رغم إرادتي.

ولكن العجيب أنني قبلت في كلية العلوم شبعة الرياضة والفيزياء في نفس العام ولم أقبل وحدي، بل قبل معي كل الطلبة الراغبين في الالتحاق بكلية العلوم، واضطروا إلى الالتحاق بكليات أخرى لعدم حصولهم على التقدير المعتمد من عميد الكلية، إلى أن حولوا جميعًا إلى كلية العلوم وقبلوا بها بقرار من الأستاذ أحمد نجيب الهلالي باشا وزير المعارف حينئذ والرئيس الأعلى للجامعات رغم أنف عميد الكلية!!

وكان القدر العجيب الذي أدى إلى هذا القرار هو مصادفة أن يكون هذا العام هو عام الخلاف بين مكرم عبيد باشا و مصطفى النحاس باشا وانشقاق الأول من حزب الوفد وتشكيله حزبًا جديدًا أطلق عليه اسم الكتلة الوفدية.


وقد علم أولياء أمور الطلبة الوفديين الراغبين في الالتحاق بكلية العلوم ولكنهم لم ينالوه، بأن هناك صداقة فنية بين كل من على مصطفى مشرفة باشا ومكرم عبيد باشا، فقد كان على مصطفى مشرفة باشا من أمهر لاعبي البيانو لعلاقة هذه اللعبة بتخصصه العلمي العالي في الرياضة البحتة والرياضة التطبيقية، أما مكرم عبيد باشا فقد كان رخيم الصوت محبًا للغناء، ولم يكن في الإمكان أن يمارس هذان العملاقان هوايتهما إلا على المستوى الفردي داخل مساكنهما، مما جعل الارتباط الشخصي وثيقًا بينهما في هذا المجال.

استغل أولياء أمور الطلبة الوفديين هذه العلاقة وتوجهوا إلى وزير المعارف أحمد نجيب الهلالي باشا وكانت حكومته هي حكومة الوفد، وقالوا له تصور يا باشا أن على مصطفى مشرفة باشا -فيما بعد- يعمل على كراهية الشعبللوفد بكل جهده وبسبب صداقته الحميمة لمكرم عبيد باشا، فلم يقبل في كليته من جميع أنحاء القطر في شعبة الرياضة إلا ثمانية طلاب فقط ليثير الناس ضد الحزب، وما هذا الافتراء؟ فتحمس الهلالي باشا دفاعًا عن حزبه واتخذ قراره بقبول كل من نجح في هذا العام في شعبة الرياضة طالبًا بكلية العلوم، وتنفذ القرار، وكان ذلك بعد شهرين من بدء الدراسة فتحول إلى الكلية ثمانون طالبًا بشعبة الرياضة، وقبلت معهم حيث لم أكن قدمت أوراقي لكلية أخرى غير كلية العلوم. وكأن القدر الرباني قد رتب ذلك الأمر لحكمة لا يعلمها إلا الله، أن ألتقي في هذه الكلية بزميل صباي في مدرسة الزقازيق الثانوية مصطفى مشهور مشهور الذي كان سببًا في التغيير الشامل لمجري حياتي.

اللقاء الثاني بمصطفى مشهور والبيعة

كان مصطفى مشهور قد تخلف عني سنة كاملة في دراسته لظروف لا أعلمها، ولكني لاحظت ذلك عند تخلفي في السنة الأولى لكلية العلوم، ومشاهدتي لمصطفى مشهور طالبًا مستجدًا معي في نفس الشعبة في السنة المعادة، وقد قبل في الكلية لتفوقه ونال منها عند القبول مكافأة دراسية قدرها عشرون جنيهًا لحصوله على التقدير اللازم لنيل هذه المكافأة في امتحان تجريه الكلية للمستجدين في اللغة الإنجليزية.

أما أنا فقد كان رسوبي في أول عام بالكلية سببًا مباشرًا للقائي بأخي مصطفى، ولو نجحت لكنت في السنة الثانية وكان هو في السنة الأولى وقد لا نلتقي، كما أن رسوبي هذا كان سببًا في تفوقي في السنة المعادة وحصولي على تقدير يؤهلني إلى مجانية كاملة بكلية العلوم حافظت عليها بحمد الله حتى التخرج، يرحم الله عالم مصر العالمي الدكتور علي مصطفى مشرفة باشا، فقد كان عالمًا عادلاً صادقًا يضع القواعد الصحيحة وينفذها دون استثناء، إلا أن يجبر على غير ذلك إجبارًا يرفع عنه المسئولية والحرج، كما حدث له مع قرار الهلالي باشا الأخير.

وكانت من القواعد التي وضعها هي استحقاق الطالب الذي يحصل على أكثر من 75% في الامتحان النهائي لأي سنة دراسية بالكلية على مجانية كاملة للعام التالي، وذلك بدون أن يتقدم بطلب رسمي لينال هذه المجانية، وتستمر معه هذه المجانية إذا حافظ على هذا المستوى في السنوات التالية، وترفع نهائيًا أو تخفض نسبتها إذا حصل على معدلات أقل في أي سنة من السنين وفقًا لقواعد حددها وأعلنها بالكلية، وكان أن تمتعت بإتمام دراستي بالكلية مجانا رحمة من الله بوالدي الذي كان حريصًا على إتمام تعليمي وكانت هذه المجانية عاملا مخففًا لأداء هذا الغرض المنشود، والحمد لله رب العالمين.

عرفت مصطفى فور وقوع نظري عليه، ولكنه لم يذكرني، فقد كانت صحبتنا السابقة لفترة وجيزة ونحن في مقتبل العمر، افترقنا بعدها ست سنوات كاملة، ولكن عندما ذكرته بزمالتنا في الزقازيق الثانوية تذكرها وصرنا أصدقاء.

لاحظ مصطفى انطوائي بالكلية إلا مع القلة التي ألفتها وألفتني كما لاحظ انصرافي من الدراسة إلى المنزل في انتظام رتيب لا يتخلله وقت ضائع أو لهو فارغ، فتخيل أنه يستطيع أن يضمني إلى الإخوان المسلمين التي سبقت عضويته فيها دون أن أعلم عندما انتقل من الزقازيق إلى القاهرة، ولما اطمأن إلى سلامة ما رأى فاتحني في الموضوع فواجهته برأي السابق في كل الأحزاب والجماعات العاملة في الحقل السياسي العام بمصر ، ومن أنها جميعًا لا تعدو أن تكون واجهات مختلفة الأسلوب للحكم الاستعماري من وراء ستار، الذي ابتدعه الإنجليز، وأتقنوا احترافه، ولكنه رد علي قائلاً إن الإخوان لم يستهدفوا أن يصلوا إلى الحكم في ظل الاستعمار في يوم من الأيام، وأنهم جادون في محاربة الإنجليز، ومقاومتهم بقوة السلاح حتى يجلوا عن أرض مصر تطبيقًا للشريعة الإسلامية التي جعلت الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة، من المصريين في هذه الظروف التي يحتل فيها العدو الكافر أرضهم المسلمة، فقلت له إن المستحيل نفسه هو أن يسمح الإنجليز بأن يستمر نشاط مثل هذه الجماعة، وهم يعلمون عزمها على إجلائهم، وما دامت هذه الجماعة تحيا وتنشط على أرض مصر تحت سمع الإنجليز وبصرهم، فلابد أن يكون هناك في الأمر سرًا بين قادتها وبين الإنجليز، ولكنه بادرني بآيات القرآن الكريم كنت أسمعها لأول مرة في حياتي مثل: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60].

وغيرها من الآيات الكثيرة التي علمها الإمام الشهيد للإخوان المسلمين في رسالته عن الجهاد والتي ذكرناها في الفصل الأول من هذا الكتاب، وكنت أستمع لهذه الآيات وأحس بمعانيها لأول مرة في حياتي، حتى أني تعجبت أن يكون في القرآن مثل هذه الآيات، وأن يغفلها المسلمون كل هذا الإغفال، حتى صاروا مستسلمين للكفار يأتمرون بأمرهم ويسعون لودهم، ما وسعهم السعي، في تسابق ملحوظ بين القادة والمفكرين وأولى الرأي منهم، تجنبًا لغضبهم، وطمعًا في دنياهم، ولم أخف هذا العجب العجاب عن أخي مصطفى، فقد عشت حتى بلغت سن الرشد في قرية مسلمة كأحسن ما يكون المسلمون، وتعلمت في مدارس مسلمة كأحسن ما يكون الإسلام ، نتلقى حصص الدين، وندعى إلى الصلاة في مسجد المدرسة، ولم أسمع، ولم أحس طوال هذه المدة من حياتي أن في الإسلام جهاد.

كان انطباعي عن الإسلام الذي نقلته عن كل ما قرأت وسمعت منذ نعومة أظفاري، وحتى دخولي الجامعة، أنه الإيمان بالله ربا وبمحمد (ص) رسولاً، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، وكانت كل الآيات القرآنية التي أسمعها من خطباء المسجد وفي صلواتهم، وأحفظها من المقررات الدينية في المدارس الابتدائية والثانوية، لا تخرج عن تثبيت هذه المعاني التي بنى عليها الإسلام ، مع الدعوة إلى تزكية النفس وتطهيرها وحسن التعامل والأدب مع الله ومع الناس، وكنت بهذا كله فخورًا بديني سعيدًا به، وأتمسك به عن اقتناع صادق، لا عن إرث منقول، وأطبقه كما علمت ما وفقني الله فيه من التطبيق على نفسي.

فلما فاجأني مصطفى بهذا العنصر الهام من عناصر الشريعة الإسلامية بنصوص القرآن الكريم، صدقت بقول الله جل وعلا، واستبعدت أن يكون على أرض مصر من يعمل على تطبيق هذه النصوص، ودعاني مصطفى لزيارة المركز العام للإخوان المسلمين مرة واحدة لأستمع إلى الإمام الشهيد ثم أحكم بما أرى وأسمع بعد ذلك، وما على من تثريب، فقبلت الدعوة مؤكدًا له أنني سأكشف له عن جوانب تؤيد وجهة نظري عندما أرى وأسمع ما شاء لي أن أراه وأن أسمعه.



والتقينا في المركز العام وكان ذلك عام 1939، وكان هذا المركز لا يزال محدودًا في الدار القديمة بالحلمية الجديدة، ورأيت الإمام الشهيد لأول مرة في حياتي يشرح الإسلام ودعوته لعدد لا يزيد على العشرة من طلبة الجامعة يجلسون على مقاعد خشبية قديمة، بينما يجلس الأستاذ على كرسي خيرزان عادي وأمامه منضدة خشبية قديمة، ولكن ما كان يسوقه من آيات بينات رسمها الله للمسلمين شرعة ومنهاجًا في هذه الحياة، تعالج ما نحن فيه في زماننا الحالي رغم نزولها منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، وكأنها مفصلة تفصيلا لعلاج أمورنا وتغيير أحوالنا في العصر الحديث على أحسن ما يكون العلاج، وإلى أرقى ما يمكن أن ترتفع إليه الأحوال، في صدق ظاهر وإيمان عميق، وعزم أكيد كان وكأنه نور ساطع يشع بأن الرجل لا يتكلم عن هوى، فهو لم ينسب لنفسه في دعوته رأيًا أو فكرة، وإنما كان يسوق إلينا أوامر الله وشريعته منسوبة إلى منزل الكتاب في آيات ثابتة من القرآن الكريم وأحاديث صحيحة عن نبيه الكريم لم تدع مجالاً لمجتهد، بل جاءت كاملة مفصلة لا ينقصها إلا العزم الأكيد على الأتباع والتنفيذ -خرجت وأنا أقول ولماذا التباطؤ في التنفيذ؟ وهو عبادة يفرضها علينا رب العالمين- خرجت مسلمًا صحيح الإسلام - عضوًا في جماعة الإخوان المسلمين دون أن أكتب استمارة عضوية أو أدفع اشتركًا شهريًا أو سنويًا، أبحث مع مصطفى وسيلة التنفيذ.

تكوين جيش مسلم

كانت وسيلة التنفيذ بأتباع ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله واضحة ظاهرة، حيث لا بد لمقاتلة العدو، من جيش مسلم معد بسلاح يتناسب مع أسلحة العدو، ولكن قدر الاستطاعة، فلم يكلفنا ربنا غير حدود الاستطاعة، وكان النصر مؤكدًا لو أننا صدقنا الله، فذلك وعده المحتوم لمن ينصره من الصادقين، وهو الله الذي هو على كل شيء قدير، وقد أكدت ذلك لمصطفى.

فعرفني على أخي في الله المرحوم الأستاذ عبد الرحمن السندي بصفته المسئول عن إعداد هذا الجيش المسلم في تنظيم الإخوان المسلمين ، وقد كان يرحمه الله فتى صادق الوعد، قوي العزم، رقيق الحس، ملتزمًا بدينه كأحسن ما يكون الالتزام وأوفى، ولا أزكي على الله أحدًا، وسريعًا ما استقر عزمنا على ضرورة وضع القواعد التنظيمية لهذا الجيش المسلم إعمالا لقول نبينا الكريم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» خاصة وأن الأمر جد لا هزل فيه، وأن القوانين التي تحكم مصر قد صيغت كلها لتجريم أي عمل يستهدف المقاومة المسلحة للعدو، حتى ولو كان كلام لم يصحبه عمل أو تنفيذ.

ولعل من عظيم تدبير الله وحكمته أن يكتمل بناء هذا الجيش، وأن يوفقنا الله إلى القيام بكثير من الأعمال الفدائية التي ألهبت ظهر العدو، وأجبرته على الجلاء عن أرض مصر وأوقعت الخسائر بالصهاينة قدر ما سمحت به ظروف العمل الوطني في مصر ، التي حكمتها المكائد الدولية بجبروتها، والانحرافات المحلية بمخازيها، فاستطاع الصهاينة الاستمرار حتى اليوم جاثمين فوق أرض الوطن العزيز، يدعمهم ويثبت قواعدهم ما يقع فيه أبناء هذا الوطن من أخطاء جسام، متباعدين عن شريعتهم السمحة، بل ومعادين لها أشد العداء وكأن الأبصار قد عميت، والقلوب قد أغلقت، فاتفق المرضى على ترك الدواء، وقتل الأطباء، مستعذبين حلاوة الأحلام وإحلال المودة للعدو محل الخصام، ظانين أنهم قادرون على الاحتفاظ بالسلام على الدوام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولقد حق فيهم قول الشاعر:

يا طالب النصر من أعداك مت كمدا

كطالب السمن من أنياب ثعبان

كما أنه من فضل الله ورحمته أن يحاكم هذا الجيش وتحاكم أعماله وأفكاره بقضاة يمثلون حكومة أعدائه، تشكلت محكمتهم، لتدين هذا الجيش وتصمه بالخيانة والإجرام، متسلحة بالقوانين الاستثنائية التي تضمن لها الإدانة بالإعدام على أدنى المخالفات وأقل الهفوات وقد وضعها حكام ثبت إجرامهم بقتل الإمام الشهيد على قارعة الطريق دون تهمة توجه إليه أو محكمة تحاكمه، ولكن قتلهم له كان خروجًا فاجرًا ودون أي ضرورة، على كل القواعد التي استقر عليها أحكام الظلمة الفجار ممن سبقت لهم سيادة على دولة من الدول على مدى الزمان، فما كان أيسر عليهم أن يفعلوا كما يفعل كل الحكام الفجار فيقبضون عليه ويودعونه السجن ويقتلونه علنًا بقوة السلطان، ولكن الله أراد أن يعميهم فيفضحوا أنفسهم ويعلنوا عن حقيقتهم بأنهم عصابة إجرامية لا دولة مستبدة، فهل من مدكر؟

ولقد عزمت على أن لا أقد للقراء عن هذا الجيش وأهدافه ووسائله إلا ما أعلنه هؤلاء القضاة، ليطمئنوا جميعا أن ما يقرأون في هذا الصدد إنما هو الحقيقة الخالية من كل زيف، المبرأة من كل غرض، فالفضل ما شهدت به الأعداء.


قضية السيارة الجيب

بعد استسلام محمود فهمي النقراشي باشا للعدو الصهيوني، معلنًا عجزه عن الاستمرار في القتال الذي لم يزد مداه عن عدة أيام، مستصرخًا هيئة الأمم المتحدة أن تقرر هدنة دائمة مع العدو، فأقرتها والعدو متهلل مستبشر بأكاليل النصر الخرافي التي قلدها له محمود فهمي النقراشي باشا طائعًا مختارًا، ولم يغير من هذه السعادة والاستبشار أني ضع النقراشي باشا والقادة العرب رءوسهم في الرمال، فينكرون قيام دولة إسرائيل فوق أكتافهم العريضة، ويمسكون بقبضة من حديد على الهواء مدعين أنها إسرائيل المزعومة!! وهم يتعامون عن أن كل دول العالم العظمى من شرقه إلى غربه قد اعترفت بها، وأيدتها ودعمتها بكل ما تملك من قوة!! فهذه الدول تختلف فيما بينها ما شاء الله لها أن تختلف ولكنها تتفق وعلى الفور، على كل ما يؤدي إلى القضاء على دولة الإسلام ، التي حكمت العالم من قبل خمسة قرون متصلة، من أجل هذا لم يكن من الممكن ل محمود فهمي النقراشي باشا، أن يحقق ما زعمه للناس تحت قبة البرلمان أن قواته الظافرة لا تدخل فلسطين لمواجهة عدو يمكن أن يحسب له حساب، وإنما تدخلها لتؤدب عصابات صهيونية خائرة لا وزن لها ولا اعتبار، ولم يكن من الممكن لدولته أن يظهر للناس وجهه بعد ظهور الحقيقة دون تعليل لهذه النتيجة المؤسفة لكل من كان عنده إحساس أو حياء.

ويا لهول ما تفتقت عنه قريحته الفذة من عذر هو أشد قبحًا من ذنب!! قالت أبواقه الإعلامية من صحافة وإذاعة في ذلك الوقت إن عدوًا بالداخل أشد شراسة وأشد خطرًا على مصر من الصهاينة في فلسطين قد ظهر فجأة، وأنه لا بد لمصر أن تتلخص من هذا العدو بالداخل بأن تجهز عليه قبل أن تفكر في مواجهة العدو الخارجي، وأن هذا العدو هوالإخوان المسلمون، الذين ظهر تآمرهم على قلب نظام الحكم وتخريب كل مرافق مصر تخريبًا تامًا، وادعت أن أجهزة الأمن قد ضبطت من الوثائق والأوراق والأسلحة والذخائر ما يؤكد هذا الاتهام، داخل سيارة جيب في منطقة العباسية بالقاهرة، وأنه لهذا السبب اضطر دولة النقراشي باشا لإصدار أمر عسكري بحل هذه الجماعة التي ثبت أن خطرها على مصر هو أشد وأكبر من خطر عصابات الهاجاناه وشترن، وأنه لو دخلت هذه العصاباتالصهيونية إلى مصر فإنها لا تستطيع أن تفعل عشر معشار ما عزم الإخوان المسلمون على عمله في مصر من التخريب والتقتيل والإرهاب!!

تسلطت أبواق وسائل الإعلام على آذان شعب مصر الذي يسمع ولا يصدق بهذا الهراء الواهم، لأنه يجيء في وقت كانت جنود الإخوان المسلمين فيه لا تزال تشترك مع القوات المصرية الرابضة على أرضنا الطاهرة «فلسطين» في عمليات فدائية خارقة، أشاد بها قادة هذه القوات، وكرروا مطالبة دولته بإرسال المزيد من جنود الإخوان المسلمين للوقوف معهم جنبًا إلى جنب إلى فلسطين ، وهل يعقل بشر أن أسلحة وأوراق تضبط في سيارة جيب صغيرة تكفي لهزيمة أجهزة الأمن في مصر وقلب نظام الحكم بها مهما كانت كمية هذه الأسلحة والأوراق وخطرها؟

اسمع يا سيدي قرار الاتهام في هذه القضية الشهيرة باسم قضية السيارة الجيب والتي فجر بها النقراشي باشا الفتنة في مصر ليستر خيانته العظمة في فلسطين ، دون أن ينتظر حكم القضاء فيها، هذا الحكم الفاصل في شأن النظام الخاص ووسائله وأهدافه وأعماله منذ نشأته حتى نهاية حكم الملك السابق فاروق وبداية ثورة 23يوليو، لأنه صادر من محكمة تمثل حكومة النقراشي باشا المدعية على الإخوان المسلمين ، ومن ثم فإنه يلزمها الحجة دون جدال أو نقاش خاصة أن النيابة العامة لم تجد فيه ثغرة واحدة تسمح لها بنقضه، بل أقرت بكل ما جاء فيه اعترافًا منها أنها كانت على خطأ كبير، فقد اشتملت الأوراق المضبوطة في السيارة الجيب على كل أسرار هذا النظام ووسائله وأهدافه، ولم تكن إلا أشرف الوسائل وأنبل الغايات، ولكن النيابة العامة خضوعًا منها لرئيس الدولة وأغراضه وأهدافه قد قرأتها على ما يبدو بالمقلوب حتى صحح لها القضاء القراءة فوقعت الطامة على رأس هذا العهد البائد ثم أزاله الله من الوجود في يوليو 1952 مكللاً بكل صفات الفساد والانحلال التي يمكن أن يتصف بها بشر.


الحكم في قضية السيارة الجيب ويشتمل أيضًا على قرار اتهام الإخوان المسلمين :

محكمة جنايات القاهرة

الحكم الصادر في قضية النيابة العمومية رقم 3394 الوايلي 1950 ورقم 227 سنة 1950 كلي سيارة الجيب المتهم فيها عبد الرحمن السندي وآخرين.

محكمة جنايات القاهرة المشكلة علنًا برياسة حضرة صاحب العزة أحمد كامل بك وكيل محكمة استئناف القاهرة، وحضور حضرتي صاحب العزة محمود عبد اللطيف بك و محمد زكي شرف بك المستشارين بمحكمة استئناف القاهرة وحضرة الأستاذ محمد عبد السلام رئيس نيابة استئناف القاهرة و محمد علي عبده أفندي سكرتير المحكمة أصدرت الحكم الآتي في قضية النيابة العمومية رقم 3394 الوايلي 1950 ورقم 227 سنة 1950 كلي:

الإسم السن العمل
عبد الرحمن علي فراج السندي 32 موظف بوزارة الزراعة
مصطفى مشهور مشهور 29 موظف بمصلحة الأرصاد الجوية
محمود السيد خليل الصباغ 30 موظف بمصلحة الأرصاد الجوية
أحمد زكي حسن 26 مدرس بالجيزة الابتدائية مصر القديمة
أحمد محمد حسنين 30 مراقب حسابات بشركة المعادن بالسيدة عائشة
محمد فرغلي النخيلي 30 تاجر معادن بشارع غيط النوبي
أحمد قدري الحارثي 24 مهندس بمصلحة الطيران المدني
محمد حسني أحمد عبد الباقي 35 عضو مجلس مديرية الجيزة
أحمد متولي حجازي 30 مهندس
السيد فايز عبد المطلب 30 مهندس
أحمد عادل كمال 24 موظف بالبنك الأهلي المصري
طاهرعماد الدين 25 مهندس معماري
إبراهيم محمود علي 27 ترزي
دكتور أحمد الملط 34 طبيب
جمال الدين إبراهيم فوزي 34 موظف بمصلحة البريد
محمود حلمي فرغي 26 موظف بالداخلية
محمد أحمد علي 26 موظف بمصلحة المجاري
عبد الرحمن عثمان 24 طالب حقوق
السيد إسماعيل شلبي 44 تاجر
أسعد السيد أحمد 28 موظف بسلاح الصيانة
محمد بكر سليمان 24 نساخ بشركة النيل
صلاح الدين محمد عبد العال 20 طالب توجيهي
جماد الدين طه محمود الشافعي 24 مدرس
جلال الدين يس 20 طالب وموظف بوزارة التجارة
محمد الطاهر حجازي 24 مدرس بالمعارف
عبد العزيز أحمد البقلي 26 ترزي
كمال السيد القزاز 27 نجار
محمد سعد الدين السنانيري 31 تاجر ومقاول نقل
علي محمد حسنين الحريري 29 تاجر وقمسيونجي
محمد محمد فرغلي 44 واعظ منطقة الإسماعيلية
محمد إبراهيم سويلم 35 فلاح
سليمان مصطفى عيسى 24 مدرس


من حيث أن النيابة العامة اتهمت المتهمين المذكورين بأنهم في خلال سنة 1946 - 1947- 1948 ميلادية والموافقة 1365- 1366- 1367- 1368 هجرية بدائرة مدينتي القاهرة والإسماعيلية وغيرها من بلاد المملكة:

أولاً: اشتركوا فيما بينهم ومع آخرين لم يعلموا في اتفاق جنائي الغرض منه ارتكاب الجنايات والجنح المذكورة بعد، واتخاذها وسيلة للوصول إلى الاستيلاء على الحكم بالقوة، واتحدت إرادتهم على الأعمال المسهلة والمجهزة لارتكابها، كما تداخل المتهمون العشرة الأول والرابع عشر والخامس عشر والثلاثون في إدارة حركة هذا الاتفاق وكان لهم شأن فيها، وذلك بأن كون المتهمون من أنفسهم ومن غيرهم جماعة إرهابية ذات قيادة وأركان وجنود وخلايا، واختاروا أفرادها طبقا لنظام موضوع مفصل، وبعد فحصهم طبيًا لمعرفة مدى لياقتهم للعمل جسمانيا وعصبيًا، ولقنوهم دروسًا روحية ورياضية وفي تبرير القتل وفي حرب العصابات واستعمال الأسلحة والمفجرات وفي تعقب الأشخاص واغتيالهم سياسيين كانوا أو عسكريين أو مدنيين، وقاموا بمراقبة الأماكن التي عقدوا النية على ارتكاب جرائمهم فيها، وإعداد التقارير والرسوم الدقيقة عنها واختيار مواضع التنفيذ وزمانه ومكانه وأعدوا برامج شاملة لمختلف الهيئات الإرهابية التي أنشأوها، ولمصادر الأموال اللازمة لها من إعانات وترهيب وسطو على البنوك والمتاجر والإذاعة والدعاية الداخلية والخارجية والمخابرات والتجسس على الأحزاب والهيئات المختلفة وإشاعة الفوضى والذعر والإخلال بالأمن في البلاد تحقيقًا للغرض المتقدم ذكره وهذه الجرائم هي:

1- قلب وتغيير دستور الدولة وشكل الحكومة بالقوة بواسطة عصابات مسلحة وباستعمال قنابل وآلات مفرقعة بنية ارتكاب هذه الجريمة وبغرض ارتكاب قتل سياسي الأمر المنطبق على المادتين 87، 88 فقرة أولى من قانون العقوبات.

2- إتلاف سيارات وأسلحة الجيش المصري المعدة للدفاع عن البلاد الأمر المنطبق على المادة 81 من قانون العقوبات.

3- تخريب المنشآت الحكومية وأقسام ومراكز البوليس ومحطات الإضاءة والمياه وغيرها، الأمر المنطبق على المادة 90 من قانون العقوبات.

4- قتل عدد كبير من المصريين والأجانب مبينين بالمحضر، وذلك عمدًا مع سبق الإصرار والترصد، الأمر المنطبق على المواد 230، 231، 232 من قانون العقوبات.

5- تعريض حياة الناس وأموالهم عمدًا للخطر باستعمال القنابل والمفرقعات في عدد من السفارات والقنصليات الأجنبية وغيرها من الأماكن العامة والخاصة المأهولة بالسكان والمبينة بالمحضر، الأمر المنطبق على المادة 358 فقرة ثانية وثالثة من قانون العقوبات.

6- تعطيل وسائل النقل العامة بنسف قطارات السكك الحديدية وجسورها وخطوطها، ونسف الطرق والكباري العامة وسيارات الأوتوبيس وتعطيل القوى الكهربائية المولدة لحركة خطوط ترام القاهرة، الأمر المنطبق على المادة 167 من قانون العقوبات.

7- إتلاف الخطوط التغلرافية والتليفونية الحكومية عمدًا في زمن الفتنة التي اعتزموا نشرها بقطع أسلاكها وقوائمها ونسف أدواتها أو إتلافها بوسائل أخرى مما يترتب عليه انقطاع المخابرات بين ذوي السلطة العمومية ومنع توصيل المخابرات بين الناس، الأمر المنطبق على المادتين 165، 166 من قانون العقوبات.

8- سرقة البنك الأهلي وبعض المحال التجارية بطريق الإكراه، وذلك باقتحامها بواسطة أشخاص مسلحين بالمدافع والقنابل وقتل من يعترض سبيلهم من الحراس أو غيرهم والاستيلاء بذلك على ما فيها من أموال وبضائع الأمر المنطبق على المادة 314 من قانون العقوبات.

9- إتلاف مباني شركة قنال السويس وترام القاهرة، وذلك عمدًا بقصد الإساءة، مما ينشأ عنه تعطيل وتوقيف أعمالها ذات المنفعة العامة، ويترتب عليه جعل حياة الناس وأمنهم في خطر، الأمر المنطبق على المادة 361 فقرة أولى وثانية من قانون العقوبات.

10- قتل خيول البوليس عمدا بدون مقتضى بطريق التسمم، الأمر المنطبق على المادة 355 (أولا وثانيًا) من قانون العقوبات.

11- إقامة واستعمال محطات سرية للإذاعة اللاسلكية بدون إخطار إدارة تلغرافات وتليفونات الحكومة المصرية، وبغير ترخيص منها، الأمر المنطبق على المواد 1، 2، 5 من الأمر العسكري رقم 8.

ثانيًا: أحرزوا وحازوا مقادير كبيرة من القنابل اليدوية والفوسفورية والجيلجانيت والديناميت والمادة الناسفة المعروفة باسم. P. T. N والألغام وساعات التفجير الزمنية والمفجرات الكهربائية والطرقية وغيرها من المفرقعات والآلات المفرقعة، وذلك بدون ترخيص وبغرض ارتكاب قتل سياسي وبنية قلب وتغيير دستور الدولة وشكل الحكومة بالقوة.

ثالثًا: أحرزوا وحازوا أسلحة نارية -مدافع سريعة الطلقات ومسدسات وذخائر مخصصة لها وكذا أسلحة بيضاء، وذلك بدون ترخيص.

رابعًا: حازوا أجهزة وأدوات خاصة بمحطة إذاعة لاسلكية بدون إخطار إدارة تلغرافات وتليفونات الحكومة المصرية وبغير ترخيص وأقاموها في منزل بإحدى الضواحي أعدوه لهذا الغرض.


تعليق المؤلف على هذا القرار:

إن التهم الإحدى عشر الأولى التي وجهتها النيابة العامة الإخوان المسلمين كلها وبنص القرار هي تهم على اتفاق جنائي لم يصل إلى حد التنفيذ شيء منها، ومع ذلك فإن مواد قانون العقوبات المذكورة فيها، موضوعة في القانون الوضعي بمعرفة المستعمر الإنجليزي بعد قتل بطرس غالي باشا، بقصد تمكين السلطة من إخماد أي صوت أو فكر أو حركة ضده فور الإحساس بها وبدون حاجة إلى دليل على التنفيذ وتقضي معظم موادها على من يقع تحت طائلتها بالإعدام.

أما الشريعة الإسلامية فلا تعترف بأي من هذه المواد، فالأصل أن من نوى معصية ولم ينفذها كتبت له حسنة، ومن نوى حسنة ونفذها ضاعف الله له الحسنات ما شاء له أن يضاعفها، ولو أننا نحتكم إلى الشريعة الإسلامية لاستراحت النيابة من كل هذا العناء، والجهاد الضائع، حيث لم يقع خطأ أصلا على فرض صحة كلام النيابة فما بالنا وكلام النيابة خطأ جملة وتفصيلا على النحو الذي سجلته المحكمة في مناقشتها لتهمة الاتفاق الجنائي على قلب نظام الحكم والذي انتهت بعدها إلى الحكم بالبراءة من هذه التهمة لكل المتهمين ولجميع أفراد جماعة الإخوان المسلمين عامة، ذلك بالنص الآتي المنقول عن الصفحات من 93 إلى 103 من حكم المحكمة بعد أن استعرضت كافة الأوراق والوثائق المضبوطة في القضية:

مناقشة تهمة الاتفاق الجنائي على قلب نظام الحكم كما جاءت في نص حكم المحكمة:

وحيث أنه عندما وجهت هذه التهمة كانت فكرة الاتهام أن تكون شاملة عددًا كبيرًا لا يقف عند حد المتهمين المعدودين محل هذه المحاكمة، بل إن النيابة العامة قصدت في أقوالها إلى تصوير أن الجماعة بأسرها رمت إلى قلب نظام الحكم وأن أقوال مرشدها العام كانت تحمل معاني التحريض السافر على القيام بهذه الجريمة، وأن المتهمين وزملائهم فهموا من كلام المرشد أنه يرمي إلى ذلك، فالاتهام بهذا التصوير أراد أن يحمل الجماعة مسئولية هذه الجريمة بدليل أنه خلص إلى القول بأن الغرض النهائي هو إقامة جمهورية على رأسها المرشد العام.

فكان طبيعيًا والتهمة موجهة إلىجماعة الإخوان والمرشد أن تعرض المحكمة لنشأتها وأغراضها ووسائلها وتطورها وما يستنتج من أقوال مؤسسها.


حكم المحكمة بشأن الإخوان المسلمين :

وحيث إنه تبين للمحكمة من الأوراق المقدمة من الدفاع وما ضبط في دار المركز العام أنه في عام 1928 أنشأ الشيخ حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين ووضع لها مع آخرين قانونا جاء فيه: أن الغرض منها تكوين جيل جديد يفهم الإسلام فهمًا صحيحًا ويعمل بتعاليمه وأن رسائلها لتحقيق هذا الغرض هي تغذية الفضائل الخلقية وإحياء الشعور بكرامة الأمة وتحرير النفوس من الضعف والتحذير من الاندفاع في حياة المتعة والترف ونشر الثقافة والمحافظة على القرآن ومحاربة الأمية وتأسيس المنشآت النافعة للأمة كالمستوصفات الطبية ومحاربة الآفات الاجتماعية كالمخدرات والمسكرات والمقامرة والبغاء، وتشجيع أعمال الخير وتقوية روابط التعارف بين الشعوب الإسلامية، مع تنمية روح التعاون والاقتصاد والدفاع عن الإسلام ومقاومة كل عدوان يراد به، وتقوية الروح الرياضية في نفوس الشباب.

وبتاريخ 8 سبتمبر 1945 أدخلت الجمعية العمومية لهيئة الإخوان المسلمين تعديلات على قانونها النظامي، ثم أدخلت تعديلات أخرى في 30 يناير سنة 1948 وهذه التعديلات لم تمس الجوهر لكنها تناولت التفاصيل، فجاء فيما يتصل بأغراض الجماعة أنها ترمي إلى شرح دعوة القرآن الكريم وعرضها عرضًا يوافق روح العصر وتنمية الثروة العمومية وتحقيق العدالة الاجتماعية والتأمين الاجتماعي لأفراد الأمة، ومكافحة الفقر والجهل والمرض والسعي إلى تحرير وادي النيل والبلاد العربية جميعًا والوطن الإسلام ي بكل أجزائه من أي سلطان أجنبي، وتأييد الوحدة العربية والسير إلى الجامعة الإسلامية، وقيام الدولة الصالحة التي تنفذ أحكام الإسلام ، ومناصرة التعاون العالمي في ظل المثل العليا الفاضلة.

ثم تحدث القانون عن الوسائل التي تتبعتها الجماعة لتحقيق الأغراض سابقة الذكر، فقال إنها الدعوة بطريق النشر والتربية الدينية والروحية والمدنية الصالحة، مع تثبيت معنى الإخوة الصادقة والتعاون ليتكون رأي عام موحد، مع وضع المناهج الصالحة في كل شئون المجتمع من تربية وتعليم وتشريع وغيرها، والتقدم بهذه المناهج إلى الجهات المختصة والوصول بها إلى الهيئات النيابية والتشريعية والتنفيذية في الدولة، لتخرج من دور التفكير النظري إلى دور التطبيق العملي، ومن بين الوسائل أيضا العمل على إنشاء مؤسسات اقتصادية واجتماعية وعلمية ودينية وتأليف لجان لتنظيم الزكاة وأعمال البر، ومقاومة الآفات الاجتماعية وإرشاد الشباب إلى طريق الاستقامة وشغل وقت الفراغ بما ينفع، وتنشأ لذلك أقسام مستقلة طبقا للوائح وخاصة القانون 49 سنة 1945 الخاص بتنظيم الجمعيات الخيرية، وأعمال البر وتسجيلها بوزارة الشئون الاجتماعية، وجاء في القانون أيضًا أن الأعضاء يستعينون بكل وسيلة مشروعة أخرى.

فيبين مما تقدم أن الجماعة كانت حريصة على أن تسجل في قانونها التزام الأوضاع الدستورية لتحقيق أغراضها.

وقد عملت الجماعة على تنفيذ الأغراض التي وضحت في قانونها وطبقًا للوسائل المشار إليها، فأنشأوا صحيفة يومية لنشر دعوتهم، وأقاموا مؤسسات اقتصادية ومستوصفات، كما كونوا فرقًا للجوالة، وكان رئيسهم يتابع نشر الدعوة وتفهيم الناس بحقيقتها وذلك بإلقاء أحاديث دورية أسبوعية ومحاضرات وخطب في المناسبات.

وكان من بين ما ألقاه المرشد العام ونشر في رسائل، كتيب عنوانه: «بين الأمس واليوم» ضبط في دار المركز العام، تناول فيه رسالة النبي الأمين ومنهاج القرآن الكريم، ثم القواعد الأساسية في الإصلاح الاجتماعي الكامل كما جاءت في القرآن الكريم ونظام الدولة الإسلامية الأعلى، مع شرح عوامل التحليل التي طرأت على كيانها وبيان الصراع السياسي والاجتماعي بين المسلمين وطغيان المادة على بلادهم وأشار أيضًا إلى أن دعوة الإخوان هي دعوة البعث والإنقاذ، ثم تساءل عن أهداف الجماعة العامة، ونفى أن أغراضها جمع المال وهو عرض زائل، والجبروت في الأرض: ﴿الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [الأعراف: 128].

وانتقل بعد ذلك إلى القول بأن للجماعة هدفين أساسيين هما: تحرير الوطن الإسلام ي من كل سلطان أجنبي، وأن تقوم فيه دولة إسلامية حرة تعمل بأحكام الإسلام وتبلغ دعوته للناس.

ثم تحدث عن الأهداف الخاصة فقال: إنها إصلاح التعليم ومحاربة الفقر والجهل والمرض والجريمة مشيرًا إلى أن أكثر من 60% من المصريين يعيشون أقل من معيشة الحيوان، وأن مصر مهددة بمجاعة قاتلة وهي أكثر بلاد العالم المتمدين أمراضًا وأوبئة وعاهات، وأن أكثر من 90% من الشعب مهدد بضعف البنية ومختلف العلل، وأنمصر لم تستطع إلى الآن «1946» أن تجهز فرقة واحدة كاملة المعدات.

ثم انتقل المرشد بعد ذلك إلى تحديد الوسائل، فقال: إن الخطب والأقوال لا تجدي ولا تحقق غاية، ولكن الوسائل التي لا تتغير ولا تتبدل هي الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل.

ثم قال بعد ذلك تحت عنوان (العقبات في طريقنا): أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لازالت مجهولة عند كثير من الناس ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة، ونبه أعضاء الجماعة إلى ما عساه أن يلقوه من مشقات في سبيل الوصول إلى أهدافهم شأنهم في ذلك شأن أصحاب الدعوات مشيرًا في تفصيل العقبات إلى أن الحكومة ستقف في وجوههم محاولة الحد من نشاطهم، كما أن الغاصبين سيتذرعون بكل طريق لمناهضة الجماعة وإطفاء نور دعوتهم، ويستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة.

ثم خاطب الإخوان بعد ذلك بقوله: إنهم ليسوا جمعية خيرية ولا حزبًا سياسيًا إلى غير ذلك من الأقوال التي سبق إثباتها عند الكلام على الأدلة التي ساقها الاتهام.

وانتهى كتاب المرشد العام بتنبيه الإخوان إلى الإيمان بالله ولا يخافون غيره ولا يرهبون سواه وأن يؤدوا فرائضه ويتجنبوا نواهيه ويتخلقوا بالفضائل، ويتمسكوا بالكمالات ويتدارسوا القرآن والسيرة النبوية وأن يكونوا عمليين لا جدليين.

وإلى هنا ينبغي لنا أن نقف وقفة للتعليق على ما أثبتته المحكمة في حكمهاعن جماعة الإخوان المسلمين، ونشأتها وأغراضها ووسائلها وتطورها، حتى نتبين من هذه النصوص من هو القائل الحقيقي لمحمود فهمي النقراشي باشا:

1- يتضح مما سجلته المحكمة أعلاه أن المحكمة قد حكمت:

أولاً: بأن الجماعة كانت حريصة على أن تسجل في قانونها التزام الأوضاع الدستورية بتحقيق أغراضها. ثانيًا: أن الجماعة عملت فعلا على تنفيذ الأغراض التي وضحت في قانونها وطبقا للوسائل المشار إليها، فأنشأوا صحيفة يومية لنشر دعوتهم وأقاموا مؤسسات اقتصادية ومستوصفات، كما كونوا فرقًا للجوالة، وكان رئيسهم يتابع نشر الدعوة وتفهيم الناس بحقيقتها وذلك بإلقاء أحاديث دورية أسبوعية ومحاضرات وخطب في المناسبات، فلم يعد بعد ذلك هذا الحكم النهائي الصادر من محكمة مشكلة بقرار صادر من حكومة هي أعدى أعداء الإخوان المسلمين ، وقد وافق عليه ممثل الاتهام في هذه الحكومة بدليل أنه لم يتقدم إلى محكمة النقض لنقضه اعترافًا منه بعدالة هذا الحكم ومطابقته للأمر الواقع.

ولم يعد بعد ذلك لمؤرخ أو كاتب أن يتهجم على دعوة الإخوان المسلمين وأغراضها ووسائلها، لأنه إن فعل شيئا من ذلك كان كاذبًا على التاريخ إن كان مؤرخًا وكاذبًا على الأمة إن كان كاتبًا دون جدال.

2- يتضح مما سجلته المحكمة في حكمها نقلاً عن رسالة بين الأمس واليوم للإمام الشهيد أن الإمام الشهيد وهو يكتب هذه الرسالة في سنة 1946 كان يرى بنور الله ما لا يراه عامة الناس، حيث سجل صراحة أن الحكومة ستقف في وجوههم محاولة الحد من نشاطهم، كما أن الغاصبين سيتذرعون بكل طريق لمناهضة الجماعة وإطفاء نور دعوتهم، ويستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة.

وقد تحقق ذلك كله كفلق الصبح في سنة 1948 وما بعدها، حيث تصدت حكومةمحمود فهمي النقراشي باشا إلى هذه الجماعة بالحل والاعتقال ومصادرة الأموال، وهي صديقة له تقف معه في حربه للصهاينة، وتختلط دماء شهدائها بدماء جنوده، ويدفع رجالها من مالهم الخاص تكاليف اشتراكهم في المعركة من سلاح ومعدات حربية، ونقل ومعيشة، دون أي تفسير من جانب حكومة النقراشي باشا لهذا الفعل الغادر، إلا قول الإمام الشهيد في رؤيته النورانية لما يمكن أن يقع من أحداث قبل وقوعها بسنتين كاملتين أن الحكومة ستقف في وجوههم محاولة الحد من نشاطهم، كما أن الغاصبين سيتذرعون بكل طريق لمناهضة الجماعة وإطفاء نور دعوتهم ويستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة.

وهل يمكن أن تكون هناك حكومة أضعف من حكومة تخضع للعدو الغاصب، فتدخل بتوجيه منه حربًا لم تحسن الإعداد لها بدليل أنها لم تصمد أمام عصابات يهودية لا دولة يهودية أسبوعًا واحدًا، وهو ما كان يهدف إليه العدو لإثبات أن ما تسميه مصر عصابات هو في الحقيقة دولة أقوى من دولتها، ثم لا تغضب هذه الحكومة لكرامتها وقد انكشفت لها خطة العدو الغاصب، بل تخضع لتعليماته فتضرب أعز أبنائها، لمجرد أنهم أثبتوا بسالة نادرة، وجدية حقيقية في ميدان القتال، بوهم أنهم ما داموا بهذه الجدية والبسالة، فقد أصبحوا خطرًا عليها، لا درعًا لها وكأنها كانت تريد من شعب مصر أن يتخلف عنها وعن نظامها في الإعداد والتكوين لتطمئن إلى أن هذا الشعب أسير يدها حبيس إرادتها، فإن ظهر لها غير ذلك كان هذا الشعب الذي فرض الله عليها أن تحميه وأن ترعاه، هو أعدى أعدائها، وكان أخطر عليها من عصابات الهاجناه وشترن الصهيونية !! هل يمكن أن تكون هناك حكومة أشد ضعفًا وأسد خبلا من ذلك؟

بل إن هذه الحكومة المتخاذلة المجنونة لم تقتصر على ضرب الأفراد في حرياتهم وأبدانهم وأموالهم، بل بلغ من جنونها أن تنحرف إلى ضرب مبادئ الإسلام ذاتها التي أحيت في هؤلاء الأفراد أسباب العزة والكرامة والفداء وجعلتهم على النقيض منها ومن نظامها رهبانًا بالليل وفرسانًا بالنهار.

حيث جاء نص المادة الثانية من الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 الصادر في يوم الأربعاء 7 صفر 1368هـ الموافق 8 ديسمبر 1948 م بحل الإخوان المسلمين على النحو التالي:

مادة (2): يحظر إنشاء جمعية أو هيئة من أي نوع كانت أو تحويل طبيعة جمعية أو هيئة قائمة إذا كان الغرض من الإنشاء أو التحويل بطريق مباشر أو غير مباشر بالنشاط الذي كانت تتولاه الجمعية المنحلة أو إحياء هذه الجمعية على أي صورة من الصور كما يحظر الاشتراك في كل ذلك أو الشروع فيه.

إن المطلع على هذه المادة من قرار حل جماعة الإخوان المسلمين يدرك ومن أول وهلة أن المقصود هو أن يحظر على المصريين قيام أي جمعية أو هيئة من أي نوع كانت تدعو إلى ما كانت تدعو إليه جماعة الإخوان المسلمين من مبادئ أو تتولى أوجه النشاط الذي كانت تتولاه جماعة الإخوان المسلمين في جسد الدولة سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، بل ويحظر القرار على المصريين مجرد التفكير في ذلك أو الشروع فيه.

وقد سبق أن سجلت المحكمة أغراض هذه الجماعة وأوجه نشاطها من واقع المضبوطات التي قدمتها النيابة إليها كدليل إدانة فقالت:

إن الغرض من جماعة الإخوان المسلمين هو تكوين جيل جديد يفهم الإسلام فهمًا صحيحًا ويعمل بتعاليمه، وأن وسائلها لتحقيق هذا الغرض هو تغذية الفضائل الخلقية وإحياء الشعور بكرامة الأمة وتحرير النفوس من الضعف والتحذير من الاندفاع في حياة المتعة والترف ونشر الثقافة والمحافظة على القرآن ومحاربة الأمية وتأسيس المنشآت النافعة للأمة كالمستوصفات الطبية ومحاربة الآفات الاجتماعية كالمخدرات والمسكرات والمقامرة والبغاء، وتشجيع أعمال الخير وتقوية روابط التعارف بين الشعوب الإسلامية مع تنمية روح التعاون والاقتصاد والدفاع عن الإسلام ، ومقاومة كل عدوان يراد به، وتقوية الروح الرياضية في نفوس الشباب.

فهل يكن لعاقل أن يتصور صدور حظر شامل على كل المصريين لا على الإخوان المسلمين وحدهم أن يفكر أحد منهم أو يشرع أو يعمل على إحياء هذه المبادئ والقيم السامية في جسد الأمة إلا أن يكون هذا الأمر صادرًا من أعدى أعداء مصر والعروبة والإسلام ؟ إذا أغفلت الجمعيات والهيئات العمل على إحياء هذه المبادئ والقيم السامية في جسد الأمة، فلا يكون أمامها إلا أن تنشر بين أعضائها المفاسد والرذائل والانحلال وسوء الأخلاق فهل يرضى عاقل أن يكون ذلك هو حال الجمعيات والهيئات العامة فيمصر الواجب الالتزام به تنفيذًا للأمر العسكري من الحاكم العسكري محمود فهمي النقراشي باشا؟


من قتل محمود فهمي النقراشي باشا؟

إن الدماء لتغلي في عروق أي إنسان عنده ذرة من إحساس يحب هذا الوطن وهو يرى حاكم مصر العسكري يصدر مثل هذا الأمر، فكيف لا تغلي في دماء شباب باعوا أنفسهم لله واستهدفوا أن يقدموا أرواحهم رخيصة من أجل انتصار الإسلام وقيمه السامية في ربوع الوطن الإسلام ي؟

وإذا غلت الدماء في عروق من يقرأ هذا الأمر، فمن يكون المسئول عن هذا الغليان مصدر الأمر، أم من صدر عليه الأمر لقهره واستدلاله؟

وهل تحتاج الدماء في هذه الحالة إلى أوامر من أحد لتغلي في العروق؟ أما إنها ستغلي لا إراديًا من فرط ما ترى من إفساد عمد بقوة السلاح، ولا يفل السلاح إلا السلاح..

وهل يمكن أن يلوم أحد شابًا مسلمًا أو عدة شباب مسلمين إذا ما اتحدت إرادتهم في هذا الظرف المثير على قتل صاحب هذا القرار الداعي إلى الكفر بالله وهو يدعي أنه مسلم؟

إن اللوم كل اللوم إنما يقع على صاحب القرار، وقد حفر قبره بيده، وهو يعلم ذلك يقينًا من قبل أن يوقع القرار، وقد قالها علنًا حيث قال وهو يضحك: إنه يعلم أنه سيدفع ثمنًا لهذا القرار رصاصة أو رصاصتين في صدره !! إنه يعلم أن هذه هي النتيجة الحتمية للمقدمة الشرسة التي فرضها على الأمة، علم اليقين، وقد كان شابا من نفس هذا النوع من الشباب الذي يغلي الدم في عروقه لا إراديًا، ثورة من أجل مصر ، وتلك مصيبة المسكين العظمى أنه يدري!! وقد كان، فقتله الشاب المسلم عبد المجيد أحمد حسن الطالب بكلية الطب البيطري وعضو النظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين ، وهو في وسط جنده وعساكره وفي قلب مركز قيادته ومقر سلطانه يعاونه باقي أفراد مجموعته في النظام الخاص ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].

لقد كان عبد المجيد أحمد حسن ومعاونيه متأكدين وهم يقومون بهذا العمل، أنهم يقدمون دماءهم شهداء من أجلمصر ، فلم يكن أمامهم وقد اختاروا هذا الموقع لتنفيذ ما استقر عليهم رأيهم، إلا أن يقبض على عبد المجيد متلبسًا فيدل عليهم، ولكنهم كانوا رجالا قد تعلموا أن قتل المحاربين للإسلام فرض عين على كل مسلم ومسلمة، وقد تحقق لهم بعد إطلاعهم على هذا الأمر العسكري أن من وقعه محارب غادر للإسلام والمسلمين دون نزاع، فأقدموا على هذه العبادة المفروضة عليهم من لدن الحكيم الخبير دون حاجة إلى توجيه من جماعة أو هيئة ولا شك أنه لو تأخر عبد المجيد أحمد حسن وإخوانه عن أداء هذه العبادة لأداها غيرهم من ملايين شباب مصر الذين غلت دماؤهم كما غلت دماء عبد المجيد أحمد حسن وإخوانه فذلك قدر محتوم لكل من يتحدى إرادة الشعوب وعقائد المخلصين.

إذن فمن قتل محمود فهمي النقراشي ؟ إنه محمود فهمي النقراشي باشا نفسه.

ولقد قالها الأستاذ أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة في مرافعته أمام المحكمة العسكرية العليا في قضية اغتيال النقراشي باشا في 20/9/ 1949 حيث قال: «نشرت جريدة أخبار اليوم أن مصطفى أمين قابل النقراشي باشا وحذره من الإقدام على حل الإخوان ، لأنه سيقتل، فلما أصر خرج باكيًا عليه، فلما قتل بعد ذلك بأسبوع لم يبك عليه، فقد بكاه من قبل، وكل من كان حول النقراشي باشا كانوا يشعرون هذا الشعور، وإذن هناك شبه إجماع وصل إلى حد النشر على صفحات الجرائد أن حل الإخوان كان معناه قتل النقراشي ، فما معنى هذا التلازم ومن أين جاء هذا الشعور؟

هل جاء فقط من ناحية خطورة الإخوان المسلمين ؟ ولكن مهما بلغ خطر الإخوان فهل يمكن أن يقاس بقوة الدولة؟ لقد كان النقراشي باشا حاكمًا عسكريًا ولديه من السلطات ما لا حد له، ففيم كانت هذه العقيدة التي تكونت بأن القتل سيكون مصيره؟

إن الأمر الواضح الجلي هو أن هذا الإجماع ليس إلا مظهرًا للشعور بالإقدام على أمر غير طبيعي، وأمر شاذ، وأمر منتاه في الغفلة والعجلة، فضلا عن أنه ضد القانون وضد الدستور وضد سلامة الشعب ( ). هذا ما قاله الأستاذ أحمد حسين المحامي ورئيس [[حزب مصر الفتاة ، وهو يترافع في قضية قتل النقراشي في عهد خلفه الذي فاقه صلفًا وغدرًا إبراهيم عبد الهادي باشا، وهي كلمة حق عند إمام جائر لعل الله أن يدخل بها أحمد حسين تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.


الدين والسياسة

إن هذه القضية، قضية الدين والسياسة، لا تثور إلا في أذهان من خضعوا للفكر الغربي، ونقلوا عنه مبادئه ونظمه، وتخلوا تمامًا عن الشريعة الإسلامية الغراء، واعتبروها رجعية لا عودة لها أبدًا. وقد تخبط في فهم هذه القضية الكثير من كتاب مصر ومفكريها المحدثين، كما استعمل مفهومها الخاطئ رئيسها الراحل أنور السادات.

ولاشك عندي أن كل هؤلاء الكتاب والرؤساء يدركون تمامًا أن الشريعة الإسلامية الغراء قد جعلت من الاهتمام بالسياسة شريعة ومنهاجا، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، كما أنها نظمت أسلوب الحكم في الدولة الإسلامية مع ما فيه من قواعد للسلم والحرب والاقتصاد والمعاهدات مع الدول الأجنبية، فلم يفرط ربنا في كتابه المحكم من شيء مما يهم الفرد ويهم الدولة إلا شرعه بتنزيل مبين، ولكنهم ينكرون كل ذلك توددًا وتقربًا لسادتهم من المستعمرين ليحظوا بتأييدهم ضد شعوبهم وإنزالهم منازل العزة والكرامة بين أقرانهم.

فالأمر واضح كل الوضوح لكل من له عين تقرأ وأذن تسمع وهذا نص ما قالته المحكمة تحت هذا العنوان «الدين والسياسة».

حكم المحكمة في قضية الدين والسياسة:

وحيث أن الاتهام أخذ على جماعة الإخوان تدخلهم في المسائل السياسية مع أن دعوتهم بدأت دينية، وهذا لا يتفق مع الحقيقة المعلومة أن الإسلام دين ودولة، وقد سبق للمرشد العام أن تحدث في هذا الصدد فقال: في كتيب نشر في سنة (1948 م) عنوانه «مشكلتنا الاقتصادية والدستورية» قال فيه: إن الإسلام يتخذ من «الحكومة» قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي الذي جاء به للناس، فمن ظن أن الإسلام لا يعرض للسياسة وأن السياسة ليست من مباحه، فقد ظلم نفسه وظلم علمه بهذا الإسلام . وأشار بعد ذلك إلى الخطأ في فصل الدين عن السياسة عمليًا مع النص في الدستور على أن دين الدولة هو الإسلام ، وقال إن الحكومة في الإسلام تقوم على قواعد معروفة هي مسئولية الحاكم ووحدة الأمة واحترام إرادتها، وهذه القواعد هي التي قام عليها الدستور المصري لأن الإسلام يجيز أن يفوض رئيس الدولة غيره في مباشرة السلطة وتحمل المسئولية، فيصبح المسئول، هي الوزارة لا رئيس الدولة. وحيث أنه يظهر جليًا من أقوال المرشد العام أن الجماعة لا تناهض نظام الحكم القائم في مصر ، بل تراه متفقًا مع النظم الإسلامية، وأنها كانت تهدف إلى تحقيق نظام شامل للنهضة والإصلاح طبقًا لأحكام الدين الإسلام ي وبالطرق الدستورية المعروفة طبقًا لما جاء في قانونها الأساسي السابق تفصيله. وبهذه النصوص الواضحة تكون المحكمة قد سجلت خطأ الاتهام الذي يأخذ به البعض على الإخوان المسلمين بأنهم بدئوا جماعة دينية، ثم انحرفوا إلى السياسة والذي انساقت النيابة العامة وراءه، فذكرته من بين تهمها إلى الإخوان ، فنحن نجد المحكمة تقول بصراحة أن هذا الاتهام لا يتفق مع الحقيقة المعلومة أن الإسلام دين ودولة، ثم استدلت المحكمة على صحة هذه الحقيقة من نصوص ما كتبه الإمام الشهيد معلنة في النهاية حكمها بأن الإخوان المسلمين لا يناهضون نظام الحكم القائم في مصر ، بل يرونه متفقًا مع النظم الإسلامية.


مناقضة أدلة الاتهام وبراءة النظام الخاص

قالت المحكمة:

حيث أن الاتهام وقد عزا إلى جماعة الإخوان المسلمين السعي إلى قلب نظام الحكم بالقوة وقال إن الإدارة التي أعدوها لتحقيق هذه الغاية هي جماعة إرهابية دربت وأعدت وسميت بالنظام الخاص.

وهذا الذي صوره الاتهام فيه خلط بين أمرين: الأمر الأول: التدريب على استعمال الأسلحة وحرب العصابات. والأمر الثاني: ذلك الاتجاه الإرهابي الذي انزلق إليه بعض المتطرفين من أفراد تلك الجماعة، وكان من أثر هذا النظر أن انتهى الاتهام إلى القول بأن النظام الخاص بجملته نظام إرهابي.

وحيث أن المحكمة ترى التفرقة بين الأمرين، فالنظام الخاص يرمي إلى إعداد فريق كبير من الشباب إعدادًا عسكريا تطبيقًا لما دعى إليه مؤسس هذه الجماعة في رسائله المتعددة من أن الأمر أصبح جدًا لا هزلاً، وأن الخطب والأقوال ما عادت تجدي، وأنه لا بد من الجمع بين الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل وأن حركة الإخوان تمر بثلاثة مراحل: الأولى مرحلة التعريف بنشر الفكرة، والثانية مرحلة التكوين لاستخلاص العناصر الصالحة لأعباء الجهاد، ونظام الدعوة في هذا الطور مدني من الناحية الروحية وعسكري من الناحية العملية، وشعار هاتين الناحيتين دائمًا أمر وطاعة من غير بحث ولا مراجعة، والمرحلة الثالثة مرحلة التنفيذ وهذا الإعداد دائما قصد به تحقيق ما ورد صريحًا في قانون الجماعة من أن من بين أهدافها تحرير وادي النيل والبلاد الإسلامية، وهذا النظام الخاص بحكم هذا التكوين لا يدعو إلى الجريمة ولا يعيبه أن فريقًا من أفارده كونوا من أنفسهم جماعة اتفقوا على أعمال القتل والتدمير.

المحكمة تبرئ النظام الخاص من كل اتهام:

وقالت المحكمة:

وحيث أن هذا النظر تأيد من وجود كتب عسكرية مما يدرس للجيش تشمل فضلا عن شرح أنواع الأسلحة والتدريب على استعمالها واقتناص الدبابات وتدميرها ووضع الألغام ونزعها وكل هذه الأمور لا تتطلبها أعمال فئة إرهابية إنما يستلزمها مقاومة من يستعمل تلك الأسلحة.

وحيث إنه مما يدل على أن النية لدى أفراد هذا النظام الخاص كانت متجهة إلى مقاومة جيش الاحتلال، أن بعض ما ضبط في السيارة من أوراق ومنها أوراق تحض على أعمال الفدائيين أشير فيها إلى أن الصداقة البريطانية المصرية مهزلة وأن الإنجليز يظنون شعوب الشرق مسالمة ساذجة، حيث تحدث كاتب هذه الأوراق عن التدريب على زجاجة مولوتوف، وعرقلة المواصلات وتعطيل وسائل النقل الميكانيكية والقوات المدرعة، وانتهى إلى القول في صراحة أنهم إنما يقاومون العدو الغاصب، كما جاء في أوراق أخرى ما يدل على هذا الاتجاه طبقًا لما سبق أن أثبتته المحكمة مفصلا عند استعراض الأوراق المضبوطة. وحيث أن الثابت من أقوال عبد المجيد أحمد حسن السابق تفصيلها أنه فهم أن النظام الخاص يعمل لنصرة أغراض الإخوان المسلمين ولا يعرف إنه يهدف إلى الاستيلاء على الحكم بالقوة وأن المقصود بحرب العصابات هو جيش الاحتلال.

وحيث أن أثر هذا التدريب الروحي والعسكري قد ظهر عندما قامت مشكلة فلسطين وأرسلت الجماعة الكثير من متطوعيها للقتال إذ شهد أمام المحكمة كل من اللواء أحمد المواوي بك القائد الأول لحملة فلسطين واللواء أحمد صادق باشا الذي خلفه بما قام به هؤلاء المتطوعين من أعمال دلت على بسالتهم وحسن مرانهم وسمو روحهم المعنوية وإلمامهم بفنون حرب العصابات

وحيث أن الاتهام في صدد التدليل على قيام الاتفاق الجنائي على قلب نظام الحكم بالقوة استند إلى الورقة المضبوطة بمحافظة «مشهور» وعنوانها قيام الحركة كما استند إلى ورقة في كراسة الإسماعيلية مما سبق تفصيله عند إثبات مضمون الأوراق، وهذا التدليل لا ترى المحكمة له أساسًا لأن هذه الأوراق لم يعرف كاتبها، ولم يقم أي دليل على حصول اتفاق جنائي بشأن ما دون فيها.

على أن بعض عبارات الكراسة تكاد تكون قاطعة في الدلالة على أن الأمر لا يتعدى حد الوصف وإبداء الرأي من جانب الكاتب، فقد ورد فيها ما نصه: «نذكرها اقتراحًا يطلبه الواقع الذي نشاهد وأنه من الحكمة تقدير النجاح لظرفه، كما نطلب إذا لزم عمل أو القيام بأمر أن تشيروا إليه بمقتضى ما لديكم من خرائط، ونحن نقدر الأهداف وظرفها المناسب، ولكم شكرنا الجزيل والطاعة والتنفيذ» «فكأنه لم يتم اتفاق نهائي جدي بشأن ما ورد في هذه الكراسة».

وحيث أنه يخلص مما تقدم أنه لا التنظيم العسكري ولا ما ورد في الأوراق المجهول كاتبها ما يدل على قيام اتفاق جنائي على قلب نظام الحكم، فلم يبق بعد ذلك سوى ما استخلصه الاتهام من مقال حرره المتهم الأخير سليمان مصطفى عيسى وضبط بالمركز العام للإخوان المسلمين عقب صدور أمر الحل. المحكمة تواجه النيابة بأنها تحمل الألفاظ أمورًا لا تتحملها وتستنتج بغير أساس على الإطلاق:

قالت المحكمة:

وحيث أنه بالرجوع إلى هذا المقال يتبين أن عنوانه «النظام الإسلامي في العصر الحاضر»، ويلي هذا العنوان عنون آخر «الإسلام والعدالة الاجتماعية» وقد جاء في صدر المقال أن مصادر التشريع في النظام الإسلامي القرآن والسنة والاجتهاد وأورد الكاتب تحت عنوان: «الحكومة في الإسلام » تسع مواد ذكر في المادة الأولى منها أن الحكومة الإسلامية ديمقراطية نيابية فينتخب فيها رئيس الجمهورية لمدى الحياة، ويعزل إذا أهمل في شأن من شئون الرعية وأن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية وأن الحكومة مسئولة عن حماية أفراد الدولة حماية عامة تشمل حمايتهم من الفقر والجهل والمرض، وأن السبيل للوصول إلى العدالة الاجتماعية هو التضامن الاجتماعي وتحصيل الإيرادات لمصلحة الفقراء لسد النفقات العامة، ثم أشار إلى مصادر الإيراد ومصارفه، وقال بعد ذلك: إن جميع الأفراد لهم الحق في الملك العام وأنهم متساوون في الحقوق والواجبات، وأنه ليس هناك رق أو استعباد في الإسلام .

وجاء في ثنايا هذا المقال بيان موجز عن حالة الفلاح وإصلاح الطرق الصحراوية ونسبة الوفيات في مصر . وحيث إنه بمجرد إلقاء نظرة عابرة على هذا المقال تبين للمحكمة أنه ضعيف البناء غير متصل الحلقات شأن المواضيع الإنشائية التي يكتبها الطلبة الناشئون، الذين لم تصقل عباراتهم أو يتسع أفقهم في التفكير.

وحيث إن الاتهام ذهب في تفسير هذا المقال إلى أن كاتبه قصد إلى إنشاء نظام ديكتاتوري اشتراكي ينصب فيه المرشد العام ديكتاتورًا على البلاد، وأن هذا المقال لم يكتب إلا ليقين محرره بأن الجمعية قد تآمرت على قلب نظام الحكم عند تحقيق الانقلاب ودلل على هذا النظر بأن أوراق المقال وجدت في المركز العام وأن اسم المتهم ورد في جدول خلايا السيد فايزعبد المطلب.

وحيث إن المتهم أقر بأنه كاتب هذه الأوراق وأنه إنما حررها اشتركًا في مسابقة أعلنت عنها مجلة الطالب العربي في عددها المؤرخ 15 مارس 1947 م، وأنه أرسل المقال إلىفريد عبد الخالق رئيس قسم الطلبة بالمركز العام للإخوان باعتباره عضوًا في لجنة فحص ردود المتسابقين، وأنه لم يقصد نظم الحكم في مصر وإنما أراد أن يضع أنموذجًا للحكم في أي بلد إسلامي بصفة عامة.

وحيث إن المحكمة أطلعت على مجلة الطالب العربي المشار إليها كما سمعت أقوال فريد عبد الخالق الذي أرسل إليه المقال وقد تبين من الاطلاع ومن شهادة فريد المذكورة أن دفاع المتهم في هذه الناحية صحيح وأنه عندما كتب المقال موضوع المسابقة كان لا يزال طالبًا في إحدى الكليات وحيث إن عبارات المقال قاطعة في أن كاتبه لم يقصد نظام الحكم في مصر وإنما كان كلامه عامًا تغلب عليه الناحية النظرية، ولم يرد ذكر لمصر إلا فيما يتصل بالفلاح وإصلاح الأراضي الصحراوية ونسبة الوفيات وهي أمور لا علاقة لها بنظام الحكم كما أنه لم يرد بالمقال المذكور أية إشارة إلى المرشد العام أو تنصيب أي شخص حاكم بأمره.

وحيث أنه مما تقدم يتبين أن ما ذهب إليه الاتهام من أن المقال هو مشروع لنظام الحكم في مصر بعد حدوث الانقلاب -هذا الذي ذهب الاتهام فيه تحميل لألفاظ المقال أمورًا لا تحتملها وفيه استنتاج لا أساس له على الإطلاق.

وحيث إنه بانتفاء هذا الدليل تصبح تهمة الاتفاق الجنائي على قلب نظام الحكم لا سند لها من واقع التحقيق أو الأوراق.

المحكمة تقرر أن إسناد الاتفاق الجنائي عن التهم المبينة في البنود 2، 3، 6، 7، 10، 11 من التهمة الأولى والتهمة الرابعة لا أساس له على الإطلاق:

وحيث أن التهمة الأولى الموجهة إلى المتهمين هي أنهم اشتركوا فيما بينهم ومع آخرين لم يعلموا في اتفاق جنائي الغرض منه ارتكاب جرائم قلب وتغيير دستور الدولة وشكل الحكومة بالقوة وإتلاف سيارات وأسلحة الجيش المصري المعد للدفاع عن البلاد وتخريب المنشآت الحكومية وأقسام ومراكز البوليس ومحطات الإضاءة والمياه وغيرها، وتعطيل وسائل النقل العامة بنسف قطارات السكك الحديدية وجسورها وخطوطها ونسف الطرق والكباري العامة وسيارات الأتوبيس، وتعطيل القوى الكهربائية المولدة لحركة خطوط ترام القاهرة وإتلاف الخطوط التلغرافية والتليفونية الحكومية عمدًا في زمن الفتنة وقتل خيول البوليس عمدًا بدون مقتض بطريق التسمم وجرائم أخرى بقصد الاستيلاء على الحكم بالقوة. وحيث إنه سبق للمحكمة أن عرضت لجريمة قلب وتغيير دستور الدولة وشكل الحكومة بالقوة وانتهت إلى القول بأنها لا أساس لها.

وحيث إنه عن الاتفاق الجنائي على ارتكاب بقية الجرائم المشار إليها فإن الاتهام اتخذ من «كراسة الإسماعيلية» المضبوطة في السيارة الجيب السابق تلخيص ما كتب فيها.. اتخذ منها عمادًا للقول بأن الاتفاق الجنائي قام بين المتهمين وآخرين على ارتكاب تلك الجرائم.

وحيث أن هذه الكراسة لم يعرف كاتبها ولم يقدم دليل على أن ما دون فيها كان محل اتفاق بين المتهمين، ومن العسير القول بأنها ما دامت الكراسة قد ضبطت بين أوراق الفئة الإرهابية فإن إرادة أعضائها تكون قد أتحدت على تنفيذ الجرائم التي سطرها كاتبها المجهول.

وحيث إن هذا النظر تأيد بما جاء في اعترافات عبد المجيد أحمد حسن قاتل النقراشي باشا، عندما تحدث عن محتويات منزل المحمدي الذي قيل بأنها نقلت إلى سيارة الجيب.

فقال: إن من بين الأوراق التي كانت بمنزل المذكور كراسة آتية من الإسماعيلية فيها كلام عنالجيش المصري، والجيش الإنجليزي والمنشآت العامة، وعلم من أحمد عادل كمال أن أحد أفرادالجماعة بالإسماعيلية هو الذي كتبها.

وهذه الأقوال تدل على أن ما ورد بالكراسة كان من قبيل الاقتراحات التي لم يقم الدليل على أنها صادفت قبولاً شخص أو من أشخاص معينين، على أن بعض عبارات الكراسة قاطعة الدلالة أن الأمر لم يتعد حد الوصف وإبداء الرأي كما سبق البيان، فكأنه لم يتم اتفاق نهائي جدي بشأنها.

وحيث إنه من الأدلة التي استند إليها الاتهام في قيام جريمة الاتفاق الجنائي على ارتكاب الجرائم السالفة الذكر أن هناك أوراقًا أخرى ضبطت بالحافظة والسيارة تؤيد اتجاه المتهمين إلى ارتكابها، إلا أن الأوراق التي تتصل بهذا الاتفاق كلها لم تسند إلى شخص معين، وليس هناك من دليل على أنها كانت محل اتفاق بين كاتبيها المجهولين، وبين أشخاص معينين من المتهمين.

وحيث إنه متى تقرر هذا كان إسناد الاتفاق الجنائي على ارتكاب تلك الجرائم إلى المتهمين على غير أساس، وترى المحكمة أن ما تم من اتفاقات جنائية على القتل والنسف والتدمير والسرقة إنما كان من متهمين معينين طبقًا لما يرد بيانه.

وحيث إنه مما تقدم جميعه يبين أنه لم يكن من قصد المتهمين الاستيلاء على الحكم بالقوة، وإنما الثابت في حق بعضهم هو اتفاقات جنائية على القتل والنسف والتدمير والسرقة طبقًا لما ستورده المحكمة من الكلام عن كل متهم على حدة.


المحكمة تبرئ المتهمين من تهمة إحراز أجهزة لاسلكية

وحيث عن الاتفاق الجنائي على إقامة واستعمال محطات سرية للإذاعة واللاسلكي بدون إخطار وبغير ترخيص -فإن هذه الجريمة محل الاتفاق- بعد إلغاء الأمر العسكري رقم (8) الخاص بها قد أصبحت مخالفة تطبيقًا لأحكام المرسوم الصادر في 8 مايو سنة 1926 م، ويكون الاتفاق الجنائي هو على ارتكاب مخالفة وهو الأمر الذي لا يشمله نص المادة 48 عقوبات.


وحيث إن التهمة الرابعة التي أسندت إلى المتهمين وقد أصبحت مخالفة كما سبق البيان، فإنه يتعين على المحكمة أن تقضي ببرائتهم منها طبقا لنص المادة 206 من قانون الجنايات.

وقفة لازمة للنظر في حكم المحكمة السابق تسجيله بنصه:

يتضح من حكم المحكمة السابق تسجيله بنصه أن المحكمة قررت في نص حكمها الحقائق الآتية: 1- إن جماعة الإخوان المسلمين كانت حريصة على أن تسجل في قانونها التزام الأوضاع الدستورية لتحقيق أغراضها.

2- إن جماعة الإخوان المسلمين عملت على تنفيذ الأغراض التي وضحت في قانونها وطبقا للوسائل المشار إليها، فأنشأوا صحيفة يومية لنشر دعوتهم وأقاموا مؤسسات اقتصادية ومستوصفات، كما كونوا فرقا للجوالة، وكان رئيسهم يتابع نشر الدعوة وتفهيم الناس بحقيقتها وذلك بإلقاء أحاديث دورية أسبوعية ومحاضرات وخطب في المناسبات.

3- إن ما ادعاه الاتهام من تدخل جماعة الإخوان المسلمين في السياسة مع أن دعوتهم بدأت دينية، لا يتفق مع الحقيقة المعلومة أن الإسلام دين ودولة.

4- إن جماعة الإخوان لا تناهض نظام الحكم القائم في مصر ، بل تراه متفقًا مع النظم الإسلامية، وأنها كانت تهدف إلى تحقيق نظام شامل للنهضة والإصلاح طبقا لأحكام الدين الإسلامي وبالطرق الدستورية طبقًا لما جاء في قانونها الأساسي.

5- إن المحكمة ترى أن النظام الخاص يرمي إلى إعداد فريق كبير من الشباب إعدادًا عسكريًا تطبيقًا لما دعا إليه مؤسس هذه الجماعة في رسائله المتعددة من أن الأمر أصبح جدًا لا هزًلا، وأن الخطب والأقوال ما عادت تجدي وأنه لا بد من الجمع بين الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل، وأن حركة الإخوان تمر بثلاثة مراحل. الأولى: مرحلة التعريف بنشر الفكرة. والثانية: مرحلة التكوين لاستخلاص العناصر الصالحة لأعباء الجهاد، ونظام الدعوة في هذا الطور مدني من الناحية الروحية وعسكري من الناحية العملية، وشعار هاتين الناحيتين دائما أمر وطاعة من غير بحث ولا مراجعة، والمرحلة الثالثة: مرحلة التنفيذ.

وهذا الإعداد قصد به دائما تحقيق ما ورد صريحًا في قانون الجماعة من أن من بين أهدافها تحرير وادي النيل والبلاد الإسلامية، وهذا النظام الخاص بحكم هذا التكوين لا يدعو إلى جريمة ولا يعيبه أن فريقًا من أفراده كونوا من أنفسهم جماعة اتفقوا على أعمال القتل والتدمير.

6- إن التدريب الروحي والعسكري قد ظهر عندما قامت مشكلة فلسطين وأرسلت الجماعة الكثيرمن متطوعيها للقتال، إذ شهد أمام المحكمة كل من اللواءأحمد المواوي بك القائد الأول لحملة فلسطين ، واللواء أحمد صادق باشا الذي خلفه، بما قام به هؤلاء المتطوعين من أعمال دلت على بسالتهم وحسن مرانهم وسمو روحهم المعنوية وإلمامهم بفنون حرب العصابات.

7- إن المحكمة لا ترى لما ذهب إليه الاتهام للتدليل على قيام الاتفاق الجنائي على قلب نظام الحكم أساسًا.

8- إن المحكمة خلصت من مناقشتها لتناقض أدلة الاتهام أنه لا التنظيم العسكري ولا ما ورد في الأوراق المجهول كاتبها ما يدل على قيام اتفاق جنائي على قلب نظام الحكم.

9- إن ما ذهب إليه الاتهام من أن المقال المحرر بخط المتهم سليمان مصطفى عيسى هو مشروع لنظام الحكم في مصر بعد حدوث الانقلاب، وفيه تحميل لألفاظ المقال أمورًا لا تحتملها وفيه استنتاج لا أساس له على الإطلاق.

10- إن إسناد الاتفاق الجنائي على ارتكاب بقية الجرائم الواردة في قرار الاتهام إلى المتهمين على غير أساس.

11- إنه لم يكن قصد المتهمين الاستيلاء على الحكم بالقوة.

12- براءة المتهمين جميعا من تهمة الاتفاق الجنائي على محطات سرية للإذاعة واللاسلكي بدون إخطار وبغير ترخيص لنص المادة 206 من قانون الجنايات.


محاولة حرق أوراق قضية السيارة الجيب

لاشك أن الحملة الإعلامية المكثفة التي تعمدتها وسائل الإعلام في عهد النقراشي باشا بهدف قلب مفاهيم الجماهيرالمصرية من مفاهيم حقيقية، وهي أن الصهاينة هم أعداء الأمة العربية رقم واحد، وأن الجيوش العربية مجتمعة قد دخلت أرض فلسطين لتطهيرها من رجسهم، وأن الأمة العربية عامة تقف وراء جيوشها، و الإخوان المسلمون خاصة يقدمون أموالهم وأرواحهم جنبًا إلى جنب مع جيش مصر لأداء هذا الواجب المقدس، إلى مفاهيم خاطئة تقلب الحقيقة رأسًا على عقب لتقول إن الإخوان المسلمين هم الخطر الداهم الذي يهدد شعب مصر بالقتل والتدمير والتخريب، وأنهم أشد خطرًاعلى مصر من عصابات الهاجانا وشترن، مثل هذه الحملة لا بد وأن تكون بالغة القسوة في عباراتها شديدة الغلظة في تجنيها على الحقائق واختلاقها للتهم، قوية المنطق في استنادها على الوثائق التي تدعي توفرها ووجودها، حتى يمكن للناس أن يتزحزحوا ولو قيد أنملة عن مفاهيم الحقيقة الراسخة إلى هذه المفاهيم الغريبة الشاذة.

ومن البديهي أن تتأثر جماهير الإخوان المسلمين الذين لم يعرفوا شيئا عن الوثائق المضبوطة في السيارة الجيب والتي وصفتها وسائل الإعلام أنها حقائق داحضة تدين الإخوان المسلمين بالاتفاق الجنائي على قلب نظام الحكم والقيام بأعمال تخريب وتدمير في مصر لا يعلم مداها إلا علام الغيوب، فيشفقون على دعوتهم التي وهبوها المهج والأرواح، ليقينهم أنها فضلا عن احتوائها على الإخلاص للوطن كأقوى ما يكون الإخلاص وأعظم؛ فإنها من واقع الشريعة الإسلامية تقوم بعبادة هي فرض عين على كل مسلم ومسلمة، تلك هي عبادة الجهاد في سبيل الله، ولابد لهم أن يعتقدوا أن هناك مؤامرة استعمارية محققة، استعملت النقراشي باشا كمخلب قط للقضاء على دعوة الإخوان المسلمين عندما ظهرت بسالتهم وشدة مراسهم في القتال في فلسطين ، وأن مثل هذه المؤامرة قد زودت الحكومة بوثائق مزورة، محكمة التزوير لدعم هجمتها الشرسة الضالة على الإخوان بقصد إبادتهم.

ولا يكون إمام شباب الإخوان الذين يرون مثل هذه النظرة المنطقية لمجريات الأمور في مصر إلا أن يفكروا في استنقاذ دعوتهم من أقصر طريق ممكن، حيث غيبت السجون والمعتقلات قادتهم دفعة واحدة، ومنعت الاتصال بين أي منهم وبين المرشد العام الذي ظل خارج المعتقل تحت حراسة مشددة من الحكومة لأغراض أدناها أن يفقد الإخوان في المعتقلات مصدر الطاقة الروحية التي تدعم صمودهم وأقصاها أن يفقد العالم الإسلامي إمامه الجليل، الذي يقوده إلى طريق العزة والكرامة المستمدة من الشريعة الإسلامية الغراء وذلك بقصد تيسير قتله جهارًا نهارًا على قارعة الطريق.

في ظل هذا الجو المشحون بالتوتر المصطنع من جانب الحكومة، يكون من البديهي أن يفكر بعض شباب الإخوان المسلمين في حرق أوراق هذه القضية التي اتخذت محورًا لكل هذه الدعاية المسمومة، حتى تفقد الحكومة حجتها فيما تنسبه بإصرار ضد جماعة الإخوان المسلمين، ولا تثريب في هذه الحالة على مثل هذا الشباب الذي يريد أن يطفئ نار الفتنة بنزع الأساس الذي اتخذته الحكومة وسيلة لاشتعال أوارها، خاصة إذا كان الأسلوب الذي ينهجه هو أقل الأساليب إضرارًا بالأرواح والأموال.

من أجل ذلك وضع الأخ الكريم الأستاذ شفيق أنس، وكان حينئذ لا يزال في ريعان شبابه قنبلة زمنية حارقة داخل حقيبة صغيرة شبيهة بحقائب المحامين بجوار الخزانة التي تحتوي على جميع أوراق قضية سيارة الجيب، بنية إحراقها وسلب الحكومة سندها لدى النيابة العامة في كل ما تفتريه على الإخوان المسلمين ظلمًا وعدوانًا، لأنه يعلم علم اليقين كجندي من جنود النظام الخاص، أن الإخوان المسلمين أبرياء من كل اتهام يوجه إليهم ضد مصر خاصة وضد أي بلد عربي أو إسلامي عامة، وقد أصدر إليه أمر التنفيذ قائد النظام الخاص المسئول في هذا الوقت وهو الشهيد السيد فايز عبد المطلب.

ولو أن الحكومة التزمت الصدق وهي تعرض الوثائق التي لديها والمضبوطة في هذه السيارة أسوة بما التزمت به محكمة استئناف القاهرة وهي تكتب حكمها في هذه القضية لما حدث صدام بين أفراد الحكومة وأفراد الإخوان المسلمين ولاستمر التعاون وثيقا كما بدأ في خدمة قضية فلسطين ، ولكن أني للحكومة أن تصدق مع شعبها وهي مسلطة عليه من جانب الاستعمار لسلبه مصدر قوته الحقيقية وهي العقيدة الإسلامية الغراء التي ظهرت آثارها واضحة جلية في أعمال الشباب في فلسطين ؟

ولكن رحمة الله واسعة، الذي سبق في علمه أن كل الوثائق المضبوطة في السيارة الجيب ليست إلا أدلة صارخة على صحوة الإخوان المسلمين ، لحماية مصر خاصة والعالم الإسلامي عامة من كل معتد غادر، أبت إلا أن يلاحظ أحد المخبرين حقيبة شفيق بعد أن تركها بجوار الخزانة الحاوية لهذه الوثائق، ونزل فعلا على سلم المحكمة، فلحقه بها، وأدركه في ميدان باب الخلق حيث حل موعد انفجارها، فانفجرت، ولم تدمر شيئًا، لأنها قنبلة حارقة وليست مدمرة.

وقبض على شفيق أنس، وارتفعت أبواق الحملة الإعلامية ضد الإخوان المسلمين بأنهم حاولوا نسف المحكمة كلها، وصدق المرشد العام هذا الاتهام لشباب الإخوان، وكيف لا يصدقه، والحكومة تعلنه بكل ثقلها، وكيف لا يصدقه وهو خالي الذهن تمامًا عن مثل هذا التفكير أو التدبير لانقطاع الصلة بينه وبين جنود الدعوة من شباب الإخوان المسلمين.

ولو أن الحكومة لم تقطع بين الإخوان وبين مرشدهم ما وقعت مثل هذه الواقعة ولأرشدهم فضيلته إلى أن كل الوثائق المضبوطة في السيارة الجيب هي لصالحهم وليست حجة عليهم، على النحو الذي سجله القضاء في حكمه، ولكن بعد فوات الأوان، ولمرت الأزمة بسلام.

إن المطلع المنصف الذي يقرأ حكم المحكمة في قضية السيارة الجيب لا بد له أن يقطع بأن حادث محاولة حرق أوراق السيارة الجيب ولا أقول محاولة نسف المحكمة كما ادعت أجهزة الإعلام الحكومية، إنما يرجع أول ما يرجع إلى تضليل الحكومة للشعب، وكتمانها هذه الحقيقة وأن شفيق أنس وقد برأت المحكمة كل الوثائق المضبوطة في السيارة الجيب أصبح بريئًا كل البراءة فيما أقدم عليه من محاولة إحراق هذه الوثائق، فالحكومة هي التي حرضته على هذه المحاولة بما نشرته عن هذه الوثائق من أهوال دمغتها المحكمة في حكمها العادل بأنها جميعًا لا تستند إلى أي أساس من الصحة.

ولنا أن نقول إذا كان محمود فهمي النقراشي هو القاتل الحقيقي ل محمود فهمي النقراشي فإن وسائل الإعلام الحكومية في مصر هي المحرض الحقيقي لكل من السيدفايز عبد المطلب و شفيق أنس على محاولة نسف أوراق قضية السيارة الجيب لا محكمة استئنافالقاهرة.

وأن رحمة الله الواسعة بالإخوان المسلمين هي التي أبطلت محاولة حرق الأوراق لتكون حجة دامغة على الحكومة بالكذب والتضليل على الشعب، سترًا لخيانتها في قضية فلسطين .


ضبط السيارة الجيب كان تدبيرًا سماويًا لحماية الدعوة، وليس للبوليس أدنى فضل فيه:

إن استقراء الوقائع التي وقعت قدريًا في نوفمبر سنة 1948 من ضبط مخزن الأسلحة بالإسماعيلية وما فيه من أوراق وضبط السيارة الجيب وما فيها من وثاثق، ليوضح بأجلى صورة أنه لما سبق في علم الله أن الحكومة تعتزم الغدر بالإخوان المسلمين ، مؤتمرة في ذلك بأمر قادة الحركة الصهيونية العالمية التي تستخدم الاستعمار وسيلة لتحقيق مآربها، وأن غدرها بالإخوان سوف يكون محاولة وحشية لإبادتهم والقضاء على دعوتهم، أراد الحق تبارك وتعالى أن يدفع عن الإخوان شرور هذه الهجمة الشرسة، فقيض أسبابًا عفوية لتقع هذه الوثائق في أيدي رجال البوليس ولتنكشف بها نوايا الحكومة على الغدر حيث أعمى الله بصيرتها عن حقائق هذه الوثائق فاتخذتها دليلها على إدانة الإخوان بينما هي في الواقع أدلة الحق والصدق الذي تحلت بها هذهالجماعة المباركة الصادقة في كل ما قدمت من أعمال.

فنحن نلاحظ أن الحكومة بدأت بإصدار أمر عسكري بحل جماعة الإخوان المسلمين في منطقة القتال في وقت كان فيه الإمام الشهيد يؤدي فريضة الحج مع مجموعة من الإخوان في السعودية، وكان متطوعو الإخوان في الميدان يعملون جنبًا إلى جنب في فدائية فذة مع جيش مصر على أرض فلسطين ، مما يقطع بالتعاون الوثيق بين الحكومة و الإخوان في هذه الفترة من الزمان، وأنه لم يكن لديها أي مبرر لهذا القرار إلا على أساس تشويه الحقائق الواردة في بعض الأوراق المضبوطة في مخزن للسلاح بمنطقة الإسماعيلية، حيث كان ضبط السلاح وحده غير كاف لتعليل مثل هذا القرار، فالسلاح في يد الإخوان بتصريح من الحكومة، وهم يقاتلون به في فلسطين تحت قيادة رئيس الإخوان بالإسماعيلية الشهيد محمد فرغلي ولابد أن يكون لهم رصيدًا احتياطيًا يصلهم منه المدد على طول أيام المعركة، فهو إذن دليل شرف لا دليل إدانة في وقت المعركة، ومن ثم لم يكن أمام الحكومة إلا تشويه المعاني الواردة في الأوراق المضبوطة مع هذا السلاح وإعمال أبواق دعايتها ضد الإخوان المسلمين على أساس هذه المعاني المشوهة حتى يتقبل الجمهور مثل هذا القرار الخائن الغادر وهي لا تدري أن الحق تبارك وتعالى قد قدر في سابق علمه أن قضاء مصر سيكشف هذه الخيانة الدنيئة ويظهر الحق جليًا واضحًا للناس كافة.

ولم يلبث القدر أن ألقم الحكومة طعمًا آخر بضبط السيارة الجيب وما فيها من أوراق لتكشف عن نواياها كاملة قبل أن تتخذ لها ستارًا مانعًا من الفضيحة فاتخذت قرارها العسكري بحل الإخوان في جميع أنحاء القطر ولم يكن قد مضى على قرارها السابق بحلجماعة الإخوان في منطقة القنال إلا عدة أيام، واعتمدت على مزيد من التشويه لحقائق الأوراق المضبوطة في السيارة الجيب، لتلفت الأنظار بعيدًا عن خيانتها في فلسطين وتوجهها إلى دعاوي باطلة تنسبها إلى أخلص أبناء هذا الوطن وهم يجودون بدمائهم في سبيله في ساحة القتال، وهي لا تدري أن هذه الأوراق هي التي ستثبت براءة الإخوان من كل ما نسب إليهم، وتؤكد بطولاتهم الفذة على أرض المعركة، وتدمغ رجال هذا العهد البائد جميعًا بالخيانة والعار، وقد تأكدت هذه الحقائق للمحكمة بشهادة كبار الشهود في القضية من أمثال سماحة مفتي فلسطين واللواء فؤاد صادق باشا واللواءأحمد علي المواوي بك على النحو الذي سيجيء تفصيلاً فيما بعد في هذا الكتاب.

وقد شاء القدر أن يقدم للناس الوثائق الإنجليزية والأمريكية التي تسجل دور الاستعمار في دفع الحكومة المصرية للقضاء على الإخوان المسلمين ، فنشرتها جريدة المسلمون «ضمن سلسلة مقالات الأستاذ محسن محمد بعنوان: من قتل حسن البنا» وسوف تخصص بابًا مستقلا من هذا الكتاب لسرد ما نشر من هذه الوثائق بعد أن انتهت مدة سريتها واطلع عليها المؤرخون في جميع أنحاء العالم ومنهم الأستاذ محسن محمد.

لقد كان المقصود من إصدار قرار حل الإخوان المسلمين على دفعتين، أن يفقد الإخوان توازنهم فور صدور قرار الحل بمنطقة القنال في غياب مرشدهم بالحجاز، فيأتون من الأفعال الثورية على هذا القرار ما يبرر للحكومة الإجهاز عليهم في جميع أنحاء القطر.

ولكن الإخوان كانوا كعادتهم أبناء لله والوطن، فلم يقع منهم أي رد فعل لهذا القرار الجائر، لأنه لم يكن يستند إلى أي سبب حقيقي، حيث كان معلومًا لدى الإخوان جميعًا أن حيازة السلاح في أيدي الفئات المجاهدة في فلسطين إنما يقع بتصريح من حكومة محمود فهمي النقراشي باشا صاحب قرار دخول الجيش المصري فلسطين لتحريرها.

ولقد كان من الممكن أن يقع الإخوان في خطأ نتيجة لهذا القرار الاستفزازي وأن تستند عليه الحكومة في إعلان حربها الشاملة ضد الإخوان ، ولكن الفرصة ضاعت على الحكومة بسبب التزام الإخوان جانب الهدوء، فأراد الله أن يكشف النية الغادرة للحكومة، حيث يسر لها ضبط السيارة الجيب، التي يظن الجاهلون لأول وهلة عند الاطلاع على محتوياتها أنها وسيلة إدانة كافية لإعلان الحرب الشاملة على الإخوان المسلمين ، ثم ينطق حكم القضاء ببراءتهم، وتعود دعوتهم كما كانت بل أكثر قوة. هذا هو تدبير العزيز الحكيم لحماية دعوته، كما حمى نبيه يوسف -عليه السلام- بتآمر إخوته عليه ليقتلوه وصدق الله العظيم القائل: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيدًا﴾ [الطارق: 15- 17].

فقد أعمى الله بصيرة الدولة من أن تصبر حتى يتبين القضاء فحوى محتويات السيارة الجيب، بل أسكرها الهوى عند ضبط السيارة، فضربت ضربتها التي ظنت أنها قاتلة، ولكن هيهات فإن في مصر رجال وقضاء، حيث وقف رجال النظام الخاص للحكومة بالمرصاد عندما ثبت لهم بما لا يدع مجالا للشك أن الحكومة أصبحت بفعلها هذا من المحاربين للإسلام، وأنه حق على كل مسلم مقاومتها بقوة السلاح كفرض عين، فرضه الله على المسلمين كافة تجاه المحاربين من الكفار وأعوانهم، لا يحتاج أداؤه إلى أمر من قيادة، لأنه صادر من لدن حكيم خبير. بسم الله الرحمن الرحيم ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم ببَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 39- 41].

لم يغن الحكومة شيئا أن تعتقل قادة الإخوان أو تحبسهم في السجون والمعتقلات ولم يغنها شيئًا أن تعزل بينها وبين مرشدهم، الذي دبرت له أمرًا بليل، بل إنها واجهت هي ونظامها أجمع، جهاد الإخوان المسلمين فرادى لا جماعات بما اشتملت عليه صدورهم من عقيدة ربانية عادلة، وكلل الله جهاد هؤلاء الأفراد الشبان بالنجاح، فخر محمود فهمي النقراشي صريعًا في عقر داره، وبين جنده وفي سلطانه، ودون أن يكون لقيادة الإخوان المسلمين في هذا رأي أو توجيه، وتزلزل حكم خلفه عبد الهادي زلزالا شديدًا ولم ينفعه قتله للإمام على قارعة الطريق في شيء، فقد كان الإمام الشهيد في حياته بعيدًا كل البعد عن توجيه الإخوان في نضالهم ضد عدوهم الغادر، لأنه كان أسيرًا تحت نظر سلطات الدولة، التي تباهت خيلاء، بحيازتها له، دون أن تحبسه أو تعتقله، بل أبقته لتلهو به، وكأنه عصفور في قفص، أبقته في داره، ولكنها قطعت خط التليفون الذي يمكن أن يوصله بأي من إخوانه، وسحبت مسدسه المرخص حتى يعجز أن يدافع عن نفسه عندما تنقض عليه كلابها ليقتلوه، واعتقلت شقيقه الضابط عبد الباسط البنا الذي كان يلازمه، ليحميه من العسكر والمخبرين والملازمين لباب داره ليل نهار والمتحركين خلفه بسيارتهم إذا ما تحرك يمينًا أو يسارًا يسعى لإقناع الحكومة بخطئها فيما تتخذه من إجراءات شاذة، ولكن هيهات للحكومة أن تقتنع، فهي لا تتصرف عن عقل أو وعي، ولكنها أسيرة لهوى سادتها من الصهاينة والمستعمرين، وليكن بعد ذلك ما يكون.

إن ملايين الشبان الذين إلى الدم في عروقهم بانكشاف موقف الحكومة، فقتلوا النقراشي، وحاولوا حرق أوراق قضية السيارة الجيب لتبرئة دعوتهم مما تدعيه الحكومة من أن بها أدلة ظالمة لها، ثم حاولوا قتل خلفه عبد الهادي وزلزلة نظام حكمه، حتى ارتعدت فرائص الملك من كثرة ما رفعت إليه التقارير الكاذبة بأنه تم القضاء الفعلي على الإخوان المسلمين فيتبين استمرار المقاومة، ويضبط في كل يوم وكر من أوكار المقاومة يزلزل قواعد حكم إبراهيم عبد الهادي، حتى أقاله الملك هديته للشعب يوم العيد ظانًا أنه ينجو بذلك نفسه، ويضحي بعبد من عبيده، ولكن هيهات فقد ذهب هو أيضًا كما يذهب عبيده، فإن الله يمهل ولا يهمل وهو على كل شيء قدير.

عود لبيان ملابسات ضبط السيارة الجيب والقبض على قادة النظام الخاص بترتيب سماوي لا يد فيه للبشر:

أوقع الله في نفس الأخ عادل كمال بعد أن رأى حل الإخوان بالإسماعيلية وانتشار إرهاصات كثيرة عن عزم الحكومة على حل جماعة الإخوان المسلمين عامة أن ينقل بعض الأوراق والمعدات المتعلقة بالجاهدمن إحدى الشقق بحي المحمدي إلى شقة أحد الإخوان بالعباسية وهو عمل تنظيمي صغير لا يستحق أمرًا به من القيادة العليا، ولا تدبيرًا خاصًا لتأمينه، فاصطحب معه الأخ: طاهر عماد الدين في إحدى السيارات المخصصة لأعمال الجهاد وهي سيارة جيب يقودها الأخ:مصطفى كمال عبد المجيد.

ولقد تم نقل كل موجودات شقة المحمدي إلى السيارة واتجهت حتى وصلت منزل الأخ: إبراهيم محمود علي بالعباسية لتودع هذه الموجودات أمانة هناك وكان ذلك حوالي الساعة الثالثة من بعد ظهر 15/11/ 1948 م في شارع جنينة القوادر بحي الوايلي أمام المنزل رقم 38 ولم يكن عادل يدري بأن من سكان هذا المنزل مخبرًا في حالة خصام مع جاره إبراهيم محمود علي، هو البوليس الملكي صبحي علي سالم، ذلك ليقع أمر الله حيث لو علم عادل بذلك لاختار منزلا آخر لحفظ هذه الموجودات، وهناك لاحظ المخبر دون أي تدبير من قيادته في البوليس، أن السيارة لا تحمل أرقامًا وأنها تخص خصمه إبراهيم محمود علي، فزين له عداؤه لإبراهيم أن يضبط السيارة كيدًا في إبراهيم، وقد اشتد سروره عندما تبين أن الأمر أكبر من مجرد استعمال سيارة بدون ترخيص ففي السيارة بعض المحظورات من الأسلحة والمفجرات.

جرى ركاب السيارة ولكنه لاحقهم واستعان بالناس صارخًا أنهم صهيونيون فتم ضبط كلا من أحمد عادل كمال وطاهر عماد الدين، أما مصطفى كمال عبد المجيد فلم يرد الله أن يضبط ليتم بذلك التدبير السماوي الحكيم.

أبلغ مصطفى كمال عبد المجيد الأخ سعد كمال صاحب ورشة سيارات في شارع أحمد سعيد قرب تقاطعه بشارع الملكة نازلي (رمسيس حاليًا) بواقعة ضبط السيارة وأعطاه فكرة عن محتوياتها.

ولقد شاءت القدرة الإلهية أن يكون في نفس اليوم الذي وقعت فيه هذه الواقعة اجتماع لقيادة النظام بمنزل الأخ مصطفى مشهور الذي يقع منزله قريبًا من ورشة الأخ سعد كمال، فتوجه الأخ سعد كمال إلى منزل الأخ مصطفى مشهور دون أن يعلم شيئا عن الاجتماع المنتظر بمنزله، ليبلغه بواقعة ضبط السيارة، كما توجه مصطفى كمال عبد المجيد إلى منزلي دون أن يعلم هو أيضا شيئا عن هذا الاجتماع، ليبلغني واقعة ضبط السيارة وكان هذان البلاغان قبل موعد اجتماع قيادة النظام بما يقرب من ساعتين.

فكرت في خطة الدفاع عن هذه الموجودات أمام النيابة عندما أسأل عن السيارة وما فيها، لأنني كنت المشتري لها من الحاج علي الطنبولي صاحب ورشة سيارات بشارع توفيق بمصر الجديدة، وكان يصحبني عند شراء هذه السيارة وسيارة أخرى من نفس النوع الأخ الحاج عبد الفتاح التميمي ممثل الهيئة العربية العليا في عملية تسليح المجاهدين الفلسطين يين بالاستعانة بالإخوان المسلمين .

وقد كنت كما سبق لي أن ذكرت في مقدمة هذا الكتاب ضابط الاتصال بين جماعة الإخوان المسلمين وبين الهيئة العربية العليا لتسليح المجاهدين الفلسطين يين، وكان في تقديري أن الحاج عبد الفتاح التميمي سيسأل قطعًا عن هذه السيارة وموجوداتها لأنه اشترك معي في شرائها من الحاج على الطنبولي، ولم يكن لدى أدنى شك من أن الحاج علي الطنبولي سيرشد المحققين إلى وإلى الحاج عبد الفتاح التميمي، فلن يكن هناك أي سبب يدعو الحاجعلي الطنبولي إلى غير ذلك، لأنه اشترى السيارات ضمن لط سيارات مباعة من الجيش الإنجليزي بشكل قانوني لا غبار عليه، وباعها لرجال معلومين له بيعًا علينًا لا شائبة فيه ولغرض مشروع لا غبار عليه.

وقد كان أول انطباع لي أن أرتب مع الحاج عبد الفتاح التميمي إنكار أي علاقة لنا بهذه السيارة، منعًا من أن يتسع التحقيق ليشمل كلا من الهيئة العربية العليا وهيئة الإخوان المسلمين ، وأملا في أن تحفظ القضية سياسيًا، لتجهيل مالك السيارة، كما حفظت قضايا سياسية كثيرة لوقائع أشد خطورة من ضبط سيارة جيب مثل انفجار متفجرات بالمركز العام ونسف محل شيكوريل ونسف شركة الإعلانات الشرقية ونسف متكرر في حارة اليهود.

وعلى هذا الأساس اتجهت وفي رأسي هذا الأسلوب من الدفاع للإنفاق مع الحاج عبد الفتاح التميمي عليه حتى لا تتضارب أقوالنا أمام المحقق، ولكن الله المطلع على الخفايا والنوايا والمدبر لكل أمر صغير أو كبير أراد أن يكون الحاجعبد الفتاح التميمي خارج منزله في هذا الوقت، وقد كنت مضطرًا أن لا أنتظره طويلاً لارتباطي بموعد اجتماع قيادة النظام في منزل الأخ مصطفى مشهور في تمام الساعة الخامسة من مساء نفس هذا اليوم.

أما أخي مصطفى فلأنه أخ معروف في الدعوة العامة، اتجه تفكيره لإخلاء منزله من أي أوراق لها علاقة بأعمال الجهاد تحسبًا أن يفتش كغيره من إخوان الدعوة العامة، فجعلها جميعًا في حقيبة، وذهب ليودعها عند قريب لا علاقة له بالإخوان ، وهو لا يدري أنه سيسير في نفس الشارع الذي ضبطت فيه السيارة الجيب، وترك لنا رسالة في منزله أنه سيعود حالا لحضور الاجتماع.

كنت أول من حضر لمنزل مصطفى من قيادة النظام، فأخبرني أهله برسالته ولكني لم أطلب الدخول وحدي على الرغم من أن باب حجرة الاستقبال كان مفتوحًا على السلم الخارجي، ولا يحتاج من يدخل إلى المرور بأي جزء من أجزاء الشقة، فقفلت راجعًا، ولكنني قابلت كلا من الأخوين أحمد زكي حسن، وأحمد حسنين من قيادة النظام قادمين لحضور الاجتماع، فابلغتهما خبر وجود مصطفى خارج المنزل وتوقع حضوره بعد دقائق ورجعت معهما إلى منزلمصطفى لننتظره في حجرة الصالون، ونحن لا ندري أن مصطفى كان قد قبض عليه وهو يسير إلى منزل أحد أقاربه لإيداع الحقيبة التي احتوت على الأوراق المتعلقة بالجهاد والموجودة لديه هناك.

دخل ممثلو النيابة والبوليس إلى شقة مصطفى مشهور لتفتيشها ونحن جلوس في حجرة الصالون حيث ظنوا أننا من أقاربه، أما عبد الرحمن السندي فقد لاحظ وهو في الطريق إلى الاجتماع معنا في منزل مصطفى مشهور الحركة الغير عادية خارج منزله فاستمر في سيره إلى منزله ولم يقبض عليه في هذا اليوم، وإن كان قد قبض عليه بعد ذلك عندما ورد اسمه في التحقيقات.

ولعل هذا القدر هو الذي شجع الحكومة بعد إيداعها لجميع القيادات في الدعوة العامة السجون والمعتقلات، وبعد عزل المرشد عنها ببقائه تحت الرقابة المشددة في منزله وبعد اطمئنانها للقبض على قيادات النظام، بضربة قدرية ليس لها فيه فضل، ولا لرجال أمنها فيه أدنى جهد، لتضرب ضربتها بحل الإخوان المسلمين في جميع أنحاء القطر قبل مضي ثلاثة أسابيع على هذه الواقعة.

ولعل هذا الوهم الذي سيطر علي محمود فهمي النقراشي باشا بأن رجاله لديهم القدرة المعجزة على ضبط قيادات النظام، لما ذكروه في التحقيقات من أن ذلك جاء بسبب يقظتهم الفائقة وقدراتهم الخارقة، هو الذي جعل محمود فهمي النقراشي لا يستمع إلى نصح وزير الداخلية مرتضى المراغي عندما حذره من حل الجماعة، فقال له وهو يضحك: أعرف ديتها. رصاصة أو رصاصتان في صدري ، ولو كان النقراشي باشا جادًا لا هازلاً ما أقدم أبدًا على حل جماعة الإخوان المسلمين وهو يتوقع هذه النتيجة، وأغلب الظن أنه كان يتوقع أن تمر خيانته بسلام اطمئنانا إلى كفاءة رجاله وقدرات حلفائه من الصهاينة والمستعمرين.

ولكن تدبير الله كان خيرًا من تدبيره فكان وثائق السيارة الجيب دليل براءة الإخوان وإدانة حكومته، ولو لم يرد الله ضبط هذه الوثائق وحفظها من الحريق لانعدمت عند الإخوان وسائل الدفاع لإظهار حقهم وإبطال باطل الحكومة.

لم يدرك المحققون الذين يبحثون عن صاحب السيارة الجيب أنه مقبوض عليه لديهم، فبدئوا الخيط من أوله بتحديد مشتري اللوط المشتمل على هذه السيارة من الجيش الإنجليزي، فكانعلي الطنبولي، الذي أرشدهم إليَّ فحاصروا بيتي وفتشوه وانتظروا قدومي وهم لا يعلمون أنني مقبوض عليَّ بالفعل في قسم الوايلي، واستمر هذا الجهل عدة أيام حتى تحققوا من صدق أهلي في أنني خرجت من المنزل قبيل الخامسة من مساء 15/11/1948 ولم أعد وذلك بوجود اسمي لديهم ضمن المحتجزين في قسم الوايلي، فاستدعوني للنيابة للتحقيق في ملكية السيارة الجيب تمهيدًا لإثبات الحيازة قبلي.

ذهبت إلى التحقيق وأنا عازم على خطة الإنكار رغم عدم تدعيمها بالتنسيق مع الحاج عبد الفتاح التميمي لأسباب خارجة عن إرادتي ولكنها كانت من تدبير العزيز الحكيم.

ولكن شاء التدبير الإلهي أن يكون علي الطنبولي في لحظة دخولي دار المحكمة واقفًا في حالة شديدة من الذل، حيث مزق البوليس ملابسه وأوسعوه ضربًا وأحاطوا به كما يحيطون بأعتى المجرمين، وهو من هو من وجهاء مصر الجديدة وأغنيائها، فرق له قلبي وقد رأيته ولم يرني وقررت أن أغير خطتي في الدفاع فأبين الغرض الحقيقي من جمع الأسلحة وشراء السيارات، فإذا ظلمتنا الحكومة فإن ما عند الله خير لنا وأبقى، كما وقع في خاطري أنه ليس من الحق ولا العدل أن نتسبب في ما يقع على الحاج علي الطنبولي من ظلم بشع لمجرد أنه لم يستكتبنا ورقة مبايعة لهذه السيارات، ومما يلقي عليه الشبهة أنه مشترك معنا في هذه الحيازة وهو منها بريء.

