شاهد على جهاد الإخوان المسلمين في حرب فلسطين 1948

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
شاهد على جهاد الإخوان المسلمين في حرب فلسطين 1948


علي مصطفى نعمان

إهداء

- إلى الذي أيقظ الأمة، وأزال عن كاهلها غبار الماضي الدفين ..

- إلى الذي وهب حياته لله ...

- إلى الذي زرع شجرة الجهاد ضد البغي والطغيان، فدمر ملكهم وزلزل بنيانهم، وأقلق أهل الكفر والبهتان ..

- إلى الذي دعا لقيام دولة المسلمين ..

- إلى الذي أرسل المتطوعين إلى فلسطين.

- إلى الذي روى بدمائه شجرة الإسلام ..

إلى الشهيد: الإمام حسن البنا ..

- .. وإلى أبي .. وأمي .. وزوجتي التي صبرت على البلاء والحرمان .. إلى أبنائي.

- .. إلى ابن شهيد فلسطين .. ابن فلسطين، الأخ خليل شعث ..

.. أهدي جميعا كتابي هذا ..

المؤلف

تقديم بقلم فهمي هويدي

الذين شاركوا في صنع التاريخ هم أولى الناس بالحديث عنه، ليس فقط لأنهم شهوده، ولكن أيضا لأنهم كانوا أسبق الجميع إلى دفع ثمن ما جرى، فهم أحد اثنين: شاهد أو شهيد، ورغم كم المراجع والمصنفات التي تناولت حقب التاريخ المتعاقبة للأمة الإسلامية إلا أن الكثير مما كتب يحتاج إلى مراجعة وتنقية وتحقيق، منذ قصة التحكيم بين الإمام علي ومعاوية بن أبي سفيان، وحتى الدولة العثمانية التي طويت صفحتها في الربع الأول من القرن العشرين، ذلك أن بيننا الآن من يشكك في صحة قصة أبي موسى الأشعري الذي كان ممثلا للإمام علي وعمرو بن العاص الذي مثل معاوية، وما قيل من أنها اتفاق على خلع الاثنين، وأعلن الأشعري ذلك، بينما خدعه ابن العاص وأعلن تثبيته معاوية.

وشأن الدولة العثمانية في فكرنا المعاصر يثير حيرة الجميع، فبينما يقدمها البعض بحسبانها صفحة سوداء في تاريخ الإسلام والمسلمين، يراها آخرون مزيجا من الإنجازات العظيمة والأخطاء الجسيمة، ويراها آخرون علامة للإسلام لا بد أن تعود.

أما ما بين هذه الصفحة وتلك، فالحقيقة فيه ضائعة، ما كتبه العباسيون عن الأمويين يخلو من الإنصاف، وأكثره جانب الحق، وما كتبه الشيعة عن أهل السنة – والعكس – لم يخل من هوى، يجرح قيمته، وإذا صح ما حققه أحد الباحثين مؤخرا من أن هناك 150 صحابيا اختلفت أسماؤهم، ولا أصل في التاريخ الإسلامي لهم – إن صح ذلك – فإننا نصبح مدعوين لإعادة قراءة صفحات كثيرة، وروايات عديدة بعين مختلفة، ولا نريد أن نفصل في أدوار الوضع، الذي تمثل في الإسرائيليات بالدرجة الأولى، في صياغة العديد من الروايات والوقائع، ودسها على العقل المسلم.

أخيرا فإن كتابات أكثر المستشرقين وتلفيقاتهم، التي شوهت التاريخ الإسلامي، وصارت فيما بعد زادا للعديد من مثقفينا الذين درسوا في أوروبا والولايات المتحدة، هذه الكتابات تحتاج إلى تحقيق وتدقيق.

ما أريد أن أخلص إليه في هذا العرض السريع، أن لدينا أزمة في كتابة التاريخ البعيد والقريب، يحاول بعض باحثينا المخلصين، بدأب، أن يعالجوا مختلف مظاهرها، والنموذج الواضح لذلك بين أيدينا هو ما كتبه الدكتور عبد العزيز الشناوي عن الدولة العثمانية في ثلاثة أجزاء، وما كتبه الدكتور سعيد عاشور عن الحروب الصليبية في سفرين كبيرين.

ولئن عني السلف بالنصوص الشرعية والأحاديث النبوية بالدرجة الأولى، فبذلوا جهودا جبارة لتحقيقها، وضبط قواعد القراءة الصحيحة لها، في السند والمتن، فإننا لا نستطيع أن نطالبهم بأكثر من ذلك، وتظل مسئولية الخلف أن يؤدوا الدور ذاته في شأن تاريخ المسلمين بمراحله المختلفة، وبمقدورهم بطبيعة الحال أن يستثمروا بعضا من جهد السلف في حسن قراءة التاريخ، خصوصا ما خلفوه لنا من كتب الطبقات، وعلم الجرح والتعديل، وغير ذلك من مصادر تحقيق قيمة النصوص الشرعية أو الروايات التاريخية، في المراحل المبكرة في التاريخ الإسلامي.

تتراءى تلك الخواطر في ذهن قارئ هذا الكتاب، عن حرب فلسطين، خصوصا عندما يدرك القارئ أن مؤلفه ليس مؤرخا ولا باحثا، ولكنه واحد من الذين لبوا نداء الجهاد في سبيل الله، فحمل السلاح ولحق بالمقاتلين طامعا في أن يصبح شهيدا، ولكن الأقدار شاءت له أن يبقى شاهدا، وبالتالي فنحن لسنا إزاء بحث في تاريخ حرب فلسطين، ولكننا بصدد وثيقة وشهادة تاريخية، تهم القارئ العادي، بل وتهم الباحث والمحقق أيضا: هي تهم القارئ العادي، لأنها إطلالة عين على واقع عاشته الأمة في مرحلة من مراحلها التاريخية مليئة بالنبض الحي والرصد الدقيق.

وهي تهم الباحث المحقق لأنها تضيف إلى مصادره رؤية جديدة هي – مع غيرها من الشهادات – مادته التي يستند إليها في كتابة التاريخ، ولئن كانت حرب فلسطين قد قدمت كتابات وشهادات أخرى لقيت قبولا عاما وترحيبا كبيرا من جانب قطاعات عريضة من المثقفين المعنيين بتلك المرحلة، وفي المقدمة من تلك الكتابات مؤلف الأستاذ كامل الشريف الذي طبع ثلاث طبعات إلى الآن، إلا أننا نحسب أن تلك التجربة الغنية لا تزال تحتمل العديد من الكتابات، والشهادات الأخرى.

في هذا الإطار يمثل كتاب الأخ علي نعمان إضافة جادة، ومرجوة، تستجلي لنا بعضا من صفحات نضال هذه الأمة، التي يعتز بها كل عربي، وكل مسلم، ولعل الرسالة الأساسية للكتاب لا تكتفي بمجرد التذكير بأنه كان لدينا في زمن ما جهاد ومجاهدون وأبطال، لكنه ينبهنا أيضا إلى أنه لا سبيل إلى استعادة فلسطين إلا بالمضي على ذات الطريق الذي به كانت البداية .. طريق الجهاد والبطولة والشهادة.

وعليه، ما أتمناه أن يتلقى قراء هذا الكتاب رسالته على النحو الذي فهمته.

فهمي هويدي

مقدمة

حاولت منذ سنين قليلة أن أكتب هذه المذكرات، لتحكي قصتي، منذ طفولتي إلى أن دخلت جماعة الإخوان المسلمين، حيث كنت أحد أفراد النظام الخاص.

وقد كتبت فعلا مقدمتها، ولم يكن يخطر ببالي أن مذكراتي هذه هي في الحقيقة لزعيم خط لهذه الأمة جزءا من تاريخها الوطني، ولعالم أفنى زهرة حياته في العلم وأحاط بني وطنه بسياج المعرفة والنور، ولمناضل أفنى شبابه من أجل بني قومه ورفعة وطنهم.

إنني والحمد لله قد يسر لي أن أرى الحياة السياسية في مصر على حقيقتها، وقت وجود الاستعمار، كما رأيتها في الخارج، في أرض فلسطين، حيث شاركت في الحرب وعاينت ميلاد الدولة المشئومة وهذا من بين ما دفعني لكتابة هذه الصفحات.

والله المستعان

علي مصطفى نعمان

قصة حياتي

كانت خواطري تلح علي دائما أن أكتب مذكراتي حتى قبل دخولي جماعة الإخوان المسلمين أي قبل أن يكون لي شرف الانتماء إلى هذه الجماعة وأن أصبح أحد جنودها.

والحقيقة لقد شجعني على هذا الأمر الإخوان: الدكتور عبد الله والدكتور صلاح الدين عبد المتعال، حيث طلبا مني أن أكتب شيئا عن حياتي الأولى قبل دخولي الإخوان المسلمين، فجزاهما الله خيرا الجزاء.

إن حياتي تنقسم إلى ثلاث مراحل .. الأولى قبل حرب فلسطين والثانية أثناء حرب فلسطين، والثالثة بعد انتهاء جولة فلسطين.

جذور العائلة:

إنني أنحدر من أبوين متوسطي الحال من قرية مشطا – محافظة سوهاج، وكان جدي لأبي هو العمدة الحاكم بأمره، كان عنيدا متعاليا، يتعامل مع البنوك، ونظرا لتشعب معارفه وما جبل عليه أهل هذا الزمان من الفخر، خاصة لدى السلطان، فقد استدان من البنوك وفقد معظم أملاكه، ولم يصل لأبي من الأرض إلا القليل مما كان يملكه جدي وهو حوالي ثلاثمائة وستين فدانا، وما زال الدوار وملحقاته قائما للآن، ولم تخرج العمودية من بيت أبي إلا مرتين، لعائلة أمي، وقد رأيت جانبا من حياتهم ولمستها، إذ كانت عائلة أبي شديدة السطوة عنيفة الطبع يخشاها كل أهل البلد، عكس عائلة أمي التي كانت تميل إلى السلام والطيبة وهي أكثر تواضعا، من عائلة أبي ولها احترامها في غير غرور أو عدوان، انتقل أبي نتيجة هذه الظروف إلى العياط بمحافظة الجيزة وهي مسقط رأسي .. وفيها رأيت الحياة.

المولد والنشأة:

ولدت في العياط بمحافظة الجيزة في 25 من يناير عام 1928، ألحقني والدي بالكتاب فحفظت الكثير من القرآن الكريم وتعلمت القراءة والكتابة شأني في ذلك شأن كل أولاد الريف، وتلقيت بلا شك الدروس الأولى للحياة في هذا الكتاب، إذ كان الآباء يوكلون إلى (سيدنا) كل شيء من التربية، السلوك، التعليم.

المدرسة الأولية:

ثم ألحقني والدي بالمدرسة الأولية حيث أتممت تعليمي بها وأخذت الشهادة الأولية التي كانت تؤهلني في ذلك الوقت لدخول مدرسة المعلمين أو الأزهر الشريف، ومع أنني كنت أتطلع فعلا إلى التعليم الأزهري نظرا لما رأيته في ذلك الوقت من توقير للمشايخ والعلماء وقوة شخصيتهم إلا أنني نفرت تماما من الانضمام للأزهر وذلك بسبب الزي الرسمي، حيث كنت أرى أن الصغار لا يحافظون على كرامة هذا الزي.