وما إن مثلت أمام المحقق الأستاذ أسعد محمود وكيل النيابة في ذلك الوقت حتى وجدت الحاج عبد الفتاح التميمي جالسًا معززًا مكرمًا أمام المحقق، فقد دل عليه الحاج علي الطنبولي كما توقعت، ولكنه لم يعتقل ولم يهن لأنه أنكر كل علاقة بينه وبين السيارة وقرر أنه لا يعرفني ولا يعرف علي الطنبولي فضلا عنه أنه أجنبي فلسطيني الجنسية من أعوان الحاج أمين الحسيني اللاجئ السياسي في مصر بحماية مليكها الملك فاروق.

ولما واجهني المحقق بإنكار الحاج عبد الفتاح التميمي، هذا الإنكار الذي كنت أسعى لتحقيقه قبل القبض علي بتدبيري وعقلي، ألزمت الحاج عبد الفتاح التميمي بالاعتراف بالحقيقة أمام المحقق، بعد أن أوضحت له أن مصلحة الحركة الإسلامية ومصلحة القضية الفلسطينية هي في أن نعترف سويًا بالحقيقة، وأن نبرئ الحاج علي الطنبولي من الظلم الذي وقع عليه دون ذنب أو جريرة.

ولقد تأثر الحاج عبد الفتاح التميمي بما قلته له فشرح الله صدره للاعتراف على الرغم من أن التعليمات التي لديهم، والتي كنت أجهلها كانت تقضي بالإنكار، فاعتدل في جلسته وأثنى على الملك فاروق وحكومته وأشاد بجهودها للدفاع عن القضية الفلسطينية وقبول الحاج أمين الحسيني ورجاله ضيوفًا عليها، حيث تتم قيادة المجاهدين الفلسطينيين من قصره بحلمية الزيتون، كما أشاد برجالالإخوان المسلمين ممثلين في شخصي الضعيف وما قدموه للهيئة العربية من سلاح لنصرة قضيتهم واعترف بمصاحبتي في شراء السيارتين وبجهودي في تسليمه الأسلحة الكثيرة المشتراة بمعرفة الإخوان المسلمين خصيصًا لتحريرفلسطين ، فقررت النيابة على الفور الإفراج عن علي الطنبولي، ولكن بوليس مصر أبى إلا أن يستصدر أمرًا باعتقاله فاعتقله زهاء ثلاث سنوات عاشر فيها الإخوان المسلمين في معتقلهم، فتلقن دعوتهم وأحبهم وأحبوه وقد سجل ذلك في شهادته أمام محكمة الجنايات حينما استدعى للشهادة في قضية السيارة الجيب، فأجاب عن سؤال للمحكمة إذا كان من الإخوان المسلمين ؟ فقال إنه لم يكن من الإخوان المسلمين قبل اعتقاله، ولكنه أصبح من الإخوان المسلمين بعد اعتقاله، لما شهد فيهم من صدق الإسلام ، وعظيم الإخلاص، وكريم الأخلاق مما لا يستطيع أن يحسن وصفه للمحكمة.


المحكمة لا تكتفي ببراءة الإخوان المسلمين بل يعلن أعضاؤها الانضمام إليهم

إن الإنسان ليسجد شكرًا لله الكريم أن خلقه واحدًا من شعب مصر عندما يشهد الأصالة في دماء أبنائه وهم يجهرون بالحق في وجه الطغاة والمستبدين من الحكام، فور أن يظهر نوره المبين، دون أن يخشوا في ذلك جبروتهم ووحشيتهم.

فقديمًا خر السحرة الذين استدعاهم فرعون من أعماق مصر ساجدين لله معلنين إيمانهم بموسى وربه بعد أن استيقنوا من صدقه، وكفرهم بفرعون وجنده، وقد ثبتت لهم حقيقة ضلالهم وكفرهم، لم يمنعهم من ذلك ما وعدهم به فرعون من أموال وسلطان إن كانوا هم الغالبين، ولم يرهبهم أن يقول لهم فرعون: ﴿آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 49- 51].

وحديثا أعلن قضاة مصر بعد أن استعرضوا الأوراق السرية لقضية السيارة الجيب وثبت لهم بيقين من أعمال الرجال الذين قاموا على تنفيذ ما احتوته عليه هذه الأوراق من أفكار ومبادئ وخطط، أنهم على الحق المبين، هرعوا إلى الانضمام لصفوفهم وقد كانت قوى البطش تستنجد بهم ليخفوا حقيقة ظلمهم وطغيانهم، ويستروا خيانتهم وفجورهم.

وقد علم القاضي والداني بتصريح المستشار محمود عبد اللطيف بك عضو اليمين في هذه المحكمة فور الانتهاء من نظر قضية السيارة الجيب حيث قال: «كنت أحاكمهم فأصبحت واحدًا منهم» كما علم القاصي والداني بتصريح المستشار أحمد كامل بك رئيس هذه المحكمة بطلب التقاعد من خدمة هذه الحكومة الطاغية والانضمام إلى الإخوان المسلمين ، وقد نفذ هذا الأخ الكريم ما صرح به فتقاعد فعلا فور الانتهاء من نظر القضية وانضم إلى الإخوان المسلمين واشتغل بالمحاماة في مدينة الأسكندرية، وترافع ضد الحكومة في قضية مقتل الإمام الشهيد.

ولقد عمني البشر ذات يوم، وأنا اشتغل بالتجارة في الشركة التي أسستها مع إخواني مصطفى مشهور و أحمد قدري الحارثي فور خروجنا من السجن وهي الشركة الشرقية للتجارة والهندسة «ايتكو» وكان مقرها شارع شريف باشا في القاهرة في العمارة المشهورة باسم عمارة شوشة المقابلة لوزارة الأوقاف، حين رأيت المستشار أحمد كامل بل يهل علينا زائرًا بالمعرض، ولم يكن له من غرض إلا التعرف علينا عن قرب، مظهرًا إعجابه بما قرأ وعرف من حقائق عن جهود النظام الخاص ورجاله في الدفاع عن مصر خاصة وعن الأمة الإسلامية عامة أثناء دراسته لقضية السيارة الجيب، ومناقشته للمتهمين والشهود، وتعرفه على الحقائق التي عملت الدولة على إخفائها لتستر خيانتها وتخفي استبدادها.

فحمدت الله وأثنيت عليه وقلت إن كان علي الطنبولي التاجر الذي باع السيارة الجيب قد انضم إلى الإخوان رغم ما عاناه من البلاء بالاعتقال معهم ثلاث سنوات، حولتها حلاوة العقيدة وصدق الطوية إلى سنوات هناء، فقد انضم قضاة مصر إلى الإخوان رغم ما عانوه وهم يدرسون قضيتهم من قراءة الصفحات الطوال والاستماع إلى المرافعات والمناقشات المضنية، التي تحولت بفضل الله إلى منعة حقيقية لا يشعرها إلا المؤمنون، والذين يستعذبون الجهد والعناء ما دموا مخلصين في سبيل نصرة الحق والوطن والدين، فنحن نجدهم يشيدون بعد أن أضناهم البحث عن دليل إدانة فلم يجدوا إلا افتراءات لا أساس لها إطلاقًا، يشيدون بشرف الغاية ونبل القصد، وصدق الوعد، وبذل النفيس والغالي في حب الوطن و الإسلام ، فأعلنوا ذلك كله على الملأ في حكمهم التاريخي ثم أصبحوا بعد ذلك من الإخوان المسلمين . وكان نصر الله للمؤمنين عظيمًا.

الفصل الثالث

  • كيف تم تشكيل النظام الخاص..
  • أحد المدانين يطلب نقض هذه الإدانة رغم ما أحيط بها من هالات الفخار لأنها لم توجه إلى تهمة محددة، ولم تبن على دليل أكيد.

مقدمة

جاء في الفصل الأول من هذا الكتاب بعد تقديم خمسة عشر آية قرآنية تحث على القتال في سبيل الله ضمن ما قدمه إمامنا الشهيد الأستاذ حسن البنا في رسالته الجهاد، النص الآتي:

«تصور يا أخي أن سورة محمد كما ذكرنا من قبل تسمى أيضًا سورة القتال، وكان محمد -عليه الصلاة والسلام- واسم القتال علمان على سورة واحد تبين أحكام قتال الكفار والمشركين ولترجع إليها وإلى غيرها من السور الكثيرة في كتاب الله الكريم التي ورد فيها ذكر الجهاد وبيان فضله وحث المؤمنين عليه، وتبشير أهله بالثواب الجزيل والجزاء الجميل، وتدبر ما جاء فيه من هذا الباب ترى العجب العجيب، وتدهش لغفلة المسلمين عن اغتنام هذا الثواب.

ولقد ذكرت في الفصل الثاني من هذا الكتاب أنني فور أن سمعت من أخي في الله الأستاذ مصطفى مشهور بعض آيات الجهاد في الإسلام ، تعجبت أن يكون في القرآن مثل هذه الآيات، وأن يغفلها المسلمون كل هذا الإغفال.

فإذا جمعت بين الرؤية النورانية للإمام الشهيد وهو يقول أن من تدبر ما جاء في الجهاد من هذا الباب لرأي العجب العجيب، ولدهش لغفلة المسلمين عن اغتنام هذا الثواب، وبين الانفعال الفعلي لشاب مسلم بالفطرة مثلي وأنا استمع لأول مرة إلى بعض ما جاء في هذا الباب من الأخ مصطفى مشهور لتحققت من أن الإمام الشهيد كان رجلا قد صفت نفسه، وسمت روحه، وهو يجاهد لنشر الدعوة الإسلامية، وأنه قد خبر النفوس، وأحسن الإحاطة بأسرارها فلم يعد يتكلم إلا عن علم وصفاء، لم يصل إليهما أحد غيره من هذا الجيل، لذا تميز بالقدرة الفائقة على جمع النفوس المؤمنة في صف واحد وكأنه بنيان مرصوص يشد بعضه بعضا.

وقد ذكرت في الفصل الثاني أيضا أنني خرجت بعد لقائي الأول مع الإمام الشهيد أخًا مسلما دون أن أقدم استمارة عضوية أو أدفع اشتراكًا شهريًا أو سنويًا، أبحث مع أخي مصطفى مشهور وسيلة التنفيذ، بأتباع ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله وهي واضحة ظاهرة، حيث لا بد من مقاتلة العدو، من جيش مسلم معد بسلاح يتناسب مع أسلحة العدو، ولكن قدر الاستطاعة، فلم يكلفنا ربنا غير حدود الاستطاعة، وأن النصر مؤكد بإذن الله لو أننا صدقنا الله، وذلك وعده المحتوم لمن ينصره من الصادقين، وهو الله الذي لا إله إلا هو وهو على كل شيء قدير.

بداية التكوين

عرفني الأخ مصطفى مشهور على أخي في الله الأستاذ: عبد الرحمن السندي يرحمه الله بصفته المسئول عن إعداد هذا الجيش المسلم في تنظيم الإخوان المسلمين وقد كان ذلك عام 1939 م، وكان الأسلوب في ذلك الوقت هو أن يربط بالأخ عبد الرحمن السندي كل من يرى نفس الرأي ويشعر نفس الشعور ويجب الارتباط بالجيش المسلم الذي يجري إعداده لأداء فريضة الجهاد.

وكان أول ما يتعاهد عليه من يكتشف الأخ الصالح للارتباط بهذا الجيش، مع العضو الجديد هو تميز هذاالجيش عن الدعوة العامة بالسرية في كل أقواله وأفعاله، فلا يصح الحديث في شأنه إلا مع زميل من أعضائه الذين يتعرف عليهم بواسطة قيادة النظام.

وكان أول ما يختبر به جدية العضو الجديد فيما أعلنه من رغبة صادقة في الجهاد في سبيل الله أن يكلف بشراء مسدس على نفقته الخاصة، ولم يكن ثمن المسدس يتعد ثلاثة جنيهات، يكلف العضو الجديد بادخارها من مصروفه إذا كان طالبًا أو دفعها من كسب يده إذا كان مكتسبًا، لا يستثني أحد من هذه القاعدة لأي عذر من الأعذار، وقد ادخرت فعلا الجنيهات الثلاثة، واشتريت بها مسدسًا افتتحت به باكورة عملي في سبيل الله.

واسمح لي أيها القارئ العزيز أن أنقل إليك خطوات التكوين من واقع حيثيات الحكم في قضية السيارة الجيب، فقد لخصتها المحكمة من واقع المستندات التي ضبطت في القضية وانتهت ببراءة الإخوان وبراءة النظام الخاص من كل ما ادعته النيابة العامة قبلهما، فذلك أدنى لتستيقن أن ما تقرأ هو الحقيقة التي شهد بها القضاء، لا القول الذي يحرره رجل من الإخوان يستبيح لنفسه التعبير بما يراه في نصرة الجماعة التي انتمى إليها ردحًا طويلا من الزمان.

جاء في الصفحة (11) من حكم المحكمة في قضية السيارة الجيب وذلك تحت عنوان بيان الأوراق التي ضبطت بالسيارة:

1- أوراق تبلغ العشرين مطبوعة على الجيستتنر وعنوان كل منها «التكوين» جاء فيها أنه يقوم بذلك جماعة يسمون بالمكونين ويتخصصون في هذا العمل، ويقابل المكون الشخص (المرشح للانضمام إلى النظام) على انفراد في مكان محدد كمنزل ويكون الضوء مناسبًا، بحيث يكون للمقابلة الأثر المطلوب في نفس الشخص، ويتم التكوين في عدة جلسات:

الجلسة الأولى: التعارف: وفيها يكون السؤال عن نواحي الجهاد والأنشطة التي يشترك فيها الفرد والأعمال التي ساهم فيها، مع النصح بالعدول عن المكيفات إذا كان الشخص من المتعودين عليها، والاستعلام عن خصائص صحته مع إيضائه بكتمان ما دار وما قد يدور في الجلسات الأولى.

الجلسة الثانية: (تكون هذه الجلسة) روحية، تشمل تلاوة القرآن والمأثورات والصلاة، مع (تأكيد) الثقة التامة بالقيادة وسؤال شخصي عن عمل ما، لاستيضاح مدى اقتناعه بمشروعية العمل، وتوجيهات خاصة بالكتمان والصمت والطاعة وحسن تكييف الأمور، وتغطية المواقف والهرب من التورط.

الجلسة الثالثة: تتم فيها التوجيهات اللازمة عند تأدية العمل بأن يكون الشخص طبيعيًا، ولا يتكلف عندما يحمل شيء أو يقوم بعمل، وأن يفكر سلفًا في كل حركة يقوم بها مع ضرب الأمثلة لكل حالة بقصة، ثم تكليف الشخص بكتابة وصيته ويسلمها للقائم بالتكوين. قبل الجلسة الرابعة.

الجلسة الرابعة: في هذه الجلسة يتم الاختبار بتكليف صامت وفي مكان ناء مع تكليف شخص آخر بمراقبته.

الجلسة الخامسة: يكلف الشخص بعمل له أهمية وترسم الخطة «سريًا» ويعطي الشيء لاستعماله وذلك بعد دراسة تفصيلية.

الجلسة السادسة: تقيم العبرة من التكليف ونتائج والعلاج على ضوء الجلسات السابقة ووجوب تفسير مقبول لكل شيء قبل أن يحدث، وإعداد إجابات لكل الأسئلة المنتظرة.

الجلسة السابعة: مراقبته أثناء التنفيذ ويفهم الشخص في آخر لحظة بالعدول عن الفكرة مع توضيح الأسباب بشكل معقول.

وقفة لازمة:

لا بد لنا أن نقف لحظة عند الجلسة السابعة ليحكم القارئ شخصيًا على أهمية كل الأوراق التي ضبطت في السيارة الجيب أو في حافظة مصطفى مشهور والتي تشمل على دراسات لعمليات هدم وتخريب وتدمير كأدلة اتهام. إن القارئ لهذه الجلسة يدرك تمامًا أن كل هذه الأوراق لا تعبر عن نية في تنفيذ شيء مما سطر فيها، إنما الغرض منها هو تدريب المقاتل على مثل هذه الأعمال واختبار روحه المعنوية، قبل أن يواجهه العدو الغاصب وينفذها فعلا. بالضبط كما تفعل القوات المسلحة في مناوراتها التدريبية، فإنها تفترض وقوع عمليات عسكرية بين فرقة من قواتها وفرقة من قوات العدو، وتمثل العدو فرقة من جنود مصر ، ثم تتم المناورة بين الفرقتين ليعتاد الجند على عمليات القتال، وهم في أرض الوطن، حتى يتقنوه على أرض الأعداء.

وقد أعمى الله عيون سلطة محمود فهمي النقراشي باشا عن هذه الحقيقة الصارخة الثابتة في الأوراق فظنوا أن كل هذه الدراسات إنما تعبر عن دراسات لخطط حقيقية للتنفيذ الفعلي، وأعملوا وسائل الإعلام عندهم لتشويه سمعة الجماعة الطاهرة، ونسبتها إلى القتل وسفك الدماء وأعمال التدمير والتخريب لكل المرافق العسكرية والمدينة في مصر ، وهي من كل ذلك بريئة كل البراءة، بل على العكس فإن القائمين بهذه الدراسات لم يكلفوا بالقيام بها إلا بعد الاستيثاق من عزمهم الأكيد على تقديم أرواحهم فداء لمصر وللإسلام، ثم كانت هذه الدراسات لتأكيد هذا الاستيثاق، إن أثبت فيها العضو المرشح صلاحيته للعمل داخل النظام، وكبداية لتدريبه على الأعمال العسكرية.

ولكن الله تبارك وتعالى قد فتح عيون المحكمة على هذه الحقيقة، التي تأكدت لها من تكرار الدراسات. للهدف الواحد بأعداد كبيرة فاتضح أن كل دراسة إنما قام بها أحد المرشحين لعضوية النظام لنفس الغرض الذي أوضحناه، وبهذا سقطت كل أدلة الاتهام على الاتفاق الجنائي وبرأت المحكمة جماعة الإخوان المسلمين والنظام الخاص التابع لها براءة تامة وكادت تطالب لهم بأوسمة ونياشين، حيث أشارت بشرف غايتهم ونبل مقصدهم في حيثيات الحكم.

متابعة نص ما جاء في الأوراق على لسان المحكمة:

الجلسة الثامنة والأخيرة: إنه في حالة النجاح في الاختبار السابق يقدم الشخص للبيعة في القاهرة بصحبة باقي أفراد جماعته ويكون ارتباط أفراد الجماعة لأول مرة وقت البيعة يقوم رقم (1) بتوصية الأفراد بحق الطاعة لأميرهم بعد البيعة مباشرة وفي حالة الرسوب في إحدى الاختبارات السابقة يلحق الشخص بأسرة أو ما أشبه ذلك من الأعمال العامة، وفي حالة النجاح يفهم أن ما فات إنما كان اختبارًا، وقد اجتازه بنجاح، وأنه الآن في انتظار أوامر حقيقية.

وقفة لازمة:

يجمل بنا أن نقف عند هذه المرحلة لنصف للقارئ شكل البيعة لأنها لم ترد في الأوراق التي سردت المحكمة مضمونها.

كانت البيعة تتم في منزل بحي الصليبة، حيث يدعي العضو المرشح للبيعة ومعه المسئول عن تكوينه، والأخ عبد الرحمن السندي المسئول عن تكوين الجيش الإسلامي داخل الجماعة، وبعد استراحة في حجرة الاستقبال يدخل ثلاثتهم إلى حجرة البيعة، فيجدونها مطفأة الأنوار، ويجلسون على بساط في مواجهة أخ في الإسلام مغطى جسده تمامًا من قمة رأسه إلى أخمص قدمه برداء أبيض يخرج من جانبيه يداه ممتدتان على منضدة منخفضة «طبلية» عليها مصحف شريف، ولا يمكن للقادم الجديد مهما أمعن النظر في من يجلس في مواجهته أن يخمن بأي صورة من صور التخمين من عسى أن يكون هذا الأخ.

وتبدأ البيعة بأن يقوم الأخ الجالس في المواجهة ليتلقاها نيابة عن المرشد العام بتذكير القادم للبيعة بآيات الله التي تحض على القتال في سبيله وتجعله فرض عين على كل مسلم ومسلمة، وتبين له الظروف التي تضطرنا إلى أن نجعل تكويننا سريًا في هذا المرحلة، مع بيان شرعية هذه الظروف: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»، ثم يذكره بأنه ما دام قد قدم مؤمنًا بفرضية الجهاد في سبيل الله عازمًا على العمل في صفوف المجاهدين، فإننا نأخذ البيعة على الجهاد في سبيل الله حتى ينتصر الإسلام أو نهلك دونه مع الالتزام بالكتمان والطاعة، ثم يخرج من جانبه مسدسًا، ويطلب للمبايع أن يتحسسه وأن يتحسس المصحف الشريف الذي يبايع عليه، ثم يقول له فإن خنت العهد أو أفشيت السر فسوف يؤدي ذلك إلى إخلاء سبيل الجماعة منك، ويكون مأواك جهنم وبئس المصير، فإذا قبل العضو بذلك كلف بأداء القسم على الانضمام عضوًا في الجيش الإسلامي والتعهد بالسمع والطاعة.

وأشهد أن السعادة التي غمرتني بعد أن أتممت البيعة على هذه الصورة الرائعة كانت أعظم سعادة شعرت بها أو تخيلتها في حياتي، فقد أقنعتني أن هناك رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه، وأنهم جادون لا هازلون، يبتغون للوطن عزا وللدين نصرا، وأنني أصبحت بعد البيعة واحدًا من هؤلاء الرجال.

ولقد أصبح من المعلوم لدي بعد أن تدرجت في عضوية النظام إلى مرتبة القيادة أن المكلف بأخذ هذه البيعة كان أخي وحبيبي الأستاذ صالح عشماوي وكيل جماعة الإخوان المسلمين يرحمه الله رحمة واسعة على ما قدم للإسلام من تضحيات، وما بذل من جهد وبلاء، لم يتوان أو يقصر منذ انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين ، وهو أول دفعته في كلية التجارة، حتى اشتركت في تشييع جنازته في القاهرة هذا العام في أداء واجب تفرضه عليه مسئولياته في الدعوة.

وقد يكون من الملائم في هذه الوقفة أن أنقل عن الأخ كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة في مصر فقرة جاءت في خطابه إلى المشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة في مصر المنشور في كتاب الصامتون يتكلمون عن هذه البيعة، فقال سيادته ضمن فقرات هذا الخطاب بخصوص البيعة صفحة 97، 98 ما نصه: «وأنت لا يمكنك ولا جمال عبد الناصر يمكنه أن ينكر اتجاهنا الديني الإسلامي والوطني منذ تعارفنا على بعضنا.. وأنت تعلم الظروف التي جمعتنا بجمال عبد الناصر ، وتعلم أننا حلفنا على المصحف والمسدس في حجرة مظلمة في حي الصليبة مع المرحوم السندي وأنت تعلم كيف أننا أقنعنا الضباط سنة 1954 حين قام الإخوان بحركتهم بأننا نسير في طريق الإسلام ، ولكن ليس بالتعصب والشعارات، وأننا سنعمل على تطبيق الإسلام ، وأنا لا أعلم أننا اتفقنا على غير ذلك، وأنت تعلم أننا كثيرًا ما تحدثنا ومعك بالذات عن الاشتراكية الإسلامية وقد قلت أنكم فكرتم مرة في عمل حزب آخر يحمل شعار الاشتراكية الإسلامية وأنه حين وجدت أن الانحراف سيجرف تيار الثورة، قلت إنه لا عاصم لنا إلا الإسلام وهذا كلام الله الذي قال: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾» انتهى.

كما أنني أشهد أنني شعرت بسعادة كل من بايع من الإخوان المسلمين بهذه الطريقة على الجهاد في سبيل الله حتى الموت أو الاستشهاد، عندما صارحت أحد أعضاء النظام ببورسعيد وهو الأخ حامد المصري باسم ممثل المرشد العام الذي أخذ عليه البيعة في هذا المشهد المهيب، فتأثر حامد تأثرًا شديدًا وقال لي: يا أخي لم تضيع مني جانبًا من جوانب سعادتي-؟ فقد كان من جوانب سعادتي بالبيعة أنني لم أعرف اسم من أخذتها عليه، حيث استمر في مخيلتي وكأنه ملاك رحمة، يأخذ بأيدينا إلى طريق العز والخلود.

متابعة نص ما جاء في الأوراق على لسان المحكمة:

جاء في صفحة (12) من حكم المحكمة بخصوص تكوين العضو بعد البيعة، أن هذا التكوين يتم في عدة مراحل وذلك بالنص الآتي:

المرحلة الأولى:

مدتها خمسة عشر أسبوعًا تعطي فيها خمس عشرة حصة على الأقل، وموضوع الدراسة تعارف تام، أي معرفة تامة بظروف الأفراد وأوقات فراغهم وكيفية الاتصال بهم في الأحوال العادية وفي الحالات الفجائية، وتذكير بحق البيعة وتدارس التكاليف الثابتة بجدول المحاسبة وإعطاء بعض الدروس في السويدي ومعرفة كيفية تقديم تقرير، ودراسة قطعة من المحفوظات (اسم حركي للسلاح) دراسة تفصيلية، ومعرفة التوجيهات الخاصة بجميع الأخبار وتلخيصها وتقديم التقارير عنها ودراسة رسالتين من المأثورات وجزءين من المصحف الشريف والقيام برحلة رياضية ثم دراسة باقي قطع المحفوظات (اسم حركي للسلاح) والقيام برحلة تدريب، مع تكليف بدراسة كتابين لكل فرد من المنهج الثقافي الخاص بهذه المرحلة، وذلك لتقديم تقرير كتابي عنهما ودروس في القانون ثم تدارس للتقارير التي قدمت عن الكتب والقيام برحلة رياضية ودروس في الإسعاف، ومجموع هذه الدروس خمسة عشر درسًا.

ثم أشير في بند الملاحظات الخاص بهذه المرحلة إلى المرحلة إلى مراعاة التكاليف الروحية والرياضية في كل حصة، مع مراقبة تنفيذ جدول المحاسبة، وأنه في حالة وجود أفراد غير متعلمين بالجماعة يكلف المتعلمون بتعليمهم بقدر المستطاع، وتدريس الكتب الثقافية لهم، كما أشير إلى وجوب إجادة ركوب الدراجة والتجديف والسباحة وأنواع الرياضة الأخرى بحسب الحالة (صيفًا أو شتاء)، وممارسة السويدي والملاكمة والمصارعة وغيرها أثناء الرحلات الرياضية.

كما أضاف محرر هذه المرحلة أنه بعد الانتهاء من دراستها، تعقد القيادة امتحانًا فيما ورد فيها لأفراد الجماعات بعد دفع تأمين قدره جنيه مصري من كل فرد، يرد للناجحين دون الراسبين، مع منح جوائز قيمة للممتازين.

المرحلة الثانية:

وجاء في أوراق المرحلة الثانية أن مدة الدراسة خمسة عشر أسبوعًا يعطي في خلالها خمسة عشر درسًا على الأقل موضوعها تحليل البرنامج لهذه المرحلة ودراسة قانونية ودراسة نظرية في تقدير المسافات ورحلة خلوية لتقدير المسافات عمليًا ودراسة جغرافية في رسم الخرائط وقراءتها ودراسة البوصلة دراسة تفصيلية نظرية، ورحلة تطبيقية لرسم خريطة مع تقدير المسافات واستعمال البوصلة، وتكليف الأفراد بتقديم تقارير عن هذه الرحلة الأخيرة قبل بدء الجلسة التالية، ثم مناقشة التقارير في جلسة أخرى والقيام برحلة سفن شراعية ورحلة تدريب ودروس في الإسعاف.

وجاء في الملاحظات الخاصة بهذه المرحلة أنه يلزم إجادة السفن الشراعية إذا كان الوقت صيفًا، والملاكمة إذا كان الوقت شتاء، وأن تكون التكاليف الروحية موضع رقابة من أمير الجماعة في جميع الجلسات، وأنه عند بدء تنفيذ هذه المرحلة يجب أن يتطوع أحد أفراد هذه الجماعة في جمعية الإسعاف العمومية، مع المواظبة على أعمال الجمعية ثم يجري في آخر المرحلة امتحان بنفس شروط المرحلة الأولى.

ومن بين الملاحظات ملاحظة رقم (12) جاء فيها أن ليس لأحد مهما كانت منزلته بين الجماعة الحق في رفع الأمر إلى القيادة إلا عن طريق رقم (1)، ومخالفة ذلك ينظر فيها مجلس للتحقيق.

كما توجد ملاحظة أخرى تحت رقم (13) موضوعها أن أية خيانة أو إفشاء سر بحسن قصد أو بسوء قصد يعرض صاحبه للإعدام وإخلاء سبيل الجماعة منه، مهما كانت منزلته ومهما تحصن بالوسائل واعتصم بالأسباب التي يراها كفيلة له بالحياة.

المرحلة الثالثة:

وجاء في ورقة المرحلة الثالثة أن مدتها خمسة عشر أسبوعًا ودروسها خمسة عشر درسًا، وتشمل تحليل برنامج المرحلة الثالثة وقيادة الموتوسيكل وسيارة ورحلة رياضية أخرى للتدريب ودروس في القانون، ودراسة منطقة معينة في القاهرة والأقاليم مع رسم خريطة جغرافية لها وبيان الأبنية الهامة تفصيليًا، ودروس في الإسعاف.

وأشير في الملاحظات الخاصة بهذه المرحلة أنه يجب قيادة الموتوسيكل مع ملاحظة التكاليف الروحية لجميع الجلسات وأشير إلى أنه سيعقد امتحان بنفس شروط الامتحانات السابقة.

المرحلة الرابعة:

وجاء في الورقة الخاصة بالمرحلة الرابعة أن مدتها خمسة عشر أسبوعًا ودروسها خمسة عشر درسًا، وتشمل تحليل برنامجها، وأن يقوم كل فرد من أفرادها بحصر قوات بوليس قسم معين وقيادة سيارة إن أمكن أو رحلة رياضية كركوب الخيل والجمال وحصر قوات المرور وأماكنهم في منطقة معينة ودراسة عملية شاملة لمدينة القاهرة وذلك ببيان أحيائها وعلاقتها ببعض ومسالكها ومواصلاتها وكيفية مهاجمة مكان ما، ورحلة تدريب ودروس في القانون وإقامة معسكر للمبيت تمارس فيه أنواع الرياضة المختلفة ودراسة حربية، ثم دراسة في التعقب يقوم بها كل فرد ودروس في الإسعاف.

وجاء في الملاحظات الخاصة بهذه المرحلة أنه من الضروري مراقبة التكاليف الروحية في كل حصة وإجادة قيادة ركوب السيارة أو ركوب الخيل والجمال وإجادة السفن الشراعية إن كان الوقت صيفًا أو الملاكمة والتحطيب إن كان الوقت شتاء، ثم أشير في نهاية الملاحظات إلى عقد امتحان في آخر المرحلة بنفس الشروط السابقة.

وقفة لازمة:

قد يكون من المناسب أن يقف القارئ الكريم في هذا الموضع الذي تنتهي فيه المحكمة من سرد البند (1) من بيان الأوراق التي ضبطت بالسيارة ليفكر في هذا الجهد الذاتي الذي يقدمه الإخوان المسلمون في تربية الفرد المسلم ليكون درعًا للوطن والإسلام ، ثم ليسأل القارئ الكريم نفسه؟

هل يمكن لحكومة مخلصة أن يضيق ذرعها بهذا النشاط الوطني الذي يسهم إسهامًا إيجابيًا في تربية المواطنين على أحسن أسس التربية الروحية والرياضية والعسكرية وأنفع؟

هل يمكن أن تضيق حكومة مخلصة بمثل هذا الإسهام الإيجابي الذي يوفر لها الملايين التي تنفقها في تربية أبنائها، ثم لا تجد مثل هذه النتائج التي ظهرت من هؤلاء الذين تلقوا هذه الدروس في حرب فلسطين ؟

هل يمكن لحكومة مخلصة أن تقتل هذه الروح الجادة الفتية في أبنائها لتحولهم إلى أذلة خانعين إلا أن تكون عميلة للكفر والإلحاد وأداة للبغي والاستعمار والاستبداد؟

اللهم إن هذا لا يكون، ولابد أن ينصر الله عباده المؤمنين بما صبروا وعملوا وأخلصوا في الصبر والعمل.

متابعة نص ما جاء في الأوراق على لسان المحكمة:

جاء في الصفحة (14) من حيثيات حكم المحكمة في قضية السيارة الجيب عن الأوراق المضبوطة بالسيارة ما يلي:

6- بضعة أوراق كل منها معنون (اللائحة العامة) وأشير فيها إلى أن رابطتنا أقوى الروابط لأنها في سبيل أنبل غاية وأسمى فكرة وهي تتطلب اليقظة التامة والعمل المتواصل على أساس من التعاون والحب والأخوة في هدوء لا تشويه استكانة، وفي قوة لا اندفاع معها، مع تقدير المسئولية على أساس من يقظة الضمير ومحاسبة النفس.

وجاء في اللائحة المذكورة بعض القواعد ملخصها أن لأمير الجماعة حق الطاعة التامة على جميع أفراد جماعته وأن للجماعات جلسات ورحلات دورية وأن الأمير يستشير أفراد جماعته وأن للجماعات جلسات ورحلات دورية وأن الأمير يستشير أفراد جماعته دون أن يكون عليه إلزام، إذ له أن يستمسك برأيه متى اعتقد أن الصواب في جانبه وله أن ينزل على رأي الفرد إن رأى الخير فيه وأن للفرد حق نقد أمير الجماعة ورفع الأمر إلى من يليه في التسلسل بعد أن يستأذنه في ذلك، وليس للأمير أن يحول دون هذا، بل عليه أن يسهل مهمة المقابلة وأن على الأمير الإبلاغ أولاً بأول عن الطوارئ الاجتماعية التي تمر بأفراد جماعته كمرض أو وفاة، وأن يعمل اللازم لسرعة العلاج وعلى الفرد أن لا يقدم على عمل يؤثر في مجرى حياته كالزواج والطلاق قبل أن يحصل على تصريح به من القيادة عن طريق أمير الجماعة، وأن عقوبة التأخير عن تأدية الواجب والتقصير في التكاليف يوقعها أمير الجماعة، سواء أكانت عقوبات مادية أو أدبية، وله أن يضيف تكاليف أخرى مجهدة كالصيام والسير على الأقدام لمسافات طويلة.

ومن بين القواعد المشار إليها أن الأمير والأفراد متضامنون في المسئولية في كل تصرف يحدث في محيطهم الخاص والعام سواء أساء إلى المجموعة وحدها أو إلى العمل والنظام كله، وأنه إن كانت الإساءة ذات بال يشكل مجل للتحقيق من مدير القاهرة وأمير الجماعة والفرد إذا كان المخطئ فردًا، ومن مندوب الإقليم ومبعوث القاهرة في الأقاليم وأمير الجماعة إذا كان المخطئ أمير الجماعة، ومن مدير الإقليم ومبعوث القاهرة في الأقاليم ومندوب الإقليم إذا كان المخطئ مندوب الإقليم.

ويشكل المجلس من رقم (1) ومدير الأقاليم ومبعوث القاهرة إذا كان المخطئ هو هذا الأخير.

وللمجلس حق تقدير الجزاء والعقوبة مادية أو أدبية، وفي حالة عدم تنفيذها يضاعف الجزاء وينذر المخطئ لرفع أمره إلى القيادة، فإذا كان الأمر له خطره تخطر به القيادة للتصرف عن طريق رقم (1) وليس لأحد مهما كانت منزلته من الجماعة الحق في رفع الأمر إلى القيادة إلا عن طريق رقم (1).

وجاء في صفحة (15) من حكم المحكمة وهي تستعرض الأوراق المضبوطة ما يلي:

تكاليف البيعة:

ثلاث ورقات خاصة بتكاليف البيعة جاء في كل منها أن هذه التكاليف هي تقوى الله في السر والعلن والصلاة والخشوع والجماعة في المسجد والتهجد والدعاء والاستغفار للفرد وللجماعة، وللقيادة وللفكرة وتلاوة ورد الاستغفار والقرآن الكريم والكتمان والصمت والجزاء والطاعة للقيادة ولأمراء الجماعات والتذكير بالموثق على مواصلة الجهاد لينتصر الإسلام ويسود القرآن أو الاستشهاد.

وقفة لازمة:

وهنا يلزم القارئ وقفة يتدبر فيها اللائحة العامة كما جاءت في نص الأوراق المضبوطة على لسان المحكمة ليدرك أن النظام الإسلامي لا يترك حبل الأفراد على الغارب إنما فيه تكاليف بالعلم واعلم ولوائح للعقاب والجزاء مع حرية النقد وضمان العدل المستمد من الشريعة الإسلامية الغراء، وأن اهتمامه البالغ بأن يوثق الأفراد صلتهم بالله كما جاءت في تكاليف البيعة هي الضمان الأكيد لتحقيق النصر بإذن الله.

من الذي كتب قانون التكوين؟

ذكرت المحكمة في الصفحة السادسة من حيثيات حكمها في قضية السيارة الجيب أن النيابة العامة تبين لها أن المتهم الثالث محمود الصباغ (مؤلف هذا الكتاب) هو صاحب السيارة الجيب المضبوطة وأنه حرر بخطه القانون الأساسي للجمعية السرية المضبوطة بالسيارة والذي أطلق عليه قانون التكوين، ويلزمني هنا أن أضيف أنه وإن كان قانون التكوين قد كتب بخطي فعلا، إلا أنني لم انفرد بتخطيط كل ما جاء فيه، فقد كنا لجنة مكونة مني ومن الإخوة عبد الرحمن السندي وحسين كمال الدين والمرحومعلام محمد علام مدرس الكيمياء بالكلية الحربية، وهذه اللجنة مجتمعة، هي التي وضعت الخطوط الرئيسية والتفصيلية لهذا القانون، الذي سجلته بخط يدي آنذاك.

كما جاء في نص الحكم في صفحة (21) استكمالا لما سبق النص الآتي:

وأشار الكاتب إلى أنه يجب مراعاة الانسجام في السن والثقافة والمادة في تكوين كل مجموعة ويتبع النظام التالي في وقت السلم.

قانون التكوين:

استطردت المحكمة في استعراض الأوراق المضبوطة في السيارة الجيب فقالت في صفحة (20) من حيثيات حكمها في قضية هذه السيارة:

23- سبع ورقات الثلاث الأولى منها مكتوبة بالقلم الكوبيا مع عبارات بالقلم الرصاص والأربعة الأخرى مكتوبة بالمداد الأسود وعنوان هذه الأوراق: قانون التكوين، وبدأ الكاتب بالقول تحت عبارة «المادة أ»:

إن للجيش هيئات ثلاث -القيادة- والأركان- والجنود، وتتكون القيادة من مجلس مكون من عشرة أشخاص مهمتها دراسة طرق التنفيذ لما يصل من خطط صادرة من الأركان- وتنفيذ كل ما هو ممكن عمله- وإصدار بيانات يشترك فيها جميع الأعضاء، وبيان الصعوبات القائمة في طريق تنفيذ ما يراه المجلس غير قابل للتنفيذ، كما أن من وظيفة هذا المجلس الإشراف التام على أحوال الجند والاطمئنان على دوام قوتهم المعنوية وذلك بدارسة التقارير التي تصل عن كل فرد أو كل مجموعة، والمطالبة بإيضاحات إذا كان في التقارير إهمال بعض النواحي، كما أن مهمة المجلس دراسة برنامج روحي قوي يشمل قصص الأبطال وطريقة المغامرات على أن تصل هذه القصص والروحانيات إلى الجنود شفويًا، ويقوم المجلس بالاتصال بالقيادة العليا وتبليغ الأركان بكل ما يحتاج إليه من إرشاداتها، ويجب أن يكون كل فرد من الأفراد العشرة المكونين لمجلس القيادة على استعداد لتولي القيادة في أي لحظة.

وجاءت لفظة الأركان «مشطوبا» عليها ومكتوبا فوقها: «اللجنة الفنية» وهي مجلس مكون من خمسة أشخاص ويمكن أن يزيد عدده كلما احتاج الأمر ومهماته وضع خطط لتنظيم القوات في كل من أوقات السلم والحرب، ودراسة المعدات عمليا وتحديد ما يصلح منها لاستعمال الجيش وإصدار بيانات بمميزات كل، وطرق استعمالها وحفظها مع تحديد الأهداف ورسم خطة تنفيذها من زمان ومكان وقوات، ودراسة كل ما يصل إليها (إلى الأركان) عن طريق مجلس القيادة من صعوبات ومشاكل عملية، ومطالب مستجدة وإصدار بيانات بنتيجة الدراسة ترسل إلى مجلس القيادة، أما الجنود فمهمتهم الاستعداد الروحي والعقلي والطاعة والتنفيذ.

وأشار الكاتب إلى أن هذه المادة الأولى محتمة التنفيذ إلا أنها قابلة للتعديل كلما بدت الضرورة لذلك.

وجاء تحت عنوان : تنظيم الجنود في أوقات السلم:

إن الجنود ثلاثة أنواع: النوع الأول يمكن أن يكون بعيدًا عن النشاط الظاهري وهذا النوع يجب أن ينقطع انقطاعًا تامًا ويمكن تكليفه بدراسات أكثر اتساعًا وأعمال أكثر خطورة.

والنوع الثاني لا يبتعد عن النشاط الظاهري ويكون معدًا ولا يستخدم أبدًا إلا وقت الحرب العلنية، ويلاحظ أن يجري تدريبه في حرص تام.

النوع الثالث: يمكن أن يمون الناحية العامة من الناحية الخاصة، ولكن بعد تمام التكوين حتى يتيسر الانقطاع التام عن الناحية الخاصة.

وأضاف الكاتب إلى أنه روعي ي هذا النظام إمكان زيادة النوع الأول بقدر المستطاع وذلك بتقليل الاجتماعات السرية إلى أقل عدد ممكن ليساعد ذلك على إثبات انقطاعه عن أي نشاط عام أو خاص لدى جميع أصدقائه وأقاربه.

وتلا ذلك يرسم يبدأ بمستطيل بداخله عشر دوائر صغيرة، ويتفرع منه خمس مجموعات كل منها يحوي خمس دوائر أخرى، ثم يتفرع من المجموعة الوسطى مجموعة خماسية أخرى وهكذا.

ونحن هنا نوضع بالرسم شكل الاتصالات بين أفراد النظام كما لخصتها المحكمة وهي تسرد بيان الأوراق المضبوطة في السيارة.

ويتضح من هذا الشكل أن قيادة النظام تتشكل من خمسة أفراد يمثلون الصف الأول في قيادة النظام ويرأس كل منهم مجموعة تتكون من خمسة أشخاص فيكون مجموع الأفراد الجدد عشرون فردًا يمثلون الصف الثاني في قوة النظام، ثم يرأس كل فرد من هؤلاء الخمسة مجموعة أخرى تتكون من خمسة أشخاص فيكون مجموع الأفراد الجدد ثمانون فردًا يمثلون الصف الثالث في قوة النظام وهكذا إلى ما لا نهاية.

وبهذا التسلسل يكون الأفراد الذي يمكن أن يتصل بهم أي عضو من أعضاء النظام فيما يتصل بأعمال الجيش الإسلامي لا يزيد على ثمانية أفراد، في وقت السلم، وفي هذا ضمان لسرية أعمال هذا الجيش في حالة وقوع أي فرد من أفراده في قبضة الأعداء وتعرضه للتعذيب للإدلاء بأسماء من يعرفهم من الأعضاء.

أما الخمسة الآخرون المرموز إليهم بخمس دوائر صغيرة داخل المستطيل، ولا يتصل أحد منهم اتصالاً مباشرًا بأي من أعضاء النظام، فهم من رجال الدعوة العامة المؤتمنين على سر وجود تنظيم للجماعة، وهؤلاء الخمسة لا يتحملون مسئولية أي أعمال تنفيذية في النظام لانشغالهم التام في أعمال الدعوة العامة، ولكن يمكنهم أن يشتركوا في اجتماعات قيادة النظام كلما وجهت إليهم الدعوة حين اقتضاء الضرورة، مثل دراسة تعديل قواعد العمل في النظام الخاص، أو دراسة مشكلة من المشكلات الطارئة في سير أعمال النظام ويتطلب الأمر مناقشتها على نطاق أوسع من نطاق الخمسة المسئولين.

ولقد صدقت حسن الفراسة مع النيابة العامة وهي ترتب المتهمين في قضية السيارة الجيب في قرار الاتهام فوضعت الخمسة المسئولين عن النظام في الصف الأول وبنفس ترتيبهم في قرار الاتهام حيث تلاحظ أن هؤلاء الخمسة هم:

عبد الرحمن السندي - مصطفى مشهور - محمود الصباغ - أحمد زكي حسن -أحمد محمد حسنين، وهم على هذا الترتيب في قرار الاتهام وبنفس الترتيب في قيادة النظام.

ولم يكن ذلك إلا لأن الأوراق المضبوطة في السيارة الجيب قد حددت كل معالم التكوين والتنفيذ، فصار مثل هذا الاستنتاج سهلا وممكنًا ولكنه لا يخلو من فراسة.

أما الخمسة الآخرون فقد كانوا الإخوة: صالح عشماوي - محمد خميس حميدة- فضيلة الشيخمحمد فرغلي- الدكتورعبد العزيز كامل -الدكتور محمود عساف وهو ما لم تعرفه النيابة.

وجدير بالذكر أنه في عام 1944 كان مقر عملي أنا والأخ مصطفى مشهور قد تغير فعملت رئيسًا لمحطة أرصاد مطار الجميل ببور سعيد وعمل الأخ مصطفى رئيسًا لمحطة أرصاد مطار النزهة بالأسكندرية، وكان الأخ أحمد زكي حسن لم يدخل قيادة النظام بعد، بل كان الأخأحمد حجازي هو العضو الأصلي في قيادة النظام بدلا من أحمد زكي حسن، فحل الإخوان أحمد زكي حسن والدكتورمحمود عساف محلنا خلال هذا العام، وتخصص الدكتور محمود عساف في شئون المعلومات الخاصة بالنظام، وكان من معاونيه الأخوين صلاح عبد المعطي وأسعد السيد أحمد، فلما عدنا أنا والأخ مصطفى مشهور إلى القاهرة بعد انتهاء عملنا خارجها طلب الإمام الشهيد أن يتفرغ الدكتور محمود عساف لشئون المعلومات الخاصة بالمرشد العام، وطلب الأخ أحمد حجازي أن يحل محله الأخ أحمد زكي حسن كعضو دائم في قيادة النظام لكي يتفرغ لأعماله في شركة راديو الشرق الأوسط ومن ثم استقرت القيادة التنفيذية للنظام الخاص على ما أوضحنا طوال حياة الإمام الشهيد، ولم يستمر التعديل الذي حدث فيها لأكثر من عام واحد وهو مدة عملي أنا والأخمصطفى مشهور خارج القاهرة.

وقد أسندت إلى الأخ محمود عساف أعمال هامة فتولى إدارة شركة الإعلانات العربية إحدى مؤسسات جماعة الإخوان المسلمين ، وكان النظام الخاص يزوده بكل المعلومات التي تهم المرشد العام عن طريق الأخ صلاح عبد المعطي الذي تولى مسئولية جهاز المعلومات في النظام الخاص، ثم حل محله بعد ذلك الأخ أسعد السيد وقد كانت هذه المعلومات تصل إلى الإمام الشهيد بواسطة الدكتور محمود عساف، كما كان الدكتور محمود عساف يرتب لقاءات الإمام الشهيد مع بعض الشخصيات العامة التي كان يرى من الأفضل ألا يقابلها بالمركز العام.

عمليات التكوين

وقد جاء في صفحة (21) من حيثيات حكم المحكمة استكمالاً لما سبق تحت عنوان عملية التكوين ما يلي:

أحد أفراد الجيش يرشح شخصًا يرى من روحه ما يناسب التجنيد، ثم يرسل الترشيح إلى القيادة العليا مرفقًا به بيان الأسباب التي دعت الفرد إلى هذا الترشيح، مع تقرير شامل عن حالة المرشح صحية واجتماعية وطباعه البارزة وميوله الحزبية وثقافته، ويذكر أمام كل حالة التفصيلات الخاصة به. وأشير إلى أنه لا يقبل الترشيح إلا عن طريق دراسة كل المراحل أو معظمها، حتى يمكن الثقة بحسن التقدير، وأنه يكفي الميل لأي حزب آخر لكي يرفض الترشيح رفضًا باتًا إذ يجب أن يكون المرشح مؤمنًا تمامًا بصلاحية الدعوة كمبدأ وأنه متى توفر هذا الإيمان التام فإنه يمكن ضم أي شخص ولو كان ذو عاهة إذ أن لكل عمل يناسبه ومجلس القيادة هو الذي يقبل الترشيح أو يرفضه.

ترقية الفرد أميرًا للجماعة وواجباته:

بعد أن استطردت المحكمة في بيان ما جاء تحت عنوان التكوين، وقد سبق لنا ذكره، قالت:

جاء تحت عنوان اللائحة الداخلية لرؤساء الجماعات أن ترقية الفرد إلى أميرجماعة لا تعفيه من واجباته السابقة كعضو وتزيد مسئولياته كأمير، وأن عليه أن يشعر جماعته بأنه رئيس أعلى منهم، وأنه يقوم بتدريب جماعته وتوجيهها طبقا للنظام العام المكلف به، ويقدم تقريرًا شهريًا عن ذلك، وأن عليه أن يستشير في الاقتراحات المقدمة من أفراد جماعته والتي تستحق البحث، كما أن من واجباته إبلاغ المختص عن كل ما يطرأ أولاً بأول لأي فرد من أفراد جماعته كمرض أو زواج أو إعسار إلى غير ذلك، وأن من واجباته تقديم أوراق التحقيق في العقوبات التي يشكل لها هيئة محكمة من جماعته إلى المختصين، ويتفق الأمير مع المختصين لتدبير قيمة الاشتراكات المطلوبة من أفراد جماعته.

التدريب على السلاح وصناعته:

لا بد لنا استكمالا لعرض مراحل تكوين عضو النظام الخاص من أن نسرد الحقيقة عن تدريب إخوان النظام على استعمال السلاح، بل وصناعته حيث لم يرد في الأوراق المضبوطة بحثًا عن هذا الموضوع.

لم يكن الأمر يقتصر على الدراسة النظرية من فك وتركيب وتنظيف لقطع الأسلحة المختلفة وأنواع القنابل المختلفة في الاجتماعات، ولكن كان لا بد من التدريب على ضرب النار واستعمال القنابل. وقد اتخذ النظام من الجبال والصحاري المحيطة بالقاهرة ونظائرها في الأقاليم ميادين للتدريب. فكنا نختار مخبأ أمينًا في أعماق الجبال يكون قريبًا منه واد مناسب للتدريب، ثم تحدد مواعدي وبرامج لكل مجموعة بقيادة أميرها، للذهاب إلى الوادي المختار، حيث يترك الأمير المجموعة ويحضر الأسلحة والذخائر اللازمة للتدريب من مخبئها، ويبدأ التدريب بالذخيرة الحية، ثم يعيد أمير المجموعة الأسلحة وما بقى من ذخائر إلى مخبئها ويقود المجموعة إلى القاهرة في أمان تام ولم يختلف نظام التدريب في القاهرة عنه في الأقاليم، إلا بوفرة التسهيلات في الأقاليم حيث تتوفر الأسلحة والذخائر والأماكن الأمينة التي يتم فيها التدريب دون جهد كبير.

ولم يقتصر تفكير النظام الخاص على التدريب على الأسلحة والقنابل التقليدية، بل فكر في صناعة ما يستطيع تصنيعه محليًا من المتفجرات التي لا تتوفر في الأسواق مثل قطنه البارود، فقد تم إنتاجه بنجاح، وكذلك ساعات التوقيت التي تحدد وقت انفجار العبوة الزمنية، فقد تم تطوير الساعات العادية إلى ساعات زمنية لتفجير العبوات، وقد كان لهاتين الصناعتين أثر كبير في نجاح العمليات ضد الصهاينة والإنجليز، لأن معظم عمليات النسف لا بد وأن تكون زمنية بحيث يمكن أن يجد الفدائي وقتًا كافيًا للبعد عن موقع الانفجار قبل وقوعه، ولقد قمنا بتزويد الشهيد عبد القادر الحسيني بأعداد كبيرة من الساعات الزمنية من تصنيع ورشة النظام لاستخدامها في معاركة ضد اليهود، وذلك لعدم توفر هذا الصنف في الأسواق.

مصنع قطن البارود:

بدأت صناعة النظام لقطن البارود على أساس تجريبي أولاً بإشراف الأستاذ علام محمد علام أستاذ الكيمياء بالكلية الحربية يرحمه الله، وذلك بإذابة القطن المنتوف في حامض الكبريتيك ثم كبس العجينة بمكبس يدوي، بحيث يمكن أن يوضع بداخلها مفجرًا يتصل بأسلاك ثم ببطارية، ويتم تفجير المفجر بتوصيل التيار الكهربائي في دائرته الكهربائية، فإذا ما انفجر المفجر، فجر بدوره قالب قطن البارود ذو القوة الهائلة في التدمير.

وقد تمت تجربة هذه الصناعة اليدوية في الجبل بإلصاق القالب الذي أنتجناه في قطعة من قضيب سكك حديدية، ثم تفجيره من بعد، بحيث لا يصاب أحد من آثار الانفجار، وتحقق لنا نسف القضيب بانفجار هذا القالب الصغير، ومن ثم اتجه تفكيرنا إلى تصنيع قطن البارود على نطاق واسع، وكان لا بد لذلك من مكبس هيدروليكي كبير من نفس الحجم المستخدم في صناعة البلاط، ومن ثم اتجه تفكيرنا إلى إنشاء مصنع بلاط لا يعمل فيه إلا عمالا من أعضاء التنظيم الخاص، بحيث ينتج البلاد على أساس تجاري يضمن له صفة الاستمرار، وفي نفس الوقت يستخدم مكبسه في إنتاج قوالب قطن البارود بالكميات التي تحتاج إليها العمليات.

وقد قمت شخصيًا بشراء المكبس الهيدروليكي من السوق ولم يكن سني قد بلغ الثالثة والعشرين وكان إعجاب التجار بشاب في هذا السن يقدم على إنشاء مصنع بلاط بالغًا، فلمست منهم كل تشجيع حتى فيما يختص بالسعر، وتم إنشاء المصنع في ميدان السكاكيني بالقاهرة بصفته أحد مصانع شركة المعاملات الإسلامية، وتعين كل عماله وموظفيه من أعضاء النظام الخاص وأخذ فعلا في إنتاج أجود أنواع البلاط، وأقوى أنواع قوالب قطن البارود، وقد استمر المصنع في إنتاج البلاد بعد أن استنفذ أغراضه من إنتاج قطن البارود، ولعله لا يزال باقيًا إلى اليوم في موقعه بميدان السكاكيني ولكن ملكيته قد انتقلت إلى آخرين لا يعلمون شيئا عن سابق استخدام المصنع في إنتاج قطن البارود

حقيقة دور النظام الخاص في دعوة الإخوان المسلمين ومبررات وجوده

سجلت المحكمة أهداف النظام الخاص ومبررات وجوده في صفحة (17) من حيثيات حكمها في قضية السيارة الجيب، وهي تستعرض الأوراق المضبوطة فقالت:

10- خمس ورقات من الحجم الكبير تتضمن الحض على أعمال الفدائيين، ومصدرة بمقدمة ملخصها أن الشعوب العربية ترى نفسها في موجة من الدسائس والمطامع بين بريطانية وصهيونية وروسية وأن البريطانيين تعمدوا التحرش بالمصريين مما يدل على خبث نواياهم وأن الصداقة المصرية البريطانية مهزلة، وأن بريطانيا تظن شعوب الشرق ساذجة، ولكنها ستعرف في الوقت المناسب أن هذه الشعوب وإن أظهرت المسالمة فإنها ستعرف كيف تعامل الإنجليز، وأن التظاهر وتعريض صدور العزل للبنادق والمدافع الرشاشة، وإن عد بطولة فإنها غير محسوبة، لأن دماء الضحايا تذهب دون فائدة عملية، وأن مجاهدًا حيًا أجدى على وطنه من عشرة شهداء.

وانتهت هذه المقدمة بالتساؤل عن العمل، وأجاب المتسائل بعبارات (كن فدائيا) (ورب نفسك وصحبك على أعمال الفدائيين التي ثبتت فائدتها أثناء الاحتلال الألماني لأوروبا، وكان أثرها أن اختل نظام القيادة العسكرية الألمانية، وحدثت خسائر جسيمة في قوت الاحتلال).

ونصح الكاتب بالتدريب على تمرينات بسيطة في ظاهرها ولكنها كبيرة الأثر، حتى يكون الفرد مستعدًا، ولا يدع الحوادث تسبقه، ولا يترك نفسه وعائلته تحت رحمة الحرب البريطانية والاسترالية كما حدث في سنة 1919 بل يكون على استعداد لأن يرد الاعتداء حتى إذا ما اضطر إلى الاستشهاد كلف العدو ثمن حياته غاليًا.

وجاء في صفحة (18) من حيثيات الحكم بعد أن سردت المحكمة الأوراق المضبوطة ما نصه:

ليكن شعارك دائما الإيمان والكتمان وكثرة المران، ولتذكر دائما أن الله لن يخذلك لأنك تدافع عن قضية عادلة مقدسة، وأن عدوك يخافك أكثر مما تخافه لأنه يدافع عن قضية يعلم أنها ظالمة خاسرة ضد شعب يعرف جيدا أنه مصمم على القضاء عليه قضاء مبرمًا.

إن الفقرة السابقة تبين لكل ذي قلب سليم حقيقة دور النظام الخاص في دعوة الإخوان المسلمين ومبررات وجوده، كما قدمتها المحكمة في حيثيات حكمها من الأوراق المضبوطة في السيارة الجيب، والتي اتخذتها حكومة محمود فهمي النقراشي باشا أساسًا لارتفاع أبواق دعايتها المسمومة ضد الإخوان المسلمين ووصفهم بكل ما هو إجرامي ومخرب ومدمر دون وجه حق.

هل يمكن لمن يقرأ هذه الأهداف ثم يطلع على الناس بمثل ما طلع به محمود فهمي النقراشي باشا إلا أن يكون كاذبا على الشعب، ومضللا له، ومحاربًا في صفوف أعدائه بالخيانة والغدر العمديين؟ وإذا كانت هذه الأهداف قد اقتصرت على مقاومة المحتل الغاصب لمصر والمدنس لأرضها نيفا وسبعين عاما متصلة، فإنها تمتد بواقع مبادئ الإخوان المسلمين المعلنة على الناس كافة، إلى جميع أنحاء الوطن الإسلامي ويرجع السر في اقتصارها على ذكر مقاومة الإنجليز أنها حررت عام 1939 قبل أن تنشأ قضيةفلسطين بتسع سنين كاملة، فلما ظهرت قضيةفلسطين ووجوب الإعداد لتحريرها وكان ذلك في عام 1946 ، ضمت هذه القضية كهدف من أهداف النظام الخاص في دعوة الإخوان المسلمين ، وظهر ذلك عمليا على أرض مصر وفلسطين في العمليات المتعددة التي قام بها جنود الإسلام ضد المستعمرين وأذنابهم من الخونة المصريين وضد الصهاينة وأنصارهم من قوى الاستعمار.

إدانة المحكمة لثمانية عشر رجلاً من المتهمين بتهمة الاتفاق الجنائي على القيام بأعمال قتل ونسف وغيرها مما قد لا يضر المحتلين بقدر ما يؤذي مواطنيهم، وبراءة أربعة عشر متهمًا مع الإشادة بحسن نوايا المدانين:

لا بد لنا وقد انتهينا من تقديم الوثائق الدامغة بصدقالإخوان في دعوتهم، وصدق رجال النظام الخاص ما عاهدوا الله عليه أن نوضح للقارئ رؤية المحكمة بشأن بعض الأفراد الذين أدينوا في هذه القضية ونظرة المحكمة إلى هؤلاء الأفراد ومفاهيمهم وهي تصدر مضطرة حكمها بالإدانة، ثم مدلولات هذا الحكم.

فقد جاء في صفحة (222) من حيثيات الحكم في قضية السيارة الجيب النص الآتي:

خاتمة عن ظروف الرأفة عن من أدينوا باتفاق جنائي:

وحيث إنه سبق للمحكمة أن استظهرت كيفية نشأة جماعة الإخوان المسلمين ومسارعة فريق كبير من الشباب إلى الالتحاق بها والسير على المبادئ التي رسمها منشئوها والتي ترمي إلى تطهير النفوس مما علق أو عساه أن يعلق بها من شوائب، وإنشاء جيل جديد من أفراد مثقفين ثقافة رياضية عالية مشربة قلوبهم بحب وطنهم والتضحية في سبيله بالنفس والمال، وقد كان لا بد لمؤسسي هذه الجماعة، لكي يصلوا إلى أغراضهم أن يعرضوا أمام الشباب مثلا أعلا يحتذونه، وقد وجدوا هذا المثل في الدين الإسلامي وقواعده التي رسمها القرآن الكريم والتي تصلح لكل زمان ومكان فأثاروا بهذا المثل العواطف التي كانت قد خبت في النفوس وقضوا على الضعف والاستكانة والتردد وهي الأمور التي تلازم عادة أفراد شعب محتل مغلوب على أمره.

وقام هذا النفر من الشباب يدعو إلى التمسك بقواعد الدين والسير على تعاليمه وإحياء أصوله سواء أكان ذلك متصلا بالعبادة والروحانيات أو بأحكام الدنيا، ولما أن وجدوا أن العقبة الوحيدة في سبيل إحياء الوعي القومي في هذه الأمة هو جيش الاحتلال الذي ظل في هذا البلد قرابة سبعين عاما تخللتها طائفة من الوعود بالجلاء- كما كان بين المحتل وبين فريق من الوطنيين الذين تولوا أمر تنته المفاوضات والمجالات الكلامية إلى نتيجة طيبة، ثم جاءت مشكلة فلسطين وما صاحبها من ظروف وملابسات.

لما كان هذا اختل ميزان بعض أفراد شباب جماعة الإخوان المسلمين -فبدلا من أن يسروا على القواعد التي رسمها زعماؤهم عند إنشاء الجماعة والتي كانت تؤدي إلى تربية فريق كبير من أفراد الشعب وتثقيفهم وإعلاء روحهم المعنوية بدلا من السير على هدى هذه المبادئ، أرادوا أن يختصروا الطريق ظنًا منهم أن أعمال النسف تبلغ بهم أهدافهم عن سبيل قصير، فاتحدت إرادتهم على القيام بأعمال قتل ونسف وغيرها مما قد لا يضر المحتلين بقدر ما يؤذي مواطنيهم، وذهبوا في سبيل هذا مذهبًا شائكا منحرفين عن الطريق السوي الذي رسمه له رؤساؤهم والذي كان أساسًا قويًا لبلوغهم أهدافهم بالطرق المشروعة.

وحيث إنه من هذا يبين للمحكمة أن أفراد هذه الفئة الإرهابية لم يحترفوا الجريمة وإنما انحرفوا عن الطريق السوي، فحق على هذه المحكمة أن تلقنهم درسًا، حتى تستقيم أمورهم ويعتدل ميزانهم على أن المحكمة تراعي في هذا الدرس جانب الرفق فتأخذهم بالرأفة تطبيقًا للمادة 17 عقوبات نظرًا لأنهم كانوا من ذوي الأغراض السامية التي ترمي أول ما ترمي إلى تحقيق الأهداف الوطنية لهذا الشعب المغلوب على أمره.

وحيث إنه فيما يتصل بعبد الرحمن السندي المتهم الأول، فإن ما دلت عليه التقارير الطبية الشرعية المرافقة للأوراق من أنه مصاب بمرض القلب، فإن المحكمة تفرق بينه وبين زملائه من مدبري الاتفاق والمتداخلين في حركته وذلك مراعاة لحالته الصحية السيئة، مكتفيًا بالقضاء بحبسه مع الشغل لمدة سنتين.

من أجل هذا وبعد الاطلاع على المواد المشار إليها في هذا الحكم، حكمت المحكمة حضوريًا:

أولاً: بمعاقبة كل من مصطفى مشهور ومحمود السيد خليل الصباغ (مؤلف هذا الكتاب) و أحمد محمد حسنين، و أحمد قدري البهي الحارثي، و السيد فايز عبد المطلب بالسجن لمدة ثلاث سنين.

ثانيًا: بمعاقبة كل من عبد الرحمن علي فراج السندي و أحمد زكي حسن و أحمد عادل كمال و طاهر عماد الدين، و محمود حلمي فرغلي و محمد أحمد علي، و عبد الرحمن عثمان عبد الرحمن، و جلال الدين ياسين، و محمد سعد الدين السنانيري، و علي محمد حسنين الحريري بالسجن مع الشغل سنتين.

ثالثًا: بمعاقبة محمد إبراهيم سويلم بالحبس مع الشغل لمدة سنة واحدة.

رابعًا: مصادرة السيارة المضبوطة وجميع الأسلحة والذخائر والمفرقعات والآلات المفرقعة المضبوطة.

خامسًا: براءة المتهمين جميعا من التهمة الرابعة والخامسة بحيازة أجهزة وأدوات لمحطة إذاعة لاسلكية بدون إخطار.

سادسًا: براءة كل من محمد فرغلي النخيلي، ومحمد حسني أحمد عبد الباقي، و أحمد متولي حجازي، و إبراهيم محمود علي، والدكتور أحمد الملط، و جمال الدين فوزي، و السيد إسماعيل شلبي، وأسعد السيد أحمد، ومحمد بكر سليمان، و محمد الطاهري حجازي، و عبد العزيز محمد البقلي، وكمال سيد القزاز، ومحمد محمد فرغلي، وسليمان مصطفى عيسى مما أسند إليهم.

وصدر هذا الحكم وتلى علنا بجلسة يوم السبت 17 مارس 1951 الموافق 9 جمادى ثاني 1370هـ.

سكرتير الجلسة

إمضاء

رئيس الجلسة

إمضاء

وقبل أن ننتقل إلى الحقائق المستفادة من حكم الإدانة قد يكون من إكمال الموضوع أن نذكر للقارئ التكييف القانوني الذي استندت إليه المحكمة في حكمها بالإدانة، وقد جاء في صفحة (221) من حيثيا الحكم النص الآتي:

وحيث إنه مما تقدم يكون قد ثبت لدى المحكمة أنه في الزمان والمكان المعينين بتقرير الاتهام، ارتكب المتهمون الأول والثاني والثالث والخامس والسابع والعاشر الجرائم المنصوص عليها في المواد 48 فقرة أولى وثانية وثالثة، 230، 231، 258 فقرة ثانية وثالثة قديمة، 314 عقوبات والمادة الأولى من القانون رقم 8 لسنة 1917م الخاص بإحراز وحمل السلاح والمادتين الأولى والثانية من الأمر العسكري رقم 44 بشأن المفرقعات والآلات المفرقعة.

كما ارتكب المتهمون الرابع والحادي عشر والثاني عشر والسادس عشر والثامن عشر والثاني والعشرون والثالث والعشرون والرابع والعشرون والثامن والعشرون والتاسع والعشرون الجرائم المنصوص عنها في المادة 48 فقرة أولى وثانية عقوبات وبقية المواد السالفة الذكر.

وارتكب المتهم الحادي والثلاثون الجريمة المنصوص عنها في المواد 5، 10، 12، من القانون رقم 58 لسنة 1949م الخاص بالأسلحة والذخائر.

وحيث إنه يتعين القضاء بمصادرة الأسلحة والمتفجرات والآلات المفرقعة والسيارة تطبيقًا لنص المادة 30 عقوبات.

وحيث إن جميع الجرائم مرتبطة ببعضها وقد ارتكبت لغرض جنائي واحد يقتضي تطبيق المادة 32 عقوبات في حق ما ارتكب أكثر من جريمة، ثم استطردت المحكمة في ذكر ظروف الرأفة ثم سجلت نصوص الحكم السابق ذكرها.

الحقائق المستفادة من حكم الإدانة:

قررت المحكمة في نص حكمها وهي تدين ثمانية عشر رجلا من المتهمين، عددًا من القواعد التي تصلح أن تكون نورًا تهتد به المحاكم الوطنية وهي تحاكم الوطنيين المجاهدين ضد الغاصب المحتل، في ظل قوانينه اللا إسلامية والتي تضطر إلى الحكم بمقتضاها وفاء للقسم الذي أقسمته على نفسها عند مزاولة المهنة، كما أنها قررت عددًا من الحقائق بالنسبة للمتهمين تصلح أن تكون نورًا يهتدي به الحكام الوطنيون إذا ما اضطروا إلى الحكم تحت ظلال سيوف الاستعمار فقالت في نص حكمها:

1- أن المدانين كانوا من ذوي الأغراض السامية التي ترمي أول ما ترمي إلى تحقيق الأهداف الوطنية لهذا الشعب المغلوب على أمره.

2- إن المتهمين ظنًا منهم أن أعمال النسف تبلغ بهم أهدافهم عن سبيل قصير فاتحدت إرادتهم على القيام بأعمال قتل ونسف مما قد لا يضر المحتلين بقدر ما يؤذي مواطنيهم. http://www.ikhwanwiki.com/skins/common/images/ar/button_link.png وهذا البند يعني أنه لو تحقق للمحكمة أن أعمال القتل والنسف والتدمير التي اتحدت إرادة المتهمين على القيام بها سيقتصر ضررها على المحتلين لحق على المحكمة أن تبرئهم جميعا.

وجدير بحكام البلاد المحتلة إذا كانوا من الوطنيين أن ينظروا إلى مواطنيهم المجاهدين ضد الاحتلال هذه النظرة الحكيمة من جانب المحكمة لا أن يسخروا أبواقهم في التشهير بالمجاهدين ويلبسوهم من الاتهامات ما لا يصدر إلا عن مجرمين احترفوا الجريمة بالزور والبهتان.

3- إن المحكمة وهي تدين المدانيين لم تدنهم بارتكاب حالة قتل أو نسف محددة ليؤخذ حكمها على أنه عقاب، كما أنها لم تدنهم بالاتفاق الجنائي على القيام بحالة قتل أو نسف محددة، ولكنها اتخذت من حيازة بعضهم لأدوات القتل والنسف والتدمير، ومن ثبوت سحب بعضهم مسحوبات مالية من مبلغ في حدود الألفين جنيه كان مودعًا عند أحد التجار، دليلا على اتحاد نيتهم على استعمال هذه الأموال والمعدات في عمليات قتل ونسف وتخريب مجهولة تمامًا لدى المحكمة، ولكن قانون الاتفاق الجنائي الذي وضعه الإنجليز عقب مقتلباشا لاستخدامه في كتم أنفاس الشعب المصري يسمح بالإدانة في مثل هذه الحالة التي لا يقر الإدانة فيها عقل ولا دين، ولكن المحكمة مضطرة للإدانة بمقتضاه وفاء لقسمها كما سبق أن بينت، ولهذا السبب ميزت المحكمة بين أعضاء النظام الخاص وبين المدانين بتسمية جديدة من عندها هي أن المدانين كونوا فيما بينهم جمعية إرهابية.

4- إن المحكمة شعورًا منها بأن أحد المتهمين لم يرتكب أي جريمة لو حوكموا بما أنزل الله وأن براءتهم في هذه الحالة مؤكدة لا شك فيها، استعملت وهي تطبق القانون الجائر الذي يقضي بالإدانة أقصى سلطاتها في الرحمة، فلم تسمي الحكم عقوبة ولكنها أسمتها درسًا للمتهمين تراعي فيه جانب الرفق، فتأخذهم بالرأفة تطبيقًا للمادة 17 عقوبات حتى تستقيم أمورهم ويعتدل ميزانهم.

5- إنها في تقدير العقوبة التي أبت إلا أن تسميها درسًا، قدرتها بحيث يفرج عن جميع المتهمين في لحظة النطق بالحكم، فلم تتجاوز في أي حكم من أحكامها ثلاث سنوات، وقد قضى جميع المتهمين ثلاثة أرباع هذه المدة بالفعل في الحبس الاحتياطي، وبذلك وضعت المحكمة الدولة أمام فرض يلزمها بالإفراد عن المتهمين جميعًا فور النطق بالحكم.

6- إن المحكمة برأت كل أعضاء النظام الخاص في القضية رغم إقامتها الدليل على أنهم من أعضاء النظام الخاص تمشيًا مع حكمها ببراءة الدعوة وبراءة النظام الخاص من أدنى خروج على القانون، وسوف نضرب أمثلة على ما قالته المحكمة في شأن بعض أعضاء النظام الخاص الذين قضت ببراءتهم ليتحقق للقارئ أن المحكمة ترى وتشيد أن هذا المتهم من أعضاء النظام السري الخاص، وأن انتماءه هذا لا يدينه قانونًا، حتى في ظل القانون الوضعي الجائر الذي تحكم به.


أمثلة من حيثيات الحكم ببراءة بعض أعضاء النظام الخاص قاطعة الدلالة على أن المحكمة لا تدين العمل السري المسلح ضد الاستعمار وأعوانه:

أولاً: عن إبراهيم محمود علي وهو المتهم الذي نقلت إلى داره الأسلحة والمفرقعات بالسيارة جاء في صفحة 162 من الحيثيات ما يلي:

وحيث إنه لم يثبت بعد ذلك إلا ثلاث وقائع أولها وقوف السيارة الجيب أمام منزله مع كونه من جماعة الإخوان المسلمين، والثانية ضبط فتيل في صندوق بغرفة نومه من الفتيل الخاص بتوصيل الشعلة للمفجر ومن مثيل ما ضبط بالسيارة الجيب والثالثة ضبط نموذج مطبوع عن رسم خيمة لستة أشخاص من نوع ضبط مثيل له في السيارة الجيب، وتبين أن الرسمين متطابقين من حيث نوع الورق وطريقة الطباعة والخط والرسم وكان هذا الضبط بتاريخ 7 فبراير سنة 1947م.

وحيث إن كلا من هذه الوقائع لا يعتبر دليلا على عضوية المتهم في الجمعية الإرهابية وبالتالي على قيام اتفاق جنائي فيما بينه وبينهم على ارتكاب جرائم وذلك لأن وقوف السيارة أمام منزله ليس من فعله ولا يؤدي ذلك إلى ثبوت التهمة، وأن الفتيل الذي ضبط في صندوق من الورق في منزله إنما هو فتيل طوله بوصة ونصف ولم تضبط أية مادة ناسفة معه، ولم يكن من العسير أن يدس له بهذه القطعة بأية صورة من الصور خاصة بعد ما ثبت من وجود نزاع سابق بينه وبين صبحي علي سالم البوليس الملكي الذي يسكن المتهم في منزل معه، على أن هذه الواقعة مع افتراض صحتها لا تؤدي في ذاتها إلى إثبات أي تهمة.

أما ضبط نموذج الخيمة إنما كان في محله الذي يشترك معه فيه آخر اسمه محمد مهدي شرف الدين، ومن جهة أخرى فإنه في ذاته ليس دليلا على قيام أي اتفاق جنائي بين المتهم وبين آخر أو آخرين، ومن ثم فإن التهمة المنسوبة إليه تصبح عارية من الدليل ويتعين الحكم ببراءته طبقًا للمادة 50/2 منت قانون تشكيل محاكم الجنايات.

ثانيًا: عن الحاج حسني عبد الباقي الذي أودع تمويلاً لدىمحمد فرغلي النخيلي، أضيف إلى المال الذي اعتبرته المحكمة أنه موضوع لأغراض الإرهاب جاء في صفحة 125 من حيثيات الحكم:

وحيث إن دور هذا المتهم في الحركة المالية هو أنه ثبت من أقوال محمد فرغلي النخيلي أن المتهم ورد 300 جنيه على دفعتين 240، 60 جنيه، وقد أثبت هذا المبلغ في دفتر الصندوق باسم حسني عبد العزيز وهو الاسم المستعار للمتهم، إلا أنه عند مواجهةمحمد فرغلي بالمتهم قرر أنه ليس الشخص المقصود بالحاج حسين والذي دون اسمه في جدول الأسماء المستعارة، وبالتالي ليس هو ال مودع للمبلغ السالف الذكر، وقد أنكر المتهم إيداعه للمبلغ وذلك مع إقراره بمعرفته السابقة بعبد الرحمن السندي ومصطفى مشهور ومحمد فرغلي وآخرين ممن وجه إليهم الاتهام في هذه الدعوى، ومع إقراره بأنه عضو في مكتب الإرشاد وفي مجلس إدارة شركة المناجم التابعة للإخوان.

وحيث إنه على فرض صحة ما ذهب إليه الاتهام من أن المتهم أودع مبلغ الجنيهات الثلاثمائة لدى محمد فرغلي فإنه لم يقدم دليلا واحدًا على أن المتهم كان عالمًا بالأغراض التي أودع من أجلها المال، كما لم يقم دليل على أنه يعلم بمصارفه، وقد يكون الإبداع على فرض صحته قد تم على سبيل التبرع بناء على رجاء منعبد الرحمن السندي أو آخرين دون أن يعلم المتهم الغرض الذي من أجله جمع هذا المال إذ من المحتمل أن يكون أفهم أنه غرض نبيل ترمي إليه جماعة الإخوان المسلمين التي يشغل المتهم مركزًا كبيرًا كعضو في مكتب الإرشاد وعضو في مجلس إدارة شركة المناجم وهي إحدى شركات الجماعة.

وحيث إن متى تقرر هذا كان القول بقيام اتفاق جنائي على أي صورة من الصور بين المتهم وبين آخرين قول يفتقر إلى الدليل ومن ثم يتعين القضاء ببراءته تطبيقًا لنص المادة 50/2 من قانون تشكيل محاكم الجنايات.

ثالثًا: عن الأستاذ أحمد حجازي الذي نسب إليه قاتل النقراشي باشا وآخرين أنه من زعماء الجمعية السرية جاء في حيثيات الحكم صفحة 147 ما يلي:

إن أدلة الاتهام ضد أحمد حجازي هي في أقوال قاتل النقراشي باشا عبد المجيد أحمد حسن وأقوال المتهم الثامن عشر عبد الرحمن عثمان ومؤداها أنه من زعماء الجمعية السرية، وأنه كان يجتمع بكل منهما في غضون سنة 1946 م ويلقنهما وسائل استعمال الأسلحة والمفرقعات والطوبوغرافيا والإسعاف والقانون وغير ذلك من المواد التي أفهمها.

وأنه صحب كل منهما إلى عين غصين حيث دربا في الصحراء المجاورة لها على استعمال الأسلحة والمفرقعات.

وحيث إن أقوال عبد المجيد أحمد حسن على فرض صحتها لا تدل في ذاتها أنه قد ساهم في أي عمل من أعمال الجمعية الإرهابية أو أن إرادة قد اتحدت مع واحد منهم أو مع غيرهم على ارتكاب ثمة جناية أو جنحة فقد قرر عبد الحميد أحمد حسن أن صلته بالمتهم المذكور قد انقطعت من نهاية 1946 م، وحتى ذلك التاريخ لم تكن الجريمة من وسائل الجمعية السرية، بل كان هدفها على حد تعبير عبد المجيدأحمد حسن إعزاز الوطن ورفع راية الإسلام بالطرق المشروعة، وأنه لم يعلم أن الجريمة من وسائلها إلا في أواخر سنة 1948 ، وكان ما نسب إلى المتهم حتى نهاية 1946 م أنه كان يدعو ويعمل لإعداد الشباب وتكوينه للجهاد إذا جد الجد، أما عن أقوال عبد الرحمن عثمان ففضلا على أنها لا تؤدي إلى إسناد أمور معينة للمتهم فإن المحكمة لا تأخذ بها للأسباب التي سيرد بيانها عند الكلام عما أسند إلى عبد الرحمن عثمان المذكور.

وقالت المحكمة في صفحة 148:

وقد ثبت للمحكمة بما هو مدون بمذكرة محمد فرغلي النخيلي أن المتهم اقترض مبلغ مائة جنيه ودل الإطلاع على دفاتر المتهم أنه أثبت هذا المبلغ فيها مما يقطع أن المبلغ كان قرضًا، وأن المتهم لم تكن له أية علاقة بالحركة المالية الخاصة بالجماعة الإرهابية، ولو أن لهذا المتهم نية إجرامية أو أن هذا المبلغ أخذ من أموال الفئة الإرهابية لتنفيذ غرض من أغراضها لما عمد المتهم إلى إثبات هذه الواقعة بالدفتر الخاص بمحل تجارته.

وحيث إنه مما تقدم يتبين أن ما أسند إلى هذا المتهم لا دليل عليه ويتعين الحكم ببراءته منها عملاً بالمادة 50/2 من قانون تشكيل محاكم الجنايات.

رابعًا: عنجمال الدين إبراهيم فوزي الذي قرر قاتل النقراشي باشا أنه قابله مع آخرين في قتل النقراشي باشا، جاء في حيثيات الحكم صفحة 165 ما يلي:

نسب الاتهام إلى المتهم الخامس عشر جمال الدين إبراهيم فوزي أنه عضو في الجمعية السرية الإرهابية عالمًا بأغراضها ووسائلها واستند في إثبات ذلك إلى أقوال عبد المجيد أحمد حسن قاتل النقراشي باشا الذي أدلى بها في يوم 15 مايو سنة 1949م وما تلاه على أثر ضبط محمد مالك يوسف المحكوم عليه في جريمة الاشتراك في قتل دولة النقراشي باشا إذ قرر عبد المجيد بأنه على إثر تعرفه بالمتهم السيد فايز عبد المطلب في منزله بناء على طلب المتهم الحادي عشر أحمد عادل كمال، قابل في هذا المنزل كلا من جمال الدين إبراهيم فوزي، ومحمود حلمي فرغلي، ومحمد أحمد علي، ومحمود كامل المحكوم عليه بالاشتراك في قتل النقراشي باشا، وأن السيدفايز عبد المطلب قد أفهمه أنه سيكون في خلية سرية مع هؤلاء الأربعة برئاس، وأنه اجتمع بهم في منزل هذا الأخير مرتين أو ثلاثة وحضر إحدى الاجتماعاتمحمد مالك يوسف الذي قةجمال فوزي رر جمال فوزي بشأنه أنه سيقوم بتدريبهم على قيادة السيارات والموتوسيكلات، وأن جمال فوزي بدوره قد تلى عليهم في إحدى هذه الاجتماعات قصصًا وروايات حدثت في صدر الإسلام خاصة باغتيال من تثبت خيانته ويقوم الدليل في حقه على أنه عاون العدو وشد أزره وأنهم جميعًا بما فيهم جمال فوزي سافروا إلى عزبة بالقرب من مدينة الإسماعيلية تعرف بعزبة الإخوان في اليوم الثالث من أيام عيد الأضحى السابق الموافق 15 أكتوبر سنة 1948 م وأمضوا ليلتهم في العزبة وتوغلوا في الصباح في الصحراء المجاورة وتدربوا في فضائها على استعمال الأسلحة والمفرقعات ثم انقطعت علاقة المتهم المذكور بهم بسبب ندبه للعمل بمكتب بريد فلسطين وسفره إليها من 16 نوفمبر سنة 1948 ، وتعرف عبد المجيد على المتهم بمكتب بريد فلسطين بعد عرضه مع آخرين ووصف منزله وأرشد عن موقعه.

وحيث إن أقوال عبد المجيد أحمد حسن بالنسبة إلى المتهم المذكور قد خلت من أي دليل آخر يؤكد صحتها، إذ أن مجرد تعرفه على المتهم ووصف منزله وإرشاده عنه وعلمه بأمر نقله إلى فلسطين في 16 نوفمبر سنة 1948 ، قد يكون مرجعه إلى صلة التعارف والتآخي البرئ التي جمعتهم باعتباره من الإخوان المسلمين خصوصا وأن جمال الدين إبراهيم فوزي على ما يبدو من التحقيقات كان من أعضاء الجماعة البارزين، كما أن وصف عبد المجيد للعزبة والصحراء المجاورة لها وإرشاده عنها لا يدل في ذاته على أن المتهم كان فيها، وعلى أنه مع افتراض صحة أقوال عبد المجيد بالنسبة لهذا المتهم بالذات وهوي قرر في وضوح وجلاء أن أعضاء خليته حينما تحدثوا معه في شأن ارتكب أمرًا، ردًا على قرار حل جماعة الإخوان المسلمين كان المتهم جمال فوزي غير موجود بسبب سفره إلى فلسطين .

هذه الأقوال مع ما سبقها حتى بفرض صحتها لا تدل في ذاتها على أن جمال الدين إبراهيم فوزي قد اتفقت نيته مع عبد المجيد ولا مع غيره على أي غرض إجرامي، ومن ثم تكون التهمة المسندة إليه لا تقوم على دليل مقنع ويتعين الحكم ببراءته منها عملاً بالمادة 50/2 من قانون تشكيل محاكم الجنايات.

خامسًا: عن أسعد السيد أحمد الذي ضبطت تقارير بخطه في حافظة مصطفي مشهور ، قالت المحكمة في ص184 من حيثيات الحكم:

وحيث إن الأدلة التي ساقها الاتهام قبل المتهم العشرون أسعد السيد أحمد تتحصل في وجود تقرير بخطه في حافظة مصطفى مشهور مشهور يدل على أن كاتبه يتجسس على حزب مصر الفتاة ووجود تقرير آخر بالحافظة خاص بمراقبة منزل حسن رفعت باشا تبين أنه بخط نفس المتهم الذي رمز له في التقريرين برقم 22، وأضافت النيابة إلى ما تقدم أن المتهم عضو في جوالة الإخوان المسلمين وأنه هو الذي كلف السيد إسماعيل شلبي المتهم التاسع عشر بمراقبة أحد منازل اليهود.

وبسؤال المتهم أنكر ما أسند إليه كتابة التقريرين المشار إليهما، وحيث إنه بالرجوع إلى التقرير الخاص بحزبمصر الفتاة تبين للمحكمة أن محرره يقول إنه ذهب في يوم 29سبتمبر سنة 1948 إلى الأستاذعبد الرحمن الذي حدثه عن مواد مفجرة أحضرها آخر من أعضاءالإخوان المسلمين على سبيل الهدية، وقد قسم الكاتب تقريره إلى أربعة عشر بندًا ضمنها بعض أعماله ومقابلاته التي قام بها، وضمن التقرير معلومات عن حزب مصر الفتاة وعن جماعة الإخوان المسلمين أيضًا، وجاء في البند الثاني عشر من التقرير ما يفيد أن مقدمه ذهب في يوم أول أكتوبر سنة 1948 إلى منزل محمد أبو النجا بعزبة ليأخذ منه لغمًا مؤقتًا ولكنه لم يجده.

وقد اتجهت أنظار المحققين إلى ما ذكره الكاتب أيضا خاصا بمحمد أبو النجا ففتش منزله وعثر فيه على كميات كبيرة من المواد الناسفة وفتيل الاشتعال واعترف المذكور بإحرازه المفرقعات وقرر أن ميكانيكيا يدعى أسعد سبق أن أخذ منه لغما مؤقتًا وأرشد عنه فتبين أنه أسعد السيد أحمد المتهم العشرين، فضبط واستجوب فأنكر الواقعة، كما أنكر كتابة للتقريرين الذين ضبطا بالحافظة.

وحيث http://www.ikhwanwiki.com/skins/common/images/ar/button_link.pngإنه مما تقد يتبين أن هناك علاقة وثيقة بين المتهم وبين محمد أبو النجا وأنهhttp://www.ikhwanwiki.com/skins/common/images/ar/button_link.png من المحتمل أن يكون المتهم قد ذهب حقيقة كما دون في تقريره إلى منزلأبو النجا ليأخذ لغما فلم يجده في منزله، ولكن الدليل الوحيد القائم على أنه أخذ اللغم مستفاد من مجرد قول أبو النجا وحده، وقد كان في موقف اتهام عسير بعد ضبط المفرقعات لديه، فقوله هذا لا تعده المحكمة دليلا مقنعًا على صحة هذه الواقعة، على أن اللغم المقول بحيازة المتهم له لم يضبط، وعلى فرض صحة هذه الواقعة جملة وتفصيلاً فليس هناك ما يقطع بأن لغمًا صالحا للاستعمال سلم للمتهم وأنه أحرزه زمنًا معينًا.

وحيث إن ما ورد في التقرير عدا واقعة اللغم المؤقت إنما هي عبارات مضطربة متفرقة عن مقابلات تمت بين مقدم التقرير وآخرين وبين رئيس حزب مصر الفتاة أو المرشد العام للإخوان وبين آخرين، ولا تستطيع المحكمة أن تقطع من عبارات التقرير بأن محرره كان عضوًا في جماعة إرهابية اتفق أفرادها على ارتكاب الجرائم كوسيلة للوصول إلى أغراضها، أو كهدف من أهدافها.

وحيث إن التقرير الخاص بمراقبة منزل باشا وصف فيه الكاتب المنزل وبعض الأشخاص المترددين عليه والأمكنة التي يتردد عليها صاحب المنزل، وليس في التقرير ما ينم على أن محرره قصد ارتكاب جريمة معينة أو أنه كان مشتركا في اتفاق جنائي خاص بارتكاب جناية هدفها الاعتداء على المنزل المراقب أو بعض ساكنيه، وحيث إنه يبقى بعد هذا ما أقر به السيد إسماعيل شلبي من أن المتهم هو الذي كلفه بمراقبة منزل يقطنه اليهود، وقد سبق البيان عند الكلام عنأن النص الذي حرره ليس فيه ما يدل على الإجرام أو على أن محرره قصد ارتكاب جريمة بعينها- ومتى تقرر هذا كان التحريض على كتابة ذلك التقرير لا جريمة فيها.

وحيث إنه مما تقدم يتبين أن ما أسند للمتهم أسعد السيد أحمد على غير أساس ويتعين القضاء ببراءته تطبيقا للمادة 50 فقرة 2 من قانون تشكيل محاكم الجنايات.


الدليل على أن الحكومة صرحت للوطنيين بحمل السلاح من واقع الحيثيات ببراءة المتهم أسعد السيد أحمد وأقوال عبد المجيد أحمد حسن قاتل النقراشي باشا:

سوف نخصص في هذا الكتاب جزءًا لتقديم الأدلة على أن الحكومة وهي تلبس لباس الوطنية وتزعم دخول فلسطين لتحريرها بجيشها الباسل قد صرحت للمدنيين من الوطنيين بإحراز السلاح لاستخدامه في هذا الغرض دون إذن كتابي، مما يبرئ جميع من قضت المحكمة بإدانتهم في قضية السيارة الجيب.

ولكن ما ورد في حيثيات براءة الأخ أسعد السيد أحمد من أن النيابة ضبطت بمنزل الأخ محمد أبو النجا كميات كبيرة من المواد الناسفة وفتيل الاشتعال واعتراف المذكور بإحرازه المفرقعات، وأن هذه الضبطية وضعت الأخ محمد أبو النجا في موقف اتهام عسير بعد ضبط المفرقعات لديه.

ثم ما تم تنفيذه فعلا بعد أن ثبت للنيابة أنمحمد أبو النجا من أعضاء حزب مصرالفتاة ولا علاقة له بالإخوان المسلمين فأفرجت عنه دون تقديمه للمحاكمة، لدليل من مجريات الأمور في هذا الوقت على أن الحكومة عزمت على عدم تطبيق عقوبة الحيازة على المواطنين الذين يعملون على مقاومة الاستعمار واليهود ومنهم الإخوان المسلمين ثم غدرت بالإخوان المسلمين وحدهم دون أدنى تفسير إلا الاستجابة للأوامر المشددة إليها من الاستعمار والصهاينة.

ومما يدل على أن الحكومة نقضت عهدها مع الإخوان المسلمين في هذا الصدد من واقع حيثيات الحكم في قضية السيارة الجيب ما جاء في صفحة (29) من هذه الحيثيات عن اعترافات عبد المجيد أحمد حسن قاتل النقراشي باشا بالنص الآتي:

وبعد بعضة أيام (من يناير سنة 1948 ) علم بأمر القبض على السيد فايز ومعه أفراد يتدربون بالجبل على استعمال السلاح، ثم أفرج عنهم بعد يومين وعلم أن هذا التدريب كان تحت سمع الحكومة وبصرها، فأدرك أن هذا النظام الخاص ليس فيه ما يخالف القانون، وبعد ذلك بدأت مشكلة فلسطين تأخذ دورًا جديًا فاعتقد كما اعتقد جميع أفراد النظام الخاص الذين يعرفهم ويتصل بهم أن وقت الجهاد الذي من أجله يتدربون قد جاء، وأنهم سيرسلون جميعًا إلى فلسطين للقتال لأنهم قد تعلموا إلى جانب استعمال البندقية والمسدس كيفية اقتناص الدبابات وحرب العصابات وحقول الألغام، مما أثبت له أن النظام الخاص لم ينشأ بقصد الاعتداء على المصريين ولكن لمحاربة الصهيونيين في فلسطين ، وكانت القيادة الخاصة بالنظام الخاص تدعوهم إلى التريث حتى فكروا في الانشقاق والهروب إلى فلسطين للقتال هناك، وإزاء هذا الإلحاح ذكرتهم القيادة بأن الصهيونيين ليسوا في فلسطين فقط، بل هم موجودين داخل البلاد المصرية وأن على النظام الخاص أن يوجه إليهم النشاط.

يرحمك الله أيها الأخ المسلم الصادق عبد المجيد أحمد حسن ويسكنك فسيح جناته مع الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقًا، فقد صدقت الله وعدك وقدمت دمك لتخلص الإسلام من أعدى أعدائه الذي هادن الصهاينة ليقضي على الإخوان المسلمين ويمنع إلى الأبد قيام دعوة على أرض مصر تنادي بمبادئهم المنزلة من لدن الرحمن الرحيم.

ولقد صدقك إخوانك، وها هي المحكمة تستعرض كل نواياهم وأفكارهم وخططهم في وثائق مكتوبة ومقدمة إليها بيد رجال الأمن في مصر ، بقصد إدانة النظام فإذا بالمحكمة تقضي بما اقتنعت به أنت، وبما قيل لك من إخوانك ببراءة النظام الخاص من كل شائبة، حتى إذا تآمر أفراده على عمليات تخالف قانون مصر المسطر بإملاء المستعمرين، فإن ذلك لا يعيب النظام الخاص ولا رجاله ولا أهدافهم، وكفاهم شرف غايتهم ونبل مقصدهم الذي ظهر إلى المحكمة في جلاء واضح أجبرها على أن يعلن أعضاؤها أنهم جاءوا ليحاكموا الإخوان المسلمين فأصبحوا منهم والحمد لله رب العالمين.

نقض حكم قضية السيارة الجيب

من المعلوم أن حق النقض مكفول للطرفين المتنازعين أمام محاكم النقض والإبرام في مصر لكل طرف يرى أن في حكم محكمة الاستئناف ضده عوجًا أو أمتًا.

ولكن النيابة العامة في مصر استقبلت الحكم بالرضا والارتياح، ولم تتقدم لنقضه اقتناعًا منها أنها كانت على خطأ عظيم في دعواها، ذلك لأنها نسبت الإخوان المسلمين إلى أحط الجرائم وأشنعها وأبشعها على الإطلاق، وسمحت لوسائل الإعلام أن تنقل عنها هذه الصفات المرذولة وتنسبها إلى الإخوان المسلمين بكل صيغ المبالغة والتشهير والافتراء، وإذا بالحكم لا يقتصر على براءة الإخوان ليحس الناس أن النيابة العامة كانت مخطئة، لكنه أشاد بشرف غايتهم ونبل مقصدهم، من واقع الأدلة التي قدمتها النيابة العامة كأدلة اتهام، وهذا يعني أن النيابة العامة لم تكن حرة وهي تقدم هذه القضية إلى المحاكمة، ولكن قوة ما قد لوت ذراعها لتسجيل الغايات الشريفة والمقاصد النبيلة الموثقة بين يديها كأقوى ما يكون التوثيق وأصدق، على أنها جرائم شنعاء لا يرضى عنها عبد ولا رب.

لو لمن تكن النيابة تعلم علم اليقين أن كل المصريين يعلمون أنها كانت مرغمة على قلب الحقائق البيضاء ودمغها بالسواد، لثارت كرامتها وهي تقرأ هذا الحكم الذي يدمغها بهذه الصفة المرذولة، ولكنها سلمت بالحكم اعترافًا بما يعرفه كل المصريين وأعضاء النيابة واستراحت لهذه الحقيقة التي تبرئها، وهي أنها لم تكن حرة في كل ما قالت أو أذاعت من تهم قبل الإخوان المسلمين .

ولم يقتصر أمر السلطة الفاجرة على ليِّ ذراع النيابة العامة في هذه القضية، ولكنها تيسيرًا منها للدفاع عن النيابة العامة وهي في مأزقها هذا الذي لا تحسد عليه، لجأت إلى إيقاع أبشع صور التعذيب على المتهمين لتنتزع منهم اعترافات باطلة تبرر للنيابة العامة ما اضطرت إليه من بهتان على عباد الله، وهو ما سوف نثبته للقارئ الكريم من شهادة كبار الشخصيات في هذه القضية التاريخية. ولقد شاء قدري أن أقابل الأستاذ محمد عبد السلام رئيس النيابة وممثل الاتهام في هذه القضية بعد خروجي من السجن، وذلك في مكتبة بدار القضاء العالي لأستأذنه في استلام ما يخصني من المضبوطات المحرزة تحت ذمة التحقيق في هذه القضية.

ويشاء القدر أن نسمع سويًا أصوات الشعب المصري تهتف عالية في شارع فؤاد الأول (26 يوليو)، تطالب الحكومة بالسلاح وذلك بالهتاف المشهور أين السلاح يا صلاح؟ وصلاح هذا هو الأستاذ محمد صلاح الدين عضو هيئة الوفد المصري ووزير خارجية مصر في هذا الوقت، فإذا بالأستاذمحمد عبد السلام يبادرني بقوله تعليقًا على هذا الهتاف، وهو يرى بعينه أن الشعب المصري بأجمعه يجهز بالنداء بحمل السلاح، لتحرير وطنه، لينال هذا الشرف الذي عده الأستاذمحمد عبد السلام في تقرير الاتهام جريمة بشعة لا يدانيها جريمة، فيقول لي اسمح لي يا محمود أن اعترف لك أنني كنت مخطئا فيما ذهبت إليه قبلكم من اتهام. وهذا يدل على ما في أعماق رجال النيابة في مصر ، فهم جزء من رجال القضاء، لهم من الضمائر الحية، والوطنية الصادقة، ما يسمح لهم بالدفاع عن الحق والتسليم به كلما ظهر لهم ذلك جليًا، ما لم تجبرهم السلطات على غير ذلك فينفذون لها إرادتها كارهين.

أما من جانبنا نحن الذين أدينوا برفق، وسجلت المحكمة لهم كل ما تستطيع تسجيله وهي تصف أغراضهم من معاني الوطنية والفداء، فتقول عنهم إنهم من ذوي الأغراض السامية التي ترمي أول ما ترمي إلى تحقيق الأهداف الوطنية لهذا الشعب المغلوب على أمره، وفي هذا ما يشير إلى أن المحكمة كانت تتمنى لو برأتهم، بل لو طلبت لهم أوسمة ونياشين لولا أنها تحاكمهم بهذا القانون الجائر الذي يدين على الحيازة الثابتة في القضية بأشد العقوبات وأقساها.

ولقد صح عزمي وقد رأيت حنين المحكمة أن تبرئنا جميعًا، بما أسندتنا إليه من جميل الصفات، أن أحقق لها طلبها، فأتقدم إلى محكمة النقض لانقض هذه الإدانة التي ليس لها ما يبررها من الوقائع والأوراق المثبتة في القضية إلا رغبة المحكمة أن تحفظ للحكومة بعض ماء وجهها بعد أن لقنتها درسًا لا يغيب إلا على الأغرار.

ولقد عرضت هذا العزم على المرحوم الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين مستأذنًا أياه في التقدم لمحكمة النقض لنقض الحكم ولكنه قال لي أن عرف القضاء جرى على عدم قبول النقض في مثل هذه القضايا العملاقة Giant or manstre التي تكلف الدولة لو أعديت المحاكمة فيها الكثير من الوقت والجهد، ولكنه لم ينهني عن أن أسجل اعتراضي على هذه الإدانة على الرغم من أنها أشبه شيء بالوسام، فتقدمت إلى محكمة النقض لأسجل أن الحق الصريح هو أن جميع المتهمين في هذه القضية أبرياء لأن أسباب إدانة من أدينوا لا يختلف كثيرًا عن أسباب براءة من برئوا إلا بخيط رفيع لا يدل على اتفاق جنائي على أية جريمة من الجرائم، وأن دل على عمل مؤكد لصالح مصر والعروبة.

فحركة تبادل المسحوبات النقدية من المبلغ النقدي المودع عند فرغلي النخيلي والذي اتخذته المحكمة دليلا وحيدًا على اتفاق عضو النظام الذي كانت له مسحوبات من هذا المبلغ على القيام بعمل إجرامي أمر يستوجب الكثير من النظر، لأن سحب المبلغ لا يقضي بالضرورة إنفاقه لعمل جريمة حيث يمكن أن يكون إنفاقه لشراء سلاح أو لخدمات اجتماعية.

ولهذا السبب وحده وتسجيلا للحقيقة تقدمت لنقض الحكم، لأنني أعلم يقينًا أن الثلاثين جنيهًا التي سحبتها من هذا المبلغ إنما سحبتها سلفة لدفعها مقدم إيجار في شقة بالعباسية اضطررت للانتقال إليها بسبب سرقة شقتي في حلمية الزيتون، والحق أحق أن يسجل، على الرغم من الثقة بأن هذا التسجيل لن يغير من الأمر الواقع شيئًا، فقد رفضت المحكمة النقض خضوعًا لعرف القضاء في مثل هذه القضايا الكبيرة والذي أوضحه لي الأستاذ حسن الهضيبي من قبل تقديم النقض إلى المحكمة، إذ يكفي الإنسان رضًا على نفسه أنه استطاع أن يجهر بالحق وينبذ الباطل.

الفصل الرابع : أقوال كبار الشهود وحوادث التعذيب في قضية السيارة الجيب


مقدمة

نشرت دار الفكر الإسلامي تحت هذا العنوان شهادة سماحة مفتي فلسطين ، واللواء فؤاد صادق باشا، واللواء أحمد المواوي بك، ومحمود بك لبيب بشأنجهاد الإخوان في فلسطين ، كما نشرت شهادة الإخوان عبد الفتاح ثروت وسعد جبر، ومصطفى كمال عبد المجيد على ما وقع عليهم من تعذيب، ونحن إذ ننقل عن هذا المطبوع نصوص هذه الشهادات المنقولة من ملف القضية دون تغيير أو تبديل، إنما نقصد أن نقدم للقارئ الكريم الحقيقة التي سجلها كبار رجال الشعب العربي وأنكرتها الحكومة المصرية ونياباتها العامة فترة من الزمن، ثم ما لبثت السلطة العليا في مصر ممثلة في ملكها فاروق بن فؤاد الذي تراجع عن الاستمرار في مساعدة حكومته في عملها المخجل ضد أخلص فئات شعب مصر ، لمصر خاصة وللوطن العربي والإسلامي عامة، فأقالها من قبل أن تنطق المحكمة بحكمها التاريخي، وكانت إقالته لها وبنص تعبيره هدية مقدمة منه إلى شعب مصر ، والحمد لله رب العالمين.


شهادة سماحة الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين

س: هل كان لجماعة الإخوان المسلمين حركة مشاركة في حرب فلسطين ؟

ج: نعم كان للإخوان المسلمين حركة مشاركة في حرب فلسطين منذ البدء، وقاموا بدعاية لها، ثم شاركوا بأنفسهم في سنة 1936 أثناء الجهاد هناك، وجمعوا أسلحة وذخيرة وذهب فريق منهم إلى الجهاد هناك واستمروا على ذلك يعنون بهذه القضية ويخدمونها بأنفسهم وبجهودهم وبكل ما يستطيعون حتى النهاية.

س: هل كان بعض رجال الهيئة العربية كالمرحوم عبد القادر الحسيني أو غيره يستعينون ببعض الإخوان في جمع الأسلحة وشرائها؟

ج: نعم كان عبد القادر الحسيني بك وغيره يستعينون بالإخوان المسلمين في شراء الأسلحة والذخيرة ويدفعون ثمن هذه الأسلحة.

س: هل تعرف أن من بينهم محمود الصباغ ؟ (مؤلف هذا الكتاب).

ج: نعم قد كان أحد الذين كلفوا من قبل عبد القادر بك الحسيني وغيره لشراء الأسلحة وأعرف أنه اشترى صفقات بلغت نحو ثلاثة آلاف جنيه وأنه اشترى بها فعلا أسلحة وسلمها إلى المنوط بهم استلامها من الهيئة.

س: هل كان الإخوان المسلمون في أول جهادهم على صلة بعبد القادر الحسيني بك قبل دخول الجيوش النظامية؟

ج: نعم كان لهم صلة وحارب فريق منهم معه، وبعضهم استشهد في معركة القسطل.

س: وهل استمروا يجاهدون بعد دخول الجيوش العربية؟

ج: نعم.

س: هل ظلت الهيئة العربية تجمع أسلحة بعد دخول الجيوش العربية؟

ج: نعم ظلت تجمع أسلحة بعد دخول الجيوش، وكذلك الإخوان وأذكر حادثة قد يكون لها أهمية في هذا الموضوع وهي أن المرحوم الشيخ حسن البنا زارني بعد الهدنة الأولى وقال لي ما يدل على قلقه مما ظهر في بعض الجيوش العربية من التخاذل ومما لمسه من الدسائس التي ترمي إلى هدم قضية فلسطين ، وتسليم فلسطين إلى اليهود وبدون حرب، وقال لي: إنه يشعر بقلق شديد مما لمسه من هذا التخاذل والدسائس، ولذلك فقد فكر في أنه سيرسل نحو عشرة آلاف من الإخوان المسلمين ليشتركوا مع المجاهدين في فلسطين وقال أنه سيعرض الأمر على المختصين في الحكومة المصرية لتمونهم وتسلحهم، وإذا تعذر تسليحهم بسبب قلة السلاح فإنه سيطلب إلى جميع الشعب لتجهز كل شعبة متطوعيها بسلاح تشتريه، بحيث يتسلح عشرة آلاف، وكان مصممًا على هذه الفكرة واعتقد أنه طلب إلى هذه الشعب أن تجمع الأسلحة، وأخذ في تنفيذ هذه الخطة، ولكن لا أدري كم استطاع أن يرسل منهم في ذلك الحين، وهذا يدل على أنهم كانوا يشترون الأسلحة حتى بعد دخول الجيوش النظامية وذلك بسبب خيبة الآمال في بعض الجيوش العربية.

س: متى حصل هذا الحديث؟

ج: بعد الهدنة الأولى بأيام قليلة وبعد أن ظهر ذلك التخاذل وهذه المؤامرات.

س: ومتى كانت الهدنة الأولى؟

ج: الهدنة الأولى كانت في يونيو والجيوش العربية دخلت فلسطين في 15 مايو أي بعد 21 يومًا من دخولها.

س: إلى أي تاريخ ظلت الهيئة العربية ترسل أسلحة إلى فلسطين ؟

ج: استمرت حسب ما أذكر ترسل الأسلحة إلى آخر سنة 1948 وأظن أن آخر دفعة أرسلتها كانت في اليوم العاشر أو الحادي عشر من شهر ديسمبر سنة 1948 .

س: هل استولت الحكومة المصرية على أسلحة من مخازن الهيئة العربية؟

ج: نعم حول 4 أغسطس استولت الحكومة على أسلحة وذخائر من مخازن الهيئة العربية في حلمية الزيتون وفي المرج، ولها مصانع، وكذلك استولت الحكومة على بعض مخازن بمرسى مطروح.

س: ولماذا استولت الحكومة على هذه الأسلحة؟

ج: لا أدري تمامًا ما هي الأسباب، وإنما المرحوم النقراشي باشا عندما كلمته في هذا الشأن قال لي إن هذا أمر بسيط ونحن سننقل لكم الأسلحة إلى الحدود وأمر بنقلها إلى العريش وإلى الحدود، ولكنها لم تسلم إلينا ولا أعلم إلى الآن مصيرها.

س: وكيف جمعتم أسلحة بعد ذلك؟

ج: بعد ذلك بأسبوعين أو ثلاثة سمح لنا بجمع الأسلحة مرة أخرى.

س: وهل كانت مقابلتك للنقراشي باشا قبل التصريح أو بعده؟

ج: أنا قابلته في أواخر شهر أغسطس على ما أذكر أنا وعزام باشا، وقال سنرسل لكم الأسلحة، وبعد هذه المقابلة بنحو أسبوعين سمحت الحكومة بالجمع، وعندما صادرت الأسلحة واستولت عليها، لم تبلغنا أن جمع الأسلحة ممنوع، ولم نمنع من جمع الأسلحة بعد المصادرة.