العمل بالتجارة:

وشاء خالي أن يحول بيني وبين إتمام تعليمي، لا عن قصد فيما أعتقد، ولكن لأن التعليم لم يكن في ذلك الوقت محل اهتمام الآباء والأهل وبخاصة (الصعايدة)، وقد أخبرني خالي أن له قريبين يعملان بالمحاماة بالأسكندرية وهما الأستاذ علي حمادة والأستاذ مختار عبد العليم، وقال لي إن ما يكسبه هؤلاء في شهر أحصل عليه أنا في يوم واحد وقال لي: يجب أن تنضم إلى قافلة التجار مثل أهلك الذين كانوا جميعا تجارا، وقد أدهشني أن خالي هذا حرص على تعليم أولاده جميعا بد ذلك ومنهم الآن الدكتور والمهندس واللواء والموظف، وكان أبي – رحمة الله عليه – تلازمه (عقدة) في حياته، فهو ابن العمدة المدلل الذي كان يملك 360 فدانا فإذا به يصير معدما، وكان همه الأول ألا يقل مستواه المعيشي عن هؤلاء ومنهم خالي الذي كان يعمل معه.

التحقت بالعمل في محل بقالة يملكه خالي وتدرجت في حياتي بمركز العياط – شأني في ذلك شأن بقية الصبية في الريف – غير أنني لم أقنع بهذا العمل فتمردت عليه وامتنعت عنه، وعندئذ أخذني والدي إلى جدي الشيخ منصور مهران وهو أستاذ بالأزهر الشريف حينذاك وطلب منه عملا لي، فعرض على أبي أن أعمل بالطيران مع والده الضابط الطيار محمد منصور (استشهد في حرب فلسطين عام 1948) ولكن والدي رفض ذلك وقال إنني فقير وأريد زيادة في الدخل، وقد ألححت على أبي لكي يقبل هذا العمل فأبى !!

شركة كارفوري:

ثم عرض علي الشيخ أن أعمل موظفا صغيرا في شركة كارفوري وكان رئيسها اللواء علي موسى أبو شنيف زوج ابنة الشيخ وهو اللواء المغضوب عليه من الملك فاروق حينذاك وكان رئيسا لسلاح الحدود، وفعلا عملت على كره مني لمدة ثلاثة شهور في تلك الشركة ثم رقيت إلى مفتش بحكم القرابة ولم يتجاوز سني في ذاك الوقت ستة عشر عاما حيث كان جسمي وهيئتي يعطيانني سنا أكبر من ذلك.

وفي أثناء ذلك كنت أذهب إلى العمل عن طريق الجامعة، فإذا رأيت مظاهرة تتجمع انتظرت خارج السور أنظر إلى هؤلاء الطلاب، وكنت أرى أن الشعب يجب أن يكون صاحب هذه المظاهرات لأنه هو الذي يقع عليه الظلم والتخلف، كنت أحدث نفسي بذلك، وأذكر أنني اشتركت في المظاهرة بكوبري عباس التي سقط فيها ضحايا كثيرون يوم 9 فبراير 1946، غير أنني في ذلك اليوم لم أكمل المسيرة معهم حيث كان يتملكني شعور دائم بعدم جدوى تلك المظاهرات رغم إعجابي بها وحبي الشديد لمن يقومون بها.

بداية معرفتي بالإخوان:

في اليوم التالي لمظاهرة كوبري عباس عرفت النتيجة فحزنت حزنا شديدا على هؤلاء الطلبة الذين فتح عليهم البوليس الكوبري فسقطوا غرقى تحت ضغط البوليس وإيذائه، وقد أثرت هذه الحادثة في تأثيرا هائلا، فقد مكثت أسبوعا حزينا مضطرب المشاعر لا أذهب إلى عملي، وعندئذ ذهابي للعمل بالجيزة وقعت عيناي على شاب أكبر مني سنا، كان جالسا في الاستراحة، فاستراحت نفسي له للوهلة الأولى، كانت نظراته لي كلها مودة وحب، جلست بجواره، سألني وسألته، ثم حدثني عن جماعة الإخوان المسلمين .. ذاك هو المرحوم الدكتور أحمد البساطي من إخوان الفيوم والذي لم أره بعد ذلك إلا بعد أن عدت من فلسطين ومعتقل الطور، ثم قابلته في منزله بالفيوم فيما بعد وهو أحد المتهمين في قضية الأوكار المعروفة في حكم الملك فاروق.

وما زلت أذكر عندما كنت جالسا في منطقة (بين السرايات) التي تقع أمام جامعة القاهرة فلمحني شاب – هو المرحوم عيد طعيمة – وتحدث معي وسألته عن الشبان المسلمين فدلني عليهم فقلت له ليس هؤلاء الذين أعنيهم، إنني أسألك عن جوالة جماعة أخرى .. قال: الإخوان المسلمين؟ قلت نعم، فاصطحبني إلى شعبة الإخوان المسلمين في (بين السرايات)، وطلبت اشتراكي في الشعبة، كان ذلك في عام 1946 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان سني وقتها سبعة عشرة عاما تقريبا.

الالتحاق بأنظمة الجماعة:

ألحقت بنظام الأسر فتلقيت ما تيسر من القرآن والأحاديث، ثم التحقت بالجوالة بعد ستة شهور من انضمامي للإخوان، واشتركت في كافة النشاطات، فكنت عضوا في قسم الأسر بالشعبة ورئيسا لقسم العمال بالسيدة زينب، وكذلك بقسم الشبيبة بمنشية البكري، فضلا عن انتظامي في النظام الخاص وما يتبع ذلك من مهام كثيرة.

.. وقد استمر نشاطي في الإخوان بين أنظمتهم المختلفة .. نظام الأسر، قسم العمال، الكتائب، الرحلات، المعسكرات، قسم الطلبة .. كل ذلك منذ انضمامي إلى الجماعة وبعد عودتي من فلسطين.

المظاهرات الوطنية:

والواقع أن أكثر هذه الأقسام عملت به كان قسم الأسر والمعسكرات، وإن كان قسم الطلبة أكثر هذه الأقسام نشاطا، منه تلقيت كل ثقافتي سواء في الدين أو العلم أو الثقافة العامة أو الحركة، وكما ذكرت فقد اشتركت في كافة المظاهرات التي قامت في تلك الفترة بخصوص القضية المصرية، وكان منها مظاهرة تأييد النقراشي في مجلس الأمن حيث ذهب الدكتور مصطفى مؤمن في 26/ 7/ 1947 مبعوثا عن الإخوان المسلمين وقام بمظاهرة كبرى أمام مجلس الأمن وتسلق الحاجز داخل المجلس وأسمع المجتمعين احتجاج مصر على الاحتلال الإنجليزي.

وفي هذه الفترة كانت المظاهرات لا تكف عن المطالبة بإجلاء الإنجليز عن وادي النيل، ولما حاول المرحوم صدقي باشا أن يعقد معاهدة مع الإنجليز قام الإخوان بمظاهرة كبرى سميت بيوم الحريق تم فيها إحراق الكتب الإنجليزية في جميع أنحاء الكنانة، ثم أعقبتها مظاهرة كبرى قادها الإمام الشهيد حسن البنا بنفسه وجرح فيها وكذلك قتل فيها سليم زكي محافظ العاصمة، وسقطت معاهدة صدقي بيفن، واستمر نشاطي كأحد أعضاء الإخوان المنتظمين .. إلى أن استدعيت للعمل بجريدة الإخوان المسلمين.

نشاطي في هذه الفترة:

كنت أقوم مع الأخ أحمد حسنين بتجميع بعض المعدات استعدادا لحرب فلسطين، وكذلك مصاحبة المرشد العام كسائق في بعض زياراته لمناطق وشعب وحفلات الإخوان خارج القاهرة حيث كان له سائق آخر، ثم رشحت لعمل آخر وهو الذهاب إلى معسكر الحرائق الخاص بالإنجليز بالتل الكبير بصحبة المرحوم أمين إسماعيل والأستاذ محمود عساف حيث قمنا بتصوير بعض أجزاء المعسكر والتحدث مع عمال القناة ثم طلب مني أن ألتحق بوظيفة سائق بهذا المعسكر لإمداد الإخوان بمعلومات عن أماكن تجمع الجنود والحراسة وأماكن الذخيرة وحجم العمالة اليومية للعمال وتوزيع مساكن الجنود بالمعسكر.

سائق بجريدة الإخوان:

ظللت أقوم بهذه المهمة – مهمة رصد معسكرات الجيش الإنجليزي – إلى أن انتشر مرض الكوليرا خلال عام 1947، كان وقوع هذا المرض رهيبا، فقد كان يحصد الأرواح حصدا في القرى المحيطة بنا وعلى رأسها قرية (القرين) بمحافظة الشرقية، فهربت من المعسكر وعدت إلى القاهرة لاستئناف عملي في قيادة السيارة بجريدة الإخوان، كنت في هذه الفترة شديد الصحبة لبعض إخواننا الذين أثروا في تأثيرا حقيقيا، ولا أكون مبالغا إن قلت إنهم حفروا في نفسي حبا للإسلام وكل ما يتعلق بأمر هذا الدين، ووضعوا قلبي ومشاعري على أول هذا الطريق، أذكر من هؤلاء الإخوة: الأستاذ محمود دعبس، الأستاذ فتحي السمان، الأستاذ سعيد رمضان والشيخ محمود يونس.

وفي هذه الفترة أيضا كنت حريصا على القرب من المرشد العام الإمام حسن البنا المربي الأول، وقد وجهوني جميعا لقراءة بعض الكتب مثل إحياء علوم الدين، قصص القرآن، السيرة النبوية لابن هشام، حياة محمد للدكتور هيكل وكثير من الكتب الإسلامية مثل: تفسير ابن كثير والبخاري وإمتاع الأسماع وأسد الغابة وكتب الحديث .. وغيرها من كتب تثقيفية مثل الثورة البلشفية الروسية، الثورة الصينية، حرب التتار، الحروب الصليبية، الثورة الفرنسية، الحرب العالمية الثانية خاصة معركة روميل عبر الصحراء والانقلاب الشامل للدول الإفرنجية في القرن الرابع عشر وكتب أخرى للأديب الروسي تولستوي ومدام كوري، وقد أكببت على العلم أنهل منه على قدر طاقتي وما يوفقني إليه ربي.

.. وهكذا انتظمت في نشاطي في جماعة الإخوان حيث كانت تتميز هذه الفترة بيقظة الوعي الوطني لإجلاء الإنجليز عن مصر ومحاربة الصهيونية في فلسطين.

إعلان قرار تقسيم فلسطين: قرار رقم 181 لعام 1947م

أعلن قرار التقسيم في 29 من نوفمبر عام 1947 وجاء إعلانه مصحوبا بدوي هائل في العالم العربي والإسلامي، لم يستثمره الحكام العرب لصالح القضية، إذ كانت تلك الحكومات ضعيفة متهالكة وهي التي نشأت في أحضان الاستعمار بعد إسقاط الخلافة الإسلامية وعقد معاهدة سايكس – بيكو الخاصة بتقسيم هذه المنطقة مما مهد السبيل للبريطانيين وغيرهم لاحتلال المنطقة العربية، حيث وقعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني ونتيجة لوعد بلفور الذي بمقتضاه هاجر اليهود من أنحاء العالم فأقاموا المستعمرات في جميع أنحاء فلسطين إلى أن رفعوا قضيتهم إلى المحافل الدولية وصدر قرار التقسيم.

المقاومة الفلسطينية

لقد قاوم الشعب الفلسطيني الاحتلال البريطاني والصهيوني الاستيطاني وقاتل المستعمرين الجدد من أبناء صهيون إلى أن حلت النكسة الكبرى بإعلان قرار التقسيم، وبصدور قرار التقسيم كان بالإمكان عمل شيء ونزع المبادأة التكتيكية والقتالية من أيدي الصهيونيين ومسانديهم في تكوين دويلتهم إسرائيل، ولا أزعم أنه كان ممكنا القضاء على إسرائيل الدولة الوليدة التي خطط لها منذ عام 1897، ولكن كان من الممكن بعد أن تحقق الخطر أن نعبئ الشعور الديني العام والوطنية الصادقة الخالصة في العالم العربي في هذا الاتجاه، ولو تم ذلك لحققنا قناعة كاملة لدى اليهود في العالم ومسانديهم من أنه لا يمكن العيش لهم في سلام في أرض الإسلام إلا بالعيش مع أصحاب الأرض الأصليين، ولو تم ذلك لأخذ الصراع في المنطقة شكلا آخر ولفجر معه طاقة هذه الأمة وبعثها من جديد، بعثا يحقق التوازن المطلوب ليتحقق النصر.

ومن المعلوم أنه لم يحسم السلاح وحده في التاريخ أية معركة ولكن يحسمها دائما الرجل خلف هذا السلاح .. وهذا ما أدركه الإخوان المسلمون مبكرا.

الإمام البنا وحرب الشعوب

أعلن المرشد العام الإمام حسن البنا ضرورة أن تكف الحكومات العربية عن التدخل بجيوشها في فلسطين، وتترك هذه المهمة للشعوب العربية لتقود هذه المعركة بفرق العصابات الشعبية، لتجنب الحكومات العربية تدخل الدول الكبرى والقرارات السياسية التي بالتأكيد سوف تعرقل سير الحرب لغير صالح الأمة العربية، حدث ذلك ولم يكن أمام الإخوان إلا أن يعبئوا قواتهم فأعلنوا النفير العام لهم ولغيرهم في كافة البلاد العربية، وتوالى على المركز العام المتطوعون من الإخوان المعدين سلفا روحيا وبدنيا لتحمل أعباء الجهاد، وتقدم المتطوعون من الإخوان إلى جامعة الدول العربية للتعبئة، واستقال من الجيش عدد من الضباط الوطنيين الذين كانت لهم صلة بالإخوان، فكان بعضهم – فيما بعد – أعضاء في مجلس قيادة الثورة، منهم القائد الشجاع أحمد عبد العزيز، كمال الدين حسين، حسن فهمي، وآخرين منهم صلاح سالم، غير أن المرشد العام حرص على إعداد كتيبة خاصة اختيرت فردا فردا وهم من الصفوف الأولى لتنظيم الإخوان المسلمين بقيادة القائد المسلم الرائد محمود عبده، وقد كان لي شرف الجهاد حيث كنت واحدا من هذه الكتيبة المباركة ولله الحمد.

لم نتلق تدريبا في مصر عن طريق الجامعة، عكس الكتائب الأخرى التي شكلته الجامعة العربية بقيادة القائمقام أحمد عبد العزيز التي تلقت كل تدريباتها في المعسكرات المصرية، وكان بهذه الكتائب عناصر أخرى من الوطنيين المصريين غير أن الصفة العددية الغالبة هم متطوعو الإخوان.

بداية تحرك كتائب الإخوان

تحركت الكتيبة الخاصة بقيادة الرائد محمود عبده قبل أن تتحرك كتائب الجامعة العربية، في مارس 1948، تحركت مخترقة شوارع القاهرة، حيث بدأت من شارع الجمهورية في استعراض هائل وسط جماهير حاشدة من أبناء مصر، وكانت سيدات مصر تزغردن، كان الجميع يصطفون في الشوارع وفوق أسطح المنازل مودعين أبناءهم وفلذات أكبادهم إلى حرب تحرير فلسطين، ولا يفوتني أن أسجل موقفا لوالدتي – رحمة الله عليها – بعد أن تلقيت الأمر بالاستعداد للرحيل. أبلغت والدي ووالدتي لكن لم يوافق والدي على ذلك متذرعا بأنني أعاونه في أمر معيشة إخوتي، أما والدتي فكانت أكثر تفهما للأمر ولكنها لم توافقني، وعندما رأتني بالملابس العسكرية وهممت بوداعها إذا بها تسقط على الأرض وتبينت في الحال أن الجزء الأسفل لجسمها لا يتحرك حيث قد شل تماما فحملتها وبت بجوارها ليلة بأكملها – وكنت الوحيد الذي لم يبت هذه الليلة بالمركز العام – أستسمحها وألح عليها حتى رضيت على كره منها .. ثم انطلقت إلى المركز العام تاركا أمي في رعاية الله.

ولا يمكنني إلا أن أقرر أن هذا الذي حدث لم يفارقني طيلة الفترة الأولى من الحرب رغم أنني والحمد لله قد أديت واجبي ما استطعت .. ثم كان رحيلنا في منتصف مارس 1948.

ركبنا القطار إلى بور سعيد حيث مكثنا ثلاث ليال، وجلس معنا المرشد العام وزودنا بما من الله عليه وبما يعيننا على إتمام واجبنا .. ثم ودعنا على ظهر الباخرة "ماري" اليونانية من ميناء بور سعيد متجهين إلى بيروت.

ماذا قال حسن البنا للمجاهدين؟

لقد قال لنا الإمام: أنتم تمثلون بعثا جديدا للإسلام، فاحرصوا على أن تكونوا مثل أسلافكم من الصحابة والمجاهدين الذين ثبتوا في القتال ولم يفروا والذين بنوا دولة الإسلام ولم يضنوا بمال أو دماء حتى بلغوا أمر هذا الدين للعالمين، ثم صافحنا فردا فردا، ثم غادر الباخرة .. وأخذت "ماري" تمخر عباب البحر وقد أحاطت بها مواكب بحرية من اللنشات والمراكب على متونها أبناء بور سعيد الكرام تحية لوداعنا .. ثم أخذت طريقها إلى بيروت.

مشادة بين اليهود والإخوان

وعلى ظهر الباخرة وقعت مشادة بيننا وبين جالية يهودية من الشباب هاجرت من مصر، وقد اشتبكنا معها بالأيدي وخرج لها عدد مماثل منا أشبعوهم ضربا وإذلالا حتى يكونوا سفراء لنا عند أهليهم بما رأوه من بأس عند الاشتباك، ونزل هؤلاء في ميناء حيفا حيث رست الباخرة في الميناء غير أن قبطان الباخرة اضطر إلى استئناف سيره قبل الموعد المحدد خوفا من أحداث شغب أكبر على الباخرة.

سارت الباخرة إلى بيروت واستقبلنا أهلها بالفرحة البالغة وعلى رأسهم وزير الدفاع، واخترقنا شوارع العاصمة في عرض عسكري إلى دار عباد الرحمن، ومكثنا فيها أكثر من ثلاث ليال، ثم غادرناها متوجهين إلى دمشق ومكثنا ثلاثة أيام أيضا في المركز العام للإخوان المسلمين، وكان المرحوم الدكتور مصطفى السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا يعد كتيبة من الإخوان في دمشق للاشتراك في حرب فلسطين، ثم اتجهنا إلى معسكر (قطنة)، وقد سبقتنا إليه كتيبة الإخوان السوريين قبل أن نتحرك حيث كانت الثلوج تكسو الجبال والبرودة شديدة، وقد تلقينا تدريبا شاقا يليق برجال حرب العصابات، وفي معسكر (قطنة)، كان هناك جمع ضخم من متطوعي الدول العربية والإسلامية: العراقيون، اللبنانيون، الأردنيون، الأتراك، اليوغسلاف بقيادة المرحوم الدكتور مصطفى السباعي قائد كتيبة الإخوان.

أنشط المتطوعين:

ومما لا شك فيه وأمانة للتاريخ، كان أنشط هؤلاء المتطوعين جميعا بل وأكثرهم استقرارا إلى نهاية الحرب في الجولة الأولى هم متطوعو الإخوان من مصر وسوريا والذين استمروا فترة الحرب الأولى كلها حتى وقعت الهدنة وتوقفت الحرب في عام 1949، وهناك في (قطنة) مكثنا عدة أيام نتلقى تدريبا شاقا، وقد تولى الجيش السوري تدريب جميع المتطوعين، وقد حضر الأستاذ سعيد رمضان قبل الرحيل وصلى بنا الجمعة وأبلغنا دعاء وتحيات الإمام حسن البنا .. ثم حضر ضابط كبير من الجيش الأردني لاصطحابنا إلى عمان.

من عمان إلى معان

تحركت السيارات في رحلة طويلة شاقة تزيد على سبعة أيام، كان ذلك في أبريل عام 1948 حيث مكثنا في عمان أكثر من ليلة ومنها إلى معان وهي مدينة أردنية في عمق الصحراء، ثم إلى ميناء العقبة الأردني، وهو على بعد أمتار من ميناء إيلات اليهودي وقرية أم الرشراش المصرية – التي ضمتها إسرائيل فيما بعد في عهد عبد الناصر – وهذه المنطقة ملتقى حدود ثلاث دول هي: السعودية، الأردن، مصر، وما زلت أذكر أنه عندما نفد الماء وبلغنا العطش وجدنا ماء (عطنا) يقترب لونه من لون اللبن وبه سوس .. فلم يكن بد إلا أن نأخذ حاجتنا منه، حيث كنا نضع المناديل على الزمازم ثم نشرت ونحن راضون والحمد لله.

مكثنا في ميناء العقبة ليلة واحدة ثم استأنفنا السير عبر الصحراء حتى حدود فلسطين .. كان ذلك في أبريل 1949، وقد أتاحت لنا هذه الرحلة دراسة المناطق ودروب الصحراء ومسالكها والتقت نفوسنا بوحشة الصحراء وعمقها.

من العقبة لفلسطين

دخلنا فلسطين عن طريق رفح بعد أن اخترقنا الصحراء من العقبة ثم العريش إلى رفح حيث كان الإنجليز ما يزالون موجودين على الحدود، لقد سمحوا لنا بالعبور وانطلقت السيارات بنا إلى غزة وهناك وجدنا متطوعين آخرين في معسكر خاص على مشارف مدينة غزة وهم من مصر الفتاة وجماعة أبو العزائم الصوفية، وكان بالمعسكر أيضا بعض الليبيين، وقد صفي هذا المعسكر تماما والذي سمي بمعسكر فاروق من هؤلاء المتطوعين عند بدء القتال وقد صفوه هم بأنفسهم وعادوا أدراجهم من حيث أتوا بعد أن وقعت خسائر بسيطة فيهم نتيجة مناوشات خفيفة من اليهود ليلا فذعروا، ما عدا الليبيون الذين ألحقوا بقوات الإخوان وألحقوا بقوات القائمقام أحمد عبد العزيز مع كتيبة أخرى من التونسيين والليبيين والسودانيين.