س: ومعنى هذا أن هذه المصادرة لم تكن تفيد المنع؟

ج: لا.

س: هل استولت الحكومة من مخازن الهيئة العربية على أشياء أخرى خلاف الأسلحة مثل خوذ وأحذية وأسلاك ومهمات؟

ج: كان للهيئة العربية في العريش ورفح بعض ملابس وخيم ومهمات وأحذية وخلافه أيضا أخذته برسم أمانة، ولم ترد هذه الأمانة.

س: هل كان بعض أهل القرى من فلسطين يفدون إلى مصر لجمع الأسلحة؟

ج: نعم كانوا يحضرون ويراجعون الهيئة من أجل أخذ رخصة فكنا نأتي لهم بالرخص من هيئة وادي النيل التي كان منوطًا بها أن تعطي رخصًا، وكانوا يلجأون إلى الهيئة العربية لجمع أسلحة أو يلجأون للإخوان المسلمين أو يشترون مباشرة.

س: هل تذكر تاريخ آخر تصريح للهيئة العربية بجمع سلاح؟

ج: أظن حوالي 10 ديسمبر سنة 1948 ، وهي آخر دفعة تسلمها الدكتور داود الحسيني.

س: هل كان ضمن الأسلحة أشياء أخرى ترسلونها إلى فلسطين ؟

ج: كل شيء من أسلحة وذخيرة ولاسلكي وقنابل وسيارات وخلافه.

س: باعتباركم كنتم على صلة بالإخوان فهل تستطيعون أن تذكروا شيئا عن أهداف الجماعة ووسائلها وهل من بين هذه الوسائل اتخاذ العنف والإرهاب؟

ج: أعتقد أن الإخوان المسلمين هيئة إسلامية تعتنق المبادئ وتحمل دعوتها وتعمل لخير المسلمين ونفعهم، وتعمل على إنشاء جيل مصلح يعمل بمبادئ الإسلام وأخلاقه، هذا ما أعرفه عن الإخوان المسلمين ، وأعرف أن أهداف المرحوم حسن البنا و الإخوان كانت لمصلحة المسلمين خاصة ولخيرهم ولإنقاذهم مما هم فيه من ذل وبلاء ولا اعتقد أنها تعمل أي شيء يخالف الشرع من العنف والقتل والإرهاب.

س: هل تعتقد أن الاعتماد على الحكومات وحده كاف لإنقاذ فلسطين ؟

ج: الخطة التي كنت اعتقدها ولا زلت، وهي الخطة التي قررتها اللجنة العسكرية المختصة في أكتوبر سنة 1947م عند اجتماع اللجنة العربية في عالية بلبنان، كانت التعويل على أهل فلسطين في الدفاع عن بلادهم، على أن تجهزهم البلاد العربية أو الدول العربية وتدربهم وتحصن قراهم أي أن تضعهم في نفس الوضع الذي فيه الصهيونيون من حيث التحصن، ثم المتطوعون، ثم تقف الجيوش على الحدود دون أن تدخل وكانت هذه هي الخطة المثلى، ولكن حدث بعد ذلك وبعد أن شرع في تسليح أهل فلسطين تنفيذًا لهذه الخطة، أن قدمت إحدى الدول الأجنبية مذكرة تحتج فيها على هذه الخطة وبذلك وقف التسليح والتدريب، وبذلك عدل عن هذه الخطة المثلى، لأن غرض أعداء قضية فلسطين كان إبعاد العناصر المؤمنة والمستميتة في القتال، ولأن العقيدة اليهودية والعقيدة العربية عقيدتان متعارضتان فكان الإيمان بالعقيدة أول سلاح في هذه المعركة، ولهذا كان جهاد الأعداء إبعاد العناصر المقتدرة والمؤمنة والمستميتة عن ميدان القتال، وأهل فلسطين كانوا أكثر إيمانًا واستماتة في الدفاع عن بلادهم، وكذلك العناصر المؤمنة بقضية فلسطين ، مثل الإخوان وغيرهم من المتطوعين وهؤلاء قصد إبعادهم عن الميدان ولا يبقى في البلاد إلى اليهود، وبدأت السياسة تلعب دورها والمجال لا يتسع كثيرًا لشرح أساليب السياسة التي اتبعت في فلسطين .

س: هل كنتم أفضيتم للشيخ حسن البنا بهذه الخطة المثلى التي كنتم اتفقتم عليها لإنقاذ فلسطين ؟

ج: لا أذكر إذا كنت قد قلت له هذا أو لم أقله، ولكنني كلمت كل مسئول وقدمت مذكرات.

س: لما استولت الحكومة على أسلحة الهيئة العربية وقابلت النقراشي باشا بشأنها هل فهمت منه الأسباب التي دعت إلى الاستيلاء عليها؟

ج: لم أفهم منه حقيقة الأسباب وإنما أذكر أنه قال لي: إن هذه التدابير اتخذت هنا ولم تتخذ ضدكم وسنسلم لكم كل الأسلحة عند الحدود.

س: ألم تفهموا من حديث النقراشي باشا أن الأسباب هي الخوف من تسرب السلاح واستعماله في حوادث داخلية بمصر ؟

ج:لا لم يذكر لي شيئًا من هذا.

س: هل تذكرون أن أسلحة صدرت من ميناء آخر خلاف مرسى مطروح؟

ج: من بورسعيد.

شهادة سعادة اللواء أحمد فؤاد صادق باشا قائد عام حملة فلسطين

س: نريد أن نعرف رأي سعادتكم بصفتكم قائدًا عامًا لحملة فلسطين عن موقف الإخوان المتطوعين في هذه الحرب وفي ميدانها؟

ج: كانوا جنودًا أبطالاً أدوا واجبهم على أحسن ما يكون.

س: هل يسمح الباشا أن يذكر لنا وقائع معينة تدل على البطولة؟

ج: نعم سمعت بعد وصولي لرئاسة القوات في قلم المخابرات العسكرية أن اليهود يبحثون دائما عن موقع الإخوان ليتجنبوها في هجومهم، فبحثت عن حالتهم من الناحية الفنية، وأمرت بتمرينهم أسوة بالجنود ودخلوا مدارس التدريب، وأصبح يمكن الاعتماد عليهم في كثير من الأحوال التي تستدعي بطولة خاصة، مثلا: أرسلتهم من دير البلح إلى ما يقرب من 100كيلو إلى الجنوب لملاقاة الهجوم الإسرائيلي على العريش فاستبسلوا وأدوا واجبهم تمامًا، واشتركوا أيضًا في حملة للدفاع عن موقع 86 في دير البلح وأعطيتهم واجبًا من الواجبات الخطيرة فكانوا في كل مرة يقومون بأعمالهم ببطولة استحقوا من أجلها أن أكتب لرياسة مصر أطلب لهم مكافأة بنياشين، وذكرت بعضهم للشجاعة في الميدان، وبعضهم ذكر اسمه في الأوامر العسكرية، واتصلت بالحكومة في ذلك الوقت وطلبت مها مساعدة هؤلاء بأن يعطوهم أعمالا عندما يعودون ويعاونون أسرهم والحكومة ردت ووافقت وأرسلت تأخذ معلومات عنهم وكان ده تكريم الحكومة لهم.

س: هل نفذت الحكومة هذا الوعد؟

ج: ما أعرفش ولكن عندما طلبت مني اعتقالهم رفضت ووضعتهم تحت حراستي الخاصة.

س: في أي تاريخ أرسل الباشا الإخوان ليحموا العريش؟

ج: في المدة من 26 ديسمبر إلى 30 ديسمبر 1948 .

س: أمر حل الإخوان، صدر في 8 ديسمبر وتقرر سعادتكم أنكم أرسلتم هؤلاء المتطوعين في 26 ديسمبر إلى 30 ديسمبر سنة 1948 ، فماذا كانت الروح المعنوية بعد أمر الحل؟

ج: أنا جاوبت على كده وقلت إنهم قاتلوا ببسالة ولم يؤثر قرار الحل على روحهم المعنوية.

س: ما هو الدور الخطير الذي قام به المتطوعون في دير البلح؟

ج: قلت إنهم قاتلوا قتلاً مجيدًا وعندما رأيت الخطر في المعركة فاعتمادي عليهم جعلني أقدم المتطوعين من الإخوان لأنهم أحسن ما لدي من الجنود.

س: حين صدر أمر الحل للجماعة هل أخطرت به من القاهرة؟

ج: كل الناس عرفت ولم يكن هناك سبب لإخطار خاص، وأنا عرفت من الرئاسة بالتليفون ومن الجرائد. س: ما هي الشروط الواجبة في رجل العصابات؟

ج: يكون فدائيا وعلى بطولة كاملة وإلمام ببعض العمليات العسكرية كنسف الطرق ووضع ألغام في طرق العربات -مهاجمة- كمين... الخ.

س: هل زرتم معسكر الإخوان المسلمين بفلسطين ؟

ج: أنا أعطيتهم أسلحة لمقابلة العدو وذلك تكملة لسلاحهم.

س: وكيف وقع اعتقالهم؟

ج: لسبب من عملهم أنفسهم، وحتى لا يساء فهم ذلك، أقول إنهم طلبوا مني بعد أن بلغتهم حادث المرشد إقامة حفلة تأبين للأستاذ البنا ، فأنا قلت إنني لم أعمل حفلة تأبين للنقراشي وأنا هنا جندي ولا أسمح لأحد أن يشتغل بالسياسة فثاروا لهذا فأنا وضعتهم في شبه معتقل، وعوملوا معاملة كريمة لأنني أعتبرهم زملاء ميدان.


شهادة سعادة اللواء أحمد علي المواوي بك قائد عام حملة فلسطين

س: عند دخول الجيوش النظامية أرض فلسطين بقيادتكم: هل كان يقاتل فيها متطوعون من الإخوان المسلمين ؟

ج: نعم لأنهم سبقوا بدخولهم القوات النظامية.

س: من كان من المتطوعين في معسكر البريج؟

ج: كان فيه المتطوعون من الإخوان المسلمين .

س: هل استعان الجيش النظامي بالإخوان المسلمين ببعض العمليات الحربية أثناء الحرب كطلائع ودوريات وما إلى ذلك؟

ج: نعم استعنا بالإخوان المسلمين واستخدمناهم كقوة حقيقية تعمل على جانبنا الأيمن في الناحية الشرقية، وقد اشترك هؤلاء المتطوعون من الإخوان في كثير من المواقع أثناء الحرب في فلسطين وبالطبع أننا ننتفع بمثل هؤلاء في مثل هذه الظروف.

س: ما مدى الروح المعنوية بين الإخوان المسلمين ؟

ج: الواقع أن كل المتطوعين من الإخوان وغيرهم كانت روحهم المعنوية قوية جدًا وقوية للغاية. س: هل قام المتطوعون بعمليات نسف في صحراء النقب لطرق المواصلات وأنابيب المياه لفصل المستعمرات الصهيونية؟

ج: نعم وأذكر بالنسبة لروحهم المعنوية أنهم كانوا يطلبون دائما ألغامًا للنسف يقومون بدوريات ليلية يصلون فيها إلى النطاق الخارجي للمستعمرات اليهودية، وينزعون من تحت الأسلاك الشائكة الألغام التي يبثها اليهود وسط الأسلاك ويستعملونها في تلغيم الطرق الموصلة إلى المستعمرات اليهودية وقد نتج من جراء هذه الأعمال خسائر لليهود، وتقدم لي من جرائها مراقبو الهدنة يشتكون من هذه الأعمال التي كانت تعمل في وقت الهدنة.

س: وهل لم يكن عندكم ألغام؟

ج: معروف أن الجيش لم يكن عنده معدات كافية.

س: هل كلفتم المتطوعين بعمل عسكري خاص عند مهاجمتكم العسلوج؟

ج: نعم والعسلوج هذه بلد تقع على الطريق الشرقي واستولى عليها اليهود أول يوم هدنة، ولهذا البلد أهمية كبيرة جدًا بالنسبة لخطوط المواصلات، وكانت رئاسة الجيش تهتم كل الاهتمام باسترجاع هذا البلد، حتى أن رئيس هيئة أركان الحرب أرسل لي إشارة هامة يقول فيها: لا بد من استرجاع هذا البلد بالهجوم عليها من كلا الطرفين من الجانبين، فكلفت المرحوم أحمد عبد العزيز بك بإرسال قوة من الشرق من المتطوعين وكانت صغيرة بقيادة ملازم وأرسلت قوة كبيرة من الغرب تعاونها جميع الأسلحة ولكن القوة الصغيرة هي التي تمكنت من دخول القرية والاستيلاء عليها.

س: وكيف تغلبت القوة الصغيرة؟

ح: القوة العربية كانت من الرديف وضعفت روحهم المعنوية، وبالرغم من وجود مدير العمليات الحربية فيها، إلا أن المسألة ليست مسألة ضباط، المسألة مسألة روح، إذا كانت الروح طيبة يمكن للضابط أن يعمل شيئا لا بد من وجود روح معنوية.

س: ما هي الشروط الواجب توافرها في رجل حرب العصابات؟

ج: الواقع أن حرب العصابات والتدريب عليها يعتبر من أنواع التدريب الراقي والعالي الذي يجب أن يدرب عليه كل جندي، والذين يقومون بهذه الأعمال يجب أن يكونوا أذكياء جدًا ويشترط فيهم الجرأة وسرعة الاعتماد على أي قائد صغير أو كبير، والعلميات التي يقوم بها الكوماندوز لا تعمل في وضح النهار وفي حالة تساوي الطرفين لا توجد وسيلة إلا الاشتغال بالليل وبطريق التسلل وعلى كل فرد أن يعتمد على نفسه والكوماندوز فكرة حديثة استخدمت في الحرب.

س: ما هي الخواص الفنية في الدراسات الواجبة لرجل حرب العصابات؟

ج: غير الشروط التي ذكرتها يجب أن يكون الشخص ماهرًا جدًا في استخدام السلاح، ويجب أن يكون ماهرًا في استخدام الأرض ودراسة طبيعة الأرض، ويجب أن يشتغل مثل الحيوان المفترس، وهي المهارة في الميدان، ويجب أن يلم بقراءة الخرائط ويتعود على أعمال الكشافة، إلى جانب هذا لازم يعرف السباحة وتسلق الأشجار.

س: هل وجد في الجيش كوماندوز؟

ج: نعم يوجد والفكرة موجودة، وقبل خروجي كنت جمعت النواة لهذه العملية والجيش فيه حاجة قريبة من كده وهي الدوريات التي تعمل للاستكشاف.

س: هل تعرف عدد المتطوعين من الإخوان؟

ج: بلغ عدد المتطوعين من الإخوان وغيرهم عشرة آلاف.

س: هل تعلم أن متطوعي مصر معظمهم من الإخوان؟

ج: أنا أعرف أن الإخوان كانوا أكثر من الفئات الأخرى.

س: وإلى أي تاريخ استمر دخول المتطوعين إلى فلسطين ؟

ج: أنا لم أظل في الجيش لغاية آخر الحرب وإنما رجعت في نوفمبر سنة 1948 وأنا أرجعت الليبيين لأنهم لم يكن لهم فائدة بالمرة.

س: هل كان للمتطوعين أسلحة خاصة أم كانوا يستوردون أسلحة من الجيش؟

ج:كان يحضرونها بمعرفتهم وأثناء الحرب كنت أعطيهم بعض الأسلحة والذخيرة كانت تنتهي فكنت أمولهم بالذخيرة وأذكر أنه طلب مني قائد غزة أن أعطيهم مدفع هاون فأمرت بإعطائهم.

س: بعد 15 مايو إلى نوفمبر ألم يدخل متطوعون جدد؟

ج: أذكر لما ابتدأت أتقدم للشمال كان فيه الكتيبة السابعة وأنا سحبت هذه الكتيبة وحل محلها متطوعون في العريش وكان ذلك بعد 15 مايو .

س: هل كان من الجائز أن ترد أسلحة إلى المتطوعين عن غير طريق سلاح الحدود أو العريش؟ ج: لا غير ممكن.

س: ألا يذكر حضرة الشاهد أنواع الأسلحة التي يستعملها الفدائيون المتطوعون؟

ج: البندقية والرشاشات الخفيفة تومي أو الهاونات والمورتر.

س: هل كان بين هذه الأنواع القنابل اليدوية؟

ج:أيوه.


وقفة لازمة:

الاستدلال على أن قرار حل الإخوان المسلمين والعمل على إبادتهم كان قرارًا صهيونيًا مائة في المائة من واقع أقوال الشهود العظام سماحة مفتي فلسطين ، وسعادة أحمد فؤاد صادق باشا، وسعادة أحمد علي المواوي بك.

لا بد للقارئ وهو يقرأ هذه الشهادات الثلاث الصادرة أولها من شخصية سياسية عالمية لها في بلدها فلسطين مركز القيادة العليا، ولها في العالم أرفع الأدوار وأكثرها حساسية، فالكل يعرف أن سماحة مفتي فلسطين بعد أن قاتل الإنجليز قتالا مريرًا ليمنعهم من تنفيذ ما عزموا عليه لإنشاء وطني قومي لليهود في فلسطين بالقوة المسلحة، انضم إلى عدوهم الأول هتلر يستعين به عليهم، لأن عدو عدوي صديقي كما يقولون، وهذا السلوك لا يكون إلا من رجل على درجة عالية من الفقه والمكانة في السياسة الدولية، ملم بالكثير من أسرارها، أما الثانية والثالثة فهي شهادات أعلى رؤوس عسكرية في الحملة المصرية على فلسطين منذ بدأت الحرب وحتى نهايتها.

أقول لا بد للقارئ أن يقف طويلا ويتأمل هذه الشهادات الصادرة من علية المسئولين سياسيًا وعسكريًا عن قضية فلسطين ليدرك

1- إن جماعة الإخوان المسلمين قدموا آلافًا من المتطوعين الذين أعدهم النظام الخاص إلى المعركة على أرض فلسطين بكامل أسلحتهم، بشهادة سعادة اللواء أحمد علي المواوي بك إذ قال: إنهم كانوا يمثلون أكثرية المتطوعين الإخوان في الجبهة الجنوبية وحدها زاد على خمسة آلاف يقينًا لا ظنا، أما الصاغ محمود لبيب بك فقد قال في شهادته التي سنورد نصها فيما بعد: إن متطوعي الإخوان المسلمين كانوا يمثلون 90% من مجموع المتطوعين أي أنه بلغ في الجبهة الجنوبية وحدها 9000 متطوع، وأن مجموع المتطوعين من باقي الهيئات كان ألف متطوع.

2- إن الإخوان المسلمين تحملوا تكاليف تدريب هؤلاء المتطوعين حتى وصلوا إلى أعلى مراتب التفوق في الجندية بشهادة كل من سعادة اللواء أحمد فؤاد صادق باشا، واللواء أحمد علي المواوي بك.

3- إن الإخوان المسلمين بأعداد قليلة منهم احتلوا موقع العسلوج البالغ الأهمية لخطوط المواصلات تنفيذًا لتعليمات رئاسة الجيش، بينما القوات النظامية بقيادة مدير العمليات لم تستطع احتلال هذا الموقع وذلك بشهادة اللواء أحمد علي المواوي بك.

4- إن متطوعي الإخوان المسلمين كانوا يغيرون على المستعمرات اليهودية ليلاً وينزعون من حولها الألغام ليستعملوها ضدهم مما كلف الصهاينة كثيرًا وذلك بشهادة اللواء أحمد علي المواوي بك.

5- إن الإخوان المسلمين سبقوا القوات النظامية في دخول أرض فلسطين واستمروا في القتال حتى بعد قرار حل جماعتهم، وأنهم لم يردوا على عداء النقراشي باشا لهم بعداء لمصر ولا لقواتها المسلحة، بل استمروا يقاتلون بأعلى روحي معنوية رغم صدور قرار الحل وذلك بشهادة اللواء أحمد فؤاد صادق باشا.

6- إن عملية جمع السلاح والتدريب على استخدامه في مصر كان مصر حًا به من الحكومة وبكميات كبيرة لكل من الهيئة العربية العليا والإخوان المسلمين وذلك بشهادة سماحة مفتي فلسطين .

7- إن الإخوان المسلمين قد أسهموا في تسليح الهيئة العربية العليا وذلك بالتعاون مع ممثلها الشهيد عبد القادر الحسيني بك، كما أنهم سلحوا كل من تقدم إليهم بتزكية من الهيئة العربية العليا من المتطوعين الفلسطينيين، وكان إسهامهم كبيرًا ومؤثرًا وذلك بشهادة سماحة الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين .

8- إن كل الحكومات العربية قد أخذت علمًا بالخطة التي قررتها اللجنة العسكرية المختصة في أكتوبر سنة 1947 في اجتماع اللجنة العربية في عالية بلبنان، والتي تهدف إلى الاعتماد على أهل فلسطين في الدفاع عن بلادهم على أن تجهزهم البلاد العربية أو الدول العربية وتدربهم وتحصن قراهم أي تضعهم في نفس الوضع الذي فيه الصهيونية من حيث التحصين، ثم المتطوعون، ثم تقف الجيوش العربية على الحدود دون أن تدخل، وأن هذه هي الخطة المثلى لإنقاذ فلسطين .

ولكن هذه الحكومات رضخت إلى إحدى الدول الأجنبية التي تقدمت بمذكرة تحتج فيها على هذه الخطة لأن غرض أعداء قضية فلسطين كان إبعاد العناصر المؤمنة والمستميتة في القتال، وذلك بشهادة الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين .

9- إن الواقع الذي رأيناه بعد عدول الحكومات العربية عن تنفيذ هذه الخطة هو دخولها بقوات متخاذلة لتعلن هزيمة الدول العربية السبع أمام العصابات اليهودية وتؤيد إعلان إسرائيل على أرض الواقع بفضل الخطط التي وضعها قائدها العام الإنجليزي الأصل جلوب باشا، وهي خيانة لا يستطيع عاقل أن ينكرها.

10- إنه رغم هزيمة الجيوش العربية السبعة، استمر المتطوعون من الإخوان المسلمين وغيرهم في المقاومة، الأمر الذي جعل أمنية العدو الأولى هي القضاء على الإخوان المسلمين بصفتها تمثل أغلبية المتطوعين وبشرط أن يكون القضاء عليها من جذورها قضاء مبرمًا ليهدأ العدو الصهيوني وينعم ويستقر لبناء الأرض الجديدة التي احتلها دون منغصات.

وإذا كانت مقاومة الإخوان واستمرارها ببسالة حتى بعد الهدنة قد بلغ الحد الذي أزعج مراقبو الهدنة فتقدموا إلى اللواء أحمد علي المواوي يشتكون من هذه الأعمال التي كانت تعمل في وقت الهدنة وغير الهدنة، وأن هذه الأعمال ثابتة وذلك بنص شهادة اللواء أحمد على المواوي، ومعلومة للحكومة المصرية بشهادة اللواء فؤاد صادق باشا.

وإذا كانت اليد التي تقدمت لتحقيق أمنية العدو الصهيوني الأولى بالقضاء على الإخوان المسلمين من جذورهم ليطمئن ويسعد ويستقر معلومة لنا جميعًا وهي يد المرحوم محمود فهمي النقراشي باشا رئيس الوزراء المسئول عن هزيمة جيش مصر في المعركة، فبأي وصف يمكننا أن نصف دولته، خاصة إذا علمنا أن قراره بالقضاء على الإخوان جذريا لم يقتصر على الوقت الحاضر، ولكنه نص على أن لا تقوم على أرض مصر هيئة أو جماعة تدعو إلى هذه المبادئ مدى الدهر!!


نص الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 بحل الإخوان المسلمين

الأربعاء 7 صفر 1368هـ- 8 ديسمبر 1948

أمر عسكري بحل جمعية الإخوان المسلمين وجميع شعبها

بعد الاطلاع على المرسوم الصادر في 31 مايو سنة 1948 بإعلان الأحكام العرفية وعلى المادة الثالثة بند (8) من القانون رقم (15) لسنة 1923 الخاص بنظام الأحكام العرفية والقوانين المعدلة له.

وبمقتضى السلطات المخولة بناء على المرسوم المتقدم ذكره تقرر ما هو آت:

مادة (1): تحل فورًا الجمعية المعروفة باسم جماعة الإخوان المسلمين بشعبها في جميع أنحاء المملكة المصرية وتغلق الأمكنة المخصصة لنشاطها، وتضبط الأوراق والوثائق والسجلات والمطبوعات والمبالغ والأموال، وعلى العموم كافة الأشياء المملوكة للجمعية.

ويحظر على أعضاء مجلس إدارة الجمعية المذكورة وشعبها ومديرها وأعضائها والمنتمين إليها بأية صفة كانت مواصلة نشاط الجمعية، وبوجه خاص عقد اجتماعات لها أو لإحدى شعبها أو تنظيم مثل هذه الاجتماعات أو الدعوة إليها أو جمع الإعانات أو الاشتراكات أو الشروع في شيء من ذلك، ويعد من الاجتماعات المحظورة في تطبيق هذا الحكم اجتماع خمسة فأكثر من الأشخاص الذين كانوا أعضاء بالجمعية المذكورة!!!.

كما يحظر على كل شخص طبيعي أو معنوي السماح بأي مكان تابع له لعقد مثل هذه الاجتماعات أو تقديم أية مساعدة مادية أو أدبية أخرى!!!.

مادة (2): يحظر إنشاء جمعية أو هيئة من أي نوع كانت أو تحويل طبيعة جمعية أو هيئة قائمة إذا كان الغرض من الإنشاء أو التحويل القيام بطريق مباشر أو غير مباشر بالنشاط الذي كانت تتولاه الجمعية المنحلة، أو إحياء هذه الجمعية على أية صورة من الصور، كما يحظر الاشتراك في كل ذلك أو الشروع فيه!!.

مادة (3): على كل شخص كان عضوًا في الجمعية المنحلة أو منتميًا إليها وكان مؤتمنًا على أوراق أو مستندات أو دفاتر أو سجلات أو أدوات أو أشياء من أي نوع كانت متعلقة بالجمعية أو بإحدى شعبها أن يقدم تلك الأوراق والأشياء إلى مركز البوليس المقيم في دائرته في خلال خمسة أيام من تاريخ نشر هذا الأمر!!!.

مادة (4): يعين بقرار من وزير الداخلية مندوب خاص تكون مهمته استلام جميع أموال الجمعية المنحلة وتصفية ما يرى تصفيته منها، ويخصص الناتج من التصفية للأعمال الخيرية أو الاجتماعية التي يحددها وزير الشئون الاجتماعية بقرار منه.

مادة (5): على كل شخص كان عضوًا في الجمعية المنحلة أو منتميًا إليها وكان مؤتمنًا على أموال -أيا كان نوعها- تخص الجمعية أو إحدى شعبها أن يقدم عنها إقرارًا للمندوب الخاص المشار إليه في المادة السابقة في خلال أسبوع من تاريخ نشر هذا الأمر، وعليه أن يسلمها إلى ذلك المندوب في الميعاد الذي يحدده لهذا الغرض أو في تاريخ استحقاقها على حسب الأحوال!!!.

مادة (6): يجب على كل شخص طبيعي أو معنوي كانت له معاملات مالية من أي نوع كانت أن يقدم عنها إقرارًا مبينًا به طبيعة هذه المعاملات والمستندات المؤيدة لها، وما إذا كان مدينًا أو دائنًا بأي مبلغ وموعد الاستحقاق إلى غير ذلك من البيانات التي تسمح بالتصرف مع الجمعية أو إحدى تلك المعاملات، ويقدم هذا الإقرار إلى المندوب الخاص المعين طبقًا للمادة الرابعة بكتاب موصي عليه في خلال أسبوع من تاريخ نشر هذا الأمر.

ويجوز دائمًا للمندوب الخاص إلغاء جميع العقود التي كانت الجمعية المنحلة أو إحدى شعبها مرتبطة بها ولم يبدأ أو لم يتم تنفيذها دون أن يترتب على هذا الإلغاء أي حق في التعويض للمتعاقدين معها!!.

مادة (7): كل مخالفة لأحكام المواد 1، 2، 3 يعاقب مرتكبها بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد عن سنتين وبغرامة لا تقل عن مائتي جنيه ولا تجاوز ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، وذلك مع عدم الإخلال بتطبيق أي عقوبة أشد، ينص عليها قانون العقوبات أو أي قانون أو أمر آخر، فضلاً عن مصادرة الأموال موضوع الجريمة، ويجوز لرجال البوليس أن يغلقوا بالطريق الإداري الأمكنة التي وقعت فيها الجريمة!!.

مادة (8): كل مخالفة لأحكام المادة الخامسة يعاقب مرتكبها بالحبس وبغرامة قدرها خمسون جنيهًا، فإذا كانت قيمة المبلغ الذي لم يقدم عنه الإقرار المشار إليه في المادة الخامسة تزيد على خمسين جنيهًا كانت العقوبة الحبس وغرامة تعادل قيمة المبلغ المذكور، بحيث لا تزيد على 4000 (أربعة آلاف) جنيه.

مادة (9): إذا كان الشخص المحكوم عليه في إحدى الجرائم السابقة موظفًا أو مستخدمًا عموميًا أو بمجالس المديريات أو المجالس البلدية أو القروية أو هيئة عامة أخرى أو كان عمدة أو شيخًا تحكم المحكمة أيضًا بفصله من وظيفته!!.

وإذا كان طالبًا في إحدى معاهد التعليم الحكومية أو الواقعة تحت إشراف الحكومة تحكم أيضًا بفصله!! وحرمانه من الالتحاق بها لمدة لا تقل عن سنة.

مادة (10): يكون للمندوب الخاص المعين طبقًا للمادة الرابعة صفة رجال الضبطية القضائية في تنفيذ أحكام المادتين 3، 5 وله في هذا السبيل حق دخول المنازل وتفتيشها!! كما أن له أن يفوض من يندبه لهذا الغرض في إجراء عمل معين من تلك الأعمال!!.

ويعفي المندوب المذكور والمفوضون عنه وكذلك رجال الضبطية القضائية في مباشرة تلك الإجراءات من التقيد بالأحكام لهذا الغرض في قانون تحقيق الجنايات!!!.

انتهى الأمر الذي يمثل أحلى أحلام بني صهيون لأنه يحقق لهم الثأر من كل من كان عضوًا أو صديقًا أو متعاملاً مع الإخوان المسلمين في الماضي، كما يحقق لهم الأمل في أن أحدًا لن ينادي بهذه المبادئ الله غايتنا الرسول زعيمنا.. القرآن

دستورنا.. الموت في سبيل الله أسمى أمانينا، على أرض مصر إلى أبد الآبدين، ولكني أرد عليهم بقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].


شهادة الصاغ محمود بك لبيب

عضو الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين وقائد منظمة شباب فلسطين :

س: كيف بدأت حركة التطوع ومتى؟

ج: مسألة التطوع ترجع إلى سنة 1947 عندما عينتني الهيئة العربية العليا قائدًا لمنظمة شباب فلسطين فسافرت إلى هناك وأمكنني بمساعدة الهيئة العربية العليا أن أكون جيشًا ضخمًا من أهالي فلسطين ومهمته الدفاع عن أراضي فلسطين ، ولما أحس الإنجليز بذلك ورأوا أن هذه الحركة ضد اليهود الذين يتبنونهم أمروني بالخروج، فأبيت وامتنعت عن الخروج، وأخرجوني بالقوة وقد تحدثت الجرائد عن ذلك، ولما رجعت اتصلت بسماحة مفتي فلسطين ورجال الهيئة العربية العليا وأفهمتهم أن فلسطين لا ينقصها الرجال، بل ينقصها السلاح، ووجدت عندهم هذه الفكرة كذلك، فسعوا عند الحكومة كي تسمح بجمع السلام من أجل فلسطين وفي هذا الوقت صدر قرار هيئة الأمم بتقسيم فلسطين ، وثار شعور العرب وصمموا على أن تكون فلسطين عربية، فتطوع في هذه الأثناء كثيرون من رجال الإخوان المسلمين ، واتصلوا بالحكومة والحكومة أعطتهم تصاريح بجمع السلاح، وابتدأ التطوع واشترينا السلاح وأخذناه إلى العريش وهناك نصبنا معسكرًا وقد بدأ التطوع في ديسمبر سنة 1947.

س: وكيف كان يسلح هؤلاء المتطوعون وكيف كانوا يمرنون؟

ج: لما تجمعنا بالعريش حضر إلينا أحد ضباط الجيش العظام بالمعسكر وإذا به يسأل نفس هذا السؤال، فاستدعيت أحد المتطوعين وقدمته له فسأله السؤال فكان الرد كالآتي: «تسلحنا بفلوسنا»، فسأله وما صنعتك؟ فأجابه: «أنا مزارع»، فسأله وهل المزارع يستطيع أن يحضر سلاح ومؤن؟فأجابه: «إنه كان لي جاموسة بعتها وحصلت على مبلغ 52 جنيه أرسلتهم للدكتور خميس رئيس الإخوان في الدقهلية، وهو الذي اشتري لي السلاح.

س: وحين دخل المتطوعون أرض فلسطين كم كان عددهم؟

ج: في بادئ الأمر كان عددهم 300 ثم تضاعف.

س: ما هي الأعمال التي قام بها المتطوعون قبل دخول الجيوش النظامية؟

ج: كانوا يحاصرون المستعمرات اليهودية، ثم يبحثون عن مواسير المياه لقطعها ويمنعون الماء عن المستعمرات ويهاجمون القوافل اليهودية، وإنهم كانوا على الدوام يهاجمون القوافل، وأرادوا معرفة قوة المستعمرات وعملوا رسمًا كروكيًا لمستعمرة دير البلح المعروفة بالعبرية كفار ديروم، وكانت على مسافة 800 متر من جهة النصيرات وأرادوا أن يهاجموا هذه المستعمرة، وفعلا هاجموها وقد نجحوا في دخولها واستشهد بعضهم، وقد كان هذا الهجوم من نوع الاستكشاف وهذا يحصل دائما في حروب العصابات، وقد استشهد في هذه المعركة 12 مجاهدًا وجرح كثيرون وبعد هذه المعركة اتصلت بصالح حرب باشا والمرحوم المرشد العام بصفتهم عضوين في هيئة وادي النيل، ورئيسها علوبة باشا كي يتصلوا بالحكومة ووزير الحربية ليعطوا المتطوعين قشلاق للتدريب، كما فعلت سوريا في شمال أطنة وتكلموا مع علوبة باشا في الموضوع، علوبة باشا اتصل بحيدر باشا فوعده أنه سيوجد معسكر للتدريب وتوجهت أنا والمسيري بك إلى الهايكستب، وهناك أخذنا المعسكر الذي سيجري فيه التدريب وابتدأ بعد ذلك التطوع بأوسع مدى، والحكومة عينت في المعسكر مدربين من الجيش ونادت هيئة وادي النيل بالتطوع، وكان أكثر المتطوعين من الإخوان إذ بلغوا 90% من المتطوعين جميعًا وفعلاً توجهوا إلى المعسكر وتدربوا تدريبًا عمليًا كاملاً وانضموا لإخوانهم في فلسطين .

س: علام كان يتدرب المتطوعون في هايسكتب في المكان الرسمي الذي أعدته الحكومة فعلا؟

ج: كان يتدرب المتطوعون على حرب العصابات وحرب العصابات ترجع إلى زمن بعيد إذ يرجع أمرها إلى قدماء المصريين، ثم الفرس، ثم العرب، وإنما لم تكن بنظام وفن، ولما تقدمت العلوم والفنون أصبحت حرب العصابات فنًا وكلما تقدم العلم وتقدم الفن تقدم معه كذلك فن حرب العصابات نضرب مثلاً -لما اخترع نوبل الرجل السويدي الديناميت- تقدم فن حرب العصابات لوجود المتفجرات- وثانيًا لما تقدم فن الطيران سمعنا أن النازيين أنزلوا رجالاً فنيين ومعهم خرائط وبسكلتات- ولما تقدم فن البحرية سمعنا أن في اليابان الطوربيد الحي، والفدائي لا بد له من معلومات وتدريس ناحية روحية وناحية عملية، فنحن نجد النازية والفاشية تربي ناحية الفدائية، وكذلك في الإسلام تربى هذه الناحية عن طريق الدين، ولابد للفدائي أن يتربى على الألعاب الرياضية من مصارعة وملاكمة وألعاب أكروباتية، ولابد له من ثقافة فيتعلم فن الطوبوغرافيا، وفن الاستراتيجيات وفن الهندسة وطبيعة الأرض، وكذلك يتعلم شيئا من الهندسة الميكانيكية لكي يمكنه أن يتسلل إلى مبنى الكهرباء الخاص بالإضاءة، فيعطل ماكينتها أو إلى مبنى شركة المياه فيفك عدادها، فلابد للفدائي من تعلم هذه الأشياء، والفدائي إما فدائي لنفسه أو فدائي لأمته، والأولى هي لإشباع هوايته ورغبته، والثانية هي الفدائية المثالية الكاملة الفاضلة، والإخوان المسلمون كانوا من الطراز الثاني أي من الفدائية الكاملة الفاضلة، لأنهم عندما سمعوا عن فلسطين وعما يحدث فيها تقدموا متطوعين، ثم أخذوا قسطهم من التدريب والتعليم في الهايكستب.

وفي الهايكستب تلقوا في المعسكر كيف ينسف المنزل، وكيف يتسلل إلى عمارة، وكيف يحارب حرب شوارع، وكيف يصنع الديناميت والألغام، كل هذا مما يتمرن عليه الفدائي أو ما يسمونه الكوماندوز.

س: وهل كانوا يتدربون على المخابرات أيضًا؟

ج: نعم على كل شيء يفيد الجيش المهاجم، فمثلاً لازم يعرف ما هو عدد رجال العدو ومن يناصرونه في داخل البلاد.

س: وهل حضرت أنت الدراسات أو كنت تسمع بها؟

ج: أنا رحت الهايكستب وعملوا أمامي تجارب وكنت كل وقت أكون معهم.

س: وكم مرة ترددت على الهايكستب مدة التطوع؟

ج: ترددت 6 مرات في مدة التطوع.

س: وأين كان مركزكم أنتم في ذلك الوقت؟

ج: نحن زرعنا قواتنا لمحاصرة المستعمرات اليهودية التي يمر عليها الجيش على أبعاد متفاوتة، وعملنا على وضع الألغام في الطرق المجاورة للطريق الرئيسي الذي يمر منه الجيش.

وفعلاً مر الجيش ولم تطلق أي رصاصة واحدة من المستعمرات عليه، ولما دخل الجيش غزة كان معهم متطوعون وتسلم القيادة المرحوم أحمد بك عبد العزيز واحتلوا العوجة والعسلوج وبير سبع والفالوجة وعراق المنشية وبيت جبريل والخليل وبيت لحم، ودخلوا في حدود القدس الجديد 3 كيلو وحصل هذا كله في مدى 12 يوما وأصبح جميع النقب تحت إشراف الإخوان المسلمين .

وقبل دخول الجيش بثلاثة أيام أو أربعة عملنا معركة وذلك في يوم 11 مايو ، هذه المعركة تدل على مدى قوة ومتانة المتطوعين الروحية والمادية، فقد علمنا بوجود المصفحات اليهودية في مستعمرة اسمها «المشبه» تبعد عن غزة بحوالي 20 كيلو للجنوب الشرقي فراقب الإخوان هذه الحركة طوال الليل، وفي الصباح بدأت قافلة المصفحات تتحرك، فخرج المتطوعون «بالبويز» وهي عبارة عن مدافع ضد المصفحات، وما أن تقدمت المصفحات حتى فتحت عليها النيران من كل الجهات، وفي خلال فترة وجيزة كان الفدائيون مسيطرين على الصهيونيين وأخذ الصهيونيون في التسلل فمنهم من قتل ومنهم من نجا، وحضر سواقو الإخوان وقادوا المصفحات ومعي الآن صور لهذه المصفحات، وأخرج الشاهد من جيبه خمس صور واطلعت عليها المحكمة وأعيدت إليه ثانيًا.

س: وماذا كان عملك أنت بعد حضور أحمد عبد العزيز وتسلمه القيادة بالذات؟

ج: كنت قائدًا معه.

س: ومن كلفك بقيادة الإخوان؟

ج: أنا تطوعت بنفسي والهيئة العربية كلفتني بقيادة الإخوان وغيرهم.

س: وهل كنت تأخذ أجرًا على ذلك؟

ج: لا.

س: هل كنت من الإخوان؟

ج: نعم والحمد لله.

ولما دخل الجيش ووصل الإخوان بيت لحم ودخلوا ثلاثة كيلو داخل حدود القدس الجديدة كانت هناك مستعمرة يهودية كان لا بد من أخذها اسمها مستعمرة «رامات راحيل» فأمر أحمد بك عبد العزيز أن يستولي عليها الإخوان، وهذه المستعمرة كبيرة وكانت تمون القدس باللبن والدواجن، وقد تسلق الإخوان المستعمرة لأنها كانت في مستوى عال واحتلوها وإذا بهم يفاجئون ببعض جنود شرق الأردن وقد أخذوا في السلب والنهب، ولذلك فكر الإخوان في أن الصهيونيين لا بد لهم من العودة، فتركوا المستعمرة لجيش الملك عبد الله، وارتد الصهيونيون واستولوا عليها، وصمم أحمد عبد العزيز على أخذها مرة أخرى، وفعلا استولى عليها الإخوان.

س: بعد ما دخلت الجيوش العربية النظامية فلسطين ، وأصبح القتال لهذه الجيوش، ثم حدث في نوفمبر سنة 1948 أن حوصرت الفالوجا الحصار المعروف، هل طلب إليك باعتبارك قائدًا للمتوطعين من الإخوان أن تجمع فرقتين من الإخوان وذلك في نوفمبر سنة 1948 ، وكان القصد من جمع الفرقتين هو فك حصار الفالوجا، وأن هذا كان بناء على خطة حربية مرسومة رؤى فيها أن الإخوان المسلمين خير من يعهد إليهم في فك هذا الحصار؟

ج: نعم حصل ذلك في أوائل نوفمبر سنة 1948 ، أرسل لي عزام باشا أن أحضر للجامعة العربية فتوجهت إلى هناك وقابلني الأميرالاي أحمد بك منصور ضابط الاتصال، وسألته عن سبب دعوتي؛ فأخبرني برغبتهم في جمع المتطوعين وأن الأومباشي حسن مصطفى مندوب الهايكستب حاضر لهذا السبب، وحضر الأوبماشي حسن مصطفى وطلب كتيبتين من 1600 من المتطوعين، وسألته هل يريدهم من كل صنف؟ فقال لي: إنه يريدهم من صنف واحد فقط هم الإخوان المسلمين بالذات. قلت له: ممكن، فأفهمني أن المسألة مستعجلة لأننا سندربهم في حوال 15 إلى 20 يومًا على الأسلحة لفك الحصار عن الفالوجا، فقلت له: «ممكن وميسور» وأخذني معه لوزارة الحربية وهناك قابلني البمباشي صلاح صبري وعرفني أنه مدير مكتب الوزير، وقد عرفه بي وسألني هل أخبروك عن المأمورية، قلت له: «مستعدين» وأخذوا بعضهم وقاموا غابوا مدة عشرة دقائق، ثم عادوا إلي وسألوني عن موعد حضور المتطوعين، وكان ذلك في يوم أحد. قلت لهم: «يوم الخميس يكونون في الهايكستب»، وقصدت مركز الإخوان وطلبت واحدًا من كل شعبة بشرط أن يكون غير متزوج وغير مرتبط بأي مسئولية أو تبعة، وفي مساء الأربعاء اتصلت بي جميع المناطق تليفونيًا وسألوني عن مكان التدريب وفي صباح الخميس علمت أن دولة النقراشي باشا رفض هذا الطلب!!!

س: وهل أعطى الإخوان المتطوعون بعض المتفجرات إلى الجيش المصري عند دخوله فلسطين ؟

ج:نعم أذكر أن الجيش طلب منا بعض المتفجرات، وأخذوا المتفجرات وقنابل يدوية وإنما لا أذكر التاريخ بالضبط.

س: وهل كان الإخوان يرسلون منشورات ومطبوعات إلى قواتهم المتطوعة في ميدان القتال؟ ج: نعم.

س: ما هو مضمون هذه المنشورات؟

ج: كلها تحث على الجهاد والقتال.

س: ظهرت فكرة عند الإخوان في سنة 1948 لجمع ملابس ومؤن وغير ذلك من طبقات الشعب المختلفة لإغاثة اللاجئين. فهل تعرف شيئا عن كيف نشأت هذه الفكرة وعن مصيرها؟

ج: لما كنا في المعسكرات وكنا نرى اللاجئين في حالة بؤس لا يمكن تصورها، وكان المتطوعون يقسمون طعامهم بينه وبين اللاجئين، حتى أن بعض رجال الجيش انتقدوا هذا التصرف وقالوا إنهم مجاهدون فلا يجوز لهم أن يضعفوا أنفسهم بهذه الطريقة، ولذلك نبتت فكرة قطار اللاجئين وذلك بأن يقوم قطار من أسوان لغاية مصب النيل ليجمع من أهل المروءة والشهامة ما يزيد على حاجتهم من أي شيء، واتصل الإخوان برجال الحكومة وأخذوا تصريحًا من دسوقي أباظة باشا وزير المواصلات بذلك، وأما في القاهرة فقد أطلق الإخوان عدة عربات تجوب القاهرة وإذا بهم يفاجئون بأن وزير الداخلية أمر بالامتناع عن هذا العمل المزدوج!!! وكان لهذا الأمر أسوأ تأثير في النفوس لأن الأمر كان مقصودًا به الإخوان.

س: حضرتك ذكرت أن المتطوعين كانوا يمنحون تصاريح بجمع أسلحة ومؤن لفلسطين . فهل كان الأمر كذلك بعد 15 مايو أي بعد دخول الجيوش النظامية فلسطين ؟

ج: نعم- كان الإخوان يتسلحون بوسائلهم الخاصة.

س: ومن أي طريق كانت الذخيرة ترد للمتطوعين؟

ج: كانت الذخائر ترد لهم بوسائلهم الخاصة ومن مالهم الخاص.

س: بأي وسيلة كانت تنقل الذخائر إلى فلسطين بعد دخول الجيوش النظامية؟

ج: كان مصر حًا لهم بذلك وكان معهم تصاريح وكانت الأسلحة ترد من الصحراء على مصر ومنها على القنطرة مباشرة.

س: ومن الذي يوصل هذه الأسلحة؟

ج: يحضر متطوعون جدد ومعهم الأسلحة.

س: هل سافر أحد من متطوعي الإخوان إلى فلسطين بعد 15 نوفمبر سنة 1948 بعد ضبط السيارة؟

ج: نعم سافر الإخوان من القاهرة بالطيارة بناء على طلب مستعجل ولا أعرف عددهم.

س: كم طيارة سافرت؟

ج: راحوا على دفعتين ولا أعلم عدد الطيارات، في الأولى سافروا على عمان ومن هناك نزلوا بيت لحم، وفي ثاني دفعة سافروا بالطيارة أيضًا فمنعتهم حكومة شرق الأردن من النزول فعادوا ثانية إلى مصر !!! س: من الذي استدعاهم؟

ج: قيادة بيت لحم.

س: لأي غرض استدعوا؟

ج: كانوا في شدة الحاجة إليهم والحالة كانت متحرجة.


وقفة لازمة:

يجمل بنا لكي لا ننسى أن نضع تحت أنظار القارئ الكريم، الحقائق التي اتضحت إلى الآن من واقع شهادة الشهود الأربعة الكبار، والتي تدمغ محمود فهمي النقراشي باشا بالوقوف إلى جانب العدو صراحة في حرب فلسطين رغم أدعائه بإعلان الحرب عليه:

1- إن دولة النقراشي باشا رضخ مع غيره من الحكام العرب إلى المذكرة التي قدمتها إحدى الدول الأجنبية تحتج فيها على خطة اللجنة العسكرية المختصة في أكتوبر سنة 1947، والتي كانت تقضي بوجوب التعويل على أهل فلسطين في الدفاع عن بلادهم، على أن تجهزهم البلاد العربية أو الدول العربية وتدربهم وتحصن قراهم، أي تضعهم في نفس الوضع الذي فيه الصهيونيون من حيث التحصين، ثم المتطوعون، ثم تقف الجيوش على الحدود دون أن تدخل، وذلك بقصد إبعاد العناصر المؤمنة والمستميتة في القتال، ولأن العقيدة اليهودية والعقيدة العربية متعارضتان، والسلاح الأول في الحرب بينهما هو الإيمان والعقيدة، وذلك بشهادة الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ، وقد أضاف الصاغ محمود لبيب أن الدولة الأجنبية صاحبة المذكرة هي إنجلترا.

2- إنه بدلا من تنفيذ هذه الخطة دخل النقراشي باشا الحرب بجنود تنقصهم العقيدة والسلاح مجتمعين، وذلك لتأكيد الاستسلام للعدو فور دخول الحرب، فقد قال اللواء أحمد على المواوي بك قائد عام حملة فلسطين في إجابته على سؤال المحكمة: وكيف تغلبت القوة الصغيرة من المتطوعين على اليهود؟ بالنص التالي:

القوة الغربية «يقصد القوة المشكلة من الجيش المصري لأنها كانت تتقدم على المحور الغربي» كانت من الرديف، وضعفت روحهم المعنوية، وبالرغم من وجود مدير العمليات الحربية فيها، إلا أن المسألة ليست مسألة ضباط، المسألة مسألة روح، إذا كانت الروح طيبة يمكن للضابط أن يعمل شيئًا، لا بد من وجود روح معنوية».

هذا عن فقدان الروح المعنوية لدى القوات التي اختارها النقراشي باشا لدخول الحرب رضوخًا لاحتجاج الدولة الأجنبية، أما عن قلة العتاد، فقد أقر به سعادة اللواء أحمد بك المواوي على أنه حقيقة معلومة للجميع، وذلك عند سؤاله. وهل لم يكن عندكم ألغام؟ أجاب معلوم أن الجيش لم يكن عنده معدات كافية وأضاف الصاغ محمود لبيب أن الجيش طلب من الإخوان متفجرات وقنابل يدوية (راجع شهادة الصاغ محمود بك لبيب).

يا للهول!! قائد دولة عربية كبرى يشترك في منع تنفيذ الخطة المثلى لتحرير فلسطين ، ويدفع بدلا منها بقوات انعدمت عندهم الروح المعنوية والسلاح، فماذا يمكن أن تكون النتيجة؟.

3- عندما أغارت القوات الفدائية الصغيرة التي دخلت أرض فلسطين دون أن يكون للنقراشي باشا حيلة في ذلك، فلم يكن في وسعه منعها وهو يدعي أن سيدخل الحرب بجيش مصر ، ثقة منه أن مثل هؤلاء المتطوعين لن يستطيعوا تغيير النتيجة، التي حرصت عليها الدولة الأجنبية وهي تسلم فلسطين للعدو دون قتال، ماذا عمل النقراشي باشا، وماذا عمل غيره؟

(أ) استولت الحكومة المصرية على أسلحة وذخائر من مخازن الهيئة العربية العليا في حلمية الزيتون وفي المرج، وكان للهيئة العربية العليا مخازن متعددة في الزيتون والمرج، ولها مصانع، وكذلك استولت الحكومة على بعض مخازن مرسى مطروح، ولم تسلم إليها على الرغم من وعد النقراشي باشا لمفتي فلسطين بذلك، وذلك بنص شهادة مفتي فلسطين .

أليست هذه مساعدة للعدو لينتصر؟وقد أجاب سماحة مفتي فلسطين على سؤال آخر بقوله كان للهيئة العربية العليا في العريش ورفح بعض ملابس وخيم ومهمات وأحذية وخلافه أيضا أخذتها الحكومة المصرية برسم أمانة ولم ترد الأمانة.

يا للهول!! قائد دولة عربية كبرى يجرد المتطوعين الفلسطينيين من سلاحهم وملابسهم وخيامهم وأحذيتهم خدمة للعدو الصهيوني، برغم إعلانه الحرب عليه،هذا بالإضافة إلى قضائه المبرم على متطوعي الإخوان المسلمين .

(ب) عندما استصرخت القوات المسلحة في فلسطين تتطلب متطوعين من الإخوان استجاب الإخوان وتم إرسال المتطوعين بالطائرات إلى الجبهة.

ماذا كان موقف كل من النقراشي باشا وموقف حكومة شرق الأردن؟

رفض النقراشي باشا طلب القوات المسلحة إرسال كتيبتين من الإخوان المسلمين بعدد 1600 متطوع بعد أن أعدهما الإخوان بناء على طلب عزام باشا الذي أكده البمباشي صلاح صبري مدير مكتب وزير الحربية في مصر واشترط أن يكونوا جميعا من الإخوان المسلمين ، وأن المسألة مستعجلة جدًا لفك الحصار عن الفالوجا.

أما حكومة شرق الأردن فقد منعت المتطوعين الذين وصلوا بالطائرة إلى عمان بناء على طلب قيادة بيت لحم وعادوا ثانية إلى مصر .

يا للهول!! تصرخ القوات المسلحة بطلب نجدات من المتطوعين المسلحين بالعقيدة، ويستجيب الشعب، ولكن يرفض رئيس حكومة مصر سفرهم، وترد حكومة شرق الأردن إلى مصر من وصل منهم فعلا إلى الأردن بالطائرة، وذلك بنص شهادة الصاغ محمود بك لبيب.

أليس هذا تنفيذ عملي لاحتجاج الدولة الأجنبية على خطة اللجنة العسكرية المختصة وهي تقضي بإبعاد العناصر المؤمنة عن المعركة؟

إن الخيانة في هذه الإجراءات مادية لا سبيل إلى إنكارها هذا فضلا عن الخيانة المستترة بقبول جلوب باشا قائدًا للقوات العربية ممثلة في دولها السبعة ليحقق بها الهزيمة الشنعاء للأمة العربية، وتسليم فلسطين للأعداء دون قتال، اللهم إلا بعض العمليات البطولية التي قام بها المتطوعون، وبخاصة الإخوان المسلمين ، واعترفت بها قيادات الجيش في شهادة اللواء أحمد فؤاد صادق، واللواء أحمد علي المواوي بك وهي غنية عن أي تعليق.


شهادة الأستاذ محمد حامد أبو النصر المرشد الرابع للإخوان المسلمين

الأستاذ محمد حامد أبو النصر عضو مجلس بلدي منفلوط وعضو الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين، ثم عضو مكتب الإرشاد للإخوان ثم المرشد العام الرابع للإخوان المسلمين:

س: هل ساهمت في جمع الأسلحة لحرب فلسطين ؟

ج: نعم في أواخر 1947 وجهت إلي الدعوة من حضرة صاحب الفضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين واجتمعنا في المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين بالقاهرة، وتقدم لنا الشيخ صبري عابدين عضو الهيئة العربية العليا وممثل سماحة مفتي فلسطين الخاص، وذكر لنا الحوادث التي تقع في فلسطين ، وأبان لنا الفظائع، التي ترتكب فيها وطلب منا أن نعاون المجاهدين، وذلك بشراء الأسلحة، والتبرع بها كل على قدر استطاعته، وطبعًا أثار فينا الحمية وأبكانا مما يقع في فلسطين ، وانصرفنا كل إلى بلده وأخذت اتصل بالناس الذين أعرفهم من العرب بالصحراء الغربية، واتصلت بواحد منهم اسمه الشيخ محمد حمد رمضان شيخ عرب بني شعران، بمركز منفلوط ليجمع لنا أسلحة، وبالفعل أحضر كمية من الأسلحة، وقد علم بوليس منفلوط بهذا ووضع يده على الأسلحة، وقبض على الشيخ محمد حمد رمضان وقدمه للنيابة، فتقدمت أنا لحضرة وكيل النيابة وقلت له: «إن هذا السلاح نجمعه من أجل فلسطين ».

فسألني عن دليل، قلت له: «لا بأس اتصل بأعضاء الهيئة العربية وسماحة المفتي، وأجل النظر في القضية، فأعطانا فرصة، وسافرت إلى القاهرة حيث قابلت فضيلة المرشد العام للإخوان وقصصت عليه المسألة فاتصل بسماحة المفتي وأبلغه بالأمر، فاتصل سماحته بسعادة عبد الرحمن عزام باشا، وأظنه اتصل بالمرحوم دولة النقراشي باشا، وأظنه اتصل بسعادة النائب العام، فأفرج عن الشيخ محمد حمد رمضان، وقد كان يحضر التحقيق معنا حضرة الأستاذ طاهر الخشاب بك المحامي، وحفظت القضية وسلم السلاح للهيئة العربية.

س: وما مقدار هذه الصفقة من الأسلحة وما هو ثمنها؟

ج: علمت أن هذا السلاح حوالي 40 من البنادق ومسدسات لا أعلم عددها ونظارة للجيوش ومدفع.

س: في أي تاريخ حصلت هذه الواقعة التي ذكرتها؟

ج: حصلت على ما أتذكر في شهر يناير سنة 1948 .

س: وما مقدار ثمن هذا السلاح.

ج: أنا دفعت للشيخ محمد حمد رمضان حوالي مبلغ 300 جنيه.

س: هل تعرف قيمة الثمن المتفق عليه؟

ج: كان مقدرًا في ذلك الوقت بمبلغ ثلاثة أو أربعة آلاف جنيه، إنما أنا دفعت مبلغ 300 جنيه ولا أعرف كيف دفع الباقي.

س: وفي أي وقت وجهت إليك الدعوة للاجتماع بالإخوان؟

ج: على ما أذكر سنة 1947 ولا أتذكر الشهر.

س: ومن أتم جمع الأسلحة؟

ج: أحضرت السلاح قافلة وصلت قبيل وصول الضابط بحوالي أربعة أيام تقريبًا.

س: وفي أي وقت حصل اتصالك بالمرشد العام؟

ج: في أوائل يناير.

س: وهل أنت من جماعة الإخوان المسلمين ؟

ج: نعم ولا أزال.

س: وهل هناك حوادث أخرى خاصة بجمع الأسلحة؟

ج: لما أفرجت عن الأسلحة بالطبع هذا شجعني وقصدت بني مزار وتجولت في بعض القرى المجاورة، واتصلت بجماعة من الأعراب وجمعت سلاحًا بالثمن، وأثناء الجمع حضر الأستاذ فوزي عبد اللطيف وكان معاون بوليس بني مزار، وسألني ماذا تصنع؟ قلت له: أجمع سلاحًا لفلسطين ، فأخذني ومعي الأسلحة في لوري وذهبنا إلى المركز وشرحت المسألة لحضرة المأمور، وهذه الحادثة حدثت حوالي شهر مارس سنة 1948 أو شهر أبريل سنة 1948 ، وقلت له إن السلاح لفلسطين .

وقال هو: «أنا سأصادره» فاتصلت بالشيخ حسن البنا وأبلغته بالواقعة، وقال لي سأرسل أحمد حسنين أفندي (المتهم الخامس في هذه القضية وعضو المجموعة القيادية للنظام الخاص) لاستلام الأسلحة ودفع النقود، وفي الوقت نفسه كنت أنا كلفت بعض العرب من بني مزار، بجمع أسلحة، وفي هذه الأثناء حضر لي الذي كنت قد كلفته وقال لي إن الأسلحة ضبطت في نقطة الحدود عند «صندفا الفار» فذهبت لمقابلة ضابط النقطة، فلم أجده وأخيرًا حضر في اليوم التالي أحمد حسنين وهو الشخص الذي وعد المرشد العام بإرساله وقابل حضرة المأمور وأخذ كشفًا بالمضبوطات، وقال للمأمور: «صدرها لنا إلى القاهرة ونحن نستلمها من هناك» وفعلا صدرت واستلمها في القاهرة وأعطى ثمن هذه الأسلحة إلى الأعراب الذين أحضروها، وهذه الحوادث هي التي ضبط فيها السلاح فقط، أما أنا فقد واصلت جمع الأسلحة ولم تضبط معي بعد، لأن شخصيتي أصبحت معروفة.

س: ما هو تاريخ آخر أسلحة ضبطت؟

ج: في شهر أبريل سنة 1948 م.

س: ومن كان يدفع ثمن هذه الأسلحة؟

ج: الهيئة العربية لأن الأسلحة كانت تجمع لحسابها.

س: هل هناك سلاح جمع بعد دخول الجيش النظامية أرض فلسطين ؟

ج:أذكر حادثة- لما حوصرت القدس، دخلت مرة لأقابل فضيلة المرشد العام في مركز الإخوان، فقال لي: «إن القد قد حوصرت، وسيضع الصهيونيون أيديهم عليها، فالموقف يحتم علينا جمع أكبر مقدار من الأسلحة والرجال حتى لا تسقط، وأنا سأصدر التعليمات للإخوان أن يجمعوا ما يمكنهم جمعه من الأسلحة وسأتولى أنا قيادة كتيبة المتطوعين للقدس»، وأخذنا نجمع الأسلحة.

س: هل هذا حصل بعد دخول الجيوش النظامية فلسطين أم قبله؟

ج: بعد تاريخ دخولها أي في شهر يونيو أو يوليو وهذا مؤكد.

س: متى انتهى نشاط جمع الأسلحة؟

ج: تقريبًا في شهر يوليو سنة 1948 ، ولم تجمع الأسلحة بعد ذلك.

س: والأسلحة التي ضبطها المأمور صدرت لمن في القاهرة؟

ج: المأمور الذي صدرها لأن أحمد حسنين أفندي هو الذي قال له صدرها لنا لمصر ولكن لا أعرف باسم من صدرت.


شهادة الحاج حسن حسني المنياوي

س: أذكر لنا كيف بدأ نشاطك من أجل التطوع لفلسطين ؟

ج: تطوعت في ديسمبر سنة 1947 في حرب فلسطين لغاية أبريل سنة 1948 .

س: وهل كانت طول هذه المدة في فلسطين ؟

ج: نعم وإنما حضرت مرة واحدة لمصر في شهر فبراير سنة 1948 ومكثت بها ستة أيام فقط، ثم عدت لفلسطين وكان سبب حضوري لبعض طلبات الأسلحة والذخائر وأخذت في جمعها في تلك الأيام من الأرياف، وجمعتها ثم سلمتها للهيئة العربية العليا وسافرت لفلسطين ، ثم تسلمتها هناك.

س: وهل استأذنت المسئولين في الحكومة المصرية في جمع هذه الأسلحة؟

ج: نعم استأذنتها: لما صدر قرار التقسيم في شهر ديسمبر سنة 1947 انتظرت حتى يفتح باب التطوع فلم أجد أحدًا تطوع من الهيئات إلا جماعة الإخوان فقصدت فضيلة المرشد العام وكاشفته بغرضي، فقال لي: ينقصنا الأسلحة. قلت له: ممكن جمعها من الأرياف. فقال لي: «تعالى هنا باكر» وفي اليوم التالي قابلته فسلمني خطابًا من عزام باشا إلى الأميرالاي محمد يوسف بك الخاص بالشئون العربية ومضمون هذا الخطاب: حامل هذا موضوع محادثتنا التليفونية، فذهبت لمحمد يوسف فسألني: «حاتجمع السلاح منين؟»، فقلت له: من الأرياف، فقال لي: «أجمع الأسلحة وإذا حصل أي شيء فأنا موجود، والذي تجمع سلمه للهيئة العربية العليا».

س: متى كان الحديث الذي دار بينك وبين الشيخ حسن البنا ؟

ج: في أواخر ديسمبر سنة 1947 بعد قرار التقسيم.

س: متى نفذت جمع الأسلحة بعد هذا الحديث؟

ج: ما بين 25 ديسمبر سنة 1947، وبقيت أجمع من كل البلاد بأي ثمن.

س: ومتى انتهى نشاطك؟

ج: في شهر أبريل سنة 1948 لأني أصبت.

س: ولما توجهت لمحمد يوسف بك هل كنت بمفردك؟

ج: كان معي شخص آخر وأظنه من الإخوان.

س: ومن كان يدفع الثمن؟

ج: كنت أدفع من مالي الخاص وقد دفعت 1500 جنيه شخصيًا، وكنت أترقب هذه الحالة للاستشهاد واستعديت لهذه العملية من سنة 1936.

(هنا استأذن أحمد محمد حسنين أفندي المتهم الخامس في سؤال الشاهد فأذنت له المحكمة).

س: هل تسلمت خطاب عزام باشا من فضيلة المرشد العام أم من عزام باشا؟

ج: إن الذي سلمني الخطاب هو المرشد، والخطاب من عزام باشا إلى محمد بك يوسف.

س: ومبلغ ال1500 جنيه ثمن الأسلحة التي اشتريتها وتبرعت بها دفع دفعة واحدة أم على مرات؟ ج: لا على دفع.

س: ولمن تبرعت بهذا التبرع؟

ج: أنا اشتريت أسلحة وتبرعت بها للهيئة العربية.


وقفة لازمة:

يتضح من شهادة كل من الأستاذ محمد حامد أبو النصر والحاج حسن حسني المنياوي والصاغ محمود لبيب بك، أن هيئة وادي النيل التي كان يرأسها حينئذ علوبة باشا، وكان صالح حرب باشا والمرحوم الأستاذ حسن البنا المرشد العام عضوان بها، كانت مختصة بالاتصال بالحكومة ووزير الحربية في تسهيل أعمال تسليح وتدريب المتطوعين، كما أن الجامعة العربية وأمينها العام عزام باشا كانت تؤمن للمتطوعين التصريح بجمع الأسلحة، وبناء على ذلك كان البوليس إذا ضبطت أي دفعة من الأسلحة المشتراة يتم الاتصال بهاتين الجهتين للإفراج عن الدفعة المضبوطة وتسليمها فورًا للمتطوعين.

كما شهد سماحة مفتي فلسطين بأن الهيئة العربية كانت تأخذ الرخص بجمع السلاح من هيئة وادي النيل التي كان منوطًا بها أن تعطي رخصًا وشهد سماحته أن معظم الأسلحة كانت تأتي من الصحراء الغربية وأن محمود الصباغ (مؤلف هذا الكتاب) كان من بين من استعان بهم عبد القادر الحسيني بك في جمع الأسلحة وأنه اشترى صفقات بلغت نحو ثلاثة آلاف جنيه.

وتبين هذه الشهادات الثلاث أن كميات الأسلحة التي جمعها الإخوان لصالح حرب فلسطين كانت ضخمة وأنها كانت تخصص لكل المتطوعين، سواء من الهيئة العربية أو من الإخوان المسلمين ، حيث إنه إذا كان الإخوان المسلمون قد أسهموا بدفع ثمن أسلحة وإهدائها للهيئة العربية العليا، فمن باب أولى أنهم دفعوا ثمن كل الأسلحة التي جمعوها لاستخدام متطوعيهم البالغ عددهم في الجبهة الجنوبية وحدها 9000 مقاتل من مالهم الخاص.

فهل يبقى هناك أي وجه للاتهام إذا ضبطت السلطات بعض الأسلحة والذخائر في عزبة الإخوان بالإسماعيلية أو في سيارة الإخوان الجيب بالعباسية؟ أو أن الأمر في هذه الحالة لا يكون إلا افتراء على الحق وإمعانًا في الضلال للتمهيد بتقديم الخدمة الكبرى للأعداء وهي حل الإخوان المسلمين والقضاء عليهم قضاء مبرمًا؟

إنني أشعر إن إجابة هذا السؤال واضحة للعيان ولا تحتاج مني إلى تسجيل وبقى أن أسجل في هذا الموقع دوري في جمع الأسلحة سواء لمتطوعي الهيئة العربية العليا أو لمتطوعي الإخوان المسلمين ، حيث قد ورد اسمي مشيرًا أنني اشتريت صفقات كبيرة من السلاح للهيئة العربية العليا بشهادة سماحة مفتي فلسطين ، فالحقيقة أنني لم أكن أمثل نفسي في هذا العمل، بل كنت أمثل النظام الخاص في الإخوان المسلمين ، وذلك على النحو الآتي:

دور النظام الخاص في جمع الأسلحة والمفرقعات لحرب فلسطين ودور الحكومة في تيسير هذا العمل الهام:

اهتم النظام الخاص بالتوصية التي صدرت من الصاغ محمود لبيب بك بصفته قائدًا لمنظمة شباب فلسطين سنة 1947، والتي تأيدت من سماحة مفتي فلسطين ورجال الهيئة العربية العليا وفحواها، إن فلسطين لا ينقصها الرجال، بل ينقصها السلاح، كما هو ثابت في أول فقرة من فقرات شهادة الصاغ محمود بك لبيب في القضية، حيث صدرت إليه تعليمات فضيلة المرشد العام ببذل قصارى الجهد لتحقيق طلب الهيئة العربية العليا في تسليح متطوعيها، وهم قادرون بإذن الله في حالة تسليح كل منهم ببندقية على تحرير بلادهم، وتم تعيين ضابط اتصال بين جماعة الإخوان المسلمين وبين الهيئة العربية العليا في شئون التسليح لصداقتي وزمالتي بالشهيد عبد القادر الحسيني بك.

وكان ممثل الهيئة العربية العليا في جمع السلاح وهو الشهيد عبد القادر الحسيني بك يساعده أحد التجار الفلسطينيين ويدعى الحاج عبد الفتاح التميمي الذي كان يمثل المسئول المالي للهيئة العربية في شئون التسليح.

وقد اختار النظام من بين رجاله الأخ أحمد شرف الدين من إخوان الأسكندرية ليكون مسئولا عن جمع الأسلحة والمفرقعات من الصحراء الغربية، فقد كانت الصحراء مسرحًا لجيوش الحلفاء وأعدائهم في معركة العلمين الفاصلة في الحرب العالمية الثانية، وبانتهاء الحرب ترك الطرفان الكميات الهائلة من الأسلحة والمفرقعات المتخلفة من هذه الحرب العالمية في أماكنها في الصحراء، حيث أصبح نقلها عديم الجدوى، وأصبحت الأولوية لشحن التموين اللازم للدول المتحاربة، والتي أضنى شعوبها استنزاف كل التموين الخاص بهم لتموين القوات المسلحة، وكانت هذه الكميات الهائلة من الأخ أحمد شرف الدين من إخوان الأسكندرية الذي تخصص في جمع الأسلحة والمفرقعات لصالح المجاهدين من الصحراء الغربية وقد قتلته حكومة إبراهيم عبد الهادي برصاص البوليس في أحد الأوكار بشبرا.

الأسلحة تكفي الجيوش العربية مجتمعة تدريبًا وقتالاً لعشرين سنة متصلة لو أنها اهتمت بجمعها وحفظها، ولكنها لم تفعل في هذا الصدد شيئًا.

أدرك الإخوان أهمية هذا الرصيد الذي لا ينفذ، وبدأوا في جمع كل ما يناسب معركة فلسطين من أسلحة ومفرقات بإشراف الأخ شرف الدين من إخوان الأسكندرية، ورتبوا عن طريق هيئة وادي النيل التصريح اللازم لتسليم هذه الأسلحة إلى مأمور الحمامات بالصحراء الغربية الذي يتولى بعربات البوليس نقلها إلى محافظة القاهرة، ومن محافظة القاهرة يستلمها الإخوان للتخزين بمخازنهم. وقد زاد من فضل الأخ أحمد شرف الدين، أنه نال الشهادة وهو يقاوم حكومة إبراهيم عبد الهادي باشا في أحد الأوكار المسلحة بشبرا مصر .

ولقد أخرت ذكر هذه الحقيقة إلى هذا الموقع من الكتاب، حيث ثبت للقارئ بشهادة الشهود في القضية أن الأسلحة التي ضبطت في مركز بني مزار، قد دفع ثمنها الأخ أحمد حسنين أمام مأمور بني مزار، ثم قال له صدرها لنا إلى القاهرة ونحن نستلمها من هناك، وفعلا صدرت واستلمها في القاهرة (راجع شهادة الأستاذ محمد حامد أبو النصر) فهذه الواقعة الثابتة من شهادة الشهود هي الدليل على الأسلوب الذي اتبع في تسهيل جمع الأسلحة والمفرقعات في جميع أنحاء القطر لصالح قضية فلسطين ، ليطمئن القارئ أن ما يقرأه هو الحقيقة التي اتخذناها عنوانًا لهذا الكتاب.

وقد كان يعيب هذه الأسلحة المجموعة من الصحراء تعرضها للرمال مما يفقدها الصلاحية للاستخدام الفوري، فأنشأ النظام الخاص عددًا من الورش داخل فيلات استؤجرت في حلمية الزيتون وهي التي أشار إليها سماحة مفتي فلسطين في شهادته، حيث قال: «وكان للهيئة مخازن متعددة في الزيتون وفي المرج ولها مصانع» لإصلاح وضبط هذه الأسلحة قبل استخدامها في الميدان.

دور النظام الخاص في إنشاء مصانع الهيئة العربية وتشغيلها بإشراف البطل الشهيد علي الخولي: أنشأ النظام الخاص هذه المصانع على شكل ورش في فيلات مستأجرة في حلمية الزيتون والمرج تتولى تنظيف الأسلحة المجموعة من الصحراء الغربية من الرمال وتزييتها وضبطها قبل أن ترسل للاستخدام في المعركة، وكان يشرف على هذه الورش الأخ الشهيد «علي الخولي» الذي قتله جمال عبد الناصر في السجن الحربي سنة 1954 ، وسجل في سجلات السجن أنه هرب من السجن، وللشهيد علي الخولي ذكريات مع الأستاذ مصطفى أمين صاحب ورئيس تحرير جريدتي أخبار اليوم والأخبار، سجلها على صفحات الجرائد عندما جاءته زوجة الشهيد تطلب منه العون في تعليم ولدها في الجامعة بعد استشهاد أبيه بسنوات، فلم يملك غلا أن يذكر كيف أن كفاءة علي الخولي أغنته عن الخبراء الأجانب الذين استقدمهم لتركيب أحدث الماكينات في أخبار اليوم ونشر ذلك على صفحات أخبار اليوم اعترافًا منه بفضل هذا الشهيد البطل، وهو لا يدري عن بطولته شيئًا، وقد تطوعت فكتبت له عندما قرأت هذه الذكرى الطيبة أكشف له عن جانب البطولة في الأخ «علي الخولي» الذي كان مثار الإعجاب في عمله، ثم يأتي إلا أن يتم باقي ال24 ساعة وهو مثار الإعجاب في تنظيف وضبط الأسلحة المسافرة إلى فلسطين ، فلما جاء وقت الفداء أبى إلا أن يكون متطوعًا للقتال في فلسطين فتطوع معي ضمن أول دفعة لمتطوعي الإخوان في فلسطين في فبراير سنة 1948 ، وسافر فعلاً إلى الجبهة.

فشل الحكومة عند محاولتها الاستفادة بالأسلحة المتراكمة بالصحراء الغربية:

ومما يذكر أن الحكومة المصرية فكرت في جمع كميات من المفرقعات من الصحراء الغربية وخزنتها في مخازنها بالقلعة، ولكنها انفجرت جميعها في المخازن دفعة واحدة وأحدثت أصوات انفجارها ولهيب نيرانها إزعاجًا لجميع سكان مدينة القاهرة في هذه الليلة، فتوقفت الحكومة عن الاستمرار لقلة الخبراء لديها في تخزين المفرقعات، وقد عاش هذه الحقيقة الكثيرون ممن يقرءون هذا الكتاب هذه الأيام، وقد وقع حادث متشابه في دار المركز العام للإخوان المسلمين وهو يعتبر من الأدلة المادية على تصريح الحكومة لمأمور الحمامات باستلام الأسلحة والمفرقعات التي يجمعها مندوبنا في الصحراء الغربية، وينقلها بعربات البوليس إلى محافظة القاهرة، حيث يستلمها الإخوان ثم ترسل إلى مخازنهم وورشهم للضبط قبل إرسالها إلى الميدان، فقد حدث مرة أن انفجرت كمية من المتفجرات في المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة، قبل إرسالها إلى المخازن، وقد حفظت الحكومة أوراق هذه الواقعة اعترافًا منها بدور الإخوان في جمع الأسلحة والمفرقعات من أجل فلسطين .

ومن هذا المورد جمعت الأغلبية العظمى للأسلحة والمتفجرات التي استعملها متطوعو الهيئة العربية العليا ومتطوعو الإخوان المسلمين في حرب فلسطين ، وأمدوا قواتنا المسلحة ببعض منها، ولم تكن جماعة الإخوان المسلمين تحصل شيئًا من أثمان هذه الأسلحة والمفرقعات بكمياتها الضخمة من الهيئة العربية العليا، لأنها جميعًا كانت تجمع من الصحراء ولا تتكلف إلا مصاريف نقلها إلى مركز الحمام وتنظيفها وصيانتها بالورش، وهذه التكاليف يتحملها الإخوان المسلمون تطوعًا.

أما الكميات التي كانت تجمع من الأقاليم على النحو الذي ورد في شهادة كل من الأستاذ محمد حامد أبو النصر والحاج حسن حسني المنياوي، فقد كان ضابط الاتصال المختص بها هو الأخ أحمد محمد حسنين المتهم الخامس في هذه القضية وعضو المجموعة القيادية للنظام، وذلك بصفته مدير الأقاليم.

وجدير بالذكر أن ما شهد به الأستاذ محمد حامد أبو النصر عن جمع الأسلحة في إقليمه كان متكررًا في جميع الأقاليم، غير أنه تم الاكتفاء بشهادة الأستاذ محمد حامد أبو النصر كنموذج فقط للتدليل على تصريح الحكومة للإخوان بجمع الأسلحة.

وهذا الجانب من الأسلحة هو وحده الذي كان يشتري بالثمن، فتدفع الهيئة العربية العليا ثمن ما تسلمته، ويدفع الإخوان المسلمون ثمن ما استلموه لمتطوعيهم وثمن ما تبرعوا به للهيئة العربية العليا.

فهل يصح بعد ذلك كله أن يكون ضبط بعض الأسلحة في إحدى قرى الإخوان المسلمين أو في سيارة جيب صغيرة ملك للإخوان المسلمين سببًا لحل الجماعة والقضاء عليها إلا أن يكون ذلك هو الخيانة بعينها؟ ولا يفوتني أن أذكر القارئ الكريم بما جاء في شهادة الصاغ محمود بك لبيب بقرار وزير الداخلية النقراشي باشا بوقف القرار الذي وافق عليه وزير المواصلات دسوقي أباظة باشا لفكرة قطار اللاجئين، الذي يقوم من أسوان لغاية مصب النيل ليجمع من أهل المروءة والشهامة ما يزيد عن حاجتهم من أي شيء لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين ليعلم من هو النقراشي باشا؟

إنه لم يرحم اللاجئين بالدفاع عنهم، ولم يدع رحمه الله تنزل عليهم من فاعلي الخير من المسلمين، وأترك للقارئ الكريم وضع الوصف المناسب لدولته على هذا الإجراء.

ثالثا الأثافي (التعذيب):

لم تقتصر خدمات محمود فهمي النقراشي باشا في خيانته التاريخية للأمة العربية على منع السلاح والعتاد والرجال المؤمنين، وإغاثة اللاجئين وحل الإخوان المسلمين واعتقالهم للقضاء على مبادئهم التي تقلق مضاجع الأعداء إلى أبد الآبدين بل أبقى مرشدهم طليقًا تمهيدًا لقتله جهارًا نهارًا على قارعة الطريق، إمعانًا في الإجرام دون وجل أو حياء، فحق فيه المثل: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، ولم يكتف خلفه إبراهيم عبد الهادي باشا بتنفيذ جريمة قتل الإمام الشهيد والاستمرار في تصفية الإخوان المسلمين ، حتى غلبوه على أمره وأقاله سيده ملك البلاد في ذلك الوقت، بل أضاف ثالثة الأثافي وهي التعذيب، هذه الجريمة التي ابتدعها إبراهيم عبد الهادي باشا وزبانيته ضد المسجونين السياسيين، ولم تكن معروفة في مصر من قبل، وليس لها من غرض إلا أن يقدم المسجونون المعذبون إلى النيابة الأدلة المؤيدة للاتهامات الباطلة التي اضطرت الدولة نائبها العام إلى توجيهها للإخوان المسلمين عكسًا لكل الحقائق الصارخة التي اطلع عليها القارئ الكريم إلى هذه المرحلة من الكتاب والتي تشيد بإخلاصهم حسن بلائهم وعظيم تضحياتهم، وتكشف خيانة هذا الحاكم الظالم لمصر وللأمة العربية جمعاء.

فكان التعذيب ضرورة لإثبات التهم الملفقة المزورة، وإلا لما استطاعت النيابة تقديم أحد إلى المحاكمة، واضطرت إلى طلب نياشين لكل منهم، لما اطلعت على وثائق تصرخ باستحقاقهم للإعزاز والتكريم، أما عن ابتداع هذه الجريمة ضد السياسيين في سجون مصر فلا أملك إلا أن أذكر وأنا أؤرخ لها قول سيدنا رسول الله (ص): «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا» صدق رسول الله (ص).

وقد عمل بها جمال عبد الناصر مبتدئا باستخدام زبانية إبراهيم عبد الهادي محمد الجزار، وتوفيق السعيد الحمار ضابطي المباحث في عهده، ومنتهيًا بخبراء عالميين في التعذيب سواء من النازيين السابقين أو من الروس أو الشيوعيين، وقد أفرخت خبرات هؤلاء الخبراء عن متخصصين مبدعين في التعذيب والإجرام من بطانة هذا المدعي بأنه رائد العروبة جمال عبد الناصر .

ونحن هنا نسجل إدانة المحكمة لإبراهيم عبد الهادي في جريمة التعذيب، مبتدئين بذكر شهادة إبراهيم عبد الهادي باشا في القضية التي تضج باعترافاته بالتدخل في مجريات التحقيق وتنتهي باعترافه بالتعذيب.


شهادة إبراهيم عبد الهادي باشا

س: قيل إن المتهم عبد الرحمن عثمان خرج من سجن الأجانب يوم 14 يوليو سنة 1949، قابل دولتكم بالقطار الذاهب إلى الأسكندرية في اليوم المذكور، فما هو قولك.

ج: أذكر أنه قبل سفري إلى الأسكندرية بيوم، وكان هذا في شهر يوليو 1949، وأنا كنت أستفهم دائما عن مجريات التحقيق في القضية، وفهمت أن واحدًا من المتهمين له اعتراف جديد فطلبني الحكمدار طلعت بك وقال لي: إن هذا المتهم يشهد ضمن شهادته على واحد يبقى ابن خالة المتهم نفسه، وابن خالة المتهم ده يبقى ابن محمود باشا يوسف وكيل الخاصة الملكية، وأذكر أنه في هذا الوقت كان طالبًا في المدرسة الحربية أو البوليس، فأنا قلت له: أنا أحب أن يجيبني في اليوم التالي أي الشخص المعترف لكي أسمع منه أقواله بنفسي، فوعد بإحضاره ثاني يوم، وفي اليوم التالي جد ما استوجب سفري إلى الأسكندرية في الظهر، ولا أتذكر اليوم بالضبط، فنزلت من الديوان وذهبت إلى المحطة وجاءني الحكمدار وقال لي: أنت طلبت المتهم المعترف وأنا أحضرته وهو معي في المحطة تحب تشوفه، قلت: مافيش مانع هاته معي في القطار، ويرجع من هنا، وأحضره طلعت بك وسمعت منه الاعترافات، وعاد في اليوم نفسه ولا أعرف إن كان استمر في القطار ونزل في الأسكندرية أو نزل في محطة أخرى قبل ذلك، لأن كل ما استغرقته معه من الزمن لا يزيد على ربع ساعة.

س: وهل تذكر اسم هذا المتهم؟

ج: لا.

س: وما كان الغرض من سماعك لأقواله؟

ج: الغرض هو أن أسمع بنفسي لأتأكد بنفسي فقد يكون لي رأي في توجيه البحث، وذلك لأنه كان يشهد على واحد قريبه، وكان في أقواله ما يستدعي سماعها- وأذكر أن مما قاله هذا المتهم ضد قريبه، أن قريبه كان يمول الجماعة بالمال وأنه باع شيئًا من الأرض في هذا السبيل أو شيء من هذا القبيل.

س: وهل ترتب على سماعك لأقواله أي توجيه؟

ج: كل ما حصل أنه كان مطلوب القبض على الشخص الذي اعترف عليه المتهم، فأنا وافقت على ذلك بعد سماعي أقواله بصفتي الحاكم العسكري العام.

س: ومن كان يتولى عرض نتائج التحقيق؟

ج: ما فيش حد كان يتولى العرض إلا إذا كنت أسأل أنا فكنت أطلب الحكمدار وأسأله والبوليس دائما يتتبع المسائل الخاصة بهذه القضية كشأنه في كل قضية أخرى، وبوصفي حاكم عسكري يا إما هو يخبرني يا إما أنا أطلبه.

س: أفهم من هذا أن طلعت بك هو الذي كان يتولى عرض التحقيق؟

ج: ما يتولى عرضه هو مرحلة من مراحل تحقيق البوليس.

س: وهل اختلى دولة الباشا بالمتهم عبد الرحمن عثمان في صالونه الخاص؟

ج: لأ وكان اللواء طلعت بك حاضرًا كلام المتهم.

س: هل ذكر اللواء أحمد طلعت بك لدولة الباشا أن للمتهم عبد الرحمن عثمان طلبًا خاصًا بدخوله كلية الحقوق؟

ج: لا أذكر.

س: هل سأل الباشا المتهم عبد الرحمن عثمان أثناء الطريق عن معلوماته عن الأستاذ منير دلة؟

ج: مطلقا ولم أذكر اسمه ولا مر على خاطري.

س: وهل سأل الباشا المتهم عبد الرحمن أثناء الطريق عن الأستاذ عبد الحكيم عابدين؟

س: لا وكل ما قام في ذهني هو أن أتحقق من أنه يقرر أقواله عن ابن خاله ابن محمود باشا يوسف، وكنت أريد أن أتأكد من ذلك بنفسي.

س: هل سألت المتهم عما إذا كان هناك مصادر لتمويل المتهمين في هذه القضية؟

ج: لا أذكر، كل هذا يحتمل أن يكون قاله المتهم في أقواله.

س: هل أشرت أثناء الحديث مع المتهم إلى جماعة الإخوان المسلمين وطلبت من المتهم أن يدلي بما عنده بخلاف ما سبق أن أدلى به إذا كان لديه ما يمكن الإفضاء به؟

ج: مطلقًا.

س: هل لم تسأل المتهم عن شعوره نحو قرار حل الإخوان؟

ج: لا، وما كان هناك ما يستدعي ذلك.

س: هل عرضت على المتهم شيئًا من المرطبات؟

ج: لا. وأنا أقول إنه حدث في مرة غير هذه المرة أن أحضر لي أحد الضباط متهمًا في حادثة إخفاء مالك وابتدأ باعترافاته حتى بلغت الساعة الثالثة صباحًا والإنسان منا بشر يجوع، فأحضرت طعامًا وأعطيت منه شيئًا للمتهم.

س: هل اتصل بعلمك أثناء توليك الحكم أن تعذيبًا وقع على أحد المتهمين في قضايا الإخوان؟

ج: إشاعات والنيابة تتولى التحقيق.

س: وهل وصلك بعد خروجك من الوزارة أن تعذيبًا وقع على بعض المتهمين؟

ج: لم أسمع إلا إشاعات كما جرت في كل القضايا.

س: يقرر عبد الرحمن عثمان أنه في يوم 10 يوليو سنة 1949 أثناء رياستكم للوزارة استحضر إلى محافظة مصر وعذبه الضابطان محمود طلعت، ومحمد الجزار بوضع ساقيه في فلكة وبضربه بالسوط، وقد أثبت تقرير الطبيب الشرعي أن الإصابات الثابتة يمكن أن تنتج من مثل هذا التعذيب فما قولك؟

ج: لم أسمع بهذا.

س: يقرر عبد الرحمن عثمان أنه في يوم 11 يوليو سنة 1949 أثناء توليك رياسة الوزارة ومنصب الحاكم العسكري العام استدعى إلى محافظة مصر وقام اللواء أحمد طلعت بتعذيبه مع الضابط فاروق كامل، فهل وصل ذلك إلى علمكم؟

ج: لا.

س: هل كان الباشا يعلم أن النيابة أذنت بخروج عبد الرحمن عثمان لمصاحبته بالقطار وهذا المتهم تحت التحقيق والنيابة هي الأمينة عليه؟

ج: كل الذي أعرفه أني قلت لطلعت بك ممكن أشوف المتهم، أما إذا كان هو قد أستأذن النيابة فهذا ما لا أعرفه وليس لي به علم.

س: هل كان الباشا يحضر إلى محافظة مصر أثناء تحقيق هذه القضية وإن كان لا يحضر التحقيق؟

ج: هذه القضية لم أدخل المحافظة بشأنها أصلا.

س: وفي أثناء تحقيق الاعتداء على الأستاذ حامد جوده. هل كنت تحضر للمحافظة؟

ج: أنا أجاوب في هذه القضية فقط، وأما في القضايا الأخرى فأنا مستعد للإجابة في وقته.

س: هل كان دولة الباشا يحضر إلى المحافظة عند التحقيق في قضايا أخرى، وأن كان لا يحضر التحقيق؟

ج: أنا حاضر في هذه القضية لأجاوب عنها.

فقال الأستاذ طاهر الخشاب هناك شاهد أعلناه لجلسة اليوم وهو متهم في قضية الأوكار واسمه مصطفى كمال عبد المجيد، قرر أن تعذيبًا وقع عليه في المحافظة بحضور دولة الباشا والنيابة لم تقدم هذا الشخص متهمًا في هذه القضية.

ج: أنا لم أر مصطفى كمال عبد المجيد في المحافظة، وإنما في حادثة الاعتداء في مصر القديمة وكنت وصلت إلى بيتي وإذا بالتليفون يخبرني بأن اعتداء وقع على الأستاذ حامد جودة وهو في الطريق، وأن المتهم قبض عليه في قسم مصر القديمة، وأن الاعتداء كان بقنابل ومسدسات، فرجعت من بيتي على قسم مصر القديمة فوجدت الشاب مصطفى عبد المجيد مقبوضا عليه-

وبمجرد أن رآني استغاث بي وقال: أنا في عرضك وسألته أنت حضرت المسألة دي، فقال: «نعم» وأنتم تعذروني وسأقرر الحقيقة، وطلبت له ماء فأحضر وشرب ومكثنا هناك لغاية ما حضرت النيابة، فقد حضر إسماعيل بك عوض وجاء النائب العام- وهل مصطفى كمال يقول إنه عذب بحضوري؟ أنا أقسم بشرفي أن هذا لم يحصل مطلقًا.

س: هل حضر دولة الباشا للمحافظة أثناء تحقيق الاعتداء على الأستاذ حامد جودة؟

ج: والله أنا كنت أروح المحافظة من وقت لآخر.

س: هل لم تمض الوقت في المحافظة لغاية نصف الليل؟

ج: أنا مضيت الوقت في المحافظة للساعة الخامسة صباحًا للقبض على مالك، وهذه هي الليلة الوحيدة فقط التي مضيت هذا الوقت الطويل.

س: (من المتهم عبد الرحمن عثمان): ألم أشك إلى دولتكم أنهم ضربوني وأن أحمد بك طلعت عذبني؟ ج: لم يحصل.

س: ألم تقل إن حسن البنا «يرحمه الله» قد استرحنا منه وكبار الإخوان في المعتقلات وأنت طالب تدرس في الحقوق ومن مصلحتك أن تنجو بنفسك وهذه القضية أي قضية الجيب هي قضية عسكرية لي الأمر الأول والأخير فيها؟ ألم يحدث هذا؟

ج: لا ولم يحدث وماكنتش في حاجة إلى هذا ولا موجب له.

س: وقت التحقيق في هذه القضية هل كان التحقيق في عنق النيابة؟

ج: إن تحقيق هذه القضية بدأ قبل أن أتولى الوزارة.

س: ووقت ما توليت الوزارة أكانت النيابة قوامة على التحقيق؟

ج: طبيعي.

س: أيمكن أن تؤكد لنا دولتكم أن النيابة في تحقيقها لم تكن تتلقى وحيًا من الحكومة؟ ج: أنا أؤكد لك أني لم أشغل نفسي بشيء من هذا، والقضية كانت تسير في طريقها الطبيعي ولم تكن بحاجة مني إلى توجيه النيابة.

س: فهمنا مما سمعنا من دولتكم أنه إنما أتى لكم بالمتهم عبد الرحمن عثمان المعترف لأن التحقيق اعترض طريقه في هذا الاعتراف إدلاء بأقوال ضد ابن محمود باشا يوسف، فهل هذا الذي فهمته وفهمه معي من سمع هو الصحيح؟

ج: على كل حال يسأل عنه من الشخص الذي قام في ذهنه الاهتمام بهذا الأمر- وعرضه علي وفيما يتعلق بي فإنه عندما قام أمامي من الدليل ما يريحني أمرت بالقبض على ابن محمود باشا يوسف.

س: أما كان هذا التصرف من النيابة غير طبيعي؟

ج: أنا حاكم عسكري والبوليس يعطي حالات اشتباه لأشخاص معينين، وأنا أقول أقبض أو لا تقبض والنيابة تتصرف.

س: معنى هذا وأنت تذكر سلطانك كحاكم عسكري أنك توجه النيابة؟.

ج: أنا لم أكن أوجه النيابة.

س: ألم يكن لدولتك توجيه إذن؟

ج: أرجو أن توضح المسائل على حقيقتها، وأنا أقصد توجيهي للبوليس فقط، فإذا أريد القبض على شخص معين، فلابد لي من أن أعرف ظروف ذلك، والمسألة مسألة حفظ أمن وأنا تكلمت فيما اعتقده، وأنا رجل مسئول عن الأمن في البلد، والبوليس يعرض على أسماء أشخاص وأنا لا بد لي من التثبت، وأما اتصالي بالنيابة فلا شأن لي به.

س: وأنا ما وجهت السؤال إلى الباشا هذا إلا لعلمي بأنه سيجيب عنه في ضوء العقل القضائي.

ج: وأنا أدلي بكلامي بالعقل القضائي وبالذمة القضائية.

س: دولتكم ذكرت أنك لما ذهبت إلى قسم مصر القديمة، وقابلت مصطفى كمال عبد المجيد بادرك بالاستغاثة فمن كانت الاستغاثة؟

ج: أظن التحقيق تناول هذا- وقد كان يقول أنا عطشان، أنا حيموتوني، والمحقق سأله لأنه وجد فيه جراحًا، فقال إن الناس الذين تتبعوه هم الذين آذوه.

س: ألا تذكر أنك قابلت متهمين آخرين في هذه القضية بالذات أثناء تحقيقها؟

ج: مثل من؟ أذكره.

س: جمال الدين فوزي.

ج: لأ لا أعرفه.

س: ألم يكن فضيلة المرشد العام يتصل بك وأنت رئيسًا للديوان الملكي؟

ج: شأنه شأن كل واحد يحب يقابل رئيس الديوان.

س: ألم يتناول في أحاديثه معك مسألة فلسطين والتطوع؟

ج: لا، وإنما جالي الشيخ حسن البنا وطلبه أن يسافر إلى اليمن في أيام ثورتها فنصحته أن لا يسافر، وإنما فلسطين فلم يسأل في شأنها.


وقفة لازمة بعد شهادة إبراهيم عبد الهادي باشا:

إن القارئ لإجابة إبراهيم عبد الهادي باشا على سؤال الأستاذ مختار عبد العليم المحامي له «مما كان يستغيث بك مصطفى كمال عبد المجيد في قسم مصر القديمة» يتأكد أن الباشا يكذب في أقواله، فهو يعترف أن مصطفى كمال عبد المجيد قال له: أنا في عرضك يا باشا حيموتوني، وأنه كان به جراح، ثم يدعي أنه قال إن الناس تتبعوه هم الذين آذوه!!! فهل يمكن أن يقبل هذا القول أحد؟

هل يقبل عقل أن يستغيث مصطفى كمال عبد المجيد وهو في قسم مصر القديمة منذ فترة زمنية طويلة أدناها عودة الباشا من منزله إلى القسم، من الناس الذين تبعوه في الطريق؟ أم من الناس الذين معه في القسم، وهم البوليس والنيابة؟ لقد ظن الباشا أن كلامه هذا يمكن أن يصدقه عقل، ولكنه كان واهمًا فقد أدانته المحكمة بهذه الشهادة الكاذبة في اشتراكه في تعذيب المتهمين، فقالت في حيثياتها ما نصه:

«إن عبارات الاستغاثة التي أسندها دولة إبراهيم عبد الهادي باشا إلى المتهم إن دلت على شيء فإنما تدل على أن المتهم كان محل اعتداء، بعد القبض عليه، وبعد أن أصبحت تحت سلطان رجال البوليس وحدهم، وفي دار القسم وبعيدًا عن متناول الأفراد.

ولو أن هذا المتهم كان بعد القبض عليه ف مأمن من أي اعتداء لكانت استغاثته بدولة عبد الهادي باشا غير مستساغة ولا معنى لها.

وحيث إنه من هذا ترى المحكمة أن هذا المتهم كان محلا للاعتداء في دار قسم مصر القديمة بعد القبض عليه، وأن العبارات التي قال رئيس مجلس الوزراء الأسبق أنه فاه بها إنما تدل على أن الاعتداء كان شديدًا.

إن المحكمة تستطيع أن تقرر وهي مطمئنة أن الآثار التي شوهدت بجسم مصطفى كمال عبد المجيد بعد ما يزيد على خمسة أشهر من وقت ضبطه، يمكن إرجاعها كلها أو بعضها على الأقل إلى ما كان يقارفه من تولوا ضبطه والمحافظة عليه من رجال البوليس » انتهى.


شهادات المتهمين الذين عذبوا

ولإيضاح صور التعذيب التي تعرض لها المتهمون في هذه القضية نقتصر في الجزء القادم من شهادات المتهمين الذين عذبوا على الأسئلة الخاصة بالتعذيب لنبين للقارئ المستوى المنحط الذي وصل إليه حكم الباشا إبراهيم عبد الهادي .


شهادة المتهم سعد أفندي جبر التميمي:

س: بعد ما قبض عليك عندما كنت تخرج من السجن. هل كان يذهب بك إلى النيابة أو إلى مكان آخر؟

ج: مرة رحت المحافظة وضربوني وطلعت الساعة 11 ورجعت الساعة 1.30 صباحًا وده ثاني يوم قبض علي حوالي 7 أو 9 أو 10 مايو سنة 1949.

س: هل تستطيع أن تذكر لنا من اشتركوا في تعذيبك؟

ج: نعم اشترك توفيق السعيد وعبد المجيد العشري وواحد جاويش اسمه مصطفى التركي، وعملت بذلك محضر رسمي في سجن مصر أول ما رجعت والنيابة لم تسأل عني والطبيب بعد 21 يوم وصف الإصابات جميعها. س: وما الغرض من ذلك؟

ج: كانوا طالبين بعض البيانات بالذات تتلخص في أني أقول أعرف فلان أو فلان وأشخاص معينين، وأول يوم رحت لطلعت بك عزم علي بسجاير وجاب لي فطار، ولم أقبل السجائر ولا الفطار، وبعدين ضربوني واللي ضربوني سبعة، وتوفيق السعيد قعَّدْني على كرسي مخروق وكان على جنبي الشمال، والعشري على جنبي اليمين، والتركي يضربني بالجزمة في وشي، ولم أقل الكلام اللي هم عاوزينه وأصريت على الحقيقة التي أعرفها والضرب لم يزعزعني.

وجاء في أقوال مصطفى أفندي كمال عبد المجيد في شهادته أمام المحكمة عن التعذيب ما يلي:

س: ذكرت في تحقيق النيابة أنك تعرف الثلاثة وأنك كنت تقود السيارة الجيب.

ج: الكلام ده أحمد بك طلعت كتب به ورقة وبعد ضربي وتعذيبي وأخذني قسم مصر القديمة وربطني بقيد شديد في يداي وربط حبل في القيدين من الخلف وعلقوني في شباك القسم وجابوا نيران السجاير وحرقوني، وواحد ضابط طويل كان ماشي مع دولة إبراهيم عبد الهادي باشا، وكان يحرقني بالسجاير وبعد كده جاب ورقة وقال لي: امض عليها، وكتب هو فيها كل حاجة، وفي نفس الليلة دي لا أذكر الساعة كام وبعد ساعتين ثلاثة جه حضرة المحقق (وأشار على محمد بك عبد السلام) وحكيت له القصة الخاصة بالتعذيب، فأعرض عني ونزل ولم يقبل أن يكتب ولا كلمة وتركني البوليس السياسي ومنعوني من النوم 48 ساعة، وقعدوا لي واحد ضابط كده وواحد ضابط كده، وكانوا يغيروا عليه وآجي أنام يضربوني، وأضربت عن الطعام احتجاجا وهددوني بالاعتداء على عرضي ومضوني على أوراق لا أعرف عنها حاجة، وقعدت عشرة أيام مضربًا عن الأكل إضرابًا تامًا، وقالوا إن لم تأكل سنعتدي على شرفك، وفتحت هذا التهديد بقيت آكل خوفًا من هذا وأنا وقعت على أوراق لا أعرف ماذا فيها، ووقعت عليها تحت إرهاقي، ومرة اثنين ضباط حضروا لي وقالوا أحنا وكلاء نيابة مستعدين ندون لك بس كل، فقلت لهم أنا عارفكم وليس عندي شيء.

س: متى حصل هذا التعذيب؟

ج: جزء منه في مصر القديمة.

س: متى؟

ج: في 5 مايو سنة 1949.

س: وكيف أحضروك؟

ج: البوليس حاصر الحي وأخذوني وقالوا فيه ناس ضربوا قنابل وقبض على مع ناس كثيرين جدًا وحطونا في حوش كبير وأنا ساكن في العباسية، وكنت مطارد من البوليس، وكان عاوز يقبض عليَّ، وكنت أزور واحد في مصر القديمة، وبعدين البوليس لما سألني قلت على اسمي بالضبط فقالوا مفيش غيرك فضلوا يضربوني وقالوا لي أنت اللي ألقيت قنابل على رئيس الوزراء.

س: في هذه الجهة هل حضر أحد من النيابة؟

ج: جه منصور باشا العام وإبراهيم عبد الهادي باشا وضباط كثيرين وأنا قلت لإبراهيم باشا أنا في عرضك يا سعادة الباشا الحقني، فقال لي: «أنت ضربت قنابل عليَّ» فقلت له: «لا» فقال: «أنتم عاوزين تقتلوني ليه أنا مش ألغيت البغاء؟ مش علمت الدين في المدارس؟ فقلت له ما أعرفش حاجة وسابني ومشي وقال إن ما كنش يتكلم شرحوه، وبعدين جم الضباط بتوع القلم السياسي في مصر القديمة، مضوني على ورق وأنا كنت ميت معلق في الهواء وكل ده بالليل، وجه محمد عبد السلام بك وعمل محضر وقال لي: «تعرف إيه عن الجيب» فقلت له: «ما أعرفش» وقال لي: «أنت كنت راكب ومعك فلان ده ولم يكتب حاجة» وبعدين قعدت في المحافظة يومين ورحت له في مصر القديمة فقعدوني في الزنزانة وملوها ميه لم أنم ليلتها.

س: هل عرض عليك حضرة المحقق محمد عبد السلام بك المتهمين الثلاثة أحمد عادل كمال وطاهر عماد الدين وإبراهيم محمود علي؟

ج: بعد يومين ثلاثة ضربوني وشالوني وأرسلوني لمحمد عبد السلام بك في النيابة وقعدوني على كرسي ودخل على شوية أفندية وقعدوا زعقوا مع بعض وبعدين مشيوا، وأنا كنت تعبان جدًا وكانوا يتناقشوا مع المحقق وأنا عبارة عن جثة.

س: لما دخل الناس زعقوا هل كنت واقفًا أم جالسًا؟

ج: كنت قاعد على الكرسي؟

س: عند وجودك بقسم مصر القديمة هل استمر تعذيبك بعد وصول سعادة النائب العام؟

ج: نعم واشتد.

س: هل كان أحمد طلعت بك موجود يوم الزعيق ده؟

ج: لا.


شهادة عبد الفتاح أفندي ثروت أمام المحكمة:

س: ذكرت في التحقيق أنك أقسمت اليمين على طاعة قيادة هيئة سرية في منزل بشارع فؤاد الأول؟ ج: ما أعرفش حاجة عن الموضوع ده واللحظة اللي حصل فيها تحقيق معي كنت تعبان ولم أشعر بحاجة حولي لأني بقالي شهرين مانمتش وماكلتش ومعذب باستمرار.

س: من كان يعذبك ولماذا التعذيب؟

ج: أول ما قبض علي في ميدان الملكة فريدة الساعة 9 يوم 9 مايو سنة 1949 واللي قبض علي واحد اسمه العشري ومعه النكلاوي وهو ساكن جنبي، ووجدت الضرب فوق دماغي بالطبنجات ولم أدر إلا وأنا في المحافظة، ودخل أحمد طلعت بك وقال: «حتقول أو مش حتقول» فقلت له: «حاقول أيه؟» فقال: «باين عليك مقاوح وأنا عاوز أشرحك» فقلت: «لا مفيش ما يدعو» فقال: «خذه يا عشري» وأخذوني عند محمود طلعت أفندي وهو ضابط فقال لي: «اقعد» وقال لي: «شوف يا ابني هنا أحكام عسكرية» وقال لي: «أتقول اللي حاقول عليه وإلا حتتعب قوي» فقلت له: «اللي أعرفه أقوله» فقال لي: «أنت من الإخوان المسلمين » قلت: «أنا أتشرف» وقال لي: «إنت من الإخوان» قلت: «أيوه» فقال لي: «بتعمل إيه» فقلت له: «فيه إخواني اعتقلوا واحنا بنلم لهم فلوس» فقال لي: «احنا حنخليهم يتشرمطوا» وأخذوني ودخل العشري وواحد اسمه فاروق ومصطفى، ومصطفى قال لي أقلع وبعدين فضلوا يضربوني من الساعة 9 إلى الساعة 4 صباحا، وكانوا مقسمين نفسهم كل مجموعة 12 عسكري وضابط، وكانوا يحطوا في رجلي فلقة، وكانت الفلقة تنكسر، فجابوا عصا من بتوع المظاهرات، وبعدين جابوا كرابيج هجانة، وكتفوني من الخلف وفضلوا يضربوا في، وأثناء الضرب أغمى عليَّ، وفوقوني بالنشادر ولقيت أحمد طلعت، وقال دي أول جولة والجولات آتية، وبعدين أخذوني قسم مصر الجديدة، وبعدين رئاسة الوزراء، وكان فيه واحد ضابط هناك عرفت أنه أخ إبراهيم باشا، وإبراهيم باشا قال: حتقول أو مش حتقول؟

فقلت له: «أنا بانضرب كل ليلة ولم أنم وكل جسمي بيوجعني» وبعدين قال: «أنا عندي أمر أموتك» وقال لي: «أنا حاخليهم يشرحوك» وكان الضباط يتباهون أنهم يقسمون التعذيب، وبعدين جه واحد اسمه محمد علي صالح وقال: «إنت شميت ريحة الجلد لما يحترق؟» وبعدين قال نجرب كل واحد من الضباط يجيب السيجارة ويحرقني، وبعدين جاب سيخ حديد وحطوه على النار، وبعدين دخل محمود طلعت وقال سيبوه ده معايا، وقال أنت عمك زميلي ورئيسي وأعمامك اعتقلوا وأخوالك وأختك اعتقلت، وبعدين حطوني في سجن الأجانب على الأسفلت، وحطولي لمبة كبيرة جدًا وساعة ما آجي أنام يخبطوا على الباب، وبعدين لقيت بتجيني نوبات شديدة، وبعدين جابو لي واحد عسكري أسود لا يمكن أنساه، وقالو لي إذا لم تتكلم حيرتكب معك الفحشاء، وأنا قلت له إذا عملت هذه العملية أنا مش حاقدر أقاومك لأني متكتف، وبعدين قلت له: فيه رب وبعدين في هذه الأثناء أخذوني التحقيق وكان إسماعيل بك عوض يسألني وأنا أقول مش عارف، وييجي أحمد طلعت ويقول له أنا عوز الولد ده ولا أدري إلا وأربعة رامييني في سجن الأجانب، وييجي إبراهيم عبد الهادي باشا يقول أخوالك معتقلين وأعمامك معتقلين وأختك وأنا الحاكم العسكري، وفي أثناء التحقيق جه محمود باشا منصور وقلت له: «أنا عذبت» فقال: «الحكومة عارفه وأحنا عارفين وإن لم تتكلم حتعذب» وفي هذه الأثناء كانوا يأخذوني في التحقيق ويكتبوا اللي يكتبوه والنهارده وأنا جي لقيت الضباط بتوع القلم السياسي اللي هم من إجرامهم يجيبوا أخويا ويضروبه أمامي وأنا لا أعرف حاجة عن هذا الكلام.

س: قبل أن يضربوك طلبوا منك أن تقول أقولاً معينة؟

ج: أيوه طلبوا مني أن أقول إني أعرف مالك وعاطف، وطلبوا مني أن أقول إني مشترك في عملية حامد جودة وأعرف المتهمين، وكانوا يجيبوا منهم ولا يعرفوني فيقولوا لهم مش ده عبد الفتاح ثروت.

وبعد ذلك أغمى على الشاهد المذكور وتشنج وتقلصت أعصابه وأخذ يصدر صوتًا منقطعًا عاليًا، واستمرت هذه الحالة مدة طويلة، ثم نقل بمعرفة ضباط الحرس إلى غرفة إسعاف المحكمة لإسعافه، وقد لاحظت المحكمة في أول الأمر أن الشاهد كان في حالة عصبية أثناء إدلائه بشهادته.

وقفة لازمة:

تبين شهادة الأخ عبد الفتاح ثروت إلى أي حد من الخسة وصل هؤلاء الخونة الذين باعوا فلسطين لليهود دون مقابل، إلا إرضاء سادتهم من المستعمرين، ولم يمنعهم الخجل أن يتجبروا على المجاهدين الذين أسهموا في مقاومة أعداء هذا الوطن وهم أولهم، فقد ثبتت خيانتهم جهارًا نهارًا، فأصبحوا محاربين تحل محاربتهم أسوة باليهود والصهاينة والإنجليز، ولكنهم انحطوا في معاملة مقاتليهم إلى أدنى من درجات اليهود والصهاينة والمستعمرين، فاستحقوا أن يزيل الله سلطانهم، وقد ظهر للقاصي والداني إدانة الضابطين محمد الجزار، و توفيق السعيد الحمار فيمن أدينوا بقتل الإمام الشهيد علنًا على قارعة الطريق، ودخلوا السجن، حتى نجحت العمالة للمستعمر في إخراجهم للاستفادة بخبراتهم في تعذيب الإخوان في عهد عبد الناصر، أكبر طاغوت وصل إلى عرش مصر من أبينا آدم -عليه السلام- إلى اليوم وذلك قبل أن يستدعي خبراء التعذيب العالميين من النازيين السابقين والروس الشيوعيين لتتلمذ عليهم هذه الطغمة الفاجرة من ضباطه الذين تطوعوا بتنفيذ هذه الأساليب الوحشية التي ملأت صفحات الكثير من الكتب الحديثة في هذه الأيام وكنت جميعها موجهة ضد الإخوان المسلمين ، وقبل أن نعرج إلى دور النظام الخاص في عهد عبد الناصر يلزمنا أن نتحدث عن النظام الخاص بين الأعمال الفدائية والاغتيالات السياسية قبل عهد عبد الناصر وقد خصصنا لذلك الفصل القادم من هذا الكتاب إن شاء الله.

الفرحة بنصر الله على وجوه بعض المتهمين في قضية السيارة الجيب بعد الإفراج عنهم يتوسطهم الدكتور أحمد الملط وعلى يمينه الإخوة صالح عشماوي وعبد الحكيم عابدين «يرحمهما الله» وأمامه الأخ عبد قاسم «يرحمه الله» وعن يساره الأخ محمد فرغلي النخيلي ومن خلفه الإخوة أحمد حسنين ومصطفى مشهور وأحمد زكي حسن وأحمد عادل كمال والسيد فايز وطاهر عماد الدين ومن أمامه الأخ سعيد شلبي.

الفصل الخامس : النظام الخاص بين الأعمال الفدائية والاغتيالات السياسية

مقدمة

النظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين وهو الاسم الحركي لجيش مسلم يلتزم بأحكام الله في كل ما يصدر عنه من أعمال.

وإذا كان الله جل وعلا قد حرم قتل النفس، فإنه اشترط لتحريم ذلك ألا تكون النفس المقتولة قد قتلت نفسًا، أو أفسدت في الأرض لقوله تعالى ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسرائيل أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].

وقد كلفت الشريعة الإسلامية الحاكم بالقصاص في ظروف السلم دون غيره من الناس، ومن ناحية أخرى فقد شرع الإسلام القتال للمسلمين دفاعًا عن عقيدتهم فقال جل وعلا:

1- ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:216].

2- ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29].

3- ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيخْزِهِمْ وَينصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبهِمْ وَيتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 14، 15].

ومن هذه الآيات البينات نعلم أن الله أجل للمؤمنين قتال المشركين والذين أوتوا الكتاب من كان منهم لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرم ما حرم الله ورسوله، ولا يدين دين الحق، وجعل ذلك فريضة على كل مسلم، فيتعين عليه أن يجيب دعوة الحاكم له للجهاد، فإن هزمت جيوش الدولتة أصبح قتالهم فرض عين على كل مسلم ومسلمة.

ولقد سبق لنا في الفصل الأول من هذا الكتاب أو ضعنا بين يدي القارئ الكريم رسالة الجهاد كما كتبها فضيلة الإمام الشهيد، فأفصح وأبان عن النصوص الكثيرة من القرآن الكريم والسنة المطهرة وأقوال الفقهاء في فرضية القتال في سبيل الله على المسلمين كافة إذا ما عجز جيش الدولة عن الصمود أمام الأعداء.

ويلزمنا أن نوضح أن الإسلام قد استثنى من هذه الأحكام من كان بينهم وبين المسلمين عهد أو ميثاق إلى أجله، كما استثنى أهل الكتاب المواطنين في الدولة الإسلامية فهؤلاء لهم من رعاية الدولة ما لغيرهم من المسلمين سواء بسواء ولا يشترط أن يكون قتال الكفار والخارجين على الدين من الذين أوتوا الكتاب قاصرًا على جبهة القتال، بل يجوز قتلهم فرادى في منازلهم بإذن ولي الأمر ماداموا من المحاربين للإسلام والمسلمين، وقد أمر رسول الله أصحابه بالإجهاز على أكثر من واحد من هؤلاء الأعداء، غيلة، لما قام الدليل على أنه محارب لله ولرسوله وللمؤمنين دون أن يكون ذلك في ميدان القتال (انظر الفصل السابع من هذا الكتاب).

ويكون القاتل في هذه الحالة مجاهدًا في سبيل الله، تميزه عبارات الجندية الحديثة فتسميه فدائيًا لأنه يقوم بعمله وحده بعيدًا عن مناصرة جيش المسلمين، أما الاسم العسكري الغربي لمثل هذا الجندي فهو كوماندوز.

ومن ثم فإنه يمنكننا تقسيم أعمال المجاهدين في سبيل الله من جنود النظام الخاص والإخوان المسلمين إلى قسمين رئيسين:

1- أعمال القتال في سبيل الله وهي المعارك التي قام بها جنود الجيش الإسلامي ضد الصهاينة في ميدان القتال بفلسطين ، وهو ما سنخصص له الفصل السادس من هذا الكتاب بإذن الله.

2- أعمال الفداء وهي الأعمال التي يقوم بها فرد أو عدد قليل من الأفراد ضد أعداء الله مباغتين لهم دون إعلان أو إنذار، ومتعرضين في ذلك للفداء بأنفسهم لقلة عددهم وسط جنود العدو في سبيل عقيدتهم ودينهم، وهو ما نخصص له هذا الفصل إن شاء الله.

وجدير بالذكر أن التعبير القانوني لمثل هذه الأعمال الفدائية هو الاغتيالات السياسية حيث إن القوانين الوضعية لا تستمد نصوصها من شريعة الإسلام ، ومن ثم كان عنوان الفصل «النظام الخاص بين الأعمال الفدائية والاغتيالات السياسية».

ولا تحل شريعة الإسلام إباحة العمل الفدائي، بالوصف الذي ذكرناه إلا لتبيح القضاء على أعداء الله من أقصر طريق، ولكن الناس بعد أن بعدوا عن شريعة الإسلام واحتكموا إلى القوانين والنظم الوضعية، درجوا على الاغتيالات السياسية لدوافع وطنية صرفة قد لا يكون من بينها عداوة المقاتلين للدين، بل أسباب أخرى مثل الخلاف في الرأي السياسي، أو رغبة التخلص من الحكم الديكتاتوري، أو قتل أعداء الوطن بغض النظر عن دينهم، أو تحقيق أغراض سياسية.

ولم تقتصر عملية تنفيذ الاغتيالات في العصر الحديث على المواطنين المغلوبين على أمرهم في بلادهم، بل امتدت إلى الحكام للتخلص من خصومهم السياسيين رغم تمكنهم من الحكم والسلطان، ولقد عرفت مصر الحديثة كل هذه الأشكال من الاغتيالات السياسية بدءًا بأيام الحملة الفرنسية على مصر ، فكانت أول حادثة اغتيال سياسي في العصر الحديث هي مقتل كليبر الجنرال الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت في قيادة الحملة الفرنسية، وإن كنا بحكم الإسلام نعد قتل كليبر من أعمال الجهاد الفدائية لأنه محارب للمسلمين في عقر دارهم، ونعد قاتله سليمان الحلبي من المجاهدين الفدائيين في سبيل الله الذين افتدوا دينهم بأرواحهم فهو من الشهداء إن شاء الله.

وفي عصر محمد علي ظهرت أكبر حادثة اغتيال سياسي من السلطان، وذلك بتدبير محمد علي لمذبحة المماليك سنة 1811 بخديعتهم جميعًا لحضور حفل زفاف مزعوم بالقلعة، ثم القضاء عليهم بضربة واحدة غيرت مجرى التاريخ، ولا يقع هذا الحادث ضمن أعمال الفداء بحال من الأحوال.

كما نسب المؤرخون إلى محمد علي قتل «ابن الجبرتي» المؤرخ المصري الذي لم يستطيع محمد علي الانتقام منه في شخصه فانتقم بتدبير اغتيال ابنه، وفي عصر إسماعيل حدث اغتيال إسماعيل المفتش وزير مالية الخديوي إسماعيل.

كما نسبت الأساطير إلى الإنجليز قتل مصطفى كامل باشا بالسم وهو في الرابعة والثلاثين من العمر، ولم يأخذ بذلك المؤرخون.

أما في سنة 1910م فقد حدثت أول جريمة سياسية في مصر بالمعنى الحقيقي المفهوم وهي قتل بطرس غالي باشا رئيس مجلس النظار على يد إبراهيم الورداني، ثم تبعه قتل «السر دار لي ستاك» ثم قتل «أحمد ماهر باشا» ثم «أمين عثمان باشا»، ولم لكن للإخوان المسلمين ولا لنظامهم الخاص علاقة بإحدى هذه الحوادث، فقد قام بها أصحابها جميعًا لأسباب وطنية بحتة ليس من بينها وازع الدفاع عن الوطن الإسلامي، وعلى العكس فقد قتل إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس وزراء مصر المرشد العام للإخوان المسلمين خضوعًا لأوامر سادته من المستعمرين والصهاينة وهو في عز سلطانه مما يدمغه بصفة المحارب للمسلمين.

ولكي ندلل للقارئ الكريم على أن فكرة الاغتيالات السياسية لا تحتاج إلى تنظيم جيش كامل، كما فعل الإخوان المسلمون للدفاع عن الإسلام ، بل إنها فكرة فردية يقوم بها فرد واحد أو عدد قليل من الأفراد لظروف مؤقتة تزول بزوال أسبابها سنسرد حصرًا لما وقع على أرض مصر من اغتيالات ما بين عامي 1910 وحتى نهاية 1945 ، ولم يكن للإخوان المسلمين ذكر في أي منها رغم وجود نظامهم الخاص في ست السنوات الأخيرة من هذه الفترة، ورغم وجود الإخوان المسلمين كجمعية إسلامية طوال الست عشرة سنة الأخيرة من هذه الفترة.

حصر لما وقع على أرض مصر من اغتيالات من سنة 1910 إلى سنة 1945

حصر لما وقع على أرض مصر من اغتيالات من سنة 1910 إلى سنة 1945

منها 66 قضية اغتيالات سياسية والباقي قضايا اتفاق جنائي على قلب نظام الحكم أو قضايا تخريب بعض الممتلكات الحكومية


رقم الحادثة تاريخ وقوعها موضوعها اسم الجاني وسبب الحادثة والحكم
1 20/2/1910 اغتيال بطرس غالي باشا رئيس النظار ووزير الخارجية أتهم فيها إبراهيم ناصف الورداني بسب دفاع بطرس غالي باشا عن الشروط المفتوحة لمد امتياز شركة قناة السويس
2 مايو 1912م تآمر على قتل سعيد باشا واللور كتشنر اتهم فيهما إمام واكد ومحمد طاهر العربي ومحمد عبد السلام وحكم على الأول بالسجن مع الأشغال الشاقة 15 عاما، وعلى الثاني والثالث 15 عامًا، والسبب إعلان معادة الإنجليز وأعوانهم
3 أغسطس 1912 أعمال عدائية ضد الإنجليز منها توزيع منشورات ضد الإنجليز والتحريض على قتلهم والقيام باشعال النار في كل مكان والعمل على قتل الخديوي واللورد كتشنر:وقد أطلق على هذه القضية اسم قضية المؤامرة اتهم فيها أحمد مختار ودلت التحقيقات على اتصال الشيخ عبد العزيز جاويش ومحمد بك فريد وغيرهما بالمتهم أحمد مختار، وحكم عليه بالسجن 10 سنوات
4 8/4/1915م محاولة اغتيال السلطان حسين كامل الأولى أتهم فيها محمد خليل وحكم عليه بالإعدام وأعدم في 24/4/ 1915
5 9/7/1915م محاولة اغتيال السلطان حسين كامل الثانية اتهم فيها محمد مجيب الهلباوي ومحمد شمس الدين وحكم عليهما بالإعدام وعدل في 2/6/ 1916 إلى الأشغال الشاقة المؤبدة
6 4/9/1915م محاولة اغتيال إبراهيم باشا فتحي وزير الأوقاف أتهم فيها صالح عبد اللطيف وحكم عليه بالإعدام ونفذ فيه الحكم
7 10/6/1919م محاولة اغتيال محمد سعيد باشا رئيس مجلس الوزراء أطلق مجهولون أعيرة نارية حول منزل دولته ولم يضبط أحد
8 2/9/ 1919م محاولة اغتيال محمد سعيد باشا أتهم فيها :

1- سيد علي محمد وحكم عليه بعشر سنوات

2- محمد شكري الكرداني وحكم عليه بخمسة عشرة سنة

3- محمد محمد خليفة وبرئ.

9 22/11/ 1919م قتل الكابتن صموئيل كوهين أطلق عليه أعيرة نارية من مجهولين فتوفى على الأثر.
10 23/11/1919م محاولة اغتيال الجاويش ولكوكس والجاويش فورستر وعسكريان من الجيش البريطاني أطلق عليه مجهولون أربعة أعيرة نارية وأصيب الجاويش فورستر في ساقه الأيسر
11 23/11/1919م محاولة الاعتداء على الكابتن مارسون واللفتتانت «لاجرس» وضابطين من الجيش البريطاني أطلق عليهم مجهولون عياراً ناريًا
12 25/ 11/ 1919م محاولة الاعتداء على سائق سيارة بالجيش البريطاني أطلق عليه ثلاثة أعيرة نارية من مجهولين وكان يقود السيارة
13 26/11/ 1919م محاولة الاعتداء على بارتس وايرث أطلق مجهول عليهما ست طلقات نارية فأصيبا ولم يضبط أحد
14 28/ 11/ 1919م محاولة الاعتداء على درنكر أنر وايجين أطلق مجهول ستة أعيرة نارية عليهما
15 4/ 12/ 1919م التآمر على قتل العساكر الإنجليز أتهم فيها عبد الرحمن البيلي بك المحامي وصلاح الدين ناصف وجلال الدين ناصف وعصام الدين ناصف وأمين عز العرب في 12/12/ 1919 وأبعد إلى بلدته تحت حراسة البوليس واتخذت نفس الإجراءات مع عبد الرحمن البيلي بك في فبراير سنة 1920 بعد شفائه من مرضه، أما جلال وصلاح ناصف فظلا محبوسين حتى سبتمبر 1920 حيث أفرج عنهما
16 15/ 12/ 1919م محاولة اغتيال دولة يوسف وهبة باشا أتهم فيها الطالب عريان يوسف سعد من طلبة كلية الطب، ألقى على دولته قنبلتين وحكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات
17 من ديسمبر 1919 إلى يونيو 1920 التآمر على قلب نظام الحكم والتحريض على قتل عظمة السلطان والوزراء أتهم فيها :

1- عبد الرحمن فهمي بك

2- على هنداوي

3- محمد لطفي المسلمي

4- حسني عبده الشناوي

5- توفيق صليب

6- محمد حلمي الجبار

7- منير جرجس عبد الشهيد

8- حامد محمد المليجي

9 إبراهيم عبد الهادي المليجي

10- أنيس سليمان

11- محمود عبد السلام

12- محمد عبد الرحمن

13- محمد سامي

14- ياقوت عبد النبي

15- عبد العزيز حسن هندي

16- محمد يوسف

17- قرياقص ميخائيل

18- صالح حسن شلبي

19- محمد الميرغني

20- عبد المعطي الحجاجي

21- حافظ محمود عوض

22- محمد حسن البشبيشي

23- عازر غبريال

24- الشيخ محمد المصيلحي

25- ناشد غبريال

وحكم عليهم أمام المحكمة العسكرية بعقوبات متفاوتة

18 2/ 5/ 1919م محاولة اغتيال العسكريين سافيل وفلتون من الجيش البريطاني أطلق مجهولون عليهم أعيرة نارية
19 6/ 5/ 1920م اغتيال هيدن ومحاولة اغتيال منيت أطلق مجهول عليهما أعيرة نارية فقتل هيدن وجرت مينت
20 6/ 5/ 1920م محاولة اغتيال حسين درويش باشا ألقى مجهول قنبلة على معاليه فأصيب السائق وكسر الزجاج
21 9/5/ 1920م محاولة اغتيال اللفتانت فرلست أطلق مجهول عليه أعيرة نارية
22 3/6/ 1920م محاولة الاعتداء على المستر مفاكدس المترجم البحري بالجيش البريطاني أطلق عليه أعيرة نارية
23 12/ 5/ 1920م محاولة اغتيال محمد توفيق نسيم باشا ألقى إبراهيم مسعود قنبلة على رفعته وهو راكب سيارته وحكم عليه بالإعدام ونفذ فيه الحكم في 8/ 7/ 1920
24 ديسمبر 1920م إحراز قنابل ومفرقعات بمنزل عبد العزيز راشد سنة 1920- 1921 أتهم فيها :

1- عبد العزيز راشد وحكم عليه بالسجن مع الأشغال ثلاث سنوات والجلد

2- كامل محمد عبد الخالق وحكم عليه بغرامة عشرة جنيهات أو الحبس شهر فدفع الغرامة

25 1/ 1/ 1921م محاولة قتل محمد بدر الدين بك أطلق عليه مجهول النار
26 20/ 2/ 1921 قتل العسكري البريطاني يردكول وزميله سورتي أطلق مجهول عليهما النار فقتل العسكري الأول
27 30/ 12/ 1921 قتل المستر هاني الموظف بمصلحة السكة الحديد أطلق مجهول عليه النار
28 5/ 1/ 1922م قتل محمد بدر الدين بك أطلق مجهول عليه النار فتوفى
29 22/ 1/ 1922م قتل المستر فاندرهتش أطلق مجهول عليه أعيرة نارية
30 23/ 1/ 1922م محاولة قتل عبد الخالق ثروت محمد باشا والينوباشي سليم زكي أفندي أتهم فيها: محمد الحسن سعد وعلي رحمي ومحمود حنفي وعبد الحكيم محمود وحكم عليهم بأحكام متفاوتة
31 25/ 1/ 1922م قتل الصف ضابط «استيل» بالجيش البريطاني أطلق مجهول أعيرة نارية عليه فأرداه قتيلا
32 13/ 2/1922م قتل العسكري البريطاني كارشو أطلق أعيرة نارية عليه
33 15/ 2/ 1922م قتل المستر هويكس أطلق مجهول أعيرة نارية عليه
34 17/ 2/ 1922م قتل الكابتن جوردن أطلق مجهول أعيرة نارية عليه
35 18/ 2/ 1922 محاولة قتل المستر الفريد براون أطلق مجهول عليه أعيرة نارية أصابته هو وساعيه عبد الكريم إبراهيم
36 18/2/ 1922م قتل المستر ادمونديش الموظف بعنابر السكة الحديد أطلق مجهول عليه أعيرة نارية
37 11/ 3/ 1922م قتل المستر ماكنتوش الموظف بمصلحة السكة الحديد أطلق مجهول عليه أعيرة نارية
38 1/ 4/ 1922م محاولة قتل الميجور اندرسون وخادمه عبد الواحد الجبلي اعترف زكي حنفي المغربي ومحمد دسوقي مصطفى، وعلي فهمي، وإبراهيم خليل نظير بالتآمر على قتل الميجوار ندرسون يوم 1/4/ سنة 1922 ولما لم يخرج قتلوا خادمه ودفنوه بالجبل
39 16/ 4/ 1922م محاولة قتل العسكريان البريطانيان بيكر وتونسد أطلق مجهول عليهما أعيرة نارية
40 23/ 4/ 1922م قتل حسين مصطفى فرغلي تآمر كل من حافظ حسن علي وتوفيق أحمد العزب، وأحمد رشدي، وعلى يوسف، على قتله لاعتباره شاهد ملك في قضية التآمر على قتل عبد الخالق ثروت باشا، واليوزباشي سليم زكي أفندي، وحكم عليهما بأحكام متفاوتة
41 14/ 5/ 1922 قتل البكباشي كيف أطلق مجهول عليه أعيرة نارية
42 15/ 7/ 1922م قتل الكولونيل ميجوت أطلق مجهول عليه أعيرة نارية
43 12/ 8/ 1922م قتل المستر يردن أطلق مجهول عليه أعيرة نارية
44 16/ 11/ 1922م قتل حسن باشا عبد الرزاق وإسماعيل زهدي بك أطلق مجهولون عليهما أعيرة نارية فقتلا
45 27/12/ 1922م محاولة قتل المستر روبين أطلق مجهول عليه أعيرة نارية
46 7/ 2/ 1923م قتل المستر ايبلر الموظف بمصلحة السكة الحديد أطلق مجهول عليه أعيرة نارية فأرداه قتيلاً
47 12/ 2/ 1923م إلقاء قنبلة على معسكر الجيش البريطاني تسبب عنها قتل شخص وجرح عسكريان وقيدت ضد مجهول
48 17/ 2/ 1923م إلقاء قنبلة على عساكر إنجليز تسبب عنها جرح خمسة عساكر إنجليز وثلاثة مصريين وقيدت ضد مجهول
49 24/ 3/ 1923م ألقاء قنبلة على رئاسة الجيش البريطاني أيدن بالاس هوتيل ألقاها مجهولون
50 24/ 3/ 1923م ألقاء قنبلة على محل سمك ألقاها مجهولون وتسبب عنها قتل شخص مصري وجرح آخرين مصريين وثلاثة عساكر
51 من سنة 1920 إلى سنة 1922 قضية المؤامرة الكبرى الثانية وقد نسب إلى المتهمين جميع القضايا التي قيدت ضد مجهول وكان ضحاياها من العساكر الإنجليز ومقرها القاهرة وأسيوط ومنفلوط وبعض بلاد القطر خلال الفترة من 1920 إلى 1922 وكذلك محاولة قتل جميع الأشخاص الذين أدلوا بشهادتهم أمام المحاكم العسكرية العليا كشهود إثبات المتهمون:

1- إبراهيم نظير خليل إعدام ونفذ

2- محمود دسوقي مصطفى البنا إعدام ونفذ الحكم

3- محمد الشافعي البنا . إعدام وعدل للأشغال الشاقة المؤبدة

4- علي فهمي إعدام ونفذ الحكم

5- السيد محمد سجن 5 سنوات مع الشغل

6- حسن العرب سجن 5 سنوات مع الشغل

7- محمد معوض سجن 3 سنوات مع الشغل

8- صبحي إبراهيم اثنتي عشرة جلدة ونفذ

9- سليم باسيلي- عشر سنوات مع الشغل

10- حسن السعيد- عشر سنوات مع الشغل

11- حسن توفيق 15 سنة مع الشغل

12- حسين محمد أمين 3 سنوات مع الشغل

13- محمد عبد الخالق إعدام وعدل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة

14- عبد السلام صالح -براءة

52 29/ 2/ 1923م طبع ونشر منشورات تحض على الثورة ضد الحكومة أتهم فيها : حمدي الباسل باشا- إعدام ويصا واصف- إعدام جورج خياط بك- إعدام علوي الجزار بك- إعدام مراد الشريف بك- إعدام مرتضى حنا- إعدام واصف بطرس غالي- إعدام ثم عدل الحكم إلى أشغال شاقة 7 سنوات وغرامة 5000 جنيه لكل منهم وجميعهم أعضاء الوفد المصري
53 5/ 5/ 1923م إلقاء قنبلة على العساكر الإنجليز مجهول
54 5/ 5/ 1923م إلقاء قنبلة على قطار الترام بالظاهر مجهول
55 16/ 5/ 1923م إلقاء قنبلة على قطار الترام ببولاق مجهول
56 2/ 12/ 1923م قتل اللفتانت جاكسون أطلق مجهول عليه أعيرة نارية
57 12/ 7/ 1924م محاولة قتل سعد باشا زغلول حاول مجنون اغتياله واحيل إلى مستشفى المجاذيب
58 16/ 11/1924م قتل السيرلي ستاك سردار الجيش المصري وحاكم السودان المتهمون:

1- عبد الحميد عنايت إعدام ونفذ

2- عبد الفتاح عنايت - أشغال شاقة مؤبدة

3- إبراهيم موسى - إعدام ونفذ

4- محمد راشد -إعدام ونفذ

5- علي إبراهيم محمد - إعدام ونفذ

6- راغب حسن - إعدام ونفذ

7- شفيق منصور -إعدام ونفذ

8- محمود إسماعيل - إعدام ونفذ

9- محمود صالح 3 سنوات أشغال شاقة

59 سنة 1925 قضية الاغتيالات السياسية من سنة 1919 إلى سنة 1923 عدد 25 حادثة ضد الإنجليز من القضايا التي قيدت ضد مجهول المتهمون:

1- محمد فهمي علي ..إعدام ونفذ

2- محمود عثمان لطفي .. براءة

3- أحمد جاد الله .. براءة

60 25/ 8/ 1931 محاولة قتل دولة إسماعيل صدقي باشا النائب السوداني حسين محمد طه عن إقليم الدر، وقد مات بالسجن مضربًا عن الطعام
61 22/ 9/ 1931م قضية القنابل اتفاق جنائي على أعمال قتل وتخريب سياسي وكان الغرض من هذه الجرائم لفت نظر الحكومة إلى العمال بعد أن قلق ورثتهم بسبب حوادث اضطرابات مايو سنة 1931 وإعادة من طرد منه المتهمون:

1- إبراهيم محمد عبده الفلاح - أشغال شاقة 15 سنة ثم عفو لاعتباره شاهد ملك

2- عبده عبد الرسول - 12 سنة أشغال شاقة

3- أحمد محمد عزب - 10 سنوات أشغال شاقة

4- محمد علي محمد- 12 سنة أشغال شاقة

5- توفيق أحمد عزب- 12 سنة أشغال شاقة

6- محمد محمد قاسم - 6 سنوات سجن

7- حامد نصر- 4 سنوات أشغال شاقة

8- محمد علي بدر - 6 سنوات أشغال شاقة

9- توفيق حسن - 6 سنوات أشغال شاقة

10- صبحي شنودة - 5 سنين سجن

11- أحمد إسماعيل فرحات - 3 سنين سجن

12- شعبان أحمد شعبان - 3 سنين سجن

62 10/ 10/ 1931م شيخ الأزهر والقائمقام سليم زكي بك اتفاق جنائي لارتكاب جرائم سياسية المتهمون:

1- حافظ على حسن

2- سلامة سيد أحمد سليم

3- سيد عبد الخالق

4- محمود محمد إبراهيم

5- عبد القادر مختار

6- حداد شاذلي

7- محرم راشد وقبض على الأربعة الأول متلبسين وقدموا للمحاكمة

63 6 مايو سنة 1932م محاولة قتل دولة إسماعيل صدقي باشا ومعه أصحاب المعالي الوزراء والنواب والشيوخ (قضية قنبلة طما) المتهمون:

1- محمد طه أبو غريب- أشغال شقة مؤبدة

2- السيد محمد عيسى- أشغال شاقة

3- علي أحمد هيكل براءة

64 28/ 11/ 1937 الاعتداء على رفعة النحاس باشا أطلق عز الدين عبد القادر توفيق أربعة أعيرة نارية، ولم يصب رفعته وحكم عليه بالحبس عشر سنوات مع الشغل
65 31/ 12/ 1941م محاولة قتل أربعة صف ضباط بالأسطول البريطاني أطلق مجهولون عليهم أعيرة نارية وأصيب اثنان منهم
66 10/ 4/ 1941م قتل ملازم من فرق الإسعاف الأمريكية أطلق عليه مجهولون عدة طلقات نارية
67 15/ 11/ 1941م محاولة قتل اثنين من العساكر البريطانيين أطلق مجهولون عدة طلقات نارية أصابت أحدهما برصاصة من عيار 32 استخرجت من يده
68 7/ 11/ 1944م قتل اللورد موين وزير الدولة الريطاني بالشرق الأوسط وسائقه الإسرائيليان الياهو حكيم، والياهو باتسوى وقد قتل اللورد وأصيب سائق السيارة وحكم عليهما بالإعدام ونفذ
69 10/ 11/ 1944م محاولة قتل جاويش وعسكري نيوزيلاندي أطلق عليهما مجهولون أعيرة نتارية وقد قتل أحدهما
70 8/ 12/ 1944م قتل ملازم بالجيش البريطاني أطلق عليه الرصاص وأصيب في أسفل صدره


ومن الواضح عند استقراء هذا الجدول أن كل الحوادث التي وقعت فيه هي من حوادث الاغتيالات السياسية التي ليس لها علاقة بالدفاع عن الإسلام أو نشر الدعوة الإسلامية، وأن الدكتور محمد متولى قد التزم وهو يحصر هذه الحوادث بتعريفه للاغتيالات السياسية حيث إنه مع الرأي القائل أن الحادث يكون سياسيًا إذا كان الباعث سياسيًا بغض النظر عن شخص المجني عليه.

كما يلاحظ أن الإدانة في جرائم الاتفاق الجنائي بدأت بعد حادث اغتيال بطرس غالي باشا سنة 1910، فقد أدين كل من إمام واكد ومحمد طاهر العربي، ومحمد عبد السلام في قضية التآمر على قتل سعيد باشا واللورد كتشنر في مايو سنة 1912 وحكم على الأول: بالسجن مع الأشغال الشاقة 15 عامًا وعلى الثاني والثالث بالسجن 15 عامًا، وكان سبب التآمر هو الرغبة في إعلان معاداة الإنجليز وأعوانهم، وكان أكثر أحكام الإدانة في جرائم الاتفاق الجنائي ظلمًا هو الحكم الصادر في قضية اغتيال السيرلي ستاك سردار الجيش المصري وحاكم السودان في 16/11/ 1924م، حيث حكم فيها بإعدام سبعة رجال ونفذ ذلك الحكم الظالم بالإضافة إلى سجن رجلين آخرين.

ويمكننا تلخيص هذا الجدول من حيث أسباب الاغتيالات السياسية فيه إلى البيان التالي:

  • عدد 43 قضية اعتداء على أفراد من قوات الاحتلال وأعوانه وهو حق مشروع في العرف الدولي للمواطنين في كل بلد محتل، ويعتبر عملاً فدائيًا.
  • 22 قضية اعتداء على الحكام الوطنيين.

ويتوقف الحكم على الجناة في هذه القضايا على دور الحكام الوطنيين في حكم بلدهم، فإن كان في هذا الدور خضوع أو معاونة للمحتل أو قهر واستبداد بالشعب، أجاز العرف الدولي للمواطنين ذلك في كل بلد يتعرض شعبه لمثل هذه الظروف ويعتبر عملاً فدائيًا.

أما إذا كان الباعث على الاعتداء خلاف في الرأي السياسي، أو الاقتصادي أو كان رغبة في الوصول إلى الحكم لأي سبب من الأسباب غير ما ذكر كانت عمليات الجناة اغتيالات سياسية.

كما يمكننا تلخيص نفس الجدول من حيث البواعث على الاغتيالات السياسية فيه إلى البيان التالي: عدد 50 قضية وقعت في الفترة من سنة 1919 إلى سنة 1923 وهي فترة قيام ثورة 1919 وما يتبعها من زيادة الشعور الوطني ضد الإنجليز وأعوانهم.

  • 5 أيام الحرب العالمية ضد قوات الاحتلال الإنجليزي.
  • المجموع 66

ومن الملاحظات الهامة في هذا الجدول:

1- إن الشعب المصري حاول اغتيال سليم زكي ثلاث مرات الأولى 23/1/ 1922، والثانية في 23/ 4/ 1922 وهو برتبة يوزباشي، والثالثة في 10/10/ 1931 وهو برتبة قائمقام وأنه قتل أخيرًا في إحدى المظاهرات سنة 1948 ، ولم تكن جماعة الإخوان المسلمين قد ظهرت إلى الوجود عند المحاولتين الأولتين، وكانت هذه الجماعة لا تزال وليدة وكان عمرها ثالث سنوات بالنسبة للحالة الثالثة، ولا علاقة بها، مما يقطع أن قتل سليم زكي سنة 1948 كان هدفًا وطنيًا وليس خاصًا بالإخوان المسلمين بأي حال من الأحوال.

2- إن حزب الوفد المصري باعتباره حزبًا وطنيًا علمانيًا قد جمع في قيادته بين المسلمين والمسيحيين كما اشترك شبابه المسلم والمسيحي جنبًا إلى جنب في قضايا الاغتيالات السياسية على نطاق واسع باعتبارها ضرورة لازمة لمناهضة المحتل الإنجليزي وأعوانه، مما يقطع أن القتال المسلح ضد من يغتصب مصر يقوي الوحدة الوطنية ولا يمزقها إذا قادة الإخوان المسلمون ضد المحتل وأعوانه من الخونة. إن الإخوان المسلمين لم يشتركوا طوال هذه الفترة في أي من هذه القضايا لاختلاف الباعث لديهم على القتال، وهو الباعث الديني الذي تفرضه الشريعة الإسلامية، لا مجرد الدافع الوطني لتحرير مصر فحسب، ولم يكن أحد من الحكام المصريين حتى نهاية فترة هذا الجدول قد وضع نفسه في موضع المحارب للإسلام والمسلمين بعد، بل كانوا جميعًا يعلنون أنهم يعملون على تحرير مصر من الاحتلال ولم يكن أمام الإخوان المسلمين إلا منحهم الفرصة لقيادة هذا النوع من النضال.

4- إن هناك قضايا اغتيالات سياسية قام بها أفراد دون توجيه من أي حزب من الأحزاب لمجرد شعورهم الوطني بضرورة الاشتراك في قتال المستعمرين وأعوانهم، لدرجة أن هناك مجنون قام بإحدى محاولات الاغتيال السياسي، وذلك يعني أن القضاء على الإخوان المسلمين لا يمكن أن يكون وسيلة للقضاء على الاغتيالات السياسية، بل إن العكس هو الصحيح، فإن تقوية الإخوان المسلمين تؤمن النضال الوطني ضد التهور والتطرف في العمل الوطني، بتطبيق الضوابط الدينية.

الاغتيالات السياسية والأعمال الفدائية خلال الفترة من 1945 إلى 1952

لا يوجد مرجع حتى اليوم يجمع الاغتيالات السياسية والأعمال الفدائية في مصر في هذه الفترة رغم كثرة هذه الأعمال وتعدد الأحزاب والجماعات والأفراد الذين اشتركوا فيها.

ويمكننا تشبيه هذه الفترة من عمر مصر بفترة 19+19- 1923 فكلا الفترتين مشتركتان في كونهما بعد حرب عالمية أسهمت فيها مصر في انتصار الدولة المحتلة لأراضيها وهي بريطانيا، مما جعل من حق شعب مصر أن يطالب بالجلاء ثمنًا للجهد الذي بذله والدم الذي أهدره من رجاله وشبابه ونسائه وأطفاله في سبيل نصرة هذه الدولة المحتلة لأراضيه، وما كان في الإمكان أن تنتصر هذه الدولة لولا ما قدمه شعب مصر لها من معونات.

ففي الحرب العالمية الأولى اشتركت مصر بقواتها فعلاً في الحرب مع الإنجليز على وعد منهم بمنح الشعوب العربية الثائرة على الحكم التركي استقلالها في نهاية الحرب، وقد ضحت مصر بالدفاع عن الوطن الإسلامي المتمثل في الحكم التركي، في سبيل الدفاع عن الوطن العربي الذي ضج من خروج الحكم التركي على قواعد الإسلام العادلة.

وبعد انتهاء الحرب سحبت إنجلتر وعدها للعرب عامة ولمصر خاصة في الوقت الذي كافأت فيه اليهود بوعد مثير هو العمل على تحقيق وطن قومي لهم في فلسطين بمقتضى وعد «بلفور» الصادر سنة 1917، فكان لمصر وللعرب من هذه الحرب جزاء سنمار.

ومن هذا المنطلق قامت ثورة 1919 ثورة وطنية علمانية قادها سعد زغلول باشا ضد الإنجليز وأعوانهم، لم ينطفئ أوراها إلا بإعلان استقلالمصر ودستور 1923.

وفي الحرب العالمية الثانية قبلت مصر على مضض الإهانة التي وجهها الإنجليز إلى قيادتها العليا بفرض النحاس باشا رئيسًا للوزراء أو خلع الملك، وذلك لثقتها أن الشعبية التي يتمتع بها النحاس باشا هي الضمان الوحيد لكسب هدوء الشعب المصري أثناء تعرضه لويلات هذه الحرب، وبغير هذا الهدوء لا يمكن للحلفاء كسبها.

وقد استجاب شعب مصر فاشترك على نطاق واسع في خدمة قوات الحلفاء على أرضه في معسكرات الجيش الإنجليزي، حيث التحق الآلاف من العمال إن لم أقل الملايين للخدمة في هذه المعسكرات الشاسعة، ولولا جهودهم لعانت قوات الحلفاء الكثير من العرق والجهد والمال لسد هذه الاحتياجات كما تعرض شعب مصر إلى الغارات الجوية المدمرة، وراح منه الضحايا والشهداء بسبب وجود قوات الحلفاء على أرضه، وثبت هذا الشعب الصابر انتظارًا لنهاية الحرب، وكان من حسن طالعه أن حقق الله النصر للحلفاء على أرضه فانهزمت القوات النازية والإيطالية على أرضه في العلمين، بضربة قاضية لم تقم لها بعد ذلك قائمة حتى نهاية الحرب.

وبانتهاء هذه الحرب يصبح من حق مصر أن تطالب بجلاء القوات المحتلة عن أرضها، ولكن مراوغة الإنجليز في مفاوضاتها مع مختلف الأحزاب المصرية للجلاء أثارت الشعب ضدها، فاشترك بكل فئاته في مقاومة مسلحة للإنجليز ليجبرهم على الجلاء، تقوية للمفاوض المصري.

وقد اشترك الإخوان المسلمون في هذه المقاومة بدافع ديني واشتركت كل الأحزاب المصرية فيها بدافع وطني، ومن ثم جاز لنا أن نفرق في التعريف بين العمليات الفدائية التي قام بها جنود الإخوان المسلمين على أرض مصر وبين الاغتيالات السياسية التي قام بها جنود الأحزاب الأخرى ضد الإنجليز، فأعمال الإخوان المسلمين قتال في سبيل الله، وأعمال باقي الأحزاب قتال في سبيل الوطن. وإن كان القانون المصري لا يفرق بين هذين الهدفين، فينظر إلى القائمين بهذه الأعمال جميعًا نظرة التجريم، مادام الحكم مواليًا للاستعمار. ولكن الحق الذي لا مراء فيه هو أن الفدائيين بوازع من العقيدة الدينية هم فدائيون مجاهدون في سبيل الله والفدائيين بوازع وطني فدائيون مجاهدون في سبيل الوطن وكلاهما ينبغي أن يجد من مواطنيه التقدير والثناء.

ولقد جد عامل جديد خلال هذه الفترة أضيف إلى أسباب الثورة في مصر على الإنجليز، هو حلول موعد انتهاء الانتداب الإنجليزي على فلسطين المقرر في 15 مايو سنة 1948 وتوقيع إعلان دولة إسرائيل، تنفيذًا لوعد بلفور الصادر في سنة 1917، وهذا العامل يجعل القتال في سبيل تحرير فلسطين ومنع اليهود من إقامة وطن قومي على أرضه فرض عين على كل مسلم ومسلمة في الشريعة الإسلامية، ومن هذا المنطلق تميز نضال الإخوان المسلمين بعبء جديد لم يشترك في حمله أي من الأحزاب الأخرى بجهد يذكر وهو القتال من أجل فلسطين لانفراد مبادئها عن مبادئ سائر الأحزاب المصرية في تعريف الوطن، فهو من وجهة نظر جميع الأحزاب المصرية حدود مصر الدولية، ومن وجهة نظر الإخوان المسلمين حدود الوطن الإسلامي أجمع من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي.

ونظرًا إلى أن هذا الوطن جميعه كان تحت ظلال احتلال كافر، فضلا عن أن مصر كانت تحت ظلال الاحتلال الإنجليزي، فإن القتال ضد العدو المحتل فيه يلزم أن يكون سريًا في طابعه، سواء قام بهذا القتال الإخوان المسلمون أو غيرهم من الأحزاب، ذلك لأن الحاكم الإنجليزي أو الحاكم العربي أو الحاكم المسلم الذي يحكم باسم المحتل لن يسمح لأحد من أفراد شعبه بأن يحمل السلاح علنًا ضد الاحتلال، لأن القوانين الموضوعة بإشراف المحتل تجرم مثل هذا النشاط، بل وتعتبره من أخطر الجرائم وأبشعها، ومن ثم كان الجيش المسلم الذي كونه الإخوان المسلمون جيشًا سريًّا، وكانت الأعمال الفدائية التي نظمها بعض شباب الأحزاب الأخرى ضد الإنجليز وأعوانهم سرية في طابعها سواء بسواء.

وعلى الرغم من التزام الإخوان المسلمين بعدم القيام بأي عمل فدائي ضد إنسان مسلم مهما كان لونه السياسي إلا أولئك الذين أعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين، فأصبحوا من المحاربين الذين يحل للإخوان المسلمين قتلهم، فقد أبت وسائل الإعلام العربية الموجهة من القوى الاستعمارية الغاشمة على أرض العرب إلا أن تفرض على الشعوب العربية اتهام الإخوان المسلمين وحدهم بعمليات القتل والتدمير ضد المواطنين في أرضهم، وهم من ذلك كله أبرياء، كما تصرح بذلك الدراسة التالية من واقع الأعمال الفدائية والاغتيالات السياسية على أرض مصر خلال هذه الفترة.


وسوف أقسم دراستي إلى ثلاثة أقسام متميزة:

أولاً: حوادث الاغتيالات السياسية التي لا يد للإخوان المسلمين ولا لتنظيمهم الخاص فيها.

ثانيًا: أعمال فدائية قام بها الإخوان المسلمون وتنظيمهم الخاص ولم يعرف فاعلها وقيدت ضد مجهول.

ثالثًا: أعمال فدائية قام بها الإخوان المسلمون ضد أعوان الاستعمار والفاعل معروف.

وسوف أبدأ وأنا أقدم هذه الأعمال بأشد الأعمال إساءة للإخوان المسلمين على الرغم من أنه ليس من أعمالهم وهو حادث قتل الخازندار بك رئيس محكمة الاستئناف، الذي اتخذته وسائل الإعلام أداة تشهير ضخمة ضد الإخوان المسلمين ، بل واتخذه بعض الإخوان المسلمين أداة إدانة للنظام الخاص عامة ولرئيسه المرحوم عبد الرحمن السندي خاصة، وسوف ألتزم وأنا أسرد ظروف هذا الحادث الاسم الذي أخذته لهذا الكتاب «الحقيقة» دون أدنى تعديل أو تحوير، داعيًا الله أن يحقق للقراء خاصة وللمسلمين عامة النفع والانتفاع بالتزام الحق والذود عنه، والبعد عن الباطل ومناهضته في كل الظروف والأحوال.

الاغتيالات السياسية والأعمال الفدائية خلال الفترة من 1945 إلى 1952

لا يوجد مرجع حتى اليوم يجمع الاغتيالات السياسية والأعمال الفدائية في مصر في هذه الفترة رغم كثرة هذه الأعمال وتعدد الأحزاب والجماعات والأفراد الذين اشتركوا فيها.

ويمكننا تشبيه هذه الفترة من عمر مصر بفترة 19+19- 1923 فكلا الفترتين مشتركتان في كونهما بعد حرب عالمية أسهمت فيها مصر في انتصار الدولة المحتلة لأراضيها وهي بريطانيا، مما جعل من حق شعب مصر أن يطالب بالجلاء ثمنًا للجهد الذي بذله والدم الذي أهدره من رجاله وشبابه ونسائه وأطفاله في سبيل نصرة هذه الدولة المحتلة لأراضيه، وما كان في الإمكان أن تنتصر هذه الدولة لولا ما قدمه شعب مصر لها من معونات.

ففي الحرب العالمية الأولى اشتركت مصر بقواتها فعلاً في الحرب مع الإنجليز على وعد منهم بمنح الشعوب العربية الثائرة على الحكم التركي استقلالها في نهاية الحرب، وقد ضحت مصر بالدفاع عن الوطن الإسلامي المتمثل في الحكم التركي، في سبيل الدفاع عن الوطن العربي الذي ضج من خروج الحكم التركي على قواعد الإسلام العادلة.

وبعد انتهاء الحرب سحبت إنجلتر وعدها للعرب عامة ولمصر خاصة في الوقت الذي كافأت فيه اليهود بوعد مثير هو العمل على تحقيق وطن قومي لهم في فلسطين بمقتضى وعد «بلفور» الصادر سنة 1917، فكان لمصر وللعرب من هذه الحرب جزاء سنمار.

ومن هذا المنطلق قامت ثورة 1919 ثورة وطنية علمانية قادها سعد زغلول باشا ضد الإنجليز وأعوانهم، لم ينطفئ أوراها إلا بإعلان استقلالمصر ودستور 1923.

وفي الحرب العالمية الثانية قبلت مصر على مضض الإهانة التي وجهها الإنجليز إلى قيادتها العليا بفرض النحاس باشا رئيسًا للوزراء أو خلع الملك، وذلك لثقتها أن الشعبية التي يتمتع بها النحاس باشا هي الضمان الوحيد لكسب هدوء الشعب المصري أثناء تعرضه لويلات هذه الحرب، وبغير هذا الهدوء لا يمكن للحلفاء كسبها.

وقد استجاب شعب مصر فاشترك على نطاق واسع في خدمة قوات الحلفاء على أرضه في معسكرات الجيش الإنجليزي، حيث التحق الآلاف من العمال إن لم أقل الملايين للخدمة في هذه المعسكرات الشاسعة، ولولا جهودهم لعانت قوات الحلفاء الكثير من العرق والجهد والمال لسد هذه الاحتياجات كما تعرض شعب مصر إلى الغارات الجوية المدمرة، وراح منه الضحايا والشهداء بسبب وجود قوات الحلفاء على أرضه، وثبت هذا الشعب الصابر انتظارًا لنهاية الحرب، وكان من حسن طالعه أن حقق الله النصر للحلفاء على أرضه فانهزمت القوات النازية والإيطالية على أرضه في العلمين، بضربة قاضية لم تقم لها بعد ذلك قائمة حتى نهاية الحرب.

وبانتهاء هذه الحرب يصبح من حق مصر أن تطالب بجلاء القوات المحتلة عن أرضها، ولكن مراوغة الإنجليز في مفاوضاتها مع مختلف الأحزاب المصرية للجلاء أثارت الشعب ضدها، فاشترك بكل فئاته في مقاومة مسلحة للإنجليز ليجبرهم على الجلاء، تقوية للمفاوض المصري.

وقد اشترك الإخوان المسلمون في هذه المقاومة بدافع ديني واشتركت كل الأحزاب المصرية فيها بدافع وطني، ومن ثم جاز لنا أن نفرق في التعريف بين العمليات الفدائية التي قام بها جنود الإخوان المسلمين على أرض مصر وبين الاغتيالات السياسية التي قام بها جنود الأحزاب الأخرى ضد الإنجليز، فأعمال الإخوان المسلمين قتال في سبيل الله، وأعمال باقي الأحزاب قتال في سبيل الوطن. وإن كان القانون المصري لا يفرق بين هذين الهدفين، فينظر إلى القائمين بهذه الأعمال جميعًا نظرة التجريم، مادام الحكم مواليًا للاستعمار. ولكن الحق الذي لا مراء فيه هو أن الفدائيين بوازع من العقيدة الدينية هم فدائيون مجاهدون في سبيل الله والفدائيين بوازع وطني فدائيون مجاهدون في سبيل الوطن وكلاهما ينبغي أن يجد من مواطنيه التقدير والثناء.

ولقد جد عامل جديد خلال هذه الفترة أضيف إلى أسباب الثورة في مصر على الإنجليز، هو حلول موعد انتهاء الانتداب الإنجليزي على فلسطين المقرر في 15 مايو سنة 1948 وتوقيع إعلان دولة إسرائيل، تنفيذًا لوعد بلفور الصادر في سنة 1917، وهذا العامل يجعل القتال في سبيل تحرير فلسطين ومنع اليهود من إقامة وطن قومي على أرضه فرض عين على كل مسلم ومسلمة في الشريعة الإسلامية، ومن هذا المنطلق تميز نضال الإخوان المسلمين بعبء جديد لم يشترك في حمله أي من الأحزاب الأخرى بجهد يذكر وهو القتال من أجل فلسطين لانفراد مبادئها عن مبادئ سائر الأحزاب المصرية في تعريف الوطن، فهو من وجهة نظر جميع الأحزاب المصرية حدود مصر الدولية، ومن وجهة نظر الإخوان المسلمين حدود الوطن الإسلامي أجمع من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي.

ونظرًا إلى أن هذا الوطن جميعه كان تحت ظلال احتلال كافر، فضلا عن أن مصر كانت تحت ظلال الاحتلال الإنجليزي، فإن القتال ضد العدو المحتل فيه يلزم أن يكون سريًا في طابعه، سواء قام بهذا القتال الإخوان المسلمون أو غيرهم من الأحزاب، ذلك لأن الحاكم الإنجليزي أو الحاكم العربي أو الحاكم المسلم الذي يحكم باسم المحتل لن يسمح لأحد من أفراد شعبه بأن يحمل السلاح علنًا ضد الاحتلال، لأن القوانين الموضوعة بإشراف المحتل تجرم مثل هذا النشاط، بل وتعتبره من أخطر الجرائم وأبشعها، ومن ثم كان الجيش المسلم الذي كونه الإخوان المسلمون جيشًا سريًّا، وكانت الأعمال الفدائية التي نظمها بعض شباب الأحزاب الأخرى ضد الإنجليز وأعوانهم سرية في طابعها سواء بسواء.

وعلى الرغم من التزام الإخوان المسلمين بعدم القيام بأي عمل فدائي ضد إنسان مسلم مهما كان لونه السياسي إلا أولئك الذين أعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين، فأصبحوا من المحاربين الذين يحل للإخوان المسلمين قتلهم، فقد أبت وسائل الإعلام العربية الموجهة من القوى الاستعمارية الغاشمة على أرض العرب إلا أن تفرض على الشعوب العربية اتهام الإخوان المسلمين وحدهم بعمليات القتل والتدمير ضد المواطنين في أرضهم، وهم من ذلك كله أبرياء، كما تصرح بذلك الدراسة التالية من واقع الأعمال الفدائية والاغتيالات السياسية على أرض مصر خلال هذه الفترة.


وسوف أقسم دراستي إلى ثلاثة أقسام متميزة:

أولاً: حوادث الاغتيالات السياسية التي لا يد للإخوان المسلمين ولا لتنظيمهم الخاص فيها.

ثانيًا: أعمال فدائية قام بها الإخوان المسلمون وتنظيمهم الخاص ولم يعرف فاعلها وقيدت ضد مجهول.

ثالثًا: أعمال فدائية قام بها الإخوان المسلمون ضد أعوان الاستعمار والفاعل معروف.

وسوف أبدأ وأنا أقدم هذه الأعمال بأشد الأعمال إساءة للإخوان المسلمين على الرغم من أنه ليس من أعمالهم وهو حادث قتل الخازندار بك رئيس محكمة الاستئناف، الذي اتخذته وسائل الإعلام أداة تشهير ضخمة ضد الإخوان المسلمين ، بل واتخذه بعض الإخوان المسلمين أداة إدانة للنظام الخاص عامة ولرئيسه المرحوم عبد الرحمن السندي خاصة، وسوف ألتزم وأنا أسرد ظروف هذا الحادث الاسم الذي أخذته لهذا الكتاب «الحقيقة» دون أدنى تعديل أو تحوير، داعيًا الله أن يحقق للقراء خاصة وللمسلمين عامة النفع والانتفاع بالتزام الحق والذود عنه، والبعد عن الباطل ومناهضته في كل الظروف والأحوال.

الاغتيالات السياسية والأعمال الفدائية خلال الفترة من 1945 إلى 1952

لا يوجد مرجع حتى اليوم يجمع الاغتيالات السياسية والأعمال الفدائية في مصر في هذه الفترة رغم كثرة هذه الأعمال وتعدد الأحزاب والجماعات والأفراد الذين اشتركوا فيها.

ويمكننا تشبيه هذه الفترة من عمر مصر بفترة 19+19- 1923 فكلا الفترتين مشتركتان في كونهما بعد حرب عالمية أسهمت فيها مصر في انتصار الدولة المحتلة لأراضيها وهي بريطانيا، مما جعل من حق شعب مصر أن يطالب بالجلاء ثمنًا للجهد الذي بذله والدم الذي أهدره من رجاله وشبابه ونسائه وأطفاله في سبيل نصرة هذه الدولة المحتلة لأراضيه، وما كان في الإمكان أن تنتصر هذه الدولة لولا ما قدمه شعب مصر لها من معونات.

ففي الحرب العالمية الأولى اشتركت مصر بقواتها فعلاً في الحرب مع الإنجليز على وعد منهم بمنح الشعوب العربية الثائرة على الحكم التركي استقلالها في نهاية الحرب، وقد ضحت مصر بالدفاع عن الوطن الإسلامي المتمثل في الحكم التركي، في سبيل الدفاع عن الوطن العربي الذي ضج من خروج الحكم التركي على قواعد الإسلام العادلة.

وبعد انتهاء الحرب سحبت إنجلتر وعدها للعرب عامة ولمصر خاصة في الوقت الذي كافأت فيه اليهود بوعد مثير هو العمل على تحقيق وطن قومي لهم في فلسطين بمقتضى وعد «بلفور» الصادر سنة 1917، فكان لمصر وللعرب من هذه الحرب جزاء سنمار.

ومن هذا المنطلق قامت ثورة 1919 ثورة وطنية علمانية قادها سعد زغلول باشا ضد الإنجليز وأعوانهم، لم ينطفئ أوراها إلا بإعلان استقلالمصر ودستور 1923.

وفي الحرب العالمية الثانية قبلت مصر على مضض الإهانة التي وجهها الإنجليز إلى قيادتها العليا بفرض النحاس باشا رئيسًا للوزراء أو خلع الملك، وذلك لثقتها أن الشعبية التي يتمتع بها النحاس باشا هي الضمان الوحيد لكسب هدوء الشعب المصري أثناء تعرضه لويلات هذه الحرب، وبغير هذا الهدوء لا يمكن للحلفاء كسبها.

وقد استجاب شعب مصر فاشترك على نطاق واسع في خدمة قوات الحلفاء على أرضه في معسكرات الجيش الإنجليزي، حيث التحق الآلاف من العمال إن لم أقل الملايين للخدمة في هذه المعسكرات الشاسعة، ولولا جهودهم لعانت قوات الحلفاء الكثير من العرق والجهد والمال لسد هذه الاحتياجات كما تعرض شعب مصر إلى الغارات الجوية المدمرة، وراح منه الضحايا والشهداء بسبب وجود قوات الحلفاء على أرضه، وثبت هذا الشعب الصابر انتظارًا لنهاية الحرب، وكان من حسن طالعه أن حقق الله النصر للحلفاء على أرضه فانهزمت القوات النازية والإيطالية على أرضه في العلمين، بضربة قاضية لم تقم لها بعد ذلك قائمة حتى نهاية الحرب.

وبانتهاء هذه الحرب يصبح من حق مصر أن تطالب بجلاء القوات المحتلة عن أرضها، ولكن مراوغة الإنجليز في مفاوضاتها مع مختلف الأحزاب المصرية للجلاء أثارت الشعب ضدها، فاشترك بكل فئاته في مقاومة مسلحة للإنجليز ليجبرهم على الجلاء، تقوية للمفاوض المصري.

وقد اشترك الإخوان المسلمون في هذه المقاومة بدافع ديني واشتركت كل الأحزاب المصرية فيها بدافع وطني، ومن ثم جاز لنا أن نفرق في التعريف بين العمليات الفدائية التي قام بها جنود الإخوان المسلمين على أرض مصر وبين الاغتيالات السياسية التي قام بها جنود الأحزاب الأخرى ضد الإنجليز، فأعمال الإخوان المسلمين قتال في سبيل الله، وأعمال باقي الأحزاب قتال في سبيل الوطن. وإن كان القانون المصري لا يفرق بين هذين الهدفين، فينظر إلى القائمين بهذه الأعمال جميعًا نظرة التجريم، مادام الحكم مواليًا للاستعمار. ولكن الحق الذي لا مراء فيه هو أن الفدائيين بوازع من العقيدة الدينية هم فدائيون مجاهدون في سبيل الله والفدائيين بوازع وطني فدائيون مجاهدون في سبيل الوطن وكلاهما ينبغي أن يجد من مواطنيه التقدير والثناء.

ولقد جد عامل جديد خلال هذه الفترة أضيف إلى أسباب الثورة في مصر على الإنجليز، هو حلول موعد انتهاء الانتداب الإنجليزي على فلسطين المقرر في 15 مايو سنة 1948 وتوقيع إعلان دولة إسرائيل، تنفيذًا لوعد بلفور الصادر في سنة 1917، وهذا العامل يجعل القتال في سبيل تحرير فلسطين ومنع اليهود من إقامة وطن قومي على أرضه فرض عين على كل مسلم ومسلمة في الشريعة الإسلامية، ومن هذا المنطلق تميز نضال الإخوان المسلمين بعبء جديد لم يشترك في حمله أي من الأحزاب الأخرى بجهد يذكر وهو القتال من أجل فلسطين لانفراد مبادئها عن مبادئ سائر الأحزاب المصرية في تعريف الوطن، فهو من وجهة نظر جميع الأحزاب المصرية حدود مصر الدولية، ومن وجهة نظر الإخوان المسلمين حدود الوطن الإسلامي أجمع من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي.

ونظرًا إلى أن هذا الوطن جميعه كان تحت ظلال احتلال كافر، فضلا عن أن مصر كانت تحت ظلال الاحتلال الإنجليزي، فإن القتال ضد العدو المحتل فيه يلزم أن يكون سريًا في طابعه، سواء قام بهذا القتال الإخوان المسلمون أو غيرهم من الأحزاب، ذلك لأن الحاكم الإنجليزي أو الحاكم العربي أو الحاكم المسلم الذي يحكم باسم المحتل لن يسمح لأحد من أفراد شعبه بأن يحمل السلاح علنًا ضد الاحتلال، لأن القوانين الموضوعة بإشراف المحتل تجرم مثل هذا النشاط، بل وتعتبره من أخطر الجرائم وأبشعها، ومن ثم كان الجيش المسلم الذي كونه الإخوان المسلمون جيشًا سريًّا، وكانت الأعمال الفدائية التي نظمها بعض شباب الأحزاب الأخرى ضد الإنجليز وأعوانهم سرية في طابعها سواء بسواء.

وعلى الرغم من التزام الإخوان المسلمين بعدم القيام بأي عمل فدائي ضد إنسان مسلم مهما كان لونه السياسي إلا أولئك الذين أعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين، فأصبحوا من المحاربين الذين يحل للإخوان المسلمين قتلهم، فقد أبت وسائل الإعلام العربية الموجهة من القوى الاستعمارية الغاشمة على أرض العرب إلا أن تفرض على الشعوب العربية اتهام الإخوان المسلمين وحدهم بعمليات القتل والتدمير ضد المواطنين في أرضهم، وهم من ذلك كله أبرياء، كما تصرح بذلك الدراسة التالية من واقع الأعمال الفدائية والاغتيالات السياسية على أرض مصر خلال هذه الفترة.


وسوف أقسم دراستي إلى ثلاثة أقسام متميزة:

أولاً: حوادث الاغتيالات السياسية التي لا يد للإخوان المسلمين ولا لتنظيمهم الخاص فيها.

ثانيًا: أعمال فدائية قام بها الإخوان المسلمون وتنظيمهم الخاص ولم يعرف فاعلها وقيدت ضد مجهول.

ثالثًا: أعمال فدائية قام بها الإخوان المسلمون ضد أعوان الاستعمار والفاعل معروف.

وسوف أبدأ وأنا أقدم هذه الأعمال بأشد الأعمال إساءة للإخوان المسلمين على الرغم من أنه ليس من أعمالهم وهو حادث قتل الخازندار بك رئيس محكمة الاستئناف، الذي اتخذته وسائل الإعلام أداة تشهير ضخمة ضد الإخوان المسلمين ، بل واتخذه بعض الإخوان المسلمين أداة إدانة للنظام الخاص عامة ولرئيسه المرحوم عبد الرحمن السندي خاصة، وسوف ألتزم وأنا أسرد ظروف هذا الحادث الاسم الذي أخذته لهذا الكتاب «الحقيقة» دون أدنى تعديل أو تحوير، داعيًا الله أن يحقق للقراء خاصة وللمسلمين عامة النفع والانتفاع بالتزام الحق والذود عنه، والبعد عن الباطل ومناهضته في كل الظروف والأحوال.

أولا: حوادث الاغتيال السياسي التي لا بد للإخوان المسلمين ولا لتنظيمهم الخاص فيها

1- حادث مقتل الخازندار بك:

أقرر بكل الصدق أن كلا من الإخوان المسلمين كجماعة إسلامية يرأسها المرشد العام للإخوان المسلمين والتنظيم الخاص للإخوان المسلمين كتنظيم عسكري سري، خصص لأعمال الجهاد في سبيل الإسلام برئ كل البراءة من هذا الحادث الذي يمكن أن يقع بدوافع وطنية، ولكنه مخالف ومستنكر من الشريعة الإسلامية التي اتخذها كل من الإخوان المسلمين وتنظيمهم السري أساسًا لكل عمل يقومون به، ومن ثم يكون استنكار الإمام الشهيد له علنًا أمام إخوانه جميعهم، وإحساسهم جميعًا بآلام التي سببها له هذا الحادث، استنكارًا مصدره العقيدة الإسلامية التي يعتنقها الإمام الشهيد ويدعو لها بكل جهده وطاقاته، كما يكون استنكار النظام الخاص لهذا الحادث مستمد من نفس الأسباب التي استنكر الإمام الشهيد بها قتل الخازندار بك، على الرغم من أن مرتكبي هذا الحادث هم ثلاثة أفراد من الإخوان المسلمين بصفتهم الشخصية، هم عبد الرحمن السندي، ومحمود سعيد زينهم، وحسن عبد الحافظ.

ولقد استحل هؤلاء الإخوان الثلاثة لأنفسهم القيام بهذا العمل لدوافع وطنية اقتضتها ظروف هذا الحادث واستشعرها جميع شعب مصر في حينها، دون أن يكون لأحد من الإخوان المسلمين أو من قيادة النظام الخاص أمر أو إذن به.

ولا يغير من هذه الحقيقة كون عبد الرحمن السندي رئيسًا للنظام الخاص ولا كون الأخوين محمود سعيد زينهم وحسن عبد الحافظ أعضاء في النظام الخاص، لأن النظام الخاص لا يمكن أن يتحمل إلا الأعمال التي تقرها قيادته مجتمعة، بأمر صريح من المرشد العام، وما لم يتحقق هذين الشرطين لأي عمل من أعمال النظام الخاص؛ فإن هذا العمل يكون عملاً فرديًا تقع مسئوليته كاملة على من قام به.

إن من المسلم به شرعًا وقانونًا في تحديد المسئولية أن تنحصر على من قام بالعمل أو أسهم فيه بالتوجيه لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164]. هذا من ناحية الشريعة الإسلامية، أما من الناحية القانونية فإني أذكر القارئ الكريم بالمبدأ الذي نصت عليه حيثيات الحكم في قضية «السيارة الجيب» فيما بين الصفحات 193 إلى 103 من حيثيات المحكمة ما نصه:

«وحيث إن المحكمة ترى التفرقة بين الأمرين، فالنظام الخاص يرمي إلى إعداد فريق كبير من الشباب إعدادًا عسكريًا تطبيقيًا لما دعا إليه مؤسس هذه الجماعة في رسائله المتعددة من أن الأمر أصبح جدًا لا هزلاً، وأن الخطب والأقوال ما عادت تجدي، وأنه لا بد من الجمع بين الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل، وأن حركة الإخوان تمر بثلاث مراحل: الأولى مرحلة التعريف بنشر الفكرة، والثانية مرحلة التكوين، لاستخلاص العناصر الصالحة لأعباء الجهاد، ونظام الدعوة في هذا الطور مدني من الناحية الروحية وعسكري من الناحية العملية، وشعار هاتين الناحيتين دائما أمر وطاعة من غير بحث ولا مراجعة، والمرحلة الثالثة مرحلة التنفيذ، وهذا الإعداد دائما قصد به تحقيق ما ورد صريحًا في قانون الجماعة من أن من بين أهدافها تحرير وادي النيل والبلاد الإسلامية، وهذا النظام الخاص بحكم هذا التكوين لا يدعو إلى الجريمة ولا يعيبه أن فريقًا من أفراده كونوا من أنفسهم جماعة اتفقوا على أعمال القتل والتدمير.

إن هذه العبارات الشديدة الوضوح من حيثيات حكم المحكمة تبرئ النظام الخاص، ودعوة الإخوان المسلمين وفضيلة المرشد العام من أي عمل يقوم به فرد أو جماعة من هذا التنظيم يكون مناقضًا لأهدافه وغير معتمد من مرشده، وهذا ما ينطبق على حادث مقتل الخازندار بك.

كيف واجه النظام الخاص وجماعة الإخوان المسلمين وقوع هذا الحادث على يد بعض رجاله:

لقد وقع هذا الحادث في وقت كنت قد تركت فيه مسئوليتي في النظام الخاص مؤقتًا متفرغًا للجهاد في فلسطين ، ولم يرد على خواطرنا قبل هذا التفرغ قتل هذا القاضي على الإطلاق، حيث لم يطرحه علينا الأخ عبد الرحمن السندي للدراسة كتعليمات المرشد العام من ناحية، ولم يقم في ذهن أحد منا أن هناك واجب على النظام الخاص قبل هذا القاضي يستحق أن يستأذن المرشد العام في القيام به.

إلا أن الظروف الملابسة لهذا الحادث كانت تثير الشعور الوطني ضد هذا القاضي من المصريين كافة، وهو ما يبرر أن يفكر بعض المتطرفين منهم في اغتياله إرضاءً لهذا الشعور، حيث تزامن في هذا الوقت ثلاث قضايا نظرت أمام القاضي الخازندار، واحدة منها قضية وطنية هي إلقاء قنابل على الإنجليز في مدينة الأسكندرية، بأيدي مجموعة من شباب حزب مصر الفتاة، فالأمر كما قلت كان هديرًا وطنيًا ضد الإنجليز في هذه الظروف من كافة أحزاب مصر وهيئاتها، ومن بينهم الإخوان المسلمون، وقد أدانت الدائرة التي يرأسها الخازندار بك هؤلاء الشباب بالسجن عشر سنوات في نفس الوقت الذي قضت فيه دائرة يرأسها الخازندار بك على سفاح الأسكندرية المدعو حسن قناوي الذي راح ضحيته سبعة قتلى، بدوافع جنسية قذرة، نقلتها جميع الصحف إلى الشعب المصري بصورتها الواقعية التي تثير الذعر والاشمئزاز في نفس كلمصري ومصرية، حتى أن جميع أفراد شعب مصر وبدون أي مبالغة تمنوا أن يخلص القضاء المصري سمعة مصر وشرفها وحياءها من هذا الوحش الكاسر الدنيء، وقد عبر الاتهام ممثلا في الأستاذ أنور حبيب وكيل النيابة عن هذه الرغبة الشعبية العارمة بطلب الإعدام، ولكن حكم هذه الدائرة الذي نطق به المستشار الخازندار بك كان مخيبًا لكل الآمال، إذ قضى بالسجن سبع سنوات مع الأشغال الشاقة، الأمر الذي أسعد المتهم أيما سعادة، وهو يسمع هذا الحكم مبتسمًا على النحو الذي نقلته الصحف لجميع أفراد الشعب في هذه الأيام، وقد أجرى جميع أفراد الشعب مقارنة بين حكم الخازندار بك على الشباب الوطني الذي يلقي قنابل على الإنجليز بالسجن عشر سنوات، وبين حكمه على هذا الوحش الدنيء بالسجن سبع سنوات، وخرج باستبعاد أن يكون هذا القاضي وطنيًا على أي صورة من الصور، وبل باتهامه بممالأة الإنجليز والقسوة على أعدائهم والرحمة بأعداء الشعب.في كل ما يصدر عنه من أحكام.

إن هذا الحكم القاسي على الخازندار بك لم يخرج عليه أي مواطن، بل كان شبه حكم إجماعي من المصريين عامهم وخاصهم، خاصة أن هذه المقارنة لم تقتصر على قضية حسن قناوي، بل أشيع أن دائرة برئاسة الخازندار بك أيضا حكمت وفي نفس الظروف على سيدة اتهمت بتعذيب خادمتها تعذيبًا وحشياء إلى حد إحماء عود من حديد وإدخاله في موضع العفة منها، حتى أودي بحياتها، بالسجن عام واحد مع إيقاف التنفيذ، فكان التعليق على حكم الخازندار بك بسجن شباب مصر الفتاة بالغ القسوة لا من رجالمصر الفتاة وحدهم، بل من رجال السياسة في مصر ومنهم الإمام الشهيد حسن البنا .

الظروف الشخصية لعبد الرحمن السندي وإخوانه الذين قاموا بهذه الجريمة:

لكي ندرك الدوافع الحقيقية لهؤلاء الأخوة الثلاثة، لارتكاب هذه الجريمة على الرغم من أنهم أعضاء في التنظيم السري للإخوان المسلمين، بل وأولهم هو رئيس هذا التنظيم، دون أن يكون لديهم أمر من القيادة بذلك، يجب أن نلقي بعض الضوء على ظروف كل منهم الشخصية:

الأخ عبد الرحمن السندي: وهو من إخوان مديرية أسيوط (صعيدي)، الذي تمكنت منهم الرغبة في التفرغ لأعمال الجهاد في سبيل الدعوة الإسلامية، فبلغت مبلغًا جعله يضحى بتعليمه العالي، ويكتفي بوظيفة بشهادة البكالوريا في وزارة الزراعة على الرغم من تيسر حالته المادية، لكي لا يشغله تحصيل العلم عن إشباع هذه الرغبة المتمكنة منه، ولم يثن من عزيمته أو حتى يخفف من حدتها إصابته بمرض القلب منذ ريعان شبابه، وهو مرض يسلب العزيمة من كل مريض يشعر به، لأنه اشتهر بأنه أقرب الأمراض إلى الموت، ورغم ذلك فقد اتخذ عبد الرحمن السندي مرضه هذا حجة تقوي حجته أمام الإمام الشهيد ليتفرغ لأعمال الجهاد، قائلا: إن إخواني الأصحاء أجدر أن يخدموا الدعوة لصحتهم أكثر مني، وإن في موت أحدهم في إحدى العمليات خسارة، بينما لو كتب لي الله الاستشهاد في أي عملية من العمليات، فلست إلا رجلاً مريضًا بالقلب كان يمكن أن يوفيه الأجل في أي لحظة.

ولقد لمسنا من عبد الرحمن طوال فترة العمل معنا الصدق في اللقاء والصبر على العناء، والبذل بالمال والوقت دون حدود، مع صفاء في النفس، ورقة في الشعور، والتزام بأحكام الدين حتى أحببناه حبًا صادقًا من كل قلوبنا، لما جمع الله فيه كل هذه الصفات، ولعل هذا الإحساس المرهف، مع الطبيعة الصعيدية، هما القوة الدافعة لعبد الرحمن التي حولت مظاهر السخط البادية من كل الناس وهو واحد منهم، وبخاصة من الإمام الشهيد على هذا الجور الذي ظهر من دائرة الخازندار بك ضد الشباب والوطنيين، مقارنا باللين المخل في أحكامها ضد المجرمين الحقيقيين، مثل وحش الأسكندرية والمرأة التي عذبت خادمتها إلى حد القتل، كما أشيع حينئذ، فغلت الدماء في عروقه ظانًا أن عمله هذا سوف يلقى استحسان الجميع.

الأخ محمود زينهم: لم أكن أعرف الأخ محمود زينهم، ولم أعرفه إلا عندما التقينا في سجن مصر وكان محكومًا عليه في قضية الخازندار وكنت تحت التحقيق في قضية «السيارة الجيب». ولقد شعرت منه أخًا صادق الإيمان رقيق الحس، رغم ما وهبه الله من قوة عضلية أكسبته بطولة مصر في المصارعة الحرة لسنوات، فلم تزده هذه الموهبة إلا تواضعًا، بفضل ما ربى عليه من تعاليم الإسلام السمحة الغراء.

وإمنا يقع وزر اشتراكه مع عبد الرحمن في هذه الجريمة على عبد الرحمن شخصيًا، فقد كلفه بالاشتراك فيها، وهو يعلم أن موقعه من النظام لا يسمح له بإصدار أمر إلا إذا كان صادرًا من المرشد، فسمع وأطاع دون أي نقاش، ظانًا أن أمر عبد الرحمن معتمد من المرشد العام في هذا القرار.

طرفة متعلقة بحياتنا في سجن مصر مع محمود سعيد زينهم:

ومن طريف ما يذكر أنه بعد أن طال بنا الأمد في سجن مصر ، أصبح لنا نشاط ثقافي وروحي في السجن، استفاد منه الكثيرون من ضباط السجن ونزلائه.

فقد كانت الصلاة يؤذن لها في مواعيدها بصوت رخيم، وكان من بين النزلاء ست مسجونين إيطاليين كما كانت صلاة الجماعة تقام في دور 6 في أوقات الظهر والعصر بانتظام بعد أن انتهت سرية التحقيقات، وانتهت بذلك الحكمة من الحبس الإنفرادي، وفتحت أبواب الزنازين للمسجونين معظم ساعات النهار. ومن آثار هذا النشاط على المسجونين أن اعتنق الدين الإسلامي هؤلاء الطليان الستة، وقد ناقشناهم عن الدافع لهم على اعتناق هذا الدين، فقالوا انتظام الآذان وصلاة الجماعة، فقد بلغ من شغفنا بالاستماع إلى الآذان وبخاصة وقت الفجر أننا كنا نصيخ السمع عند شراعة باب الزنزانة من قبل بدء الآذان حتى لا يفوتنا سماع كلمة أو نبرة من كلماته أو نبراته، كما كان لا يفوتنا النظر بإعجاب إلى نظام صلاة الجماعة الدقيق، فقررنا دراسة هذا الدين وساعدنا بعض الإخوان على فهم مبادئه وشرائعه، وصرنا مسلمين والحمد لله رب العالمين.

كما حدث أن نظمنا مناظرة ثقافية موضوعها: «أيهما أكثر فائدة

للدعوة المال أو الرجال» يتبعها حفلة ترفيهية خطط لفقراتها الأخ المهندس أحمد قدري الحارثي.

وكنت ضمن المتحدثين عن الرأي القائل بأن الرجال أكثر فائدة من المال، وكان أساس حجتي أن الرجال تستطيع جلب المال، ولكن المال لا يستطيع أن يجلب الرجال، ثم فوجئت بعد نهاية المناظرة وبدء الحفلة الترفيهية أن قدم الأخ أحمد قدري الحارثي فقرة فكاهية بعنوان مصارعة حرة بين محمود الصباغ ومحمود سعيد زينهم، وكان أحمد قدري الحارثي يعلم بضعف صحتي في السجن، لكثرة التهاب اللوزتين بمعدل مرة شهريًا تقريبًا كانت حرارتي ترتفع فيها إلى الأربعين، ولم ينقذني من ذلك إلا عمل عملية جراحية بإزالتها وأنا سجين، ولهذا السب كان يتوقع من محمود سعيد زينهم بطلمصر في المصارعة الحرة أن يقدم معي استعراضات قاتلة من الضحك لحضرات النزلاء الأعزاء.

ولم أحاول التردد أو الاعتذار فور إعلان الفقرة، حيث لا يصح لي أن أتخلف عن المساهمة في نجاح الحفلة، ولكنني فكرت سريعًا في أن أجعل المصارحة هزلية ضاحكة لا جدية عنيفة، فتقدمت من محمود فور توسطه للحفلة ساعة النداء، ووضعت كفاي على الأرض عند قدميه وضربت (بلنص) أرسي ساقاي من قرب القدم عند كتفيه، فأصبح المتصارعان أحدهما في وضع معتدل والثاني في وضع مقلوب، وبدأ البطل المعتدل بأن احتضن الزميل المقلوب من وسطه بقصد رفعه والدوران به، ثم زرعه على الأرض، وما أن رفعني محمود حتى أثنيت جزعي إلى أعلى فاستويت جالسًا على كتفيه ورأسه مزنوقة بين رجلي المدللتين على ظهره وبضغطه على الرأس اختل توازن البطل ووقع على ظهره وأنا فوق عنقه وكتفاه منطبقتان على الأرض، واضطر منظم الحفلة أن يعلن فوزي في المصارعة الضاحكة، بينما أخذت أساعد الأخ محمود زينهم في تدليل آثار ارتطام ظهره وكتفيه بالأرض، وكان فوزًا لم يحسب له حساب، بل جاء قدريًا وخرافيًا، بحيث يستحيل عليَّ تكراره مع محمود أو مع غيره بأي حال من الأحوال.

3- الأخ حسن عبد الحافظ: وكان شابًا من أولاد الذوات، الذين نشأوا على ممارسة الرياضة الراقية كتربية الخيول وركوبها، ودرجوا على حب الوجاهة قولاً وعملاً.

فهو يحب أن يكون مرموقًا في عمله على نحو يتضاءل معه أثر نظرة الناس إليه إذ رسب في امتحان الثانوية العامة أكثر من مرة، فاتجه إلى الأعمال الحرة بدلا من التعليم لكسب رزقه خاصة وأن ثراءه كمزارع يمتلك من الأراضي والمواشي ما يجعله في بحبوحة من العيش يساعده على مثل هذا النشاط.

وفي مجال الخدمة العامة كان يعشق أن يؤدب حكام مصر المنحرفين، وكان يتمنى أن ينال شرف قتل رأسهم، فاروق الأول ملك مصر في هذه الأيام، ولكن انضمامه للإخوان ولنظامهم الخاص نظم له التعبير عن أحاسيسه وانفعالاته، وربطها بخدمة الإسلام والدفاع عن الدعوة، وكان من مظاهر إرضاء رغبته في أن يكون مرموقًا في عمله أن قربه المرشد العام إليه في مجال الخدمة العامة وأسند إليه من الأعمال ما يمكن أن يوصف بأنها سكرتيرية خاصة للمرشد العام خاصة وأنه كان شقيق الأستاذ صلاح حافظ عضو الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين والمحامي المرموق بمكتب كبير المحامين المصريين في ذلك الوقت الأستاذ علي بدوي بك.

وقد كان حسن عبد الحافظ، ومحمد مالك أعضاء في مجموعتي قبل أن أتفرغ للسفر إلى فلسطين مسئولا عن أول فوج من متطوعي الإخوان للقتال في فلسطين .

ولقد حدث أن رجعت إلى القاهرة في زيارة خاطفة لإعداد بعض المعدات اللازمة، للمجاهدين، فأصبت بالأنفلونزا خلال هذه الزيارة ولازمت الفراش، فزارني الأخ حسن عبد الحافظ بمنزلي قبيل وقوع مقتل الخازندار بك، وصارحني بأن الأخ عبد الرحمن السندي اختاره مع أخ آخر لقتل الخازندار بك لما ظهر من جحوده للشعور الوطني وتعاطفه مع القتلة والسفاكين في أحكامه.

وقد ذهلت لهذا الخبر، وأصدرت أمرًا صريحًا إلى الأخ حسن عبد الحافظ باعتباري أمير مجموعته إلى ما قبل سفري إلى فلسطين أن لا ينفذ تعليمات عبد الرحمن في هذا الشأن؛ لأننا باعتبارنا جماعة الإخوان المسلمين ليس بيننا وبين المستشار الخازندار بك أي عداء، فقد كان حكمه على الأخوين حسين عبد السميع، وعبد المنعم إبراهيم، المتهمين بإلقاء قنابل على الجنود الإنجليز بالقاهرة في ليلة عيد الميلاد سنة 1946 بالسجن ثلاث سنوات هو حكم معقول لا تثريب عليه، فالفعل وإن كان وطنيًا خالصًا يتفق مع كل من الشرائع السماوية، والدوافع الوطنية النبيلة، إلا أنه مخالف للقانون الوضعي الذي يحكم به القضاء المصري في ذلك الوقت، الأمر الذي يجعل في هذا الحكم مراعاة للدوافع النبيلة التي دفعت هذين الأخوين لهذا العمل الفدائي المرغوب من كل وطني مخلص، وكل مسلم صادق.

ولكن يبدو أن حسن لم يستطع أن يقاوم رغبته الشخصية في الإتيان بعمل مرموق، فلم يمتثل لأمري واستجاب لعبد الرحمن.

ولقد شاء القدر أن يزروني في اليوم التالي لزيارة الأخ حسن عبد الحافظ لي الأخ مصطفى مشهور، فأبلغته بما دار بيني وبين حسن، وقلت له لولا مرضي وعدم قدرتي مغادرة الفراش حيث كانت حرارتي 40 ْم لذهبت إلى عبد الرحمن لأمنعه عن هذا العمل، ورجوته أن ينوب عني في ذلك، ولكن إرادة الله الغالبة حالت بين لقاء مصطفى وعبد الرحمن في الوقت المناسب فوقع قضاء الله لحكمة لا يعلمها إلا الله.

المطالبة بدم الضحايا الثلاث لهذا الحادث المؤسف:

كانت غضبة قيادة النظام على تصرف عبد الرحمن عارمة، فليس من حقه على الإطلاق أن يأمر بمثل هذا العمل الذي لا تحله شريعة الإسلام وإن سمحت به المشاعر الوطنية، دون عرضه على قيادة النظام، والتحقق من صدور أمر من المرشد العام بتنفيذه.

ولماه كان من الممكن أن يحكم القضاء في هذه القضية بإعدام هذين الأخوين نتيجة لهذا التصرف الذي لم يراع فيه عبد الرحمن موقعه من النظام كمسئول، فيعتبر الإخوان أوامره أوامر شرعية صادرة من المرشد العام دون نقاش، فلابد وأن يتحمل عبد الرحمن دم الثلاثة وحده.

وعقدت قيادة النظام الخاص محاكمة لعبد الرحمن على هذا الجرم المستنكر، وحضر المحاكمة كل من فضيلة المرشد العام الشهيد حسن البنا وباقي أفراد قيادة النظام بما في ذلك الأخوة صالح عشماوي، والشيخ محمد فرغلي، والدكتور خميس حميدة، والدكتور عبد العزيز كامل، ومحمود الصباغ ، ومصطفى مشهور، وأحمد زكي حسن، وأحمد حسنين، والدكتور محمود عساف، وقد أكد عبد الرحمن في المحاكمة أنه فهم من العبارات الساخطة التي سمعها من المرشد العام ضد أحكام المستشار الخازندار المستهجنة، أنه سيرضى عن قتله لو أنه نفذ القتل فعلاً، وقد تأثر المرشد العام تأثرًا بالغًا لكلام عبد الرحمن لأنه يعلم صدقه في كل كلمة يقولها تعبيرًا عما يعتقد، وبلغ من تأثر فضيلة المرشد العام أنه أجهش بالبكاء ألمًا لهذا الحادث الأليم الذي يستوجب غضب الله، لأنه قتل لنفوس بريئة من غير نفس، كما يعتبر مادة واسعة للتشهير بالدعوة ورسالتها في الجهاد من أجل إقامة شرع الله، وقد تحقق الإخوان الحاضرون لهذه المحاكمة من أن عبد الرحمن قد وقع في فهم خاطئ في ممارسة غير مسبوقة من أعمال الإخوان المسلمين ، فرأوا أن يعتبر الحادث قتل خطأ، حيث لم يقصد عبد الرحمن ولا أحد من إخوانه، سفك نفس بغير نفس، وإنما قصدوا قتل روح التبلد الوطني في بعض أفراد الطبقة المثقفة من شعب مصر أمثال الخازندار بك.

ولما كان هؤلاء الإخوان قد ارتكبوا هذا الخطأ في ظل انتمائهم إلى الإخوان المسلمين وبسببه، إذ لولا هذا الانتماء لما اجتمعوا على الإطلاق في حياتهم ليفكروا في مثل هذا العمل أو غيره، فقد حق على الجماعة دفع الدية التي شرعها الإسلام كعقوبة على القتل الخطأ من ناحية، وأن تعمل الهيئة كجماعة على إنقاذ حياة المتهمين، البريئين من حبل المشنقة بكل ما أوتيت من قوة، فدماء الإخوان ليست هدرًا يمكن أن يفرط فيه الإخوان في غير أداء فريضة واجبة يفرضها الإسلام ، حيث تكون الشهادة أبى وأعظم من كل حياة.

ولما كانت جماعة الإخوان المسلمين جزءًا من الشعب، وكانت الحكومة قد دفعت بالفعل ما يعادل الدية إلى ورثة المرحوم الخازندار بك، حيث دفعت لهم من مال الشعب عشرة آلاف جنيه، فإن من الحق أن نقرر أن الدية قد دفعتها الدولة عن الجماعة وبقى على الإخوان إنقاذ حياة الضحيتين الأخرتين محمود زينهم، وحسن عبد الحافظ.

واستراح الجميع لهذا الحكم دون استثناء، بل إنه لقي موافقة إجماعية من كل الحضور بما في ذلك فضيلة الإمام الشهيد، واعتبر هذا الخطأ الذي يقع لأول مرة في تاريخ الجماعة درسًا للأخ عبد الرحمن السندي، أن لا ينقل إلى التنفيذ إلا الأمر الصريح من الإمام الشهيد وأنه ليس للاجتهاد ولا للمفاهيم الضمنية في هذه الأمور الخطيرة مجال أو سبيل بأي شكل من الأشكال.

ولقد كانت براءة عبد الرحمن من القتل العمد إجماعية، ولا تحتمل أي شك أو تشكيك، فالجميع يثق في صدق عبد الرحمن ورجولته، ويقدر أن التجربة الأولى عرضة للخطأ، وأن ظروف هذا الحادث النفسية كان تبرر مثل هذا الخطأ، فلم تتزعزع ثقة أحد بعبد الرحمن عقب هذا الحكم واستمر في موقعه مرضيًا عنه من الإمام الشهيد ومن جميع باقي أعضاء قيادة النظام الخاص كأحسن ما يكون الرضا وأتمه، حيث شرع الله ذلك للمؤمنين في قوله جل وعلا:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 92].

ولم يكن من المصلحة في شيء أن يعلن على الناس شيء عن هذا الموقف الذي واجه به النظام الخاص هذا الحادث الأليم، ولم يكن هذا القرار لينفي استمرار حزن فضيلة الإمام الشهيد لما أصاب الدعوة من آثاره وإعلان ذلك على كل الإخوان وعلى كل الناس بكل الوسائل والأسباب، فذلك هو الحق الذي لا مراء فيه. أثر هذا الحادث على الدعوة: ولكن أعداء الإسلام استمروا في التشكيك فيما أعلنه فضيلة المرشد العام من براءة الدعوة من هذا الحادث، ولم يكن لهجومهم أثر يذكر، فالشعب يعرف الإخوان وجهادهم ويستريح لبراءتهم من كل شائبة تشوب هذا الجهاد.

كما أن بعض كبار الإخوان الذين يعلمون بوجود النظام الخاص في الجماعة، ولكن عدم انتمائهم إليه لم يسمح لهم بمعرفة شيء عن ظروف هذا الحادث، ولا عن الموقف الشرعي الذي وقفته قيادة النظام منه، اتخذوا منه غضبة المرشد العام على هذا الحادث غضبة على النظام الخاص ككل، وعلى رئيسه عبد الرحمن السندي على وجه الخصوص، وأخذوا يروجون أن المرشد العام عزم على حل النظام الخاص أو على إقصاء عبد الرحمن السندي من رئاسته، ولكن الحقيقة أن شيئا من هذا لم يحدث، وأن فضيلة المرشد العام استمر على ثقته واعتماده على النظام الخاص وقيادته حتى لقي ربه راضيًا مرضيًا.

محاولات إنقاذ الأخوين محمود زينهم، وحسن عبد الحافظ من الإعدام:

لقد صدق إخوان النظام في الدفاع عنهم، والعمل على نجاتهم مما وقعوا فيه نتيجة لخطأ غير متعمد من رئيس النظام، فذلك هو أبسط واجبات أفراد العمل العسكري إذا ما وقع فرد أو أكثر من أعضائه في يد الأعداء بطريق الخطأ.

فتحملوا أولاً مصاريف الدفاع عن المتهمين بأساتذة القانون من المحامين المصريين، وقد سلمت بنفسي الأخ صلاح عبد الحافظ شقيق الأخ حسن عبد الحافظ مصاريف الدفاع عن شقيقه بأكبر المحامين، فقد كانت الظروف المحيطة بحادث قتل الخازندار بك تبرر تخفيف الحكم عن الجناة، فينجون من حبل المشنقة.

كما تحملت بنفسي وضع خطة لخطف الأخوين عبد الحافظ ومحمود زينهم من سجن مصر تحسبًا لما يمكن أن يقع في نفس القضاة من غضب لزميلهم، فيحكموا عليهما بالإعدام، وحرصت على أن لا تكون في هذه الخطة فرصة لإراقة دماء.

وقد اشترك معي الأخ صلاح عبد الحافظ في متابعة تنفيذ الخطة، فقد كان ولعه بنجاة شقيقه حسن ولعًا كبيرًا.

وقد أنبتت الخطة على الاستعانة باثنين من السجانين في نقل صور المفتاح الماستر الذي يفتح جميع الزنازين، على قطعة من الصابون بحيث يمكن صنع مفتاح مطابق له بيد البراد الماهر علي الخولي، ومن الطبيعي أنني دفعت لهذين السجانين أتعابهما عن هذا العمل، وقد كان اختيارهما دقيقًا، فلم يفصحوا لأحد عن عمليتهم الخطرة.

كما كان من الخطة الاستغاثة باثنين من المسجونين العاديين، الذين تعودوا الخروج لعيادة طبية في المستشفيات، وكانت علاقاتهما بالسجانين المرافقين لهما تسمح بأن يتركوا لهما حرية التنقل وزيارة أهلهما، ثم العودة إلى السجن دون إضرار بالسجانين.

وقد تم فعلاً الاتفاق مع هذين المسجونين على فتح باب زنازين كل من الأخوين حسن عبد الحافظ ومحمود زينهم بالمفتاح المصنوع بمعرفتنا ومساعدتهما في القفز من سور السجن في الوقت الذي نتفق عليه، ومن الموضع الذي نتفق عليه، ولقد دفعت بنفسي لهذين المسجونين أتعابهما سخيًا عن هذه العملية. ولكن إرادة الله شاءت أن يلقى القبض علينا في قضية «السيارة الجيب» قبل تنفيذ هذه الخطة على الرغم من أن تجربة المفتاح قد نجحت في فتح الزنازين، كما أن القبض علينا لم يسمح لنا بتنفيذ خطة بديلة كانت تقضي بخطف الأخوين من سيارة السجن عند دخولها بين مسجدي الرفاعي والسلطان حسن بتهويش حراستهما بقنابل صوت، ثم الفرار بهما بعيدًا عن الموقع المختار.

وكان كل ذلك من فضل الله الذي قدر لهذين الأخوين أن يرخجا من سجنهما سالمين معافين، ولم يقضيا فيه أكثر من ثلاث سنين، وذلك بأن شملهما العفو الشامل الذي صدر عن كل المسجونين السياسيين في أوائل أيام ثورة يوليو سنة 1952 وكان من بين الذين خرجوا الأخوين حسن عبد الحافظ، ومحمود زينهم وجميع المتهمين في قضايا الأوكار، بينما تم القبض على إبراهيم عبد الهادي قاتل الإمام الشهيد وحوكم أمام محكمة الثورة وحكم عليه بالإعدام الذي خفف إلى السجن المؤبد، وكان نصر الله للمسلمين عظيمًا.


2- حادث مقتل أحمد ماهر باشا:

لقد ثنيت بهذا الحادث لوجود شبه كبير بينه وبين حادث مقتل المرحوم الخازندار بك من الناحية النفسية للشعب وإن كان يسبقه في الزمن.

فبينما كان الشعب يثور غضبًا على الإنجليز الذين راوغوا المفاوضين المصريين طويلاً في الجلاء عن مصر بعد كسبهم الحرب على أرض مصر بفضل ما بذله شعبها من تضحيات، حيث كانت مظاهرة واحدة في مصر كافية ليخسر الحلفاء الحرب، إذا ما عرقل المتظاهرون خطوط تموين قوات الحلفاء المتجهة في سبيل جرار إلى العلمين عبر الدلتا النيل، ولكن التزام المصريين الهدوء خلال الفترة الحرجة كان عاملاً حاسمًا في كسب الحلفاء الحرب العالمية الثانية دون جدال.

ولقد فاجأ أحمد ماهر باشا شعب مصر ، بأنه عزم على إعلان مصر الحرب على ألمانيا استجابة في ذلك لطلب الإنجليز، فكانت غضبة جميع طبقات الشعب على أحمد ماهر باشا على هذه المفاجأة المؤسفة غضبة عارمة لم يختلف فيها اثنان، فإن الشعب لم ينس للإنجليز نكوصهم عن تحقيق وعدهم بمنح الاستقلال للعرب عقب الحرب العالمية الأولى على الرغم من اشتراك العرب الفعلي في قتال الأتراك معهم رغم ما بينهم وبين الأتراك من وحدة الدين، بل إن الشعب كان يعيش في مأساة جديدة هي مأساة تصميم الإنجليز على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ، وإعلانهم قرب جلائهم عن فلسطين بعد أن مكنوا لليهود كل الأسباب التي تحقق لهم هذا الوطن القومي.

ولم يختلف اثنان في اعتبار أحمد ماهر باشا خائنًا، إذا حقق ما أعلنه على الناس من اعتزام الحرب على ألمانيا إرضاء لبريطانيا.

ألمانيا التي لم تحتل أرض مصر ساعة من نهار، وبريطانيا التي احتلت أرض مصر سبعين سنة متصلة أذاقت فيها هذا الشعب من الذل والهوان والاستعمار ما يعجز عنه الوصف.

وكان طبيعيًا أن تفكر الحركات الوطنية بأحزابها المختلفة في اغتيال أحمد ماهر باشا لهذه الفعلة الخرقاء. أما الإخوان المسلمون بصفتهم ملتزمون بتطبيق شريعة الإسلام ، فإنهم لم يجيزوا اغتيال أحمد ماهر باشا، إلا إذا أمر فعلاً القوات المصرية، بالاشتراك في الحرب مع أعداء الإسلام المحتلين لأرضه والمعاونين على اغتصاب بقعة من أطهر بقعه، أرض فلسطين التي تضم المسجد الأقصى ثاني القبلتين، وحينئذ فقط يكون أحمد ماهر باشا محاربًا للمسلمين منضمًا لأعدائهم، ويحل طبقًا للشريعة الإسلامية قتله، أما إذا كان ما يعزم عليه مجرد مناورة سياسية لا تمنعه من وقد كان للإخوان رأي آخر لا يبيح قتله إلا إذا دخل في حرب فعلية بجانب الإنجليز بدلاً من أن يحاربهم.

استمرار المطالبة بجلاء الإنجليز عن مصر ، فإن الأمر يختلف، ليصبح موضوعًا سياسيًا لا يبرر قتل صاحب مثل هذا الرأي من الوجهة الشرعية.

ولم يمنع هذا الرأي الإخوان المسلمين أن يدرسوا خطة قتل أحمد ماهر باشا لو أنه انضم عمليا إلى أعداء الإسلام وأمر المسلمين بالقتال في صفوف أعدائهم بدلا من أن يؤدوا فريضة الإسلام بقتال أعدائهم، وكنت أنا شخصيًا القائم بهذه الدراسة.

ولقد لاحظ عسكري الحراسة على باب منزل أحمد ماهر باشا بشارع الملك، جلوسي في ود ظاهر مع بواب العمارة المقابلة لهذا المنزل على دكة البواب، بحيث أرى كيف يخرج الباشا من منزله بكل وضوح، وتعجب من هذا المشهد الذي يراه صباح كل يوم، حيث يرى واحد أفندي شاب يصاحب هذا البواب ويلاطفه ويجاذبه أطراف الحديث على هذه الصورة، فتقدم مني وعبر الشارع ليسألني عن سبب جلوسي مع البواب، فقلت له إنني أريد أن أرجو الباشا في نقل شقيقي أحمد الموظف بالبريد إلى الشرقية، لأنه أكبر مني وتحتاج الأسرة إلى قربه منها لرعايتها، فقال لي أذهب وقابل الباشا في المكتب ولا تحضر ثانية لمحاولة مقابلته أمام منزله فهذا ممنوع.

وكان فضل الله عظيمًا، فقد انصرفت إلى منزلي الذي كان مليئًا بالأسلحة المعدة للتسليم إلى المرحوم الشهيد عبد القادر الحسيني ، وأنا لا أعلم أن القدر قد ساق أحد شباب الحزب الوطني ويدعى محمود العيسوي، ليدخل البرلمان في ذلك اليوم حيث يقتل أحمد ماهر باشا جزءًا له على تحديه للشعور الوطني وإعلان الحرب على الألمان في صف المستعمرين الإنجليز.

ولو شاء القدر أن يأخذني هذا العسكري تحري في صباح هذا اليوم، ثم فتش البوليس منزلي ووجد ما فيه من أسلحة، لكانت إدانتي في هذا الحادث أو تعليقي في حبل المشنقة كشريك للجاني محققة لا يختلف فيها اثنان، ولو كان أبي شخصيًا هو القاضي، رغم براءتي التامة مما وقع للباشا في مجلس النواب. ولكن الله الذي علم إخلاص قلوبنا وصدق نوايانا والتزامنا بتطبيق شريعته الغراء أبى إلا أن يصرف هذا العسكري عن مثل هذا الإجراء العادي في مثل هذه الأحوال، فكان أن ظهر الحق واضحًا دون لبس وأدين محمود العيسوي بعمليته الوطنية، ونفذ فيه وحده حكم الإعدام.

وإنني أؤكد وأنا هنا في مجال بيان الحقيقة على الرغم مما نشره بعض كبار الإخوان من غير إخوان النظام بالصحف انتفاء كل صلة بين محمود العيسوي وعمله هذا، وبين جماعة الإخوان المسلمين أو نظامهم، وأن محمود العيسوي قد احل له المفهوم الوطني اغتيال أحمد ماهر باشا سياسيًا، لأنه يصادق أعداء الوطن، أما الإخوان المسلمون فإن شريعتهم لم تحل لهم ذلك، إلا أن يقدم أحمد ماهر باشا فعلا على محاربة الإسلام والمسلمين، بالوقوف مقاتلا في صف أعدائهم وهو فرق كبير بين المفهوم العقائدي الوطني والديني.


3- حادث قتل أمين عثمان باشا:

ارتكب هذا الحادث شباب من شباب مصر الفتاة، وكان من بينهم أنور السادات رئيس جمهورية مصر في عهد الثورة، وهو سابق في سلسلة الزمن لحوادث قتل الخازندار، وأحمد ماهر باشا، وهو من حوادث الاغتيالات السياسية التي أقدم عليها حسين توفيق وأصحابه بدافع سياسي هو الغضب لما أعلنه أمين عثمان باشا من أن زواج مصر وبريطانيا كان زواجًا كاثوليكيا، رغم أنه وزير مصري لا يستقيم من منصبه أن يعلن الرضا عن استمرار احتلال الإنجليز لمصر إلى الأبد، وهو أمر وإن كان لا يقبله الإخوان المسلمون من وزير مصري إلا أن شريعتهم الإسلامية لا تحل لهم أن يرتكبوا مثل هذا الحادث، لسبب إعلان هذا الرأي ما لم ينضم عمليًا إلى صفوف الكفار لمحاربة المسلمين.


4- حوادث قنابل سينما مترو:

ارتكب هذه الحوادث شباب من أصحاب الاتجاه اليساري وأدانهم فيها القضاء ومنهم المتهم سعد زغلول المحرر بجريدة الجمهورية.

وهي من حوادث الاغتيالات السياسية لأن الوازع عليها سياسي من ناحية هؤلاء الأفراد الذين قصدوا إرباك الأمن بهذه الحوادث، ولم يفكروا في الضحايا الأبرياء من أبناء الشعب الذين جاءوا إلى السينما لقضاء بعض الوقت للترفيه، ولكنها في الحقيقة ليست من الأعمال الوطنية ولا الإسلامية، حيث لا يقبل أي حزب من الأحزاب الوطنية أن يقوم بمثل هذه الحوادث، كما أن الشريعة الإسلامية تمنع الإخوان المسلمين من مجرد التفكير فيها.


5- حوادث إلقاء قنابل على الجيش الإنجليزي من شباب مصر الفتاة:

ارتكب هذه الحوادث فدائيون من رجالمصر الفتاة بالأسكندرية، وقبض عليهم وأدانهم الخازندار بك بالسجن عشر سنوات.


6- حادث قتل الإمام الشهيد الأستاذ حسن البنا  :

وهو من حوادث الاغتيالات السياسية التي يقوم بها أصحاب السلطان، ظنًا منهم أن ذلك يدعم سلطانهم، ويثبت أركان حكمهم مثل ما سبق الإشارة إليه من حادث مذبحة المماليك الذي قام به محمد علي باشا وقتل فيه كل قادة المماليك بالقلعة دفعة واحدة، وهو حادث إجرامي موجه ضد الدين الإسلامي وضد المسلمين كافة، فالقتيل إمام من أئمة المسلمين، له النصيب الأوفر في نشر الوعي الإسلامي، وتربية جيل مسلم صادق الإيمان، صادق العمل بالإسلام وهو قائد جهاد هذا الجيل ضد أعداء الإسلام والمسلمين على أصدق ما تكون صورة الجهاد وأعظم.


7- قتل الضابط أحمد فؤاد:

قتله ضباط السلطة قبل التحقيق معه في معه في حادث مقتل النقراشي باشا، ومن ثم فهو من حوادث الاغتيال السياسي التي يقوم بها أصحاب السلطان للقضاء على أحد خصومهم.


8- حادث قتل عبد القادر طه:

وهو أيضًا من حوادث الاغتيالات السياسية التي قام بها أصحاب السلطان، للقضاء على أحد خصومهم من الضباط الأحرار، لا تقره عقيدة الإخوان المسلمين ولا يقبلون العمل بمثله.


9- حادث محاولة اغتيال اللواء حسين سري عامر قائد سلاح الحدود:

وقد قام بهذا الحادث الضباط الأحرار واعترف به الرئيس جمال عبد الناصر في كتابه فلسفة الثورة. ومثل هذا الحادث لا تقره عقيدة الإخوان المسلمين ولا تقبل العمل بمثله، وقد أدرك جمال عبد الناصر أن هذا الاتجاه لا يحقق هدفه فلجأ إلى القيام بثورة 23 يوليو 1952م.


10- حادث حريق القاهرة:

وهو من أخطر حوادث الاغتيالات السياسية التي وقعت في مصر لأنها دمرت الكثير من المباني وأحرقت الكثير من الأموال وقتلت الكثير من الأفراد على طول القاهرة وعرضها.

وهو حادث مستنكر من الإخوان المسلمين لا تسمح به عقيدتهم، وإن كان التاريخ لم يكشف حتى اليوم كشفًا يقينيًا عن مرتكبيه، وإن كان منسوبًا إلى أصحاب السلطان حتى اليوم.


11- حادث اغتيال الإسرائيلي «أبرت انراكش» الملحق الإداري بالسفارة الإسرائيلية:

وهو حادث سياسي لم يكشف الستار عن فاعله إلى اليوم، وإن كان القيام به مقبولاً من وجهة النظر الشرعية، فالقتيل محارب للمسلمين، لأنه يمثل عدوًا مغتصبًا لأرض المسلمين حتى اليوم، ومقاتل لهم بكل ما يملك من سلاح. وقد أعلن النائب العام أخيرًا اتهام تنظيم «ثورة مصر » بقيادة أبناء جمال عبد الناصر ، بارتكاب هذا الحادث ولم تظهر نتيجة المحاكمة بعد.


12- حادث مقتل سليم زكي باشا حكمدار العاصمة:

وهو حادث قتل في مظاهرة، وقعت للقتيل أثناء تأدية واجبات وظيفته لقمع المتظاهرين ولم يعرف لهذا الحادث قاتل معين، وإن كان شعب مصر قد حاول اغتيال سليم زكي مرتين وهو يوزباشي سنة 1922م والمرة الثالثة وهو قائمقام سنة 1931م وليس للإخوان المسلمين أي علاقة بهذه الحوادث جميعا، فالمحاولتين الأوليين تمتا، الأولى والثانية قبل إنشاء جمعية الإخوان المسلمين بسبع سنوات، والثالثة بعد إنشائها بسنتين، وكانت لا تزال محصورة في مدينة الإسماعيلية، أما الرابعة فكانت في مظاهرة قام بها طلبة الجامعة بعد هزيمة مصر في حرب فلسطين ، ولم ينسب إلقاء القنبلة التي قتلت سليم زكي باشا إلى فرد معين من المتظاهرين لتعرف هويته، ولكن المعرف عن سليم زكي باشا أنه قائد البوليس الذي نفذ تعليمات عبد الرحمن عمار بك بفتح كوبري عباس على المتظاهرين من طلبة الجامعة في حكومة محمود فهمي النقراشي باشا الأولى يوم 9 نوفمبر 1946 م، وأمر بضربهم بالرصاص، فأصيب 160 طالبًا وفقد 28 طالبًا كانوا يلقون بأنفسهم من فوق الكوبري في النيل الأمر الذي جعل العداء مستحكمًا بينه وبين طلبة الجامعة، ويفسر قيام أحدهم بإلقاء قنبلة عليه لقتله بقصد أو غير قصد، حيث يمكن أن يكون إلقاء الطلبة القنابل على البوليس مجرد مقاومة لعدوان البوليس عليهم لا يقصد منها قتل أحد بعينه، وقد كان إلقاء القنابل في المظاهرات من جانب المتظاهرين في هذه الأيام أمرًا عاديًا، كما حدث في مظاهرة طلبة المدرسة الخديوية، حيث ألقى الإخوان سيد بدر ولطفي فتح الله قنابل، لم يكونا يقصدان أحدًا من البوليس بعينه، ولكنهما كانا يقصدان تخفيف حملة البوليس على المتظاهرين، وقد حوكم هذين الأخوين على عملهما وأدينا بعقوبة الحبس عشر سنوات، ثم صدر عفو شامل عنهما في أول أيام الثورة، حيث اعتبرت الثورة عملهما جهادًا وطنيًا شريفًا لاستنقاذ حرية المواطن المصري من حكامه الظلمة المعتدين.