إلى معسكرات النصيرات

كان هناك معسكر نصيرات البر الذي يواجه معسكر للقوات البريطانية ويقع بين خان يونس وغزة، وكذلك معسكر نصيرات البحر الذي يقع مباشرة في خط معسكر نصيرات البر الذي تقبع فيه قوة مقاتلة من الإخوان دخلت فلسطين مبكرا لقتال الصهيونيين، وهذه المنطقة تقع شرق البحر المتوسط، وقد انضمت القوة الليبية إلى معسكر الإخوان المسلمين بالنصيرات واحتللنا نحن الكتيبة الخاصة بمعسكر نصيرات البحر وشرعنا في الحال في تأمين المعسكر من البحر ومن البر وأقمنا الحواجز بين الطريق الذي يصل بين معسكر البر والبحر وتم تلغيم المناطق التي تمنع تماما أي تسلل بين المعسكرين، وقد انضمت قوة الإخوان بمعسكر نصيرات البر إلى قيادة القائد محمود عبده قائد الكتيبة الخاصة التي كان يقودها عسكريا يوسف طلعت وروحيا فضيلة الشيخ الأخ محمد فرغلي، (أعدمهما جمال عبد الناصر عام 1954 ضمن ستة من الإخوان المسلمين) وكان على رأس القوة الصاغ الأخ محمود لبيب وكيل عام الإخوان المسلمين (كان له دور في الحرب العالمية الثانية)، وبعد فترة وجيزة قدمت القوات الضخمة لمتطوعي الإخوان في 6 مايو 1948، وغيرهم من إخواننا في مصر بقيادة القائد أحمد عبد العزيز، وتبعته قوة فيما بعد بقيادة البكباشي عبد الجواد طبالة.

احتلال معسكر البريج البريطاني

وقد استقرت معنا في المنطقة وتوحدت قيادة الإخوان مع قيادة القائد أحمد عبد العزيز، وبدأ على الفور في عمل حراسات مستمرة ودوريات متجولة في هذه المنطقة حيث ستنسحب القوات البريطانية من معسكر البريج، وبعد دراسة المستعمرات المحيطة بغزة ومنطقة خان يونس رأت القيادة المصرية أن تحتل جزءا من معسكر البريج الذي ما زالت القوات البريطانية خوفا من أن يحتله اليهود، وفعلا ذهبت قيادة المتطوعين المصريين للتفاهم مع القيادة البريطانية لهذا المعسكر لكن لم يتم التفاهم على شيء وقامت الفصائل القتالية الأولى بقيادة القائد محمود عبده بتأمين المنطقة والتأهب لاحتلال المعسكر بعد رحيل القوات البريطانية مهما كان الثمن.

وفعلا عند بدء الرحيل قامت القوات الخاصة التي سبق أن أمنت المنطقة وراقبت تحركات الإسرائيليين باحتلال معسكر البريج.

المستعمرات اليهودية في منطقة رفح – غزة من صحراء النقب

خمس مستعمرات على الحدود المصرية الفلسطينية هي الدنجور، زمارة، العمارة، كفار ديروم – المشبه، وكفار ديروم تقع أمام خان يونس، والمشبه داخل صحراء النقب وقرية بيت حانون تقع على مشارف غزة في طريق المجدل أسدود ودير سنيد وغيرها في طريق الساحل الذي سيأتي الحديث عنها فيما بعد.

بعد رحيل القوات البريطانية بدأت القيادة في دراسة وضع المستعمرات استراتيجيا حتى يتسنى التعامل معها تكتيكيا، وقد أمرت القيادة قوة من الإخوان وهم الكتيبة التي دخلت فلسطين قبل باقي قوات المتطوعين باحتلال التبة التركية التي تقع في صحراء النقب وتشكل رأس حربة لتلك المستعمرات وغيرها، وهذه المستعمرات جميعها تشكل وحدة دفاعية لمنع اختراق أية قوات في منطقة النقب إلى بئر سبع.

15 مايو عام 1948

وفي 15 مايو زحفت الجيوش العربية على أرض فلسطين بعد جلاء الإنجليز وإعلان اليهود عن قيام دولة إسرائيل وكانت تتمتع بروح عالية جدا رغم تواضع أسلحتها بالمقارنة بأسلحة العدو وضآلة قواتها المسلحة بمواجهة الخصم الصهيوني، ولما كان عمل هذه القوات يتوقف بالدرجة الأولى على استراتيجية المعركة وتكتيكاتها والتنسيق بين القيادة السياسية والعسكرية في أرض المعركة الأمر الذي لم يتوفر للقيادة العسكرية الميدانية سواء في الجبهة الجنوبية المصرية أو الجبهة الوسطى الأردنية العراقية أو الجبهة الشمالية السورية اللبنانية مع التدخل الدائم في الأعمال العسكرية حتى وقعت الهدنة تلو الهدنة مما أتاح للعدو الصهيوني التفوق الكمي والنوعي في السلاح وأتاح لهم فرصة الإغارة على كافة الجبهات في أعمال تعرضية نشيطة وفرت لهم عدم الضغط على المستعمرات اليهودية النائية منها والمترابطة في وحدات دفاعية، مما جعل القوات العربية في كل مكان تجمد تحركاتها وتحولت إلى نقطة الدفاع عن الأرض التي رفضها العرب ضمن "قرار التقسيم".

قتال المتطوعين المصريين في فلسطين

قبل أن نبدأ في تسجيل أحداث فلسطين من الوجهة العسكرية للقوات خفيفة الحركة "الإخوان المسلمين" ومن معهم من المتطوعين، أقول هنا حقيقة مهمة وهي: أن الإخوان المسلمين لم يفقدوا أرضا حرروها أو احتلوها وقد لعبوا دورا مهما وأساسيا للجيش المصري أثناء صموده في الفالوجا ومعركة التبة 86 ومعركة العوجة – العريش والتي انتهت بها الجولة الأولى من الحرب في فلسطين .. وسيأتي بيان كل ذلك فيما بعد.

حل الجماعة

لم تدع قوات الإخوان المسلمين جيوش الهاجاناه أو الأرجون زفاي ليومي أو شتيرن التي تكون منها جيش الدفاع الإسرائيلي يفكرون يوما في هجوم عام شامل على كافة الخطوط والمواقع المصرية كما هو الحال بعد أن حلت جماعة الإخوان المسلمين بأمر من النقراشي باشا وتم سحب قواتهم وتجميد نشاطهم العسكري بأمر من القيادة العسكرية في فلسطين، ذلك أننا – بفضل الله – كنا نقوم بعمليات نشيطة تؤثر على حركة القوات الإسرائيلية، من نسف الطرق ومجمعات مواسير المياه وكباري الوديان، ومهاجمة المستعمرات وحصارها في منطقة النقب والقدس في أوقات مختلفة حرم فيها العدو من الراحة، وقد جرت دراسة هذه المستعمرات مسبقا أي رصد المسافات وكل ما يحيط بها من دشم ومواقع ووديان بواسطة الإخوان حتى أحكمنا حصارها وأقفلناهم، وإن التاريخ سوف يسجل للإخوان المسلمين أنهم لم يعترفوا بهدنة قط مع هذا العدو اللئيم ولكنهم ظلوا يقاتلون في فلسطين إلى أن حلت جماعتهم في مصر في 8/ 12/ 1948.

نبذة عن المستعمرات

لا بد أن تقع المستعمرات في نطاق استراتيجي ذي مدلول عسكري: مستعمرات زراعية، صناعية، عسكرية، وللنوعين الأولين نطاقهما الاستراتيجي من الدفاع، وترتبطان بالمستعمرات العسكرية لتشكل في النهاية وحدة متكاملة لحماية المستعمرات والدفاع عنها، تتكون المستعمرة – عادة فيما مضى – من بيوت خشبية وغير خشبية وفيها برج مسلح للمراقبة والسيطرة الميدانية لإطلاق النيران على المهاجمين وآخر للمياه يستخدم للقتال أيضا من خلال فتحات أعدت لذلك، وتحاط هذه المستعمرات بالدشم والمواقع الدفاعية الخرسانية وتحيط بها من الخارج الأسلاك الشائكة الملغمة والمكهربة، وأحيانا توجد بالداخل سراديب تحت الأرض لتسهيل حركة القوات سواء كان ذلك للدفاع أو الانسحاب خارج المستعمرة، ويصعب تماما الاقتراب من تلك المستعمرات نهارا أو ليلا، وإن أي تقدم للقوات يكون عادة في مرمى نيران هذه المستعمرة حيث إن المستعمرات جميعها إما أن تكون على ربوة عالية تسيطر على الوديان المحيطة بها أو على طريق عام يمكن قطعه في أية لحظة أو في موقع تسيطر منه على القرى العربية المحيطة بها، ولم نكن نملك نحن المتطوعين في البداية غير الأسلحة الخفيفة والمفرقعات وبعض مدافع الميدان متوسطة المدى ومدافع البويز الصغيرة المضادة للمصفحات، ورغم هذه الشبكة الدفاعية من الإحكام الفني والعسكري فقد تم توزيع قواتنا في جنود النقب وذلك باحتلال التبة التركية وتل جمة والشيخ نوران وبيت حانون ومعسكر نصيرات البحر ومعسكر نصيرات البر حتى يمكن فصل تلك المستعمرات بعضها عن بعض وهي: المشبه، زمارة، العمارة، الدنجور، وأخرى في قلب النقب، مستعمرة بيت أيشل، وقد لعبت هذه القوة دورا عظيما في جنوب النقب بقيادة القائد الشاب كامل الشريف (حكم عليه بالسجن عشرين سنة فيما بعد، وذهب إلى الأردن ليصبح سكرتير المؤتمر الإسلامي العالمي).

فصائل القوة الأولى

قام القائد محمود عبده الذي كان تحت إمرته قواد الفصائل الثلاث: مالك نار وعلي صديق ويحيى عبد الحليم، بإعداد هذه القوات لملاقاة اليهود في مستعمراتهم، حيث قامت هذه القوات منذ البداية بعمليات مهمة في تلك المنطقة مما أعجز قوات العدو أن تشن أي هجوم شامل على مواقعنا، وكنا نقوم بوضع نقاط عسكرية على مقربة من تلك المستعمرات غير تلك التي زرعناها في صحراء النقب، وأنشأنا حقولا للألغام للحيلولة دون نجدة إحداهن للأخرى وذلك على الطرق التي تؤدي إليها، وقد تم ذلك تمهيدا لإزالة مستعمرة كفار ديروم التي تقع بين دير البلح ومدينة غزة وخان يونس وهي المستعمرة نفسها التي هاجمتها فصائل الإخوان بقيادة الأخ يوسف طلعت – رحمه الله (أعدمه عبد الناصر فيما بعد) وقد استشهد فيها اثنا عشر أخا من الإخوان أذكر منهم الأخ عبد السميع قنديل والأخ عبد الرحيم عبد الخالق والأخ عبد المنعم عبد الرءوف والأخ محمد أنور، وكان بهذه المعركة الأخ سيد عيد يوسف الذي أذن للصلاة فجأة وقت المعركة وكان أمرا غريبا ومفاجئا حيث أفزع الصهاينة.

قوات الإخوان المسلمين في منطقة النقب وما بعدها

ذكرنا فيما سبق أن دخول القوات خفيفة الحركة كان بتاريخ 6 مايو 1948، وبدخولها انضمت قوات الإخوان المسلمين التي سبقتها إلى فلسطين تحت قيادة القائمقام أحمد عبد العزيز – رحمه الله – حيث توحدت هذه القيادة تحت إمرة هذا القائد الشجاع، وقد اتجه تفكير القائمقام أحمد عبد العزيز إلى مهاجمة مستعمرة كفار ديروم، ورغم نصائح القيادة التي سبقته إلى فلسطين بضرورة تجنب مهاجمة المستعمرات والاكتفاء بحصارها ومنع الإمدادات عنها وتدمير طرق موصلاتها فإنه أصر على مهاجمة مستعمرة كفار ديروم أولى المستعمرات اليهودية وأقربها إلى طريق المواصلات من رفح إلى غزة بعد الدنجور، فبدأ في 10 مايو 1948 بإرسال دورياته للحصول على معلومات تكون أساسا لخطته في ضرب المستعمرة.

بدء الهجوم على كفار ديروم (المعركة الثانية لكفار ديروم)

ومع إصرار أحمد عبد العزيز على مهاجمة المستعمرة قامت القيادة المشتركة التي تكونت بعد دخوله فلسطين بالاشتراك معه بوضع الخطة لمهاجمة المستعمرة، فتم نشر القوات وتوزيعها على نفس الخطوط والأسس الاستراتيجية بقيادة محمود عبده فزادوا بذلك من عملية الحصار التي أطبقت حول جميع الطرق والمنافذ إلى تلك المستعمرة لمنع الإمدادات عنها ومنع أي انسحاب لقوات العدو المتمركزة في الداخل من الهرب بواسطة السراديب المعدة لذلك، وكان على المدفعية أن تقوم الساعة الثانية بعد منتصف الليل بمناوشة العدو ودك حصونه غير أنها تأخرت عن موعدها وبدأت في التعامل مع العد في الساعة الرابعة صباحا مما أتاح للعدو فرصة الانقضاض على قواتنا التي بدأت تتسلل تحت سار المدفعية وتقدمت القوة لإزالة الألغام وتفجيرها تمهيدا لتقدم المشاة وذلك بالهجوم على المستعمرة تحت سار المدفعية لتطهيرها والقضاء على العدو واحتلالها، وكان اليوزباشي كمال الدين حسين قائدا للمدفعية، وقامت جميع أفرع القوات بمهامها القتالية، غير أن المدفعية توقفت عن عملها في المرحلة الثانية من الوقت المحدد لها والتي كان يعمل عليها جنود من الجيش الذين تطوعوا ضمن المتطوعين للعمل على هذه المدافع، ثم أعادت الضرب مرة أخرى مع تقدم المشاة على المستعمرة، واضطرت إلى إيقاف قذائفها بعدما تبين أن بعضا منها تلحق الضرر بالمجاهدين أنفسهم، وتحول الموقف داخل المستعمرة إلى جحيم صنعه هؤلاء الذين كان عليهم أن يقوموا بغطاء المجموعات المعدة للاقتحام، كنت في ذلك الوقت أجول بسيارتي حول المستعمرة وبجواري القائد محمود عبده ليحول عن قرب إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وجل يحدثني مقدما عن الفاجعة التي سوف تنجم عن تلك العملية، وبدا للقائد محمود عبده أن يحرك الكتيبة الخاصة التي كانت متمركزة في مواقعها حول المستعمرة فجرى تعديلها في الخطة وتم سحب بعض هذه القوة ودفعها مع القوات المهاجمة كتأمين اقتحامها وانسحابها، لقد كان من الممكن الاستيلاء على كفار ديروم لو لم تخطئ المدفعية في مهامها.

وقد اقتحم الإخوان المستعمرة رغم كل الصعوبات التي تعرضوا لها، ورغم تأخر المدفعية وبزوغ ضوء الصباح مما أفسد المهمة القتالية لتلك القوات داخل المستعمرة وحولها وتعذر استمرار التقدم حيث فقدنا غطاء المدفعية، وبعدما تأزم الموقف وبدا الأمر كما لو كان مصيدة أحكمها صانعها لاصطياد فريسته، في هذه اللحظة قامت المدفعية مرة أخرى بالضرب وصبت حممها بشدة تحت غطاء قنابل الدخان حتى يمكن تسهيل مهمة الانسحاب حيث كان المشاة داخل المستعمرة، ورغم تعرضهم للخسائر من جانب المدفعية ونيران الأبراج الخرسانية والدشم الداخلية للمستعمرة والمواقع الخداعية، ورغم كل ما يحيط بهذا الموقف من الارتباك، فقد تمكن الإخوان من الانسحاب خارج المستعمرة بعد أن دمروا كثيرا من مواقع العدو وإلحاق الخسائر بتلك الأبراج العالية ونسف أحدها "برج المياه" وكذلك منشآت المستعمرة وألحقوا بالعدو خسائر جسيمة في الأرواح، وقد قاموا بنسف عدد من المواقع الدفاعية .. وتعذر تماما إمداد العدو من الجو بالمؤن الذخائر وهي المحاولة الوحيدة التي بدت وقت المعركة.

القبض على جاسوس من البدو

كان هناك جاسوس بدوي يمد قيادة العدو العامة بكثير من المعلومات عن تحركاتنا داخل المستعمرة، ولقد تعجبنا من عدم نجدة العدو من البر حيث أعددنا القوة الخاصة لذلك في صحراء النقب وحول الطرق المؤدية إلى كفار ديروم، وقد كان هذا الجاسوس سببا رئيسيا – مع تخلف المدفعية – في عدم تحقيق الهدف مما عرقل إزالة هذه المستعمرة تماما من الخريطة.

قبضنا على هذا الجاسوس واصطحبناه معنا وكذلك جميع الشهداء بعد فترة من الوقت حيث استشهد سبعون أخا في هذه المعركة .. وانسحبنا من أرض المعركة إلى قواعدنا في غاية الحزن وحيث كان يملأ الغيظ نفوسنا.

المجاهد الذي ضحى بنفسه

ولا أنسى موقفا لأحد الإخوان الذي ألقى بجسده على الأسلاك الشائكة المشحونة بالألغام فانفجرت وتطاير معها جسده أشلاء ليفتح الطريق لإخوانه حتى يتقدموا لمواجهة العدو بعدما استيأسوا من غطاء المدفعية التي كان عليها أن تعمل بإحكام لتنفيذ المهمة .. ذلك هو الشهيد عمر عثمان بلال، وقد جرح في هذه المعركة الأخ اليوزباشي معروف الحضري فحمله الإخوان إلى خارج المستعمرة وكذلك اليوزباشي كمال الدين حسين الذي صار فيما بعد أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، وانتهت معركة كفار ديروم .. كان ذلك يوم 11 مايو 1948 أي قبل دخول الجيوش المصرية في 15 مايو 1948م.

نتائج المعركة

رغم أن هذه المعركة كانت تشكل وثبة حقيقية عميقة الأثر على متطوعي الإخوان إذا ما تم الاستيلاء على تلك المستعمرة، إلا أنها كانت سهاما مرعبة للإسرائيليين، مما أتاح لنا نحن المتطوعين التجول في حرية بصحراء النقب لما بدا من المجاهدين الذين هاجموا المستعمرة من التضحية والقتال بعناد في مهاجمة كفار ديروم.

كان الإسرائيليون بعد هذه المعركة يعملون ألف حساب للالتقاء بنا والتعامل معنا، ولم يثبتوا أبدا في أية معركة أمامنا طيلة فترة الحرب التي سيأتي بيانها.

ولا عجب .. فإنه لم يكن باستطاعتنا أبدا أن نفر أو نتراجع في معركة قد اخترناها بدافع العقيدة، حيث يقول الله تعالى: "ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير" [الأنفال: 16]

لقد علم الله منا صدق اللقاء فهيأ لنا أمر مقاتلة العدو .. لقد علم الإخوان من قبل وكذلك تأكد القائد أحمد عبد العزيز أنهم يقاتلون عدوا ماكرا وقد أعد العدة – رحمه الله – لمقاتلتهم والتنكيل بهم بالرغم من أن مستعمراتهم التي أعدوها بعناية تمكنهم من الدفاع عنها مع قلة الخسائر التي يتعرض لها محاربوهم داخلها.

اليهود يقاتلون من خلف الحصون

إنك لا تراهم إلا في اللحظة المناسبة وعند الضرورة، إنهم جميعا يقاتلون من خلف الحصون أو المصفحات والمدرعات أو في الظلام، إنهم لم يواجهونا أبدا وجها لوجه – إلا نادرا، ثم اكتشفنا أن هؤلاء الذين يواجهوننا هؤلاء ليسوا يهودا ولكن كانوا مرتزقة يقاتلون في صفوفهم بالأجر، وهذا مصداق قول الله تعالى: "لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون" [الحشر: 14]

ماذا قال أحمد عبد العزيز للإخوان؟

حزن الإخوان حزنا شديدا على إخوانهم الذين استشهدوا، لكن القيادة العامة التقت لقاء عاطفيا بالإخوان حتى أن القائد أحمد عبد العزيز جمع بعضا من مجاهدي الإخوان وتحدث معهم فقال إن الخطأ يقع على عبء القيادة العامة، وأضاف: لقد أديتم واجبكم بتضحية كاملة وإنني لم أحن رأسي قط في حياتي إلا لزعيمكم المرشد العام الأستاذ حسن البنا، لأنه قد ربى جيلا جديدا، إنني الآن أقاتل معكم وأنا منكم، وسوف أقاتل بينكم غدا في مصر ضد الطغيان .. نعم أشهد أن ذلك الرجل الشجاع قد قال هذه الكلمات وقد دفع الثمن .. باغتياله في فلسطين.

لقد كان أحمد عبد العزيز يدير المعركة من مركز قيادته بخان يونس ولم يقدر له أن يرى المعركة على الطبيعة وما حدث فيها من أسى وخسائر، وقد حزن حزنا شديدا تلقى درسا طالما حذرته منه قيادة الإخوان في تلك المنطقة حيث سبق لهم التعامل مع كفار ديروم الأولى.

التحقيق مع الجاسوس وندمه وإيقاعه باليهود

بعد أن قبضنا على الجاسوس أثناء المعركة أودعناه في سجن صغير بمعسكر نصيرات البحر وقام حراسه بالضغط عليه فاضطر في نهاية المطاف إلى الاعتراف بجريمته الشنعاء وعرض علينا أن يخابر الإسرائيليين بواسطة جهاز اللاسلكي الذي ضبط معه ليقدم لنا هدية على أن نطلق سراحه بعد ذلك، وفعلا خاطب الإسرائيليين وأعلمهم أن الخسائر لدى قوات الإخوان فادحة وجسيمة وأنهم في حزن على شهدائهم وقد انسحبوا من كافة المواقع المنتشرة في جنوب صحراء النقب وحول مستعمرة كفار ديروم ويمكنكم التحرك بحرية تامة لنجدة المستعمرة.

لقد أعددنا العدة لمصيدة ضخمة لهذا العدو القادم بعد اتصال الجاسوس، وفي غضون يومين أتى الصيد الثمين الذي شفى صدورنا وأثلجها وقوى شوكتنا، ولقد علم الصهاينة أنهم يقاتلون عدوا لا سبيل للغلبة عليه.

لقد دخلت في نطاق حصارنا ونحن على قمم الجبال وفي وديانها وفي شجر البرتقال مختبئين اثنتا عشرة مصفحة، وونش ضخم، محملة بالمؤن والذخائر والبط والأوز واللبن والخبز والمربى والجبن والشيكولاتة، وكل ما يخطر على بالك من طعام وترفيه تحرسهم سرية من جنودهم واضعين أسلحتهم من خلال فتحات بالمصفحات لإطلاق النيران.

وكانت المعركة .. كانت معركة بسيطة في وقتها، عظيمة في شأنها، ولقد قامت الكتيبة الخاصة بقيادة الرائد محمود عبده وفي حضور الرائد محمود لبيب (لعب دورا في التاريخ الوطني المصري في الحرب العالمية الثانية ولقد كان موضع احترام رجال الثورة – عبد الناصر وزملاؤه – حيث نعوه في بيان رسمي بعد قيام حركة الجيش بثلاثة أيام، وقد شارك بشكل أساسي في معارك الإخوان في فلسطين).