13- محاولة نسف منزل النحاس باشا:

وقد وقعت هذه المحاولة في 25/4/ 1948 وقيدت ضد مجهول، وهي من الحوادث التي لا تتفق مع مبادئ الإخوان المسلمين ، وقد أرسل المرشد العام للإخوان المسلمين يومها برقية إلى النحاس باشا يستنكر فيها هذا الاعتداء.


ثانيًا: أعمال فدائية قام بها الإخوان المسلمون وتنظيمهم الخاص، ولكنها قيدت ضد مجهول لعجز البوليس عن الاهتداء إلى الفاعل

أعمال ذات أهداف مختلفة

1- يوم الحريق ودور الإخوان المسلمين في هذا اليوم:

لما ظهر لشعب مصر ومنهم الإخوان المسلمون تقاعس حكومة صدقي في مفاوضتها مع الإنجليز وعجزها عن تحقيق طلب الأمة الثابت وهو الجلاء التام، ووحدة وادي النيل، وكانت هذه الحكومة تقوم على أساس أغلبية برلمانية من السعديين والأحرار الدستوريين، وكانت هذه الأغلبية قد أعلنت تأييدها لصدقي باشا في مشروعه الذي لا يزيد على أن يكون تنظيميًا مهذبًا لاستمرار الحماية والاحتلال، بينما عارض المشروع سبعة من أعضاء هيئة المفاوضات وأصدروا بيانًا للشعب بأن المشروع لا يحقق أهداف مصر في الجلاء ووحدة وادي النيل، كما أن خمسة وخمسين عضوًا من أعضاء البرلمان يمثلون الحزب الوطني وحزب الكتلة والمستقلين انسحبوا من مناقشة هذا المشروع في مجلس النواب، ولكن صدقي باشا أبى رغم كل ذلك إلا أن يستمر في مناقشة المشروع في جلسة سرية وحصل على الثقة بأغلبية 159 صوتًا من النواب السعديين والدستوريين وامتناع ثلاثة نواب عن التصويت هم الدكتور الرجال، وشوكت التوني، ومحمد بربري، وكان ذلك في 27/11/ 1946 م.

ثارت مصر على هذا المشروع وقام الأهالي بالتجمهر في ميدان سليمان باشا، وميدان الملكة فريدة وفي شبرا، وقامت مظاهرات أشعل فيها المتظاهرون النيران في كومة من الكتب الإنجليزية وفي بعض عربات الترام، كما حطموا واجهات بعض المحلات في شارع فؤاد وشارع القصر العيني، وقلبوا بعض عربات الترام، وفي باب الشعرية هاجم الأهالي مكتبة تبيع الكتب الإنجليزية واستولوا عليها وحرقوها، وسمى اليوم بيوم الحريق، وقد اشترك الإخوان المسلمون في هذا اليوم على نطاق واسع، ولكنه محدود بالالتزام بفكرتهم بحرق الكتب الإنجليزية في الشوارع إشعارًا لكره الشعب لاستمرار الاحتلال الإنجليزي لمصر وتصميمه على الجلاء ووحدة وادي النيل.

وعلى الرغم من ذلك كله صمم صدقي باشا على عدم الاكتراث بموجة الغضب العارمة ضد مشروعه، بل إنه أصر على إيفاد وزير خارجيته إبراهيم عبد الهادي باشا إلى لندن لتوقيع المعاهدة استنادًا على حصوله على موافقة أغلبية برلمانية لتزييف إرادة الشعب.


2- دور النظام الخاص في مقاومة مشروع صدقي بيفن:

كان لا بد للنظام الخاص وقد تطورت الأمور إلى هذا الحد أن يرى كلا من الحكومة والإنجليز أن محاولتهما لتقنين احتلال الإنجليز لمصر لن تمر دون قتال مسلح فعمد إلى:

أ- تفجير قنابل في جميع أقسام البوليس في القاهرة يوم 3/12/ 1946 م بعد العاشرة مساء، وقد روعي أن تكون هذه القنابل الصوتية، بقصد التظاهر المسلح فقط دون أن يترتب على انفجارها خسائر في الأرواح، وقد بلغت دقة العملية أنها تمت بعد العاشرة مساء في جميع أقسام البوليس ومنها أقسام بوليس الموسكي والجمالية والأزبكية ومصر القديمة ونقطة بوليس السلخانة، ولم يضبط الفاعل في أي من هذه الحوادث، فاشتد رعب الحكومة من غضبة الشعب وفكرت كثيرًا قبل إبرام ما عزمت عليه، ثم توالى إلقاء القنابل على أقسام بوليس عابدين والخليفة ومركز إمبابة وعلى المعسكرات البريطانية. ب- عمد النظام الخاص إلى إرهاب الحزبين الذين منحا صدقي باشا الأغلبية البرلمانية للسير قدمًا في تضييع حقوق مصر دون أن تقع خسائر في الأرواح، وذلك بإلقاء قنابل حارقة على سيارات كل من هيكل باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين والنقراشي باشا رئيس حزب السعديين في وقت واحد.

وقد نفذ عملية هيكل باشا الإخوان أحمد البساطي، ومحمد مالك، أما عملية قنبلة النقراشي باشا فلم تنفذ لعدم العثور على سيارته في ذلك اليوم، ولقد زادت هذه العملية من رعب الحكومة وأعوانها خاصة أن كل فئات الشعب كانت ثائرة ضد ما اعتزمت الحكومة أن تقدم عليه، فأضرب المحامون واشتدت المظاهرات، حتى اضطر صدقي باشا إلى النزول على إرادة الأمة، وتقديم استقالته في 9 ديسمبر سنة 1946 م، ولم يكن أمام القصر بد من قبولها، وتحقق في شعب قول الشاعر:

إذا الشعب يومًا أراد الحياة

فلابد أن يستجيب القدر

ولابد لليل أن ينجلي

ولابد للقيد أن ينكسر

وتحقيقًا لما عاهدت عليه القارئ الكريم أن تكون الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة هي واقع هذا الكتاب، أقرر أن التخطيط لعملية قنابل السيارات الخاصة برئيسي هذين الحزبين قد تمت بمعرفتي أنا والأخ عبد المنعم عبد الرءوف قائد الفرقة التي حاصرت قصر المنتزه، وأجبرت الملك فاروق على التنازل عن العرش في أوائل أيام الثورة، وقد عرضت الثورة على الأخ عبد المنعم عبد الرءوف أن يكون عضوًا بمجلس قيادتها، فاشترط لقبول عضوية المجلس أن يعلن أن هدفه هو الحكم بالإسلام من أول يوم، فلما يجب إلى طلبه رفض عضوية هذا المجلس الذي ضاع وضيع مصر معه.

وقد قمت شخصيًا بمراقبة خط سير سيارة النقراشي باشا، لوضع القنبلة عليها وأنا جالس على موتوسكل خلف قائده الأخ علي عمران من إخوان السيدة عائشة، وقد أجهدتنا المراقبة دون أن نعثر لهذه السيارة على أثر، بينما قام الأخ أحمد البساطي من ناحية أخرى بإلقاء القنبلة على سيارة هيكل باشا من مسافة بعيدة، عندما شاهد السيارة تقف عند باب منزل هيكل باشا، ويخرج منها ركابها، وكانت القنبلة حارقة، صوتية لا يؤذي انفجارها أحدًا ممن حولها، ولكنها لم تنفجر فاضطر الأخ محمد مالك أن يلقي القنبلة الشديدة الانفجار، التي كان يحملها لتغطية الانسحاب إذا لزم الأمر، جهة السيارة، بعد أن اطمأن إلى ابتعاد الركاب عنها، وكان توقيته دقيقًا، فأحدثت القنبلة انفجارها الشديد وخسائرها الكبيرة للسيارة دون أن يصاب أحد من الركاب الذين كانوا قد وصلوا إلى المنزل آمنين.

ولقد تعمدنا إذاعة سر هذه العملية وبيان أن المقصود منها كان رئيسي الحزبين لإرهابهما بسبب موقفهما المتخاذل في المطالبة بحقوق مصر ، دون أن نوضح أي إشارة تشير إلى الجهة التي نفذت العملية، ليعلم النقراشي باشا أنه كان مقصودًا أيضًا، وأنه لم يحل دون إلقاء قنبلة على سيارته إلا عدم ظهورها في تلك الليلة، وقد تحقق الغرض المنشود والحمد لله دون أي خسائر فاستقال صدقي باشا، ولم تبرم معاهدته مع بيقين.


3- تعطيل سفينة يهودية في ميناء بورسعيد:

في يوم من أيام 1947م حضر الشيخ الجعبري من كبار التجار الفلسطينيين إلى دار المركز العام للإخوان المسلمين وأبلغ فضيلة المرشد العام أن سفينة شحن يهودية محملة بالأسلحة وقادمة من عدن قد عبرت قناة السويس في طريقها إلى فلسطين وأنها حاليًا موجودة بميناء بورسعيد، وأنها مميزة بالنجمة السداسية شعار اليهود، فدعاني فضيلة المرشد العام بواسطة الأخ عبد الرحمن السندي وكلفني بترتيب ضرب هذه السفينة في الميناء، قبل أن تغادر إلى فلسطين لتوصيل شحنتها لليهود، فأخذت الأخوين محمد مالك وحسن عبد الحافظ وقد كانا من أفراد مجموعتي في هذا الوقت، وأخذت لوازم تفجير هذه السفينة بقنبلة زمنية وركبنا أول قطار إلى بورسعيد.

ولقد لاحظت على الأخ حسن عبد الحافظ بعض التردد لهذه العملية العجيبة التي وجد نفسه عضوًا في المجموعة المكلفة بتنفيذها، أما الأخ محمد مالك فقد كان راسخًا كالطود وهو مقدم على هذا العمل الفدائي الكبير، فقررت إعفاء الأخ حسن عبد الحافظ من المأمورية وعودته فورًا من بورسعيد إلى القاهرة.

ولم تكن مدينة بورسعيد غريبة عليَّ، فقد عملت بها رئيسًا لمحطة أرصاد بورسعيد طوال سنة 1944م، وأسست فيها مجموعات النظام الخاص في بورسعيد بتكليف من فضيلة المرشد العام، حيث سلمني فضيلته خطابا بهذا التكليف إلى الأخ أحمد المصري رئيس إخوان بورسعيد، لييسر لي عملي، ثم أمره بتمزيق الخطاب بعد قراءته، وفي هذا العام تشكلت بقيادتي مجموعات النظام الخاص في بورسعيد.

وعلى الرغم من أن خطتي كانت تعتمد على أخ واحد من إخوان بورسعيد، يملك لنش صيد في البحر، إلا أنني من حبي لإخوان النظام في بورسعيد ورغبتي في أن أرفع روحهم المعنوية، آثرت أن أعلن خطتي على رؤساء مجموعات بورسعيد، فإذا ما شهدوا تنفيذ الخطة في اليوم التالي ونجاحها زادت ثقتهم أنهم أعضاء في تنظيم جاد لا هزل فيه، يعمل لنصرة الإسلام ، بكل ثبات وتضحية وفداء.

ولابد لي أن اعترف أن ما أقدمت عليه كان خطأ من وجهة نظر أمن العملية، ولكنني كما قلت تجاوزت عن هذا الخطأ لمعرفتي الشخصية بإخوان النظام ببورسعيد وثقتي التامة أن كلا منهم قد وهب إيمانًا راسخًا ويقينًا صادقًا وثباتًا كثبات الجبال، فتوكلت على الله وجمعتهم وجمعت معهم الأخ محمد مالك والأخ صاحب اللنش، وقد غاب اسمه عن ذهني الآن وشرحت لهم الخطة التي سبق لي رسمها مع الأخ محمد مالك والأخ صاحب اللنش بعد المعاينة على الطبيعة.

لقد شاهدنا السفينة الوحيدة التي تحمل هذه النجمة فاستيقنا من أنها هي هدفنا دون أدنى شك. ثم حددنا موقعًا معينًا من الميناء ينتظر فيه الأخ صاحب اللنش الأخ محمد مالك في وقت محدد من ساعات الظهر ليأخذه في جولة بالميناء يلف أثناءها حول السفينة ليتخير الأخ محمد مالك المكان المناسب لوضع قنبلة زمنية على السفينة، ثم ينصرف بلنشه إلى خارج الميناء من نقطة محددة ألاقيه فيها للاطمئنان على تمام العملية، وقد كانت عبوة القنبلة الزمنية كافية لإحداث عطب بالسفينة يمنعها عن مواصلة السفر إلى فلسطين ، ويكشف حقيقة حمولتها للمسئولين عند سحبها للحوض الجاف لإصلاحها.

وبعد أن انتهى الاجتماع بالليل وعلم كل رؤساء المجموعات بالخطة المقرر تنفيذها لأعطاب السفينة، تمت العملية بنجاح دون أدنى خسائر، وقابلت محمد مالك في الموقع المحدد من خارج الميناء وتوجهنا سويًا، قبل انفجار القنبلة، إلى محطة القطار ليركب محمد مالك أول قطار إلى القاهرة على أن أركب معه نفس القطار، ولكن من الإسماعيلية، فقد قررت أن نفترق في الجزء بورسعيد الإسماعيلية من الطريق تأمينًا لسلامة وصولنا دون أن يثار حولنا أي شك.

وفي طريقنا سمعنا دوي الانفجار وهنأت محمد مالك وتوجهت إلى محطة الأتوبيس للسفر إلى الإسماعيلية وتوجه هو إلى محطة القطار للسفر إلى القاهرة، وانتظرته على رصيف القطار في الإسماعيلية، وهناك أتممت معه الرحلة إلى القاهرة وسمعت معه تعليقات الناس على حادث انفجار المركب بميناء بورسعيد، ثم توجه كل منا إلى منزله ليبيت هانئًا حتى الصباح.

وقد نشرت الجرائد خبر انفجار المركب وزعمت أن أحد العمال أصابه جرح من أثر الانفجار مما أزعج الإمام الشهيد ظنًا أن يكون المصاب واحدًا منا.

فلما لقيته بالمركز العام في اليوم التالي وأبلغته بنجاح العملية دون أدنى خسائر تهلل وجهه الكريم فرحًا وقبلني في شفتاي قبلة لا أزال أحس طيب ذكراها حتى اليوم.


4- شحن الأسلحة والذخائر إلى المجاهدين الفلسطينيين من سواحل بورسعيد:

في يوم من أيام عام 1947 قابل أحد ممثلي الهيئة العربية العليا فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين، وطلب منه مساعدة الإخوان في شحن سفينة عربية بالأسلحة والذخائر الموجودة بالفعل لدى إحدى بطاريات المدفعية المصرية على ساحل مدينة بورسعيد، وأن ضباط هذه البطارية جاهزون للمساهمة في هذه العملية بأشخاصهم فضلا عن تخزين هذه الأسلحة والذخائر لديهم.

فدعاني الإمام الشهيد بواسطة الأخ عبد الرحمن السندي وكلفني بالمهمة وعرفني بصاحب السفينة العربية المتطوعة بحمل الأسلحة والذخائر، الذي سيتولى تعريفي بالضباط المتطوعين للمساهمة في هذا العمل، وقد عرفت نفسي لصاحب السفينة باسم مستعار وحددت معه زمان ومكان اللقاء في اليوم التالي بمدينة بورسعيد على أن يدعو لي أحد الضباط المتطوعين لمقابلتي في نفس الزمان والمكان.

وفي اليوم التالي التقينا في المقهى الذي حددته لصاحب السفينة، حيث كان قد دعا النقيب حسن فهمي عبد المجيد الذي ظهر فيما بعد أنه من خيار الضباط الأحرار الذين أسهموا بنصيب وافر في حرب فلسطين ، ثم كان في عهد الثورة أو قائد للمظلات في مصر ، ثم رقى بعد ذلك لوظيفة سفير مصر بالجزائر.

وبعد التعارف بالنقيب حسن فهمي عبد المجيد الذي رحب بي أجمل ترحيب، وأكد أن لديه الشحنة المطلوب توصيلها إلى السفينة العربية بعد خروجها من الميناء ووقوفها في عرض البحر، ودعاني لتناول طعام الغذاء في البطارية الساحلية التي سيتم منها الشحن، وقد استيقنت من صدق اليوزباشي حسن فهمي عبد المجيد ورجولته، ورتبت مع الأخ صاحب اللنش أن يكون بلنشه أمام البطارية في اليوم التالي، وقد كان إعجابي شديدًا بضباط البطارية وأولهم اليوزباشي حسن فهمي عبد المجيد، حيث أنهم منحوا جميع عساكر البطارية أجازة في هذا اليوم فور انتهائهم من تجهيز طعام الغذاء، فخرجوا جميعًا من البطارية ولم يبق إلا الضباط، الذين حملوا على أكتافهم صناديق الأسلحة والذخيرة وخاضوا بها في البحر حتى يصلوا إلى اللنش، ولما تم شحن اللنش واصل سيره إلى السفينة الواقعة في عرض البحر ونقلت إليها الحمولة كاملة، وأقلعت بسلام إلى فلسطين .

ولقد رجعت من بورسعيد إلى الإسماعيلية مع اليوزباشي حسن فهمي عبد المجيد في سيارته، وهو يمثل الضابط المصري الرياضي الشجاع، وقد كان حب الوطن وحب مقاتلة الإنجليز واليهود هو الغالب عليه بغض النظر عن الدين، وقد كانت نظرته للإخوان المسلمين كهيئة أكبر بكثير مما أعرفه أنا عن إمكانيات الإخوان المسلمين العملية، وكان يعلق عليها آمالاً كبارًا في الجهاد في فلسطين وفي القضية المصرية، وإن كان هذا المظهر الرائع والروح المتوقدة لم يتعارضا عنده مع التدخين واحتساء البيرة، فهو ينظر إلى هاتين العادتين على أنهما من مستلزمات الرجولة ولا عيب فيهما على الإطلاق.

ثم افترقنا في الإسماعيلية ولم نلتق ثانية، ولم يعرف اسمي الحقيقي إلي اليوم.


5- حوادث محلات شيكوريل والشركة الشرقية للإعلانات وشركة أراضي الدلتا بالمعادي:

قد يظن الدارس لهذه الحوادث أن ارتكابها بأيدي رجال النظام الخاص كان عملاً غير مفهوم لأن هذه المحلات والشركات تقع في الأراضي المصرية، ولا يوجد معنى لأن ترتكب ضدها حوادث نسف أو تدمير، وذلك على النحو الذي ذهبت إليه المحكمة في حيثيات حكمها عن مثل هذه الحوادث التي قد تضر المواطنين، بأكثر ما تضر الأعداء، وقد تكون هذه النظرة الخاطئة لهذه الحوادث هي التي وقفت وراء إدانة المتهمين في قضية السيارة الجيب على الرغم من عدم وجود أي إشارة في الأوراق أو الأعمال تدعو إلى الإدانة على اتفاق جنائي على أي من هذه الحوادث، فقد قصد القضاء بالإدانة على اتفاق جنائي عام لم يوجه نحو حادث معين إعطاء الشباب الشريف الغاية النبيل المقصد درسًا لكي يتوخى في عملياته ما يغيظ العدو ولا يضر المواطنين في المستقبل، خاصة أن هذا الدرس لن يكلفهم شيئًا فمدة العقوبة ستكون قد انقضت لحظة النطق بالحكم.

والحقيقة أن هذه الحوادث إنما خطط لها، تنفيذًا لقرار سري من اللجنة العليا لإنقاذ فلسطين برئاسة علوبة باشا، وكان هذا القرار لا يحدد أي موقع من هذه المواقع بالتفصيل، ولكنه كان توجيهًا عامًا، لإشعار يهود العالم أن تصميمهم على إنشاء إسرائيل سيترتب عليه حتمًا خسارتهم الكبيرة، لما كسبوه من توغل اقتصادي واسع في جميع الدول العربية، ولم يكن للعرب من وسيلة ليشعر الأعداء بهذا الخطر الذي يهدد مصالحهم في جميع البلاد العربية إلا بضرب نماذج من شركاتهم ومؤسساتهم في هذه البلاد، لا لتدميرها نهائيًا، ولكن للفت الأنظار بشدة إلى ضخامة حجم الخسائر التي يمكن أن تعود على اليهود في العالم إذا استمروا في عنادهم لاتخاذ وطن قومي في فلسطين .

ولمثل هذا الهدف يمكن أن تقبل قواعد الحرب بعض الخسائر في المواطنين، فقواعد الحرب تقدم خلاصة الرجال في الحروب، ليقتلون ويقتلون، ولا يمكن تجنب الخسائر في العمليات العسكرية إذا كان هدفها لصالح الأمة بدعوى أن القيام بها يعرض أمن بعض المواطنين للخطر، ولكن كل الذي يمكن أن يقال هو وجوب بذل قصارى الجهد لكي تكون هذه الخسارة في المواطنين في حدها الأدنى. وقد تركت اللجنة العليا العربية للإخوان المسلمين بصفتها عضوًا فيها أداء هذه الرسالة في خدمة القضية الفلسطينية.

وقد رتب النظام القيام بعمليات كانت أكبرها نسف شركة الإعلانات الشرقية بسيارة ملغومة قادها إلىا لموقع المختار الأخ الشهيد علي الخولي، وكان هذا الحادث أكبر حوادث النسف التي شهدتها القاهرة، وكانت الخسارة البشرية فيه بالنسبة لضخامته في حدها الأدنى، حيث اختير وقت الانفجار قبل حضور الموظفين، ولم يمكن معرفة أحد من الفاعلين، ولم يقبض على الأخ علي الخولي الذي ترك السيارة وغادر الموقع في أمان تام، وحدث الانفجار بعد أن ابتعد تمامًا عن آثاره.

وبالمثل فقد وقع انفجار في محلات شيكوريل، وقد أغمضت الحكومة عينها عن نسبته إلى أحد من المواطنين، بل أصدرت بيانًا تنسب هذا الحادث إلى لغم من طائرة صهيونية تعاونا منها على ستر أعمال الفدائيين.

وكذلك وقع حادث شركة أراضي الدلتا وقيدت جميعها ضد مجهول وكان الفرق بين هاتين الحادثتين وحادث شركة الإعلانات الشرقية هي استخدام ترسيكل بدلا من سيارة في كلا الحادثتين.


6- نسف بعض المساكن في حارة اليهود بالقاهرة:

قام بهذا الحادث إخوان قسم الوحدات () وقد خطط لتنفيذه الأخ صلاح شادي رئيس هذا القسم كجزء من المساهمة في لفت أنظار اليهود إلى الخسائر التي يمكن أن تقع عليهم في جميع أنحاء العالم العربي، وقد كلف الأخ بعض الإخوان الذين أعدهم لهذا الغرض بهذا العمل الذي ينطوي على الرحمة باليهود، رغم ما في ظاهره من شدة، ولكنهم لم يتعظوا من هذه المحاولات التي قصد منها تنبيههم، واستمروا في غيهم يسعون إلى بسط سيادتهم على جميع أنحاء الوطن العربي آملين في قيام إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات وقد تكرر نسف بعض المنازل في حارة اليهود مرتين وتعاونت الحكومة أيضًا في قيدها ضد مجهول، بل وفسرت النسف الأول على أن سببه خلاف بين اليهود القرائيين واليهود الربانيين، فبدأت الأولى بنسف دور الثانية، ثم ردت الثانية بنسف دور الأولى، ولم يكن في الإمكان أن يتوسع الإخوان في عمليات ضد اليهود في مصر لأكثر من هذا حفاظًا على أرواح المواطنين على أساس أن مثل هذه الحوادث كافية للتنبيه إذا كان لدى اليهود عقول تفهم.


7- حوادث قنابل عيد الميلاد:

اعتاد جنود الجيش الإنجليزي بكافة أجناسه أن يحتفلوا بعيد الميلاد بارتياد دور اللهو والمجون والسكر والعربدة في الحانات والكباريهات، وقد خصصت كثير من هذه الدور للجنود الإنجليز، وكانوا يخرجون وهم سكارى في صخب شديد ينهبون المحلات ويخطفون النساء ويعتدون على كل ما يقابلهم من متاع أو غيره.

وكان لا بد للنظام الخاص أن يتخذ موقفًا ضد هؤلاء الجنود حتى تضطر قيادتهم إلى إحكام الرقابة عليهم مؤقتًا إلى أن يتمكن النظام من توسيع عملياته لطرد المحتل.

وقد اشترك في هذه العمليات الأخوة حسين عبد السميع وعبد المنعم إبراهيم حيث ضبط كل منهما متلبسًا بحمل المتفجرات واستعمالها، وكأن الأخ عبد المنعم إبراهيم لم يكفه ما فعل تلك الليلة فخرج بعد منتصف الليل لتوصيل ابن خاله كمال القزاز بعد سهرة في عرس شقيقته، ولكنه لم يخرج فارغًا بل حمل معه قنبلة شديدة الانفجار، وقد قذف بها أحد لوريات الجيش الإنجليزي في شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليًا) وهو محمل بالجنود العائدين إلى ثكناتهم فأحدثت دويًا هائلا في سكون الليل صرع فيه من صرع من جنود الإنجليز وجرح من جرح، ولكن حرس الليل من البوليس المصري استطاعوا محاصرته والقبض عليه. وقد أدين الأخوة حسين عبد السميع وعبد المنعم إبراهيم في هذه الحوادث، بينما لم يمكن الاهتداء إلى غيرهم ممن قاموا بحوادث أخرى ضد الإنجليز في أعياد الميلاد.


8- حادث النادي المصري الإنجليزي:

لم يكن في الإمكان أن يغفل النظام الخاص عن وجود ناد يحمل هذا الاسم والإنجليز يحتلون مصر فهو رمز للاستكانة والذلة ومصادقة العدو، حيث يجب على كل وطني مخلص أن يعاديه.

ومن ثم صدرت الأوامر للأخوين حسن عبد الحافظ، ومحمد مالك بضرب هذا النادي، وتم تنفيذ ذلك بكل دقة، وقيدت ضد مجهولين.

ومن طريف ما يذكر أن الأخوين عندما حاولا ركوب الترام بعد حدوث الانفجار اشتبه فيهما بعض عساكر البوليس المصري وقبضوا عليهما، وبينما يناقش الإخوان هؤلاء العساكر عن السبب في القبض عليهما وهما لم يفعلا شيئا إلا محاولة ركوب الترام مر أحد الكونستبلات المصريين واشترك في المناقشة وأمر العساكر بإخلاء سبيلهما بدافع وطني نبيل.


أعمال ضد جنود الاحتلال

9- حادث القطار الإنجليزي :

قام بهذا الحادث أيضا إخوان من النظام الخاص وقسم الوحدات يرأسه الأخ صلاح شادي، وقد نفذه الأخوة علي بدران، وحسن عبيد من الطيران، والأخ إبراهيم بركات من الصيانة بأن حملوا سلال السميط والبيض والجبن شأن الباعة الجائلين الذين يشاهدون في القطارات، وذلك لتغطية ما بداخلها من قنابل، وترصدوا موعد وصول قطار القوات الإنجليزية الذي يمر عبر القاهرة في منطقة الشرابية، حيث كان القطار الذي يحمل هذه القوات يضطر للتهدئة في مسيرته في هذا المكان بسبب أعمال الحفر التي كانت قائمة.

ثم بدءوا يقذفون القنابل داخل القطار من شباكه في أثناء سيره المتمهل في هذا المكان، وكانت المسافة التي يسيرها القطار بعد قذف القنابل تكفي للتباعد بين الإخوان وبين الانفجارات التي تحدثها القنابل بعد ثوان من إلقائها، وقد أشرف على هذه العملية كل من الأخوين صلاح شادي وعبد الرحمن السندي، دون أن يشعر أي منهما بدور الآخر، بسبب كون الإخوان المنفذين أعضاء في كل من النظام الخاص وقسم الوحدات في وقت واحد.


10- حادث فندق الملك جورج:

قام بهذا الحادث إخوان الوحدات بإشراف الأخ: صلاح شادي وقبض على الأخ رفعت النجار جريحًا بسب عدم استطاعته الابتعاد عن موقع الانفجار في الوقت المناسب.


11- مهاجمة دورية مصفحة جنوبي القنطرة:

هاجم الأخوة فتحي البوز وعصام الشربيني بتعليمات من الأخ فوزي فارس الدورية بأن اختبئوا بين أغصان مجموعة من الأشجار العالية المطلة على خط السير المتكرر لهذه الدورية، واستمروا في مقامهم أربع ساعات حتى تقدمت نحوهما هذه الدورية المكونة من سيارتين مصفحتين فأطلقا عليها القنابل والرشاشات وأصيب جميعه من فيها ثم قفزوا من فوق الأشجار وعادوا إلى قواعدهم سالمين.


12- قذف مئات من السيارات الإنجليزية ناقلات الجنود بالقنابل والزجاجات الحارقة في شوارع مدينة الإسماعيلية:

خصص الأخ يوسف طلعت مجموعة من رجاله برعت في إلقاء القنابل من وراء النوافذ أو زوايا الشوارع أو البساتين على ناقلات الجنود من السيارات البريطانية أثناء اختراقها شوارع مدينة الإسماعيلية في تحركها بين المعسكر الكبير، والمعسكرات الأخرى، ولم تغضب أهالي المدينة من كثرة قيام قوات العدو بتفتيش منازلهم أو عزل أحيائهم، أملا في وقف هذه القنابل ولكنها استمرت حتى اضطر العدو إلى حظر مدينة الإسماعيلية على جنوده، وابتكار طرق أخرى يسير فيها بعيدًا عن شوارعها.


13- نسف مخازن الذخيرة بأبي سلطان :

قام بهذه العملية سبعة من إخوان النظام الخاص بتعليمات من الأخ يوسف طلعت وقد لبسوا ملابس كاكي وتسلح كل منهم في وسطه بخنجر مرهف وحمل على كتفه مدفعًا رشاشًا، كما حمل أربعة منهم لفافات المتفجرات.

وقد اختار قائد هذه المجموعة ليلة مظلمة لهذه العملية بعد دراسة دقيقة لمواعيد مرور دوريات الحراسة المشددة التي أقامها الإنجليز لهذه المخازن، وكذلك مواعيد تغيير الدوريات بحيث يمكن أن تصل المجموعة إلى حفرة يستعملها الإنجليز لإلقاء القمامة، ولا يفصلها عن الأسلاك المحيطة بالمخازن إلا أمتار قليلة، ليتخذوا من هذه الحفرة ساترًا عن مرور دورية الحراسة.

فما إن مرت الدورية بسلام وتأكد الأخ «خطاب» قائد المجموعة أنها لن تعود قبل نصف ساعة أخرى، أمر اثنين من زملائه بالتقدم لفتح ثغرة في الأسلاك الشائكة بمقص كان معهما، ثم أخذوا مكانهما من جديد في الحفرة، وبعد عشرة دقائق مرت الدورية مرة ثانية فأوضحت للمنبطحين في الحفرة

موقع الثغرة التي عملها إخوانهم في الأسلاك، وقبل أن تتوارى أضواء الدورية تمامًا وهي تتحرك بعيدًا عنهم تحرك الأخ خطاب وزملاؤه يحملون ألغامهم ويسرعون في التسلل عبر الأسلاك، وحين اقتربوا من المخازن جلسوا مرة أخرى ينصتون بانتباه شديد إلى وقع أقدام الجندي الإنجليزي المكلف بالحراسة وهو يغد ويروح حول أكوام من الصناديق المغطاة بالمشمع، وعندما تجاوزهم الحارس قاموا من أماكنهم ووضعوا ألغامهم بين الصناديق وأشعلوها ثم انسحبوا مسرعين تلاحقهم نيران جنود العدو الذين شعروا بهم، وتغطيهم نيران مدافعهم الرشاشة يطلقونها تجاه خيام العدو أثناء الانسحاب حتى وصلوا الثغرة وخرجوا خارج المعسكر، ولفهم الظلام بستاره السميك بعيدًا عن المعسكر، لا يظهر فيه إلا خيوط متشابكة من اللهب تنبعث من رشاشات الجنود الذين مضوا يطلقون النار عفوًا وبجنون، وبعد لحظات انفجرت المخازن محدثة دويًا هائلاً من سلسلة من الانفجارات التي أضاءت ألسنة اللهب الصادرة عنها صفحة الليل، وكان الرجال قد وصلوا إلى قاعدتهم ثم عادوا إلى الإسماعيلية سالمين، وقد أعلن الإنجليز عن نسف مخازن أبي سلطان وقتل خمسة من الجنود، بينما أكد العمال المصريون داخل المعسكر أن عدد القتلى تجاوز العشرين جنديًا.


14- تدمير أنابيب المياه وقطع أسلاك التليفون واصطياد الأطقم الإنجليزية التي تصل لإصلاح الأعطال:

خرج أربعة من الإخوان في منطقة القنطرة الغربية ليلاً، وقام اثنان منهم بقطع أنابيب المياه التي تغذي المعسكر الإنجليزي بالفؤوس إلى مسافة طويلة، ثم قذفوا بها في الترعة لتنساب مياهها هناك، وتوجه اثنان آخران إلى أسلاك التليفونات الأرضية (الكابلات)، وحفروا عميقًا حتى وصلوا إليها وقطعوها بالفؤوس ثم عادوا إلى مواقعهم.

وقد رتب الإخوان في اليوم التالي ثالثة من القناصة يرتدون ذي الفلاحين في المنطقة، بينما تنتظرهم سيارة جيب مختبئة غير بعيد وراء الأشجار، وعندما وصل ثلاثة من الجنود الإنجليز عند مكان القطع لإصلاحه اصطادهم رجالنا فقتلوا واحدًا وجرحوا الثاني واستمر الثالث يقاوم بإطلاق النار، ولكن رجال الإخوان وصلوا إلى سيارتهم بعد أن أصيب أحدهم (الأخ حسن الجمل) في فخذه برصاصة من رصاصات العدو. وقد تكررت هذه العمليات في السويس، مرات باستعمال الفؤوس ومرات باستعمال المفجرات في قطع أنابيب المياه وأسلاك التليفونات.


15- نسف قطار بريطاني في منطقة القنطرة:

علم الإخوان من مندوبهم ببورسعيد أن قطارًا بريطانيًا سيتحرك غدًا في اتجاه الإسماعيلية وعليه حمولة من الدبابات والبترول وستلحق به عربتان للركاب لنقل سرية من الجنود وعربة أخرى تحمل عشرة جنود مسلحين لحراسة القطار في مؤخرته، فقرروا نسف هذا القطار، وتطوع للعملية الأخ عبد الرحمن البنا ن، وكان من بين الإخوان في هذه المنطقة عصام الشربيني، وفتحي البوز، وإسماعيل محمد إسماعيل، ويحيى عبد الحليم، وعبد المحسن الهواري، وفوزي فارس، وعلي نعمان، وسيد سلامة، وعميرة محسن، ومحمود جاويش، وأغلبهم ممن اشتركوا في حرب فلسطين .

انطلقت مجموعة من الإخوان إلى الموقع المحدد لنسف القطار فدفنت الألغام تحت القضبان ومدت الأسلاك الكهربائية من السكة الحديد إلى حفرة أرضية على بعد مائتي متر تكفي لستر جسم عبد الرحمن وتحميه من شظايا الانفجار.

ولكن عبد الرحمن أصر على أن يختار لنفسه موقعًا آخر على بعد 50 مترًا زيادة في ضمان نجاحه في العلمية التي تطوع لأجلها بائعًا نفسه في سبيل الله.

وفي اليوم التالي لبس عبد الرحمن ملابس عمال السكك الحديدية وأخذ يتسكع في المنطقة حتى ظهر القطار، فانطلق إلى مكانه وربط الأسلاك بجهاز التفجير، وضغط الجهاز بعد أن مرت القاطرة فوق الألغام، فانفجرت الألغام الثلاثة وخرجت القاطرة وسبع عربات عن الخط وانقلبت الدبابات على الأرض، وسقط الجنود الذين كانوا في العربات المكشوفة وتناثرت جنود الحراسة الذين تعرضت عرباتهم للضربة المباشرة من الألغام المتفجرة تحتها، وعاد عبد الرحمن سالمًا إلى موقعه بين دهشة إخوانه وفرحهم في اليوم التالي، حيث كان قد خرج من الحفرة مسرعًا في اتجاه الحقول ولم يره الجنود الذين أصابهم الذهول فور الانفجار، حتى وصل إلى أرض يغطيها نبات الفول فرقد في حفرة فيها خمس ساعات، آمنًا من طلقات الجنود التي غطت المنطقة بعد أن أفاقوا من الصدمة، وقد ستره الله عن أعين دوريات التفتيش التي جاءت لتمشيط المنطقة، فسمع أصواتهم وهو راقد في حفرته لا يفصلهم عن مخبئه إلا أمتارًا قليلة، فلم يروه، وحين دخل الليل خرج وسار في اتجاه مضارب البدو واستبدل ثيابه عندهم وقضى ليلته ضيفًا عليهم وعاد إلى قاعدته في الصباح آمنا معافى والحمد لله رب العالمين.

وقد تعطل هذا الخط خمسة عشر يومًا، واستمرت سيارات الإسعاف خلالها في نقل جثث الجنود الإنجليز من تحت حطام العربات.

ولقد تكررت عمليات نسف السكك الحديدية على هذا النحو في السويس خاصة بين السويس وميناء الأدبية، كما أعادت مجموعة بقيادة الأخ يوسف علي يوسف نسف خط الإسماعيلية بورسعيد مرة أخرى من موقع يبعد عشرة كيلو مترات عن الموقع الذي اختاره عبد الرحمن لبنان، كما قامت مجموعة أخرى بنسف قطار السكك الحديدية عند التل الكبير وكانت هذه المجموعة بقيادة الأخ علي صديق من كتيبة الجامعة.

معارك كتيبة إخوان الجامعة بمنطقة القرين:

بدأت كتيبة إخوان الجامعة وكان من بينها الإخوان حسن دوح، وعلى صديق، وحسن عبد الغني، وأحمد المنيسي، وعمر شاهين، وسعد فريد، وعلي إبراهيم، والضابط مصطفى أبو دومة، وإسماعيل عبد الله، ومحمد عبد الوهاب، وسمير الشيخ، وحسن شافعي.

وقد بدأت الكتيبة أعمالها بمراقبة تجمعات العدو وتحركاته حول المستعمرات صباحًا أثناء تغيير النوباتجيات في سيارة مصفحة وقرروا ضربها.


16- ضرب السيارة المصفحة أثناء تغيير نوبات الحراسة بمعسكر القرين:

ركز أفراد كتيبة إخوان الجامعة النيران على هذه المصفحة عند اقترابها من كمين أعدوه لهذا الغرض، وذلك بمدافع البرن وغيرها الأمر الذي أدى إلى حرق المصفحة بمن فيها، وأصاب كل الجنود الإنجليز الذعر فأعلنوا حالة الطوارئ بهذا المعسكر.


17- نسف خط السكة الحديد أمام قرية الحماد وقتل المهندسين الذين جاءوا لإصلاحه:

خرج علي صديق ومعه عمر شاهين في 11 يناير سنة 1952 في دورية استكشافية لتحديد موقع مناسب لكمين يقع فيه جنود الاحتلال.

وقد لاحظوا وجود شريط للسكة الحديد أمام قرية الحماد يصل إلى داخل المعسكر كان قد نسف من قبل، وحضرت ثلة من سلاح المهندسين من الإنجليز لإصلاح الخط الحديدي تحت حراسة مشددة، ومن هذه النقطة فكر علي صديق في إعادة نسف الخط الحديدي بعد إصلاحه، ثم عمل كمين لاصطياد أفراد سلاح المهندسين وحراسهم من جنود الاحتلال.

وفي المساء تسللوا ومعهم الألغام المضادة للأشخاص وقطن البارود لكسر الخط الحديدي الداخل لمعسكر الإنجليز، ثم وضع الألغام وتوصيلها بتوصيلة كهربائية إلى كمين يمكن منه تفجيرها عند قدوم أفراد سلاح المهندسين.

وقد اشترك في هذه العملية عشرة أشخاص انقسموا إلى ثلاث مجموعات، واحدة لوضع الألغام المضادة للأفراد التي تستعمل بالكهرباء، والثانية لوضع الألغام الناسفة للخط الحديدي، والثالثة للحراسة أثناء هذه العمليات، وفتح الكوبري الذي يوصل بالبلدة بعد نجاح العملية لمنع محاولة الإنجليز اللحاق بالمجموعة أثناء انسحابها.

وقد تم نسف الشريط وضرب الإنجليز نطاقًا حول المنطقة بأنوارهم الكاشفة ولكن الإخوان سعد فريد، وعلي إبراهيم، حفرا خندقًا لهما ومعهما بطارية التفجير وبقيا في انتظار الصيد الثمين الذي سيأتي لإصلاح الخط الحديدي حسب الخطط الموضوعة.

ولكن الإنجليز لم يحضروا في اليوم التالي للإصلاح فاضطر الأخ علي صديق إلى استفزازهم بنسف الشريط من نقطة أخرى بعيدة عن منطقة الألغام الكهربائية تحت الحراسة، ثم قام باستبدال الأخوين سعد فريد، وعلي إبراهيم، بآخرين قاما بتفجير الألغام في أفراد سلاح المهندسين عند خروجهم للإصلاح، وتمت العملية بنجاح، حيث قتل جميع أفراد سلاح المهندسين وانسحب الإخوان اللذان قاما بالتفجير عن طريق الكوبري، ثم تم فتح الكوبري لعرقلة تسلل الإنجليز لملاحقتهم، وفقًا للخطة الموضوعة.


18- معركة التل الكبير واستشهاد عمر شاهين وأحمد المنيسي:

في اليوم التالي لنسف هذا الشريط اختبأ ثلاثة من الإخوان في الحقول المجاورة لموقع النسف مخالفين التعليمات الصادرة لهم بالانسحاب، وكان معهم الأخ حسن عبد الغني الذي طلب منهم الانسحاب، ولكن شهوة النصر حببتهم في الاستمرار حتى وصلت عربة أخرى تحمل بعض الجنود البريطانيين لإصلاح الخط، وفور نزولهم وانشغالهم بنزع القضبان الملتوية فاجأهم رصاص الإخوان فقتل منهم ثلاثة واختبأ الباقون وراء حافة القضبان وأخذوا يطلقون الرصاص، واستمر تبادل إطلاق النار ولم ينسحب الإخوان حتى جاءت مجموعة أخرى لنجدتهم وانتشروا على خط محاذ لمجرى الترعة واستمروا في إطلاق النار، وتصادف مرور سيارة عسكرية بريطانية تحمل بعض جنود البوليس الحربي، فتدخل جنودها وأخذوا يطلقون النار، فهب شباب القرى المجاورة المسلحين وبعض الخفراء وفجروا خزان السيارة من كثرة ما أصابوها بالنيران، ولكن الإنجليز عمدوا إلى إخراج دفعات منهم من المعسكرات القريبة لمحاصرة الموقع وتطويقه، وقد تطلب إحكام التطويق ضد المتطوعين عبور الإنجليز لجسر مقام على الترعة يحرسه البوليس المصري الذي منعهم من العبور، وتبادل معهم إطلاق النار، ولكنهم استطاعوا بكثاة عددهم من العبور على الكوبري، وأصبحت قوتهم كتيبة كاملة تؤازرها خمس دبابات وعدد من السيارات المصفحة، حتى ضاق الحصار على المتطوعين الإخوان ومن عاونهم من الفلاحين والخفراء ولكنهم استمروا في المقاومة حتى نفذت ذخيرتهم فحاولوا الانسحاب من خلال الطوق المضروب حولهم، تحت وابل النيران، حتى استشهد من استشهد منهم، وكان بين الشهداء الإخوان أحمد المنيسي، وعمر شاهين، ووقع الباقون في الأسر بعد أن أنزلوا بقوات العدو خسائر جسيمة.

وقد أجمعت الصحف البريطانية والصحف المصرية على الإشادة ببطولة رجالنا حتى قالت الديلي ميرور: «إننا لا نستطيع بعد الآن أن نقول عن قوات التحرير المصرية أنها إحدى الدعايات المضحكة، لقد وصلت المعركة إلى طور جديد واستمر القتال يوم السبت الماضي يومًا بأكمله، وظل المصريون يحاربون لواء (الكاميرون) ولواء (الهايلاندز) باستماتة عجيبة».

ووصفت جريدة (نيوز كرونيكل): «أن المعركة هي إحدى المعارك الكبرى التي ثبت فيها المصريون ولم يركنوا إلى الفرار» وقد علق عليها أحد ضباطنا بقوله: إنها كانت أعنف من أي معركة خاضتها قواتنا أمام الصهيونيين في فلسطين .

وظهر بلاغ بريطاني في اليوم التالي يقول: «إن هذه المعركة دلت على أن الإرهابيين بدئوا يظهرون أمامنا في معارك مكشوفة الأمر الذي يضاعف في إبادتهم بسرعة».


19- إحراق مخازن البترول في سفح جبل عتاقة بالسويس:

قام بهذه العملية الضخمة فرد واحد من إخوان النظام كان يعمل في هذه المخازن بتكليف من إخوان السويس.

وفي اليوم المقرر للتنفيذ استأذن هذا العامل رئيسه الإنجليزي في ترك العمل قبل الموعد المحدد بساعتين لأنه يشعر بألم حاد في معدته، فأذن له، ولكنه بدلا من أن يخرج من الباب تسلل إلى كومة من الصناديق والفارغة واختبأ في داخلها حتى انتهى وقت العمل وخرج جميع العمال عائدين إلى بيوتهم، ثم خرج الإنجليز بعدهم، ولم يبق إلا حراس المخازن الذين أخذوا يطوفون حول الأسلاك الشائكة من الخارج، وعندما انتصف الليل بدأ الحراس يغالبهم النعاس، فانسل الأخ من مكانه بخفة ومضى إلى مكان قريب، حيث أخذ لوحين كبيرين من الخشب ونقلهما إلى نقطة بجانب الأسلاك الشائكة، ثم تركهما وعاد إلى المخازن، وأخذ يجمع بعض قطع الخيش ويصنع منها حبلا طويلا، ثم يبلله بالبترول والزيت ويلقي بطرفه بجانب الصفائح التي تكدست في صفوف طويلة، كما نقل بعض هذه الصفائح، واحدث بها ثقوبا وترك محتوياتها تتدفق بجانب الخزانات الضخمة، ثم أشعل أعوادًا من الثقاب وألقاها على الحبل، ثم مضى مسرعًا وألقى بلوحي الخشب على الأسلاك وعبر عليهما إلى خارج المعسكر بعيدًا عن الأسلاك الشائكة، وأخذ يعدو حتى ابتعد مسافة كافية، ولكن الحرس كان قد شعر به وسلط عليه ضوء الكشاف، فأراد الله نجاته، فإذا النيران تندلع من مكان بالمخازن جعل الحراس يسلطون ضوء الكشاف عليها، ثم أخذت الانفجارات تدوي خافتة متقطعة فعرف أن صفائح البترول بدأت تتفجر وكان اللهب يتضاعف بعد كل انفجار، فقام من مكانه وواصل سيره، بينما تتوالى الانفجارات وتشتد، فبدت له صفحة الأفق في اتجاه المخازن مشتعلة وكتل اللهب تتصاعد من كل انفجار جديد، ولقد استمرت الانفجارات يومين كاملين وعبثًا حاول الإنجليز السيطرة على النيران حتى أكلت المخازن جمعيها، وأتلفت مخازن البضائع.


20- مهاجمة مطار الديفراسوار:

هاجم بعض إخوان الإسماعيلية هذا المطار ليلا بالمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية وعبروا الأسلاك وقذفوا غرفة اللاسلكي بالقنابل، وتمكنوا من الاتجاه نحو حظائر الطائرات وإلقاء بعض القنابل عليها، ولكنهم اضطروا للانسحاب عندما سلطت عليهم أضواء الكشافات فأطلق أحدهم طلقة هشمت زجاج الكشاف وساد الظلام وتمكنوا من الخروج من الثغرة التي دخلوا منها.

ولم يمكن حصر حجم خسائر الإنجليز إلا أن البلاغ البريطاني اعترف أن محطة اللاسلكي أصيبت بأضرار.


21- مهاجمة مطار كسفريت:

وضع الصاغ محمود عبده قائد المتطوعين الإخوان في منطقة القنال خطة نسف هذا المطار وتطوعت لهذه العملية من إخوان النظام بقيادة الأخ لبيب الترجمان، وقامت المجموعة محملة بأسلحتها وذخائرها بعبور الصحراء القاحلة المحيطة بالمطار سيرًا على الأقدام من طرق جبلية لا تسير عليها إلا جمال البدو في رحلات متباعدة، وقد كمنوا بين الحفر عندما أصبح المطار مكشوفًا أمامهم استعدادًا للهجوم عليه بالليل، ولكن الصدفة وحدها أنقذت هذا المطار، حيث تصادف ظهور دورية سيارة وراءهم، فتقدمت نحوهم واضطروا إلى تبادل إطلاق النار معهم حتى أمكنهم الانسحاب والعودة إلى قواعدهم بسلام.


22- محاولة اغتيال البريجادير اكسهام من كبار القادة الإنجليز في الإسماعيلية:

حرص المجاهدون على الترصد للقادة الإنجليز ومحاولة قتلهم، وقد نجحوا في قتل بعض صغار الضباط، ولكنهم كانوا حريصين على اغتيال أكبرهم، وكان البريجادير اكسهام من أنشط القواد الإنجليز، وقد تعود أن يخرج في أحيان كثيرة بلا حراس إلا سائقه الخاص للتفتيش على قواته المنتشرة على الخطوط بين حين وآخر، وقد كان المجهدون يراقبونه حتى ظفروا بسيارته في أواخر ديسمبر 1951 تسير على طريق الإسماعيلية بالقرب من «نفيشة» فألقوا جزئها الخلفي قنبلة يدوية انفجرت في الداخل وهشمت السيارة وأصابت سائقها إصابات بالغة، ولكن لسوء الحظ لم يكن البريجادير بداخلها فاقتصرت نتائج الحادث على إصابات في السائق الإنجليزي «ألن».


23- نسف جسر جديد على ترعة الإسماعيلية:

فكر الإنجليز في إنشاء جسر جديد على ترعة الإسماعيلية لاستخدامه في العبور إلى صحراء الصالحية بدلا من الجسر الكبير الواقع في وسط قرية «الرياح» لكي يستروا عبور قواتهم إلى صحراء الصالحية عن أعين الناس.

وكان المجاهدون يحرصون على مراقبة عبور هذه القوات لأخذ حذرهم من المباغتة التي يمكن أن تقع على قواتهم في صحراء الصالحية المستخدمة في نقل الرجال والإمدادات من الشرقية إلى الإسماعيلية والقنطرة، فحرصوا على تدمير الجسر الجديد فور إنشائه وقبل تنظيم حراسة دائمة عليه.

قام بهذه العملية مجموعة من إخوان النظام بقيادة محمد علي سليم، الذي انتقل بمجموعته في سيارة جيب يقودها «محمود جاويش» إلى «عرب المعازة» وراء دليل ماهر من عرب «المعازة» حتى وصلوا إلى نقطة قريبة من الجسر.

خرج محمد علي سليم وسيد الريس للاستكشاف خشية وجود كمين للعدو، بينما رقدت باقي المجموعة على الأرض انتظارًا لعودتهم، وكان من بينهم الأخ عصام الشربيني، فلما عاد سليم وزميله بخير وانعدم أثر العدو في المنطقة فيما عدا تجول سيارات عسكرية فوق الجسر على فترات متباعدة. انتظرت المجموعة نصف ساعة حتى ظهرت سيارتان عسكريتان فوق الجسر، وترجل منها جنود الإنجليز ثم أخذوا يشعلون لفائفهم ويتحدثون قبل أن يركبوا سياراتهم وينطلقوا عائدين من حيث أتوا.

وحين عادوا أصدر محمد علي سليم أوامره بالعمل فانقسمت المجموعة إلى ثلاث مجموعات إحداها مجموعة التدمير التي توجهت نحو الجسر والثانية والثالثة للحراسة من الناحيتين، وكانت الخطة تقضي أن تعبر مجموعة الحراسة إلى الصحراء بعد أن تتلقى الإشارة بانتهاء عملية تثبيت الألغام، وعندما أنهت مجموعة التدمير عملها اجتمعت مرة أخرى عند طرف الجسر وأشعلت النيران في الفتيل، بينما هرول الجميع مبتعدين في اتجاه الصحراء.

ولما دوى الانفجار الهائل وتطايرت أجزاء الجسر في الهواء وصلت بعض الشظايا إلى أفراد المجموعة رغم بعدها عن الجسر، وتساقطت كتل كبيرة من الجسر وسط مجرى الترعة، حيث اختفت تحت سطح الماء. وبعد مرور ربع ساعة تقريبًا ظهرت السيارات البريطانية من جديد بالقرب من مكان الجسر حيث وقفت في ذهول من المفاجأة، بينما ضربت الجماعة سيرًا في الصحراء عائدة إلى قواعدها. ولقد كرر المجاهدون حوادث نسف الجسور، كما كرروا نسف هذا الجسر كلما أعاد الإنجليز بناءه من جديد. 24- كمين لإحدى الدوريات البريطانية: تعود الإنجليز تسيير دوريات على طريق المواصلات الرئيسي بمنطقة القنطرة ولكن «فوزي فارس» قائد المتطوعين في هذه المنطقة لم يكن ليدع هذه الدوريات تمر دون اصطيادها.

وقد قسم في أحد هذه المرات رجاله إلى ثلاث مجموعات صغيرة إحداها بقيادة «يحيى عبد الحليم» والثانية بقيادة «أبو الفتوح عفيفي » والثالثة بقيادة «عصام الشربيني» بعد أن زودهم بالمدافع الرشاشة والبنادق والذخائر اللازمة، كما وضع الألغام الكهربائية في ناحيتين من الطريق بقصد نسف إحدى هذه الدوريات التي تتحرك لنجدة الطوابير العسكرية الطويلة إذا ما تعرضت للخطر.

وقد رأى الأخ إسماعيل عبد الله أن إطلاق النار على الدبابة التي تكون غالبًا في مقدمة الدورية سوف لا تكون مؤثرة مما يعرض موقع المجاهدين أن ينكشف وتأخذ الدبابة فرصتها للقضاء عليهم، واقتراح أن يتقدم وحده إلى الدبابة وأن يقذف بداخلها قنبلة يدوية مستفيدًا من المفاجأة وقد قبل الإخوان هذا الاقتراح.

وبعد ساعات من الانتظار سطع ضوء قوي في اتجاه بورسعيد، وبدأ صوت هدير المحركات يمزق سكون الليل، ثم ظهر طابور طويل من السيارات العسكرية يتقدم في اتجاه المجموعة، فأخفى الجميع رؤوسهم وراء السواتر المرتفعة خشية أن تكشفهم الكشافات حتى مرت هذه القافلة الطويلة بسلام، فهي لم تكن هدف الليلة، وبعد فترة طويلة خيم فيها الظلام وقلق أبو الفتوح عفيفي لتأخر الدورية المقصودة، إذا بصوت فرقعة مبهمة على طريق السيارات تبين بعد عشر دقائق أنها أصوات جنازير الدبابات، ثم صمتت أصوات الجنازير وبدأتا نستمع همس الجنود الذين ارتجلوا وأخذوا يتلصصون ويتحدثون، وكدنا ننكشف لولا ستر الله، فعادوا جميعًا إلى مصفحاتهم، وعادت أصوات المحركات تسمع من جديد متجهة نحو المجموعة، وإذا بها دورية تتكون من دبابة مصفحة ضخمة من ذوي نصف الجنزير تتقدمان ببطء وبدون أي ضوء، وكان واضحًا أن الدبابة في المقدمة وكان برجها مفتوحًا وقد أطل من فوهته رأس جندي إنجليزي يتطلع ويتفحص الظلام.

وفجأة ألقى إسماعيل عبد الله قنبلته حسب الخطة الموضوعة فانفجرت في وسط الدبابة محدثة دوي انفجار مكتوم ثم صعد على سطح الدبابة ووجه مدفعه الرشاش طراز «ستن» وأخذ يطلق النيران على من بداخلها، واستمرت الدبابة في سيرها ولكنها لم تلبث أن انحرفت ودارت حول نفسها دورتين ثم سقطت في المصر ف القريب.

أما السيارة المصفحة فما لبث رجالها أن استردوا شجاعتهم بعد المفاجأة وفتحوا نيرانهم يغطون الأرض بها من فوق المجاهدين، وأخذ جندي اللاسلكي ينادي ألو.. ألو.. ولكنه لم يترك ليتم حديثه فألقى أحد المجاهدين على السيارة قنبلة يدوية أخرى أسكنت الجهاز، ثم فتح المجاهدون نيرانهم على باقي جنود العدو حتى أسكتوهم، ثم قذفوا قنبلة أخرى أنهوا بها مقاومتهم، واستولوا بعد ذلك على الأسلحة ثم أضرموا النيران في السيارة، وانسحب الجميع، وأخذ يحيى عبد الحليم ينادي أسماء رجاله واحدًا واحدًا، ويا للروعة فقد رجع الجميع سالمين، ولم يحدث بأي منهم أي إصابة والحمد لله رب العالمين.

وقد صدر بلاغ من قيادة العدو نشر في الصفحة الأولى في الجريدة البريطانية التي كانت تصدر في قاعدة القتال، يقول إن نجاح هذه العملية يؤكد الأخبار التي سبق أن ذكرناها عن وجود عناصر أجنبية الألمان واليوغوسلاف بين صفوف الإرهابيين!!!.

وضحك المجاهدون سعداء بما يقرأون.

تغيير قيادة الفدائيين:

بعد هذه المعارك أسندت جماعة الإخوان قيادة جميع الفدائيين من رجالها إلى الأخ: محمود عبده فجمعهم الأخ محمود عبده جميعًا في معسكر للتدريب في الزقازيق وكان يشرف على التدريب الشهيد السيد شراقي من إخوان بلدة كفور نجم مركز ههيا شرقية، وقد استشهد أثناء قيامه بتدريب الفدائيين بالمعسكر.


25-نسف قافلة تحمل جنود الاحتلال بالقرب من كوبري الرسوة:

كلف الأخ محمود عبده مجموعة بقيادة الأخ علي صديق للعمل بقطاع بورسعيد لأهميته وكان معه الأخوة يوسف علي يوسف ، وفتحي العجمي، وإسماعيل عارف، والمرحوم أحمد نصر، وفؤاد هريدي وغيرهم.

وأخذت المجموعة طريقها إلى بورسعيد عبر مدينة المنصورة حيث التقت بالدكتور خميس حميده رئيس الإخوان بها، فقدم لهم التسهيلات الممكنة، ثم أخذت طريقها إلى المنزلة ومن هناك اتخذوا طريقا خلفيًا بتوجيه من إخوان المنزلة يوصلهم إلى بورسعيد، وهو طريق بحري استخدم فيه الإخوان مركبًا شراعيًا ومعهم سلاحهم وذخيرتهم ونزلوا بها سرًا في جنح الظلام فوصولا إلى بورسعيد مع أذان فجر اليوم التالي وكان في استقبالهم إخوان بورسعيد الذين حملوا السلاح والذخيرة إلى منزل كانوا قد استأجروه لهم، وفي اليوم التالي قابلهم الأخ أحمد المصري رئيس الإخوان ببورسعيد والأخوة فتحي عبد الله، وأحمد خضر، وحامد المصري، من أمراء مجموعات النظام الخاص ببورسعيد.

وقد قسمت المجموعة نفسها إلى ثلاث مجموعات قامت بدوريات استكشافية حول مناطق تجمع الإنجليز ومعسكراتهم وطرق مواصلاتهم.

وقد لاحظت إحدى المجموعات أن هناك دورية إنجليزية تقوم صباحًا من كوبري الرسوة إلى المعسكر الإنجليزي لتغيير الحراسة على الكوبري، فقررت نسف هذا التجمع الإنجليزي أثناء تحركهم.

استأجرت المجموعة قاربًا صغيرًا حملت فيه الألغام ومتطلبات العملية، وعبرت بهذه المعدات القنال الداخل في اتجاه بلدة الأبوطي، وما إن وصلت الطريق الإسفلتي الذي يسير فوقه الإنجليز حتى قامت بحفر سريع تحت الحراسة ووضع الألغام لتفجيرها عند مرور الدورية فوقها، وقد تم ذلك تحت حراسة مشددة، وكان الفدائيون يضعرن أياديهم في يقظة دائمة على الزناد لوجود الموقع داخل خطوط الإنجليز، وذلك حتى تم الحفر ووضعت الألغام ومدت الأسلاك عبر القنال إلى جهة الانسحاب بالبر الثاني استعدادًا للتفجير في الصباح.

ولكن الأستاذ أحمد المصري رئيس الإخوان عندما علم بالعملية طلب من الأخ علي صديق عدم إتمامها لأن ذلك سيعرض البلدة بأسرها للضرب من العدو وكما حدث قبل ذلك في التل الكبير، فامتثل الأخ علي صديق لطلبه ورفع الأسلاك وأبطل مفعول الألغام على أن تقتصر العمليات على خارج حدود المدينة.


26- نسف القطار الحربي الإنجليزي بمنطقة الكاب:

كانت مفاوضات الجلاء تسير بين الإنجليز وبين حكومة علي ماهر، والبلاد تريد التخلص من هذا الكابوس الجاسم على صدرها، فقرر الأخ محمود عبده ضرب الإنجليز بعملية مذهلة حتى يستطيع تقوية ظهر المفاوض، وكلف الأخ علي صديق بتنفيذ القرار.

قام الأخ علي صديق برصد موعد تحرك القطار الحربي الذي يغادر بورسعيد إلى الإسماعيلية ثم رسم الخطة مع مجموعة فدائية من خمسة أفراد هم يوسف علي، وإسماعيل عارف، وفتحي العجمي، وسليمان، وارتدوا جميعًا ملابس خاصة بعمال السكة الحديد وبمساعدة أحد الإخوان العاملين بها، ثم ركبوا قطار بضاعة مصري من بورسعيد ومعهم سلال من الخوص ووضعوا فيها جميع أدوات النسف والمتفجرات والأسلاك الكهربائية اللازمة، وما استطاعوا حمله من سلاح، ثم غطوا ذلك كله بالخبز والبرتقال، كما يفعل عمال السكة الحديد في أسفارهم، ونزلوا في الكاب عندما توقف القطار وكان في انتظارهم رئيس الإخوان بالكاب ويدعى الحاج حسين وهو إمام المسجد، فأخذهم إلى داره واستضافهم دون أن يلفت الأنظار إليهم.

وبعد أداء صلاة الشكر لوصولهم سالمين إلى الكاب بدأوا فورًا في تعبئة الألغام وتجهيزها واختبار الأسلاك الكهربائية والمتفجرات، وقد استمر هذا العمل حتى منتصف الليل.

وقام الحاج حسين بتجميع رجال حرس الحدود بعيدًا عن مكان العملية بحجة السمر معهم والتحدث إليهم لما له من محبة في قلوبهم.

وبمجرد مغادرة رجال حرس الحدود لمواقعهم أسرع الإخوان بوضع العبوات تحت فلنكات السكة الحديد ومدوا الأسلاك مستغلين الظلام كساتر طبيعي لتحريكهم، ووضعت خطوات التنفيذ على النحو التالي:

1- حفر حُفْرَ عميقة تحت الفلنكات بين الحفرة والتي تليها حوالي ثلاثة أمتار طولاً.

2- بعد وضع المتفجرات داخل الألغام وتثبيتها بإحكام ثم، توضع العبوات داخل الحفر وتطمس بالرمال.

3- توصل أسلاك المتفجرات مع بعضها بتوصيلات كهربائية على التوالي حتى تشمل التوصيلة جميع البعوات.

4- يوصل طرف السلك بأسلاك تنتهي بالموجب والسالب.

5- تردم الأسلاك وتمد من جانب السكة الحديد حتى تجتاز منطقة الأحراش.

6- يقطع الطريق الإسفلتي بمهارة ليأخذ السلك طريقه باتجاه بحيرة المنزلة.

7- يجهز قارب يوضع فيه المفجر الذي يقوم على تفجير الألغام وذلك على مسافة 330 مترًا داخل البحيرة من مكان العملية.

وبعد الانتهاء من هذه العمليات بنجاح تحت الظروف القاسية المتمثلة في تحركات العدو وقسوة البرد، وجلس الأخ يوسف ومعه الأخ سليمان في القارب في انتظار وصول القطار الذي سيقوم من بورسعيد. وعندما وصل القطار الحربي وكان محملا بصناديق الذخيرة والسلاح تحت حراسة فصيلة من عساكر الإنجليز المدججين بالسلاح، ضغط الإخوان على المفجر، فانفجرت الألغام وتطايرت عربات القطار جميعها على الأرض، وقتل جميع الحراس.

وانسحب الإخوان الذين قاموا بالتفجير عبر بحيرة المنزلة بسلام، أما الحاج حسين فقد قبض عليه للتحقيق فترة وجيزة ثم أفرج عنه لإنكاره معرفته عن أي شيء عن المجاهدين.

خاتمة هذه الفقرة:

إن هذه الصفحة الناصعة من جهاد الإخوان المسلمين في القتال، والعمليات المروعة التي قام بها أبطالهم وكان معظم قواتهم وقادتهم من قوات النظام، هي السر الحقيقي في قبول الإنجليز بمبدأ الجلاء عن مصر وتنفيذهم له دون إبطاء، وليس كفاءة المفاوض المصري، فالإنجليز قوم عمليون لا يحركهم إلى الأمر الواقعي بمقتضى مصلحتهم الفعلية.

وإني لأذكر في أواخر 1951م تقرير الأخ أحمد زكي حسن عضو مجلس قيادة النظام الذي أوفدناه في جولة في منطقة القنال لدراسة الموقف، حيث كان التقرير صارخًا بأن من يرى الإنجليز في القناة، وما ينشئونه من تحصينات وتوسيعات يجزم أن هؤلاء الناس يخططون للبقاء في مصر إلى الأبد، ولكن صدق توكل المجاهدين على الله على الرغم من أن معظمهم كانوا ممن اشتركوا في معارك حرب فلسطين ، وشاهدوا مآسي السياسة العربية فيها، فلم يزدهم ذلك إلا استبسالاً في المعارك على النحو الذي سنشاهده تفصيلا في الباب القادم بعد أن أوجزناه في الأبواب السابقة، كما أنهم ما إن خرجوا من معركة فلسطين حتى دخلوا سجون إبراهيم عبد الهادي لترسم كرابيج زبانيته على أجسامهم نياشين الصبر والثبات على العقيدة، فخرجوا من سجونهم في أواخر 1951م ليلهبوا ظهور المستعمرين بهذا السيل الذي رأيناه من علميات الفداء، حتى آمنوا أن لا بقاء لهم بين شعب أخرج أمثال هؤلاء الرجال، فاستسلموا للمفاوضين، وقبلوا الجلاء إلى أن يدبروا جولة أخرى للقضاء على الروح الإسلامية في مصر بعد أن خسروا جولتهم للقضاء عليها على أيدي فاروق والنقراشي وعبد الهادي وأعوانهم من الخونة الاندال.


ثالثًا: أعمال فدائية قام بها رجال من الإخوان المسلمين ضد أعوان الاستعمار والفاعل فيها معروف

1- قتل النقراشي باشا:

لا يمكن أن يعتبر أن قتل النقراشي باشا من حوادث الاغتيالات السياسية فهو عمل فدائي صرف قام به أبطال الإخوان المسلمين ، لما ظهرت خيانة النقراشي باشا صارخة في فلسطين ، بأن أسهم في تسليمها لليهود، ثم أعلن الحرب على الطائفة المسلمة الوحيدة التي تنزل ضربات موجعة لليهود، كما شهد بذلك ضباط القوات المسلحة المصرية سابقًا، وكما سنرويه تفصيليا في الفصل القادم إن شاء الله، فحل جماعتهم واعتقل قادتهم وصادر ممتلكاتهم وحرم أن تقوم دعوة في مصر تدعو إلى هذه المبادئ الفاضلة إلى الأبد، فكانت خيانة صارخة لا تستتر وراء أي عذر أو مبرر، مما يوجب قتل هذا الخائن شرعًا، ويكون قتله فرض عين على كل مسلم ومسلمة، وهذا ما حدث له من بعض شباب النظام الخاص للإخوان المسلمين دون أي توجيه من قيادتهم العليا، فقد كان المجرم الأثيم قد أودعهم جميعًا السجون والمعتقلات وحال بين الإخوان وبين مرشدهم، حيث وضعت كل تحركاته تحت رقابة بوليسية علنية من تاريخ إصدار قرار الحل حتى اغتياله بأيدي جنود إبراهيم عبد الهادي .

2- محاولة قتل إبراهيم عبد الهادي باشا:

وهو الحادث المعروف باسم حادث حامد جودة، حيث كان حامد جودة هو صاحب الركب الذي تعرض للهجوم ظنًا من الإخوان الفدائيين بأنه إبراهيم عبد الهادي ، ولا يمكن بكل المقاييس أن يطلق على هذا الحادث إلا أنه عمل فدائي ضد أعوان الاستعمار الخونة، فقد كان عمل إبراهيم عبد الهادي امتدادًا لعمل النقراشي ، حيث نفذ ما اعتزمه النقراشي ، فقتل الإمام الشهيد على قارعة الطريق، كما قتل الضابط أحمد فؤاد خيانة منه لواجبه الذي يفرضه عليه عمله الرسمي وهو الحفاظ على أمن المواطنين، فكانت مقاتلة مثل هذا الجل فريضة دينية تفرضها الشريعة الإسلامية على كل مسلم ومسلمة، فتكاثرت أوكار الإخوان المسلمين المسلحة عليه حتى أسقطوه من الحكم، وقد تنفذ ذلك بفض الله، وشاء كرم الله أن لا يحاكم أحد من الذين اشتركوا في مقاومة إبراهيم عبد الهادي أو محاولة قتله، فقد قامت الثورة واعتبر المتهمون في هذه القضايا جميعًا من أبطال التحرير وصدر عنهم جميعًا عفو شامل من قبل محاكمتهم، وكان نصر الله للمؤمنين عظيما.


خاتمة هذا الفصل

يتضح جليًا من الحقائق الواردة في هذا الفصل أن الإخوان المسلمين كتنظيم مسئول:

1- لم يشتركوا في أي حادث اغتيال سياسي في مصر منذ إنشاء دعوتهم عام 1929 م، وحتى قيام ثورة سنة 1952م.

إنهم قاموا بأعمال فدائية رائعة ضد الإنجليز وأعوانهم، وكانت هي السبب الأساسي الذي اضطر الإنجليز إلى تغيير سياستهم من عزم على الإقامة الدائمة في مصر وإلى الأبد إلى القبول بالجلاء عن مصر ، وما كانت المفاوضات دون هذه الأعمال لتجدي فتيلا، فقد سبق أن جربها المفاوضون المصريون، وكانت النتائج على النحو الذي اتضح في معاهدة 1936م التي ألغاها موقعها مع الإنجليز النحاس باشا، لأنها لا تحقق أملمصر ، وعلى النحو الذي اتضح من مشروع اتفاقية صدقي -بيفن الذي استقال سبعة من المفاوضين المصريين احتجاجًا عليه، فلما أصر صدقي على السير في إبرامه رغم معارضة المصريين له قام الفدائيون من الإخوان المسلمين بإرهابه وحكومته حتى اضطر الملك إلى إقالته وإنقاذ مصر من هذا المشروع المضيع لحقوقها على أيدي الخونة المصريين.

هذا ولا جدال في أن قتال الخونة عملاء الاستعمار إذا ما اتخذوا موقف المحاربين للوطن الإسلامي يصبح فرضًا لازمًا على المسلمين لا فكاك منه، حتى ينجو الوطن من شرورهم، وتصبح كل العمليات القتالية ضدهم من أعمال البطولة والفداء لا من أعمال الجرائم والاغتيالات، وينطبق هذا الحكم على حادثتي قتل محمود فهمي النقراشي باشا ومحاولة قتل إبراهيم عبد الهادي باشا.

(راجع الفصل السابع من هذا الكتاب).


== الفصل السادس : دور النظام الخاص في فلسطين..الإخوان يتسابقون إلى الجنة ويدفعون باليهود إلى النار==


مقدمة

سبق أن جرتنا أحداث قضية السيارة الجيب وشهادات الشهود بها إلى وفاء الإخوان بمبادئ دعوتهم، وإسهامهم الجدي في قضية فلسطين، باذلين في هذا السبيل أموالهم وأنفسهم في سبيل الله آملين أن يحق فيهم قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111].

ولقد خصصنا هذا الفصل لبيان دور النظام الخاص في فلسطين بتفصيل أوسع من اللمحات التي ظهرت على ألسنة الشهود في قضية السيارة الجيب وما صاحبها من وقفات.

نزول سماحة مفتي فلسطين وأعوانه لاجئين سياسيين في القاهرة

كان أول تحريك عملي نحو الجهاد في فلسطين، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، هو وصول سماحة الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين إلى القاهرة في عام 1946م فارًا من محاكمة الحلفاء لمجرمي الحرب العالمية الثانية، وقد كان منهم الحاج أمين الحسيني متهمًا بتهمة التعاون مع هتلر، والعمل على مناصرة قواته لدخول مصر، والتخابر مع المسئولين المصريين في هذا الشأن.

وقد سكن سماحته قصرًا بحلمية الزيتون، وسكن ابن أخيه الشهيد عبد القادر الحسيني فيلا بهذا الحي الهادئ، واشتغلا مع باقي المجاهدين الفلسطينيين من هذا الموقع لإعداد الشعب الفلسطيني، لاستخلاص وطنه من الخطة الإنجليزية المرسومة لتوطن اليهود في هذا الجزء من الوطن العربي المسلم تنفيذًا لوعد حكومتهم الصادر في سنة 1917م والمشهور بوعد بلفور.

وكان طبيعيًا أن تتجاوب جماعة الإخوان المسلمين مع سماحة مفتي فلسطين ورجاله، فإن مبادئهم كحملة لدعوة الإسلام السلفية إلى الناس، تفرض عليهم الجهاد في سبيل الله، وهو مبدأ معلن من مبادئهم يقول:

«الموت في سبيل الله أسمى أمانينا»، خاصة وأن هذه الجماعة التزمت بعهدها للناس فكونت منذ سنة 1939 جيشها المسلم المشهور باسم «النظام الخاص» والذي اشترك حتى هذا الوقت في عمليات فدائية ضد قوات الاحتلال الإنجليزي في مصر.

كما كان طبيعيًا أن تتجاوب حكومة مصر مع سماحة مفتي فلسطين ورجاله، إذ كان بين سماحته وبين ملك مصر السابق فاروق الأول تعاون وثقة في العمل السياسي ضد الإنجليز خاصة بعد حادث 4 فبراير سنة 1942 الذي أساء فيه الإنجليز إلى الملك وهددوه بخلعه عن العرش إذا لم يقبل تعيين النحاس باشا رئيسًا لوزراء مصر، ومن ثم كان ترحيب الملك فاروق بسماحته ومنحه هو ورجاله حق اللجوء السياسي، وحق حرية العمل لتجهيز الفلسطينيين في معركتهم القادمة، لحكم وطنهم فور خروج الإنجليز منه في 15 مايو سنة 1948م وهو تاريخ انتهاء الانتداب الإنجليزي على فلسطين، أمرًا ملزمًا للحكومة تيسيرًا لتبعات هذه الرسالة الهامة.

وكان معروفًا أن الإنجليز مهدوا خلال مدة انتدابهم على فلسطين والتي بلغت ثلاثين سنة متصلة لتحقيق وعدهم لليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، فيسروا لهم بناء المستعمرات المسلحة على مواقع إستراتيجية فوق أرض فلسطين، وتوسعوا في السماح بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، وبحماية القرى والمستعمرات اليهودية من أي عدوان، بينما تشددوا في الضغط على القوى العربية الفلسطينية وحرمانها من المعاملة بالمثل إلى حد أن الحكام الإنجليز كانوا يحكمون بالإعدام على العربي الذي تضبط لديه رصاصة فارغة.

وقد تركز فكر سماحة الحاج أمين الحسيني في طلب تسليح الفلسطيني ووضعه في وضع مماثل لليهودي المستوطن لمستعمرات وقرى متفرقة فوق أرض فلسطين، فبدأ جديًا في شراء الأسلحة اللازمة لهذا الغرض والاستعانة بجماعة الإخوان المسلمين في تحقيق هدفه لما لها من سبق في هذا المجال.

كما تأكدت وجهة نظر الحاج أمين الحسيني في تحرير فلسطين بقرار اللجنة العسكرية العليا التي اجتمعت في عالية سنة 1947م، وقد اشتملت خطتها المثلى لتحرير فلسطين على ما يأتي:

1- الاعتماد على الفلسطينيين في الدفاع عن بلدهم أولاً، ثم ما يحتاج إليه الأمر من متطوعين.

2- تحصين الفلسطينيين في قراهم وتسليحهم ليكونوا في مستوى اليهود.

3- وقوف الجيوش العربية على الحدود وعدم دخولها أرض فلسطين.

ولهذا كان تركيز دور الجماعة في خدمة قضية فلسطين مبنيًا على إسهامها في تسليح الفلسطينيين خاصة أن تقرير الصاغ محمود بك لبيب عضو الهيئة التأسيسية للجماعة ورئيس منظمة شباب فلسطين كان يقطع بأن تحرير فلسطين لا يحتاج إلى رجال من الخارج وإنما يحتاج إلى تسليح الفلسطينيين أنفسهم.

وكان على النظام الخاص أن يقوم بهذا الدور الهام في خدمة القضية الفلسطينية، فركزنا على الاستفادة بالكميات الهائلة من الأسلحة والمتفجرات المتخلفة عن الحرب العالمية الثانية في الصحراء الغربية، حيث كانت القوى المتحاربة قد نقلت إلى أرض المعركة حول العلمين كل إمكانياتها من هذه الأسلحة والمتفجرات، ثم انتهت الرحب بانتصار الحلفاء في هذه المعركة وهزيمة الألمان، وبكسب الحرب أصبحت كل هذه الكميات عديمة الفائدة بالنسبة إلى الدول المتحاربة ولا تستحق تكاليف نقلها إلى مخازنها، حيث أصبحت الأولوية الأولى لنقل المواد التموينية اللازمة للسلام بعد حرب عالمية استمرت خمس سنوات متصلة، وكانت هذه الكميات من الضخامة بحيث تكفي الجيوش العربية مجتمعة للتدريب والقتال عشر سنوات.

وإلى جانب هذا المصدر الرئيسي لتسليح الفلسطينيين، كان بالإمكان تكليف رؤساء المناطق في جميع أنحاء القطر بجمع الأسلحة المعروضة للبيع في الأقاليم من تجار الأسلحة المحترفين خاصة أن أعدادًا كبيرة من الفلسطينيين كانت تحضر إلى مصر لشراء سلاحها على حسابها ولا تدري إلى أين تذهب، فكانت الهيئة العربية العليا تحيلهم إلى جماعة الإخوان المسلمين لتيسير تسليحهم عن هذا الطريق.

وقد كلفتني قيادة النظام بتأمين تسليح الفلسطينيين من المصدر الأول وكلفت الأخ أحمد حسنين باعتباره مسئول الأقاليم بتسليح الفلسطينيين من المصدر الثاني.

وقد عاونني في مهمتي الأخ: أحمد شرف الدين من إخوان الإسكندرية الذي اكتسب خبرة كبيرة في التوغل في الصحراء الغربية، ونقل ما فيها من أسلحة ومفرقعات وتوصيلها إلينا في القاهرة.

وقد بدأ هذا العمل في سنة 1946م سرًا، حيث كانت حكومة صدقي باشا تحكم البلاد وتحاول فرض اتفاقية تحقق للإنجليز ضمان استمرار مصالحهم في مصر، ولكنها قوبلت بثورة عارمة من الشعب بكافة طوائفه، حتى أن سبعة من أعضاء لجنة المفاوضات المصرية استقالوا من اللجنة احتجاجًا على أن مشروع المفاوضة لا يحقق الأماني المصرية، وكان الإخوان المسلمون من عمد المقاومة الشعبية لهذه المفاوضة، حتى سقط صدقي باشا في ديسمبر سنة 1946م، وحل محله محمود فهمي النقراشي باشا في وزارته الثانية.

تعاون الإخوان المسلمون مع حكومة محمود فهمي النقراشي باشا الثانية

رأت جماعة الإخوان المسلمين أن تأييد النقراشي باشا، إذا ما سلك أسلوبًا جديدًا في مواجهة الإنجليز أجدى وأنفع من دخول البلاد في اضطرابات داخلية جديدة، وإسقاط النقراشي باشا استنادًا إلى ماضيه الشائن أثناء توليه وزراته الأولى من مارس 1945 إلى فبراير 1946، فقد تقدم إلى الحكومة البريطانية حينئذ بمذكرة هزيلة، مما أطمع الإنجليز وجعلهم لا يردون عليه ولو بالرفض، فثارت الطوائف الشعبية يتقدمها الإخوان المسلمون، ووقعت مصادمات عنيفة بين الشعب والبوليس في القاهرة والإسكندرية، وقتل البوليس فيها الكثير من شباب الجامعة المصرية، كما حدث فوق كوبري عباس في 9 فبراير سنة 1946، بتعليمات من عبد الرحمن عمار بك نفذها اللواء سليم زكي باشا، وقد أصيب فيها 160 طالبًا إصابات شديدة، وفقد 28 طالبا حيث كانوا يلقون بأنفسهم من فوق الكوبري في النيل من شدة الضرب بالرصاص وبالهراوات والكرابيج، واستمرت مقاومة الشعب له حينئذ حتى اضطر إلى تقديم استقالته يوم 14 فبراير سنة 1946، وعلى الرغم من ذلك كله فقد رأى الإخوان تأييد النقراشي باشا في حكومته الثانية عندما أعلن على الشعب أنه قرر قطع المفاوضات مع الإنجليز وعرض القضية على مجلس الأمن أملا أن يبدأ صفحة جديدة من العمل الوطني.

وكان من مظاهر تأييد الإخوان المسلمين للنقراشي باشا في هذه الوزارة أنه فيما كان يلقي خطابا في مجلس الأمن دفاعًا عن قضية مصر الوطنية إذا برفعة النحاس باشا زعيم حزب الوفد يبعث ببرقية ضد موقف النقراشي باشا يندد فيها بأن حكومة النقراشي حكومة غير ديمقراطية ويتهمها أنها حكومة ديكتاتورية.

مما حدا بالإمام الشهيد إلى إرسال برقية باسم الإخوان المسلمين هذا نصها:

إلى جناب رئيس مجلس الأمن وسكرتير هيئة الأمم المتحدة

يستنكر شعب وادي النيل البرقية التي بعث بها إلى المجلس وإلى هيئة الأمم المتحدة رئيس حزب الوفد المصري ويراها مناورة حزبية لا أثر للحرص على الاعتبارات القومية فيها، وسواء كانت حكومة مصر ديمقراطية أو ديكتاتورية، فإن الشعب المصري يعلن على الملأ أمام هيئة الأمم المتحدة أن ذلك أمر يعنيه وحده، وأنه لا يسمح لأي دولة أجنبية بالتدخل فيه، فله وحده الحق في أن يختار نوع الحكم الذي يريده، طبقا لميثاق الأطلنطي ومبادئ هيئة الأمم، وله وحده الحق في أن يعرض على حكومته ما يريد وأن يؤاخذها على كل تقصير يراه.

كما يعلن كذلك أن حقوقه الثابتة في الجلاء التام عن مصره وسودانه، والحرص الكامل على استقلاله أمر لا يقبل جدالا أو مساومة، وأن الوحدة بين شماله وجنوبه حقيقة واقعة وضرورة لا مخيص عنها ولا يحول بينها وبين الظهور على حقيقتها وروعتها إلا هذه الإدارة الثنائية التي فرضتها بريطانيا عليه بالإكراه والتي طلبت الحكومة المصرية في عريضة دعواها إلغاءها وأشارت إلى بطلان المعاهدة التي سجلتها بريطانيا، والتي لم يرض عنها الشعب المصري ولم يسلم بها يومًا من الأيام.

وأنتهز هذه الفرصة فأؤكد لأعضاء المجلس والهيئة أن شعب وادي النيل عظيم الأمل في لجوء الأمم والشعوب إليها، وتضاعف ثقتهم بمبادئ العدالة العالمية ويقظة الضمير العالمي، وأنه لن يستقر سلام في الشرق ولن تهدأ ثائرة شعوب العروبة وأمم الإسلام حتى ينال وادي النيل حقه كاملا، وليس إرضاء مجموعة من البشر قوامها أربعمائة مليون بالشيء الذي يستهين به الحريصون على الأمن والسلام».

وقد قامت الإذاعة المصرية بإذاعة برقية الإمام الشهيد في كل نشراتها الإخبارية يومين كاملين، كما سافر الأخ مصطفى مؤمن إلى أمريكا موفدًا من جبهة الدعاية لوادي النيل ليسمع صرخة وادي النيل في المجالات الدولية، وخطب من شرفة مجلس الأمن منددًا بتواجد القوات البريطانية في مصر، وقاد مظاهرات من الشباب المصري في قلب المدينة يحملون لافتات ضد الاستعمار البريطاني، ونجح في لفت نظر العالم لقضية وادي النيل.

بالإضافة إلى هذا المظهر العملي من مظاهر التعاون بين الإخوان المسلمين والنقراشي باشا في وزارته الثانية خدمة للقضية الوطنية، فرضت الأقدار على العالم العربي قضية فلسطين في هذا الوقت حين قررت لجنة التحقيق التي أوفدتها الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين أحدهما عربية والأخرى يهودية، واعتمدت هيئة الأمم المتحدة هذا القرار بأغلبية 15 صوتًا ضد 13 صوتا مع امتناع 17 عضوًا عن الاقتراع وذلك في 29/ 11/ 1947، وتوجهت الجهود كلها نحو قضية فلسطين، وأصبحت هل الشغل الشاغل لجميع الحكومات العربية الأمر الذي توقفت بسببه كل الجهود التي كانت مبذولة لحل القضية المصرية.

ولقد أخذ على الحكومات العربية أنها رضخت للاحتجاج البريطاني على قرارات اللجنة العسكرية المنعقدة بعالية سنة 1947، والتي تعتمد ضرورة تسليح الفلسطينيين وتدريبهم داخل فلسطين، حتى يصبحوا في نفس المستوى الذي وصل إليه اليهود، فأوقفت كل الجهود التي كانت مبذولة في هذا السبيل من جانب جامعة الدول العربية، ولم يبق إلا تسليح الفلسطينيين من الخارج على النحو الذي بدأه الإخوان المسلمون سرًا من سنة 1946.

تصريح الحكومة للإخوان المسلمين بجمع السلاح والمفرقعات وتسليح الهيئة العربية العليا بها، وكذلك تدريب وتسليح وسفر المتطوعين المصريين عامة والإخوان المسلمين خاصة إلى فلسطين:

كان من نتائج سياسية تعاون الإخوان المسلمين مع حكومة النقراشي باشا الثانية فور إعلانها أنها عزمت على قطع المفاوضات ومنابذة الإنجليز في هيئة الأمم المتحدة، أن سهلت للإخوان المسلمين رسالتها في تسليح الفلسطينيين.

فبالنسبة للأسلحة التي كانت تجمع بين الصحراء الغربية، بلغ تعاون الحكومة أن الإخوان كانوا يسلمون الأسلحة والذخائر إلى مأمور الحمامات الذي يحملها إلى محافظة القاهرة في سيارات البوليس، ثم يتسلمها الإخوان من المحافظة لضبطها وتجهيزها، ثم تسليمها إلى الهيئة العربية العليا أو تدريب متطوعيهم عليها.

ومن أدلة تعاون الحكومة الصارخة في هذا المجال، أنه حدث انفجار ذات مرة في أرض تابعة للإخوان المسلمين من شحنة مفرقعات كانت مخزنة به مؤقتًا لحين نقلها إلى المخازن الخاصة بها، ثم حفظت القضية لعلم الحكومة بهذا التخزين.

كما تكرر ضبط أسلحة مجموعة من المناطق بمعرفة رؤساء مناطق الإخوان المسلمين لتسليح الفلسطينيين، ثم أفرج عنها وسلمت للإخوان ثانية بعد إبلاغ رؤساء النيابة المختصين بأن هذه الأسلحة مصرح بجمعها لخدمة القضية الفلسطينية، وذلك على النحو الثابت من شهادة الأخ محمد حامد أبو النصر في قضية السيارة الجيب.

وقد ضبط الأخ سيد فايز يدرب مجموعة من متطوعي الإخوان المسلمين بجبل المقطم على استخدام الأسلحة والمتفجرات، ثم أفرج عنهم جميعا لنفس السبب، وقد سجلت المحكمة ذلك في حيثيات حكمها في قضية السيارة الجيب على لسان الأخ عبد المجيد أحمد حسن قاتل النقراشي باشا.

ومن ثم يكون كل ما يقال بعد ذلك عن إدانة الإخوان المسلمين في حيازة أسلحة ومفرقعات لأعمال التخريب هو من باب الهراء الذي قصد به تشويه سمعة هذه الجماعة تغطية لفشل الحكومة الظاهر في إنقاذ فلسطين.

الشهيد البطل عبد القادر الحسيني

كان البطل الشهيد عبد القادر الحسيني هو القائد العام للقوات الفلسطينية المحاربة سنة 1948، وقد بدأ واجبه منذ عام 1946 مشغولاً بشراء الأسلحة اللازمة لهذه المعركة يعاونه خلاصة الرجال الفلسطينيين ومنهم الحاج عبد الفتاح التميمي المسئول عن تمويل شراء الأسلحة.

وقد سبق لي أن ذكرت أن قيادة النظام الخاص عينتني ضابط اتصال بين هيئة الإخوان المسلمين والهيئة العربية العليا في شئون التسليح، وكان القيام بهذا الواجب يتم استنادًا إلى الصلة الوثيقة التي قامت بيني وبين الشهيد عبد القادر الحسيني في هذا المجال.

لقد كانت ثقافتنا متقاربة، فكلانا من خريجي كلية العلوم، إلا أنه تخرج من هذه الكلية في الجامعة الأمريكية وتخرجت منها في جامعة فؤاد الأول، وكان سكننا متجاورًا في حلمية الزيتون، مما هيأ لنا فرصة العمل الميسر ليلا ونهارًا.

وقد بلغ من قوة الصلة بيننا وشدة التآلف الأخوي والعائلي أنه ما إن علم بعقد قراني حتى أهداني راديو ماركة «إيركنج» لا أزال احتفظ بذكراه إلى اليوم، وقد تصادف ليلة زفافي أن جاءني ليلا دون أن يعلم أن هذه ليلة زفافي، يحمل كميات كبيرة من البنادق والأسلحة لتخزينها عندي في المنزل، وقد تركت العروسة في حجرة نومها ودخلت المطبخ، حيث أدخلنا الأسلحة فوق الصندرة، ثم انصرف وترك لي مهمة ترتيبها، وكنت أظن أنني أنجزت هذا العمل دون أن تشعل العروسة ليلة زفافها بشيء.

ولكن الذي حدث هو أنني علمت منها بعد أن تم حبسي في قضية السيارة الجيب أنها قامت تتسلل إلى المطبخ، ورأتني فوق الصندرة وأنا أرتب السلاح، وعادت لتنام، وكأن شيئا لم يحدث، ولكنها لم تجرؤ أن تسألني عن هذه الواقعة، أو تحدث بها أحد إلا بعد أن اتهمت في قضية السيارة الجيب، وأصبح دوري فيها معروفًا للجميع.

ولقد كان البطل الشهيد يكشف لي عن خفايا قلبه، لما صار بيننا من حب ومودة، فقد انطوى هذا القلب الكبير على عزم أكيد على تحرير وطنه فلسطين، ثم الانتقال منه إلى وطن عربي آخر محتل للاشتراك في تحريره، وهكذا حتى يتم تحرير الوطن العربي بأجمعه، وقد نقلت إلى فضيلة الإمام الشهيد الأستاذ حسن البنا هذه الحقيقة فور إعلان استشهاد الأخ المسلم البطل في معركة القسطل، فأذاعها فضيلته على الناس ليعلموا كيف يخلق الإسلام من جنوده أبطالاً على مستوى الأمة الإسلامية، لا تنحصر مسئوليتهم بحدود وطنهم السياسي الذي حدد حدوده الكفار رغبة منهم في تقسيم الوطن الإسلامي إلى دويلات يسهل ابتلاعها دويلة دويلة.

كما سلمت الأخ الكريم الأستاذ محمود عساف الصورة التي أهداني إياها البطل الشهيد لنفسه وهو يتمنطق بحزام الذخيرة من كتفه إلى وسطه، وكان ذلك بصفته مديرًا لشركة الإعلانات العربية وصاحب ورئيس مجلة الكشكول الجديد، فتولى نشر هذه الصورة التاريخية على العالم وأصبحت رمزًا للبطل الشهيد، يتذكر به أبناء الأمة الإسلامية نموذجًا من نماذج أبطالهم الشجعان.

يرحمك الله أيها الأخ البطل ويحقق أملك في تحرير الشعوب الإسلامية كافة ووحدتها حتى يكون المسلمون أمة واحدة، ويكون الدين كله لله.

إن ربي سميع مجيب.

دخول الإخوان المسلمين فلسطين

لقد قام الإخوان المسلمون بواجبهم في تحقيق رغبة الفلسطينيين في التسليح، وقد سلمت بنفسي إلى الشهيد عبد القادر الحسيني ورجاله كل حاجاتهم من السلاح والمتفجرات على النحو الذي شهد به سماحة مفتي فلسطين في قضية السيارة الجيب، الأمر الذي سمح للشهيد عبد القادر الحسيني أن يدخل إلى أرض فلسطين ليقود جنوده، في الدفاع عن وطنهم العزيز، بعد أن شعر أن لديه من السلاح ما يكفي لخوض معاركه، وكان ذلك في أواخر سنة 1947م.

وفي يناير سنة 1948م كانت مصر الفتاة قد أرسلت متطوعًا واحدًا إلى فلسطين، وقد كثر ضجيج الأستاذ أحمد حسين رئيس هذا الحزب عن هذا المتطوع الذي سافر للجهاد في فلسطين، بينما تقاعست جماعة الإخوان المسلمين صاحبة مبدأ الموت في سبيل الله أسمى أمانينا عن دخول ساحة الشرف والنضال، حتى خشى المرشد العام رحمه الله على شباب الإخوان أن يتأثروا بهذا الهراء، فقرر أن يدخل الإخوان المسلمون حرب فلسطين، حتى يحقق لهم الله النصر أو الشهادة.

ولهذا الغرض دعانا فضيلته إلى اجتماع في منزل الأخ عبد الرحمن السندي بحلوان وذلك في فبراير 1948م، وقد شملت الدعوة جميع قادة النظام الخاص في القاهرة والأقاليم، وقال لنا فضيلته في هذا الاجتماع إنه يشعر أنه أدى واجبه في تبليغ رسالة الدعوة إلى الناس كافة، فأصبح الإخوان المسلمون في مصر وفي جميع أنحاء العالم على وعي كامل بالدعوة الإسلامية في صورتها السلفية الصحيحة، بحيث أنه لم يعد يجد لديه زيادة يمكن أن تضاف في هذا المجال، وأنه أصبح مطمئنًا إلى أن الإخوان في جميع أنحاء العالم أصبحوا قادرين على التقدم بدعوتهم قدما حتى النصر إن شاء الله.

ولقد بقى عليه أن يقاتل في فلسطين حتى النصر أو الشهادة، فالقتال فرض علين، والإخوان أحق الناس بالقيام به، وإن تأخرهم عن الاشتراك فيه قد يحقق مقالة أحمد حسين الباطلة في أعين من لا يعرفون ما قام به الإخوان في هذا المجال.

ولهذا فإنه عزم على دخول فلسطين مقاتلا مع كل من يتطوع معه من الإخوان المسلمين حتى النصر أو الشهادة.

وقد كان ردنا على فضيلته: أن النظام الخاص باعتباره الجهاز المسئول عن الجهاد في الدعوة لم يكلف حتى هذه اللحظة بالاستعداد لدخول فلسطين، ومن ثم فقد كان تركيز كل جهده على تنفيذ الخطة الموضوعة بتسليح الفلسطينيين، مع تدريب أعداد قليلة من الإخوان لا يتناسب مع قلتها دخولها إلى فلسطين اليوم تحت قيادة المرشد العام، فذلك أمر لا يتناسب مع مركز الدعوة في نظر العالم الإسلامي.

واقترحنا على فضيلته أن يدخل الإخوان فلسطين بقيادة أحد الإخوان، في أعداد تتفق مع إمكانيات الإخوان الحالية، ثم يتوسع الإخوان تدريجيا في الدخول إلى فلسطين وفق ما تفرضه الظروف والإمكانيات.

وقد وافق فضيلته على هذا الاقتراح وطلب تسمية من يتقدم لقيادة المجموعة الأولى فتقدمت متطوعا واعتمد تطوعي في هذه الجلسة، وتقرر سفري على رأس مجموعة من المتطوعين ناهز عددها المائة متطوع، وكان قوامها من متطوعي منطقة الدقهلية، وانضم إلي مع المتطوعين من القاهرة فضيلة الشيخ سيد سابق، والأخ علي الخولي، والأخ عبد الرحمن عبد الخالق من إخوان منطقة العباسية.

ولقد تحركت الدفعة الأولى من المتطوعين من دار المركز العام، في أتوبيسين كبيرين محملين بالمتطوعين وأسلحتهم ومفرقعاتهم، أما خيامهم فقد أمكن تحميلها على بعض سيارات نقل ضمن قافلة من قوافل الجيش المصري المسافرة من القاهرة إلى العريش.

وفي القنطرة تعرضت قافلتنا للتفتيش النظامي، خاصة أننا نحمل أسلحة ومفرقعات، وقد أصدر النقراشي باشا تعليماته التليفونية للضابط المسئول بالسماح لنا بالعبور ومعنا ما نحمله من أسلحة وذخائر.

وقد حدث أن تعطلت نسبة كبيرة من سيارات الجيش المسافرة إلى العريش وكان من بين السيارات التي تعطلت السيارات التي تحمل خيامنا معها، فوصلنا العريش، ولم تصل الخيام وكان ذلك ليلاً.

حاول إخوان العريش أن يدعوننا للمبيت فيها حتى وصول خيامنا، ولكني رفضت ذلك رفضصا باتًا، حيث لا ينبغي للمجاهدين أن يخلدوا إلى حياة مدنية بعد أن خرجوا منها مجاهدين في سبيل الله، وصممت على أن نواصل سيرنا إلى خارج العريش، حيث نعسكر في العراء حتى تصلنا خيامنا أو نتدبر أمرنا هناك.

ولم يكن أمام أهالي العريش إلا الرضا بهذا العزم الذي قصد به وجه الله فعسكرنا أول ليلة في العراء بمنطقة الريسة على الرغم من شدة برودة الجو مع هطول المطر، فالأصل أن المجاهدين قد أعدوا أنفسهم لمواجهة ما هو أشد وأصعب من مثل هذه الظروف.

وفي صباح اليوم الثاني قدمت لنا القوات المسلحة خيامًا بديلة لخيامنا التي تأخرت في الطريق، فأقمناها في منطقة الريسة، حتى زارنا القائمقام محمد نجيب قائد ثاني القوات المسلحة في منطقة سيناء في هذه الأيام، وأهدانا قفة من البرتقال اليفاوي، وكان المتطوعون يقدمون على أكلها بإعجاب لقرب حجم الواحدة منها من حجم رأس اليهودي، أو كذلك كان يحلو لهم أن يتندروا.

وقد اتخذنا من معسكر الريسة نقطة تجمع، ننتظر فيها أفواج المتطوعين وتدريبهم فيها استعدادًا لدخول المعركة، مع إجراء ما يمكن إجراؤه من دراسات لأرض العمليات المنتظرة.

وقد كانت خطة فضيلة المرشد العام أن يدعو الإخوان للجهاد فور تحرك الدفعة الأولى من المتطوعين، وأن يدعو الأمة للإسهام في تكاليف الجهاد دفاعًا عن قضيتها المقدسة في فلسطين متخذًا من تحرك الدفعة الأولى من المجاهدين سندًا ماديًا لما يدعو إليه الناس.

وقد زارنا في معسكر الريسة من القوات المسلحة اللواء أحمد زكي الأرناؤطي قائد القوات المسلحة في سيناء، وذلك بعد أن وصلت خيامنا، ورددنا للقوات المسلحة خيامهم وأخذ معسكرنا الشكل المنتظم اللائق بأخوة خرجوا وقد باعوا أنفسهم في سبيل الله.

ولقد هز مشاعرنا جميعًا تعليق اللواء أحمد زكي الأرناؤطي عندما شاهد معسكرنا وعرضنا عليه ما معنا من أسلحة وذخائر، حيث أدمعت عينا الرجل المخلص وهو يحدثنا، حزنا أن يحرم هو وجنوده من هذا الواجب الوطني الذي يقع على كاهلهم بحكم عملهم الرسمي، ويتقدم إليه متطوعون مدنيون فيسبقوهم إلى ساحة الشرف والنضال.

ولقد أكبرناه أيما إكبار وهو يبث إلينا حقيقة مشاعره في هذا الموقف المهيب، ولا يستطيع أن يخفيها تحت مظاهر العسكرية المترفعة، بل زاد على ذلك أنه عندما ركب سيارته الجيب راجعًا إلى مقر قيادته ووقفنا لتحيته، وجاء السائق يحاول قفل باب السيارة بعد أن ركب منعه، وصمم أن لا يقفل بيننا وبينه باب السيارة حتى يخرج من المعسكر، مشاركة منه لنا في هذا الغرض النبيل الذي خرجنا له، وتعبيرًا عما يكنه لمظهرنا من وشائج المحبة والاحترام.

كما زارنا أيضًا في هذا المعسكر الأخ كامل الشريف صاحب كتاب «الإخوان المسلمون في حرب فلسطين» ووزير الأوقاف في المملكة الأردنية الهاشمية فيما بعد، وقد كان شابًا يافعًا جلس معي على إحدى التباب المطلة على المعسكر نتحدث عن القضية الفلسطينية، وعرفني أنه هو المتطوع الوحيد من منطقة العريش الذي سبق جماعة الإخوان المسلمين في مصر للتطوع جهادًا مع قوات القائد فوزي القاوقجي في شمال فلسطين، وأبلغني أنه عازم على السفر إلى هناك للانضمام إلى هذه القوات.

وزارنا أيضا في هذا المعسكر الشهيد عبد القادر الحسيني عليه رحمة الله ورضوانه، في إحدى جولاته بين القاهرة وبين قواته في الميدان، وأبدى سروره وإعجابه بقدون المتطوعين من الإخوان للاشتراك في المعركة.

الأستاذ أحمد حسين ينجو من موت محقق في معسكر الإخوان:

وزارنا الأستاذ أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة، وجلس معنا في خيمة القيادة وكان معنا فضيلة الأخ السيد سابق.

ومن لطف الله بنا جميعًا أثناء هذه الزيارة أن كان فضيلة الشيخ السيد سابق ممسكًا «مسدس طاحونة» يشرح للأستاذ أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة، وكانت الماسورة موجهة إلى رأسه يقينًا من خلو المسدس من الطلقات، وإذا بنا نحس عندما ضغط الشيخ على الزناد ليدير طاحونة المسدس أن بها رصاصة كادت تنطلق إلى رأس الأستاذ أحمد حسين فتقضي عليه وهو بيننا في خيمة القيادة، وحينئذ لم يكن في الإمكان لأي بيان أو منطق أن يبرئنا من قتله عمدًا في خيمة القيادة، خاصة وأن هجومه العلني على الإخوان قبل ذلك يمكن أن يفسر دافعًا لمثل هذه الجريمة.

ولكن لطف الله الكبير أبى إلا أن تكذب هذه الرصاصة فلا تنطلق فنجا الأستاذ أحمد حسين من موت محقق، ونجونا جميعا من تهمة لو وجهت إلينا لحملتنا أوزارًا لا قبل لأحد منا بتحملها، ولا أمل في النجاة منها بحال من الأحوال، رغم براءتنا التامة من مثل هذا الحدث العفوي.

حركة التدريب والاستطلاع في المعسكر

انتظمت حركة التدريب في المعسكر، وكان الإخوان يتحملون مسئولية تموين أنفسهم بالطعام والمياه رغم عدم توفر سيارات معهم، بل كانوا يقومون بذلك حملا على الأعناق دون أدنى تضرر أو تذمر.

ولقد حاولت أن أخفف عن الإخوان عبء تموين الماء فطلبت من القائمقام محمد نجيب أن يأذن للفنطاس الذي يوزع المياه على معسكرات الجيش المصري كل صباح أن يمر علينا فيموننا بالماء تخفيفًا عن الإخوان في هذه المرحلة من مراحل التجمع، ولكنه اعتذر لي بأن معسكرنا يقع خارج البوابة التي يمنع عبور سيارات الجيش لها خشية من اشتغال الجنود بتهريب الحشيش داخل سيارات الجيش، وكان الحشيش آنذاك متوافرًا بكميات كبيرة في رفح ويتم تبادله تجاريًا بأسلوب أقرب إلى العلن منه إلى السر.

فشكرته وإن كنت لم أقتنع بجدية الاعتذار، حيث كان من أيسر اليسر التغلب على هذا الاحتمال.

كما لاحظت بعد أن رددنا الخيام إلى أركان حرب القائمقام محمد نجيب أنه أرسل إلينا يطالبنا بعدد من الأوتاد الناقصة، فتعجبت من هذا الطلب لأننا سلمنا جميع الأوتاد ولا حاجة لنا بأي منها من ناحية، ولأن تدبير أوتاد بديلة أمر من السهولة بمكان.

فكلفت بعض المتطوعين بجمع قطع من الخشب المنثورة فوق رمال الصحراء وعملناها أوتادًا بالعدد الذي طلبه القائمقام محمد نجيب وسلمناه إلى أركان حربه شاكرين ومقدرين، وقد عادت إلى ذاكرتي هاتان الملاحظتان عندما أعلن قيامة ثورة 23 يوليو سنة 1952 وعلى رأسها اللواء محمد نجيب وقد رقى من رتبة القائمقام إلى رتبة لواء خلال هذه المدة، واستبعدت أن يكون اللواء محمد نجيب الذي لمست منه هذين التصرفين الضعيفين قائدًا لثورة 1952، وقد تأكد هذا الظن فثبت أن القائد الفعلي لهذه الثورة كان الضابط جمال عبد الناصر؟

ثم بدأت استطلاع أرض المعركة بزيارة النقيب عبد المنعم النجار قائد المخابرات العسكرية لمنطقة سيناء في ذلك الوقت، والذي أصبح سفيرًا لمصر في باريس فيما بعد، وطلبت منه معونته باعتباره مسئولا عن المخابرات العسكرية في المنطقة، بتقديم أحدث المعلومات عن المستعمرات اليهودية في أرض فلسطين.

ولكنني دهشت عندما سلمني سعادته الخرائط الصادرة عن الجيش الإنجليزي لإقليم فلسطين والتي كان لدينا نسخًا منها، وقد أكد لي سعادته أنه لم يرسل أحدًا من رجاله بعد ليجوب المنطقة وينقل إليه من على الطبيعة المتغيرات التي حدثت عليها بعد احتلال الإنجليز لفلسطين ثلاثين سنة متصلة، غيروا فيها كل الأوضاع تمهيدًا لقيام وطن قومي لليهود في فلسطين، وتلقيت من هذه الحقائق درسًا هامًا، هو أن واجبنا هو القيام بهذه الدوريات الاستطلاعية بأنفسنا، دون اعتماد على معونة أحد، خاصة أن المعلومات التي نحتاجها غير موجودة أصلا لدى الجهات المختصة في القوات المسلحة المصرية.

ومن طريق ما يذكر في هذه المناسبة أنني جعلت سفري إلى فلسطين سرًا على زوجتي فقد كنت عريسًا، ولم تكن هي قد تهيأت نفسيًا لقبول مبادئ التضحية والفداء التي يفرضها الإسلام ويجهلها الكثير من المسلمين وهي واحدة منهم، وقد كانت زوجتي حاملاً في ولدنا الأول محمد وكان طبيعيًا أن تطلب زوجتي بين الحين والحين زيارة أمها المقيمة مع أبيها وأشقائها في شارع عبد العزيز بالقاهرة، بينما كنت أنا وزوجتي نقيم في حلمية الزيتون مجاورين للشهيد عبد القادر الحسيني، ولما تقرر سفري إلى فلسطين، أخفيت ذلك عن زوجتي إلى يوم السفر، وكانت تطالبني كالعادة بزيارة أمها، وفي يوم السفر دعوتها لزيارة أمها، وتركتها في منزل والديها مستأذنا في قضاء بعض المصالح بالخارج، ثم سافرت دون إخطارهم مع الفوج الأول لمتطوعي الإخوان إلى فلسطين، تفاديًا لما يمكن أن يقع من اعتراضات لن تجدي في تغيير عزيمتي فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

أما عن عملي فقد حاولت أن أحصل على تصريح بأجازة لهذا السبب ولكن المسئولين في مصلحة الأرصاد الجوية التابعة لوزارة الحربية، وكان مقرها في ذلك الوقت في مبنى الوزارة رفضوا التصريح لي بحجة أن حاجة العمل لا تسمح إطلاقًا بذلك لقلة عدد المتنبئين الجويين وضرورة انتظامهم جميعًا لخدمة حركة الطيران المدني البالغة الأهمية كالتزام دولي تلتزم به مصر أمام دول العالم التي تسير خطوطها الجوية عبر القاهرة، فاضطررت إلى السفر مع الفوج الأول دون تصريح أيضًا من جهة عملي.

وقد استصدرت مصلحة الأرصاد الجوية أمرًا من وزير الحربية إلى محافظة سيناء بالقبض علي وإعادتي إلى عملي في القاهرة، ولكني الرجل عندما استقبل الأمر في برقية واردة له من القاهرة وعلم بتصميمي على الاستمرار مع المجاهدين سخر من هذا الأمر واعتبره كأن لم يكن، حيث لا سبيل للمقارنة في الأولوية بين واجب خدمات الطيران المدني وواجب الدفاع عن فلسطين المقدسة.

استدعائي للعودة إلى القاهرة

بعد أن انتظم العمل والتدريب في معسكرنا بالريسة زارني الأخ الصاغ محمود لبيب في المعسكر ونقل إلي تعليمات الإمام الشهيد بالسفر إلى القاهرة لأمر هام.

وعند وصولنا إلى القاهرة توجهت رأسًا معه لمقابلة الإمام الشهيد، فأخبرني فضيلته بأنه قرر بقائي في القاهرة للمساهمة في تسليح المجاهدين من جهة، وإرضاء لرغبة والدي الذي حضر إليه مع حماي فضيلة الشيخ عبد الصادق الغنيمي يشكون له من مخالفة الإخوان لقاعدتهم في الاقتصار على من لا يتحملون مسئوليات عائلية عند اختيار المتطوعين للسفر إلى فلسطين، وأنني متزوج وزوجتي حامل وأن القاعدة تحتم عودتي لرعاية زوجتي وجنينها.

وقد استقبل الإمام الشهيد والدي وصهري استقبالا كريمًا أزال عنهما كل ما عندهما من غضب وأكد لهما أنه لم يكن يعرف أنني أتحمل مسئولية زوجة وطفل حين أذن لي بالسفر، وأنه سيستدعيني فورًا، خاصة أنه يعتبرني يده اليمنى في تسليح المجاهدين من مصر.

وقد بالغ في كرمه للوالد أنه عندما هم بالانصراف شاكرًا للمرشد حسن لقائه، معلنا أنه بعد هذا اللقاء لم يعد يهمه أيعود محمود من فلسطين أم لا وأنه أصبح مستعدًا شخصيًا أن يذهب إلى فلسطين بعد لقائه هذا للمرشد، فابتسم المرشد وودعه، ولما لاحظ أنه يبحث عن حذائه سارع فأحضره له بنفسه، مما أثر في عواطف أبي أبلغ الأثر وتحول بكل عواطفه نحو هذا الداعية الكبير، الذي أخلص في تبليغ الرسالة إخلاصًا حرره من كل عوامل الضعف والنقص المعروفة في البشر، فأصبح من وفائه لدعوته وكأنه ملاك منزل من رب العالمين.

ولكن المرشد كان قد أرسل برقية فعلا باستدعائي، دون إبلاغي السبب، فحضرت مطيعًا للأمر، ولما عرفت السبب صممت على العودة إلى معسكري، وعدت فعلا، بعد أن دارت مناقشة دينية في منزلي مع حماي الحاصل على العالمية الأزهرية في شرعية سفري وأنه فرض عين، ولكن حنان الرجل على ابنته جعله يصمم على الاعتراض على سفري، ولكنني عزمت على السفر ونفذته، حيث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

العودة إلى المعسكر

عدت إلى المعسكر ولم يمض على سفري منه أكثر من ثلاثة أيام، كنت قد أطلعت خلالها فضيلة المرشد على حقيقة الموقف وبينت له أنني أرى أن لا ندخل في عمليات واسعة، بل نقتصر على عمليات فدائية موجعة لليهود، فذلك ما تسمح به إمكانياتنا المادية في مثل هذه الحرب، ولكنني شعرت أن فضيلة المرشد كان يطمح إلى تضاعف إمكانياتنا المادية والبشرية في فلسطين وظهورنا في حشود كبيرة تحرر الأرض وتعيد الحق.

ومن هذا المنطلق وجدت ضرورة مادية لعودتي للعمل في مضاعفة السلاح اللازم للمجاهدين وقد تولى قيادة المتطوعين بدلا مني فضيلة الشيخ محمد فرغلي رئيس الإخوان المسلمين في الإسماعيلية.

سفر الفوج الثاني من متطوعي الإخوان إلى فلسطين ونزولهم في معسكر البريج

سافر الفوج الثاني من متطوعي الإخوان إلى فلسطين بقيادة فضيلة الشيخ محمد فرغلي ووصل إلى معسكر الريسة، وكان قوام هذا الفوج من إخوان منطقة الإسماعيلية والقنال وكان من بين أفراده الأخ الشهيد يوسف طلعت عليه رحمة الله ورضوانه، وانضموا جميعا إلى إخوانهم الذين سبقوهم من منطقة الدقهلية في معسكر الريسة.

وقد كان المعسكر جاهزًا للدخول إلى فلسطين فدخلت القوة مكتملة إلى فلسطين بقيادة الشيخ فرغلي وعسكرت في معسكر البريج بجنوب فلسطين، وكان معظمها من إخوان النظام الخاص، وقد انضم إليهم فيما بعد الأخ كامل الشريف من إخوان العريش قادمًا من الجبهة الشمالية، كما كان من بين جنود هذا المعسكر الأخوة حسن عبد الغني، وحسن دوح، ونجيب جويفل، ومحمد سليم، ضمن كتيبة جديدة من كتائب الإخوان المسلمين.

وقد ساعد الإخوان على التوسع في إرسال دفعات أخرى من المتطوعين إلى هذا المعسكر سماح الحكومة للضباط الوطنيين الراغبين في المساهمة في القتال مع أشقائهم الفلسطينيين بطلب الإحالة إلى الاستيداع، وكان من بينهم الضابط الشهيد أحمد عبد العزيز، والضباط كمال الدين حسين، وحسن فهمي عبد المجيد، وعبد المنعم عبد الرؤوف وغيرهم كثير، كما صرحت الحكومة لهؤلا الضباط بأخذ ما يشاءون من أسلحة ومدافع وذخيرة من مخازن الجيش المصري فانحلت بذلك أزمة الإمكانيات المادية التي يتطلبها قتال المتطوعين في فلسطين.

المعركة الأولى من معارك الإخوان

وقعت هذه المعركة في 14 أبريل سنة 1948 قبل أن ينضم متطوعي الجيش من ضباط إلى المقاتلين، فكانت المعركة مواجهة بين الإخوان المسلمين الخلص وبين اليهود في أول دراسة ميدانية لمستوى تحصينهم لمستعمراتهم.

ووقع الخيار على مهاجمة مستعمرة دير البلح «كفار ديروم» لأهمية موقعها بوقوعها على الطريق الرئيسي الذي يربط مصر بفلسطين ولقربها من الحدود المصرية ولم يمنع الإخوان قلة عددهم وعدتهم من الهجوم مغامرين على هذه المستعمرة في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم، فاجتازوا حقول الألغام وعوائق الأسلاك الشائكة دون أن ينتبه إليهم حراس المستعمرة، ثم بدأت المعركة على صوت انفجار هائل أطاح بأحد مراكز الحراسة.

ولقد أبدى الإخوان في هذه المعركة من صنوف البطولة والفداء ما شهدت به الأعداء، ولكن قلة عددهم وعدتهم لم تمكنهم من احتلال المستعمرة فانسحبوا بعد أن استشهد منهم اثنا عشر شهيدًا، لم يصب واحد منهم من ظهره، بل كانت إصابتهم جميعًا من الأمام.

أذكر منهم الأخوة الشهداء محمد سلطان، وعبد الرحمن عبد الخالق، وحلمي السيد جبريل، وعبد الرحيم عبد الحي، وعمر عبد الرءوف، ومحمد عبد الخالق يوسف، وعثمان بلال، وعلي صبري، ومحمود مجاهد، كما جرح في هذه المعركة خمسة من الإخوان منهم الأخ لطفي ميره، والأخ محمد الفلاحجي.

وإني أترك وصف هذه المعركة لمراسل جريدة أخبار اليوم في غزة، كما نشرته جريدة الإخوان المسلمين اليومية في عددها رقم 604 الصادرة في 9 جمادى الآخرة سنة 1367هـ الموافق 18 أبريل سنة 1948م.

«أكتب إليكم من ميدان القتال- نحن الآن في منتصف الطريق بين (غزة وخان يونس) انتهت المعركة الأولى بين المصريين واليهود، إنها أول معركة حربية تخوضها مصر ضد اليهود- اثنا عشر شهيدًا وخمسة من الجرحى- إنهم يحملونهم الآن ليدفنوا في دير البلح، إنني أتأمل القتلى واحدًا واحدًا، ليس بينهم واحد مصاب من ظهره، إن بعضهم أصيب مرة أو مرتين ومع ذلك بقى يحمل بندقيته ويضرب بها- إنهم يحملونهم الآن ليدفنوا كما هم بغير غسيل أو كفن، فإن تقاليد الإسلام أن يدفن الشهيد بملابس المعركة- كان منظرًا رائعًا هذا الدم المصري يغطي أرض الصحراء المنبسطة- هذه الأرض التي سارت فيها جيوش المارشال اللنبي وانتصرت انتصاراتها الأخيرة- أصبحت نقطة البداية، التي تطلق منها مصر رصاصاتها على مستعمرات اليهود، وتصاعدت الأصوات، تبحث عن الحاج عبد الخالق الذي كان يحارب في المعركة، ومعه ابن محمد عبد الخالق- وسقط ابنه قتيلا إلى جانبه، فلم يبك عليه، بل حمل بندقيته وراح يقتل بها الذين قتلوا ولده!! ثم انتهت المعركة ولم ينتظر الحاج عبد الخالق ليشيع جنازة ولده مع المشيعين، بل ذهب مع ابن أخيه الجريح أحمد يوسف إلى مستشفى غزة، وقال له إخوانه إننا نعزيك!! قال كلا، بل هنئوني، إنني سأبقى هنا لأنال بعض الشرف الذي ناله ابني- قلت فمن عبد الخالق..؟! فإذا به عبد الخالق يوسف حسن يوسف من بلدة قويسنا منوفية.. وهو مزارع يبلغ الخامسة والأربعين طويل القامة فارع العود.,. حاد النظر، تبدو عليه الثقة والاطمئنان، وقف يتقبل تهاني المجاهدين وكأنه يزف ولده إلى عروس، وقد كان ولده يبلغ العشرين من العمر.

ومن العجيب أن أغلب القتلى المصريين لم يتجاوز الخامسة والعشرين وجميعهم من الإخوان المسلمين.. وقد وقف القائد محمود لبيب يروي لنا أن أحد الشباب انتدب لخفارة المعسكر، ولكنه أصر على أن يكون في مقدمة المقاتلين، وقال له القائد أنت صغير السن، فليتقدم أولاً من يكبرك سنًا، وبكى الشاب المصري، ولكن القائد أصر على بقائه، ولما علم أن الذي حل مكانه قد قتل في بداية المعركة وأخبره زملاءه بذلك ازداد بكاء وحزنًا.

وبدأت هذه المعركة في الساعة الثانية من صباح السبت 30 جمادى الأولى سنة 1367هـ الموافق 10 أبريل سنة 1948- كان الجو أشبه بالنسيم العليل، وقد أصر الجنود على أن يستحموا قبل المعركة استعدادًا للموت، وصلوا على أنفسهم صلاة الجنازة، وتلوا جميعًا آيات من كتاب الله، وذهب كل منهم إلى الموقع الذي اختير له، كان الظلام دامسًا فقد كنا في آخر يوم للشهر العربي، سواد في كل مكان، نرى أشباحًا تتحرك وقد ارتدت أحذية من الكاوتشوك تحمل في أيديها المدافع والنبادق، كلام كالهمس وبدأوا يقصون الأسلاك الشائكة التي تحيط بالمستعمرة اليهودية حتى إذا انتهوا من خطها الأول، أخذوا ينسفون الخط الثاني، وإذا بالمدافع الهاون وقنابل الدخان تطلق من الجهة الشرقية لتغطية الهجوم واستيقظ اليهود وراحوا يضربون أوكار مدافع الهاون وهم يظنون أن الهجوم العربي قد بدأ من تلك الناحية، وهنا تسلل الفدائيون واقتحموا الأماكن الملغومة ووضعوا الألغام والمتفجرات في الحصون، فنسفوا جزءًا من البرج دمروا كل الحصون، وأخذ المصريون واليهود يتقاذفون القنابل اليدوية ويتراشقون بمدافع التومي جن والبنادق البرن، وظن اليهود في أول الأمر أن المعركة بسيطة ولكنهم بعد ساعتين تنبهوا إلى خطورة الهجوم فاستغاثوا بالجيش البريطاني فحضرت الدبابات، ولما وجدت أن المصريين قد لغموا الأرض راحت ترفع الألغام وكانت الدبابات البريطانية ترفع الأعلام البيضاء، ووقفت بين المصريين واليهود وصدرت الأوامر بعدم إطلاق النار.

ورأى القائد البريطاني الشهداء، وأطلعه قائد الإخوان على تفاصيل المعركة وكيف أن العرب لم يخسروا من أسلحتهم شيئا، بل أنهم استعادوا أسلحة الشهداء والجرحى فدهش، وذهب إلى حيث يرقد الشهداء وأحنى رأسه قائلاً: «إنني في دهشة كيف استطعتم أن تفعلوا كل هذا، لقد كنت في فرقة الكوماندوس البريطانية ولم أشهد جرأة كالتي رأيتها الآن.. ولو كان معي ثلاثة آلاف من هؤلاء لفتحت بهم فلسطين، ثم تقدم القائد البريطاني إلى الجرحى المصريين وقبل كل منهم في جنبيه، وقال من أي بلد هؤلاء الأبطال؟ فقالوا من مصر».

وقفة تأمل من وحي المعركة:

1- يلاحظ القارئ الكريم أنه اجتمع في هذه المعركة أب وابنه، وابن أخيه وثلاثتهم متطوعون للقتال تحملوا نفقات سلاحهم من مالهم الخاص.

ومن ينظر في هذه الحقيقة يتبين مدى الخسارة التي تقع على عاتق الأمة الإسلامية بتخليها عن تطبيق الشريعة الإسلامية.

إننا في ظل القوانين الوضعية نرى الناس يتهربون من الجندية، وليس بعيدًا ذلك العهد الذي كان يتعمد فيه الفلاحون المصريون إحداث عاهات مستديمة في أجسامهم لكي يشركوا في الكشف الطبي، فيتم إعفاؤهم من التجنيد العسكري لعدم اللياقة البدنية.

كما أنا لا نزال نجد أن القوانين الوضعية تعفي الابن الأكبر من التجنيد في حالة شيخوخة والده أو وفاته، وذلك كله على الرغم من إنفاق المبالغ الباهظة على المجندين لتدريبهم وإعاشتهم وتسليحهم.

ولكن في ظل العقيدة الإسلامية، يتقدم الرجال والنساء والأطفال للقتال ودفاعًا عن دينهم يهبون وطنهم ما يملكون من مال، ويبذلون أرواحهم رخيصة في سبيل الله بأن لهم الجنة.

وإنني لأذكر أخي الشهيد محمد سلطان ونحن في معسكر الريسة، وقد كان يقف حراسة ليلية حين خرجت أتفقد المعسكر في الثانية صباحًا وأمر على جنود الحراسة، فإذا بي أحده يقف في موقعه يقظًا منتبهًا، ولكن دموعه تسيل على خديه في صمت فظننت لأول وهلة أنه تعرض للدغ حشرة من حشرات الأرض، وأنه يتجلد حتى تنتهي نوبة حراسته، فلا يحرم أجر العين التي تبيت في حراسة في سبيل الله، ولكنني فوجئت عندما سألته عما يبكيه، فكان رده عليَّ أسمى وأبعد من هذا الخاطر بكثير، قال: «ما بي من بأس والحمد لله، ولكني سمعت أنك سترسل سرية غدًا إلى المستعمرة اليهودية وأن اسمي ليس من بين أفرادها، فوقفت حزينًا تسيل دموعي كما ترى».

لا إله إلا الله، إننا في عهد صحابة رسول الله (ص) الذين وصفوا بأن الموت في سبيل الله كان أحب عندهم من الحياة.

إن وجود مثل هؤلاء الرجال لا يرتبط بزمان ولا بمكان، إنه وقف على من نشأ نفسه على شريعة الإسلام، فكان خلقه القرآن، وها نحن نرى هذه الآية ماثلة بين أيدينا للعيان.

إن المعارك القادمة جميعًا لم تشهد فارًا واحدًا ولا متخاذلاً واحدً من رجال الإخوان المسلمين، ولكن التدافع للتطوع بالقيام بأشد الأعمال خطورة وفداء، كان في كل الأوقات مشكلة القيادة، التي لم تكن تجد مخرجًا إلا الاقتراع على من يصدر إليه الأمر من الفدائيين بالتقدم للعمل الخطير، فكلهم أشد رغبة من أخيه في الإقدام على الموت لتوهب له الحياة، واقع متكرر لا أثر للخيال ولا للدعاية ولا للخيلاء فيه، شهد به كل من رآه.

2- إن هذه المعركة كانت أول معركة حربية تخوضها مصر ضد اليهود، فمن كان رجالها؟

«الإخوان المسلمون» سبقوا متطوعي القوات المسلحة وسبقوا الجيش النظامي لمصر وبدأوا المعارك وهم وحدهم في الميدان وفاء لعقيدتهم وتحقيقًا للهدف الذي حدده إنشاء جيشهم الإسلامي المسمى «النظام الخاص» دفاعًا عن الوطن الإسلامي في كل مكان، مع الالتزام بأحكام الدين الحنيف شريعة الرحمن، ومن أحسن من الله قيلا؟

3- إن هذه المعركة على ما ظهر فيها من بطولات، تعتبر معركة استطلاع ناجحة كشفت لكل الجيوش العربية حقيقة الاستعدادات والتحصينات اليهودية التي تستتر داخل مستعمرات تبدو صغيرة للعيان، ولكنها معدة إعدادًا عسكريًا يفوق كل خيالٍ.

4- إن هذا الواقع الذي يؤيد نظرتي التي أبديتها للإمام الشهيد، في أن تقتصر مهمتنا في فلسطين على إنزال ضربات موجعة لليهود، دون التفكير في الحرب الشاملة لأنها فوق طاقتنا وفوق استعداداتنا، لم تغير من نظرة الإمام الشهيد في توجيه جهاد الإخوان إلى الحرب الشاملة فذلك هو حكم الله، الذي حكم بفرضية الجهاد على كل مسلم ومسلمة في هذا الوقت الذي آل إليه الوطن الإسلامي، ومن ثم فقد ضاعف الإمام الشهيد جهوده لدفع أعداد أكبر من المتطوعين بلغ عشرة آلاف متطوع في الجبهة الجنوبية وحدها، باذلا آخر الاستطاعة مع تفويض الأمر كله لله.

وذلك لعمري هو واجب المسلمين في كل زمان ومكان، فإن قاموا به عزوا وإن تخاذلوا عنه ذلوا.

ولكن دخول الجيوش العربية، وتحملها مسئولية الاحتلال الشامل لفلسطين في حرب شاملة، ثم فشلها في ذلك، هو الذي عطل الاستمرار في تنفيذ ما اعتزمه الإمام الشهيد من مواصلة إمداد المعركة بالمجاهدين حتى النصر، ولم يقتصر دور هذه الجيوش على إعلان الهزيمة وقبول الهدنة الدائمة في فلسطين الأمر الذي جعل إسرائيل حقيقة واقعة، بل إن الجيش المصري كلف باعتقال جميع المجاهدين المصريين من الإخوان المسلمين في فلسطين، كما قررت حكومة مصر في هذا الظرف الرهيب حل الإخوان المسلمين في مصر واعتقالهم، لعرقلة استمرار السيل المتدفق من المجاهدين، بل زاد من إجرام حكومة النقراشي أن مهدت لقتل الإمام الشهيد جهارًا نهارًا كما يفعل قطاع الطرق والأشرار دون أدنى خجل أو حياء، وقد نفذ خطتها خليفة النقراشي إبراهيم عبد الهادي، بعد أن نفذ بعض شباب الإخوان قتل النقراشي باشا جزاء له على خيانته للأمة الإسلامية وانضمامه لقتالها في صفوف الكفار.

سفر الفوج الثالث من متطوعي الإخوان إلى فلسطين عن طريق سوريا

في مارس سنة 1948 سافر الفوج الثالث من متطوعي الإخوان إلى فلسطين، بعد أن تم تجهيزه بالسلاح والعتاد وكان يتكون من ثلاثة فصائل، وزعها الإمام الشهيد بنفسه وعين على كل منها قائدًا يتولى قيادتها، وقد كان الأخ علي صديق قائدًا للفصيلة الأولى والأخ مالك نار قائدًا للفصيلة الثانية، والأخ يحيى عبد الحليم قائدًا للفصيلة الثالثة، وتولى قيادة الكتيبة الأخ محمود عبده.

تحركت الكتيبة في استعراض عسكري من المركز العام مارة بميدان الأوبرا ثم إلى شارع إبراهيم حتى وصلت ميدان محطة مصر، وقد اصطفت الجموع تهتف وتكبر معلنة صحوة جديدة لشعب مصر في إيمان متدفق، وبعث جديد في توثبت متحفز، ثم استقلت الكتيبة القطار إلى بورسعيد، حيث ودعها فضيلة الإمام الشهيد وداعًا حارًا، حين نزلت المجموعة على ظهر الباخرة اليونانية «سيرينا» في وسط جموع المسافرين على ظهر الباخرة والذين احتشدوا لتحيتهم، وما أن تحركت السفينة حتى لاحقها فضيلة الإمام الشهيد مع حشود الإخوان المودعين في زوارق للتحية، يلوحون بأيديهم مودعين حتى غابت عن الأنظار.

وقد وصلت الكتيبة معسكر قطنا بسورية بعد أن مرت ببيروت حيث استقبلها الأخوة مصطفى السباعي وعمر بهاء الأميري من إخوان سوريا، وكان في صحبتهم الأخ سعيد رمضان سكرتير المؤتمر الإسلامي بكراتشي، وكان في مقدمة المستقبلين اللبنانيين الأستاذ مجيد أرسلان وزير الدفاع اللبناني وعدد كبير من فرق النجادة والفتوة على رأسهم قائدهم ببيروت.

وعلى مشارف دمشق استقبل الكتيبة جوالة الإخوان بالموتوسيكلات وصحبتها إلى معسكر قطنا.

وكان معسكر قطنا قد أعد لاستقبال المتطوعين من جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي، وقد أعد لاستقبال آلاف المجاهدين، وكان يشرف عليه من القادة العسكريين ضابطًا بالجيش السوري ومن الإخوان المسلمين الأخ مصطفى السباعي رئيس الإخوان بسوريا، ووكيل القائد العسكري والمسئول الروحي للمعسكر.

وكان التدريب في هذا المعسكر يبدأ من الساعة السادسة صباحًا حتى موعد الغذاء، ثم من بعد صلاة العصر حتى غروب الشمس، حيث قسمت الكتيبة إلى عدة فرق مشاة ومدفعية ومغاوير ونسف وتدمير، ويقوم بالتدريب ضباط سوريون كما كان منهم ضباط يوغسلان اشتركوا في الحرب العالمية الثانية.

وقد تدرب الإخوان على هذه الأعمال بنجاح تام وعملوا كمائن لنسف بعض القوافل، كما أتقنوا استعمال الأسلحة الصغيرة (البنادق- التومي- جن- البرنات) والأسلحة السريعة كالفيكارز بالإضافة إلى مدافع الهاون والبويز المضادة للمصفحات والدبابات، وقد استغرقت مدة التدريب شهرًا تحركت الكتيبة بعدها لتنضم إلى باقي المجاهدين من الإخوان في جنوب فلسطين في رحلة طويلة وشاقة بالسيارات بدأت من دمشق إلى عمان، ثم حزاء البحر الميت في طريق وادي عربة إلى العقبة، ثم اجتازت حدود الأردن متجهة شمالا إلى الكونتلا داخل الأراضي المصرية بصحراء سيناء، ثم إلى العوجة ومنها إلى رفح فخان يونس فدير البلح فغزة.

سفر الفوج الرابع وتتابع سفر الأفواج الأخرى بعده من معسكر هايكستب

بناء على توصية اللجنة العليا لإنقاذ فلسطين افتتحت جامعة الدول العربية معسكرًا لتدريب المتطويعن في هايكستب على غرار قطنا بسوريا، وقد عج هذا المعسكر بآلاف المتطوعين من الإخوان المسلمين، الذين سافروا في أفواج متتالية إلى أرض المعركة.

وكانت قيادة المعسكر للبكباشي حسين أحمد مصطفى من خيرة ضباط الجيش المصري يعاونه عدد من صفوة الضباط والمعلمين، وكانت الكتيبة الأولى لهذا المعسكر مكونة من متطوعي الإخوان الذين اجتازوا الكشف الطبي الدقيق، وقد قسمت إلى أربع سرايا تتكون كل سرية من فصيلتين، وكل فصيلة من 24 متطوعًا، وكانت كل كتيبة يتم تدريبها ترحل إلى الميدان لتلحق بإخوانها في ساحة الشرف والنضال.

معركة الطيران بغزة

ما إن وصل الفوج الثالث من متطوعي الإخوان إلى غزة، حتى نزلوا بمعسكر الطيران بغزة فأعلنهم قائدهم في ليلتهم الأولى بهذا المعسكر أنها ليلة طوارئ، فقام الأفراد بتنظيف سلاحهم وقادم قادة الفصائل بتوزيع الذخيرة عليهم، ثم تحركت الفصائل لتباغت العدو قبل أن يبغتها في ليلتها الأولى، فكانت فصيلة الأخ علي صديق في مواجهة المستعمرة من الناحية الشرقية ووزع باقي قواد الفصائل رجالهم على الجهات الأخرى حتى انتصف الليل وأظلم الكون وعم الهدوء، وبدأت قوات العدو تتحرك في 18 سيارة مصفحة نحو معسكر الطيران للإجهاز على هذه الكتيبة المجهدة، ليلة وصولها وهي تظن أنها ستحظى بها نائمة من فرط الإجهاد.

ولكنها فوجئت فور وصلها إلى قرب أسلاك المعسكر بنيران المجاهدين تحصدهم من جميع الجهات، وما أن انقشع الظلام وبدأت خيوط الفجر تسطع حتى شوهد العدو وقد انسحب إلى مستعمرته تاركًا خلفه بعض الآليات غنيمة للمسلمين، فانتشر الخبر في جميع أنحاء غزة فجاءوا مهنئين بهذا النصر المظفر، حيث بلغ عدد القتلى اثنى عشر قتيلا مقابل جريح واحد من الإخوان، فكانت وكأنها ضربة بضربة دير البلح الأولى.

وقد وصف أحد قادة الفصائل ما كان حوله فقال: «كانت دانات المدافع تسقط أمامنا وخلفنا وكانت طلقات الرصاص تأتينا عن اليمين وعن الشمال، ولكن الحق تبارك وتعالى أذن أن يسلم جميع الإخوان من هذه النيران الكثيفة، وكأن الملائكة عليهم السلام قد حملت مهمة الدفاع عن الإخوان وتثبيت قلوبهم، فقد تقد متطوعو الإخوان حتى لم يبق بينهم وبين اليهود إلا خمسة أمتار، وقد أطلق البطل رفعت وحده 150 طلقة وكان يحب أن يخرج إليهم، أما إبراهيم ربيع فقد جرح في قدمه، ولكنه يقول لأخيه عبد الهادي ونحن في حومة الوغي، والمعركة حامية، ووطيس الحرب مشتعل، يقول: وكأنه ليس في حرب «أخي» إن رصاص العدو يتساقط علينا ورجلي تؤلمني ولكن لا تعوقني عن الضرب» واستمر هو وإخوانه يضربون من فوهات خمس وعشرين بندقية ليس من بينها مدفع سريع ولا مضاد للدبابات والمصفحات، ومع ذلك كان نصر الله للمؤمنين عظيما.

معركة دير البلح الثانية

عندما سمحت الحكومة لبعض ضباط الجيش المصري الراغبين في التطوع للقتال في فلسطين بتحقيق رغبتهم بأن قبلت طلبات إحالتهم للاستيداع وفتحت لهم مخازن الجيش المصري يتسلحون بما يشاءون من أسلحته، وانضم هؤلاء الضباط بقيادة البكباشي أحمد عبد العزيز إلى المتطوعين من الإخوان، وتم تنظيم قيادة المجموعة على النحو التالي، وقد حضر هذا الاجتماع الشهيد الشيخ محمد فراغلي، والأخوة محمود عبده، والصاغ محمود لبيب:

1- البكباشي أحمد عبد العزيز .. قائدًا للقوات.

2- اليوزباشي عبد المنعم عبد الرءوف .. أركان حرب.

3- الملازم أول معروف الحضري .. مساعد أركان حرب العمليات.

4- بكباشي زكريا الورداني .. أركان حرب إمداد وتموين.

5- ملازم أول حمدي ناصف .. مساعد أركان حرب إمداد وتموين.

6- يوزباشي كمال الدين حسين .. قائد لمدفعية الهاوزر 3.7 بوصة.

7- ملازم ثاني خالد فوزي .. مساعد لقائد مدفعية الهاوز.

8- يوزباشي حسن فهمي عبد المجيد .. قائد للمدفعية المضادة للمصفحات 2 رطل.

9- ملازم ثاني أنور نصحي .. مساعد لقائد المدفعية المضادة للمصفحات.

وكان معظم هؤلاء الضباط من الإخوان المسلمين أو محبيهم، كما كان جميع المقاتلين معهم من متطوعي الإخوان المسلمين.

مهدت المجموعة لدخول معركة دير البلح الثانية بمسح شامل لهذه المستعمرة قام به الأخ عبد المنعم عبد الروءف، وعملية استكشاف قام بها الأخ لبيب الترجمان، والأخ معروف الحضري، يساعدهم متطوعون آخرون مثل الأخ عبد المنعم أبو النصر، والأخ حسين حجازي، والأخ محمد عبد الغفار، وتم وضع خطة المعركة على أساس هذه المعلومات، واختيار الجنود الذين تقرر أن يشتركوا فيها.

وكانت مهمة اختيار الجنود مهمة عسيرة حيث يتسابق الإخوان للتطوع بالجهاد في المعركة حرصًا على نيل الشهادة في سبيل الله مما اضطر القيادة إلى الاقتراع بينهم مع تقديم البشرى للباقين في قول رسول الله : «عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله».

أعدت مجموعة النسف والتدمير بقيادة الأخ إسماعيل الفرماوي طوربيدات البنجالور لاستعمالها في فتح الثغرات لدخول المقتحمين، وهذا الطوربيد عبارة عن ماسورة من الحديد قطرها خمسة سنتمترات وطولها 130 سم معبأة بمادة الجنجلايت الشديدة الانفجار.

ثم تقرر تنفيذ خطة الهجوم على المستعمرة على النحو التالي:

يتم الهجوم على المستعمرة من شرقها وجنوبها في وقت واحد مع استعمال الوادي الواقع في الجنوب كساتر إلى المستعمرة، واستبعدت جهة الغرب لعاملين أساسيين:

1- إن أفكار اليهود مركزة دائمًا على الجهة الغربية المطلة على الطريق الرئيسي، بدليل أن حراس المستعمرة لم يشعروا بحركة الاستكشاف التي تمت من الجنوب.

2- إن الجهة الغربية أرض مكشوفة مزروعة شعيرًا لا يزيد طوله على ثلاثين سنتمترًا وليس بها أي سواتر يمكن أن يستتر بها المهاجمون.

على أن يأخذ رماة مدافع الهاون كميات كبيرة من قنابل الدخان والقنابل الشديدة الانفجار (ميلز) لستر الهجوم عند اللزوم بقنابل الدخان وإلحاق الخسائر المدمرة بقنابل الميلز، وكان المسئول عن هذا العمل هو الأخ حسن الجمل.

تحركت السيارات من خان يونس إلى نقطة تجمع منخفضة قرب المستعمرة أثناء الليل وهي مطفئة أنوارها حتى لا يشعر بها العدو بعد أن شرحت للجميع الصورة الكاملة عن شكل المستعمرة ومبانيها ومرافقها، وخزان مياهها ونقط حراستها والأسلاك والدشم المتقدمة منها ومداخلها، والقوة الدفاعية بها وأنواع الأسلحة المدافعة بالتفصيل، وبين الشكل رقم (1) رسمًا تخطيطًا للمستعمرة وما حولها.

ثم أخذ الجنود مواقعهم المتفق عليها حتى حان وقت ضرب المدفعية للمستعمرة، فأمر الأخ عبد المنعم عبد الرءوف كل القوات بالانبطاح أرضًا حتى لا تصيبهم شظايا قنابل المدفعية واستمر الضرب لمدة عشرة دقائق.

ثم صدرت الأوامر لقاذفي الهاون دخان، فأطلق ثم أمر الأفراد بالتقدم السريع والاقتحام، فهجموا وكأنهم على أجنحة طير، حتى اقتربوا من الأسلاك الشائكة بسرعة أكبر من المتوقعة، ولكن قنابل الدخان قد نفذت بسبب عدم تقدير المسئول عن أهميتها، فلم يحمل معه منها إلا صندوقًا واحدًا بدلاً من ثالثة صناديق، مستكثرًا من القنابل الشديدة الانفجار لضمان إلحاق خسائر أكبر بالعدو، ولهذا السبب لم تجد تعليمات اليوزباشي عبد المنعم عبد الرءوف بإطلاق مزيد من قنابل الدخان، وانكشف المهاجمون للعدو، والذي زاد في انتباهه وتحفزه ضرب المدفعية المستمر لمدة عشر دقائق، ففتح نيرانه على المهاجمين متبادلا معهم الضرب بالرشاشات ولكن من وراء جدر متحصنة ومسيطرة، مما عرقل الهجوم.

وقد زاد في الارتباك أن عادت مدفعيتنا للضرب دون أوامر، بينما كان المهاجمون يتقدمون عليهم دانات خاطئة ضاعفت في عرقلة الهجوم مما حدا بالأخ عبد المنعم عبد الرءوف أن يأمر القوات المهاجمة بالانسحاب إنقاذًا للموقف، وقد أصيب الأخ كمال عزمي بدانة أثناء الانسحاب، ثم بدفعة يرن أصابته في أصبعه وهو يخرج المنديل ويربط جرحه، ولكنه ظل مبتسمًا صامتًا حتى أخذ الأخ حسين حجازي قايشه وربطه جيدًا بقايش الأخ عبد المنعم أبو النصر، وربط يد الأخ كمال عزمي السليمة بالقايش جيدًا، وتم سحبه من أرض المعركة حتى الوادي حيث نقل على نقالة إلى مكان أمين.

ولقد تسبب الأخطاء الآتية في زيادة عدد الجرحى والشهداء من متطوعي الإخوان في هذه المعركة:

1- تأخر ضرب المدفعية إلى الفجر وكان المقرر أن يتم القذف قبل ذلك بكثير لاتخاذ الليل ساتر طبيعًا للمهاجمين.

2- كانت قنابل 2 رطل لا تؤثر في دشم العدو، حتى إذا أصابتها، وذلك من متانة الدشم فلا تترك إلا أثرًا أسودًا على جدرانها مكان الطلقة.

3- لم يحمل الأخ حسن الجمل ما يكفي من قنابل الدخان مما كشف المهاجمين في مواقعهم الحساسة على مشارف المستعمرة، وقد ظهر الصباح وانعدم الساتر الطبيعي لهم وهو ظلمة الليل، مما عرضهم لرشاشات العدو المباشرة.

4- عاودت المدفعية ضربها دون أن يصدر لها الأخ عبد المنعم عبد الرءوف الإشارة الحمراء المتفق عليها، مما عرض المهاجمين إلى دانات المدفعية المصرية لأنهم كانوا مشتبكين مع العدو في أرض واحدة.

5- لم يتمكن الأخ محمد حسن العناني المكلف بوضع طوربيد البنجالور تحت الأسلاك الشائكة لنسفها وفتح ثغرة فيها بسب إصابته في فخذه وهو يتقدم نحو الأسلاك بعد زوال الدخان الساتر، وقد نزف نزيفًا شديدًا من هذه الإصابة تلطخ بسببه سرواله الكاكي فأصبح جميعه بلون الدم، فاستغاث بشقيقه عبد الوكيل بصوت منخفض وكان من رمان البرن، فبدأ يتحرك نحوه رغم ما في ذلك من مخالفة عسكرية حيث لا يصح الاقتراب من المصاب أثناء المعركة، لأن موقع المصاب أصبح مكشوفًا للعدو وجاهزًا لضرب كل من يتقدم إليه دون اتخاذ إجراء لحمايته أثناء التقدم كسواتر الدخان أو النيران الكثيفة تجاه العدو، لتشغل أو تمنع من أصاب الأول أن يصيب الثاني.

وقد بدأ عبد الوكيل بالزحف للخلف بعض الشيء، وسحب بندقية شقيقه وسلمها لقائد الفصيلة الذي لم يكن مسلحًا ببندقية، بل كان يحمل مسدسًا، وحاول محمد التحرك ولكنه لم يستطع حيث ازداد نزيف الجرح وآلامه، فلم يتحمل شقيقه وزحف نحوه مغلبًا العاطفة على القاعدة، فأصابته دفعات طلقات مباشرة فور اقترابه منه استشهد على أثرها على الفور، وكان استشهاد الشقيقين تحقيقًا لرؤية صالحة رآها أبوهما الصالح، فتحققت كفلق الصبح، حيث رآهما مجتمعين في رحاب الجنة.

ولما ذهب الإمام الشهيد ليواسي الأب الصالح رد عليه قائلا لو أردت ولدي الثالث لأرسلته فورًا إلى ميدان الشرف والكرامة.

وقد استشهد في هذه المعركة الأخ أحمد السيد، وجرح الأخ معروف الحضري وهو على أسلاك المستعمرة، وإذا كان عدد الشهداء والجرحى في هذه المعركة كبيرًا، إلا أن أحدًا منهم لم تكن إصابته من الخلف.

وقد استمرت المعركة مع الخيط الأول للفجر واستمرت حتى الظهر حين تم الانسحاب إلى الوادي، ومن هناك نقل الجرحى والشهداء إلى المستشفى، وكانت قائمة الجرحى كالآتي:

1- بكباشي معروف الخضري

2- كمال عزمي.

3- سالم حسن سالم

4- محمد فؤاد إبراهيم.

5- عبد الحميد غالي

6- ملازم مصطفى ميره.

وكانت قائمة الشهداء كالآتي:

1- نور الدين الغزالي

2- محمد أنور عبد الرحمن الفرسيسي.

3- محمد محمد كرم حسين

4- رشاد محمد مرسي.

5- محمود عبد الجواد أحمد

6- محمد حسن العناني.

7- عبد الوكيل حسن العناني

8- حسن مصطفى العزازي.

9- جميل أنور الأعسر

10- محمد عثمان بدر.

11- محمد عثمان عبد الله

12- هرون عبد العزيز حسان.

13- محمود إبراهيم السيد

14- محمد كامل بيومي.

15- السيد فرج السيد

16- علي متولي خليل

17- عبد العزيز إسماعيل

18- محمد حسن علي.

19- فتحي محمود مراد

20- حسن صالح أبو عيسى الكواكبي.

21- عبد الوكيل حسن علي

22- محمد عبد الجليل عبد الله.

23- عبد الحميد حسنين

24- عبد الظاهر سليمان.

25- سيد محمد منصور

26- مصطفى حسن المزين.

27- مصطفى عبد المطلب عبد الحميد

28- مكاوي محمد مصطفى.

29- محمود شعبان

30- عدلي محمود شيش.

31- زين العابد عوض الله محمد

32- جابر عبد الجواد.

33- أمين محمود سليمان

34- جماد الدين أحمد إدريس.

35- علي حسن بركات

36- مصطفى شديد.

37- محمد مختار حمزة

38- رفعت محمد عثمان.

39- عبد الرازق أبو السعود

40- محمد إبراهيم رضيه.

41- عبد السميع قنديل

42- أحم محمد السيد.

43- الحاج عيسى إسماعيل عيسى.

الإخوان في معسكر النصيرات:

معركة بين علي صديق ومدرعات العدو واستشهاد الأخ رفعت عثمان بيد بدوي خائن

بعد انتهاء معركة الطيران بغزة انتقلت فصيلتين من الكتيبة إلى معسكر النصيرات وبقيت فصيلة يحيى عبد الحليم بمعسكر الطيران.

وصل إلى علم الإخوان بمعسكر النصيرات أن قافلة من المصفحات والعربات المدرعة للعدو تتحرك لتموين مستعمرة كفار ديروم، فانطلق إليها علي صديق بفصيلته، ودارت بينه وبينهم معركة خلف المستعمرة استعمل فيها طلقات مضادة للدبابات من مدافع البويز، فكانت ذخيرتها تخترق جدار المصفحات وتقضي على الجنود المخبئين بداخلها.

وأسفرت النتيجة عن انسحاب هذه المصفحات رغم أن القوة التي واجهتها لم تزد على فصيلة مشاة - وقد تغيب عن العودة مع إخوانه بعد نهاية المعركة الأخ رفعت عثمان.

وقد تبين لنا أنه كان قد توجه إلى المعسكر أثناء المعركة لإحضار ذخيرة بعد أن نفذت ذخيرته، وطلب من أحد الأعراب مصاحبته كدليل فاختار له طريقًا خلفيًا يمر ببيارة غير مأهولة، ثم ضربه برصاصة في ظهره أردته قتيلاً طمعًا في الحصول على بندقيته وقد دفن الأخ الشهيد بدير البلح.

خدعة صهيونية وخيانة بدوي آخر:

استمر الشهيد أحمد عبد العزيز محاصرًا لمستعمرة دير البلح لفترة طويلة بعد معركة دير البلح الثانية، حتى رفع اليهود العلم الأبيض فوقها دليلا على التسليم، فأرسل الشهيد أحمد عبد العزيز إلى الأخ محمود عبده قائد كتيبة الإخوان بمعسكر النصيرات يطلب فصيلة مشاه للاستيلاء على مستعمرة «كفار ديروم».

وقد كلف الأخ محمود عبده فصيلة بقيادة الأخ علي صديق مجهزة بأسلحة سريعة الطلقات تساعدها فرقة ألغام لنسف ما قد يكون بداخل المستعمرة من ألغام.

وما إن مالت الشمس للمغيب حتى كانت الفصيلة قد سلمت نفسها للقائد أحمد عبد العزيز وتقدم قائدها لتحيته، فأصدر إليه تعليمات باحتلال المستعمرة التي أعلنت التسليم برفع العلم الأبيض، وقدم إليه أحد البدو دليلا إلى طريق اقتحام المستعمرة.

وما إن قربت الفصيلة من المستعمرة عبر حقول الشعير حتى اختفى البدوي عن الأنظار واستلم مدفعًا من وراء دشمة كان قد أعدها ثم أخذ يطلق سيلا من الرصاص على أفراد الفصيلة، فانبطحوا مسرعين متخذين من أعواد الشعير سواتر، ثم فوجئوا بالمستعمرة تفتح عليهم أتونا من النيران غطت بها جميع الجهات.

وقد صدرت التعليمات بسرعة إلى الجميع بالسكون التام حتى لا تهتز أعواد الشعير فتدل عليهم، وقد استشهد عدد من الإخوان في هذه المعركة وجرح عدد آخر نتيجة لغدر هذا البدوي الخائن، الذي أمكن القبض عليه عند الانسحاب وأخذه إلى المعسكر، وعندما ضيق عليه الخناق اعترف بأنه يعتبر أحد أفراد هذه المستعمرة وأنه تزوج فيها من صهيونية وله فيها أولا وكان يجمع الأخبار عن العسكريين عددًا وعتادًا، مع تحديد أماكن تجمعهم ويعود بها مساء كل يوم إلى المستعمرة.

توبة البدوي الخائن والاستيلاء على قافلة مصفحات:

وفي لحظة من لحظات الندم صحا ضمير البدوي الخائن وأخذ يجهش بالبكاء عما اقترفه من جرم في حق عروبته ودينه، وعرض أن يحرك قولاً من المؤن والذخائر من المستعمرة الأم، ليصطادها الإخوان تكفيرًا عن جريمته.

وبالفعل اتصل بالمستعمرة لاسلكيًا وكان يتكلم العبرية كأحد أبنائها وأبلغهم أن الإخوان يحاصرون المستعمرة وهي في حاجة ماسة إلى نجدة سريعة.

وقد استجابت المستعمرة وحددت للبدوي خط سير القافلة المكونة من 15 مصفحة ولوري وعليها التموين والذخيرة والسلاح يتبعها ونش كبير لإنقاذ ما قد يتعطل منها أثناء السير.

وفي المكان والزمان المحددين وقف علي صديق وفصيلته مستترين بالخنادق، وبالقرب منه وقف اليوزباشي عبد المنعم عبد الرءوف يقود سيارة تجر مدفعًا مضادًا للدبابات، حتى إذا ظهرت القافلة فاجأتها نيران الفصيلة بنيرانها ونيران المدفعية المضادة بقذائفها فاختل سير القافلة، وانفرط عقدها، وترك اليهود سياراتهم ومصفحاتهم وارتدوا هاربين إلى مستعمرتهم خشية الوقوع أسرى في أيدي المجاهدين من الإخوان، وقد جرح منهم أثناء الفرار من جرح وقتل من قتل، وكان نصرًا مظفرًا غنمت الفصيلة فيه هذا الرتل من السيارات والمصفحات بما عليه من مؤن وذخائر، حيث استدعى قائدها عدد من السائقين في المعسكر لسحبها جميعًا غنيمة للمسلمين.

ضرب مستعمرة بير إسحاق

تأهب الأخ يحيى عبد الحليم الذي استمر بفصيلته في معسكر الطيران بغزة إلى عملية ليلية، فانتقى عشرة أفراد للقيام بدورية قتال وخرج ومعه ثالثة من الضباط الألمان.

تحركت السرية في الساعة الثامنة مساءً وواصلت يسرها مدة ساعتين وعملت كمينًا بين مستعمرتي بير إسحاق وكفار ديروم، ولكن شيئا من سيارات العدو أو صفحاته لم يظهر حتى انتصف الليل.

فقررت السرية السير جنوبًا إلى مستعمرة بير إسحاق التي تبعد عن موقعها بأربعة كيلو مترات، وفي الواحدة صباحًا كانت السرية داخلت بيارة وأفرادها منبطحين جميعًا في حذر وكل ممسك ببندقيته في وضع استعداد، حيث شعروا بشبه حركة التفاف حولهم، فلما اطمأنوا تقدم ثلاثة منهم إلى المستعمرة بعد قطع السلك وقذفوها بقنابل متفجرة قتلت واحدًا من الأعداء، ثم انسحبت بعد ذلك عائدة إلى معسكرها فوصلت سالمة مع تباشير الفجر.

ضرب مصفحات يهودية:

في يوم الجمعة 6 مايو علم الإخوان بمعسكر الطيران بغزة بوجود مصفحات يهودية غارزة في الرمل فسيروا سرية داخل مصفحة وذهبت لمقاتلتها بقيادة الأخ يحيى عبد الحليم، وعلى بعد 1500 متر من المصفحات اليهودية أحد جنود السرية مواقعهم للضرب واستمرت المعركة ساعة، جرح فيها الأخ محمد فؤاد، والأخ محمد الشاذلي، واستشهد فيها الأخفتحي الخولي، وقتل وجرح من اليهود من قتل وجرح، وعادت السرية إلى مواقعها بمعسكر الطيران.

تحرك الكتيبة إلى الشمال بعد دخول الجيش المصري واحتلالها للعوجة وعسلوج وبئر سبع

بعد دخول الجيش المصري في 15 مايو سنة 1948م أرض فلسطين تقدم في اتجاهين الأول يوازي الساحل الفلسطيني شمالاً، والثاني إلى الجنوب حيث أقام اتصالا مع الجيش الأردني الذي اندفع إلى القدس واشتبك مع اليهود هناك.

وقد قرر القائد أحمد عبد العزيز أن تتحرك كتيبة الإخوان مع القوات الخفيفة داخل النقب لما يعلمه عن هذه الكتيبة من مقدرة فائقة على التحرك والعمل والفدائي.

فتحركت الكتيبة في قول يتكون من مائة عربة ناقلة جنود وعربات مدرعة ومدفعة مضادة وعربات تموين وأسلحة وذخيرة وسيارات نقل مياه وعربات إسعاف، وتوغلت في صحراء النقب مارة بالكثير من المستعمرات اليهودية.

وكانت الكتيبة تطلق قنابل الدخان في اتجاه كل مستعمرة تمر بها، حتى استطاعت اجتياز هذه المناطق ووصلت مدينة العوجة، حيث تركت كتيبة من القوات الخفيفة بقيادة اليوزباشي محمد سالم، ثم واصلت السير نحو بلدة عسلوج، حيث تركت بها كتيبة أخرى بقيادة الأخ عبد المنعم عبد الرءوف لحماية خط العوجة- عسلوج، ثم واصلت السير في اتجاه بئر سبع عاصمة النقب، وهي محاطة بعدد من المستعمرات، وقد استقرت كتيبة الإخوان ببئر السبع بقيادة الأخ محمود عبده، وواصل القول سيره نحو الشمال، وفي الطريق فتحت القوات الخفيفة مدفعيتها الثقيلة على المستعمرة الغربية من بئر سبع لتحطيم روح اليهود المعنوية فلا يفكروا في الهجوم عليها، ثم واصلت سيرها في اتجاه الظاهرية حتى وصلت مدينة القدس فعسكرت هناك قرب المسجد الأقصى.

كتيبة الإخوان في بئر سبع:

عسكرت كتيبة الإخوان في المدرسة الثانوية ببئر سبع وكانت الدراسة معطلة وأمر قائد الكتيبة الأخ محمود عبده سرعة تحصين المدرسة لأهميتها، وكلف أفراد الكتيبة بحفر الخنادق وإعداد الدشم من جميع الجهات، وتطوع كثير من أهالي البلدة وشبابها مساهمين في هذا العمل العسكري دفاعًا عن مدينتهم كما تطوع الكثيرون منهم لحمل السلاح وكانوا شجعانا أوفياء.

هجوم العدو على المدينة وإلحاق خسائر ضخمة به في كل مرة:

حاول العدو مرات ومرات مهاجمة المدينة بمصفحاته ومدفعياته ولكنه كان يرد في كل مرة تاركا خلفه الكثير من الجرحى والقتلى، حتى يئس وتقوقع داخل مستعمراته وبدأ دور الإخوان في الهجوم.

علي صديق يقتنص دبابة ضخمة في بئر سبع:

لما شاهد الأهالي تتابع هجمات كتيبة الإخوان على مستعمرات العدو في هذه المنطقة تحمسوا وقرروا التعاون مع أفرادها، فأسر الشيخ سلامة بن سعيد من أثرياء المدينة إلى قائد الكتيبة بأخبار عن تحرك العدو في طريق مجهولة، ويمكن لقناصة الإخوان اقتناصه، وعلى الفور أمر الأخ محمود عبده قائد الكتيبة تجهيز سرية من سبعة أشخاص بقيادة الأخ علي صديق، يكونون جميعًا من أمهر الكفاءات القتالية مع تجهيز الألغام الكهربائية اللازمة لنسف الجسر الذي تمر فوقه مصفحات العدو.

وفي المساء تحرك علي صديق ومعه أفراد الكمين في سيارة وحملوا كل لوازمهم من ذخيرة وألغام مضادة للمصفحات وجهاز لاسلكي ومواد تموينية جافة تكفي لمدة ثلاثة أيام، ولبس أفراد السرية ملابس بدوية حتى وصلوا إلى الطريق الإسفلتي، ثم وضعوا أمتعتهم فوق ظهر الجمال حتى يظنهم الرائي من البدو الرُّحَّل، وقادهم دليل من اختيار الحاج سلامة وهم في طريقهم إلى المستعمرة يسترهم ظلام الليل البهيم.

ثم حطت السرية رحالها وسط واد عميق بالقرب من الطريق المسفلت الذي يربط المستعمرات بعضها ببعض، والذي سيكون أرضًا للمعركة، وتسلل بعض أفرادها إلى الكوبري الذي تعبر فوقه المصفحات، فوضعوا الألغام فوق قواعده الرئيسية، ثم حفروا الخنادق بسرعة لبقية أفراد المجموعة في المواجهة الكبرى، مع العمل على توفير الحماية لظهور المهاجمين وقد تم توزيع الذخيرة والتموين والزمزمية مملوءة بالماء بما يكفي كل خندق ثلاثة أيام، وجلس قائد السرية الأخ علي صديق ومعه بطارية التفجير يومين على هذا الحال وقد أمر جنوده أن لا يظهروا إطلاقًا وأن يصلوا متيممين داخل الخنادق حتى يظهر العدو وتبدأ المعركة.

وقبل ظهر اليوم الثالث وكان يوم جمعة ظهرت القافلة في الطريق فأصدر الأخ علي صديق أمره بعدم إطلاق النار إلا بعد أن يتم نسف الكوبري محافظة على الذخيرة، حيث إن المعركة في أرض العدو وسوف تتوالى نجداته من المستعمرات المجاورة.

وما إن وصلت المصفحة التي تتسع لأكثر من سبعين من العساكر اليهود إلى الهدف حتى أدار على المفجر الكهربائي، فارتفع صوت انفجار هائل زلزل المنطقة وتصاعدت منه الأتربة وكأنها تصعد من بركان، وما إن انقشع التراب حتى ظهرت المصفحة وقد هوت وسط هذا الوادي السحيق، وفي الحال ألقى الإخوان المكلفون بضب الناقبل، قنابل شديدة الانفجار على المصفحة حتى لا ينجو من ركابها أحد، ثم تلى ذلك نيران مدافع سريعة الطلقات من الشهيد علي صبري.

وقد سر قائد الكتيبة فور إبلاغه لاسلكيا يبدأ المعركة وأرسل فرقة لضربه إحدى المستعمرات لتعطيل خروج أي نجدات منها، أما المستعمرة الثانية فقد أخرجت نجدة إلى أرض المعركة وبدأت في نقل القتلى والجرحى في عربات نقل تحت وابل من نيران الإخوان وهم في خنادقهم لا يراهم أحد، وقد وقع في هذه النجدة العديد من الإصابات.

ثم انسحب الإخوان عندما رأوا عربة جنود تحاول تطويقهم، وشاءت إرادة الله أن تصل فرقة من إخوان بئر سبع بمجرد رؤيتهم لهذه السيارة حاملة الجنود أسرعوا في إطلاق النار عليها فولت هاربة إلى داخل المستعمرة ولم يجرؤ أحد من اليهود على الخروج.

ثم قام الإخوان بجمع السلاح المتخلف عن الأعداء، وقضوا ليلة في حراسة المصفحة التي لم تصب من الضربة لمتانتها حتى حضر الأخ محمود عبده في الصباح ومعه جرار كبير استطاع أن يرفعها لتقف على عجلاتها، ثم تمت قيادتها إلى بئر سبع وسط فرح الأهالي وتكبيرهم.

وقد أذاع راديو الهاجاناه نعيا لهذه المصفحة وجنودها فقد كانت أكبر وأقوى مصفحاتهم على الإطلاق.

ولم يخسر الإخوان إلا شهيدًا واحدًا في المعركة هو الأخ علي صبري الذي دفن في بئر سبع في مشهد رهيب جمع العسكريين والمدنيين.

تحرك الكتيبة من بئر سبع إلى بيت لحم:

في اليوم التالي تحركت الكتيبة من بئر سبع مارة بالخليل حيث كان يعسكر عدد كبير من إخوان الإسكندرية منهم الشهيد يوسف عفيفي الذي استشهد فيما بعد في بئر سبع، ثم واصلت الكتيبة سيرها إلى بيت لحم، حيث عسكرت بجوار مقر قيادة الشهيد أحمد عبد العزيز، وهناك ضربت المدفعية القدس الجديدة ضربًا متواصلا بينما الأخ المجاهد يرتل آيات من كتاب الله في صوت رخيم ويردد معها الله أكبر الله أكبر، ضربت خيبر.

تحرك الكتيبة إلى صور باهر:

في 26 يونيو سنة 1948م تحركت كتيبة الإخوان إلى صور باهر، حيث قرر القائد تحصين المدينة فأعد مشروع دفاع عنها وأسهم الإخوان مع الأهالي في تنفيذه، وكان من بينهم الأخ مالك نار، فأنجزوا حفر الخنادق وإتمام التحصينات في سرعة ملحوظة وبنجاح كبير، ثم عسكر الإخوان في مدرسة صور باهر في انتظار عمل كبير.

احتلال العسلوج

سبق أن جاء على لسان اللواء أحمد علي المواو بك في شهادته أمام المحكمة في قضية السيارة الجيب عن احتلال الإخوان لبلدة العسلوج النص الآتي:

«العسلوج هذه بلد تقع على الطريق الشرقي، استولى عليها اليهود أول يوم في الهدنة، ولهذه البلدة أهمية كبيرة جدًا بالنسبة لخطوط المواصلات، وكانت رئاسة الجيش تهتم كل الاهتمام باسترجاع هذا البلد حتى أن رئيس هيئة أركان الحرب أرسل لي إشارة هامة يقول فيها: لا بد من استرجاع هذه البلدة بالهجوم عليها من كلا الطرفين من الجانبين، فكلفت المرحوم أحمد عبد العزيز بك بإرسال قوة من الشرق من المتطوعين وكانت صغيرة بقيادة ملازم، وأرسلت قوة كبيرة من الغرب تعاونها جميع الأسلحة، ولكن القوة الصغيرة هي التي تمكنت من دخول القرية والاستيلاء عليها».

ويفصل لنا الأخ يحيى عبد الحليم قائد السرية التي احتلت العسلوج وقائع هذه المعركة في سلسلة الله أكبر الصادرة عن دار الأنصار بالقاهرة تحت عنوان «بطولات إسلامية معاصرة» - من الانتصارات الباهرة لكتائب الإخوان المسلمين في فلسطين سنة 1948 فيقول: «كانت قوات قائد القوات الخفيفة البكباشي أحمد عبد العزيز كلها من متطوعي الإخوان المسلمين، وقد كلفت هذه القوة باحتلال الخط -عسلوج- بئر سبع الخليل لحماية ميمنة الجيش المصري المتمركز على المنطقة الساحلية على الخط -رفح- غزة- أسدود غرب فلسطين ولحماية النقب ومحاصرة اليهود وطردهم من جنوب فلسطين- ولما كانت القوة قليلة العد لا تستطيع حماية هذا الخط الطويل، اضطر القائد أن يترك فصائل صغيرة لحماية القرى المتحكمة في هذا الطريق.. ومن أهمها قرية (عسلوج) التي كانت تشرف على الطريق الرئيسي المرصوف وكان يقوم على قيادة الخط العوجة -عسلوج- الأخ اليوزباشي عبد المنعم عبد الرءوف.

وقد ترك الأخ عبد المنعم عبد الرءوف معظم قواته بالعوجة لأنها كانت مركز تموين القوات الخفيفة، وترك قوة صغيرة بقرية العسلوج بقيادة الأخ الشهيد عبد الوهاب البتانوني ومعه جنديان هما الشهيد رشاد محمد زكي، والشهيد محمد حامد ماهر.

وفي أول أيام الهدنة انتهز اليهود فرصة اطمئنان المقاتلين بإعلان الهدنة من ناحية، وقلة عدد جماعة العصلوج من ناحية أخرى، فقرروا الغدر بهم واحتلال العسلوج، وكان الأخوة الثلاثة في مخزن الذخيرة حين دخل اليهود القرية دون مقاومة لاحتلالها، ولما انتبهت حماية القرية وكان ثلاثتهم داخل مخزن الذخيرة إلى دخول اليهود، قرروا أن لا يمكنوهم من اغتنام أسلحتهم وذخائرهم الموجودة بالمخزن، ولو كان ذلك على حساب تقديم أنفسهم شهداء، فاختبئوا خلف كومة من صناديق الذخيرة حتى امتلأ المخزن بجنود العدو المزهو بالنصر، وأشعل الشهداء الثلاثة النار في صناديق المفرقعات في لحظة واحدة فانفجرت انفجارًا هائلاً أحال المخزن إلى كومة من الأنقاض قتل تحتها أغلبية القوة المهاجمة من اليهود، واستشهد الأبطال الثلاثة ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 170].

وقد حاول اليهود التمركز في القرية بعد هذه الكارثة المدمرة التي لحقتهم، فانشأوا مواقع دفاعية فوق المرتفعات المواجهة للقرية وأحاطوها بأسلاك شائكة وبنوا بها عددًا من الدشم حتى صارت موقعًا حصينا لهم فأصبحوا متحكمين مسيطرين على الطريق الرئيسي العوجة- بئر سبع.

ولأهمية موقع القرية وتحكمها في الطريق وقربها من الحدود المصرية -طلب رئيس هيئة أركان حرب الجيش المصري من القائد العام ضرورة استردادها من اليهود بأي ثمن، وأرسل مساعد مدير العمليات الحربية إلى فلسطين لهذه المهمة، فصدرت الأوامر إلى كتيبة من الجيش المصري بأسلحتها المساعدة مع سرب من سلاح الطيران المصري في 17/ 7/ 1948 لتتحرك لمهاجمة عسلوج والاستيلاء عليها، وأخذ سلاح الطيران في ضرب موقع العدو ثم تلاه سلاح المدفعية، ولما جاء دور المشاة تعذر عليها دخولها.

استنجدت القيادة العامة بقوات المتطوعين، واتصلت بالمرحوم أحمد عبد العزيز لإرسال قوة تقتحم القرية، وتمهد لقوات الجيش احتلالها، واتصل هو بدوره بقائد الإخوان المسلمين الأخ اليوزباشي محمود عبده بموقع «صور باهر» على مشارف القدس.

وقد كلف الأخ اليوزباشي محمود عبده الأخ يحيى عبد الحليم باختيار فصيلة للقيام بهذه المهمة فاختار عشرين أخًا.

وكانت مهمة الاختيار عسيرة وصعبة فالكل والحمد لله على روح متساوية في الإيمان والجميع يبغي الشهادة والجميع يتمثل بقول القائل:

ركضًا إلى الله بغير زاد

إلا التقى وعمل الميعاد

والصبر على الله في الجهاد

وكل زاد عرضة للنفاد

غير التقى والبر والإرشاد

وهكذا وبمجرد أن شعر الإخوان أن هناك مهمة فدائية حتى تسابق وتدافع الجميع واقتحموا مكتب قائد القوة وكل منهم يريد أن ينال شرف الشهادة ويحصل على إحدى الحسنيين، وكان على رأس هؤلاء المطالبين بإلحاح في الاشتراك في هذه العملية الأخ شرف الدين قاسم من إخوان بورسعيد، فدخل مكتب القائد وصرخ بأعلى صوته أنت تحابي وتختار للشهادة غيري!!!.

وما كان القائد ليحكم العاطفة في هذا الموقف وأمره بالعودة إلى مكانه وذكره بحديث رسول الله (ص): «عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» فعاد الأخ شرف ليكون عينًا ساهرة في سبيل الله حقًا، ولكن بدموع باكية.

قدمت الفصيلة المجاهدة نفسها يوم 17/7/ 1948 إلى الصاغ حسن فهمي عبد المجيد والملازم خالد فوزي من ضباط الجيش المصري، وقد تطوع الضابطان معها للقيام بهذه المهمة.

ولكن ما إن وصل إلى علم قيادة مدفعية بيت لحم أن قوات الجيش التي كلفت بالاستيلاء على عسلوج قد أحرزت بعض التقدم حتى أصدرت لها الأمر بالعودة إلى مواقعها في «صور باهر» وما كادت تصل إلى الموقع حتى جاءت إشارة عاجلة من القائد أحمد عبد العزيز يستدعيها للقائه، ذلك لأن قوات الجيش تعذر عليها اقتحام القرية.

وعندما التقى الأخ يحيى عبد الحليم بالقائد أحمد عبد العزيز حدثه باهتمام شديد وجاد وشرح له دقائق العملية بالتفصيل، وكان اللقاء مملوءًا بالحماسة والإيمان وكان توجيه القائد أحمد عبد العزيز مملوءًا بالصدق والإخلاص والنصائح القيمة المفيدة والتشجيع بالكلام الطيب مع التوصية بالثبات عند اللقاء وأن النصر مع الصبر.

ركبت الفصيلة السيارات وكلمات القائد تملأ السمع والفؤاد، وانضم إليها الدكتور محمد غراب طبيبب القوة المخلص التقي الطاهر «أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحد».

ولقد تفاءل قائد الفصيلة بوجوده، وبدأ تحركها ليلا، حتى وصلت أرض العسلوج وكانت أرضًا مسطحة مكشوفة ليس بها سواتر، بينما كان العدو مستترًا في دشمة المحصنة، وكان يغطي أرض المعركة التي بينه وبين الأخوة المهاجمين بالنيران المكثفة، وكان على هذه القوة أن تضع خطة سريعة خاطفة لتخطي هذه العقبات دون خسائر.

فقررت التقدم السريع في قفزات سريعة متعرجة، وانبطاح حتى نقترب من الدشم.

اجتمع الأخ يحيى عبد الحليم بأفراد الفصيلة ووزع على كل منهم دوره بدقة، وأفهمه البدائل حين تكون مفاجآت غير منتظرة، والحيز الذي يجب أن يتصرف الأخ فيه حين ينقطع الاتصال بينه وبين قائده القريب.

وظهر بوضوح في هذه الجلسة القصيرة مدى الترابط المتين بين أفراد هذه القوة ودرجة الحب العالية التي تربط بين الأخوة، وحرص الجميع على السمع والطاعة المبصرة، فجاءت الثواني الأولى من المعركة والكل بحمد الله على درجة عالية من الثقة بالله والاتصال به والتوكل عليه.

تكونت المجموعة المتقدمة من يحيى عبد الحليم، وعبد الكريم السيد، وإسماعيل عبد النبي وهذه مجموعة القلب.

كما كانت هناك مجموعة في الميمنة ومجموعة في الميسرة ومجموعة تعزيز من الخلف تتابع التقدم وتراقب بدقة المجموعات الأمامية.

وبعد دقائق بدأت مدفعية الفصيلة تدك مواقع العدو ودشمه، وواصلت الضرب، وتوالى نزول الدانات على الموقع وسكتت المدافع فكان سكوتها هو كلمة السر لبدء الهجوم.

تقدمت مجموعة القلب في سرعة مذهلة وكأنها تتقدم على أجنحة الملائكة، ولسان حالها يقول: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [اطه: 84].

وكان الشعور مرهفًا والحواس يقظة حذرة، فرصاص العدو يتساقط على المهاجمين كالمطر وهم يوجهون قلوبهم إلى الله القائل: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126]. ويجدون في التقدم السريع حتى تسللوا إلى القرية زحفًا لمقابلة الذين كفروا تحت وابل من النيران ودانات مدافع الهاون التي تتساقط بجوارهم.

وما إن اقتربت مجموعة القلب من العدو بحيث لا تؤثر نيرانه عليها إذا بالأخ محمد إسماعيل عبد النبي يهاجم على الموقع، بينما يقف الأخ يحيى عبد الحليم والأخ عبد الكريم السيد يراقبان الموقف حتى أنهى الأخ عبد النبي تطهير الموقع ودخل الجميع الدشمة فوجدوا فيها ثلاث جثث لليهود.

ومن هذه الدشمة التي اعتبرت نقطة تقدم تقدمت باقي المجموعات وتم بحمد الله استرداد قرية العسلوج في سرعة خاطفة حيث فر اليهود منها تاركين وراءهم سيارات ومعدات وأسلحة كثيرة وعددًا كبيرًا من صناديق الذخيرة، واحتموا وتحصنوا بالتبة المشرفة على الطريق الرئيسي في انتظار وصول قوة كبيرة يبدأون بها استعادة القرية وإجلاء المتطوعين.

أما المتطوعون فقد كان تفكيرهم منصب على القضاء على الدشمة التي لا تزال تواصل ضرب النار، فقررت مجموعة القلب الهجوم عليها مجتازة مساحة تزيد على خمسمائة مترًا من أرض مكشوفة مغمورة بالنيران المكثفة، ويكون وراءها طقم مدفع 6 رطل يضرب بصفة مستمرة أثناء تقدم المجموعات.

وقد أحدث نزول الدانات على الموقع ارتباكًا وذعرًا في نفوس العدو وخصوصًا وهم يشعرون أنه لم يبق غير هذه الدشمة من دشمهم، التي أسكتت جميعًا، بينما ازدادت القوة المهاجمة جراءة وجسارة وعزمًا ثابتًا على بلوغ الهدف.

واصلت مجموعات الهجوم التقدم تتقدمهم مجموعة القلب وقطعوا نصف المسافة أو يزيد في قفزات سريعة وزحف مستمر، برغم وابل الرصاص المنطلق من الرشاشات السريعة الطلقات حتى إذا كان بين مجموعة القلب وبين العدو حوالي سبعين مترًا وتوقفت نيران مدفعية الهجوم وسكنت أيضا نيران العدو وتقدم الأخ إسماعيل عبد النبي، ولكن ما إن تحرك حتى انطلقت في اتجاهه دفعة هائلة من الطلقات المتتابعة فأشار إليه يحيى أن يتوقف تمامًا كما أشار أيضًا إلى عبد الكريم بالسكون التام وعدم الحركة، وبعد هنيهة تقدم يحيى إلى الأمام في سرعة فائقة وصمت تام، وإذا بالنيران تفتح بغزارة وبسرعة نحوه فيصيب إحداها ساقه اليسرى مخترقة عظمة الركبة من الأمام، نافذة من عظمه الساق وعظمة الفخذ، أعجزته عن مواصلة التقدم فأشار إلى إسماعيل عبد النبي بأن ذخيرة اليهود قد نفذت وآخرها هو ما أصابه، ولابد من الهجوم والاقتحام في حذر شديد وجراءة فائقة وجسارة لا تعرف التردد، فتقدم الأخ إسماعيل ومعه الأخ عبد الكريم ومن وراءهم مجموعة الميمنة وظلت مجموعة الميسرى تترقب، حتى إذا أصبح إسماعيل أمام الدشمة قفز عليها وانتظره عبد الكريم بالخارج، حتى ناداه إسماعيل فقاما بتطهير الدشمة والقضاء على المقاومة الأخيرة، وقتل جميع من بقى فيها، ثم تابعوا الفارين بالطلقات النارية وتم تأمين الاستيلاء على القرية.

وعندما حمل المجاهدون قائدهم المصاب في ساقه على نقاله تحققت آية مذهلة من آيات رعاية الله للصادقين، فقد هاجمتهم طائرات إسرائيلية انخفضت إلى ارتفاع قريب وكانت ثلاث طائرات، توالى إطلاق النار من مدفعيتها السريعة الطلقات تجاه النقالة، فأسرع حملة النقالة بالاختباء في مخبأ قريب ولم يصب أحد منهم بسوء، أما النقالة فقد اخترق الرصاص المنصب عليها وكأنه منصب من أفواه القرب معظم قماشها، ولكن المصاب الراقد فوقها لم يصبه سوء، وكأن أيدي الملائكة كانت تدفع الرصاص المتساقط ليتحول بعيدًا عن الجسد الجريح إلى الحواف في إعجاز مذهل.

وقد تمكن الأخوة المسيطرون على باقي الدشم المحتلة من إطلاق مدافعهم الرشاشة في اتجاه الطائرات الثلاث ووالوا الضرب حتى فرت جميعًا واكتمل النصر ودوى في الفضاء آذان المؤذن الأخ مصطفى المبلط الذي اعتلى المأذنه وأشرقت القلوب بسماع صوته يجلجل الله أكبر الله أكبر، وكان هذا الأذان إيذانًا لقوات الجيش المصري بالاندفاع إلى القرية مهللين ومكبرين وهتفت الجموع كلها في بشر وسرور الله أكبر سقطت عسلوج.

وقام قواد الفصائل من الجيش بتنظيم حراسة شديدة خشية المفاجأة فوضعوا في كل دشمة وكل موقع قوة كبيرة، وأحاطوا القرية بعيون حارسة وبقلوب مؤمنة، وفي الجانب الآخر كان هم جنود العدو الهرب حفاظًا على الحياة وطلبًا للنجاة حيث أصيبوا بحالة ذعر فكانوا ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر: 50، 51].

وقفة لازمة عقب هذا الوصف الواقعي للمعركة:

1- لقد شاهدنا ثلاثة رجال من المسلمين تفاجئهم قوة الأعداء داخل مخزن ذخيرتهم الأمر الذي يجعل المقاومة مستحيلة، ومع ذلك لا يرتضون الاستسلام للعدو ويصممون على أن يضحوا بأنفسهم في سبيل إلحاق خسارة فادحة بالعدو، فينسفون المعسكر بما فيه، ليقضوا على كل قوة العدو دفعة واحدة، ولا يسمحوا له بغنيمة جزء من مال المسلمين وحسبهم أنهم في الجنة وعدوهم في النار.

إن التفكير في هذه الحقيقة التاريخية لجدير أن يجسد مدى التغيير الذي تضفيه العقيدة الإسلامية على المسلم عملا لا قولا.

إننا عندما كنا نقرأ عن الفرق الانتحارية اليابانية ونحن صغار، كنا نعجب أشد العجب من هذا الجندي الياباني الذي يتطوع لقيادة طوربيد متفجر في عرض البحر ليصطدم بسفينة من السفن الأمريكية فيغرقها بمن فيها ويغرق معها، وكنا نعتبر مثل هذه الروح الفدائية خرافة لا يقدر عليها إلا اليابانيون، لاعتقادهم أن أرواحهم تنسخ في أجساد أخرى، وتترقى إلى درجات أعلى بعد أن تعود إلى الحياة في الأجساد الجديدة.

وها نحن نعيش حتى نرى المسلمين الذي تمكنت العقيدة في نفوسهم، وتأكدوا من صدق ربهم الذي وعد الشهداء بالجنة، فصار الموت أحب لهم من الحياة، وقد يكون انتصار فرد واحد على دواعي الضعف البشري، فيقدم على تفجير نفسه مع أعدائه راكضًا إلى الجنة وهم إلى النار، أمرًا مشهودًا، أما أن يتفق ثلاثة في وقت واحد ولا يختلفون، ويشعلون المتفجرات بأيديهم في لحظة واحدة لينفجروا ويفجروا أعداءهم، فذلك لا يمكن أن يتأتى إلا لمن يرى الجنة رأى العين فيعبر الدنيا سعيدًا بدخول الجنة دون تردد أو وجل.

2- إن عشرين رجلا من المؤمنين قد أنجزوا عملا عجزت كتيبة بأسرها ومعها مساعد مدير العمليات بالجيش المصري أن تعمله، على الرغم من مساعدة أسلحة الطيران والمدفعية.

وإن المتفكر في هذه الظاهرة ليدرك أن التمسك بالعقيدة الإسلامية علمًا وعملا، وتنشئة الأمة على مبادئها، هو الضمان الأكيد للبقاء على كيان الأمة وعزها ومجدها، وأن كل ما عدا ذلك هزل لا خير فيه.

وأن ما قرأنا عن الفتوحات الإسلامية التي قام بها جند من وسط الصحراء ضعاف البنية، قليلو العدة، أمام أباطرة الفرس والرومان، ليست قاصرة على ذلك العهد الذي اقتصرت فيه الحروب على الفرس بالسيف، ولكنها سنة ماضية في كل زمان ومكان، فنحن نرى أثنى عشر رجلا يتقدمون في أرض منبسطة وسط سيل النيران المنهمر ليحتلوا موقعًا محصنًا بالدشم ومزودا بأفتك الأسلحة وأمضاها، ويحققون في هذا الزمان المعجزة التي حققها آباؤهم، بل أكبر وما من جديد إلا أنهم شربوا كأس الإيمان صافيًا راقراقًا، كما شربه أجدادهم، فصاروا فرسانًا بالليل ورهبانًا بالنهار، وجرت الحكمة على أفواههم، فصاروا عباقرة الفلسفة في الحكم والعدل والسياسة والسلم والحرب، تتلمذ عليهم الأجيال إلى اليوم.

3- إن الجريح المسلم وقد اخترق الرصاص ساقه وفخذه مارًا بالركبة لم يتخلف، بل استمر يقود المعركة حتى انتصر، رغم إصابته، ولا غرو، فقد جعل قدوته خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجراح، والمثنى بن حارثة، وسعد ابن أبي وقاص، وغيرهم من قادة المسلمين وجنودهم البواسل.

وما عبور الفرات بالخيل لمواجهة العدو ثم مهاجمة الفيل بالسيف إلا نوع من أنواع الفداء الذي يقترب مما نراه اليوم من هجوم على النيران المشتعلة والدشم الحصينة دون تردد أو خوف، بل باندفاع وإصرار.

4- إن النصر بيد الله ومن الله، وإن المسلمين لا يكلفون إلا بإعداد ما يستطيعون من عدة ثم عليهم أن يواجهوا بها أعداءهم مهما أوتوا من قوة وما داموا يتسلحون بالإيمان العميق واثقين بأنهم لن ينالوا إلا إحدى الحسنيين النصر أو الجنة فسوف ينصرهم الله أو يدخلهم الجنة.

وها قد رأينا جريحًا على نقالة مستهدفًا من ثلاث طائرات برشاشاتها ليس معه إلا الله، فقد اختفى إخوانه في جحور للحماية من وابل الرشاشات السريعة الطلقات المنهالة على موقع الجريح كالمطر، ولكن جند الله الذين لا نراهم بالأعين أبعدوا كل هذا الرصاص عن جثمان الجريح، فلم يصب بأذى بينما تهتك قماش النقالة من حوله في كل أجزائه، فلم يبق فيه مكان لثقب جديد.

درس عملي لرجال الأمة الإسلامية وقادتها ليعلموا كم هي الخسارة التي تفقدها الأمة بالبعد عن اتخاذ الإسلام الحنيف شرعة ومنهاجًا، إنهم لا يخسرون الدنيا فقط، بل يخسرون أيضًا يد الله الحانية على عباده المخلصين.

احتلال التبة 86

لقد جاء ذكر احتلال التبة 86 في شهادة اللواء أحمد فؤاد صادق باشا الذي خلف اللواءأحمد علي المواوي في قيادة حملة فلسطين، أمام المحكمة في قضية السيارة الجيب حيث قال سعادته بالنص واصفًا الأعمال البطولية للإخوان المسلمين أمام المحكمة:

«نعم سمعت بعد وصولي لرئاسة القوات من قلم المخابرات العسكرية أن اليهود يبحثون دائما عن مواقع الإخوان لتجنبوها في هجومهم، فجثت عن حالتهم الفنية، وأمرت بتمرينهم أسوة بالجنود ودخلوا مدارس التدريب، وأصبح يمكن الاعتماد عليهم في كثير من الأحوال التي تستدعي بطولة خاصة، مثلا أرسلتهم من دير البلح إلى ما يقرب من 100 كيلو إلى الجنوب لملاقاة الهجوم الإسرائيلي على العريش فاستبسلوا وأدوا واجبهم تمامًا- واشتركوا أيضا في الدفاع عن الموقع 86 في دير البلح وأعطيتهم واجبًا من الواجبات الخطيرة، فكانوا في كل مرة يقومون بأعمالهم ببطولة استحقوا من أجلها أن أكتب لرياسة مصر أطلب لهم مكافأة بنياشين».

لا تدهش أيها القارئ العزيز وأنت تسمع القائد العام لحملة فلسطين بعد أن أقسم اليمين وهو يشهد في المحكمة التي تحاكم الإخوان المسلمين باسم الدولة التي نصبته قائدًا عامًا للجيش وهو يقول في ثلاثة أسطر إن:

1- الإخوان كلفوا من قبله لملاقاة الهجوم الإسرائيلي على العريش، فتحركوا إلى أرض المعركة التي تبعد عنهم مائة كيلو واستبسلوا وأدوا واجبهم تماما.

2- إنهم اشتركوا في الدفاع عن الموقع 86 في دير البلح.

3- إنهم كانوا في كل مرة يعطيهم واجبًا من الواجبات الخطيرة يقومون بأعمالهم ببطولة استحقوا من أجلها أن يكتب لرياسة مصر يطلب لهم مكافأة بنياشين، وإني أدعوك لتسمع رواية القائد التفصيلية لاشتراك الإخوان في احتلال الموقع 86 في منطقة دير البلح، كما جاءت على لسانه متحدثًا إلى سماحة مفتي فلسطين الذي كلف الكاتب الفلسطيني محمد علي قطب تنشرها ضمن سلسلة الله أكبر «بطولات معاصرة» التي تنشرها دار الأنصار تحت عنوان «التبة 86- الصاغ محمود عبده وإخوانه- قمة في الفدائية- قمة في التجرد والعطاء» قال اللواء فؤاد صادق باشا: تسلمت قيادة الجبهة والجيش المصري في أسوأ حالاته الدفاعية، من حيث خطوط المواجهة الممزقة، ومن حيث إمكانيات السلاح الضعيفة والذخيرة الفاسدة، ومن حيث حصار بعض شراذمة في «الفالوجة» وغيرها.

ولقد حملت عبئا ووزرًا، عبئا ثقيلا تنوء به الجبال الرواسي، ووزرًا شائنا يصبح وصمة في تاريخ حياتي العسكرية.

وكان عليَّ أن أحلل مع أركان حربي كل الموقف وأدرس كل الاحتمالات، فأغير من الخطة وفق ما يتناسب مع قدراتي العددية، ووفق ما تتطلبه المفاجآت التي تحدث بين ساعة وساعة، ولقد قضيت ليلتين متواصلتين مع أعواني وإخواني من الضباط ندرس الموقف بدقة متناهية فلا نغادر جزئية ولو بسيطة حتى نشبعها بحثًا وتمحيصًا، وبناء على ما حصلنا عليه من نتائج وضعنا الخطة الجديدة ووسائل العمل والتنفيذ، وحددنا تواريخ البدء.

هجوم يهودي مفاجئ واحتلالهم للتبة 86:

وعند الساعة الثانية ليلا من فجر أحد الأيام دوى انفجار شديد، تبعثه أصوات القذائف والرشاشات، وكنت لا أزال مستيقظًا في خيتمي، مستلقيًا على سريري لا يعرف النوم سبيله إلى جفني، فقمت من فراشي مسرعًا، وما إن بلغت وسط الخيمة حتى دخل أحد الضباط يخبرني بأن هجوما تشنه العصابات الصهيونية على أحد مواقعنا.

فخرجت مهرولا وأعطيت أوامري بالتأهب والمواجهة، وحاولنا الاتصال بالموقع فلم نفلح، كما حاولنا إرسال مدد فارتد على أعقابه لشدة المقاومة وكثافة النيران.

ثم أعطيت أوامر جديدة بتعزيز دفاعاتنا خشية أن نكون هدفا ثانيا، كما درست مع أركان حربي وضع خطة هجوم معاكس.

ولبثنا ننتظر ما تسفر عنه الساعات القادمة من أحداث.

وبعد أربع ساعات من دوي المدافع وانفجار القذائف وأزيز الرصاص، خفت الأصوات تدريجيًا وبدأت طلائع الجرحى القادمين من القادرين على الهرب رغم جروحهم تصل إلينا، فبادرناها بالإسعافات الممكنة، نقلنا أصحاب الإصابات الشديدة إلى مستشفى الميدان وتلقينا نبأ سقوط الموقع بألم ومرارة وخيبة أمل.

ولم يكن بد من استرجاع الموقع.. مهما كان الثمن ومهما كانت التضحيات لأسباب أهمها:

(1) القيمة الإستراتيجية لذلك الموقع إذ يقع على مرتفع عال يعرف بالتبة 86، ويتوسط خطوط مواصلاتنا التي نعتمد عليها في تحركاتنا وإمدادتنا.

(2) ولأنني لن أسمح شخصيًا -للمتآمرين هناك في القاهرة- أن يجعلوا من شباب مصر البررة ثمنًا بخسًا لخياناتهم، أو أن يتاجروا بأرواحهم على مذبح شهواتهم ومطامعهم، أو أن أكون مع إخواني ضباط الجيش، صاحب المجد التاريخي، أضحوكة أو ألعوبة أو ملهاة.

أول ومحاولة لاسترداد التبة بقوات الجيش المصري وفشلها بسبب الأسلحة الفاسدة:

اجتمعت بأركان حربي، ودرست معهم طبيعة الموقع، التبة (86)، ومنافذها الضعيفة، وعدد الجنود اللازم، والآليات، وكل ما يمكن أن يحقق الهدف، وأزمعت أمري أن يكون التنفيذ أي ساعة الصفر، منتصف الليلة التالية، حيث يفاجأ العدو ولا يزال في نشوة النصر، منصرفا لأخذ قسط من الراحة، وحيث لا يزال ضعيف التحصينات لم يتمركز بعد، وعهدت إلى أكفأ ضباطي بتنفيذ العملية.

ومع انطباق عقربي الساعة على الثانية عشر ليلا كانت فوهات المدافع تنطلق قريبًا أو تنفجر في الهواء، أو تفجر المدفع وطاقمه، وتتبعثر الأشلاء من حوله، وتصعد الأرواح الطاهرة إلى باريها شاكية غدر الغادرين، وعبث اللاهين، وتفاهة الخائنين.

وردت العصابات الصهيونية بنيران غزيرة محكمة التصويب، فأوقعت في صفوف جنودي إصابات متعددة وبالغة، وامتلأ الميدان بالجثث، ولولا أن الله سبحانه وتعالى ألهم قائد العملية بالانسحاب لأبيدت الفرقة المهاجمة عن بكرة أبيها دون أن تحقق ولو جزءًا يسيرًا من مهمتها.

عادت الفرقة محطمة مهشمة، فروى لي الضابط الجريح ما لقيه مع إخوانه الجنود من عنت ومشقة، وحكى لي التفاصيل، فتألمت وأسقط في يدي، ورحت أدور في الخيمة الكبيرة بين أسرة الجرحى مواسيًا ومخففًا عنهم ما أصابهم، مشددًا من عزائمهم.

ثم خلوت إلى نفسي في خيمة القيادة أ

زرع أرضها بخطوات متثاقلة تارة، أو أجلس متهالكا على كرسي المكتب ذو الإضاءة الخفيفة، سارحا بفكري وخيالي نحو أرض الوطن، متصورًا مفاسد الفاسدين، وعبث العابثين، وسخرية الساخرين، واستهتار المسئولين، أتصورهم في لهوهم وفجورهم، وصفقات خياناتهم، وأقارن بين هذا الفساد وبين ما نحن فيه من مكابدة للشدائد ومقارعة للموت، ثم أهب واقفًا مذعورًا كمن لدغته عقرب.

ومع الهزيع الأخير من الليل الطويل، ليل الألم والمرارة واليأس، انتفضت في كياني عزيمة الجندي المصري الأبي، فقررت أن أنتصر مهما كان الثمن، انتصر على الخيانة، وأنتصر على اليأس وانتصر على العدو.

وطلبت إلى الجندي الحارس على باب الخيمة أن يأتيني فورا بالضابط «أحمد» وعلى جناح السرعة.

كان هذا الضابط يتمتع بكفاءات عالية وميزات خاصة، فيه الإقدام والشجاعة والخبرة القتالية الواسعة، مغامرًا ذكيًا حذرًا.

وما هي إلا لحظات حتى كان الضابط أمامي يقرع الأرض بقدميه ويؤدي التحية العسكرية، قامة مديدة.. وعينان حادتان كعيني الصقر، تشعان بالعزيمة والسحر النفاذ.

وضعت يدي على كتفه، ثم تأبطت ذراعه، ورحنا نمشي في أرض الخيمة، وحدثته حديث القلب المفتوح، وبحت له بكل ما يخالج نفسي عن الوطن.. وعن القيادة السياسية الفاسدة، وعن الجيش، كنت أتكلم وهو صامت لا يحير جوابًا غير الجواب المألوف (تمام يا فندم)، يقولها وصرير أسنانه يسبق ألفاظه، وأخيرًا، وبعد أن شحنت نفسه وقلبه بما أفرغته من ذاتي وكياني ولم يكن بحاجة إلى ذلك، طلبت إليه أن يقوم بإعادة الهجوم على التبة (86) لاستعادة الموقع.

مبينًا له الأهمية القصوى والحاجة الماسة.

وقلت ذراعه من ذراعي، والتفت إلي وهو في مقابلتي مؤديا التحية، ثم قال -حاضر يا فندم.. ولكن لي رجاء.. فقلت وما هو؟

أن تمهلني اليوم لأجري اختبارا على ما بين يدي من عتاد وسلاح وذخيرة ومدى صلاحيتها كي لا ترتد على جنودي بالقتل والدمار، ثم انصرف إلى إعداد الخطة اللازمة، ثم أعرضها على سيادتكم.

قلت: لقد سبقتني يا «أحمد» إلى ما كان يجول في صدري.

إنني أريد للعملية أن تنجح ولابد للنجاح من إعداد أسبابه، وتوفر عناصره، وأن نقطة دم واحدة من جندي أغلى من كل ما على الأرض.

هيا توكل على الله وإنني بانتظارك.

كان ذلك اليوم طويلا مملا، شعرت بساعاته، متباطئة متماهلة، كنت أستحث عقارب ساعتي فلا تستجيب لي، وهي الصَّمَّاءُ الجامدة، ومع الأصيل دخل علي «أحمد» فخفق قلبي لرؤية ابتسامته المشرقة، وأشرق الأمل في نفسي بعد طول ظلام، كان يعلو ثغره طيف ابتسامة، ويظهر في محياه بريق العزم، فجلسنا حول المنضدة التي بسط فوقها لفافة كانت في يده، إنها خريطة متصلة لكل أبعاد العمل وجزئياته، إنها المهمة الأمل.. وبعد المناقشة وقفت ووقف، ثم شددت على يده مصافحًا، فأحسست بحرارة دمه الذي يفور من جسمه إلى درجة الغليان، وجرت من عيني دمعة لم أستطع مغالبتها وقلت بصوت متهدج على بركة الله.

كانت عصابات اليهود قد أقامت تحصيناتها في (التبة 86)، وتشكيلات دفاعها مستفيدة من عامل الزمن، بين احتلال الموقع والهجوم الفاشل الذي قمنا به لاستعادته.

المحاولة الثانية لاسترداد التبة بقوات الجيش المصري وفشلها لوقوع المهاجمين في كمين:

وانطلقت فرقة القائد «أحمد» الضابط المغامر المقدام لتؤدي مهمتها فودعته بيد حانية وعين رانية ونفس آملة مؤملة..

وعدت إلى خيمة العمليات، وحاولت الجلوس قريبًا من ضابط اللاسلكي، ولكني وقفت فجأة، وبدأت أزرع المكان جيئة وذهابًا، كان شعوري يتأرجح بين الثقة والقلق، ويهتز كرقاص الساعة يمنة ويسرة، أرجو النصر وأطلبه، وأخشى الفشل.

إنني أعرف «أحمد» تمام المعرفة، وأثق به كل الثقة، لكن التجربة الهجومية السابقة لا تزال ماثلة في ذهني بكل أبعادها المأساوية، وأيضا فإن الموقف مرهبون بالمفاجآت، والعدو الصهيوني غدار لئيم ماكر.. كل هذا كان يبعث القلق في نفسي.

استمر الاتصال اللاسلكي بيننا واضحا دون تشويش، حتى كان بدء الهجوم وانفجار الموقف، فغطى دوي المدافع وصوت القذائف على الوضوح، ولكنه لم ينقطع، وبعد مضي زمن يسير بدأت أنباء التقدم ونجاح الهجوم تعيد الثقة الكاملة إلى قلبي والطمأنينة إلى نفسي ويزول من خاطري شبح القلق الرهيب.

فجلست وأخذت أتابع تطورات العملية.. وفجأة تغير كل شيء.

انقطع الاتصال.. وطغى عليه صوت المعركة، وتطايرت القذائف تلهب السماء والأرض بنيرانها، سيارات الإسعاف تنقل الجرحى والقتلى.. يا للفشل الرهيب ولفظ الضابط «أحمد» أنفاسه الأخيرة بين يدي.. على سرير المستشفى الميداني، وقد تشوه وجهه،وانفصلت ذراعه اليمنى عن جسده.

لماذا فشلنا؟؟

كان هذا هو السؤال الذي ركزت عليه..فأجابني الناجون: لقد استدرجنا فوقعنا في كمين وضاع الأمل!!.

الإيمان العميق بالله يقود القائد العام إلى طريق النصر -الاعتماد على الإخوان المسلمين لأنهم على عقيدة الحق:

ولكن الأمل مع الإيمان الصادق والعزم الثابت لا يضيع: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7].

تذكرت الآية الكريمة بعد ساعات من الحزن الشديد، تذكرتها قبل صلاة الفجر مع الليلة التالية، ففي تلك الليلة لم أعرف النوم، قضيت ساعاتها الطوال في وصل النفس بالله عز وجل، وشعرت بالهدوء ينساب إلى قلبي بارقة أمل ونسمة إيمان واطمئنان.

وساقتني قدماي إلى باب الخيمة، كان الظلام دامسًا، والليل حالكًا ونظرت إلى السماء وقد غطت وجهها سحب داكنة كثيفة، وصدقني فيما أرويه لك لقد رأيت انفراجًا في الأفق وأحرنا نورانية تسطر ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾.

ومضيت خارجا من الخيمة أجوب أنحاء المعسكر، وحديثي مع نفسي هو الحديث الطاغي قالت لي: لقد أخطأتم السبيل فلم تبلغوا الهدف.

قلت: وكيف؟ قالت: إن الغاية الحقة هي النصر أو الشهادة والسبيل هو الجهاد، أو لستم مسلمين؟

قلت: بلى ولكن!!!

فقالت مقاطعة: لا تجادلني على غير طائل.. فالمسلم الحق عبر التاريخ لم ينهزم أبدًا، كلما كان في ساحة الشرف أو ميدان الحروب والمعارك موصولا بالله تعالى، فهو يستمد منه القوى والنصر، ولن يخذله ربه أبدا.

المسلم الحق كان يردد شعاره العظيم «الله أكبر» فيدوي كالرعد القاصف، فيخلع معه قلوب الأعداء هلعا ورعبًا، ألم تقرأوا تاريخكم؟؟ أم أنكم ترونه للتسلية والتغني بالأمجاد.

إن هذا التاريخ حقيقة ماثلة وليس أسطورة أو خرافة، لقد اختلطت عليكم أساطير الأولين من غير طينتكم مع ما سطره أبطالكم من أمجاد، فضعتم، ولم تعودوا تميزون بين الحقائق والأوهام، لقد أصبتم بعمى البصر والبصيرة.

لقد تنكرتم لوجودكم ومكانتكم بين الأمم، تنكرتم لإسلامكم، وأعرضتم عن ذكر ربكم وذكرتم أربابكم من دون الله.. والله تعالى يقول: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ [طه: 124- 126].

ثم قالت: اسمع يا فؤاد، واعلم أنك في امتحان عسير مع الله فإن أتيته ماشيًا بالرجاء هرول إليك بالنصر، ولا تبتغ غير ذلك سبيلا.

فقلت: حقا ما تقولين، ولكني لا أملك إلا نفسي.

فأجابت ساخرة: بل تملك نفسك وإخوانا لك ما جاءوا إلى فلسطين إلا رغبة في الله، لا طمعا بأرض أو مال أو جاه، أعرضوا عن الدنيا ابتغاء الآخرة، فماذا كان جزاؤهم؟ غدر بهم وعطلوا عن الجهاد بأمر من الاستعمار وأعوانه وزجوا في غياهب السجون والمعتقلات، هؤلاء سيشد الله بهم عضدك.

واستيقظت من حديث نفسي على طلب منها خطير.

أأفرج عن أناس مسجونين جاء الأمر بحبسهم من القاهرة؟

أأخالف أوامر السلطة؟ وأعرض نفسي للعقوبة؟ وما أدراك ما تكون؟

وماذا لو فر هؤلاء؟ وماذا لو وجهوا سلاحهم نحو صدور إخوانهم الجنود؟ أية فتنة تكون؟ وأيضا هل سيقبلون بتنفيذ المهمة؟ كلا كلا لن يكون هذا.

كنت قد بلغت أقصى طرف المعسكر حيث يوجد المعتقل الذي يضم خيرة من شباب مصر، ولا أدري حتى الساعة تفسيرًا لما كنت فيه، كيف ساقني القدر إلى ذلك المكان؟ لا أدري.

ثم قلت لنفسي وقد استبدت بي نزعة الإيمان.

- نعم أيتها النفس الكبيرة سوف أفرج عنهم ولو كان أمر اعتقالهم قد جاء من القاهرة، فهو ظلم وزور وبهتان.. نعم سأخالف أوامر السلطة فلا سلطان إلا للحق، ولن أخشى العقوبة، فعقوبة العبيد أيسر بكثير من عقاب رب العبيد، وإني لعلى ثقة كبيرة بأنهم لن يوجهوا سلاحهم نحو إخوانهم لأنهم «مسلمون» والمسلم أخو المسلم، ولن يفروا في طلب الحياة لأنهم جاءوا من أجل الموت.. ولن تكون فتنة بل سيكون النصر المؤزر بإذن الله.

وأما قبولهم بالتنفيذ فهو امتحان لشعارهم القائل: الموت في سبيل الله أسمى أمانينا.

وكنت أعرف من بين المعتقلين اليوزباشي «محمود عبده» ذلك الشاب الذي استقال من الجيش والتحق بكتائب الشباب المؤمن، وانضم إلى صفوف المتطوعين مدربًا ومجاهدًا ولقد قام على رأس مجموعته الفدائية بأعمال باهرة مجيدة، لا تزال ذرات تراب الأرض المقدسة تحتضن فصولها بحنان وشوق.

لقد كان هذا الشاب من خيرة الكفاءات التي يزخر بها جيشنا ويفخر، جيشنا الذي لم تعط له الفرصة الصادقة، أو تهيأ له أسباب الغلبة والانتصار، وإبراز الكفاءات، اللهم إلا أن يكون حارسًا للملك وأعوانه والطاغية وزبانيته، يتحكم في إدارته الكبرى والعليا «السير والبريجادير» «والميجر» وغيرهم.

ولقد عانى الضباط الوطنيون المؤمنون بربهم وبلدهم كثيرًا من جراء الفساد والتسلط والتخلص، التي كانت هي العناوين البارزة لجيشنا المسكين، فانتفضوا انتفاضات مختلفة متباينة، بعضها فردي وبعضها جماعي، لكنها جميعها في منطلقها وأغراضها كانت تعبر عن روح وطنية صادقة، لم تؤد حتى اليوم غرضها المنشود وغايتها السامية.

(محمود عبده) كان واحدًا من هؤلاء، ولكنه كان مع روحه الربانية الوثابة كفاءة قتالية قليلة النظير، وخصوصًا في حرب العصابات، فجمع المجد العسكري من طرفيه.

وكنت قد توصلت إلى قناعة تامة بأن النجاح في استعادة الموقع الاستراتيجي الهام (التبة 86) لا بد وأن يعتمد تكتيكيا على حرب العصابات، فهي التي تجدي وحدها وتنتج خصوصا بعد التجربتين الفاشلتين اللتين قمنا بهما من قبل.

ورافقني الضابط المسئول عن المعتقل إلى غرفة اليوزباشي محمود عبده، فدخلتها وطلبت من الضابط أن ينصرف ويتركني، فإن لي حديثًا خاصا مع السجين.

كانت الغرفة أشبه بالتخشيبة ضوءها خافت، رطبة باردة ضيقة، وفوجئ اليوزباشي محمود عبده بدخولي عليه، فهب واقفا يؤدي التحية العسكرية، فقد كان بيني وبينه رفقة وصحبة.

جلست على المقعد الخشبي وجلس هو إلى جانبي، ودار بيننا حديث مرير، وحوار أشد مرارة، أحداث وذكريات وشؤون وشجون.

وكنت خلال ذلك أركز عن قصد على فدائية الشباب المسلم المؤمن الذي لا يبتغي أجر الحياة الدنيا بل يقصد بعمله وجه الله وحده، صور من فصول التاريخ القريب والبعيد، تلهب حماس الإنسان تزيده طلبًا لما عند الله واستمساكًا بالشهادة في سبيل الله.

بعد هذا التمهيد طلبت إلى (محمود عبده) أن يحمل هو وإخوانه عن الجيش المصري مسئولية استعادة الموقع (التبة 86)، فقد وقع اختياري عليهم ثقة مني بهم وبمقدرتهم.

إنه طلب في غير محله، يجافي المنطق والحق، بكل أبعاده ومنطلقاته بمعانيه وأغراضه، كيف أطلب إلى سجين معتقل ظلما وعدوانا أن يقوم عني بمهمة هي صميم مسئوليتي؟ ماذا تكون نفسيته؟ وأي صدى سوف يجاوب في أعماقها؟ قطعًا هو مفاجأة غير معقولة أو مقبولة.

ولقد كان غريبًا حقا أن لا يفاجأ جليسي بما طلبت وقلت، وفوجئت أنا.. فوجئت بالموافقة السريعة غير المشروطة.

فانتصبت واقفا مادًا يدي إلى يد اليوزباشي (محمود عبده) مصافحًا وعيناي تغشاهما الدموع.. وقبلت الرجل بين جبينه ثم قلت إلى اللقاء غدا لكي تعد للأمر عدته، فأجاب إلى اللقاء.

وعدت إلى خيمتي، فاستلقيت على سريري ونمت نوما عميقًا.

كانت الشمس بنورها الساطع قد بددت الغيوم وأشرق علينا يوم جديد غيره بالأمس فقد كان يوم البارحة ممطرًا كثيف السحب ليس من فرق بعيد بينه وبين الليل.

ثم استيقظت على صوت الضابط المرافق ينبهني إلى حلول وقت الظهر فقمت مرتاحًا نشطًا، متحفزًا للعمل. سويت من هندامي سريعًا وغدوت إلى غايتي.

الإخوان يخططون لاستعادة التبة ويحققون النصر بعون الله تعالى:

كان اليوزباشي (محمود عبده) بانتظاري مع أربعة من إخوانه في غرفة حراسة المعتقل وحين دخلت خرج الضابط الحارس، وخلونا إلى بعض.

عرفني اليوزباشي محمود عبده بالأخوة (م. س، ا، اء. ن. ع، ع. ف) على أنهم قادة فصائل الفرقة التي ستقوم بالمهمة، كانت عيونهم تشع بنور الأمل، وكلماتهم تنبئ العزم الصادق وتوحي بالنصر المؤكد، ومحورهم في ذلك كله إيمان راسخ لو وزن بالجبال الرواسي لرجح عليها.

بسطت أمامهم خريطة الموقع بتفاصيلها الدقيقة وعرضت معهم خطتي الهجوم السابقتين، وتناقشنا في أسباب فشلهما، ودرسنا كل ما يتعلق بالأمر بالتفصيل. ولم أحاول أن أتدخل في رسم الخطة الجديدة، بل تركت الأمر لأصحاب الشأن، ولكنني سألت عن عدد أفراد الفرقة التي ستؤدي المهمة وما هي أسماؤهم كي أعطي الأوامر اللازمة لإطلاق سراحهم وتحديد أماكن تواجدهم.

فقال محمود عبده 150 وهذه هي الأسماء.

وأخرج قصاصة عليها الأسماء مدونة وقدمها لي فتناولتها، ناديت على الضابط الحارس وبلغته أوامري، ثم قلت لليوزباشي محمود عبده:

- كم تريدون من أنواع السلاح وكمية الذخيرة ووسائل النقل؟ فنظر إلي نظرة ما عرفتها وما تعودتها من قبل في عينيه، امتزج فيها الألم المرير بالسخرية الحادة، ثم قال:

لا نريد من السلاح يا سعادة الباشا سوى ما صودر منا، نريد فقط سلاحنا وذخيرتنا التي دفعنا ثمنها من أموالنا الخاصة، من دمنا وعرقنا ودموعنا، استعدادًا لمثل هذا اليوم.

هذا هو السلاح الذي نريد.

ازداد إعجابي باليوزباشي (محمود عبده) وإكباري لأمثاله من الأحرار الأبرار، ذوي البطولة، واستصغاري واحتقاري للذين يخشونهم ويرهبونهم.

وخرجت مع اليوزباشي محمود عبده وإخوانه الأربعة، إلى حيث مخازن السلاح والذخيرة ليختاروا بأيديهم وحسب متطلباتهم ما يريدون.

وكنت في تصرفي هذا كتومًا، أخفي الأمر إلا عن فئة قليلة من الضباط الذين أثق فيهم كي لا تتسرب الأنباء، وتشيع الأخبار، وقد يحدث ما يعكس المراد، فتضيع الفرصة.

ومع منتصف الليلة التالية كانت تدرج خمس سيارات نقل كبيرة من طرف المعسكر باتجاه الشمال الشقي، تتقدمها سيارة جيب تحمل اليوزباشي محمود عبده وإخوانه وتتبعها سيارة جيب كنت أستقلها وأقودها بنفسي -رغبة مني في متابعة العملية، ولقد أصررت على ذلك رغم ممانعة محمود عبده واعتراضه حرصًا منه عليَّ ومحبة منه ليَّ.

كان الليل صامتًا موحشًا لا يشق سكونه سوى هدير محركات السيارات الضخمة والتي تتبين طريقها بصعوبة بسبب الضوء الخافت المخنوق الذي ينبعث من مصابيحها.

وحين بلغنا آخر منعطف يقودنا إلى الموقع توقفت السيارات وقفز منها بخفة ورشاقة رهبان الليل وفرسان النهار، الذين يحتضنون إيمانهم في صدورهم، وأرواحهم في أيديهم، يبذلونها بسخاء حين يستحق البذل.

وأذن مؤذن الجهاد:

واصطف الجميع خلف إمامهم (محمود عبده)، وأدينا ركعتي سنة، تتيمنًا، ولما انتهينا ابتهل (محمود عبده) بدعاء مأثور فأمنا جميعًا.

وأعطى (محمود عبده) أوامره همسًا، وزع قواته، وكان كل يعرف مهمته وعمله، وقبل بدء التحرك تقدم مني مصافحًا مودعًا قائلاً:

- إلى هنا انتهت مهمتك يا سعادة الباشا، فأرجوك أن لا تتقدم خطوة بعد هذا، وادع لنا الله تعالى أن يوفقنا.. وعد إلى المعسكر فهناك أخوة لنا أحوج منا إليك.

فشددت على يده، وتركته يمضي وعدت.. لا إلى المعسكر كما أراد، بل إلى مرتفع قريب تسلقته مشيًا حتى بلغت ذروته كي أستطيع مراقبة سير المعركة ما أمكنني النظر في هذا الليل الرهيب.

توزعت الفصائل إلى خمس مجموعات زحفت هونًا باتجاهين معاكسين، تتسلل بصمت كالقطا، تارة قفزًا وهرولة، وأخرى زحفًا على البطون، حتى انفتحت فوهات البنادق باتجاهها من تحصينات العدو ومواقعه تحصد الأرض ومن عليها حصدًا. ورد المهاجمون بنيران ضعيفة لاهثة توحي بالوهن، وهم مستمرون في الزحف لا يتراجعون، نفوسهم أقوى من سلاحهم، بالجلال الإيمان وروعة الإسلام!!

وبعد أقل من ساعة خلتها دهرًا طويلاً كان الليل قد تحول إلى نهار بسبب النيران الغزيرة من القذائف على أنواعها، خفت الحدة، وسكنت الأصوات وهدأ الرصاص.