قامت هذه القوة الخاصة بقيادة قواد الفصائل: الأخ يحيى عبد الحليم والأخ علي صديق، الأخ مالك نار، بقيادة تلك الجماعات المنتشرة على شكل (حدوة حصان) أغلقت تماما بدخول تلك المصفحات بذلك الكمين، وعلى الفور بدأنا نصب نيران مدافعنا عليها من كل جانب، مدافع البويز ومدافع 6 رطل والأسلحة الأتوماتيكية الأخرى التي ليس لها تأثير غير إحداث الارتباك لدى العدو، ثم قامت مجموعات الاقتحام بإلقاء المفرقعات حول المصفحات لإجبار جنودها على التوقف والاستسلام وأخذ المصفحات سليمة ما أمكن وعندما لاحظ الإسرائيليون أن بعضا من عرباتهم قد أصيبت وكذلك جنودهم أصابهم الذعر واضطروا للتوقف تماما وبدءوا الهرب من خلال فتحات داخلية بالسيارات، غير أنا لم نسمح لهم بالفرار وأبيدت جميع القوات التي بالمصفحات وتم الاستيلاء على جميع تلك العربات، ولم يكن وقتذاك في هذه المجموعات القتالية من يقود السيارات غير كاتب هذه السطور، حيث كنت أقوم بالزحف أسفل كل مصفحة ثم أصعد من خلال الفتحات وأقودها إلى منطقتنا في أرض المعركة، وكان عجبا أنني لم ألمس أي لغم شخصي من تلك الألغام الكثيرة التي وضعها الجنود مباشرة عند محاولتهم الهرب وهي شرك خداعية لا تراها العين وقد انفجرت ونحن واقفون في أرض المعركة مع بعض البدو الذين أتوا لمشاركتنا القتال.

العودة بالغنائم

لم يكن تجنبي لتلك الألغام عن دراية مني ولكنها عناية الله التي حفظتني، لقد أخذنا أخير ننتبه لتك الشرك وقمنا بتفجيرها، وعندما تم تجميع تلك المصفحات من أرض المعركة الواحدة تلو الأخرى فاجأنا بعض الليبيين الذين كانوا معنا في بعض المواقع بادعائهم ملكيتهم لبعض تلك المصفحات باعتبارها غنائم فتصديت لهم بالسلاح وحال بيني وبينهم الصاغ محمود لبيب والملازم علي صديق وصرفوني عنهم وأعطوهم سيارة مصفحة أخذوها فرحين وركبوها جميعا وتوجهوا بها إلى معسكر النصيرات، ثم قمت بعد ذلك بصحبة بعض المقاتلين بقيادة تلك المصفحات إلى المعسكر.

ارتاحت نفوسنا بعد تلك المعركة السريعة الخاطفة التي شفى الله صدورنا فيها بعدما غنمنا اثنتي عشرة مصفحة (وونش) وقتلنا عددا ضخما من اليهود قرب من عدد شهدائنا.

أسرة الشيخ فريج مصدر من غزة

مكثنا فترة نزرع الصحراء بمساعدة الشيخ فريج مصدر وأولاده من عرب قطاع غزة الذي قدم لنا المساعدة لدراسة صحراء النقب إلى بئر سبع وما يحيط بقطاع غزة وبيت حانون إلى المجدل وأسدود والفالوجا، لقد عرفنا طرقا وسراديب ووديانا لم نكن نعرفها من قبل، عرفنا كذلك خطوط المواصلات التي تربط بين سكان تلك المنطقة وبئر السبع، قد ساعدتنا هذه المعرفة في مهامنا القتالية حيث عرفنا مواقع تلك المستعمرات وما يربط بينها من طرق ومناطق، وأماكن الألغام المحتملة من قبل العدو.

إن هذه الأسرة – أسرة الشيخ فريج – قدمت لنا كل خدمة جليلة في جهادنا في قطاع غزة لا يمكن أن ننساها، وبناء على تلك الدراسة التي وعيناها لصحراء النقب تمكنا من قطع طرق الإمداد لتلك المستعمرات (المشبه – الدنجور – زمارة – العمارة – بيت أيشل – كفار عصيون على مشارف الخليل ... إلخ) وأصبح من المتعذر إمداد تلك المستعمرات بأية إمدادات بشرية أو مواد تموينية أو ذخائر إلا بالإسقاط الجوي، ولقد مهدنا الطريق أمام دخول القوات المصرية فلسطين ولم يكن أمامها على الطريق إلا مستعمرة الدنجور على الحدود ومستعمرة كفار ديروم حيث تقع على الطريق مباشرة أمام قرية خان يونس.

دخول القوات المصرية بعد إعلان اليهود قيام دولة إسرائيل

في 15 مايو 1948 اندفعت القوات المصرية تتقدمها كتيبتان مشاة وملحقاتهما تمهيدا لتقدم الجيش المصري الذي لم يتجاوز تعداده في ذلك الوقت خمسة آلاف جندي زيدت بعد ذلك حتى بلغت ما يقارب العشرين ألفا.

وأمام مستعمرة الدنجور التي تقع عند رفح على الحدود المصرية توقفت كتيبتان دعمتهما القيادة لمهاجمة الدنجور، فقامت المدفعية الثقيلة المتوفرة آنذاك بصب نيرانها على المستعمرة وتبعتها بنيران خفيفة من المدفعية 2 رطل لتستر المشاة التي تقدمت تحت ستار من الدخان الكثيف، غير أنها توقفت لغزارة النيران المنصبة على المهاجمين على بعد قريب من المستعمرة، ثم عاودت الهجوم تحت ستار كثيف وغلالة من نيران المدفعية لتليين دفاعاتها فانهالت عليها الدانات من كل صوب، وسرعان ما فجرت مخزني الوقود والذخيرة مما رفع الروح المعنوية للمتقدمين فاقتحمت القوات المصرية المستعمرة غير أنها لم تستطع إنهاء مهمتها، ثم عاودت قذفها في الغروب حتى حققت الهدف الأول من عدم جدوى وجودها حيث صبت عليها المدفعية المصرية مئات من الدانات، وكان درسا أوليا للقوات المصرية للتعامل في الحرب مع عدو أعد نفسه للدفاع عن كيانه منذ أكثر من ربع قرن.

وتقدمت القوات المصرية إلى مدينة غزة يوم 16 مايو 1948 وتوقفت أمام مستعمرة كفار ديروم مما جعل سكانها الباقين يوقنون تماما بنهايتها وهي تقع عند قرية دير البلح التي تقع مباشرة بعد خان يونس، لقد أنهكها الحصار وبدت كما لو كان مجرما ينتظر إعدامه.

وقفت تلك القوات أمام المستعمرة وقد سارعت قيادة الإخوان والقائمقام أحمد عبد العزيز بالتعاون والإشراف معهم لإنهاء وجود هذه المستعمرة التي كلفت الإخوان قبل ذلك اثنين وثمانين أخا في معركتين منفصلتين قاد إحداهما القائمقام أحمد عبد العزيز.

الهجوم على كفار ديروم

وقف الجيش المصري أمام المستعمرة ليسلط كمية ضخمة من نيران المدفعية بلغت حجما مهولا، ولم يتوقف الضرب منذ الساعة الثانية عشرة ظهرا حتى الساعة الخامسة مساء وتبعها بقاذفات اللهب بما يزيد عن الساعة وقد تمت تسويتها تماما بالأرض ولم يبق فيها شيء على الإطلاق .. تلك المستعمرة كانت شوكة في قاعدة الإمدادات من الحدود المصرية إلى غزة سواء للمتطوعين أو القوات المصرية المتقدمة.

تقدم الجيش المصري إلى المجدل وأسدود وخطة الجيوش العربية

تقدم الجيش المصري باتجاه المجدل وأسدود وقد أزال من طريقه ثلاث مستعمرات كان من الضروري التعامل معها حتى يؤمن تحقيق الهدف وهو التقاء الجيش الأردني والمصري في تل أبيب حيث لم يكن في استمرار تقدمه بعد ذلك إلا مستعمرة راخبوت التي لا تبعد غير ثلاثين كيلو مترا عن تل أبيب، وكان على الجيش الأردني حماية الميمنة للقوات المصرية حيث الخطة التي وضعها القائد الأعلى للقوات العربية الملك عبد الله.

ونحن هنا لسنا بصدد الكتابة عن مواقع الجيوش العربية وتقدمها في فلسطين حيث كانت تقضي الخطة العامة أن تتقدم سوريا ولبنان من الشمال ويتقدم العراق والأردن من الشرق، ومن الجنوب الجيش المصري، ويكون لقاء الجميع بتل أبيب، وسنرى فيما بعد أن القوات خفيفة الحركة بقيادة القائمقام أحمد عبد العزيز لعبت دورا مهما في التقاء القوات المصرية بالقوات الأردنية وأطبقت تماما مع الجيش المصري على مستعمرات النقب جميعها حيث كان يقع في شمال النقب منها خمس عشرة مستعمرة من مجموع سبع وعشرين أو يزيد، ولكننا بصدد عمل القوات المصرية التي أثبتت – معركة فلسطين وبالذات الجولة الأولى منها والجولات التي تلتها – أن المصريين قد قاتلوا بإخلاص وتحملوا العبء الأكبر في قتالهم ضد الصهيونية رغم فقرهم في السلاح وعجز حكوماتهم عن الإمداد بالأفراد أو المعدات حيث لم يكن حجم القوات العربية مجتمعة مناسبا أمام القوات الصهيونية التي كانت مؤهلة تدريبا وتسليحا وتحصينا والتي كان يبلغ تعدادها 106 آلاف من الجنود والقادة العسكريين المعدين للقتال في فلسطين وذلك من مجموع ستمائة وتسعة وعشرين ألف نسمة هي سكان المدن والمستعمرات اليهودية.

السياسيون والحكام سبب هزيمة الجيوش

لقد تلاعب هؤلاء الحكام سياسيا وقت المعارك أو بعدها بل أثناء المعارك أحيانا مما جعل صفحة من العار لا تلحق أبدا بالمقاتلين المصريين أو غيرهم من جنود الأمة العربية بل تلحق فقط بالساسة والحكام مما يوجب أن يقدموا جميعا إلى محكمة تاريخية سواء منهم الذي مات أو الذي ما زال على قيد الحياة ولعب دورا انهزاميا في معركة فلسطين، وسوف نضرب مثلا بنموذج من المعارك التي خاضتها القوات المصرية في تقدمها إلى أسدود ثم إلى عراق منشية وسويدان الفالوجا لنبين للقارئ مدى ثقل الجندي المصري وقيادته في كيفية إدارة الحرب والتفاوت الكبير بينه وبين إعداد الجندي الإسرائيلي.

مستعمرة دير سنيد

علينا أولا أن نلم إلمامة بسيطة بالمستعمرة وبالأعداد القليلة التي تدافع عنها وعن كل مستعمرة من مستعمرات اليهود، ليتبين للقارئ مدى حنكة هؤلاء الذين أعدوا هذه المستعمرات عنها في جميع أنحاء فلسطين، بحيث تستطيع أية مستعمرة أن تشل ثلاث كتائب بجميع الأسلحة المعاونة لها من طيران ومدفعية وما يلحق بها من مدرعات أو أسلحة خفيفة مع جماعات الاقتحام وغيرها من المعدات، وهذا يحقق ميزة المبادأة للعدو ويعرقل أي هجوم عام للقوات النظامية.

فمن الممكن والحالة هذه أن تحبط أي هجوم عام للجيش حيث تقطع طرق إمداداته وتمزق وحداته ويتمكن العدو من العمل خلف الخطوط لتمزيق وتبديد القوات المهاجمة وبالتالي يتحقق للإسرائيليين طيلة فترة عمل القوات المهاجمة تدمير الروح المعنوية فضلا عن تدمير المعدات وخسائر الأفراد وإرباك القيادة السياسية والعسكرية على حد سواء.