وسمعت النداء العظيم يتجاوب في سماء الكون من أعلى التبة «الله أكبر الله أكبر» مجلجلا كدوي الرعد.

فأسرعت إلى سيارتي وأدرت محركها ولحقت بالأبطال الذين بلغوا قمة الموقع وقمة المجد.

وحضنت بشوق ولهفة وإعزاز اليوزباشي (محمود عبده) وإخوانه الأشاوش وهنأتهم بحرارة دموعي المنسابة على وجهي، واصطحبني القائد في جولة سريعة على أرجاء المواقع كي أعاين معه على الطبيعة ظروف المعركة.

وحاولت استنطاقه كيف أتعرف على كيفية سير الوقائع التي مروا بها، والمخاطر التي تعرضوا لها، والصعوبات التي واجهوها، ولكنه ظل صامتًا لا يجيب على أي سؤال، وقد يصرفني عن غرضي بكلمة عارضة عابرة، أو بإيماءة من رأسه لا توحي بأي جواب شاف.

ثم اغتنمت فرصة انفرادي بأحد الأخوة الذين شاركوا في قيادة المجموعات فحدثني بما أثلج صدري، وروح عن نفسي.

واحد من قادة الفصائل يصف المعركة:

اسمي عبد الهادي ناصف وكنت قائدًا للمجموعة الثالثة، وكانت خطتنا التي اتفقنا عليها تعتمد على الخطوات الآتية:

أولا: التسلل الصامت: دون إحداث أي حركة تكشف عن مواقعنا أو عددنا أو جهات هجومنا.

ثانيًا: المفاجأة: بحيث نواجه العدو من أماكن قريبة يصعب معها استعمال الأسلحة النارية.

ثالثًا: الاشتراك بالسلاح الأبيض: لأننا نعرف تمام المعرفة، نفسية العدو الصهيوني التي جبلت على الغدر والجبن.

ولقد راعينا كل المراعاة حدوث أي مفاجأة، ووضعنا للاحتمالات حلولا فورية نعتمدها عند الحاجة والضرورة، منها على سبيل المثال: تغيير خط التسلل إذا ما واجهتنا نيران العدو أو اكتشف وجودنا، وقد حذرنا من الرد بالمثل مهما كانت الظروف.. ومهما كانت التضحيات.

وبعد أن ودعناك يا سعادة الباشا، أخذ كل قائد مجموعته إلى نقطة سيره وانطلاقه وبدأنا التحرك. وكانت الجهة التي أسندت إليَّ مهمة الهجوم منها، صخرية كثيرة النتوء والتعرجات تنصب فيها الأشواك والنباتات الطفيلية والحشائش بين الصخور كأشباح ليل مخيفة.

ولقد ساعدتنا هذه الصخور على أن تكون بالنسبة لنا حصونا ستظهر فائدتها فيما بعد، وجعلت ما معي من الإخوة ثلاث فرق، بين الواحدة والثانية مسافة تسمح بسماع الهمس فلا نفترق أو نضل- على أن يكون ملتقانا على هدف واحد ونقطة واحدة قبل بلوغ ذروة التبة.

ومضيت في الطريق الشائك المخيف على رأس الفصيلة الوسطى بحيث أتمكن من مشاهدة الجناحين.

كان البرد شديدًا، والليل داكنًا معتمًا، والصعود مشيًا أو زحفًا مرهقًا، ولكنني نسين كل ما أن فيه، وتذكرت الغاية الكبرى والهدف الأسمى، تذكرت كرامتنا الممرغة في أوحال الخيانة والفساد والانحراف، وتذكرت جيشنا المسكين الذي فقد كل حول وطول، وأصبح دمية خرساء بكماء، تذكرت أمتنا المهيضة الجناح تتقاذفها تيارات العمالة الفكرية والسياسية.

ونسيت كل همومي البدنية.. وركبت موجة ضعفي وأسري وقيودي زدت من تقدمي وإصراري، بعد حين من السعي الدءوب، فوجئنا بمنبسط من الأرض لا يظله شيء، خال من الحجر والشجر، فأعطيت إشارة للفصائل بالتلبث في أماكنها ريثما أطمئن برهة إلى سلامة الموقف، ثم أشرت بمتابعة السير زحفًا على الأرض حتى نبلغ آخر هذا المنبسط.

وبعد قليل كانت المفاجأة الرهيبة، سطعت أنوار الكشافات فوق رءوسنا فجمدنا في أماكننا وكأننا التماثيل.. ولو أننا مكثنا على ما نحن عليه لسارت الخطة إلى غايتها المنشودة، غير أن الأخ علي شيحة من جناح اليمين صوب بندقيته نحو الكشاف المواجه لنا فأصابه، وهنا انهمرت في كل اتجاه نيران العدو العزيرة.

وسريعًا نظرت إلى الوراء وإلى الأمام فإذا التقدم أفضل وأقرب فطلبت من الجناحين الجري بسرعة كي نتخذ من الصخور أسوارًا طبيعية نحتمي بها.

وكان لا بد من المناوشة كغطاء لتقدمنا حتى إذا ما حمتنا الصخور ثانية توقفنا عن إطلاق النار، وسقط منا بعض الجرحى فاتخذنا من مناديلنا ضمادات مؤقتة لجراحهم، وتحاملوا على أنفسهم، فلم يرضوا أن يتخلفوا عن القافلة الزاحفة إلى الذروة، رغم كل الأوامر.

وكانت ذراع أحدهم تنزف بغزارة، تقدمت منه وحاولت أن أثنيه عن عزمه بجذبه أو هزه لعله في غيبوبة فيفيق منها، فنظر إلي بعينين براقتين وقال: ليتها كانت القاضية يا أخي.. إنني أشم رائحة الجنة فكيف تحرمني هذا النعيم؟؟ دعني أمضي في سبيلي، فلم أر مناصًا من موافقته على ما أراد، وأذعن لمشيئته.

ومضينا صعودًا والنيران تنهمر كأفواه القرب غزارة، ثم طيشا إلى غير هدف، وكأن أيد خفية تصدها عنا وتحمينا من لظاها، وكنا كلما اقتربنا من خط دفاع العدو انفرجت أساريرنا وزاد حماسنا. وفجأة ظهرنا بمجموعتنا كاملة وفي أيدينا خناجرنا تلمع وتضيء، فتمزق أستار الليل وتمزق ظهور جنود العدو الهارب.

ورحنا نتنادى ونتعارف: الله أكبر ولله الحمد، والمواقع تنهار وكأنها الهشيم، وسكت الكون إلا عن صدق النداء المعظم «الله أكبر».

بحثت عن الأخ الجريح، فوجدت مشهدًا مؤثرًا بالغ الروعة، وجدته مرتميًا فوق جثة أحد الصهاينة ويداه مطبقتان على عنقه، والصهيوني جاحظة عيناه، قد فارق الحياة، جذبت الأخ برفق فإذا خنجر في صدره، لقد صمم على الشهادة فنالها، وأراد سبيل الله فمضى فيها.

وبصعوبة بالغة استطعت أن أنزع يديه عن عنق الصهيوني وكأنهما قد أصبحتا قطعة واحدة.

يقول اللواء فؤاد صادق: «كنت أصغي للأخ عبد الهادي ناصف باهتمام شديد بدون مقاطعة، ثم بحثت عن اليوزباشي (محمود عبده) لأتمم جولتي معه وسرنا بين المواقع والتحصينات، وأحسست بأنني أنا الضابط الصغير وهو القائد الكبير، أنا التابع وهو المتبوع.

ويشهد الله أنني ما عثرت بجثة عدو صهيوني إلا وهي ممزقة بالخناجر لم أجد واحد قد صرعته رصاصة، كانت المعركة فعلاً بالسلاح الأبيض وهي الخطة المعتمدة.. ومررت بالتحصينات والاستحكامات فوجدت الأخوة قد احتلوها جميعًا وأقاموا من خلفها يتربصون، وأجرينا فورًا اتصالاً لاسلكيًا بالمعسكر، نخبره بالنصر ونطلب تحرك الآليات اللازمة وسيارات الإسعاف لنقل الجرحى والشهداء الخمسة.

معسكر الإخوان بالبريج يشترك مع الجيش المصري في هجمته الأولى على الموقع:

يقول الأخ كامل الشريف في كتابه الإخوان المسلمون في المعركة، وهو من قادة الإخوان المسلمين في معسكر البريج على الجانب الآخر من هذه المعركة الذي لم يشاهده اللواء صادق عندما أعطى الأوامر لضباطه مرتين باحتلال الموقع، وقبل أن يلجأ إلى الأخ محمود عبده لوجوده على جانب واحد مع مركز القيادة، كتب الأخ كامل الشريف يقول:

تحدث إلي الأميرالاي «محمود رأفت» قائد قطاع «دير البلح» بالتليفون في ساعة متأخرة من ليلة 23 ديسمبر، وأخبرني أن العدو قد نجح في اختراق خطوطنا الأمامية في دير البلح، وانتزع المرتفع من أيدي جنودنا، وقواته تتجمع الآن وتحاول الوصول إلى طريق المواصلات الرئيسي، ولكن قوات الجيش تحاول حصره فوق المرتفع حتى الصباح، حيث يمكننا أن نقوم بهجمات مضادة لاسترداده، وتطهيره، وطلب أن يستعد الإخوان ليكونوا «آخر ورقة» نقذف بها في وجه العدو بعد أن يقوم الجيش بهجماته المضادة، وأن هذه المعركة سوف يكون لها أثر بالغ في النتيجة العامة للحرب.

ولعل القارئ الكريم يلاحظ أن عبارات الأميرالاي «محمود رأفت» إنما تصف الهجمة الأولى التي أمر اللواء صادق بها لاسترداده الموقع بعد أن احتلته قوات العدو، يقول الأخ كامل الشريف: «ولم تكد الشمس ترسل أول أشعتها، حتى صدرت الأوامر لجنود الجيش بالتقدم فانسابوا في أفواج متلاحقة، تريد أن تصل إلى القمة، وتطرد العدو الرابض فيها، ولكن ارتفاع الموقع وسيطرة أسلحة اليهود على الأرض المحيطة به، كانا يمنعان الجنود من الاقتراب، وظلت الحالة هكذا، موجات إثر موجات وجرحى كثيرون، وشهداء يسقطون دون الهدف، وكيف يمكن للحوم آدمية أن تقاوم القنابل والرصاص؟ والعدو الماكر يربض خلف الخنادق التي أعدها بعناية ويصوب نيرانه منها على لحوم بشرية متراصة وبدأ جليًا للعيان أنه لا أمل مطلقًا في كسب المعركة إلا في حضور عدد من الدبابات».

وهنا يختفي من حديث الأخ كامل الشريف الجزء الذي لم يشعر به، والذي دار في غرفة القيادة بين اللواء صادق والضابط «أحمد» الذي كلف بالهجمة الثانية والذي ترتب عليه حضور الدبابات للبدأ في هذه الهجمة، ثم يستطرد الأخ كامل الشريف فيقول:

«وجاءت الدبابات، ودفعت إلى المعركة واحدة تلو الأخرى، فتعطلت منها اثنتان على سفح التل، ولم يستطع أحد الاقتراب من مواقع العدو، ووقف الضباط يلتمسون العون من الله العلي الكبير بعد أن جربت كل الأسلحة، ووضح جليًا أن هذه المعركة قد (ماعت) وضعف الأمل في جسمها.

وكان لا بد من إلقاء الورقة الأخيرة، فطلب الأميرالاي» محمود رأفت إحضار الإخوان على عجل، وما إن سمع الجنود والضباط اسم الإخوان حتى سرت في نفوسهم روح جديدة من الأمل والثقة، وطلبت من القائمقام «علي مقلد» قائد الفرسان أن يوفر دباباته ليدفع بها أمام جنود الإخوان، وبعد لحظات وصل جنود الإخوان إلى ميدان المعركة، وترجلوا عند مكان أمين لتنظيمهم وإعدادهم، وكانت الخطة تقضي بتقسيم الإخوان إلى ثلاث مجموعات تهاجم اثنتان منها الموقع من الأمام ومن جهة الشمال، بينما تدور القوة الثالثة حول المرتفع وتهاجم مؤخرته وتمنع تدافع الإمدادات عليه، وتجذب اهتمام المدافعين إليها وتشغلهم عن القوتين الأخريين.

تقدمت الدبابات متجمعة أمام قوة الإخوان تحت ستار من نيران المدفعية والأسلحة الرشاشة، وتحت غلالة من قنابل الدخان التي كانت تطلقها مدافع الهاون التابعة للإخوان المسلمين، وأنطلق الإخوان إلى أهدافهم وقد علت وجوههم إشراقة الإيمان القوي وكانوا ينشدون في حماسة نشيدهم المعروف:

هو الحق يحشد أجناده

ويعتد للموقف الفاصل

فصفوا الكتائب آساده

ودكوا به دولة الباطل

وظلت مدافع الإخوان تقذف الموقع بقنابل الدخان فترة طويلة حتى أحالت القمة إلى سحابة قاتمة، لا ترى خلالها إلا ألسنة اللهب الناتج عن انفجارات القنابل.

وسكتت المدافع وانساب المجاهدون إلى أهدافهم، وبدأت معركة الخنادق وروع اليهود حين رأوا الإخوان يلقون بأنفسهم فوق الخنادق والدشم ويعاركونهم بالقنابل والحراب والأيدي، ورغم كثرة الضحايا من الإخوان فإن القوة تمكنت من احتلال خنادق العدو، وأخذت تطهرها جزءًا جزءًا.

ولا شك أن قوات الإخوان بقيادة الأخ «محمود عبده» قد التقت بقوات الإخوان القادمة من معسكر البريج في القمة، وتضافرت على تطهير كل المواقع واحتلالها على النحو الذي رواه لنا اللواء صادق وهو يتجول في الموقع مع الأخ محمود عبده، كما كانت أصوات الإخوان مجتمعين تجلجل في سماء القمة «الله أكبر».

ولما وصلت جنود الجيش لتحصين الموقع بعد أن تم تطهيره من اليهود انسحب الإخوان من معسكر البريج كما يقول الأخ كامل الشريف في سكون وهدوء إلى معسكرهم بعد أن أخذوا كميات وفيرة من الأسلحة الألمانية والروسية، وأكداسًا من القنابل والذخائر وكان الضباط يعانقونهم عند خروجهم، ويهنئونهم بهذا النصر الحاسم ويشيدون بجهودهم وفضلهم.

ثم يواصل اللواء فؤاد صادق قوله بعد هذا النصر المؤزر:

لقد كانت فرحتي وغبطتي بهذا اليوم لا توصف ولا تقدر، ولا أكون مبالغًا إذا ما قلت إنه كان أسعد وأغلى أيامي العسكرية، إذ تحققت فيه أمنية عزيزة غالية، شاركت فيها متواضعًا باتخاذ القرار الجريء الشجاع، والفضل كل الفضل فيها لله وحده ولطليعة شباب مصر المؤمن.

وقد آليت على نفسي أن أشهد لهؤلاء الأبرار الأطهار أمام الله، وأمام التاريخ وأمام الناس أنهم بالفعل الصورة الحية لأبناء المدرسة المحمدية في القرن العشرين، وأنهم سلالة النماذج الرائعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، يبذلون أغلى ما عند الإنسان دون منة أو رياء، فيجودون بالأرواح طلبًا لرضوان الله -عز وجل-.

كما آليت على نفسي أن أقول كلمة الحق في حقهم دون رهبة من سلطان أو خشية من طغيان، إذا ما آن الأوان.

ولقد صدق اللواء صادق باشا وعده فشهد شهادة الحق أمام محكمة الجنايات في قضية السيارة الجيب، كما شهد بنفس المعنى سلفه اللواء أحمد علي المواوي لما رواه من روعة أعمال الفداء التي قام بها الإخوان وخص بالذكر منها احتلال عسلوج على النحو الذي فصلناه سابقًا، كما حرص اللواء فؤاد صادق باشا أن ينقل التفاصيل كاملة إلى الحاج أمين الحسيني، لتصل إلى الناس على النحو الذي نشرته به دار الأنصار، فأخذنا عنها هذا الوصف الرائع، الذي صمم اللواء فؤاد صادق باشا أن يستوفيه وفاء بعهده أن يشهد لهؤلاء الإخوان إمام الناس بعد أن شهد لهم أمام السلطان، ونحن لا نشك أنه سيشهد أمام الله وهو جل وعلا خير الشاهدين.

جزاك الله خيرًا أيها القائد المصري الجريء الشجاع فقد كنت صادقًا مع نفسك وأهلك ووطنك، فنصرك الله بجند من أوليائه وهو خير الناصرين.

يقول اللواء فؤاد صادق باشا:

ثم عدت إلى مقر قيادتي، فاستقبلتني مظاهرة من الجنود مهللة، مكبرة، وعمت الفرحة كل الناس، ووصلت الأنباء إلى القاهرة، فجاءتني التهنئة والترقية، وصدرت الإدارة الملكية بمنحي وسامًا عسكريًا رفيعًا تقديرًا لما قمت به، ولو أنصف المسئولون يومها لأدركوا الحقيقة وعلموا أن الذي يستحق التهنئة هم صناع مجد ذلك اليوم العظيم، ومنحوا أهله وسام البراءة والحرية بدلا من الافتراء والقهر، بدلا من الكيد والدس والسجن.

وطلبت إلى الجنود والضباط أن يتصرف كل إلى واجبه وعمله، ثم توجهت إلى حيث تقف السيارات التي نقل اليوزباشي (محمود عبده) وفرقته.

الأبطال يستجيبون لطلب القائد العام ويدخلون طوعًا السجن العسكري بعد تحقيق النصر:

يواصل اللواء فؤاد صادق كلامه فيقول: وهنا لا بد أن أتوقف قليلا لقد واجهت من قبل موقفًا عسكريًا صعبًا، شديد الصعوبة، معقدًا بالغ التعقيد، سيئا غاية السوء، عانيت فيه من الحرج والهزيمة، ولكنني الآن في موقف أصعب وأقسى، تتنازعني فيه العوامل النفسية القاسية، تنتابني فيه ألوان من القهر والألم، وتفتت الجماد، وتذيب الصخر، فكيف بقلبي الإنسان الرقيق؟

لقد كان عليَّ أن طلب من اليوزباشي (محمود عبده) ورفاقه العودة إلى السجن!! إلى المعتقل!! إلى الأسر والعذاب!! فكيف أواجه الموقف؟! وبأي لسان أطلب ذلك؟ وممن؟ من الذين حموا شرفنا، ودافعوا عن كرامتنا، وصانوا رايتنا، وأنقذوا جيشنا؟

كنت أتقدم بخطوات بطيئة متثاقلة مترددة.. وحين أصبحت على قيد خطوات من السيارات التي لا تزال واقفة في مكانها، غلبتني عاطفتي الجياشة وتوقفت وقد أزمعت أن أصبح أذني لنداء قلبي، وأوامر حسي، غير عابئ بالنتائج، لكن الخوف كان أقوى من العاطفة، ولبئس جبن الإنسان في لحظات من الزمان.

وطلبت متلعثمًا، ترتجف الكلمات وكأنها تحت تأثير زمهرير بارد، أن ينزل الأحرار الأخيار من جديد ضيوفًا في فواقع الظلم والظلام، طلبت ذلك من القائد الظافر صانع البطولة اليوزباشي (محمود عبده)، وأنا في حالة غيبوبة العقل والحس، لم أستفق منها، فتعاودني حالة من الوعي العابر على فرقعة حذاء البطل وتحيته العسكرية وصوته الصارخ- حاضر يا أفندم أمرك يا سعادة الباشا.

وما أن أسبل ذراعه إلى جانبه حتى لفتني غيبوبة من الإعجاب والدهشة إذ كنت قبل غير واثق كل الثقة من تنفيذه، والرضوخ إليه، لأن الإنسان عندما يملك نسمة الحرية المدعومة بقوة السلاح يفتديها بحياته، فما بال هؤلاء الملائكة لا يعصون؟!!.

إنهم ليسوا خونة قطعًا، ولا متمردين حتمًا ولا عصاة، ولا مذنبين، إنهم يؤمنون بما قاله أحد أئمة السلف: (إن قتلي شهادة في سبيل الله، وتشريدي سياحة في أرض الله، وأسري خلوة مع الله).

لقد تعلمت من هؤلاء الأماثيل دروسًا كثيرة، ووعيت من مواقفهم عبرًا بالغة، فليت الناس يتعلمون ويعتبرون، وليت قومي يعلمون ويسمعون.

يقول الأخ محمد علي قطب بعد أن انتهى سماعه لهذه الشهادة التي جاءت وفاء من اللواء فؤاد صادق باشا بعهده الذي قال فيه:

«لقد سبق أن أقسمت أن شهد لهم أمام الله والتاريخ والناس بأحقيتهم وفضلهم، لقد بررت بقسمي حيث شهدت لهم في المحكمة شهادة التاريخ، وشهدت لهم بالحديث عن كريم خصالهم وجميل فعالهم أمام الناس، ولسوف ألقى الله تعالى شاهدًا أمامه سبحانه لعباده الطائعين المكرمين بصدق العزم واليقين». يقول الأخ محمد علي قطب بعد أن سمع هذا كله:

عدت إلى «صيداء» وفي جنبي قلب لا يرهب ولا يرغب، وروح لا ترى في الكون كبيرًا إلا الله وحده ولسان يردد:

لا أرى أكبر منه

ولا أرى مني أصغر

إن أحد أكبر مني

واحدًا فالله أكبر

أيها الأخ القارئ العزيز:

كنت أقف عقب كل واقعة حقيقية وقفة، أما عقب هذه الواقعة التاريخية، فقف أنت وعاود قراءتها، فالعبرة منها واضحة لا تحتاج مني إلى توجيه أو تعليق.

فقط أريد أن أقول للحكام المسلمين: إنكم تحكمون أمة مريضة، ودواؤها بين أيديكم ولا يليق بكم وأنتم في عصر النور أن تكرهوا الدواء. إن الرفاهية التي تعيشون فيها حاليًا من دماء شعوبكم المكسورة، سيتزيد رونقًا وبهاء إذا جاءت من تحت ظلال السيوف المؤمنة.


نماذج من الأعمال الخطرة التي قام بها متطوعوا الإخوان في الحرب في منطقة بيت لحم وصور باهر

1- احتلال مستعمرة رامات راحيل:

تعتبر هذه المستعمرة من المستعمرات الحصينة التي تقع على ربوة عالية، وتتحكم في الطريق الرئيسي الذي يصل بيت لحم، ويمكن لليهود منها إحصاء القوات الموجودة في بيت لحم من المجاهدين، وكذلك إحصاء حركاتها وسكناتها، لذلك كله رأى أحمد عبد العزيز أن يقتحمها.

ولقد بدأ في 24 مايو سنة 1948م فأرسل قوة من جنود الإخوان بقيادة (لبيب الترجمان) لتقوم باستكشاف المستعمرة وكتابة تقرير واف عن تحصيناتها، وقد تمكنت القوة من وضع تقرير مفصل عن المستعمرة ونقاط القوة والضعف في الدفاع عنها بعد أن استمرت يومًا كاملاً في مهمتها تتسلل إلى أقرب مكان ممكن وتراقب التحصينات ومواقع الدفاع، لتسليم التقرير وقد وضع هذا التقرير أساسًا للخطة.

وفي 26 مايو سنة 1948م بدأت مدفعية الإخوان بقصف الحصون والأبراج، ثم زحفت مشاتهم تحت غلالة من نيران مدفعية الهاون وقنابلها الدخانية، ثم تقدمت مجموعات الفدائيين من حملة الألغام (البنجالور) لنسف العوائق السلكية وحقول الألغام.

وقد بدأت الهجوم بعد منتصف الليل بعد أن نامت قوات الهاجاناه داخل مستعمراتهم، وفي الساعة الثانية صباحًا قصفت المدفعية المستعمرة بشدة فاشتعلت الحرائق في أكشاكها الخشبية، وتفجرت حقول الألغام التي لف بها العدو مستعمراته، ثم سكتت المدافع وأصدر الأخ (لبيب الترجمان) أوامره لقواته فبدأت تزحف تحت غلالة كثيفة من قنابل الهاون المتفجرة، وقنابل الدخان، وفي لمح البصر اندفع الفدائيون يفجرون ألغامهم تحت الأسلاك الشائكة، ومن ورائهم فصائل الاقتحام تعبر مسرعة لتحتل الأغراض التي خصصت لها.

ثم بدأ الاشتباك الرهيب عند الخنادق والدشم، وتسلل نفر من الإخوان إلى الأبراج العالية يفجرون تحتها الألغام ويحيلونها أنقاضًا ورمادًا، فاضطرب العدو وأخذ الأحياء من أفراده ينسحبون إلى مستعمرة «تل بيوت» عبر ممراتهم السرية.

وعكف المجاهدون على الخنادق يتمون تطهيرها، وارتفع صوت المؤذن على أعلى قمة فوق أعلى برج يييؤذن الله أكبر الله أكبر.

وقد عثر الإخوان على مائتي جثة من جثث اليهود تحت الأنقاض وبلغ جرحى الإخوان وشهداؤهم عشرة منهم شهيد واحد من إخوان شرق الأردن.

وقد غنم الإخوان الكثير من الخيرات والمؤن المكدسة في هذه المستعمرة، إذ كانت مركز التموين الذي يشرف على إمداد المستعمرات الواقعة في جنوبي القدس، ثم أجلوا عنها بعد يومين إلى معسكرهم بصور باهر بعد أن دمروها تدميرًا كاملاً ولم يتركوا فيها بقعة واحدة صالحة للإيواء، واكتفوا بحصار موقعها الخطير حتى لا يتسرب إليه الأعداء».

2- احتلال معسكر «ديرمار إلياس»:

حاول اليهود الانتقام لخسارتهم في رامات راحيل فهاجموا مقر قيادة الجيش الأردني في ديرمار إلياس وأجلوهم عن مواقعهم، فأصبح مقر قيادة الجيش الأردني محتلا باليهود، وكان هذا المقر خطرًا على معسكر الإخوان في صور باهر لقربه منه، فقرروا إجلاء اليهود واحتلاله.

تقدمت قوة منهم بقيادة الأخ حسين حجازي وهاجمت اليهود على غزة واضطرتهم للانسحاب بعد أن أوقعت بهم خسائر كبيرة، وقد ضم حسين حجازي إلى مجموعته مجموعة من جيش الجهاد المقدس الفلسطيني لمعاونته في هذه المعركة.

3- تدمير مستعمرة (تل بيروت):

كانت مستعمرة تل بيوت التي انسحب إليها اليهود الفارين من معركة رامات راحيل، دائبة التحرش بالإخوان فقرروا تدميرها.

وفي ليلة 4 يونيو 1948م انطلقت مجموعة من الإخوان الفدائيين بقيادة الأخ حسين حجازي من بيت لحم بتكتم شديد، حتى أن زملاءه في القوة لم يعلموا حقيقة المهمة التي سيقومون بها، واتجه بهم متسللين إلى مستعمرة تل بيوت فلغموا برجها الكبير، وعادوا سالمين.

وقد وصفت جريدة أخبار اليوم في عددها الصادرة في (5 يونيو سنة 1948م) هذا الهجوم الجريء فقالت: «وفي الليل تسلل (حسين) ومعه أربعة جنود.. وزحفوا على الأشواك في صور باهر أربعة كيلو مترات تحت تهديد الرصاص الطائر في الهواء والحيات الزاحفة بين الأحجار.

«وقرب الفجر سمعت بيت لحم انفجارًا مدويًا، وتهدمت ثلاثة حصون من (تل بيوت) وفي الصباح عاد (حسين حجازي) ليتلقى تهنئة قائده ومعها لقب بطل (تل بيوت)». ولقد شاهد الناس أحجار البرج الضخم تتناثر في الهواء ثم تتهاوى لتصنع من تراكمها قبر كبيرًا يضم نخبة كبيرة من رجال الهاجاناه.

4- دحر اليهود فوق جبل المكبر واحتلال رأس الأحرش:

كان جبل المكبر. واحدًا من المرتفعات التي يتولى الإخوان الدفاع عنها تحت إشراف الأخ محمود عبده قائد معسكر الإخوان في صور باهر.

وفي مساء 18 أغسطس سنة 1948م فكر اليهود أن يهاجموه على غرة من الإخوان، فبدأت جموعهم تتحرك في الساعة الثامنة من مساء هذا اليوم من أحياء القدس اليهودية ومن المستعمرات الواقعة في جنوبها، ثم بدئوا يزحفون في سكون وهدوء.

ولكن نقط المراقبة الأمامية للإخوان فطنت لهذه الحركة وأرسلت تخبر قائد صور باهر بهذا النبأ وتطلب توجيهاته السريعة.

بدأ محمود عبده يفكر في الموقع ويضع خطته على أساس الأنباء التي تصل إليه تباعًا، ولم يكن يعنيه وقف الزحف اليهودي والاحتفاظ بالموقع، ولكنه كان يريد إبادة هذه القوات وتلقين اليهود درسًا قاسيًا يحفظونه عن الإخوان وشدتهم في القتال.

كانت أول خطوات محمود عبده أن أمر فصيلة من جنوده، فدارت إلى اليمين واقتربت من الطريق الذي يستخدمه العدو في تحركاته، وأخذت تطلق النار على القوافل التي تتحرك جنوب المعركة، وفي نفس اللحظة كان يصدر أمره للمدافعين عن الجبل بالانسحاب إلى الوراء، حتى ظن العدو أن مقاومتهم انتهت، فتقدم ليحتل المواقع التي أخلاها المجاهدون، وفي هذه اللحظة أمر محمود عبده مدفعيته لتقذف الموقع من كل صوب، ولم يكن لليهود ما يحتمون فيه، فقتل منهم عددًا كبيرًا وبدأوا يتراجعون في ذعر وارتباك، ولكن القوة الخلفية فاجأتهم بنيران حامية أسقطت منهم عددًا كبيرًا.

وقد أصيب (محمود عبده) في هذه المعركة فحمله مرافقوه للخلف دون أن يفطن لذلك أحد، واستدعوا الأخ المجاهد (لبيب الترجمان) ليتولى قيادة المعركة في مرحلتها الختامية، حتى أخذ اليهود يتسللون فرادى إلى المنطقة الحرام وإلى دار الحكومة حيث يوجد بعض مراقبي الهدنة، فاتبعهم الإخوان وضربوا حصارًا محكمًا حول دار الحكومة وهددوا بتدميرها، مما اضطر رجال هيئة الأمم إلى الاستعانة بالبكباشي أحمد عبد العزيز الذي حضر ووافق على وقف إطلاق النار بشرط أن يحتل جنود الإخوان مرتفع (رأس الأحرش)، وبذلك أصبح الإخوان خطرًا شديدًا يهدد القدس الجديدة، من موقع يتيسر لهم فيه مراقبة حركات اليهود وسكناتهم.

وقد تكرر ذخر اليهود في اليوم التالي حيث حاولوا استرداد هذين الموقعين، بقوات كبيرة، ولكن يقظة الإخوان واستماتتهم في الدفاع وقفت سدًا منيعًا دون وصولهم لهذه الغاية.

مفاوضات تحديد حدود المنطقة الحرام واستشهاد البطل أحمد عبد العزيز:

بدأت بعد المعارك السابقة مفاوضات طويلة لتحديد حدود المنطقة الحرام، انتهت يوم 22 أغسطس سنة 1948م، وقرر أحمد عبد العزيز حمل نتائج المفاوضات بنفسه إلى القيادة المصرية العامة «بالمجدل» وصحبه في سيارة الجيب اليوزباشي «الورداني» واليوزباشي» صلاح سالم»() من ضباط رئاسة المواوي بالإضافة إلى سائق سيارته.

وعند عراق المنشية حيث ترابط قوة من الجيش المصري، وتمنع السير على هذا الطريق أثناء الليل، صاح الحارس يأمر السيارة القادمة بالوقوف، ولكن يبدو أن الراكبين لم يسمعوا صوت الحارس، فأطلق عليهم النار وأصيب أحمد عبد العزيز في جنبه إصابة فاضت بها روحه الطاهرة وهو في الطريق إلى عيادة طبيب بمدينة (الفالوجة) يصاحبه الضابطان «الورداني وصلاح سالم».

5- تدمير مركز قيادة صهيوني:

وقد حل محل القائد الشهيد في قيادة متطوعي الإخوان البكباشي «عبد الجواد طبالة» قائد كتيبة متطوعي الإخوان الثانية من هايكستب وكانت هذه الكتيبة تعمل في منطقة غزة- رفح، وكان الأخ «صلاح البنا» يرأسها وقد أصدر البكباشي «عبد الجواد طبالة» أمره بضم هذه الكتيبة التي كانت تحاصر بعض المستعمرات الواقعة في منطقة غزة -رفح إلى كتيبة الإخوان في صور باهر.

وبعد وصول الكتيبة نقض اليهود الهدنة واحتلوا منزلا في الشقة الحرام قرب مواقع الإخوان، واتخذوا منه وكرًا خطيرًا للقناصة يستعيضون به عن البرج الذي نسفه الإخوان في (تل بيوت)، وأخذوا يطلقون النار على مواقع الإخوان، وحاولوا اقتناص قائد المنطقة نفسه، حين كان يحاول الوصول إلى دار الحكومة للاجتماع بمراقبي الهدنة، فقرر الإخوان تدمير هذا البناء خاصة أن الأنباء كانت تشير إلى أن كبار ضباط الجيش الإسرائيلي قد نزلوا في هذا البناء واتخذوه مقرًا تشرف منه قيادتهم على جبهات المتطوعين وتضع خطة لمعارك شاملة وتكتسح فيها هذه القوات.

تسللت جماعة من الإخوان تحمل ألغامها وأسلحتها نحو هذا المنزل الواقع بين ثلاث مستعمرات من أخطر المستعمرات اليهودية، وأخذوا يزحفون حتى اقتربوا من الباب، وبينما كانوا يعالجون فتح الباب الخارجي انتبه اليهود، فأخذوا يطلقون عليهم النار من أعلى المنزل ومن الدشم المسلحة المقامة حوله، وبدلهم الإخوان الضرب، بعد أن ألقوا بألغامهم بعيدًا عن البناء، ثم فجروها وانسحبوا عائدين ومعهم جريح واحد هو الأخ (عثمان عبد المجيد).

وفي اليوم التالي. تحركت قوة كبيرة من متطوعي الإخوان وكان من بين أفرادها بعض الإخوان السوريين، وبعض الإخوان الأردنيين للهجوم على هذا البناء، ونجحت القوة التي تسللت تحمل المتفجرات في الوصول إلى المنزل وتدميره على جميع من فيه من الضباط والجنود، وقد وصف البكباشي عبد الجواد طبالة هذا الهجوم في إحدى المجلات العسكرية فقال:

«عالج قائد الدورية الباب معتمدًا على أن صوت الرصاص يعلو صوت معالجة الباب، ولكن الباب لم يفتح وهو موصد من الداخل، وإذا بالقائد يضغط بسبابة يمناه على تتك سلاحه فيطير قفل الباب ويفتح على مصراعيه، وفي لحظات أشعل الآخرون العبوات، وألقوا بها داخل الدار، وارتد الجميع للخلف قليلا ورقدوا إلى أن صم آذانهم صوت انفجار هائل تطاير على أثره الغبار في كل مكان.

ثم انسحبوا إلى رئاسة القطاع ومعهم جريح واحد هو المجاهد (ضيف الله) من الإخوان السوريين، وفي المساء كانت إسرائيل تذيع نبأ المعركة وتنعي إلى اليهود مقتل ضابط كبير من ضباطهم، ومعه عدد آخر من الضباط والجنود ماتوا تحت الردم، على مقربة من مواقع الإخوان المسلمين في صور باهر».

6- احتلال تبة «اليمن» وإطلاق اسم تبة الإخوان المسلمين عليها:

حاول اليهود الهجوم على (صور باهر) غير أن هجماتهم المتكررة تكسرت تحت تحصينات الإخوان القوية، فقرروا الاستيلاء على المرتفعات المجاورة، للانقضاض منها على (صور باهر)، وعلى قيادة القوات الخفيفة في بيت لحم، وحشدوا حشودهم لهذا الغرض.

فأرسل الأخ محمود عبده قوة كبيرة لتقوم بهجوم مضاد، تستعيد به تبة «اليمن» التي كانت أولى المرتفعات التي احتلها اليهود، وعين لقيادة هذه القوة الملازم أول خالد فوزي.

وقد نجح الإخوان في الهجوم الذي شنوه على اليهود الذين تراجعون بعد مقاومة شديدة وخسائر من الطرفين، وقد وصفت قيادة بيت لحم هذا الهجوم في إشارتها إلى قيادة الجيش بتاريخ 20 أكتوبر سنة 1948 تقول:

قام العدو بهجوم عنيف على جميع مواقعنا الدفاعية تحت ستار غلالة شديدة من نيران الأسلحة الأتوماتيكية والهاونات وقاذفات الألغام والمدفعية الثقيلة، صدت قواتنا الهجوم وتمكن العدو من الاستيلاء على مواقعنا بجبل «اليمن»، قامت قوة من الإخوان المسلمين بقيادة الملازم أول خالد فوزي بهجوم مضاد فطردت العدو بعد أن كبدته خسائر فادحة.

وقد علقت جريدة (الناس) العراقية في عددها الصادر 7/11/ 1948 على هذه المعركة بمقال تحت عنوان (بسالة متطوعي الإخوان المسلمين) جاء فيه: «وأن اليومين الماضيين امتازا ببسالة منقطعة النظير من متطوعي الإخوان المسلمين، فقد استولى اليهود شمال غربي بيت لحم بعد محاولات عديدة على جبل مرتفع يسمى «تبة اليمن» ويشرف على قرى «الولجة» و «عين كام» و «المالحة»، وما جاورها وأصبحوا يهددون كل المناطق المحيطة بها.

ورأت قيادة الجيش المصري ضرورة تطهيرها فندبت لذلك عددًا من متطوعي الإخوان المسلمين في «صور باهر» فتقدمت سرية منهم، ولم تمر ساعة حتى كانت هذه الفرقة قد أجهزت على القوة اليهودية وغنمت ذخيرتها ومتاعها وحررت قرية «الولجة» وأصبحت تسيطر على منطقة واسعة.

وقد أصدرت قيادة الجيش أمرًا بتسمية الجبل «تبة الإخوان المسلمين» وقد استشهد من الإخوان كل من مكاوي سليم علي من الزقازيق، والسيد محمد قارون من المنصورة، وإبراهيم عبد الجواد من الفيوم، رحمهم الله رحمة واسعة.

تموين قوات الجيش المصري المحاصرة في «الفالوجا»:

يئس العدو من اقتحام بيت لحم والخليل لوجود هذه القوات المؤمنة فيها فركز هجومه على قوات الجيش المصري في «أسدود» و «المجدل» واستطاع أن يجلي القوات عن هاتين المنطقتين، وأن يحاصر قوة كبيرة منها في «الفالوجا» يرأسها الأميرالاي سيد طه، فاهتم الإخوان بتموين هذه القوة المحاصرة حتى تستطيع الصمود على الرغم من أنه لم يعد لقوات الإخوان طريق يصلها بالقاهرة إلا طريق الخط الجوي عمان- القاهرة.

أخذت قوافل المعونة تتسلل عبر الصحاري الواسعة التي يسيطر عليها العدو، وهي تحمل المؤن للقوات المحصورة في الفالوجة، وتتعرض في طريقها لكثير من الاشتباكات مع دوريات العدو، وكان يقود الإخوان في تسللهم هذا لنجدة الجيش المصري في الفالوجا الأخ الكريم «اليوزباشي معروف الحضري». وقد تعقبه اليهود حتى استطاعوا الظفر به في إحدى العمليات ونقلوه إلى خطوطهم الخلفية أسيرًا حتى نهاية الحرب وتبادل الأسرى. يرحمك الله أيها الأخ الكريم رحمة واسعة ويرزقك الفردوس الأعلى من الصديقين والأنبياء والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.

وبينما كان الإخوان يعملون بهمة وإخلاص في تموين القوة المحاصرة في الفالوجا أصد النقراشي باشا قرار بحل هيئة الإخوان المسلمين في مصر ومصادرة أموالها، ولكن الإخوان قدروا حجم الكارثة لو أنهم قاموا بعمل مضاد، فهم وحدهم الذين يحمون مناطق بيت لحم والخليل وكانوا في هذا الالتزام ملتزمين بأوامر وصلتهم من المرشد العام، تلزمهم بالهدوء والسكينة منعًا من وقوع الكارثة وضياع هذه المنطقة الكبيرة التي تقع تحت حمايتهم وحدهم.


نماذج من عمليات الحصار ونسف الطرق التي قام بها الإخوان في الحرب والدفاع عن العريش

1- قامت قوة من الإخوان بقيادة المجاهد (حسن عبد الغني) بتدمير شبكات المياه بين مستعمرتي «بيرى» و «أتوكوما» وأباحت أنابيب المياه لأعراب المنطقة ينتزعونها من الأرض تحت حراستهم، حتى نزعت من الأنابيت مساحة شاسعة، ثم رابطت في المنطقة، لتمنع العدو من إصلاحها، وصبر اليهود يومين عسى أن تنصرف قوة الإخوان لشأنها، ولكن القوة العنيدة ظلت تواصل تدمير الأنابيب ونزعها والتعرض للمصفحات والقوافل التي تحاول إصلاحها، فلم تجد القيادة الإسرائيلية بدا من الدخول في معركة مباشرة خارج تحصينات المستعمرات وكان هذا هو المطلوب.

جمعت القيادة الإسرائيلية عددًا كبيرًا من المصفحات من جميع المستعمرات، وأحاطت بالقوة الإخوانية من جميع الجهات، وأخذت تقترب منها على أمل أن تظفر بها، وثبت الإخوان ثباتًا عجيبًا، وأوقعوا في اليهود عددًا من القتلى قبل أن يبعثوا في طلب النجدات من معسكراتهم.

وجاءت مصفحات الإخوان وأقامت حول مصفحات العدو، الذي أسقط في يده حين رأى نفسه محصورا بين نارين، فاضطر إلى طلب نجدات أخرى من المستعمرات القريبة، وامتلأ ميدان المعركة بقوات كبيرة من الجانبين، واشتد القتال بين الفريقين على نحو لم يسبق له مثيل، حتى يئس العدو من زحزحة الإخوان من موقفهم، فأخذ يطلق سحبًا من الدخان ليستر انسحابه، وما كادت أطباق الدخان تنجاب عن ميدان المعركة حتى سارع الإخوان يجمعون غنائمهم من السلاح، ويعودون لتدمير الأنابيب من جديد.

2- محاولة من اليهود لتسميم الآبار في خزاعة وحرق جثث الذين أقدموا على ذلك:

حاول اليهود تسميم آبار يستعملها الإخوان في منطقة «خزاعة» انتقامًا لتدمير أنابيب مياههم، وذلك بأن أرسلوا رجلين يرتديان الملابس العربية ويتظاهران باستجلاء الماء، وكان منظرهما يدعو إلى الريبة، فاقترب منهما الجندي الإخواني الحارس وأمرهما بالوقوف، فلاذا بالفرار، فتعقبهما الجندي الإخواني الحارس وعدد من إخوان سريته المرابطة في هذه المنطقة بقيادة المجاهد (نجيب جويفل) حتى أدركوهما وأمروهما بالتسليم أو إطلاق النار، فرفعا أيديهما بالتسليم، وحين اقترب الإخوان منهما، انبطحا على الأرض في سرعة وقذفا على المهاجمين عددًا من القنابل اليدوية وأسرع الإخوان بملاصقة الأرض ثم أطلقوا عليهما النار فأردوهما قتيلين.

وهنا على مقربة من مستعمرة «تيريم» حمل الإخوان الجثتين، ونضخوهما بالبترول وأشعلوا فيهما النيران على مرأى جيد من المستعمرات انتقامًا من هذا الغدر.

وجن جنون اليهود واخذوا يلوحون بأيديهم في غضب وانفعال، وحين جن الليل هاجموا مواقع الإخوان في «خزاعة»، ولكنهم لم يتمكنوا من زحزحتهم، وقد استشهد في هذه المعركة شهيد واحد هو الأخ «عيسى إسماعيل» من إخوان الشرقية.

3- معركة أبو معليق وتدريب مجموعة من شباب البدو على القتال:

استفاد الإخوان من غدر اليهود في منطقة أبو معليق، حيث كانت إحدى القوافل اليهودية تمر قريبًا من مضارب البدو، وكان الإخوان قد لغموا هذا الطريق، فانفجرت الألغام في هذه القافلة، وظن اليهود السوء بالبدو، فغدروا بهم وأخذوا يطلقون عليهم النار، ولكن قوة من الإخوان كانت مستعدة عن قرب، فهاجمت مؤخرة اليهود حتى أرغمتهم على الهرب إلى مستعمراتهم.

والتحم البدو المجني عليهم بالإخوان لما رأوا جسارتهم، فقام الإخوان على تدريبهم على القتال، وكان الأخوة «علي صديق» و «نجيب جويفل» و «حسن عبد الغني» وغيرهم يتناوبون على تدريبهم، ثم قام الإخوان بتشكيل مجموعة منهم للتطوع في القتال، وفتحوا باب التطوع للآخرين، فانهال عدد كبير من الشباب البدو، وكون الإخوان منهم عددًا من السرايا المقاتلة أشرف على تدريبها الأخ نصر الدين جاد.

وحينئذ أقام الإخوان في المنطقة موقعًا حصينًا فوق تل مرتفع يشرف على مساحات واسعة من الأرض، وأحاطوه بالأسلاك والألغام، وزودوه بالأسلحة والعتاد، وأشرف قادة المعسكر على تنظيم دوريات مسلحة تخرج بمعونة البدو، وتتعرض لقوافل التموين اليهودية فتدمرها وتقتل الكثيرين ممن فيها، مما اضطر اليهود إلى مهاجمة الموقع أكثر من مرة بمصفحاتهم غير أنهم لم يفلحوا في اقتحامه.

وفي صبيحة يوم 19/7/ 1948م حشدوا قوات كبيرة من جميع المستعمرات القريبة ومهدوا لهجومهم بضرب شديد من مدفعيتهم ثم تقدموا تحت حماية المصفحات.

وقد تصدى لهم إخوان المعسكر بقيادة الأخ «محمد الفلاحجي» من إخوان الدقهلية وأحاطوا بهم وسط التلال المتناثرة على مقربة من قرية «أبو معليق» وأوقعوا بهم خسائر فادحة وأرغموهم على التقهقر بعد تدمير عدد من المصفحات.

وقد استشهد في هذه المعركة الشهيد «سيد حجازي» وجرح فيها قائد المعسكر الأخ «محمد الفلاحجي».

4- علي صديق يحصد اليهود على مشارف كفار ديروم:

بعد معركة الإخوان الثانية لاحتلال كفار ديروم بقيادة أحمد عبد العزيز واستشهاد عدد كبير في هذه المعركة التي لم يتتحقق أهدافها، قرر ضرب حصار على المستعمرة، وأحكموا الحصار، وفي اليوم التالي للمعركة حاول العدو تحطيم هذا الحصار وإدخال قافلة كبيرة محملة بالجنود والعتاد، وكانت هي الفرصة التي ينتظرها الإخوان، يسيل لها لعابهم، فنظموا كمينًا محكمًا، وحشدت مدفعية الإخوان مدافعها على سفوح التلال المشرفة على الطريق وحين دخلت القافلة في الدائرة المرسومة أمر اليوزباشي «حسن فهمي» قائد المدفعية بالضرب، فانطلقت المدافع من أبعاد قريبة، وحاول اليهود الدفاع عن أنفسهم بادئ الأمر، ولكنهم وجدوا أنفسهم محصورين داخل حلقة فولاذية، فاختاروا أهون الضررين وقذفوا بأنفسهم من المصفحات وحاولوا النجاة بأرواحهم فرارًا إلى مستعمرة «كفار ديروم».

وكان الأخ «علي صديق» مختبئًا بعناية وراء التلال القريبة، ينتظر هذه الخطوة، فلم يكد اليهود ينزلون من المصفحات ويتحركون تجاه المستعمرة، حتى انطلقت الرشاشات من كل صوب فحصدتهم حصدًا.

ولما حاول حماة المستعمرة تجدتهم، تركهم الإخوان يغادرون الأسلاك الشائكة ويبتعدون عن المستعمرة، ثم بدئوا يطلقون عليهم النار من «أوكار» معدة بعناية حتى سقط منهم عدد كبير، وتراجع الباقون إلى المستعمرة.

وقد غنم المجاهدون خمس عشرة مصفحة مشحونة بأحدث طراز من الأسلحة والذخائر ومواد التموين، وعمهم البشر لهذا الانتصار الرائع الذي عوض خسارتهم بالأمس، حيث وجدوا إحدى المصفحات مملوءة بالدجاج والطيور من مختلف الأنواع والأحجام.

وقد استمر الإخوان يحاصرون هذه المستعمرة حتى جلاء عنها اليهود، واحتلها الإخوان دون قتال في منتصف يوليو، بعد أن أفلحوا في إنهاك وحدة الهاجاناه، التي كات تحميها إلى درجة لم تعد تتحمل بعدها مزيدًا من البقاء.

5- علي صديق يحرق سيارة يهودية تتحرك من مستعمرة رامات راحيل في اتجاه مستعمرة الدجاج:

في ليلة من الليالي أثناء الهدنة الثانية كان الأخ «علي صديق» في حراسة لموقع (مجاهد) بدلا من الأخ «محمود حسن» الذي كان متعبًا فنصحه علي صديق بالراحة هذه الليلة.

وبينما كان علي يرقب ما حول المستعمرة إذا به يشاهد سيارة يهودية محملة بمجموعة من الضباط تتحرك ليلا من مستعمرة رامات راحيل في اتجاه مستعمرة الدجاج، فراوده خاطر سريع، أن يتقرب إلى الله بدماء هؤلاء المغتصبين الذين قال الله فيهم إنهم أشد عداوة للذين آمنوا ولم يكن يمنعه إلا قرار الهدنة.

ولكنه وقد كانت يده على الزناد، وجد نفسه يضغط موجهًا مدفعه الفيكرز تجاه سيارة العدو فاشتعلت النيران بمن فيها، وما إن سمعت مواقع الإخوان بهذه الطلقات، حتى صبت أتونا من نيرانها على جميع مواقع العدو.

وما إن سمع القائد بهذه النيران، حتى حضر إلى الموقع الذي انطلقت منه قذائف الموت وعندما أراد أن يستطلع الخبر، اكتفى الأخ علي صديق بأن أشار له بيده نحو السيارة المحترقة التي كانت في طريقها لاختراق خط الهدنة، وقد حقق مراقبو الهدنة في هذا الحادث.

6- قطع الطرق المؤدية إلى مستعمرة «بيرون إسحق» أثناء هجوم الجيش المصري عليها:

كانت مهمة الإخوان في ذلك الوقت تتلخص في إرباك مستعمرات النقب، وإشعالها في الدفاع عن نفسها، حتى لا تفكر في الانقضاض على مؤخرة الجيش المصري وهو مشغول بعاركه الأمامية في مناطق أسدود والمجدل والفالوجا.

فمرت بالإخوان في ذلك الوقت فترة من أنشط الفترات، وبلغت المعارك بينهم وبين اليهود إلى عنفوان شدتها، ولم يكن يمر يوم واحد حتى تنشب الاشتباكات الدامية في مناطق مختلفة من الصحراء، والإخوان في ذلك غير مقيدين مطلقًا بما جد من أساليب الخداع والتثبيط كقرارات الهدنة ووقف القتال.

بل لا يعتبر من المبالغة إذا قلنا أن الإخوان كانوا يعملون في فترات الهدنة أكثر مما يعملون في أوقات القتال، وقد قدموا في معاركهم هذه الكثير من الجرحى والشهداء.

وعندما فكر الجيش المصري في الهجوم على مستعمرة «بيرون إسحق» طلب البكباشي «عبد الجواد طبالة» من معسكر الإخوان أن يقوموا بقطع الطرق التي تصل إلى المستعمرة فعهدت بهذا العمل إلى الأخوين «نجيب جويفل» و «محمد علي سليم».

رابط «نجيب جويفل» و «محمد علي سليم» بفصائلهما على نقاط متقاربة على الطريق، فلما بدأت القوات المصرية الهجوم على المستعمرة واشتد الضغط على حاميتها بعثت تطلب المزيد من القوات، واستجابت لها القيادة اليهودية، وما هي إلا برهة يسيرة حتى امتلأ الطريق بالمصفحات القادمة من مستعمرات النقب الجنوبية ونشبت معركة شديدة بين فصائل الأخوين «نجيب جويفل» و «محمد علي سليم» وبين هذا العدد الهائل من المصفحات.

ولكن قوة النيران الموجهة إلى اليهود من الأسلحة الأوتوماتيكية ومدافع الهاون، وحقول الألغام التي زرعت في طريقهم اضطرتهم إلى العودة من حيث أتوا تاركين مستعمرة بيرون إسحق تعاني وحدها شدة المعركة أمام الجيش المصري وتستغيث ولا مغيث.

7- انتقام الإخوان من اليهود لهجومهم على أحد مضارب البدو وإشعال النيران به بعد أن قتلوا كثيرًا من رجاله وجاء الأحياء منهم يشكون من هذه المذبحة:

ظن العدو سوءًا بأحد مضارب البدو، واعتقد أن رجاله يتعاونون مع الإخوان فهجموا عليه وقتلوا العديد من رجاله وأضرموا فيه النار وجاء الأحياء منهم يستنجدون بمعسكر الإخوان من هذا الشر المستطير، فقرر الإخوان الانتقام لهم من اليهود.

تسللت قوة من الإخوان في جوف الليل إلى إحدى المناطق الداخلية متوغلة في أرض اليهود، حرمهم الخاص، وهناك على طريق السيارات بثوا حقلاً كبيرًا من الألغام، وانفلتوا في أحد الوديان المجاورة ينتظرون مقدم «الصيد» وجاءت قافلة كبيرة عند الفجر، فلم تكد تمس الألغام حتى انفجرت وتطايرت أجزاء السيارات في الفضاء، وظل الإخوان في مكمنهم حتى انجلى الدخان، وقام من نجا من اليهود، فأخذوا يطلقون عليهم النار، حتى مات من مات وفر من استطاع الفرار، ثم جمعوا القتلى وكدسوهم كومة واحدة، بعد ما أخذوا ما وجدوه من سلاح وعتاد، وتركوا أمام كوم الجثث منشورا ينبئ اليهود بأن هذا الحادث جاء ردًا على ما ارتكبوه ضد العرب الآمنين.

وقد سمع القائد العام بهذه العملية الجريئة فأبدى رغبته في رؤية بعض الأسلحة التي غنمها الإخوان، وأعجب كثيرًا بما شاهده منا خاصة أحد مدافع «المورتر» المصنوعة حديثًا في بلجيكا.

8- اشتراك الإخوان في الهجوم على مستعمرة دير سنيد بعد إحكام محاصرتهم لها:

كانت مستعمرة دير سنيد تحتل نقطة حاكمة بالنسبة للمناطق العربية المجاورة لها، وكانت هذه المستعمرة تقوم على الطريق الساحلي الرئيسي للجيش في قطاع غزة المجدل، ولم يكن بالإمكان تجاهلها أو الاكتفاء بحصارها، كما حدث بالنسبة إلى مستعمرة «كفار ديروم» أو «يتروم» وغيرها من مستعمرات النقب.

وفي 16 مايو سنة 1948م طلبت قيادة الجيش من الإخوان قطع خطوط مواصلات المستعمرات لتمنع وصول النجدات إليها من المستعمرات المجاورة عندما يوجه إليها الجيش المصري ثقله مهاجمًا.

وفي يوم 19 مايو سنة 1948 تحركت مدافع الميدان لتحتل مواقع قريبة من المستعمرة غير أن الهجوم الفعلي لم يبدأ إلا عصر يوم 19 حين أخذت المدفعية تركز نيرانها على موقع المراقبة الأمامي القائم جنوب المستعمرة، حتى دمرت أجزاءه البارزة على سطح الأرض تدميرًا، ثم حاولت المشاة اقتحامه، ولكنهم فوجئوا بنيران شديدة من الرشاشات مما اضطرهم إلى تأجيل الهجوم الحاسم.

كانت قوة الإخوان تقوم بحصار طرق المواصلات خلال الأربعة أيام السابقة للهجوم، وقد صد الإخوان خلال هذه المدة عدة محاولات جريئة من جانب العدو لتعزيز وحدة الهاجاناه في المستعمرة وإمدادها بالمؤن والذخائر، ولم تستطع مصفحات العدو من الوصول إلى المستعمرة مخترقة حصار الإخوان لها، إلا جزًا يسيرًا من طابرو يتكون من عشرين مصفحة، هاجم الإخوان من جهة مستعمرة «كفار ديروم» فاشتبكوا مع الطابور في معركة ضاربة بالرشاشات ومدافع البازوكا، مما اضطر هذا الطابور إلى الارتداد من حيث أتى بعد أن نجح عدد يسير منه في الوصول إلى المستعمرة وكان ذلك في لية 24 مايو سنة 1948.

وبينما كانت معارك الطرق تدور بين اليهود والإخوان كرر الجيش هجومه على المستعمرة المعزولة عن كل عون من الخارج، وحين اشتدت المعركة طلبت قيادة الجيش فصيلة من الإخوان للاشتراك فيها، وبالفعل اشترك الإخوان في الهجوم على هذه المستعمرة بفصيلة وثلاث مصفحات، كان الإخوان قد غنموها من اليهود في معارك النقب، وحتى سقطت «دير سنيد» المسماة «ياد مردخاي» في أيدي الجيش المصري وكان لسقوطها دوي عظيم، كما كان له أسوأ الأثر في نفوس الإسرائيليين.

ولا شك أن أهم دور في هذه المعركة كان نجاح الإخوان في منع وصول النجدات اليهودية للمستعمرة حيث لو أمكن لليهود إقامة جسر بين المستعمرة المهاجمة، ومجموعة المستعمرات التي حولها لتغيرت حتمًا نتيجة المعركة.

خاتمة لازمة لهذا الفصل

إن هذه الروح العالية في قتال الأعداء، هي أعز ما يتمنى أن يصل إليه الحكام الصالحون بين أفراد قواتهم المسلحة، ليضمنوا لأوطانهم النصر العزيز، ولقد رأينا الدول الحرة تتسابق في بذل كل مرتخص وغال لتصل بهؤلاء الأفراد إلى مثل هذا المستوى الرفيع من التضحية والفداء.

فإذا ما ظهر من بين أبناء وطننا العزيز من الأفراد المدنيين من ارتفعت روحهم المعنوية فاستبسلوا في القتال والتدريب على هذا النحو الفريد الذي رأيناه في الفصلين السابقين دون أن يكلفوا الدولة درهمًا ولا دينارًا، لوجب على حكامها المخلصين أن يدرسوا هذه الظاهرة الفريدة، ويتعرفوا على أسرارها لاستخدامها في بناء قواتهم المسلحة خاصة، وتعميمها بين جميع أبناء الوطن عامة، ليضمنوا لوطنهم عزًا تليدًا، ومجدًا أكيدًا، وليس هناك سر في ذلك كله إلا التربية الإسلامية والأخذ بمبادئها الغراء، التي أوصانا بها العزيز الحكيم.

ولقد ثبت لنا بيقين أن ما ظهر على أيدي صحابة رسول الله من بسالة فذة، ورغبة حقة في الاستشهاد في سبيل الله أدت إلى نصر المسلمين على دولتي الكفر: الفرس والروم مجتمعتين في فترة قصيرة من عمر الزمان، رغم قلة العدد والعتاد، لم يكن هذا الذي ظهر قاصرًا على ذلك الجيل وحده، بل هو نتيجة حتمية لكل من يطبق شريعة الإسلام ويربي أبناءه على مبادئها السمحة، وقد رأى حكام العرب والمسلمين كل هذا الذي قصصناه من بطولات أفراد الإخوان المسلمين في جبهتي القتال سواء في فلسطين أو في القتال، وكان جدير بهم جميعًا أن ينتفعوا بهذا السر الذي غاب عنهم عدة قرون، فيكرموا هؤلاء الأبطال ويأخذوا عنهم أسلوبهم في التربية والتدريب والوفاء، فيتحقق بذلك لدولهم الأمن والأمان ولأشخاصهم المجد الخالد والعز التالد، ولكننا رأينا العجب العجاب.

رأينا حكام مصر يقلبون لأبنائهم الذين استبسلوا في القتال باعتراف كبار قادة جيوشهم استبسالا أذهل كل من رأى ومن سمع، ظهر المجن، فيناصبونهم العداء ويبذلون كل مرتخص وغال لتحطيم هذه الروح العالية الفذة الفريدة، وتلك لعمري هي الخيانة العظمى التي نفرد لبيانها الفصل القادم إن شاء الله..


الفصل السابع : الخيانة العظمى في مصر وانتصار الإخوان على مرتكبيها مع بيان حكم الشريعة الإسلامية بإغتيال المحاربين للإسلام


كانت الخطة المشتركة بين الاستعمار الأب الحقيقي للصهيونية، وبين أعوانه من الخونة من حكام الدول العربية، في ذلك الوقت لتسليم فلسطين لليهود، هي أن تتقدم الجيوش العربية بقيادة قائد إنجليزي هو جلوب باشا رئيس هيئة أركان القوات الأردنية الهاشمية إلى داخل فلسطين ، لتنهزم هذه الجيوش السبعة، ويكون ذلك إعلانًا واقعيًا على قيام دولة إسرائيلية على أرض فلسطين تعادل في قوتها قوة الدول العربية السبعة مجتمعة، ولتأمين هذه النتيجة كان قد تم تسليح الجيش المصري بأسلحة فاسدة تقتل صاحبها عند الإطلاق، كما تم تلقين جلوب باشا الأوامر المناسبة لإجلاء المواقع الهامة من القوات العربية المحاربة ليستولي عليها اليهود دون قتال، ثم يأخذون قتلاً وتشريدًا لأبنائها من الرجال والنساء والأطفال، كما حدث في دير ياسين.

ولقد نفذت الخطة بالفعل، فتقدم الجيش المصري إلى بينا على مسيرة عشرين ميلا من تل أبيب. حسب الخطة العربية العامة، ولم تحاول المستعمرات اليهودية أن تعترض طريق الجيش المصري حسب الخطة اليهودية العامة، بل أظهرت كل معاني الضعف والاستسلام، وكان بعضها يرفع الأعلام البيضاء على قمم الأبراج الشاهقة، حتى يمضي الجيش في تنفيذ خطته.

ولا يغير من ذلك وقوع بعض التحرشات التي قام بها الجيش المصري أثناء تقدمه، استجابة للروح المعنوية التي كانت تعتمل في صدور أفراد هذا الجيش ضباطًا وأفرادًا.

وكانت أول محاولة للتحرش هي مهاجمة مستعمرة «تيريم الدنجور» على الحدود المصرية في 16مايو سنة 1948 م، حيث أطلق عليها الجيش نيران مدفعيته ثم حاول المشاة اقتحامها، ولكنهم صرفوا النظر لما وجدوا منها مقاومة عنيفة، واستمروا في التقدم مكتفين بحصار هذه المستعمرة.

ثم واصل الجيش تقدمه شمالاً وأخذ يهاجم (كفار ديروم) و (بيرون إسحق) و (كوكبة) و (نحبيا) وغيرها دون أن يحتل أي منها.

وقد نجح في احتلال «بتسانيم» بعد معركة دامية أظهر فيها الجنود المصريون ضروبًا من البسالة، كما نجح في احتلال «دير سنيد» على النحو الذي سبق لنا تفصيله وأظهرنا دور متطوعي الإخوان المسلمين فيه.

ولكن الروح المعنوية للضباط والجنود ضعفت بعد تدخل السياسة وفرض الهدنة الأولى والثانية، وما كادت طلائع الجيش تصل إلى «أسدود» حتى تجمعت القوات اليهودية من منطقة «رحبوت» وهاجمته هجومًا عنيفًا، أفلح الجيش المصري في صده وتكبيده العدو خسائر فادحة، ولكنه توقف عند أسدود، ولم يتمكن من التقدم بعد ذلك متخذًا موقف الدفاع عن نفسه وعن الأرض التي احتلها.

ثم زحفت القوات المصرية شرقًا واتصلت بقوات المتطوعين المصريين المرابطة في جبال الخليل بقصد عزل مستعمرات النقب عن بقية أجزاء فلسطين .

ولكن هذه القوات لم تعمل شيئا ضد عشرات المستعمرات وعشرات الآلاف من جنود العدو المتناثرة داخل هذا الإطار الذي رسمته القوات المصرية لقواتها.

ثم فرضت الهدنة الأولى لتمكين العدو من جلب أنواع جديدة من الأسلحة الثقيلة والطائرات الضخمة، وحين آنس اليهود في أنفسهم القوة والإعداد ضربوا بالهدنة عرض الحائط وأخذوا يهاجمون تقاطع الطرق ويحتلونها، وانتفضت المستعمرات الهادئة الوادعة لتؤدي دورها المرسوم، فقطعت طرق المواصلات حين كان الضغط يشتد على خطوط الجيش الأمامية، مما اضطر قيادته إلى تقصير خطوطه والتخلي عن مناطق المجدل وأسدود والتجمع في منطقة رفح- غزة، تاركا خلفه قوة قوامها خمسة آلاف جندي محاصرة في الفالوجا لم تستطع الإفلات واللحاق بالجيش المنسحب إلى غزة دون سبب ظاهر.

والغريب أن تصدر الأوامر بالانسحاب من هذه المناطق الشاسعة دون أن يبذل الجيش أي مجهود في ضرب فصائل العدو التي أخذت تقطع الطرق على إمداداته، ودون أن يتعرض الجيش لهجوم جدي يضطر بسببه إلى الانسحاب، فقد كانت ضغوط العدو من جهة الشمال مما يمكن صده بسهولة كما سبق أن فعل الجيش عند أسدود. وليس هناك أدنى سبب لبقاء قوات الفالوجا محصورة بعد انسحاب الجيش المصري إلى قطاع رفح- غزة، بينما كانت منطقة بئر سبع في أشد الحاجة إليها لحمايتها.

ولم يعد هناك من أمل في إنقاذ فلسطين ، بعد أن أصبحت قوة الجيش كلها متجمعة في منطقة رفح- غزة، بأوامر عليا، ولواء الفالوجا الذي كان مقررًا أن يحتل بئر سبع محاصر في الفالوجا لا يستطيع حراكًا، ولم يعد في الإمكان حمايته إلا بمحاصرة المستعمرات الكبيرة وعدم إعطائها فرصة للتكتل، حتى يفرغ الجيش من إعادة تنظيم خطوطه الدفاعية ويستطيع أن يصمد للهجمات التي تكررت عليه من قبل القوات اليهودية، وهو ينسحب إلى منطقة رفح- غزة، والتي استمرت تتوالى عليه في مواقعه الجديدة قبل أن يتحصن ويستعد للدفاع عن نفسه.

القيادة العليا للجيش تطلب كتيبة من متطوعي الإخوان لإنقاذ الموقف والنقراشي يمنع الكتيبة من التحرك:

وتركز الأمل في أن يقوم متطوعو الإخوان بهذا الواجب الكبير، وقد تقدموا فعلا إلى قيادة الجيش بهذا الرأي الذي وافق عليه اللواء المواوي، وكتب إلى كل من الأمانة العامة للجامعة العربية وإلى رئاسة أركان الحرب يطلب تجنيد كتيبة من الإخوان عن طريق المركز العام وإرسالهم فورًا إلى الميدان ليتمكن من السيطرة على الموقف.

وسافر فعلا فضيلة الشيخ محمد فرغلي قائد المتطوعين الإخوان في منطقة رفح ليعمل على تجهيز هذا العدد الكبير وترحيله فورًا إلى الميدان.

وفي نفس الوقت نشطت قوات الإخوان الموجودة بالفعل في الميدان، في عمليات قطع الطرق وإنزال الخسائر بالعدو على النحو الذي فصلناه في الفصل السابق، مما كان له أكبر الأثر في تمكين الجيش من الاستمرار في المواقع الجديدة التي اختارها لنفسه.

وما إن طلب المرحوم عبد الرحمن عزام باشا أمين الجامعة العربية من الإخوان تجهيز الكتيبة المطلوبة لإنقاذ الموقف وشل حركة اليهود والتحول إلى الهجوم بدلا من الدفاع، حتى بادر الصاغ محمود لبيب بطلب متطوع واحد من كل شعبة من شعب الإخوان على النحو المفصل في شهادة سيادته في قضية السيارة الجيب، واستعد الإخوان للتحرك.

ولكن ما إن وصل النبأ إلى مسامع النقراشي باشا حتى هاج وماج ورفض قبول الفكرة من أساسها على الرغم من أنها مطلب رئيسي لقيادة الحملة في فلسطين ، ولم يكن هناك أدنى تفسير لذلك غير ما ظهر على الفور من تجنيد النقراشي باشا لقوى الأمن في مصر للقضاء على الإخوان المسلمين ، مصدر القوة الرئيسي لإمداد القوات المسلحة بحاجتها من الفدائيين لإكمال النصر، كما أمر قيادات الجيش باعتقال المقاتلين من الإخوان في الميدان، حتى لا يسهموا في إنقاذ الجيش المصري، الذي كان مقررًا له أن يعلن الهزيمة ويستسلم للصهاينة إسهامًا من حكومة مصر الخائنة في قيام إسرائيل على أرض فلسطين ، هذه هي الخيانة العظمى، الماثلة للعيان بحقائقها المادية دون ما حاجة إلى استقراء الوثائق البريطانية والأمريكية التي تدمغ قوى الاستعمار بدفع الحكومة المصرية إلى القضاء على الإخوان المسلمين ، ومع ذلك فلابد لنا من أن نعرض لهذه الوثائق التي نشرت بالفعل، بعد مضي المدة القانونية لحظر الإطلاع عليها، والتي تطوع بنشرها في جريدة «المسلمون» الأستاذ محسن محمد رئيس تحرير الجمهورية في سلسلة من المقالات تحت عنوان من قتل الإمام الشهيد الأستاذ حسن البنا .

وقبل أن نعرض إلى هذه الوثائق يجمل بنا أن نركز على الصورة الواقعية في الميدان والتي فرضت على الخونة التعجيل بضرب الإخوان انتصارًا لأعداء هذا الوطن وتمكينًا لهم من احتلال فلسطين .

1- كانت قوات الإخوان المسلمين في مناطق رفح- غزة حيث تمركز فضيلة الشيخ فرغلي بقواته في معسكر البريج وتمركزت فصائل من الإخوان في معسكر غزة ومعسكر النصيرات بقيادة الأخ محمود عبده ، ثم تحركت هذه الفصائل إلى مناطق بيت لحم- الخليل، حيث تمركزت في «صور باهر» بقيادة الأخ محمود عبده ، وأنزلت بالعدو خسائر بعد أن مرت وهي في طريقها إلى بيت لحم بمناطق العوجة- عصلوج- بئر سبع- حيث تمركز الأخ عبد المنعم عبد الرءوف بقواته وهو ينزل بالعدو كل يوم خسائر فادحة ويحمي ظهر الجيش المصري من الجنوب، وهذا الأمر لا يغيظ إلا الأعداء، لكنه يدخل السرور والانشراح في قلوب الأصدقاء.

فإذا اغتاظ النقراشي باشا وأصدر قراره في هذا الموقف بحل الإخوان في مصر واعتقالهم وحبس المجاهدين في فلسطين ، فمن أي الفريقين يكون؟ ومع أي الجانبي يعملمصر أو إسرائيل؟

2- كانت قوات الجيش المصري تنسحب من مواقعها التي احتلتها وتنكمش في منطقة رفح- غزة وطلبت نجدة من متطوعي الإخوان لمضاعفة الضربات للعدو، حتى تأخذ فرصة لتعزيز دفاعاتها استعدادًا للهجوم واسترداد الأرض التي انسحب منها الجيش، فإذا أعلن الإخوان استعدادهم وبدأوا فعلا في تجهيز الكتيبة المطلوبة، ثم هاج النقراشي باشا وثار، وأمر بمنع سفر الكتيبة، واتخذ على الفور إجراءات القضاء على هذا العنصر الذي يعزز الجيش المصري ويدعمه فمن أي الفريقين يكون النقراشي باشا؟ ومع أي الجانبي يعمل، مصر أو إسرائيل؟.

إنه يعمل مع إسرائيل دون نزاع ودون حاجة إلى استطلاع الوثائق البريطانية أو غيرها ما دامت حالة التلبس ظاهرة للعيان، وتلك هي الخيانة العظمى بأدلتها الدامغة.

3- كانت قيادة هذا الجيش الإخواني المسلم في السجون، وكانت كل أوراق هذا الجيش وتنظيماته وغاياته وأهدافه مضبوطة في السيارة الجيب تحت تصرف النقراشي باشا، وكانت كل هذه الأوراق تتضح بشرف الغاية ونبل المقصد، فالغاية هي تحرير مصر من الإنجليز ومحاربة الصهاينة والوسيلة أعمال جدية في التسليح والتدريب، واضحة في الأوراق لكل ذي عين تقرأ، ومعلومة لدى النقراشي باشا بحكم تصريحه للإخوان بتسليح أنفسهم وتسليح جنود الهيئة العربية العليا، وقد قرأت المحكمة هذه الأوراق وأعلنت حقيقتها هذه على شعب مصر والشعوب العربية جمعاء.

فإذا كان النقراشي قد أخفى على شعب مصر والشعوب العربية هذه الأغراض الشريفة والمقاصد النبيلة، المؤيدة عمليًا بما يعلم من مجهود غير عادي في تسليح جنود الهيئة العربية العليا وجنود الإخوان وتدريبهم للقتال في فلسطين ، كما أخفى على شعب مصر والشعوب العربية كل ما جاء في هذه الأوراق وقد وضع فعلا موضع التنفيذ، فكان جنود هذا الجيش المسلم يقاتلون فعلا بعلمه وتحت إمرة ضباطه في الميدان مقدمين الشهداء والجرحى فداء للإسلام، دون دعاية أو منٍّ أو تأخير، وكانت قيادة الجيش المصري تلح كل يوم في طلب هذا العنصر من الرجال الذي يحمي مؤخرة الجيش ويشترك في أخطر العمليات العسكرية، ويزعج العدو ويقطع طرق مواصلاته ومحاصرة مستعمراته.

إذا كان النقراشي قد أخفى على شعب مصر والشعوب الإسلامية كل هذه الحقائق التي تحت يده، ونسب إلى هؤلاء الأبطال الجريمة والإجرام، والتخريب والتآمر على الحكم. فماذا يكون النقراشي باشا؟ هل يكون أمينًا على العروبة والإسلام ؟ هل يكون أمينًا على مصر والمصريين؟ أم يكون غادرًا خائنًا، يقاتل المؤمنين ويقف إلى صفوف الكفار، متلبسًا بالغدر والخيانة والتضليل، وإخفاء الحق وإعلاء الباطل، بكل ما يستطيع من وسائل الإعلام والسلطان، إلى حد أن يستصدر الفتاوى الشرعية المضللة لتقول للناس: إن جنود الإسلام الشرفاء الأطهار ليسوا إلا ممن ينطبق عليهم قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33].

أي والله ضلل النقراشي باشا علماء الأزهر الشريف، كما ضللهم خلفه إبراهيم عبد الهادي ليصدروا هذه الفتوى في حق جنود الإسلام الذين يقدمون في كل يوم من الشهداء والجرحى ما سبق أن أوضحنا عند وصف المعارك في فلسطين ، مستعملا سلطان المادة، فهو الذي يرقيهم ويصرف لهم المرتبات، ويختار لهم المناصب، وقد كذب وتحمل وزرهم هو وكل من عاونه أو خلفه متبعًا نفس السبيل، أي شيء هو هذا الوزر؟ إنه النفاق الذي اكتملت صفاته، وتمت عناصره في بناء هؤلاء الرجال الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يدعون أنهم يحسنون صنعًا، ولا أقول مقولة القرآن الكريم: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 104]، ذلك لأنهم أدنى بكثير من هذه الدرجة إ شتان بين من يحسب أنه يحسن صنعا، وبين من يدعي أنه يحسن صنعا وهو يعلم علم اليقين أنه كاذب مضل، مضلل مبين، تجتمع فيه الصفات التي حددها رسول الله للمنافقين:

«آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» كأظهر ما يكون عليه الاجتماع وأوضح.

وقد كذب هو وأعوانه وخلفاؤه أن نسبوا الجريمة إلى المجاهدين في سبيل الله وهم يعلمون إخلاصهم وترد لهم التقارير اليومية عن بطولاتهم وشجاعتهم.

وقد أخلفوا والله إذا وعدوا الأمة بتطهير فلسطين ، وهم ضاربين في أعماق التضليل حيث قدموا جيشًا يثيرون به الغبار زاعمين أنهم يحاولون تحقيق الوعد، ويصدرون له من التعليمات ما يضمن لهم خلف هذا الوعد وتحقيق النصر للأعداء وتثبيت أقدامهم، على النحو الذي فصلناه في إصدار الأوامر إليه بالانسحاب والانكماش في منطقة رفح- غزة، دون أدنى مبرر تفرضه ظروف القتال، ثم قطع التموين عنه لتكون هزيمته مؤكدة، على عكس ما أعلنوا ووعدوا.

وقد خانوا والله إذ اؤتمنوا على أمانة الدفاع عن الوطن، فما رعوا الأمانة حق رعايتها بل إنهم: أولا: أسلموا القيادة العامة للجيوش العربية المسلحة إلى إنجليزي صهيوني هو جلوب باشا وتلك هي ذروة الخيانة.

ثانيًا: سمحوا بتوغل الجيش المصري في فلسطين دون أن يضع خطة عملية لفض «الجيوب» اليهودية الخطيرة، التي توزعت في الصحراء «النقب» حتى يحاصر هذا الجيش من الجنوب بقوات مستعمرات النقب، ومن الشمال بالقوات اليهودية، في المستعمرات الصهيونية، فتتحقق بذلك هزيمته، وإعلان إسرائيل. ثالثًا: قبلوا الهدنة الأولى والثانية لإعطاء اليهود فرصة نادرة لاستجلاب أحدث أنواع الطائرات والدبابات وغيرها، وحبسوا واعتقلوا أبناء مصر البررة، المتطوعين في سبيل الله؛ فمنعوهم من مواصلة العمل، لما رأوا أن في مصر رجال هم أهل فعلا لإنزال الهزيمة بالأعداء، وتخييب آمال حكام مصر في الولاء والفناء ذلا وانكسارًا لهؤلاء الأعداء.

رابعًا: غيروا دون سبب معقول هدف الجيش المصري في احتلال تل أبيب وهو يتقدم إلى الشمال دون مقاومة مخافة أن ينهار العدو باحتلال عاصمته، وقبل تل أبيب بعشرين ميلا عددوا له الأهداف ليضطرب صفه وينكمش جمعه، ويقترب من الهزيمة، وييأس من المقاومة والاستبسال.

خامسًا: سلحوا الجيش بأسلحة ترتد إلى جنوده لتقتلهم، ولا تندفع إلى الأمام لتنصرهم، اللهم إلا القليل من الأسلحة الخفيفة، التي لم يستطيعوا سحبها، وإحلالها بما فسد، لثقتهم أنها لن تحسم المعركة، وأن خدمة العدو في تقديم شعب مصر ممثلاً في جيشها فداء للأعداء هي خدمة أكيدة ومحققة. فما يكون جزء مثل هؤلاء الخونة الغدارين في الإسلام ؟


حكم الشريعة الإسلامية باغتيال المحاربين من الأعداء

إن هؤلاء الجنود الأبرار قدموا دمهم ثمنًا للجنة، لم يقدموه عن إثارة عاطفية حمقاء، بل عن علم ويقين بحكم دينهم الحنيف، فكلهم قبل أن يستعذب الموت في سبيل الله ويعلن أنه أسمى أمانيه، قد تعلم كل ما شرعته عقيدته الإسلامية من قواعد القتال والشهادة في سبيل الله، ولا حاجة لأحد منهم لعالم يفتي له، هل يعمل أو لا يعمل، ولا قائد يقول له هل يتطوع أو لا يتطوع. ولكن كتاب الله الذي بيني يديه، وسنة رسول الله التي تعلمها هي التي تقوده إلى التطوع، والتدافع ليكون في مقدمة المقاتلين المتنافسين على المراكز الأولى بين الفدائيين، ليحظى بريح الجنة، وينزل في الفردوس الأعلى. منازل الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.

ووكلهم قارئ لسنة رسول الله في إباحة اغتيال أعداء الله، لا يحتاجون إلى بيانات تصدر من الإمام الشهيد تحت ضغط التهديد بنسف الدعوة التي بناها من جذورها، وضياع الجهد والعرق الذي بذله في تربية رجالها، لكي يكفوا عن طاعة الله ورسوله.

إن الإمام الشهيد حرصًا على أن يثني الخونة عن خيانتهم، ولعله لم تكن قد اكتملت لديه الصورة اليقينية بهذه الخيانة، فهو لم يشهد ما وقع لجنوده في السجون والمعتقلات، حيث أبقوه بعيدًا عنهم، ولم يشهد ما وقع لجنوده في المعركة، حيث بالغوا في إصدار البيانات الكاذبة، ظن أنه بإصدار بيان للإخوان يوافق أهواء هؤلاء الحكام، سوف يثنيهم عن جريمتهم ويردهم إلى طريق الصواب، ولكن هيهات، فقد اتخذ هؤلاء الحكام من بيان الإمام الشهيد وسيلة للضغط على الإخوان في السجون للتخلي عن عقائدهم ومبادئهم، فلما وجدوا أن ضغطهم ضاع هباء ظنوا أنهم إن قتلوا الإمام الشهيد، وقتلوا هؤلاء الرجال الذين تعلموا عنه الإسلام ومبادئه أمنوا أن تزلزل دولتهم ويضيع سلطانهم، ولكنهم كانوا واهمين، فالحكم لله هو يقضي بالخير والحق، وهو وحتى تقوم الساعة أحكم الحاكمين.

واسمح لي أيها القارئ العزيز أن أقدم لك في هذا السياق ثلاثة نماذج من الأمثلة التي حض رسول الله (ص) فيها جنده لاغتيال المحاربين من أعداء الدين، لتعلم أن مصادر التشريع الموجودة بين أيدي المسلمين هي التي تقودهم، وأنه ما دام الكتاب والسنة في حفظ من الله، فلن يذوق الكفار طعمًا للراحة، حتى ينتصر الحق، ويكون الدين كله لله ولو كره المشركون.

1- سرية محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف :

قال ابن إسحق: إن كعب بن الأشرف كان مع اليهود بالحلف، وكان أبوه عربيا من بني نبهان، أصاب دمًا في الجاهلية، فأتى المدينة فحالف بني النضير، فشرف فيهم وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعبًا، وكان طويلاً جسيمًا، ذا بطن وهامة، شاعرًا مجيدًا، ساد يهود الحجاز بكثرة ماله، فكان يعطي أحبار يهود الحجاز ويصلهم، فلما قدم النبي (ص) المدينة، جاء أحبار اليهود من بني قينقاع وبني قريظة إلى كعب بن الأشرف ليأخذوا صلتهم على عادتهم، فقال لهم ما عندكم من أمر هذا الرجل، فقالوا هو الذي كنا ننتظره، ما أنكرنا من نعوته شيئًا، فقال لهم قد حرمتم كثيرًا من الخير، ارجعوا إلى أهليكم فإن الحقوق في مالي كثيرة، فرجعوا عنه خاسئين.

ثم رجعوا إليه وقالوا: إنا عجلنا فيما أخبرناك به أولاً ولما استنبأنا علماءنا غلطنا، وليس هو المنتظر، فرضى عنهم، ووصلهم، وجعل لكل من تابعهم من الأحبار شيئا من ماله وكان يهجو رسول الله (ص) في أشعاره، ويحرض كفار قريش على قتاله، وكان (ص) حين قدم إلى المدينة مأمورًا بتأليف الناس وبالصبر على الأذى كما قال تعالى ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [آل عمران: 186]، لأنه (ص) ورد المدينة وأهلها أخلاط مجتمعون من قبائل شتى، مختلفة أحوالهم وعقائدهم، فأراد استصلاحهم على كلمة الإسلام ، وكان المشركون اليهود يؤذون المسلمين أشد الأذى فصبروا على ذلك، وكان كعب بن الأشرف من أشد الناس أذى للنبي (ص) وللمسلمين، وكان قد عاهد النبي (ص) ألا يعين عليه أحدًا، فنقض العهد وسبه وسب أصحابه، وكان من عداواته أنه لما قدم البشيران بقتل من قتل ببدر، وأسر من أسر، قال كعب: أحق هذا؟ ترون أن محمدًا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان؟ فهؤلاء أشرف العرب، وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم، لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما استيقن من الخبر ورأى الأسرى مقرنين، كبت وذل، وخرج إلى قريش يبكي على قتلاهم ويحرضهم على قتال النبي (ص)، فنزل بمكة على المطلب بن أبي وداعة السهمي، وعند زوجته عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص، فأنزلته وأكرمته، فجعل يحرض على النبي (ص)وينشد الأشعار، فبلغ النبي (ص) ذلك فدعا حسانًا فهجا المطلب وزوجته فأسلما بعد ذلك (رضي الله عنهما) فلما بلغ ذلك عاتكة، ألقت رحله، وقالت مالنا ولهذا اليهودي؟

فخرج من عندها وصار يتجول من قوم إلى قوم فيفعل مثل ما فعل عند عاتكة ويبلغ خبره النبي (ص)، فيهجوهم حسان، فيفعلون معه مثل ما فعلت عاتكة، ثم رجع إلى المدينة، فتغزل في نساء المسلمين، وذكرهن بسوء، فلما أبى أن ينزع عن أذاه قال رسول الله (ص): «من لنا بابن الأشرف؟» وفي رواية: «من بكعب بن الأشرف» أي من ينتدب لقتله؟ فقد استعلن لعداوتنا وهجائنا وقد خرج إلى المشركين بمكة فجمعهم على قتالنا، وجاء في رواية أنه حالف قريشًا عند أستار الكعبة على قتال المسلمين، فأخبر النبي (ص) أصحابه بخبره، وكعب بمكة وقال لهم إن الله أخبرني بذلك، ثم قرأ على المسلمين ما أنزل الله عليه فيه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ [النساء: 51، 52].

ولما قال رسول الله (ص) من ينتدب لقتل كعب؟ قال محمد بن مسلمة الأوسي : أنا الكفيل به لك يا رسول الله، وفي رواية قال أنا أقتله قال فافعل إن قدرت وفي رواية قال: أنت له ثم قال: إن كنت فاعلا فلا تعجل حتى تشاور سعد بن معاذ .

فشاوره فقال توجه إليه واشك إليه الحاجة، وسله أن يسلفك طعامًا، فمكث محمد بن مسلمة ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق به نفسه، فذكرت ذلك لرسول الله (صض) فدعاه فقال: لم تركت الطعام والشراب؟ قال يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل أوفي لك به أم لا. قال: «إنما عليك الجهد» ثم أتى أبا نائلة، وعباد بن بشر، والحرث بن أوس وأبا عيسى بن جبر فأخبرهم بما وعد به رسول الله (ص) من قتله، فأجابوه، قالوا كلنا نقتله ثم أتوا رسول الله (ص)، وقالوا يا رسول الله لا بد لنا أن نقول قولاً غير مطابق للواقع، يسر كعبا، لنتوصل به إلى التمكن من قتله، قال قولوا ما بدا لكم،ـ فأنتم في حل من ذلك، فأباح لهم القول لأنه من خدع الحرب، وكأنهم استأذنوه في أن يشكوا منه (ص)، ويعيبوا دينه، لأن كعبا كان يحرض على قتل المسلمين، وكان في قتله خلاصهم فكأنه أكره الناس على النطق بهذا الكلام بتعريضه إياهم للقتل، فدفعوا عن أنفسهم بألسنتهم مع أن قلوبهم مطمئنة بالإيمان.

ولولا هذا العذر لكان التعرض لمثل ذلك كفرًا لكنه يباح بالإكراه، وهذا بمنزلته.

فجاء محمد بن مسلمة كعب بن الأشرف، فقال إن هذا الرجل يعني النبي (ص) قد سألنا صدقة، ونحن ما نجد ما نأكله وفي رواية أن نبينا أراد منا الصدقة وليس لنا مال نصدقه، وأنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك، قال كعب وأيضا والله لتملنه، قال إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وأحب أن تسلفنا طعامًا، قال وأين طعامكم، فقال أنفقناه على هذا الرجل، وعلى أصحابه: قال ألم يأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل؟ ثم أجابه بأنه يسلفهم وقال: «أرهنوني»، قال: «أي شيء تريد؟» قال: «أرهنوني نساءكم»، قال: «كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب، ولا نأمنك، وأي امرأة تمنع منك لجمالك؟ قال: «فأرهنوني أبناءكم» قال: «كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال، رهن بوسق أو وسقين هذا عار علينا، ولكن نرهنك اللامة»، يعني السلاح مع علمك بحاجتنا، قال: «نعم» وإنما قال ذلك لئلا ينكر عليه مجيئه إليه بالسلاح، فواعده أن يأتيه وجاءه أيضا أبو نائلة وقال له: «ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد أن أذكرها لك فاكتم عني»، قال: «أفعل» قال كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء. عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى جاع العيال وجهدت الأنفس، فقال كعب: «أنا ابن الأشرف، وأنا والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول؟» فقال: «إني أردت أن تبيعنا طعامًا ونرهنك ونوثق لك، وتحسن في ذلك، وإن معي أصحابًا على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك، وإن معي أصحابًا على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن إليهم ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء، فقال: «إن في الحلقة لوفاء».

وكان أبو نائلة أخا لكعب من الرضاع، ومحمد بن مسلمة ابن أخيه من الرضاع، فجاءه محمد بن مسلمة وأبو نائلة ومعهما عباس بن بشر والحرث بن أوس بن معاذ، وأبو عيسى بن جبر، وكلهم من الرءوس، ولما فارقوا النبي (ص) مشى معهم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم وقال: «انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم، ثم رجع (ص) إلى بيته، وكان ذلك بالليل، وكانت الليلة مقمرة، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، وكان حديث عهد بعرس، فناداه أبو نائلة، ثم بقية أصحابه، فعرفهم فوثب في ملحفته، فأخذته امرأته بناحيتها وقالت: وقالت: «إنك امرؤ تحارب، وإن أصحاب الحروب لا ينزلون في مثل هذه الساعة، قال لها: «إنما هو ابن أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعى إلى طعنة بليل لأجاب»، فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه ثم قالوا له: «هل لك يا ابن الأشرف أن نمشي إلى شعب العجوز، نتحدث به بقية ليلتنا، فقال إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثم إن ابن نائلة أدخل يده في باطن رأسه، ثم شم يده، فقال: ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، ثم اطمأن، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، وأمسكه من شعره وقال اضربوا عدو الله، وفي البخاري أن ابن مسلمة قال لأصحابه: «إذا ما جاء كعب، فإني قاتل بشعره، أي آخذ بشعره، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فاضربوه»، فنزل إليهم متوشحا وهو ينفخ منه ريح الطيب فقال ابن مسلمة: «ما رأيت كاليوم طيبًا، فقال عندي أعطر نساء العرب وأجملهن»، فقال: «أتأذن لي أن أشم رأسك»، قال: «نعم» ثم شمه، ثم أشم أصحابه، وكان كعب يدهن بالمسك المفتت والعنبر حتى يتلبد في صدغيه، فلما تمكن أبو نائلة أو محمد بن مسلمة من إمساكه ضربوه بأسيافهم، وقد صاح عدو الله صيحة منكرة وصاحت امرأته: «يا آل قريظة والنضير» مرتين، فلم يبق حصن إلا أوقدت عليه نار قال محمد بن مسلمة فوضعت سيفي في ثنيه، ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، فوقع عدو الله، فجزوا رأسه، واحتملوه في مخلاة كانت معهم، واجتمعت اليهود من كل ناحية فأخذوا على غير الطريق، ففاتوهم، فلما بلغوا بقيع الغرقد، كبروا وقد قام النبي (ص) يصلي، فلما سمع تكبيرهم، كبر، وعرف أنهم قد قتلوه، ثم انتهوا إليه فأخبروه بمقتل عدو الله، فقال أفلحت الوجوه قالوا ووجهك يا رسول الله، ورموا برأسه بين يديه فحمد الله على قتله.

اقرأ يا أخي هذه الواقعة التي وقعت على أيدي رسول الله وأصحابه، لتعلم أن قتل أعداء الله، غيلة من شرائع الإسلام ، وأنه من خدع الحرب فيها أن يسب المجاهد المسلمين وأن يضلل عدو الله بالكلام حتى يتمكن منه ويقتله، وقد قتل المسلمون كعبًا يوم الرابع عشر من ربيع الأولى على رأس خمسة وعشرين شهرًا من الهجرة.


2- سرية عبد الله بن أنيس الجهني السلمي الأنصاري لقتل سفيان ابن خالد بن نبيح الهذلي:

بلغ رسول الله (ص) أن سفيان بن خالد بن نبيح الذهلي جمع الجموع لحربه، فقال لعبد الله: ائته فاقتله، فقال: صفه لي يا رسول الله حتى أعرفه قال: إذا رأيته هبته وفرقت منه ووجدت له قشعريرة وذكرت الشيطان.

قال عبد الله وكنت لا أهاب الرجال، فقلت يا رسول الله ما فرقت من شيء قط. فقال آية ما بينك وبينه ذلك واستأذنته أن أقول، فقال: قل ما بدا لك وقال: انتسب لخزاعة.

فأخذت سيفي وخرجت اعتزي لخزاعة فلما وصلت إليه لقيته يمشي ووراءه الأحابيش فهبته وعرفته بنعت النبي (ص) فقلت: صدق الله وصدق رسوله. وقد دخل وقت العصر حين رأيته، فصليت وأنا ماشي وأومئ برأسي إيماء، ثم دنوت منه فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني خزاعة سمعت بجمعك لمحمد فجئت لأكون معك. قال: أجل. إني لفي الجمع له، فمشيت معه وهو يتوكأ على عصا يهد الأرض حتى انتهى إلى خبائة، وتفرق عنه أصحابه إلى منازل قريبة وهم يطيفون به فقال: هلم يا أخا خزاعة فدنوت منه قال: أجلس. قال: فجلست معه حتى إذا نام الناس اغتررته وقتلته وأخذت رأسه، ثم أقبلت فصعدت جبلا، ودخلت غارًا وأقبل الطلب وأنا كامن في الغار، وضربت العنكبوت على الغار.

ثم جاء رجل معه إداوة ضخمة ونعلاه في يده وكنت حافيًا، فوضع إداوته ونعله وجلس يبول قريبا من فم الغار، ثم قال لأصحابه ليس أحد في الغار، فانصرفوا راجعين. فخرجت فشربت ما في الأدواة، ولبست النعلين ولم يرني أحد، فطلبهما صاحبهما بعد ذلك فلم يجدهما، فرجع إلى قومه، وكنت أسير الليل وأتوارى النهار خوفًا من الطلب أن يدركني حتى قدمت المدينة، فوجدته (ص) بالمسجد، فقال (ص) أفلح الوجه؟ قلت أفلح وجهك يا رسول الله، ووضعت الرأس بين يديه، وأخبرته خبري، فدفع إلى عصا وقال:تخصر بها في الجنة، فإن المتخصرين في الجنة قليل، فكانت العصا عنده حتى إذا حضرته الوفاة أوصى أن يدرجوها في أكفانه.

وقد وقعت هذه الواقعة يوم الاثنين لخمس خلون من المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرًا من الهجرة حين بعثه رسول الله (ص) لقتل سفيان بن خالد في عرنه وهو موقع قريب من عرفة، وقد كانت غيبته ثماني عشرة ليلة وقدم المدينة يوم السبت لسبع من المحرم.

والتخصر بالعصا هو الاتكاء عليها.

3- سرية عبد الله بن عتيك لقتل أبي رافع عبد الله أو سلام بن أبي الحقيق اليهودي:

كان سلام بن أبي الحقيق اليهودي من الذين حزبوا الأحزاب يوم الخندق، وأعان المشركين بالمال الكثير، بعث إليه (ص) عبد الله بن عتيك الخزرجي الأنصاري (ص) بعد وقعة الأحزاب، لما قتلت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته للنبي (ص) بعد إذنه وتحريضه عليه.

قال ابن إسحق حدثني محمد بن مسلم بن شهاب عن عبد الله بن كعب ابن مالك قال: كان مما صنع الله لرسوله (ص) أن الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله (ص) تصاول الفحلين، أي يحمل كل منهما على الآخر، والمراد أن كل من الأوس والخزرج يدفع عن النبي (ص) ويتفاخر بذلك ولا يصنع الأوس شيئا فيه عنه (ص) غناء إلا قالت الخزرج والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله (ص) في الإسلام ، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك.

ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله (ص) قالت الخزرج والله لا يذهبون بهذا فضلا علينا أبدًا فتذاكروا من رجل لرسول الله (ص) في العداوة كابن الأشرف فذكورا سلام بن أبي الحقيق فاستأذنوه (ص) في قتله، فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج خمسة عبد الله بن عتيك وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة واسمه الحرث بن ربعى، والأسود بن خزاعى ومسعود بن سنان الأسلمي حليف بني سلمة، فأمرهم (ص) بقتله ونهاهم أن يقتلوا وليدًا أو امرأة.

فذهبوا إلى خيبر، فكمنوا، فلما هدأت الحركة جاءوا إلى منزله، وكان في حصن مرتفع، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله بن عتيك لأصحابه اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب، لعلي أدخل الحصن، فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه ليخفي شخصه، كي لا يعرف، كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس، وكانوا قد فقدوا حمارًا لهم فخرجوا بقبس يطلبونه، فكان ذلك سبب تقنع عبد الله بن عتيك بثوبه.

فناداه البواب يا هذا إن كنت تريد أن تدخل فأدخل فإني أريد أن أغلق الباب لأنه ظن أنه من أهل الحصن الذين خرجوا لطلب الحمار، قال ابن عتيك فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن، فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأقاليد أي المفاتيح على وتد في كوة، فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر الناس عنده، وكان في غرفة عالية له إليها عجلة من خشب، فلما ذهب عنه أهل سمره، صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابًا أغلق علي من داخله، وقلت إن القوم إن نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو وسط عياله في بيت مظلم، قد أطفئ سراجه لا أدري أين هو، وكان عبد الله بن عتيك يتكلم باليهودية، فقدمه أصحابه ليتكلم كلام أبي رافع فيظنه أنه من قومه فلا يفزع منه.

فاستفتح باب غرفته فرأته امرأته فقالت من أنت؟ قال جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له وقالت: «ذاك صاحبك»، فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بالسيف فسكتت، قال: فقلت «أبا رافع»؟ لا أعرف موضعه، فقال: «من هذا؟» فأهويت نحو الصوت، فضربته ضربة، وأنا دهش فما أغنت شيئا، ولم أقتله وصاح أبو رافع فخرجت من البيت وكنت غير بعيد، فقالت امرأته: «يا أبا رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك»، قال ثثكلتك أمك وأين عبد الله بن عتيك؟ قال: «ثم دخلت عليه كأني أغيثه وغيرت صوتي وقلت ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ قال: «لأمك الويل إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف، فضربته ضربة أثخنته، فلم أقتله، فصاح وقام أهله وصاحت امرأته ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى دخل في ظهره وسمعت صوت العظم فعرفت أني قد قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة فوضعت رجلي وأنا رأى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في لية مقمرة، فانكسرت ساقي فصبتها بعمامة، ثم خرجت وكنت في موضع، وأوقدت اليهود النيران وذهبوا في كل وجه يطلبون، حتى إذا أيسوا رجعوا إليه، وجلست كامنًا، وقلت لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك صعد الناعي على السور، فقال أنعي أبا رافع تاجر الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاة، فقد قتل أبا رافع ثم انتهيت إلى النبي (ص) فحدثته فقال: أبسط رجلك فبسطها، فمسها بيده المباركة (ص) فكأني لم أشتكها قط.

ومن هذه الوقائع يتضح أنه:

1- يجوز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصر على العداء والتحريض على حرب المسلمين.

2- يجوز اغتيال من أعان على قتال المسلمين سواء بيده أو بماله أو بلسانه.

3- يجوز التجسس على أهل الحرب.

4- يجوز إيهام القول للمصلحة.

5- يجوز أن يتعرض القليل من المسلمين للكثير من المشركين.

6- يجوز الحكم بالدليل والعلامة للاستدلال، كما استدل ابن عتيك على أبى رافع بصوته، واعتماده على صوت الناعي بموته.


وفي قتل أبي رافع وكعب بن الأشرف يقول حسان بن ثابت:

لله در عصابة لاقيتهم

يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف

يسرون بالبيض الخفاف إليكم

مرحًا كأسد في عرين معرف

حتى أتوكم من محل بلادكم

فسقوكم حتفًا ببيض ذفف

مستنصرين لنصر دين نبيهم

مستصغرين لكل أمر مجحف


ماذا فعل الإخوان المسلمون بعد صدور قرار الحل؟

بعد صدور قرار الحل، كان الإخوان المسلمون إما مجاهدين في فلسطين أو معتقلين في معتقلات مصر ، أو مسجونين داخل سجونها، أو طلقاء لم يهتد إليهم البوليس السياسي ليعتقلهم.

المجاهدون في أرض فلسطين بعد حل جماعة الإخوان:

أما المجاهدون، فقد استمروا في الدفاع عن الجيش المصري المتمركز في قطاع غزة- رفح بتعليمات من المرشد العام، أمكنه إرسالها لهم عن طريق الجامعة العربية ، حيث كان يسعى لإلغاء قرار الحل والإفراج عن المعتقلين بالاتصالات التي كان يجريها في جمعية الشبان المسلمين، ومن بين من كان يستطيع أن يتصل بهم أعضاء هيئة وادي النيل الذين تكفلوا بتبليغ الرسالة، فعسكر الإخوان المجاهدون على طول الجبهة بين غزة ودير البلح وخان يونس، وتحركت مجموعة منهم مع قوات الجيش واشتركت في تحصين مدينة العريش.

وقد هاجمت قوة من اليهود خط الدفاع المصري عن العريش قبل غروب شمس أحد الأيام، وكان يصحبها عدد من السيارات الخفيفة ودبابة واحدة من طراز شيرمان.

وكان الإخوان يحتلون الأجزاء الأمامية من خط الدفاع فاشتبكوا بشدة مع قواته، ورغم سيول النيران التي هطلت على مواقعهم إلا أنهم ثبتوا فيها، ولم يفكروا في التراجع للوراء، واستمروا في القتال بقيادة الأخ «حسن دوح » حتى أصابوا الدبابة اليهودية بطلقة من المدافع المضادة للدبابات عطلتها عن التقدم، وعجز اليهود عن إصلاحها فاضطروا إلى التراجع من حيث أتوا.

وقد ورد ذكر هذه الواقعة التي دافع فيها الإخوان عن العريش في شهادة اللواء أحمد فؤاد صادق أمام محكمة الجنايات في قضية السيارة الجيب.

واستمرت قوة الإخوان مرابطة مع الجيش بقيادة الأخ «حسن دوح » في منطقة العريش، وكان القائمقام «سيف الدين بنك» قائد المنطقة في ذلك الحين يعهد إليهم بأعمال الدوريات في جميع أرجاء شبه جزيرة سيناء، وقاموا بتطهير حقول الألغام التي بثها اليهود في كثير من المناطق، وعلى الطريق الذي يصل العريش بأبو عجيلة، كما قاموا بدوريات قتال تجوب المنطقة من جديد، فقاموا بهذا العمل الخطير ووصلت دورياتهم إلى «القصيمة» و «الحسنة» وحدود فلسطين من جهة النقب الجنوبي.

وقد أصيب في هذه الدوريات كثير من الإخوان واستشهد الأخ «مكاوي محمد مصطفى » من إخوان العريش في 7 يناير 1949م.

أما قوات العدو فقد شنت هجومًا شديدًا على مدينة رفح، بعد أن اطمأنت إلى أن حامية العريش لن تهب لنجدتها بعد هجومها عليها، وقد احتل العدو في هذا الهجوم «تبة الأسرى» واخترق الأسلاك المحيطة بمعسكر «رفح» ولكن القوات المصرية استطاعت أن تحصره في بعض المواقع، وأن تنزل به هزيمة منكرة، اضطرته إلى الانسحاب تاركًا خلفه مئات من القتلى وأكداسًا من الأسلحة.

وقد اشتركت قوة الإخوان المرابطة في رفح في هذه المعركة بقيادة الأخ «محمد علي سليم »، أما في غزة فقد احتلت قوة كبيرة من الإخوان بقيادة الأخوين «عباس فرج »، و «السيد الشراقي » جزءًا هامًا من خط الدفاع عن المدينة وضواحيها، وكان اللواء «محمود فهمي نعمة الله » قائد المنطقة يعتمد عليهم اعتمادًا خاصًا في الدفاع عن أخطر المناطق والقيام بالدوريات المقاتلة على طول القطاع. وقد كان الإخوان يقومون بواجبهم رغم الأنباء المثيرة التي كانت تتسلل إلى الميدان عن الجرائم الوحشية التي يرتكبها الرئيس السعدي الجديد «إبراهيم عبد الهادي » ضد إخوانهم وأهليهم في أرض الوطن.

المسجونون في سجون مصر بعد حل جماعة الإخوان:

مر المسجونون في سجون مصر بعد حل جماعة الإخوان بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: قبل مقتل النقراشي باشا، حيث لم يكن في السجون إلا المتهمين في قضية السيارة الجيب، وكان حبسهم في سجن الأجانب، حبسًا انفراديًا، وكان نصيب كاتب هذا الكتاب الزنزانة رقم (4)، ومقتضى الحبس الانفرادي أن لا يخرج السجين من زنزانته إلا مرة واحدة في اليوم لقضاء حاجته، بشرط أن تكون الدورات وحوش السجن خالية من أي سجين آخر، فلا يرى السجناء بعضهم بعضًا على الإطلاق، ولا يستحقون فسحة خارج زنازينهم، بينما كان بالسجن عدد كبير من السجينات الشيوعيات ينعمن بالرياضة في حوش السجن، والاختلاط والغناء الجماعي، بأصوات رخيمة قصد بها التأثير على أعصاب السجناء من الإخوان، ولم يقع على المسجونين في هذه المرحلة أي نوع من التعذيب.

المرحلة الثانية: بعد مقتل النقراشي باشا، حيث نقل جميع المسجونين في قضية السيارة الجيب إلى سجن مصر العمومي (قره ميدان)، وكان حبسهم انفراديًا أيضًا، غير أنه يسمح لهم بالذهاب إلى دورات المياه جماعات، كما يسمح لهم بالفسح في حوش السجن جماعات، حيث كان التحقيق في قضيتهم قد مر بطور لم تر النيابة بعده ضرورة للاستمرار في عزل السجناء بعضهم عن بعض.

أما سجن الأجانب فقد خصص للمسجونين على ذمة التحقيق في قضية مقتل النقراشي باشا، ولقد وقع لي في سجن مصر حادثان هامان:

(أ) فوجئت بالسجان «غريب» وكان واحدًا من السجانين الذين اتفقت معهما على عمل مفتاح للزنازين ضمن خطة الإعداد لتهريب الأخوين حسن عبد الحافظ، ومحمود زينهم من السجن، وكان تعرفي به في هذا العمل باسم مستعار، فخشيت أن يتطوع بالإدلاء بشهادة للبوليس بما اشترك معي فيه، متأثرًا بما أثارته الحكومة ضدنا من اتهامات مثيرة، ملأت صفحات الجرائد ونشرات الإذاعة، وفي هذه الحالة يقدم للحكومة مادة جديدة للتشهير بالإخوان وهو واثق أنه سيعتبر شاهد ملك خاصة أن محاولة تهريب الأخوين لم تتم.

فتعمدت أن أدبر مشاجرة بيني وبينه، متناسيًا تمامًا سابق معرفتنا حتى إذا سلوت له نفسه الإدلاء بهذه الشهادة، يكون دفاعي جاهزًا بالخصومة المعلنة بيننا في السجن.