وهنا تستطيع قيادة الجيوش الإسرائيلية أن تتحرك هي إلى المبادأة بشن الهجوم العام تلو الهجوم في جبهة أو أكثر، وهذا ما فعلته القوات الصهيونية في نهاية الحرب عندما نجحت في تجميد قوات المتطوعين وسحبها من قلب العمل العسكري في كل مناطق فلسطين، وسيأتي بيانه بعد ذلك .. وذلك بفضل النقراشي باشا وحله لجماعة الإخوان.

موقع مستعمرة دير سنيد

كانت هذه المستعمرة تتحكم من موقع مرتفع عن الأرض المجاورة في طريق الأسفلت من البحر الأبيض، وهي في نطاق منطقة المجدل، كان يحيط بها مانع كثيف من الأسلاك الشائكة والألغام التي تلتف بها من كل اتجاه، وانتشرت حولها عشر دشم خرسانية قوية تسيطر على كافة محاور الاقتراب منها، علاوة على دشمة أخرى كانت تبتعد عن المستعمرة نحو 250 مترا إلى الجنوب فوق قمة تبة تحتلها قوات الهاجاناه وغيرها من الإسرائيليين، هذه الدشم مستعدة لإطلاق النيران من مزاغلها بمجرد أن يلوح الخطر، ولم يكن يظهر من هذه الدشم على خط الأفق سوى تلك المزاغل والأسطح الخرسانية التي كان مقدرا لها أن تتحمل القذف الثقيل.

ولتعذر قذف القنابل اليدوية من داخل الدشم فقد أعدت خنادق خاصة بجوارها لهذا الغرض، وعلاوة على هذه الدفاعات القوية فقد كان بالمستعمرة ثمانية أبرج مراقبة، وشبكة متداخلة من خنادق النيران والمواصلات المحفورة بعناية، علاوة على عدد كاف من الملاجئ والمخازن، فضلا عن إحاطتها بالسلك الشائك الملغم والمكهرب أحيانا.

قوة المدافعين عن المستعمرة

لم يكن بهذه المستعمرة غير ثلاثمائة نسمة، 118 منهم سبق لهم الخدمة في صفوف الحلفاء، كما كان منهم ثلاثون من الجنود لتعزيز دفاعات المستعمرة، علاوة على فصيلة أخرى تحت قيادة أحد الضباط أرسلت لتدعيم الدشم والمواقع.

بداية الهجوم

في يوم 19 مايو 1948 بدأت قوة من مدفعية الميدان – بما يقرب من ستة عشر مدفعا خمسة وعشرين رطل مع مدافع باور ومدفعين مضادين للدبابات وفصيلتي مدافع ماكينة وكتيبة سيارات مدرعة – بعد أن أمنت القوات تقدمها من بيت حانون على مشارف غزة أن الطائرات المصرية قامت بضربها في اليوم السابق، حيث كان الطيران المصري متفوقا حينذاك، فإنه لم يستطع تليين دفاعاتها القوية، فقامت المدفعية الثقيلة بإحلال مرابض للنيران قريبة من المستعمرة وكذلك المدافع المضادة للدبابات احتلت أماكن أخرى حول دير سنيد، في الوقت الذي قامت فيه الفصيلة للطائرات مدافع بافرز بضرب الدشم الخرسانية الواقعة على الحافة الجنوبية بذخيرتها الخارقة للدروع، ثم بدأت التمهيد للهجوم بمدفعية الميدان، وتحت سترة النيران اقتحمت الكتيبة الأولى تعاونها السيارات المدرعة التي عملت في تعاون وثيق يتلاءم مع القوات المترجلة.

ولقد أبلت القوات بلاء حسنا، إذ تمكنت من احتلال الدشمة المنعزلة جنوب المستعمرة غير أن قائدها وهو النقيب عز الدين صادق قد استشهد، ولم تتمكن باقي السرايا من تحقيق نفس النجاح أو تعرقل الهجوم أمام نيران بعض الدشم، ومع تزايد الخسائر اضطر قائد المعركة إلى سحب القوة مع تثبيت إحدى السرايا التي احتلت الدشمة السابقة.

وفي اليوم الثامن أمر القائد بتغيير سريته الأولى التي تحتل الدشمة المنعزلة، في الوقت الذي دفع بسريتين على الدشمة التي تقع غرب دفاعات العدو ووضع في معاونتها جماعات من مهندسي الاقتحام لفتح ثغرات في موقع الأسلاك والألغام بواسط طربيدات البنجالور، وشدد غطاءه بالمدفعية تقدم القوات وللتمهيد لجماعة الاقتحام، واحتفظ بسرية ثالثة لتعزيز نجاح الهجوم، واستمر الزحف حتى سار الجنود على مسافة 75 مترا من الدشمتين اللتين تقعان جنوب غرب دفاعات العدو، وبذلك وقعت القوة تحت تأثير نيران قوية فانحرفت عن هدفها وانعزلت عن باقي الكتيبة.

ولما بلغ الموقف أوج السوء وبدأ تعذر الاستمرار في الهجوم دفع القائد بقوة أخرى وأمر بتشديد الهجوم والتقدم لدفع معدل الهجوم غير أن الهجوم انحصر مرة أخرى بعد أن استشهد عدد من المصريين، ضباطا وجنودا، وجرح كذلك عدد آخر يربو على العشرين جنديا وكانت خسائر العدو تبلغ ثلثي خسارة القوة المصرية المهاجمة.

إعادة استكشاف المستعمرة

كان لا بد من معاودة استكشاف المستعمرة، وكان من الخطأ أساسا أن تهاجمها القوات المصرية من المكان السهل الذي توقعه العدو، ثم كررت هجومها من نفس المكان، مع علمها بفشلها المرة تلو المرة، وفي هذا تعزيز للفشل وإحباط لمعنوية المقاتلين، في الوقت الذي أتيح للمستعمرة نوع من الإمدادات في الرجال والعتاد من المستعمرة القريبة منها (ضرعام) والتي عمل رجالها متعاونين على تعميق السراديب وترميم دفاعاتها.

معاودة الهجوم الثالث

بدأ العمل بالطيران المصري يوم 21 مايو حيث ألقيت على المستعمرة عدة قنابل كما استمرت المدفعية تصب نيرانا مزعجة طوال النهار لتستر تقدم المهاجمين، وفي 23 مايو أمر العقيد عبد الرءوف قواته بالتقدم، وقد ساعده على فتح ثغرة دبابة تم أسرها مسبقا زودت بما يكفل لها العمل وكذلك سيارة مدرعة أخرى، كما اشتركت بقية السيارات المدرعة وحمالات البريل المجنزرة وتمكنت إحدى الفصائل من فتح الثغرة، غير أن الفصيلة الأمامية وقعت في مأزق وواجهت كل نيران المستعمرة بمفردها وعندما نفدت ذخيرتها اضطر قائدها إلى سحبها للخلف ففشل الهجوم لثالث مرة أخرى.

وفي نفس اليوم (23 مايو) صمم القائد على إسقاط المستعمرة مهما كان الثمن، وتدخل بنفسه مشاركا في أدق التفاصيل، وغير ملامح الخطة، وقام بالهجوم ليلا على المستعمرة، وانطلق القادة على رأس قواتهم، وأطبق عليها من كل جانب، واستعملت جميع الأسلحة، وتغيرت مواقع ضرب النيران، كما هاجمها من مواقع مختلفة عن الأولى، وأسقط بذلك الخطة التي تقدم بها من جنوب المستعمرة، وقبل أن يبزغ الفجر كانت المستعمرة قد سقطت في أيدي المصريين وانفتح الطريق إلى المجدل.

تقدمت القوات المصرية واحتلت البلدة دون مقاومة أو جيوب إعاقة من العدو، غير أنه كان عليها أن تزيل مستعمرة (نجيا) التي تقع بين المجدل وأسدود وتتحكم في طرق وإمدادات الجيش على الساحل، فضلا عن تحكمها في طريق المجدل وبيت جبرين والقدس شرقا التي هي من عمل القوات الأردنية.

وصف عام للمستعمرات

على القارئ ألا ينسى أن جميع المستعمرات تخضع للوصف السابق من حيث المكان والتسليح والتحصين وحجم القوات وطرق الإمدادات بين المستعمرات والتنسيق مع قيادتها.

الهجوم على مستعمرة نجيا

بدأت القوات المصرية في التعامل مع هذه المستعمرة كما تعاملت مع دير سنيد، غير أن القوات لم تشأ أن تبذل نفس الجهد الذي بذلته مع المستعمرة السابقة نظرا لكثافة النيران التي يواجهها المهاجمون مع كثرة الخسائر واستهلاك الكثير من ذخيرة المدفعية، الأمر الذي يتعارض مع ما هو متوفر لدى الجيوش المصرية حينذاك.

في الوقت الذي حققت فيه هذه الخطة المصرية نجاحا، أعطت انطباعا للإسرائيليين أن الجيش المصري – وهم يعلمون حجمه وتسيلحه – لن يقوى على إزالة مستعمرات الجنوب، ومن هنا كان على الدولة (الإسرائيلية أن توجه جيشها في أمواج متلاحقة على شكل هجوم عم على عدة جبهات من مسرح عمليات الجيوش، خاصة بعد امتداد خطوط مواصلاته، وهذا فعلا الذي فعلته القيادة الإسرائيلية في نهاية الحرب وقبل توقيع معاهدة رودس، غير أن الجيش المصري وليس السياسيين قد أدرك هذه الحقيقة، الأمر الذي جعله يعيد النظر والتنسيق مع قوات المتطوعين بقيادة القائمقام أحمد عبد العزيز.

وسنرى بعد ذلك عمل القوات الخفيفة الحركة التي حققت الحصار لمستعمرات النقب الجنوبية حتى منطقة بئر سبع والخليل وبيت لحم والقدس، إلا أن القوات المصرية قد حققت هدفها من تلك المستعمرة وهي ألا تكون طرفا معاونا في هذه المنطقة، واندفع الجيش بعد أن أمن خطوط مواقعه الجديدة إلى أسدود وكان عليه أن يدمر تماما ويمحو من الأرض مستعمرة (نيتانيم) القوية حيث تسيطر على كل الأراضي التي تحيط بها وتتحكم في الطريق الساحلي، فضلا عن قربها من البحر الأبيض المتوسط وتعد من أكبر المستعمرات التي يعتمد عليها جيش الدفاع الإسرائيلي في الإمداد والتموين والإعاشة بحكم موقعها بين شمال وجنوب النقب، بالإضافة إلى قربها من قاعدة الإمدادات التي تمتد بعدها في طريق مستعمرة (راخابوت) التي لا تبعد أكثر من ثلاثين كيلو مترا عن تل أبيب.

الهجوم على مستعمرة نيتانيم

قامت القوات المصرية في 7/ 6/ 1948 بالهجوم عليها من محاور مختلفة كما فعلت في مستعمرة دير سنيد، وبلغ الجهد من القوات المصرية ضعف ما بذلته في مستعمرة دير سنيد، غير أن الخبرة التي اكتسبتها القيادة المصرية في التعامل مع المستعمرات السابقة جعلتها تتجنب ما وقعت فيه سلفا، فركزت نيرانها الثقيلة وكثفت هجومها من عدة محاور وعززتها بمجموعات معاونة سواء من الدبابات أو قاذفات اللهب وغيرها من الأسلحة الخارقة للدروع، وبذلك اختصرت الوقت وتم لها ما أرادت، حيث تم الاستيلاء عليها في نفس اليوم رغم قوة شكيمتها وضخامة تحصيناتها.