(ب) تم تطعيمنا جميعًا ضد الكوليرا، وكنت آخر من دعى للتطعيم، وكان معروفًا أن هذا التطعيم يؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة يومين تقريبًا، ارتفعت درجة حرارتي كالمعتاد، ولكنها لم تنخفض، بينما صار إخواني من المسجونين في درجة حرارة طبيعية.

ثم اشتدت بي الحمى، وكان طبيب السجن يمر علينا يوميًا، فكتب لي برشامًا، يصرفه لي تومارجي السجن، وقد لاحظت أن حرارتي تزيد رغم استعمال للبرشام، وينتابني مغص شديد لا يهدأ إلا باستعمال أسفلت الزنزانة ككمادة باردة، فكنت أستلقي على بطني وهو عار مباشرة على الأسفلت في ليالي الشتاء القارس البرودة، حتى إذا ما بدأت أشعر بالقشعريرة من البرد عدت لتدفئة نفسي ببطانية السجن لكي لا أصاب بالأنفلونزا، ولما استمر تأثير البرشام على هذا الحال شكوت إلى التمورجي دون جدوى، ففكرت في تسليم البرشام الذي يصرفه لي التمورجي إلى الطبيب، لفحصه والتأكد من أنه هو البرشام المقرر لعلاجي، وقد أبلغت التمورجي، وعندما سلمني البرشام في اليوم التالي أنني سأحتفظ به لتسليمه للطبيب لفحصه، ولكنه طلب مني إعادة البرشام، وما إن سلمته إليه حتى شد قبضته عليه ليحطمه، ثم قذف به من شباك زنزانة السجن ورفض إعطائي علاجًا بديلاً.

وفي أثناء الليل اشتد ارتفاع درجة حرارتي، وعجزت عن القيام من مضجعي، وأنا نائم على البرش، فاستعملت كوز المياه الزنك لاستدعاء السجان، بأن أقذفه بشدة وأنا نائم نحو الباب، فيحدث صوتًا لدعوة السجان، ثم يرتد ثانيًا من شدة الاصطدام لي فأقذفه ثانيًا وهكذا حتى حضر السجان، فأبلغته أن حالتي الصحية خطيرة وأن حرراتي مرتفعة للغاية ولابد من أن أعرض على طبيب حالا، وبعد قليل وصل قائد السجن القائمقام محمود الجوهري ، ولما وصل إلى زنزانتي وعرف أنني أنا المستغيث، رفض أن يفتح الزنزانة، وأن يطلب لي الطبيب وقال مادام ده هو الصباغ اتركوه وعاد أدراجه.

ولم يكن أمامي إلا الاستمرار في استعمال الأسفلت ككمادات باردة لخفض درجة حرارتي، حتى إذا كان الصباح تحاملت على نفسي، ووقفت متكئًا على الحائط لأنظر على قاعدة شباك الزنزانة وكانت سميكة وأتبين هل أمكن للتمورجي حين ألقى بالبرشام من الشباك أن يقذفه للخارج أم أنه سقط على قاعدة الشباك، فتحققت من أنه سقط على قاعدة الشباك ولم يقذف إلى الخارج، وعدت مجهدًا مستلقيًا على البرش في حالة شديدة من الحمى والمغص، وبينما أنا كذلك سمعت نداء على اسمي للذهاب إلى النيابة، فلم أستطع القيام، ولكنني قررت أن أعرض البرشام الذي سبب لي كل هذه الآلام على النيابة بعد أن استحال على عرضه على الطبيب، وعزمت على حيلة تحقق لي هذا الهدف بحيث لا يتمكن أحد من إبطال خطتي.

ولما تكرر نداء اسمي تحاملت على نفسي مستندًا إلى الحائط، وطلبت أن يحملني العسكري إلى النيابة بناء على طلبها.

وعندما وصلنا إلى دار النيابة وكان المحقق هو الأستاذ محمد عبد السلام الذي صار نائبا عاما بعد ذلك، أوقفوني في طابور عرض ليتعرف على أحد المتهمين في قضية إلقاء حامض على وجوه الفتيات المتبرجات في الشوارع لتشويه أجسامهن حتى تكف الفتيات عن التبرج، ولم يكن هذا التفكير من عمل الإخوان المسلمين ، فلم يتعرف هذا المتهم عليَّ، وفور انتهاء العرض تقدمت إلى وكيل النيابة مهنئًا له بحسن حظه، فسألني دهشًا، فقلت له إنني سأساعده في القبض على كل الإرهابيين.

فأخذني على الفور إلى المكتب سعيدًا مستفسرًا عن المعلومات التي لدي فقلت له: «لا أقول لك أي معلومات حتى تتحرك معي لأدلك على مقارهم»، ولما ألح قلت له: «لا تلح فإن تحركت معي دللتك على مقارهم، ويسرت لك القبض عليهم وإلا فلا قول لك عندي، ودعني أعود إلى سجني»، فأسقط في يده واضطر إلى إبلاغ اللواء أحمد طلعت حكمدار القاهرة، فتحدث معي اللواء أحمد طلعت متلطفًا ووعدني إن أنا أسهمت مع البوليس هذا الإسهام بخير كثير، فوعدته خيرًا وطلبت منه أن نتحرك سويًا إلى حيث أدله على الإرهابيين، فقال لي: «يا محمود أنت تعرف خطورة هؤلاء الإرهابيين، ولابد لي من أن أعرف الجهات التي سنذهب إليها حتى أؤمن المنطقة بعساكر البوليس، للقبض عليهم دون خسائر، فهم يستطيعون إذا لم نفاجئهم الضرب في البوليس وإلحاق خسائر كبيرة في قوته.

فصممت وقلت: «إذا لم تكن موافقًا على الذهاب معي، فلا داع إذن ودعني أعود ثانية إلى السجن، ولكنني أؤكد لك أنني لن أقودك إلى أي خطر على قوات البوليس، وأنك لن تتحرك معي إلا على أرض صلبة، فأسقط في يده وقرر أن يستأذن إبراهيم عبد الهادي باشا في التحرك معي إلى جهة لا يعلمها للقبض على الإرهابيين، فأذن له.

وعلى هذا الأساس أعد اللواء أحمد طلعت سيارتين نقل محملتين بالجنود المسلحين، سيارة تتحرك أمام موكبنا وسيارة تتحرك خلف موكبنا، أما أنا فقد فك سعادته الحديد من يدي، وأركبني في سيارته الفارهة إلى جواره وقد جلس معنا على نفس المقعد الخلفي للسيارة القائمقام مراد عبد الحي ، وركب سعادة وكيل النائب العام الأستاذ محمد عبد السلام تاكسي.

وتحرك الركب بهذه السيارات الأربعة من ميدان باب الخلق، ثم بادرني اللواء أحمد طلعت بسؤال قل لنا كيف نتجه؟ قلت له: «تدخل أولا في شارع محمد علي».

فلما دخلنا في شارع محمد علي وقربنا من مسجد الرفاعي، سألني ثم إلى أين نتجه؟ قلت له: «نذهب أولا إلى سجن مصر لأثبت لك أنني أخطر الإرهابيين على الإطلاق»، فقال لي: «وكيف؟» قلت: «سأجعلك تضبط في زنزانتي محطة إرسال لاسلكي. فاستبشر خيرًا بعد أن أعلمته أنها تعمل بالبطارية إجابة على سؤال منه، هل تعمل بالكهرباء أو البطارية؟

ولكن القائمقام مراد عبد الحي كان أكثر ذكاء، فقال لي كيف يا محمود تحفظ في زنزانتك محطة إرسال لاسلكي تعمل بالبطارية مع أن مثل هذه المحطة يحتاج إلى حجم كبير من البطاريات؟

فقلت له إننا في عهد الذرة وكل شيء قد تقدم، فاستبشر خيرًا لأنه يعلم أنني من خريجي كلية العلوم وكل شيء ممكن. وما إن وصل الركب إلى سجن مصر ، وعلم القائمقام محمود الجوهري مدير السجن بالغرض جن جنونه، إذ كيف يمكنه أن يواجه اللواء حيدر باشا إذا ضبطت محطة لاسلكي عند أحد المتهمين في السجن الذي يديره؟ فمنع الركب من الدخول إلا أن يأمر حيدر باشا بذلك، فقد كانت مصلحة السجون في هذه الأيام تلحق بأي جهة يعمل فيها حيدر باشا، باعتباره أحد مديري هذه المصلحة سابقًا، وكان يعشق الإشراف عليها حتى بعد ترقيته إلى وزير الحربية وقائد عام القوات المسلحة المصرية، فقد أمر بأن تتبع هذه المصلحة وزارة الحربية ما دام هو وزيرًا لها.

ولكن اللواء أحمد طلعت اتصل بحيدر باشا، وأعلمه أنه مصر ح له من إبراهيم عبد الهادي باشا بمرافقتي لضبط الإرهابيين وأن معه قوة كافية من الجند المسلحين، وأن أول العمليات هي ضبط محطة اللاسلكي التي أخبأتها في زنزانتي، ولم يكن أمام حيدر باشا إلا إصدار أمره للقائمقام محمود الجوهري بأن ندخل السجن لضبط المحطة.

فدخلنا جميعا ووقف الحرس المسلح خارج السجن، وفوجئ إخواني السجناء في قضية السيارة الجيب بدخولي إلى العنبر رقم 6، حيث كانت تقع زنازيننا جميعًا، ومعي اللواء أحمد طلعت القائمقام مراد عبد الحي وخلفي مأمور السجن ورئيس النيابة، وما إن وصلنا إلى باب زنزانتي حتى فتح الأستاذ محمد عبد السلام رئيس النيابة محضره، ليسجل أنه استفسر مني قبل فتح الباب، هل هذه زنزانتك يا محمود؟ ثم يسجل إجابتي على ذلك بالإيجاب، ثم أمر بفتح الزنزانة.

فلما دخلنا جميعًا، قلت لمحمد عبد السلام بك، إنني أطلب منك أن تضبط هذا البرشام الموجود على جدار السجن في قاعدة الشباك، فهو يستخدم لتعذيبي، ولم يكن في استطاعتي أن أطلبك بالطريقة العادية خشية أن يرفع السجانون جسد الجريمة، ويعتبر بلاغي لك إزعاجًا للسلطة، وأنني وقد وفقني الله لأمكنك من ضبط جسد الجريمة، أجعل حياتي أمانة في عنقك باعتبارك ممثل العدالة.

فتأثر الأستاذ محمد عبد السلام كثيرًا، وأسقط في يد اللواء أحمد طلعت باشا، وكان وكأنك ألقيت عليه جردلاً من الماء البارد، حيث ظهر أمام إبراهيم عبد الهادي باشا أنني ضحكت عليه بإيهامه أنني سأضع يده على الإرهابيين، بينما الحقيقة هي أنني كنت أسعى لإدانته بتهمة الشروع في قتلي أو على الأقل تعذيبي بإعطائي عقارًا يرفع من درجة حرارتي إلى حد الاستصراخ.

أمر محمد عبد السلام بك بتشميع البرشام، ثم عدنا إلى دار النيابة وفتح محضرًا أثبت فيه كل الوقائع، وأمر بتحليل البرشام، ثم أمر بأن أودع في مستشفى السجن للعلاج تحت إشراف السلطة الطبية للسجن.

وما إن وصلنا إلى السجن حتى وجدت زنزانتي قد حولت إلى غرفة لحجز المجانين أو المحكوم عليهم بالإعدام، حيث سحب منها البرش الذي كنت أنام عليه وحل محله بطانيتين خشية أن أفتل من حبال البرش حبلاً انتحر به، كما سحبت الجرادل الصاج، واستبدلت بجرادل من الكاوتش، فعلمت أن أحمد طلعت قرر أن يداري خجله بأن ينسبني إلى الجنون، كما قرر أن يكذب النيابة في تقريرها، وأن يضرب بتعليماتها بإيداعي مستشفى السجن عرض الحائط. فقررت المقاومة.

أضربت عن الطعام والشراب حتى ينفذ قرار النيابة بإيداعي مستشفى السجن، وكان إصراري على الإضراب ظاهرًا لكل الضباط الذين حاولوا إقناعي بالعدول، أما القائمقام محمود الجوهري فلم أكن أسمح له بأن يحدثني، فإذا دخل الزنزانة زجرته بشدة وطردته منها، لأنه كان أحد الأطراف، الذين صمموا على استمراري حبيسًا دون عرض طبي، لما علم أن الشكوى مقدمة مني، فقد كان يحسب أن المريض سجين غيري، ولولا ذلك لما انتقل إلى زنزانتي إطلاقًا، حيث كانت لديه تعليمات بعدم نجدتي إذا استغثت، واستمر إضرابي جادًا لا طعام ولا شراب إحدى عشر يومًا متصلة هزلت خلالها، فنقص وزني ستة كيلو جرامات دفعة واحدة، فقررت في اليوم الثاني عشر الإضراب عن الكلام أيضًا.

ولما وجدت إدارة السجن أنها أمام سجين مضرب عن الطعام حتى أوشك على الهلاك، ثم أضاف الإضراب عن الكلام فأصبح غير قابل للتفاهم، استطلعت رأي أحمد طلعت فقرر إرسالي إلى مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، إمعانًا منه في التشبث بنسبتي إلى الجنون.

وكنت خلال الإحدى عشر يومًا التي أضربت فيها عن الطعام، استشعر بوضوح ظلم هذه الطغمة التي تحكم مصر ، دون إحساس أو ضمير، فزاد هذا الشعور من صلتي بالله، وكانت لي صيحة قوية أقول فيها: «يا قوي أنت القوي على كل متقوي جبار» وكان الإخوان يتأثرون بهذه الصيحة لأنها كانت تنبع من أعماق قلبي خالصة في توجيهها إلى ربي الخالق العظيم.

وقد نفذ أحمد طلعت قراره فحضرت سيارة من مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، حيث نقلتني إلى هناك، فحاول طبيب الاستقبال استجوابي، ولكنني أشرت له أطلب ورقة وقلمًا، فأحضرهما، فكتبت له إني نذرت للرحمن أن أصوم عن الكلام حتى أنقل إلى المستشفى، وحيث قد حقق الله طلبي بالنقل إلى المستشفى فسوف أفطر مع أذان المغرب إن شاء الله وأتحدث إليك كما تشاء، ولم أتزحزح عن هذا الموقف.

ولقد أوحى الطبيب إلى أحد الممرضين أن يؤذن ليقنعني أن المغرب قد وجب، فضحكت مبتسمًا بما يشعر أنني فاهم الفولة، فاضطر إلى تركي حتى أذان المغرب وبت ليلة في المستشفى تحت حراسة مشددة نمت فيه ملء جفوني بعد أن أكلت سلطانيتين كبيرتين من العدس الدافئ، واستيقظت في الصباح في أحسن صحة وعافية.

جهز المستشفى بوحي من إدارة الأمن العام عنبرًا كاملاً احتجز فيه، تحت حراسة 24 ساعة تتكون كل دورية فيها من ضابط برتبة صاغ ووكيل له برتبة نقيب ورئيس برتبة ملازم واثنين من العساكر واثنين من المخبرين المدنيين، وكنت سعيدًا جدًا بالحياة في هذا الجناح الفاخر ومعي هذه الصحبة المباركة من رجال الأمن نتحدث ونتسامر، وقد ألحق لمرافقتي طبيا مع هذه الهيئة أربعًا من أكفأ الممرضين في المستشفى، وأشرف على تشخيص حالتي مدير المستشفى شخصيًا وكان يدعى الخولي بك.

وقد بقيت في المستشفى حوالي خمسة وأربعين يوما كنت طوالها تحت الملاحظة المستمرة والسؤال اليومي من مدير المستشفى عن ظروف حبسي، وما شعرت به من آلام، وأسبابها، وقد شرحتها على حقيقتها، كما أسردها اليوم في هذا الكتاب.

ولما قلت للخولي بك إن البرتقال أيضا كان به نفس الطعم الذي كنت أجده في الطعام والشراب الأمر الذي جعلني أقرر الإضراب عن الطعام والشراب فورًا، سألني قائلاً طيب إذا آمنا بإمكان وضع عقار لك في الطعام والشراب، فكيف نتخيل إمكان أن يوضع عقار لك داخل البرتقاله، وهي مقفلة لا يقشرها إلا أنت بيديك؟

فقلت له: إن هذا الأمر سهل وبسيط إذ يمكن حقن البرتقال بالمادة الضارة دون أن يظهر في قشرها أي أثر، لأن طبيعة البرتقال أنه مثقبة قشرته، كما لو كانت منخوسة بإبرة في كل أجزائها، وإن إضافة ثقب إلى هذه الثقوب العديدة لا يغير شيئًا في شكل البرتقال، ومن ثم يمكن لمن يحقن البرتقالة أن يطمئن إلى أن عمله لم يظهر للعيان.

وشعرت أن الرجل أكبر هذا الرد، وكتب تقريرًا يشيد فيه بذكائي ويقرر فيه أن الظروف التي أحاطت بي في السجن تبرر كل ما ذهبت إليه من شوكوك، وما أقدمت عليه من أفعال.

ثم عدت إلى السجن بهذا التقرير لأجد نفسي مودعًا بنفس الزنزانة المفروشة للمحكوم عليهم بالإعدام حتى لا ينتحرون، فصبرت حتى استدعتني النيابة، وبدأ محمد عبد السلام بك يسألني هل أنت مستريح في المستشفى يا محمود؟.

فقلت له: وهل تظن أنك فعلاً رئيسًا للنيابة، وأن قراراتك موضع التنفيذ؟

قال: كيف؟ قلت: إنني لا أزال في زنزانتي بالسجن حتى بعد عودتي من مستشفى الأمراض العقلية.

فاستشاط غيظًا لما علم أن أوامره لم تنفذ، وطلب على الفور محمود الجوهري بالسجن وأصدر إليه تعليماته قوية بضرورة إيداعي مستشفى السجن وأنذر بسوء العاقبة، والحق أن محمد عبد السلام بك كان من رؤساء النيابة الذين تستريح لهم النفس، والذين لا يقبلون الإساءة إلى السلطة النيابية بحال من الأحوال. فلما عدت إلى السجن وجدت زنزانتي قد فرشت بسرير سفري ومنضدة وطبق كبير على حامل لاستعماله مغسلة، وهذا الجهاز هو ما يخصص لتحويل الزنزانة إلى ملحق بالمستشفى إذا ضاقت مستشفى السجن بالنزلاء، كما أنه يؤجر للقادرين من نزلاء السجن تحت التحقيق بثلاثة جنيهات شهريًا.

وقد سررت كثيرًا بهذا الجهاز، وأخذت أضاحك الإخوان بأنه جهاز عروس، واستمر تمتعي به حتى صدور الحكم في قضية السيارة الجيب على نفقة الدولة دون أي مصاريف من قبلي.

المرحلة الثالثة: سجناء ما بعد مقتل النقراشي باشا وهم المتهمون في قضايا الأوكار وقضايا إخفاء محمد مالك، وهؤلاء جميعا كانوا لا يصلون إلى عنبر 6 بسجن قره ميدان، قبل أن تشرح أجسادهم بالكرابيج في أقسام البوليس أو سجن الاستئناف أو سجن القلعة، وتمزق أقدامهم وسيقانهم من الضرب عليها مع استعمال الفلقة، ويتعرضون إلى كل الصور التي يمكن أن يتعرض لها من يقع تحت طائلة خصم قوي فاجر متمكن مملوء بالغيظ مجرد عن الدين، حتى بلغ من ابتكارات هذا الخصم، التعذيب النفسي للإخوان بضرب آبائهم وأمهاتهم وأخواتهم وحلق شعورهن أمامهم، وتهديدهم بهتك أعراضهن، بالإضافة إلى تهديد المتهمين أنفسهم بهتك أعراضهم.

فكان إبراهيم عبد الهادي هو أول من أدخل التعذيب الوحشي في سجون مصر فعليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا.

ولقد ضرب محمد مالك عندما قبض عليه، ونقل من الأسكندرية إلى قسم الخليفة، وتركت جروحه دون علاج، حتى امتلأت بالدود يسعى فيها بأطوال تزيد على الخمسة سنتيمترات للدودة الواحدة، وبعد أن ينتهي التحقيق، ويأخذ المحقق الذي فقد ضميره ما شاء من أقوال من المتهم، يأمر به فتضمد جراحه، ثم يرسل إلى عنبر (6) حيث نستقبله مهللين ومكبرين، وكان شيخ هؤلاء المحققين الذين فقدوا ضمائرهم المحامي العام الأستاذ إسماعيل عوض .

والعجيب أن الأخ الذي يمر بكل هذه المراحل من التعذيب، يصل إلى السجن سعيدًا بما أصاب من أذى في سبيل الله مستبشرة نفسه بحسن ثواب الله، راسخ الإيمان بأن كل ما كان منه من مقاومة لهؤلاء الحكام هو الحق وفي سبيل الحق، فقد رأى بعينه إجرامهم الذي يعجز عن الوصف والبيان، واطمأن إلى أن صورهم اللامعة أمام الناس، لا تخفى وراءها إلا قلوبًا متحجرة، كفرت بربها، وآمنت بالطاغوت، وجندت نفسها له في ذل ووضحوا على حقيقتهم، لا يزيد من وزن أحدهم في نظر أصغر الإخوان عن هباءة في مهب الريح مهما تظاهر وادعى لنفسه من مظاهر القوة والجبروت.

هذا هو الانعكاس الحقيقي في قلوب المؤمنين، لصورة هذه الطغمة الباغية التي ترسمها أعمالهم الإجرامية، أسجلها ليعلمها كل من يقعد مقعدهم، ويخيل له شيطانه أن يتبع هذه الوسائل مع المؤمنين، ليعلم سلفًا أنه سيكون خاسرًا على الدوام، أما المؤمنون فسيزدادون إيمانًا ويزيدهم ربهم من فضله. تلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تحويلا.

ولقد تحول الأخ محمد مالك بعد كل هذا التعذيب الذي شرحته، وصورته دون أدنى مبالغة إلى بدر من البدور في خلال أسبوعين اثنين قضاهما معنا في عنبر (6) بعيدًا عن التعذيب، ثم استمر كذلك حتى تزوج وأنجب وأصبح الآن شيخًا وقورًا.

التأمت الجروح واحمر الوجه من العافية، وانشرح الصدر من السعادة، فكيف لا وهو القائل في فترات الاستراحة، بين جولات التعذيب في سجن الاستئناف:

يا عم طلعت

داحنا رجاله نار

من الإخوان الجدعان

لا يهمنا السجون

ولا نبات في جوعان

ذلك لأن التجويع كان أيضًا من وسائل تعذيب محمد مالك.

ولا يمكن أن يصدر هذا القول من أخ تحت كرابيج الجلادين، إلا إذا انضم صدره على قلب من فولاذ، وإيمان بالله يزن أثقال الجبال، والحمد لله رب العالمين.

المرحلة الرابعة: مرحلة الاعتقال وإني أعتذر للقارئ الكريم عن عجزي عن وصفها لأنني لم أعتقل طوال حياتي، كنت فقط أسجن أو أخرج من السجن، ولكن الاعتقال لا يختلف كثيرًا عن المرحلة الثالثة التي يسبقها تعذيب، ثم تنتهي بحياة مدنية داخل المعتقل لا يشوبها شائبة تصفو فيها روح الأخ، ويزيد اتصاله بالله، لما يتاح له من فرصة التفرغ للعبادة وكأنه معتكف في مسجد، لا يشغله شيء عن عبادة الله، إلا ما يلزمه من فترات الطعام أو اللباس، أو الراحة.

ويقع العبء كله في هذه الفترة على أهل المعتقل الذين يفقدون عائلهم طوال مدة اعتقاله دون تعويض مادي ييسر عليهم سبل العيش ظلمًا وعدوانًا.


الطلقاء الذين لا يعرفهم البوليس من إخوان النظام الخاص

كان هؤلاء الطلقاء الذين لا يعرفهم البوليس من إخوان النظام الخاص الذين اقتضت مصلحة المعركة في فلسطين أن يبقوا في مصر لخدمة المعركة، والذين أقعدهم أن لا يجدوا سبيلا للخروج إلى المعركة، إلا أن يأذن لهم ربهم فييسر لهم هذا السبيل، قد وجدوا أنفسهم في وسط المعركة دون جهد أو عناء.

فقد انكشف أمام ناظرهم القناع الذي لبسه النقراشي باشا، قناع الوطنية، وقناع القتال في سبيل تحرير فلسطين ، وظهر لهم وجهه الحقيقي، عميلا للمستعمر، ضالعًا في الخيانة العظمى ضد فلسطين ، فانبروا لقتاله مقدمين أنفسهم فداء للوطن والإسلام وفي سيبل الله واقتداء بسنة رسول الله في السرايا الثلاث السابق تقديمها وهي سرية محمد بن مسلمة، وسرية عبد الله بن عتيك وسرية عبد الله بن أنيس.

سرية الشهيد الضابط أحمد فؤاد لقتل النقراشي باشا:

كان الشهيد السيد فايز هو مسئول النظام الخاص عن مدينة القاهرة بعد اعتقال كل من يعلوه في القيادة سواء من رجال الدعوة العامة أو من رجال النظام الخاص، فقد اعتقل جميع أعضاء الهيئة التأسيسية وحيل بين المرشد العام وبين جميع الإخوان، فأصبح سيد فايز هو المسئول الأول عن حماية الدعوة في هذه الظروف الشاذة وله حق الاجتهاد.

وقد نظر السيد فايز في قرار حل الإخوان المسلمين وفي الظروف التي تحيط بهذا القرار سواء في الميدان أو داخلمصر ، فشعر أنه محكوم بحكومة محاربة للإسلام والمسلمين وقرر الدخول معها في حرب عصابات فوق أرض مصر .

ولم يكن للسيد فايز من بد في أن يتحمل هذه المسئولية، فكل إخوان الدعوة العامة معتقلون والمرشد العام محجوب عن اللقاء بالإخوان بوضعه تحت العدسة المكبرة لرجال الأمن طوال ساعات النهار والليل، فليس هناك مجال للاتصال به أو أخذ التعليمات منه، وبدأ السيد فايز معاركه برأس الخيانة -محمود فهمي النقراشي .

كون سرية من محمد مالك، وشفيق أنس ، وعاطف عطية حلمي ، والضابط أحمد فؤاد، وعبد المجيد أحمد حسن، ومحمود كامل، لقتل النقراشي باشا غيلة، ولتتحطم رأس الاستبداد، وقد أسند قيادة هذه السرية إلى الشهيد الضابط أحمد فؤاد.

وقد رسموا الخطة على النحو الذي ظهر في تحقيقات هذه القضية، ونجح عبد المجيد أحمد حسن في قتل النقراشي باشا، في مركز سلطانه، وسط ضباطه وجنوده وهو يدخل مصعد وزارة الداخلية.

وصمد عبد المجيد أحمد حسن في التحقيقات، فلم يعترف على أحد من زملائه، حتى حين.


سرية شفيق أنس لحرق أوراق السيارة الجيب:

وبعد نجاح السرية في هذا العمل الفدائي، نظر السيد فايز في كل ما تنسبه الحكومة إلى الإخوان من جرائم باطلة، مدعية أنها تستند في كل ما تدعيه إلى حقائق صارخة في المستندات والوثائق المضبوطة في السيارة الجيب.

وكان يعلم يقينًا بكذب هذه الافتراءات، ودليل ذلك ما ذكره عبد المجيد أحمد حسن بعد أن قرر الاعتراف على زملائه، واستندت إليه المحكمة في براءة النظام الخاص مما وجه إليه من اتهامات- ولم يساوره شك في أن الحكومة قد زورت وثائق وقدمتها للنيابة لتدين الإخوان بما ليس فيهم من جرائم واتهامات باطلة، فقرر حرق هذه الأوراق وكون سرية لهذا الغرض بقيادة الأخ شفيق أنس ، وقد رسمت الخطة على النحو الذي ظهر في تحقيقات القضية المسماة زورًا وبهتانا قضية محاولة نسف المحكمة، وحقيقتها أنها كانت محاولة حرق أوراق قضية السيارة الجيب.

وتمكن شفيق أنس من أن يضع حقيبة مملوءة بالمواد الحارقة معدة للانفجار الزمني بجوار دولاب حفظ أوراق قضية السيارة الجيب، إلا أن قدر الله قد مكن أحد المخبرين من ملاحظة شفيق، وهو يترك الحقيبة ثم ينصرف نازلا على درج المحكمة، فجرى مسرعًأ وحمل الحقيبة وجرى بها خلف شفيق، الذي أسرع في الجري حتى لا تنفجر الحقيبة على سلم المحكمة أو وسط حشود الداخلين في بهوها، ولما خرج إلى الميدان حذر المخبر من الحقيبة، فتركها فانفجرت في ساحة الميدان دون إحداث خسائر تذكر، وقبض على شفيق.

وقد هللت أجهزة الحكومة مدعية أن الغرض كان نسف المحكمة، وبالغت أبواق الاتهام تهيئ الجو للقضاء التام على الإخوان المسلمين ، مما اضطر المرشد العام إلى إصدار بيانه ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين ليساعد على تخفيف حدة الضغط على الإخوان وهو أمر جائز شرعًا في الحرب ويعد من خدعه، كما أوضحنا عند ذكر سرايا رسول الله لاغتيال أعداء المسلمين، ولكن الأخ عبد المجيد أحمد حسن لم ينتبه إلى ذلك وتأثر بالبيان تأثرًا قاده إلى الاعتراف على إخوانه.

ولكن باقي الرجال كانوا يعلمون أنهم إخوان وأنهم مسلمون، وأن الضلال والخيانة في غيرهم، وقد قام عندهم الدليل الأكيد على صحة ما اعتقدوا عندما استعمل هذا البيان للضغط على عبد المجيد أحمد حسن للاعتراف على شركائه في قتل النقراشي ، ثم ارتكاب الحكومة لجريمة قتل الإمام الشهيد، فزاد ذلك من إيمان المناضلين، بأن أرض المعركة في مصر أحق بالقتال فيها من أرض المعركة في فلسطين ، فقد كان عهد الحكومة للإمام الشهيد هو الإفراج عن المعتقلين وعودة الإخوان، إذا ما أصدر هذا البيان لاستخدامه في استتباب الأمن، ولكنهم كانوا يخادعون الله وهو خادعهم، فاستخدموا البيان في المزيد من التنكيل بالإخوان وقتل مرشدهم حتى أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فأزال دولتهم من الوجود، فضلا من الله ونعمة.

قضايا الأوكار:

اعتمد الإخوان في محاربتهم للحكومة على الاختفاء في شقق مستأجرة وموزعة في جميع أنحاء القاهرة ومجهزة بالسلاح، وعلى سبيل المثال:

فقد نزل البطل علي صديق إثر عودته من فلسطين في شقة بالدقي، كما نزل نجيب جويفل في شقة في جنينة السادات، ونزل حسن عبد الغني في منزل بشبرا وثلاثتهم من قادة الفصائل الذين أبلوا بلاء حسنا في فلسطين ، وعادوا بعد أن انتهت مهمتهم هناك إلى أرض الوطن ليدافعوا عن دعوتهم المستهدفة بالفناء، جنبًا إلى جنب مع إخوانهم الذين لم يقدر لهم الاشتراك في معركة فلسطين .

وقد دخلت قضايا الأوكار في طور جديد، بعد أن نجحت وسائل البوليس في الاستناد على بيان الإمام الشهيد «ليسوا إخوانا، وليس مسلمين» واستدراج عبد المجيد أحمد حسن للاعتراف على زملائه، الذين لم يستسلموا للبوليس في سهولة، واستخدموا هذه الأوكار في الاختفاء عن أعين البوليس، والاشتراك مع الإخوان في محاربة الحكومة الخائنة.

فقد نزل الأخ محمد مالك مع الأخ علي صديق في شقة الدقي، وكانت حكومة إبراهيم عبد الهادي قد أعلنت مكافأة سخية (عشرة آلاف جنيه) لمن يقبض على محمد مالك حيًا أو ميتًا، إذ يبدو أن كل ما كان يهم إبراهيم عبد الهادي هو أن يأمن نفسه من خطر محمد مالك، لا أن يخدم التحقيق.

وقد اشترك معهما الأخ فتحي علام على أنه طباع، ينزل لشراء ما يحتاجه المنزل، وبيده سلة، ليبدو كل شيء في الشقة طبيعيًا، رغم أن علي صديق كان قد استأجر الشقة باسم مستعار على أنه مدرس بمدارس النيل بشبرا، وقد حرص على أن يغادر الشقة في مواعيد العمل صباحًا ويعود في مواعيده ظهرًا، وأن تبقى الشقة مفتحة النوافذ.

وقد كان محمد مالك يقوم بتجهيز الطعام بينما يتردد علي صديق على القيادات العاملة لتجهيز ضربة ترد للجماعة اعتبارها وكرامتها، وتبطش بأيدي العابثين بالقانون وبحرية المواطنين من الحكام الخونة.

وتصادف أن خرج محمد مالك ذات ليلة متنكرًا، وعلى ما يبدو فقد شك فيه أحد الناس وأبلغ البوليس بأن محمد مالك يقطن بمنطقة الدقي فجد البوليس في التحري في هذه المنطقة يدقون أبواب الشقق ويسألون عن القاطنين فيها، حتى دق أحد المخبرين باب شقة «عليِّ» التي يقطن فيها محمد مالك وسأل عن سكان الشقة ومستأجريها، فأملى «عليِّ» اسماءهم المستعارة ومكان عمله الذي لا يتفق مع الحقيقة، حتى اطمأن المخبر أن الحياة في هذه الشقة عادية وليس هناك ما يدعو إلى الشك، بينما كان كل من علي صديق وفتحي علام يتسلحون بالمدافع والقنابل اليدوية والمسدسات لحراسة محمد مالك، وكان قرار محمد مالك أن لا يسلم نفسه إلى البوليس إلا جثة هامدة.

وما إن غادر المخبر المنزل حتى أبلغ «عليِّ» المجموعات العاملة بالمعركة، فحضر الدكتور السيد الجيار وأخذ محمد مالك في سيارته الخاصة إلى الأسكندرية، ويبدو أن سيارة الدكتور الجيار كانت مراقبة، حيث قبض على جميع الإخوان الذين مر بهم محمد مالك في الطريق، كما قبض على محمد مالك في الشقة التي استقر فيها في الأسكندرية، بعد معركة نارية بينه وبين البوليس، لم يتوقف فيها إطلاق النار حتى نفذ كل ما مع محمد مالك من ذخيرة وقنابل، واضطر إلى التسليم.

أما علي صديق فقد نظف شقته تمامًا من كل ما يربطه بها واستأجر شقة أخرى بمصر القديمة بالقرب من مستشفى هرمل وأقام معه فيها الأخوة نجيب جويفل وفتحي علام ومصطفى كمال عبد المجيد، الذي كان يقود السيارة الجيب، ولم يستطع أحد أن يلاحقه، فلم يقبض عليه، ولم يقدم للاتهام في قضيتها.


سرية مصطفى كمال عبد المجيد لقتل إبراهيم عبد الهادي قاتل الإمام الشهيد:

اعتقل الأخ السيد فايز في حادث النقراشي باشا، وأصبح الدكتور أحمد الملط هو المسئول الأول عن حماية الدعوة في هذه الظروف الشاذة باعتقال كل من يعلوه في قيادة الجماعة سواء في الدعوة العامة أو في النظام الخاص، وقد قتل الأعداء الخونة الإمام الشهيد على قارعة الطريق في أبشع حادث يمكن أن يقع من حكومة ضد أحد رعاياها، ومن ثم فقد كان له حق الاجتهاد.

وقد درس الإخوان المجاهدين خطة محاولة قتل إبراهيم عبد الهادي باشا لأنه كان قائدًا لحكومة تحارب الإسلام وقد خلف محمود فهمي النقراشي باشا، وتعهد بتنفيذ كل مخططاته الإجرامية للقضاء على الدعوة الإسلامية نهائيًا في مصر ، وقد اتخذ الدكتور أحمد الملط الشقة التي استأجرها الأخ علي صديق بمصر القديمة مقرًا للتخطيط لهذه العملية، وعين مصطفى كمال عبد المجيد قائدًا للسرية التي تقوم بها.

وكانت هذه الشقة تشرف تمامًا على طريق موكب إبراهيم عبد الهادي في ذهابه وعودته من المعادي إلى القاهرة كل يوم، ولم يكن إبراهيم عبد الهادي إلا امتدادًا أثيمًا لمحمود فهمي النقراشي ، فقررت السرية المرابطة في هذه الشقة قتله غدرًا، وتخليص الإسلام من شروره، بعد اعتماد الخطة من المسئول في ذلك الوقت وهو الدكتور أحمد الملط .

وكان التفكير المبدئي أن يصدم مصطفى كمال عبد المجيد سيارة إبراهيم عبد الهادي بسيارة مجهزة بعبوات ناسفة تندفع من الطريق الجانبي، لتصطدم فجأة بسيارة إبراهيم عبد الهادي وتنفجر السيارتان بمن فيهما.

ولكن الأخ مصطفى عبد المجيد خشي أن يعد منتحرًا بهذه الطريقة، فيدخل النار، وفضل أن يشترك في معركة مسلحة تهاجم الموكب وتقضي على من فيه، وقد راجع الأخ علي صديق الدكتور أحمد الملط في هذه الخطة واشترك معه كل من علي رياض والدكتور عز الدين إبراهيم في معارضتها لمنا ينشأ عنها من خسائر أكبر في الأرواح، فالمنطقة آهلة بالسكان، ويمر بالشارع ترام، مما يعرض الكثير من الأرواح للهلاك، ويمكن التفكير في طريقة لا يقتل فيها إلا إبراهيم عبد الهادي وحده كما قتل النقراشي وحده.

ولكن يبدو أن الدكتور أحمد الملط كان قد أصدر أوامره بتنفيذ خطة الهجوم، حيث وقع الحادث وتم ضرب الموكب أثناء المناقشة، وقد استعمل المهاجمون الأسلحة السريعة والقنابل، ورد عليهم حرس الموكب بالمثل، وتبين أن إبراهيم عبد الهادي لم يكن من ضمن الراكبين، بل حل محله حامد جودة رئيس مجلس النواب الأسبق.

وتمخض الهجوم عن جرح بعض المارة وموت سائق عربة كارو، أما حامد جودة فقد ارتمى من الرعب في دواسة السيارة، ولم يصب بسوء، وتمكن جميع من اشتركوا في الحادث من الفرار إلا مصطفى كمال عبد المجيد الذي ظل يدافع عن نفسه بإطلاق عيارات نارية على متعقبيه حتى انتهت ذخيرته وقبض عليه ومعه مدفعه، وعن طريق تعذيب مصطفى كمال عبد المجيد أمكن الاستدلال على عدد كبير من الإخوان المجاهدين داخل الأوكار.

ولقد أدانت محكمة السيارة الجيب في حكمها إبراهيم عبد الهادي باشتراكه في تعذيب مصطفى كمال شخصيًا كما سبق أن أوضحنا.


إقالة إبراهيم عبد الهادي هدية الملك للشعب في العيد:

توالى اعتقال الإخوان في قضايا الأوكار، بالاستدلال على الشقق المتخذة مخابئ للإخوان المجاهدين، من كل من تقع يد البوليس عليه من هؤلاء الإخوان، واستباحت الحكومة لنفسها أقسى صور التعذيب، ولكنها ما كانت تقبض على وكر من الأوكار وتظن أنها انتهت من القبض على جميع المجاهدين، حتى يظهر لها وكر جديد لم تكن تعلم عنه شيئًا مزودًا أعضاؤه بالسلاح السريع الطلقات والقنابل.

فاهتزت أعصاب إبراهيم عبد الهادي اهتزازًا عنيفًا، حتى أشيع أنه كان يدخل دورة المياه بمنزله بيد مرتعشة تحمل مسدسًا، خشية أن يخرج له فدائي في الحمام.

وشعر الملك بفشل الحكومة الذريع في القضاء على مقاومة الإخوان المسلمين ، وشعر بغضب الشعب المصري من الإجراءات الشاذة التي تستخدمها هذه الحكومة معهم، خاصة بعد أن رأى الشعب بطولاتهم في فلسطين ، وفشل الحكومة في تحقيق وعدها بطرد اليهود منها، بل وبخسارتها للمعركة خسارة مذلة مهينة، كما شعر بالاستياء الشديد داخل صفوف الجيش مما ظهر أثناء حملة فلسطين من خيانات وفساد، ففكر أن ينجو بنفسه ويتخذ من حكومته كبش فداء، فقرر إقالة إبراهيم عبد الهادي يوم عيد الفطر وأعلن أن قراره هذا هدية الملك للشعب، فعم الفرح والسرور جميع جنبات الشعب المصري، واستبشر الإخوان خيرًا بهذا النصر الجديد، الذي ساقه الله إليهم، وفاء إخلاصهم واستبسالهم في الدفاع عن قضية الإسلام سواء في مصر أو في فلسطين ، وبدأت على أرض مصر صفحة جديدة، لغسل الماضي والنظر بالأمل إلى المستقبل.

التذمر في صفوف الجيش:

في الوقت الذي ظهرت فيه بشائر انفراج الأزمة بطرد حكومة إبراهيم عبد الهادي ، وتشكيل حكومة جديدة مستقلة برياسة حسين سري باشا، كانت مهمتها لحكومة شعبية تقوم على أساس استطلاع رأي الشعب في انتخابات حرة، كان ضباط الجيش يعاونون من أزمة ثقة في قادتهم وفي رؤساء حكوماتهم، فقد فقدوا ثقتهم في قادتهم لما رأوا أنهم رسموا لهم سياسة خاطئة عند دخول فلسطين ، انتهت بهم إلى هزيمة لا ذنب لهم فيها، بعد أن ساقوهم إلى مجازر نتيجة خططهم المرتجلة التي عرضت الكثير من قواتهم إلى الحصار أو القتل، فقد شهدوا أكثر من مرة وصول الأوامر المتناقضة والتعليمات التي يهدم بعضها بعضًا، كما تذكروا حيرتهم، أي الأوامر ينفذون وأيها يتركون، ويظلون في حيرتهم حتى يلاقوا حتفهم، من فرط ما في تشكيلاتهم من ثغرات، وخططهم من نقص وقصور.

فامتلأت قلوبهم حقدًا على قادتهم، وانتزعت من قلوبهم الصفة الأساسية للجنود، وهي التزام الطاعة للقيادة، عن حب وثقة، وأخذت بذور القيام بثورة، يتخلصون بها من هذه القيادات الفاسدة تنمو في صدورهم.

كما فقد الجنود الثقة بقيادتهم العليا لما سمعوه عن الأسلحة الفاسدة، التي كانت تقتلهم قبل أن تقتل عدوهم وعن الدور السيئ الذي لعبته هذه القيادة العليا في توريد هذه الأسلحة للجيش.

وفقدوا ثقتهم في رؤساء حكوماتهم، لما رأوا أنهم أسلموا أعنتهم للمستعمر الغاصب يحركهم كيف يشاء، وينفذ بأيديهم وعقولهم خططه المرسومة، فكانوا يحرزون نصرًا عسكريًا، تضيعه هذه الحكومات بتصرفاتها مثل قبول الهدنة، أو سحب القوات المحاربة، مما أوقع في الجيش خسائر فادحة ليس لها ما يبررها.

كل ذلك جعل قلوب الكثيرين من ضباط الجيش وجنوده مهيأ للثورة، وتكونت شلل كثيرة من الضباط تتناجى فيما يمكن أن تفعله لتخليص البلاد من هذا البلاء الشديد.

إعلان الحكم في قضية السيارة الجيب وخروج المتهمين فيها:

كان إعلام الحكم في قضية السيارة الجيب في أواخر مارس 1951 بمثابة ناقوس كبير أشعر كل أفراد شعب مصر أنهم وقعوا ولمدة ثلاث سنوات تحت تأثير معلومات مضللة عن جماعة الإخوان المسلمين ، وكانت شهادات الشخصيات الكبيرة مثل سماحة مفتي فلسطين واللواء أحمد المواوي ، واللواء فؤادي صادق عن دور الإخوان المسلمين المشرف في القتال دفاعًا عن فلسطين ، وعن دور الحكومة التي اتهمتهم بالباطل، وما ارتكبته من خيانات انتهت بضياع فلسطين ، ووقع خسائر كبيرة في الأرواح والأموال في قوات الجيش المصري ومعداته، قد زادت من يقين شعب مصر بما صدر ضده من خيانة زعزعت ثقته، بالسلطات العليا التي لعبت دورًا كبيرًا في هذه الجريمة الشنعاء، فلم تجد الحكومة الجديدة بدًا من الإفراج عن المتعقلين السياسيين، كما أنها لم تستطع أن تقف ضد التفاف الشعب حو الإخوان المسلمين ، الذين انتظمت صفوفهم بقيادة الأخ صالح عشماوي وكيل الجماعة التي فقدت مرشدها العام في جريمة شنعاء، ارتكبها الحكام السابقون، بغيًا وفسادًا، فعادت لجماعة الإخوان قوتها وأثرها في مجريات الأحداث، وبدأوا بمطالبة الحكومة بإصدار عفو عن المسجونين السياسيين في مظاهرات شعبية كانت تجد من أبناء الشعب كل مناصرة وتأييد.

وقد ظهر أثر ذلك كله في الانتخابات التي أجرتها حكومة سري باشا فتمخضت عن أغلبية وفدية، اضطرت الملك لتشكيل وزارة وفدية برئاسة النحاس باشا، فالتزمت بمسايرة الشعور الوطني العارم، الذي أشعلته في النفوس نتائج حرب فلسطين ، فأعلنت إلغاء معاهدة 1936 وسمحت بإنشاء المعسكرات التدريبية لمواجهة الإنجليز في القتال مواجهة شعبية، وبذلك استنجد أمام الإخوان المسلمين الخارجين لتوهم من السجون والمعتقلات فرضًا لازمًا، تفرضه عليهم عقيدتهم الإسلامية، وهو قتال الإنجليز على أرض مصر حتى الجلاء.

وقد قام الإخوان بواجبهم على النحو الذي فصلناه في الفصل الخامس من هذا الكتاب واستمر الإخوان يقومون بواجبهم في هذا المجال إلى قيام ثورة 23 يوليو، واشترك معهم بعض الضباط الذين لمسوا رجولتهم في معارك فلسطين ، كما استمر قتال الإخوان للإنجليز بعد قيام الثورة، مما دعا الإنجليز إلى التسليم لحكومة الثورة في مفاوضات الجلاء، بقبول الجلاء عن مصر وإن كانوا قد احتفظوا لأنفسهم بالحق في العودة في حالة خطر الحرب، ولكن هيهات أن يسمح شعب مصر لمحتل أن يعود لاحتلال أرضه بعد أن غادرها، مضطرًا تحت قوة ضربات أبناء هذا الشعب الصابر المناضل.

</include>


الفصل الثامن : الوثائق البريطانية التي تدين الحكومات المصرية العميلة في حربها للإخوان

مقدمة

تحرص الحكومات التي تحكم في ظل الاستعمار البريطاني أن تتظاهر للأمة بأنها تتخذ قراراتها في شئون البلاد الداخلية بوحي من إرادتها الوطنية، دون تدخل للمستعمر في هذه الشئون، وأن كل الحكمة من وجود قوى الاحتلال في هذه البلاد هي الدفاع عن البلاد في حالة تعرضها لهجوم غادر من دولة أجنبية أخرى.

ويتفنن الاستعمار الإنجليزي في إبرام معاهدات الصداقة بين حكومة إنجلترا وبين مثل هذه الحكومات، تحشوها بعبارات السيادة والاستقلال الزائفة، وذلك للاستهلاك المحلي حتى تقبل الشعوب نصوص هذه المعاهدات وهي تستشعر بعض العزة والكرامة ولكنها تضمن للمحتل استمرار قواته جاثمة على صدر الدولة المحتلة، ومن هذا المنطلق يوحي السفير البريطاني لرئيس الدولة باتخاذ القرارات التي تتفق مع مصالح الاستعمار العالمية، وأن يمهد لهذه القرارات بسيل من الشعارات الوطنية الرنانة، حتى تتهيأ الأذان لقبولها وكأنها ذروة الأماني الوطنية، فيهتفون لهؤلاء الحكام مشيدين بانتصاراتهم، حتى في الحروب التي انهزموا فيها، ولقد صور المرحوم أحمد شوقي بك أمير الشعراء هذه الحقيقة في مسرحيته الشعرية مصر ع كليوباترا، فقال رحمه الله على لسان حابي أحد المصريين مخاطبًا من يدعي «ديون»:

اسمع الشعب ديون

كيف يوحون إليه

ملأ الجو هتافا

بحياتي قاتليه

أثر البهتان فيه

وانطلى الزور عليه

يا له من ببغاء

عقله في أذنيه

والذي يعنينا في هذا الفصل هو أن نسرد نصوص الوثائق البريطانية والأمريكية التي كشف عنها المؤرخ محسن محمد بعد أن مضت المدة القانونية لسريتها، ورفعت كل من الحكومتين البريطانية والأمريكية الحظر على نشرها، وتقتصر على موضوع الكتاب، فهي تؤيد بالدليل المادي ما ذهبنا إليه في الفصل السابق من خيانات حومتي محمود فهمي النقراشي ، وإبراهيم عبدا لهادي، كما تضمنت أن هذه الخيانات لم تكن صادرة عن عقائد خاطئة لهذين الفحلين، الذين مارسا أعمال الوطنية والفداء في شبابهما، ولكنها كانت خيانات عميلة للمستعمر ينفذها الخائن بأسلوب يستحي المستعمر أن يسلكه لشدة انحرافه وبعده عن كل قيمة إنسانية.

ولابد لي أن أسجل قبل أن أحاول عرض هذه الوثائق، أنها لا تعطي كل الحقيقة ولكنها تكشف الجزء الذي يسمح المستعمرون بكشفه في الزمن الحالي اعتقادًا منهم أنه لا يضر بمصالحهم، أما الوثائق التي لا تزال نصوصها تمثل خطورة على مصالح الاستعمار في حالة نشرها، فإنها تظل محظورة رغم مرور المدة القانونية التي تكفي لرفع الحظر.

إن العدو يقظ وهو حريص دائما أن يلبس مسوح الود والإخلاص ليتسرب إلى أعماق الإدارات المحلية فيقودها لتحقيق مآربه في سهولة ويسر، وإن الوثائق الآتية هي خير دليل على ذلك كله بشهادة العدو نفسه، كما أنني أحذر القارئ من العبارات المغرضة التي دست في هذه الوثائق للإساءة إلى الإخوان المسلمين ويمكن للقارئ أن يلمحها فور قراءتها، إلا أنني حرصت لأمانة النقل أن أنقلها كما جاءت في جريدة «المسلمون» دون أدنى تغيير.


الوثائق

أولا: رصد الأعداء لفكرة الإخوان المسلمين وأهدافهم تمهيدًا للتعامل معهم على أساس من الدراسة العلمية: (العدد 44 من مجلة المسلمون):

(أ) قال هيوات دان- رجل المخابرات البريطانية في مصر الذي يجيد اللغة العربية وتزوج مصرية مسلمة- في بحث قدمه سرًا للإنجليز ثم نشره بعد ذلك كتابًا ولكن بأسلوب مختلف عن جماعة الإخوان المسلمين قال:

«تتمتع الجماعة بشعبية تفوق ما كان يتمتع به الوفد عند نشأته، وفي عصره الذهبي ويرجع ذلك إلى حسن البنا فهو رجل تنظيم على درجة عالية من الكفاءة، يصوغ تعاليمه الدينية بطريقة بارعة تمكنه من جذب خيرة شباب البلد إليه، ومجموعة أخرى من أصحاب المناصب والمكانة الطيبة.

وهو يتوجه إلى المشاعر الدينية، ويستخدم التنويم المغناطيسي العميق خلال خطبه وأحاديثه».

(ب) قالت المفوضية الأمريكية: «خطورة الإخوان تكمن في المبادئ المتعصبة التي تعتنقها، وطبقًا لما يقول الإخوان، مادامت مصر دولة إسلامية فيجب أن تحكم بقانون القرآن».

(ج) قالت السفارة البريطانية: «الهدف المعلن للجماعة إقامة حكومة ومؤسسات مصرية على أساس المبادئ القرآنية الأصيلة، ونبذ الثقافة الغربية التي تعتبرها الجماعة مسئولة عما أصاب المجتمع المصري من انهيار الأخلاق، وانحلال السلوك، وفساد القيم، فقد جلبت على الشعب ما يعانيه من تعاسة وفقر، ومهمة الجماعة إقامة تنظيم قوي لديه مشاعر العداء للأجانب» انتهى وواضح أن المقصود من كلمة الأجانب هو الاستعمار ولكن بصيغة مهذبة.


ثانيًا: رصد لنشاط الإخوان المسلمين تمهيدًا لضربه ضربة قاضية: (العدد 45 من جريدة المسلمون):

كتبت المخابرات البريطانية تقريرًا تقول فيه: «قبل الحرب العالمية الثانية بلغ عدد فروع الإخوان في مصر نحو 500 فرع ويرجع انتشارها السريع إلى أسباب منها فشل السياسيين الفاسدين في مصر في كبح جماح القلاقل الاجتماعية، فمكن ذلك من يدعو لاتخاذ الإسلام منهجًا من جذب أتباع من البيئة المضطهدة، وأصبح الإخوان بعد رعاية علي ماهر لهم، يتمتعون بدرجة ما من الاكتفاء الذاتي».

ويفسر الأستاذ محسن محمد التقارب بين علي ماهر وبين الإخوان بالحقائق الآتية:

كان علي ماهر خصمًا للوفد، ولم يكن عضوًا في الحزب السعدي، أو حزب الأحرار الدستوريين أصحاب الأغلبية في مجلس النواب.

ومن هنا سعى علي ماهر إلى الحصول على تأييد الإخوان المسلمين ، وأيده في ذلك صالح حرب، وعبد الرحمن عزام ، وعزيز المصري، وقابئل هؤلاء جميعًا الملك فاروق الذي كان يميل للألمان ويعادي الوفد والإنجليز، ويرى أن تجمعات الإخوان يمكن استغلالها في معارضة الوفد.

ويؤيد الأستاذ محسن محمد وجهة نظره هذه بالبرقية التالية الصادرة من السفير البريطاني اللورد كيلرن إلى لندن:

«عمل علي ماهر باشا بنشاط من وراء الكواليس لتأكيد سياسته الخاصة بالحركات المعادية للأجانب من خلال التنظيمات الإسلامية مثل جمعية الشبان المسلمين، وحركة مصر الفتاة، وجماعة الإخوان المسلمين وعدد آخر من الجمعيات الإسلامية أقل شهرة والتي تمارس نشاطها في الخفاء.

وأخذ علي ماهر باشا يشجع نوادي وجمعيات الشباب، وكان الهدف انتظام الأجيال القادمة تحت راية الملكية الوطنية المتطرفة، وكراهية الأجانب والمفهوم التقليدي للإسلام في مواجهة التيار الأكثر ليبرالية كحزب الوفد- وللأقباط نفوذ فيه- فإن مكرم عبيد باشا كان سكرتيرًا عامًا للوفد.. وكذلك في مواجهة الاحتلال الأجنبي».

والكلمة الأخيرة من هذه البرقية هي بيت القصيد، فكل ما ذكره اللورد كيلرن عن كراهية الأجانب إنما هو تعبير فيه تورية، والمقصود الحقيقي منه هو كراهية الاحتلال.

أما علي ماهر باشا نفسه فلم يكن له من هذا كله إلا سياسته الثابتة بتجنيب مصر ويلات الحرب وهي السياسة التي نالت تأييد جميع الهيئات الشعبية في مصر ومنها الإخوان المسلمون فالتفوا حوله وأيدوه.


ثالثًا: الأعداء يبدءون أول مناوشة مع الإخوان المسلمين : (العدد 45 من جريدة المسلمون:

استقال علي ماهر باشا وتولى الحكم بعده حسن صبري باشا الذي توفى وهو يلقي خطاب العرش داخل البرلمان فخلفه حسين سري باشا صديق الإنجليز، فبدأ الإنجليز في توجيه أول مناوشة مع الإخوان المسلمين مستعينين بصديقهم حسين سري باشا، وقد بلغت السلطات البريطانية حسين سري باشا أن حسن البنا يعمل في أوساط الإخوان لحساب إيطاليا وطلبت هذه السلطات إلى رئيس الوزراء العمل على الحد من نشاطه، وقد ورد هذا النص في مذكرات الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف في وزارة حسين سري .

رأى حسين سري باشا نقل البنا إلى بلد ناء في الصعيد وكلف محمد حسين هيكل باشا بتنفيذ القرار بصفته وزيرًا للمعارف، تحقيقًات لهدف الإنجليز في الحد من نشاطه.

وقد سجل السير مايلز لاميسون (اللورد كليرن) في البرقية 338 هذه الواقعة على استحياء، فهو يحاوب أن ينسب القرار إلى حسين سري باشا شخصيًا ثم يتهم تصرف حسين سري باشا بالشكل الفج الذي اتخذ به القرار بأن صرح أن القرار قد صدر بناء على اقتراح السفير البريطاني، ولتدرك هذه المعاني أيها الأخ العزيز اقرأ نص البرقية -338 الصادرة من السفير البريطاني السير مايلز لاميسون:

«كانت الملامح الرئيسية التي تميزت بها التطورات السياسية في مصر ازدياد حدة الصراع بين رئيس الوزراء وعلي ماهر باشا.

هاجم رئيس الوزراء علي ماهر باشا في معاقله الإدارية وشتت صنائع خصمه بالتنقلات.

وهاجم سري باشا علي ماهر باشا في التنظيمات الإسلامية التابعة لماهر باشا بنفيه حسن البنا رئيس جماعة الإخوان المسلمين إلى قنا .

ويبدو أن رئيس الوزراء تصرف في هذه المسألة بشكل فج، فقد صرح بأنه اتخذ هذا الإجراء بناء على اقتراح السفير البريطاني، ولم يتعامل في هذه المسألة بمقتضى السلطات المخولة له بوصفه حاكمًا عسكريًا».

والفقرة الأخيرة من هذه البرقية توضح بجلاء السياسة البريطانية التي تعتمد في تنفيذ مآربها على الأيدي المحلية، وتطلب منهم أن لا يعلنوا أنهم يتخذون قراراتهم تلبية لرغبة الإنجليز، بل عليهم أن يلبسوا القرارات الثوب الوطني الصادر من السلطات المخولة لهم بقوة القانون، وما ما نفذه النقراشي باشا بكل إخلاص عندما قرر حل الإخوان وادعى أن ذلك تم استنادًا إلى سلطاته المخولة له بقوة القانون، ولم يذكر أبدًا حتى في مجالسه الخاصة أنها رغبة بريطانية، حتى لا يشد أحد أذنه كما شد السير مايلز لاميسون أذن حسين سري عندما صرح بأن الإنجليز هم الذين طلبوا نقل حسن البنا ، فوصف هذا التصريح بأنه اتخذ القرار بطريقة فجة، أي خالية من نضوج أساتذة العمل في خدمة بريطانيا الذين يخفون تمامًا دور بريطانيا الكائن وراء قراراتهم.


رابعًا: الإنجليز يخسرون الجولة في هذه المناوشة: (العدد 45 من مجلة المسلمون):

(أ) قال هيكل باشا في مذكراته: «أدى نقل البنا إلى ما لم يؤد إليه نقل مدرس غيره، جاءني غير واحد من النواب الدستوريين يخاطبني في إعادته إلى القاهرة ويرجوني في ذلك بإلحاح، ولما لم أقبل هذا الرجاء ذهب هؤلاء إلى رئيس الحزب عبد العزيز فهمي باشا وطلبوا إليه أن يخاطبني في الأمر، وخاطبني الرجل فذكرت له أن حسين سري باشا هو الذي طلب نقل الشيخ بحجة أن له نشاطًا سياسيًا، وأن النشاط السياسي محرم على رجال التعليم، كما أنه محرم على غيرهم من الموظفين، وأنه لا مانع عندي من إعادة الرجل إلى مدرسة المحمدية بالقاهرة.

وخاطب عبد العزيز باشا رئيس الوزراء في الأمر وذلك له إلحاح طائفة من النواب الدستوريين ذوي المكانة، وأبدى لي سرى باشا أنه لا يرى مانعًا من إعادة الرجل إلى القاهرة فأعدته» -انتهى كلام محمد حسين هيكل باشا.

وهكذا عاد الإمام الشهيد إلى القاهرة في يونيو من نفس العام وكان نصر الله للمؤمنين عظيمًا.

ويسجل السفير البريطاني خسارته لهذه الجولة في برقية بالنص الآتي: «إن القصر الملكي بدأ يجد في الإخوان أداة مفيدة، وأن الملك أصدر بنفسه أوامر لمديري الأقاليم المحافظين بعدم التدخل في أنشطة الإخوان الذين يعملون بلا أطماع شخصية لرفاهية البلاد».

وقال السفير: «لا شك أن الجماعة استفادت كثيرًا من محاباة القصر لها كما نالت التأييد المادي والمعنوي من العصبة المعادية لبريطانيا التي يرأسها علي ماهر .

وعلى أية حال فإن نتيجة قرار النقل والعدول عنه أفادت البنا فإن تراجع رئيس الوزراء الأسبق أشعر الشيخ حسن بأنه له من القوة ما يسمح بمضاعفة نشاطه من غير أن يخشى مغبة ذلك النشاط وأن هذا الشعور كان له أثره في تطوير الإخوان المسلمين ».

وهذه الفقرة الأخيرة هي بيت القصيد ففيها اعترف الإنجليز بأنهم خسروا الجولة الأولى من المناوشات بسب محافظة حسين سري باشا على كرامته وإجابته للمطلب الشعبي بعودة الأستاذ البنا إلى القاهرة رغم إرادة الإنجليز، ولكن السفير البريطاني لا بد أن يستعمل الواقعة ليدق إسفينًا أكبر ضد الإخوان المسلمين .

(ب) طلبت السلطات البريطانية من سري باشا اعتقال حسن البنا وأحمد السكري وكيل الجماعة وكان السبب في ذلك تقارير المخابرات البريطانية التي أجمعت على أن الإخوان يقومون بدعايات مضادة للإنجليز ويخطبون ضد المخابرات في اجتماعات شعبية، ويجمعون معلومات عن تحركات القوات البريطانية ويجرون اتصالا مع موظفي السكك الحديدية ومع العاملين في المستودعات والمعسكرات البريطانية.

وقد سببت تقارير المخابرات التي تقول: إن هناك شكوك في أن الإخوان يخططون للقيام بعملية تخريبية شاملة ضد المنشآت الحيوية وشبكة الاتصالات البريطانية، سببت هذه التقارير قلقًا كبيرًا للسفارة رغم أنها غير مما دعاها إلى أن تطلب من حسين سري باشا اعتقال البنا وأحمد السكري وعبد الحكيم عابدين فاعتقلتهم الحكومة في 16 أكتوبر سنة 1941 في معتقل الزيتون بالقاهرة، بناء على طلب الإنجليز.

وأوقف سري باشا صحف الإخوان «التعارف» و «الشعاع» الأسبوعيتين و «المنار» الشهرية وأغلق مطبعتهم وحظر اجتماعاتهم ومنع الصحف من نشر أبناء عن الإخوان المسلمين واجتماعاتهم.

ومرة أخرى تحرك الكثيرون للدفاع عن الإمام الشهيد وبينهم توفيق دوس باشا نائب منفلوط الذي قدم استجوابًا في مجلس النواب بشأن اعتقال حسن البنا بناء على طلب من الأخ محمد حامد أبو النصر (المرشد العام الرابع للإخوان المسلمين) وهو من أبناء منفلوط.

وانهالت العرائض والالتماسات على الملك ورئيس الوزراء تطلب الإفراج عن الشيخ، واعتصم الطلاب في مسجد السلطان حسين بالقاهرة، وفي 12 نوفمبر ألقت الشرطة القبض على 16 طالبًا يحاولون تنظيم اجتماع للاحتجاج على اعتقال زعيم الجماعة.

فقرر سري باشا إطلاق سراح زعماء الإخوان المسلمين في اليوم التالي وكان نصر الله للمؤمنين عظيما. ولم يعجب هذا القرار السفير البريطاني بالطبع، فسأل سري باشا عن سبب الإفراج عن حسن البنا رغم أن السفير نفسه هو الذي أصر على الاعتقال.

أجاب رئيس الوزراء: «أن افتتاح البرلمان سيجري بعد يومين، ولا استطيع ضمان النظام والأمن في ذلك اليوم إذا استمر اعتقال البنا وزميليه».

ولم يعجب هذا الكلام السفير البريطاني بالطبع، فحسين سري صديق للإنجليز ولكنه يحتفظ بماء وجهه عند اللزوم، ويحافظ على كرامته أحيانًا، ومن ثم فلا يمكن أن تعتمد على أمثاله المصالح البريطانية.

ولهذا السبب قرر الإنجليز استبدال حسين سري باشا بمصطفى النحاس باشا في 4 فبراير سنة 1942 دون مواربة أو استحياء، بل بأن حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين وفرضت قرارها على الملك بالقوة المسلحة -فالإنجليز رجال عمليون لا تهمهم الصداقة كثيرا، بل تهمهم المصلحة.

وعلى العموم فقد خرج الإخوان من هذه المناوشة وقد ظهرت قوتهم واضحة بعد أن أفرج عن الإمام الشهيد وصحبه في خلال أقل من شهر واحد على الرغم من أن الاعتقال كان في ظروف الحرب التي يسيطر فيها الإنجليز بيد من حديد على الشئون الداخلية لمصر وكان يمكن أن يمتد الاعتقال إلى سنوات عديدة، وكان ذلك دليل تسليم الإنجليز بشعبية الإخوان المسلمين التي لا يمكن تحديها في ظروف الحرب.


خامسًا: الإنجليز يتخوفون من الهدنة القائمة بين حزب الوفد وبين الإخوان المسلمين باعتبارهما أكبر هيئتين شعبيتين في مصر : (العدد 47 من جريدة المسلمون):

كتب السفير البريطاني يقول: «تتخذ العلاقات بين الإخوان والوفد شكل الهدنة من الناحية الفعلية ومن المفيد بالنسبة للإخوان أن يحتفظوا بعلاقات طيبة مع الوفد طالما أن المعارضة من شأنها أن تؤدي إلى إغلاق مقارهم واعتقال قادتهم وإلحاق أضرار جسيمة بمستقبل الجماعة، وقد التزم حسن البنا بنصيبه من الاتفاق بالامتناع عن توجيه النقد الاستفزازي للحكومة رغم أن موقعه الفكري من مبادئ الوفد لم يتغير.

أما الوفد فظل ينظر إلى أنشطة هذه الجماعة بعين الشك ويحرص على القيام بالمراقبة الدقيقة لهذه الأنشطة، وتبقى العلاقات بين الطرفين متقلبة لا تستقر، والهدنة لا تدوم».

والعبارة الأخيرة هي أهم العبارات لأنها تعبر عن أمل السفير في أن يقع صدام بين الوفد والإخوان يؤدي إلى القضاء على الإخوان وعزمه على تحقيق هذا الأمل.


سادسًا: الأمريكان يتخوفون أيضًا من استمرار حسن العلاقة بين الإخوان والوفد: (العدد 47 من جريدة المسلمون):

تلقت المفوضية الأمريكية 320 رسالة في يوم واحد وردت لها من 70 مركزًا للإخوان في القاهرة و 143 مركزًا في الأقاليم، وكتبت كل رسالة بأسلوب مختلف وكلها تحتج على الموقف الأمريكي فيما يتعلق بفلسطين ، التي هي عربية تماما، وهم يتوقعون إعلانًا صريحًا يهدئ المشاعر ويضمن للعرب وطنهم.

وقد كان انعكاس هذه الرسائل عند القائم بالأعمال الأمريكية هو برقيته إلى واشنطن في 29 أبريل سنة 1944م قائلاً:

«ينظر النحاس إلى البنا باعتباره قوة يحسب لها حساب، فقد حضر أعضاء من وزارته اجتماعات أقامها البنا وقيل إنه منح الجماعة إعانة مالية كبيرة.

ومن الواضح أن الإخوان مستعدون للتعاون مع الحكومة الحالية الموجودة في السلطة ومن المشكوك فيه أن يتبع الإخوان هذه الحكومة إلى المعارضة في حالة سقوط الوزارة.

ونشاط الجماعة المقبل غير واضح ويمكن أن تصبح مثارًا للإزعاج أو حتى للخطر من زاوية طابعها الديني المتعصب».

والفقرة الأخيرة هي أيضًا أهم العبارات لأنها تثير الحكومة الأمريكية ضد الإخوان وتزرع لديها اتجاه العمل على القضاء عليهم ولو عن طريق إيقاع فتنة بينها وبين حزب الوفد.


سابعًا: الإنجليز يتدخلون صراحة في منع الإخوان من دخول البرلمان: (العدد 48 من جريدة المسلمون):

عندما انتهت مهمة مصطفى النحاس في حكم البلاد أثناء الحرب لضمان الاستقرار فيها حتى ينتصر الخلفاء أقيل مصطفى النحاس في 8 أكتوبر سنة 1944م، وكلف أحمد ماهر برئاسة الوزراء، وقد حل مجلس النواب يوم 15 نوفمبر وحدد يوم 8 يناير سنة 1945 م موعدًا لإجراء الانتخابات وقد رشح الإمام الشهيد نفسه في دائرة الإسماعيلية، كما رشح خمسة من الإخوان أنفسهم في دوائر أخرى.

وقد أعيدت الانتخابات بين الإمام الشهيد والدكتور سليمان عيد متعهد توريد الأغذية لقوات الجيش البريطاني في منطقة القنا ة، لأن أيا منهما لم يحصل على عدد الأصوات اللازمة للفوز في الجولة الأولى.

وفي الإعادة تدخل الإنجليز والحكومة بصورة أكثر سفورًا حيث:

1- طرد الحاكم العسكري البريطاني مندوب فضيلة الأستاذ حسن البنا من اللجان الانتخابية في سيناء وقام مندوبو الحزب السعدي بملء الصناديق بالأصوات المؤيدة على هواهم.

2- تولت سيارات الجيش البريطاني نقل العمال من المعسكرات البريطانية إلى صناديق الانتخابات للتصويت لصالح الدكتور عيد ببطاقات مزورة، فجميعهم مقيدون في دوائر انتخابية خارج منطقة القنال.

3- حشدت الحكومة وأنصارها وقامت بتزوير الانتخابات ضد فضيلة الأستاذ حسنا البنا وزملائه الخمسة الذين رشحوا أنفسهم في دوائر أخرى كمستقلين.

وكانت نتيجة التزوير والتدخل البريطاني هي سقوط جميع مرشحي الإخوان، وعندما أعلن فوز مرشح الحكومة في الإسماعيلية كادت تحدث فتنة لولا تدخل الإمام الشهيد حيث خطب في الجموع قائلا:

«هذه الحشود الهائلة بهذه الصورة الرائعة تصم الحكومة بالتزوير والتضليل، إن مراجلكم تغلي بالثورة، وعلى شفا الانفجار ولكن اكظموا غيظكم وانصرفوا إلى منازلكم وبلادكم مشكورين مأجورين لتفوتوا على أعدائكم فرصة الاصطدام بكم.

إن عجز أمة أن تدفع بأحد أبنائها إلى البرلمان ليقول كلمة الحق والسلام لدليل على أن الحرية رياء وهباء، وأن الاستعمار سر البلاء».


ثامنًا: الإنجليز يشيدون بنجاح حكومة النقراشي في الوقيعة بين الإخوان والوفد ويضاعفون التحذير من قوة الإخوان بعد محاولتهم الوقيعة بين النقراشي والإخوان: (العدد 49 من جريدة المسلمون):

تمادى أحمد ماهر باشا في تحدي رغبات الشعب المصري إلى حد اتجاهه لإعلان الحرب على ألمانيا رغم تذكر كل طبقات الشعب من استمرار الاحتلال الإنجليزي لمصر بعد كسب الحرب بفضل جهودها، فقتله أحد الشبان الوطنيين من الحزب الوطني وهو المحامي محمود العيسوي، وخلفه في الوزارة محمود فهمي النقراشي باشا.

اتهم جميس بوكر شخصيات عليا بأنها مولت بعض صحف المعارضة واتهم الوفد بأنه موال بالمال حزب مصر الفتاة وجمعية الشبان المسلمين، وقال إن فؤاد سراج الدين عرض أموالاً على جماعة الإخوان المسلمين ولكنهم رفضوا طبقًا لسياستهم في عدم التعاون مع الوفد، وذلك في برقية أرسلها إلى لندن على أثر الحملة العنيفة التي شنتها الصحف ضد بريطانيا والصهيونية بمناسبة قرب ذكرى وعد بلفور.

وقد حاولت السير والترسمارت المستشار الشرقي للسفارة البريطانية أن يوقع بين حكومة النقراشي والإخوان، فذهب إلى حسن رفعت باشا وكيل وزارة الداخلية وقال له: «يتحرق حسن البنا شوقًا ليحل محل النحاس باشا والوفد».

رد حسن رفعت قائلاً: «لا يمكن أن نعارض أمرءًا يمثل التطور الطبيعي» وأضاف: «يتعاون الإخوان المسلمون معي للتقليل في حجم المظاهرات التي ستجري غدًا بشأن قضية فلسطين في ذكرى وعد بلفور. لقد صاروا الآن أقوياء للغاية كما أن البنا قائد ملتزم تماما، وهو خطيب مفوه، ولديه قدرة عالية على التنظيم».

قال والتر سمارت: «من الخطر مساندة الإخوان واستخدامهم كسلاح حتى لا يأتي اليوم تجد فيه هذه الحكومة، وكل الحكومات، أن التعامل معهم صار أمرًا عسيرًا، فهم جماعة تعمل في الظلام ومعادية للأجانب. واستخدامهم كسلاح يؤدي بالتأكيد إلى نمو قوتهم، وبالتالي تصبح السيطرة عليهم مستحيلا، وإني أدرك بالطبع زيادة قوتهم، ولكني متمسك برأيي في أن أنشطتهم يمكن أن تؤدي إلى قيام حركة معادية للأقباط».

رد حسن رفعت قائلا: «لا اعتقد بوجود خطر من وراء ذلك فحسن البنا حريص للغاية على عدم السماح بمثل هذه الأعمال».

أصر سمارت على موقفه وقال: «لازلت متمسكًا تماما برأيي في أن أي تشجيع للإخوان المسلمين يعد من الأمور الخطيرة».

وقد اشترك الإخوان فعلا في تنظيم المظاهرات المعادية للصهيونية والاستعمار في ذكرى وعد بلفور، ولكنهم تمكنوا من تقليل أعمال التخريب التي حثت عليها الأحزاب المعارضة مثل الوفد ومصر الفتاة، كما استطاع الإمام الشهيد بعد ساعة أن ينصح المتظاهرين بالتفرق فأطاعوا وانصرفوا بنظام وقد شعر الوفد بالسخط على الإخوان الذين أسهموا في تهدئة أعمال الشغب الأمر الذي استبشر به السير والتر سمارات في برقية إلى لندن يقول:

«يشعر الوفد بالسخط تجاه موقف الإخوان الذين قاموا بتهدئة أعمال الشغب التي وقعت أخيرًا بين صفوف الطلاب وقد اعتبر الوفد موقف الإخوان نوعًا من الخيانة.

وقد تلاعب فؤاد سراج الدين بالإخوان المسلمين لبعض الوقت ولا شك أنه قدم إليهم بعض المال., وعلى أية حال فإن حكومة النقراشي تبدو كما لو أنها نجحت في الوقيعة بين الوفد والإخوان.

لقد أصبحت الجماعة تضم حوالي نصف مليون عضو في مصر وافتتحت فروعًا لها في فلسطين وسوريا، ودفع الاستياء الذي يشعر به المصريون تجاه قادة الأحزاب السياسية الحالية إلى أن ينضم عدد منهم إلى الجماعة التي وجدت أعضاء لها بين الطبقات الراقية في المجتمع بعد أن كانت لا تضم إلا أبناء الطبقات الدنيا.

ومن الواضح أن الإخوان المسلمين سلاح ذو حدين، فيمكن أن يكونوا اليوم أصحاب دور فعال في وقف أعمال الإثارة ثم يقوموا غدًا بدور خطير في التحريض على مثل هذه الأعمال وخاصة في القضايا الدينية مثل قضية فلسطين ، ولا أظن أن بمقدورنا القيام بأكثر من تحذير حسن رفعت ».

وتشير هذه البرقية إلى اضطراب السياسة البريطانية من تزايد قوة الإخوان المسلمين وترحيبها بالوقيعة التي تصوروا أن حكومة النقراشي نجحت في إحداثها بين الوفد والإخوان عندما نسقت حكومة النقراشي تعاونا بينها وبين الإخوان للتخفيف من حوادث الشغب التي كان الوفد يخطط لمضاعفتها، لأن مثل هذه الوقيعة تخلق خصما قويًا للإخوان بمنع تزايد قوتهم، وذلك على الرغم من أن السير والترسمارت كان يحرض حسن رفعت ضد الإخوان رغم علمه أن الإخوان يساعدون الحكومة في التقليل من حوادث الشغب، فكأن الإنجليز قد وجدوا أنفسهم من فرط ارتباكهم يؤيدون الأمر ونقيضه في وقت واحد، بينما كان تخطيط رفعت أحكم منهم فهو يستفيد من روح الإصلاح عند الإخوان ليحقق وقيعة بينهم وبين الوفد دون أن يشعروا، وقد شعر الإنجليز بحكمة حسن رفعت وأشاروا إليها في البرقية.


تاسعًا: الإنجليز يرحبون باشتدادت الخصومة بين الوفد والإخوان: (الأعداد 50، 51 من جريدة المسلمون):

استمرت سياسة الإنجليز في تشجيع الحكومات المتعاقبة للوقيعة بين الوفد والإخوان، وقد اتهم أحد رجال الوفد إسماعيل صدقي صراحة أنه يستخدم الإخوان في محاربة الوفد، حيث قال إبراهيم فرج: إن صدقي ظن بدهائه أنه يستطيع بالإخوان محاربة الوفد، وكان من نتيجة هذا التصريح أن قامت اشتباكات في أنحاء كثيرة بين الوفد وبين الإخوان.

وقد اجتمع المرشد العام مع مصطفى النحاس باشا لبحث إمكانية التقارب بين الهيئتين ولكن السفير البريطاني السير رونالد كامبل كان وراء فشل هذه المحاولة وأعلن: «أن الرجلين بحثا إمكانية التقارب في اجتماع عاصف ولكنهما لم ينتهيا إلى اتفاق حاسم».

كما بعث السفير البريطاني إلى لندن برقية رقمها 1233 قال فيها:

«هناك صراع خطير بين الوفد والإخوان في بورسعيد.

قتل اثنان وأصيب كثيرون، وانتهز الوفد الفرصة فطالبت صحفه بحل الإخوان لأنها منظمة شبه عسكرية. وقتل الإخوان أحد الوفديين ولكن الوفد استعاد قوته.. والإخوان أضعف من الوفد».

ويكرر الإمام الشهيد محاولته لإفساد الخطة الإنجليزية فيعلن ما نصه:

«لا زلنا نجهل الدافع إلى خصومة الوفد والإخوان، ويقرر أنه ليس من داع لهذه الخصومة إلا التنافس الحزبي، ويزيدنا أسفًا وألما أن نحارب بأسلحة عجيبة: سلاح الكذب والافتراء بالإشاعة الكاذبة وسلاح التشويه بارتكاب الجرائم واستعداء الحكومة على حريات الإخوان والتحريش والشغب»، وتنجح محاولة الإمام الشهيد في تخفيف حدة الخلاف بين الوفد والإخوان فيجتمع بالأسكندرية الأستاذ أحمد السكري وكيل الإخوان بفؤاد سراج الدين سكرتير عام الوفد، وتنشر صحيفة الإخوان أن الحديث تناول وجوب أن تزول الخصومة بين الجماعة والوفد، وأن يحل محلها تفاهم وتعاون في هذا الظرف الدقيق أو أن تكون هدنة تحول اشتغال كل منهما بالآخر.

وترصد كل من السفارة الأمريكية والسفارة الإنجليزية هذا التقارب، مع تشويهه أو تمنى الفشل له بنسبته إلى الأغراض الشخصية.

فترى السفارة الأمريكية أن الجماعة هادنت الوفد لتحصل على معونته المالية، فتعوضها عن المساعدات التي توقف صدقي عن تقديمها، وتقول السفارة أن السكري له طموح سياسي وكذلك فؤاد سراج الدين ، وكل منهما أراد التحالف لحسابه، ولكن العداء بين الوفد والجماعة لم ينته، فالوفد لا يريد أن ينافسه أحد في النفوذ بين الجماهير، وقد تأثر هذا النفوذ نتيجة قوة الإخوان، ولذلك يريد فرصة لإعادة تنظيم صفوفه حتى يتخذ موقفًا استراتيجيا ليهدم الإخوان ويدمرهم.

ويريد الوفد أيضا أن يفسد دعاية الإخوان ضده، فقد أعلن المرشد العام من قبل أنه يعارض الوفد والشيوعية مما يعني تحالف الوفد والشيوعية ولذلك يسعى الوفد بتحالفه الجديد من الإخوان إلى هدم فكرة ارتباطه بالشيوعيين.

وقالت السفارة الأمريكية: «إن اتفاق الوفد والجماعة سيفشل بعد تحقيق هدفهما المشترك وعندما يجد كل منهما الوقت المناسب لذلك».

وقالت السفارة البريطانية: «علاقات الإخوان بالوفد طيبة إلى حد كبير، ولكن كل منهما يعمل مستقلا ولا يتفقان إلا على ضرورة أن يمتنع كل طرف عن التدخل في أنشطة الطرف الآخر».

وكان القائم بالأعمال البريطاني قد كشف اللعبة التي يلعبها إسماعيل صدقي للوقيعة بين الإخوان والوفد في خطابه إلى لندن حين سمح صدقي بالمظاهرات التي اشترك فيها الوفد والإخوان والحزب الوطني ومصر الفتاة والشيوعيون فقال القائم بالأعمال.

«هذا جزء من اللعبة الديماجوجية، لقد ألغى تدابير الحكومة السابقة بمنع اجتماعات الإخوان المسلمين ، وكلف حسن رفعت باشا وكيل وزارة الداخلية من جانب صدقي باشا بتنفيذ هذه السياسة».

أما المفوضية الأمريكية فقد كتبت إلى واشنطن تقول:

«يتزايد تنظيم الإخوان كل يوم كقوة سياسية، وبالذات منذ تولي صدقي باشا السلطة وقد رفع رئيس الوزراء الحظر الذي فرضه النقراشي باشا على اجتماعات الإخوان وهو يجامل الإخوان، ربما بدعم مالي بأمل فصم ارتباطهم بالوفد».


عاشرًا: السبب الرئيسي في حرص الإنجليز على الوقيعة بين الوفد والإخوان:

لقد أوضح اللورد كيلرن في تقاريره إلى لندن السبب الرئيسي في حرص الإنجليز على الوقيعة بين الوفد والإخوان، وهو تخوف الإنجليز من أن تقوم ثورة في مصر عقب الحرب العالمية الثانية تطالب بالجلاء والاستقلال على غرار ثورة 1919 التي قامت عقب الحرب العالمية الأولى بقيادة حزب الوفد. وإذا ما تحقق هذا الحدس فإن تعاون الإخوان مع الوفد يجعل مثل هذه الثورة خطيرة للغاية، فقد دوخ المصريون الإنجليز في ثورة 1919 وهم عزل من السلاح، فماذا يكون الموقف لو قامت ثورة مشابهة وتعاون فيها الوفد مع الإخوان الذين يتسلحون بأسلحة متطورة.

ويذكر اللورد كيلرن ذلك صراحة في تقاريره إلى لندن كما جاءت في العدد 49 من مجلة المسلمون حيث يقول:

«استمر تهريب الأسلحة على نطاق واسع والتي كان شراء معظمها من مخلفات الجيوش التي شاركت في معارك الصحراء الغربية خلال الحرب العالمية الثانية وبدت سلطات الأمن عاجزة عن القيام بأي شيء حيال هذا الأمر.

ولم يتوقف الأمر عند وجود تفتيش غير دقيق على شراء الأسلحة خلال هذه الحروب غير النظامية، بل كان في وسع سكان الأقاليم تحدي جهود السلطات لتنظيم حيازة الأسلحة النارية والإفلات من العقاب.

وزاد من صعوبة مهمة الحكومة في التعامل مع هذه المشكلة أن الأسلحة المحظورة كانت من أنواع متطورة للغاية بينما كانت قوات الأمن المصرية المسلحة في الغالب بأسلحة قديمة لا تصلح إطلاقًا لاستخدامها لغرض فرض احترام القانون على القرويين المسلحين تسليحًا جيدًا.

إن انتشار حيازة الأسلحة صار عاملاً جديدًا وخطيرًا على التأثير في العلاقات المصرية البريطانية، وفي حالة نشوب أية أعمال عنف معادية لبريطانيا على نطاق واسع سيصبح التعامل مع عناصر الشعب أكثر صعوبة عما كان عليه في عام 1919 منذ كانت معظم هذه العناصر غير مسلحة عام 1919م.

وتحت ظل هذا الرعب كان الإنجليز يقبلون من حكومات الأقلية تخفيف الضغط أحيانًا عن الإخوان المسلمين بقصد اجتذابهم وعرقلة تعاونهم مع الوفد، ولكنها لم تكن تسمح لهذه الحكومات بالتمادي في هذه السياسة إلا بالقدر الضئيل الذي يحقق غاية الفرقة بين الإخوان والوفد، فإذا ما تحقق هذا الغرض كلفوهم بالضغط على الإخوان، وفي هذه المعاني يكتب الوزير المفوض البريطاني جيمس بوكر ما يأتي:

«يجب أن نذكر أن الوفد لم يستطع عند افتتاح الجامعة في أكتوبر الماضي جذب الطلاق للتظاهر خارج الجامعة بسبب عدم تعاون الإخوان معه، فإنهم كانوا حينذاك يناصرون الحكومة.

ويبدو أن خروج الإخوان إلى الشارع جنبًا إلى جنب مع الوفد، إنما يشير إلى اعتقاد الإخوان بأن حكومة النقراشي تقضي أيامها الأخيرة.

ويشير ذلك أيضا إلى ضيق الجماعة بالحكومة التي بدأت أخيرًا في التضييق على أنشطة الإخوان. وبعد ذلك إشارة إلى التأثير المتزايد للجماعة، فعندما قررت أن تلقي بثقلها إلى جانب أعمال الشغب والاضطرابات كان لذلك أثره الفعال» والواضح أن تقرير اللورد كيلرن عن انتشار تسليح الإخوان المسلمين يفيد أن الحكومة أخفت عن الإنجليز تصريحها للإخوان بشراء السلاح، ولكن الأمر الواقع كان ظاهرًا لأجهزة المخابرات البريطانية الدقيقة، فظهر ذلك في تقاريرها، كما سيتضح فيما بعد.


حادي عشر: الأمريكان يرصدون خطورة الإخوان على الصهيونية: (العدد 54 من جريدة المسلمون):

كتبت السفارة الأمريكية إلى واشنطن تقول: «سيكون دور الإخوان المسلمين مهمًا في إثارة المسلمين في كل مكان ضد اليهود ومن يؤيدونهم إذا أصبح النضال لإنقاذ فلسطين دينيًا بجانب كونه سياسيًا».


ثاني عشر: الإنجليز يحرضون المسئولين في مصر ضد الإخوان المسلمين صراحة: (العدد 57 من جريدة المسلمون):

أبرق الوزير البريطاني تشايمان أندروز إلى لندن بنص ما قاله لحسن يوسف في تحذيراته من الإخوان وذلك في برقيته رقم 1679 عند وقوع حوادث انفجارات في القاهرة.

«هذه الحوادث هي النتيجة الطبيعية للسماح لمنظمات مثل الإخوان المسلمين بالخروج عن نطاق السيطرة، وعدم اتخاذ عمل سريع جاد يسمح به القانون ضد أولئك المدنيين في مؤامرات الاغتيال وقتل أناس مثل أمين عثمان باشا والقاضي أحمد الخازندار بك.

ومن المعروف للجميع أن الإخوان المسلمين والحاج أمين الحسيني مفتي القدس السابق يملكون مخازن كبيرة من المتفجرات والأسلحة لاستخدامها في فلسطين ظاهريًا، وسماح أية حكومة بمثل هذا الوضع يعتبر بمثابة دعوة لحدوث متاعب من هذا النوع.

وتستطيع الحكومة بالتأكيد أن تقوم بعمل فعال حتى الآن لتحطيم هذه المنظمات»، والمستفادة من هذه البرقية هو علم الإنجليز بتصريح الحكومة للإخوان والهيئة العربية بحيازة السلاح واعتبارها الخازندار بك واحدًا من رجالها مثل أمين عثمان تمامًا.

رد حسن يوسف بأنه يخشى أن يكون الإخوان المسلمون قد صاروا أقوى من أن يتم تحطيمهم بهذا الشكل، فسأله الوزير البريطاني عما يقترح عمله، ولكن حسن يوسف هز كتفيه يائسًا.

وهنا يعد القسم الشرقي في وزارة الخارجية البريطانية مذكرة تاريخها 7 ديسمبر سنة 1948 أي قبل صدور حل الإخوان المسلمين بيوم واحد تستحث فيه على الاستهانة بقيادة الشعب الذي يجري في مصر وتحض على القضاء عليهم بدعوى أنهم يشجعون غيرهم ممن يهددون السلام ويفتحون الطريق أمام التغلغل الشيوعي مستقبلا، حيث تقول المذكرة المؤرخة 7 ديسمبر سنة 1948 :

«لا شك أن الشعب في مصر يقوده طلبة الجامعة عمومًا، وصبيان المدارس والسوقة مستعدون للانضمام للشغب من أجل النهب.

ولا يجب أن ينظر إليهم بجدية كتعبير عن الرأي العام، ولكنهم يكشفون عن عجز الحكومة على الحفاظ على الأمن، فيشجعون غيرهم ممن يهددون السلاح ويفتحون الطريق أمام التغلغل الشيوعي مستقبلاً» ويلاحظ على هذه المذكرة التورية مبالغة في الحذر حيث وضعت عبارة قيادة الشعب الذي يجري في مصر ، بدلا من قيادة الإخوان المسلمين المعنية تمامًا بهذه العبارة.

وفي يوم 8 ديسمبر سنة 1948 وهو تاريخ صدور قرار حل الإخوان المسلمين أعدت وزارة الخارجية البريطانية مذكرة عن الموقف في مصر بصفة عامة قالت:

«كان واضحًا منذ وقت طويل مضى، أنه ما لم يتلق الزعماء المصريون والرعب الآخرون وخاصة الجامعة العربية صدمة بالغة الشدة، من نوع ما تخرجهم من إطارهم الفكري، المتبجح والمدعي فسوف تستمر الأمور في الشرق الأوسط في تدهور»، ويلاحظ أيضًا على هذه التورية إمعانًا في إخفاء اسم الإخوان المسلمين صراحة، وقد استبدلها بعبارة: «الزعماء المصريون» كما استبدلت الهيئة العربية العليا بعبارة: «الزعماء العرب الآخرون».

ومن ثم يكون المقصود بالصدمة بالغة الشدة هم الإخوان المسلمون والهيئة العربية العليا بقيادة الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين وجامعة الدول العربية المشرفة على تنظيم التطوع الشعبي للقتال في فلسطين . ذلك لأن دور المقاومة الشعبية في فلسطين ، وضد اليهود في مصر ، كان قد بلغ ذروته بإشراف من الجامعة العربية كما سبق أن أوضحنا في هذا الكتاب.

وفي نفس التاريخ يصدر قرار حل هيئة الإخوان المسلمين بتوقيع محمود فهمي النقراشي باشا، فمن إذن الذي حرض على قرار الحل؟ الإنجليز أم أي شيء آخر؟


ثالث عشر: الإنجليز يتنصلون من تحريضهم الحكومة ضد الإخوان بعد أن نفذه النقراشي خضوعًا لإرادتهم: (العدد 58 من جريدة المسلمون):

أعلن الإخوان المسلمون أن قرار حل جمعيتهم إنما صدر بتحريض سافر من الإنجليز وقدموا على ذلك دليلين:

1- طلبت السفارة البريطانية من النحاس باشا عام 1942 والحرب العالمية على أشدها والألمان على الأبواب حل الإخوان المسلمين وتعطيل نشاطهم فأبى أن يجيبها إلى ذلك واكتفى بإغلاق الشعب كلها مع بقاء المركز العام إلى حين (وهذا هو الفرق بين حكومات الأغلبية الحريصة على شعبها وبين حكومات الأقلية العميلة للمحتل).

2- أن سفراء بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا اجتمعوا يوم 20/ 11/ 1948 في معسكرات القوات البريطانية في فايد قرب الإسماعيلية وقرورا أن يتقدم السفير البريطاني باسمهم إلى السلطات المصرية بحل جماعة الإخوان المسلمين في أقرب وقت مستطاع.

وقد ضاق الإنجليز ذرعًا بنشر نصوص الرسائل المتبادلة في هذا الشأن في مجلة الدعوة الصادرة في 31 يناير سنة 1951، فزار تشايمان أندروز الوزير البريطاني المفوض إبراهيم عبد الهادي باشا في منزله وقال له: هذه الوثائق مزورة، وإني أطلب منك أن تعلن ذلك باعتبارك رئيس الوزارة التي قبض في عهدها على المتهمين في سيارة الجيب وغيرها.

وأضاف أندروز إذا وجدت حرجًا في النشر بالصحف أو الاتصال بالقضاء فإن السفارة البريطانية على استعداد لإعلان ذلك رسميًا، ولكن إبراهيم عبد الهادي اعتذر، فكلف الوزير المفوض المستشار القانوني للسفارة البريطانية المستر مورى جراهام بإرسال رسالة إلى وحيد رأفت مستشار الرأي لوزارة الخارجية المصرية يقول فيها:

«إن أمر حل الإخوان المسلمين لم يكن محل حديث بين السفارة والحكومة المصرية».

ويعلق الأستاذ محسن محمد على هذه الرسالة قائلاً:

وكان موري يكذب فإن مقابلات السفير البريطاني السير رونالد كامبل للوزراء يقطع بأن السفير ألح على ضرورة الحل».

وأقول إن اعتذار إبراهيم عبد الهادي لم يكن تحديا للإرادة البريطانية ولكنه كان تحرجًا من أن يبلغ خضوع إبراهيم عبد الهادي للإنجليز حد الدفاع عنهم صراحة بنفسه، كما توقع تشامبان أندروز بالضبط.


رابع عشر: الإنجليز يتابعون التحريض على تحطيم الإخوان بعد قرار الحل: (العدد 59 من جريدة المسلمون):

حاول الإنجليز العمل على أن يسهم الوفد في الوزارة مع إبراهيم عبد الهادي الذي خلف النقراشي باشا لتقويته على تحطيم الإخوان فقابل أندروز كريم ثابت باشا المستشار في محاولة جديدة حتى يساهم الوفد مع إبراهيم عبد الهادي في تحطيم الإخوان قال كريم ثابت: «عبد الهادي باشا أفضل رجل لوزارة الداخلية وقد ينجح في تحطيم الإخوان».

قال أندروز وهو يتمنى للباشا حظًا سعيدًا لست متأكدًا تمامًا من أنه سينجح وإذا فشل سيقع جانب كبير من اللوم على كاهل الحكم لأنه ترك عبد الهادي يواجه الإخوان دون أن يكون الوفد معه، ولو كان قد اشترك الوفد لوفر فرصة أفضل كثيرًا للنجاح.

وأضاف أندروز: «المهمة الرئيسية للحكومة هي تحطيم الإخوان» وهكذا يرسم الإنجليز للحكومات العميلة واجبها بكل صراحة وهي تطيع بكل خسة.


خامس عشر: الإنجليز والأمريكان وراء فشل محاولات المرشد لتخفيف الحملة ضد الإخوان بعد قرار الحل: (العدد 61 من جريدة المسلمون):

طلب مصطفى مرعي من الإمام الشهيد إصدار بيان يتهم الإخوان الذين قاوموا حكومة النقراشي وإبراهيم عبد الهادي بالإجرام ويتبرأ منهم، ويثبت أنهم يعملون على غير إرادته فأعد الإمام الشهيد البيان رغبة منه في تخفيف حدة الهجوم على الإخوان بينما رغبت الحكومة في استخدام البيان للتأثير على الإخوان في السجود للإدلاء باعترافات تدل على إخوانهم خارج السجون، ليتمكنوا من القضاء نهائيًا على الإخوان.

ولم يكن هناك مانع شرعي يمنع الإمام الشهيد من إصدار مثل هذا البيان ليبطل مفعول سلاح كافر موجه ضد الإخوان المسلمين ، فالحرب خدعة كما قال رسول الله (ص).

وإذا كانت الحكومة سيئة القصد في طلب البيان فإن حسبه الله، فإصدار البيان إن لم يخفف الضغط على الإخوان فلن يزده، لأن الضغط واقع فعلا في حالته القصوى التي لا تقبل الزيادة، وقد جاء البيان بالنص الآتي:

«وقعت أحداث نسبت إلى بعض من دخلوا هذه الجماعة دون أن يتشربوا روحها وتلا هذا الحادث المروع اغتيال رئيس الحكومة محمود فهمي النقراشي باشا الذي أسفت البلاد لوفاته، وخسرت بفقده علمًا من أعلام نهضتها، وقائدًا من قادة حركتها، ومثلا طيبًا للنزاهة والوطنية والعفة من أفضل أبنائها، ولسنا أقل من غيرنا آسفًا من أجله وتقديرًا لجهاده وخلقه.

ولما كانت طبيعة دعوة الإسلام تتنافى مع العنف، بل تنكره، وتمقت الجريمة مهما يكن نوعها، وتسخط على مرتكبيها، فنحن نبرأ إلى الله من الجرائم ومرتكبيها.

ولما كانت بلادنا تجتاز الآن مرحلة من أدق مراحل حياتها، مما يوجب أن يتوفر لها كامل الهدوء والطمأنينة والاستقرار، وكان الحاكم قد وجه الحكومة القائمة، وفيها هذه الخلاصة من رجالات مصر هذه الوجهة الصالحة، وجهة العمل على جمع كلمة الأمة وضم صفوفها، وتوجيه جهودها وكفاياتها مجتمعة لا موزعة إلى ما فيه خيرها وإصلاح أمرها في الداخل والخارج.

وقد أخذت الحكومة من أول لحظة على تحقيق هذا التوجيه في إخلاص ودأب وصدق، وكل ذلك يفرض علينا أن نبذل كل جهد ونستنفد كل وسع في أن نعين الحكومة في مهمتها، ونوفر لها كل وقت ومجهود للقيام بواجبها، والنهوض بعبئها الثقيل، ولا يتسنى لها ذلك بحق، إلا إذا وثقت تمامًا من استتباب الأمن واستقرار النظام، وهو واجب كل مواطن في الظروف العادية فكيف بهذه الظروف الدقيقة الحاسمة التي لا يستفيد فيها من بلبة الخواطر وتصادم القوى، وتشعب الجهود إلا خصوم الوطن وأعداء نهضته.

لهذا أناشد أخواني، لله وللمصلحة العامة أن يكون كل منهم عونا على تحقيق هذا المعنى وأن ينصرفوا إلى أعمالهم، ويبتعدوا عن كل عمل يتعارض مع استقرار الأمن وشمول الطمأنينة، حتى يؤدوا بذلك حق الله وحق الوطن عليهم» انتهى.

ويحرك الإنجليز استمرار الوقيعة فور إصدار هذا البيان بالتشكيك في نوايا المرشد العام والحض على القضاء على الإخوان.

فيبرق تشايمان أندروز الوزير البريطاني المفوض إلى لندن قائلا:

تبدو لهجة التصالح للبيان الذي نشر على نطاق واسع في الصحافة المحلية واضحة في كل من الإشارة إلى النقراشي باشا الراحل، وفي البحث على القيام بكل ما هو ممكن لمساعدة الحكومة بالمحافظة على النظام والأمن.

وحسن البنا انتهازي وربما يكون غرضه تخدير السلطات بشعور من الأمن المزيف، على أمل أن تتراخى تدريجيًا جهودها للقضاء على الإخوان»، وهذه هي أول مرة يفقد اللسان الإنجليزي قدرته على ضبط النفس فيصف الإمام الشهيد أنه انتهازي مبالغة منه في نسف شبهة التصالح التي ظهرت له من البيان. كما يحرض القائم بالأعمال الأمريكي الحكومة بعدم تحقيق رغبة الإمام الشهيد فيقول جيفرسون باترسون القائم بالأعمال الأمريكي ما نصه:

«حظى البيان باهتمام قليل على المستوى المحلي.. وقد نشأ عن رغبة حسن البنا لاسترداد موقعه الذي اهتز أمام الرأي العام ورغبته الواضحة في إعادة الجماعة، ولكن نظرًا لتوتر الأمن فليس العلاج أن تحقق الحكومة رغبته».

ويرد إبراهيم عبد الهادي قائلاً لتشامبنان أندروز: «الانطباع الذي أخذته من بيان حسن البنا أنه بدأ يتراجع أما تصرف الحكومة، ثم يطمئن اندروز قائلا له: إني واثق من الحصول على أفضل ما لدى الإخوان، ولكني مستعد للقضاء عليهم» هذا هو بيت القصيد الذي يهدف إليه كل من الإنجليز والأمريكان.


سادس عشر: الأمريكان يرحبون بمقتل الإمام الشهيد والأوفياء يتحسرون على شعب مصر : (العدد الرابع والستون من جريدة المسلمون):

كتب جيفرسون باترسون الوزير الأمريكي المفوض في القاهرة يقول: «يوجد ترحيب في أوساط الرأي العام بزوال الشيخ البنا من المسرح وإن كانت هناك خشية من أن يؤدي مقتله إلى عودة الأنشطة الإرهابية من جديد لأن اختفاء حسن البنا بكل ما كان يتمتع به من سلطة مطلقة على الإخوان المسلمين ومن طموح غير محدود يعني زوال شخصية اختلف الناس عليها حيث يسهم ذلك في استتباب الأمن من جديد بعد أن تتبدد آثار صدمة اغتيال البنا من نفوس أتباعه».

أما الضابط الكندي هاردي فقد قال: «إن وفاة البنا كان أكبر ضربة للحركة، بل هي ضربة صاعقة للإخوان بالمعنى الحرفي للكلمة، ولم يكن هناك شخص يملأ -في الحال- مكان البنا وكان هذا هو هدف الجريمة».


الأوفياء يتحسرون على شعب مصر : (العدد الثاني والستون من جريدة المسلمون)

أما الأمير المغربي عبد الكريم الخطابي عندما سمع نبأ الجريمة قال:

«ويح مصر وإخواني أهلمصر - سفكوا دم ولي من أولياء الله».

وأقول هذا هو الفرق بين قلوب الأعداء وقلوب الأحباب وحسبنا الله ونعم الوكيل.


سابع عشر: الأمريكان مستعدون لاحتضان انقلاب في مصر ليوجهوه وفقًا لمصالحهم بعد أن تخلصوا من الإخوان المسلمين أو توجيهه ليخلصهم من الإخوان المسلمين إذا عادوا للنشاط: (العدد الخامس والستون من جريدة المسلمون):

بعث وزير الخارجية الأمريكي إلى جيفرسون باترسون الوزير المفوض في القاهرة يقول:

«اطلعت على تحذير وارد من مصدر موثوق فيه بأن انقلاب مشابهًا لذلك الذي وقع في سوريا يجري الإعداد له في مصر -تابع الموقف عن قرب ووافنا بتقرير عنه».


ثامن عشر: الإنجليز يرصدون عودة الإخوان من جديد بعد إلغاء حكومة الوفد لمعاهدة عام 1936 تمهيدًا لتكرار الوقيعة بينهم: (العدد 67 من جريدة المسلمون).

توجه السفير البريطاني الجديد السير رالف ستيفنسون إلى فؤاد سراج الدين وزير الداخلية يسأله عن الجماعة، ثم بعث السفير إلى لندن في 23 أبريل سنة 1951 يقول: «في حديث مع وزير الداخلية أمس أثرت مسألة الإخوان المسلمين ، قال سراج الدين أنه لا يشعر بالقلق على الإطلاق إزاء مستقبل نشاط هذه الجماعة، ولم ينكر أنها كانت خطرة في الماضي ولكنه يرى أن ذلك يرجع إلى تشجيع القصر لها كسلاح ضد الوفد، وإلى شخصية الشيخ البنا ، ولا يوجد الآن زعماء يتمتعون بسمات القيادة والمبادرة».

لكن عودة الإخوان لم تتحقق رغم صدور حكم قضائي بتأييد الجماعة وبطلان أمر بيع المركز العام وبإعادة ممتلكات الجماعة وأرصدتها المالية بعد إلغاء حكومة الوفد لمعاهدة عام 1936 مع بريطانيا وضياع كل نفوذ للسفارة البريطانية على قرارات الحكومة، فصدر القرار بالإفراج عن ممتلكات الإخوان المصادرة بما في ذلك الصحف والمنشآت جميعها في 17 ديسمبر سنة 1951، وتسلم قيادتها فضيلة الأستاذ حسن الهضيبي مكتملة القوة والقدرة والنشاط، وكان نصر الله للمؤمنين عظيمًا.


خاتمة لازمة لهذا الفصل

لا بد لي قبل أن أنتقل إلى خاتمة هذا الجزء من الكتاب أن أكرر تحذيري للقارئ من كثير من النصوص التي وردت في هذه الوثائق بأقلام محرريها، والتي قصد منها إلقاء الظلال والشبهات على طهارة جماعة الإخوان المسلمين وبراءتها من كل غرض أو هوى وهي تسير حثيثًا لتحقيق رسالتها الخالدة التي تتلخص في تطبيق رسالة الله إلى البشرية جمعاء لتسعد وتهنأ ويعيش الناس إخوانًا تظلهم الآية الكريمة: ﴿وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا﴾ [الجن: 16] وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 66].

وإما قصدت من نقل هذه الوثائق بنصها ودون التعليق عليها إلا بالقدر الضروري، أن أبين للقارئ مدى حرص الأعداء على مراقبة كل نشاط خير لصالح البلد الذي يطعمون في خيراته منذ ولادته حتى يقضوا عليه قبل أن يشتد عوده فيحول بينهم وبين تحقيق ما يطمعون.

﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].

تم بحمد الله في يوم الخميس 24/ 3/ 1409هـ

الموافق: 3/11/ 1988 م



المراجع

1- رسالة الجهاد للإمام الشهيد الأستاذ حسن البنا .

2- رسالة المأثورات للإمام الشهيد الأستاذ حسن البنا .

3- حيثيات الحكم في قضية السيارة الجيب (قضية النيابة العمومية رقم 3394 الوايلي سنة 1950 ورقم 227 سنة 1950 كلي سيارة الجيب المتهم فيها عبد الرحمن السندي وآخرين).

4- الصامتون يتكلمون سامي جوهر.

5- أعداد مجلة المسلمون المحددة داخل الموضوع.

6- قضايا الإخوان- قضية السيارة الجيب- أقوال كبار الشهود وحوادث التعذيب (مطبوع دار الفكر الإسلامي مطبعا أحمد مخيمر بشارع فاروق).

7- مصر وقضايا الاغتيالات السياسية د. محمود متولي .

8- صفحات من التاريخ (حصاد العمر) صلاح شادي.

9- الإخوان المسلمون بين إرهاب فاروق وعبد الناصر- علي صديق.

10- المقاومة السرية في قناة السويس- كامل الشريف .

11- في قافلة الإخوان المسلمين - عباس السيسي .

12- حسن البنا (مواقف في الدعوة والتربية)- عباس السيسي .

13- يوميات يحيى عبد الحليم (تحت الطبع).

14- عسلوج- يحيى عبد الحليم (من مطبوعات دار الأنصار- سلسلة الله أكبر- بطولات إسلامية معاصرة).

15- التبة 86 محمد علي قطب (من مطبوعات دار الأنصار - سلسلة الله أكبر- بطولات إسلامية معاصرة).

16- الإخوان المسلمون في حرب فلسطين - كامل الشريف .

17- القتال في الإسلام - أحمد نار .

18- الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (رؤية من الداخل) محمود عبد الحليم (ثلاثة أجزاء).

19- النقط فوق الحروف- الإخوان المسلمون والنظام الخاص- أحمد عادل كمال.


للمزيد عن النظام الخاص

روابط داخلية

كتب متعلقة

ملفات وأبحاث متعلقة

مقالات متعلقة

تابع مقالات متعلقة

متعلقات أخري

وصلات فيديو