لمحة عن المقاومة الإسرائيلية

يجب أن نعلم أن الأعمال التعرضية وتقدم قواتنا كانت تقابل من الجانب الآخر بما يمليه الموقف، وسوف نسرد جانبا مختصرا وبسيطا عن عمل القوات الإسرائيلية لمحاولة استرداد المستعمرة والذي تكرر في كل خطوة خطتها القوات المصرية الباسلة في أول حرب لها منذ فترة طويلة سواء كانت في طريقها إلى قرية عربية أو مستعمرة يهودية، ولن أسترسل في هذا الاتجاه لأن موضوعنا هو عمل قوات المتطوعين في حرب فلسطين وسوف أتناول فقط الموقف العسكري الذي يربط بين الجيش والمتطوعين بوجه عام.

مستعمرة نيتانيم ومحاولة اليهود استردادها

يقول اللواء البدري في كتاب (الحرب والسلام): وبعد أن استولت القوات المصرية على المستعمرة، قام العدو في 8/6 بدفع كتيبة من اللواء حصفاني قيادة أهارون لاحتلال التل 69 والواقع على مسافة كليو مترين غرب نيتانيم حتى يتمكن فيما بعد من الوثوب على نيتانيم، علاوة على الارتكاز بقطع الطريق: المجدل أسدود وبث الألغام فيه وقذف القوات المتحركة عليه، وقام هذا القائد الإسرائيلي وكرر نفس الشيء في 9 يونيو، إلا أن القوات المصرية أحبطت محاولاته في المرتين، وفي نفس 9 يونيو حشد العدو أغلب قواته لاستعادة نيتانيم، وبعد أن قام بهجوم مخادع بعيدا عن المستعمرة شن هجومه الرئيسي الذي بدأه في احتلال تبة الفناطيس المواجهة للمستعمرة على الجانب الشرقي ولما اقتحم نيتانيم قابلته مجموعة اللواء الثاني بنيران حامية أحبطت هجومه وأوقعت به خسائر فادحة تجاوزت ثلاثمائة فرد كما أسرت منه عشرة أفراد.

وعند فشل الهجوم عزز اللواء العميد محمود فهمي نعمت الله أوامره باسترداد تبة الفناطيس المهمة، وقامت القوة قيادة أحد الضباط ومعه سرية استطلاع وسرية دبابات بالهجوم على الموقع، غير أنها توقفت عن التقدم بكمية النيران التي حالت بينها وبين هذه التبة العنيدة وفي الحال صدرت الأوامر لكتيبة الدبابات للتحرك من المجدل والدخول في المعركة حيث كان على رأس القوة المواجهة لقيادة المعركة المرحوم اللواءمحمد نجيب أول رئيس جمهورية.

وبمجرد وصولها قامت مع القوة الموجودة باقتحام الموقع وتطهيره، وفي صباح 11/ 6 حاولت القوات اليهودية (اللواء حصفاني) استرداد التبة لتقطيع الطريق بين المجدل وأسدود غير أنها باءت بالفشل بعدما فقدت جزءا من قواتها وانسحبت تاركة قتلاها الذين لم تتسلمهم القيادة اليهودية إلا في حضور مندوب الأمم المتحدة.

أهمية المقاتل الفلسطيني والتنبؤ بحرب عالمية ثالثة

يجب أن يعلم القارئ أن جزءا من جيش الجهاد المقدس اشترك مع الجيش المصري في قتال المستعمرات المتقدمة ومنها نيتانيم، وقام بالتمهيد ببسالة وشجاعة، بل هم الذين فتحوا ثغرة في حقول الألغام للمستعمرة قبل أن تقوم الدبابات نفسها بهذه المهمة وكانوا يقومون بإقلاق العدو ليلا.

إن العنصر الفلسطيني مهم في الحرب والقتال، ويجب عدم إغفاله فتحرير فلسطين قضيته الأولى، وعلى الجميع أن يضعوهم في حجمهم الحقيقي حتى يتسنى تحرير أرضهم وتحقيق السلام، ليس للفلسطينيين فحسب بل للعرب جميعا.

تقدم الجيش لاحتلال الفالوجا

في الوقت الذي كان فيه الجيش يتقدم لاحتلال أسدود ويقوم بتطهير طريقه بالاشتباك مع المستعمرات واحتلال بعضها دفع بقواته شرقا لاحتلال عراق منشية وعراق سويدان الفالوجا، وحاول التقدم بعد ذلك شمالا على طريق الساحل إلى مستعمرة راخابوت، غير أنه وجه نيرانا شديدة من مستعمرة متقدمة حالت بينه وبين أن يتقدم خطوة واحدة فارتد إلى مشارف أسدود وأخذ يدعم مواقعه.

قوات خفيفة الحركة وعزل المستعمرات وحصارها

هي قوات الإخوان وغيرهم قيادة القائمقام أحمد عبد العزيز، ففي الوقت الذي كان يتقدم فيه الجيش إلى الفالوجا صدرت الأوامر إلى القوات الخفيفة الحركة من اللواء المواوي قائد عام القوات المصرية في فلسطين إلى القائمقام أحمد عبد العزيز حيث إنه قد تم التنسيق بينهما لتأمين مفتاح النقب بئر سبع الشرقية والمنطقة الجنوبية لمنطقة النقب التي تمتد من بئر سبع شمالا إلى الخليل وبيت لحم لتلتقي مع القوات الأردنية "جنوب القدس" وجنوبا من بئر سبع إلى العصلوج والعوجة على الحدود المصرية.

كانت القوات الخفيفة الحركة تعمل في منطقة النقب متجنبة هجوم المستعمرات واحتلالها، فاتجهت إلى ضرب المستعمرات ومهاجمة قوافل الإمدادات اليهودية واعتراض المصفحات مما أزعج اليهود وحرم عليهم التجول في منطقة النقب الجنوبية، وكان عليه أن يتقدم لتنفيذ الأوامر وليغلق المنطقة الجنوبية تماما ويعزلها عن قلب الدولة الإسرائيلية (القدس اليهودية) ويكمل بذلك محاصرة جميع المستعمرات اليهودية وعددها حينذاك أربعون مستعمرة.

تقدم القوات الخفيفة الحركة

قام أحمد عبد العزيز في يوم 18 باختراق صحراء النقب، وقد ضرب في طريقه عدة مستعمرات منها العمارة حتى وصل بئر سبع، وقد استقبلتنا هذه المدينة استقبالا رائعا، وفي مدينة بئر سبع وفي أربعة أيام دفع بجزء من قواته إلى العصلوج والعوجة جنوبا على الحدود المصرية بقيادة زكريا الورداني، وفي يوم 21 تقدم إلى الخليل تاركا في بئر سبع الكتيبة الخاصة قيادة الرائد محمود عبده، وكان مع أحمد عبد العزيز بعض ضباطه وهم: اليوزباشي كمال الدين حسين، صلاح سالم، حسين فهمي.

شجاعة أهل الخليل

في يوم 24 تقدمت القوات الخفيفة إلى مدينة بيت لحم تاركة خلفها في الخليل قوات رمزية حيث كان الجيش الأردني يحتلها، وكذلك أهل مدينة الخليل الشجعان الذين لم يسمحوا بوجود أي مستعمرة حولهم وقد دمروا مستعمرتين إحداهما تدعي كفار عصيون وتقع على ربوة عالية من مدينة الخليل وتسيطر سيطرة تامة على المدينة والطرق التي تصلها ببئر سبع والقدس، ومن هنا علينا أن نتبين مدى قدرة الفلسطينيين على تطهير بلادهم ومن هنا علينا أن نتبين مدى قدرة الفلسطينيين على تطهير بلادهم إذا ما أحسن استخدامهم.

وفي مدينة بيت لحم وزعت في الحال القوات على نقاط استراتيجية حتى مشارف القدس حيث توجد مستعمرتان كخط دفاع أول عن القدس اليهودية هما (راما تراحيل وتل بيوت) وتم التمركز في المدينة، وأخذ أحمد عبد العزيز يقيم دفاعاته وتحصيناته وتوزيع بطاريات المدفعية متوسطة المدى حول المدينة وفي مواجهة هاتين المستعمرتين حيث احتل كنسية ماري إلياس التي كان يحتلها الجيش الأردني وهي تبعد مائتي متر عن المستعمرات سالفة الذكر، ولندع الآن قوات أحمد عبد العزيز في بيت لحم لنرى عمل الكتيبة الخاصة في بئر سبع.

عمل القوات في بئر سبع

قامت قوات الإخوان المسلمين في مدينة بئر سبع بحفر الخنادق حول مدينة بئر سبع بأكملها، رغم أنها مدينة كبيرة، وقد تم توصيلها بسراديب داخلية للإمدادات وربط المواقع فيها بالخنادق، وأقيمت نقط الدفاع القوية التي تجعل من الصعوبة بمكان اختراق المدينة ودخولها حيث يصعب اقتحامها إلا بمقاتلة رجل لرجل حيث بنيت المواقع والدشم وشيدت بالرمال وغيرها من المواد الصلبة والصخور وأقيمت مزاغل ضرب النيران القوية من خلال فتحات خرسانية واحتلت أسطح المنازل التي تشرف على المدينة وما حولها ووزعت الذخائر التي توفر الدفاع عن المدينة من واقع الدفاعات المتقدمة دون إمدادات لمدة ثلاثة أيام قبل أن تتحرك لها أية إمدادات من مخازن الذخيرة التي تقع متفرقة في قلب المدينة.

شجاعة أهل بئر سبع

لقد قام أهل بئر سبع بمعاونة صادقة ومشاركة فعالة في تلك الأعمال وكذلك الاشتراك في دوريات الاستطلاع والقتال، وكان أهالي بئر سبع هم أصدق وأنبل وأقوى الرجال على الإطلاق في المنطقة الجنوبية وقد تعاونوا في الحرب، وعلى الفور قام القائد محمود عبده بدفع مجموعات متفرقة في المنطقة المحيطة ببئر سبع وقام بأعمال تعرضية شملت تحركات تلك المجموعات في الممرات التي تربط بين مستعمرة بيت أيشل وغيرها والتي سبق ضربها بالمدفعية الثقيلة قبل أن يرحل القائمقام أحمد عبد العزيز. ونشطت هذه المجموعات في تلغيم الطرق التي تربط بين المستعمرات والاشتباك مع قوافلها لتحقيق الارتباك الدائم والإقلاق المستمر وقطع طرق الإمدادات حتى يقوم الجيش المصري بتعبئة قواته وتدعيمها حيث كنا نرى استحالة تمسك الجيش بتلك الخطوط الطويلة التي اندفع إليها دون تأمين خطوط مواصلاته وقواته.

العملية الأولى في بئر سبع

قامت مجموعة استكشاف باستطلاع المنطقة وعلى بعد ثلاثة كيلو مترات من الشمال من بئر سبع كان هناك كوبري على والذي يقع غرب الطريق الرئيسي المتجه إلى الخليل بعمق كيلو مترين في الصحراء، وكان من الضروري عبور هذه المنطقة وبالتالي عبور هذا الكوبري، فقامت مجموعة من قواتنا بالتمركز في دشم صحراوية طبيعية حول هذه المنطقة بقيادة الأخ علي صديق وقامت ببث الألغام على شكل حقل صغير في مقدمة ومؤخرة هذا الكوبري وكذلك تلغيم الكوبري من أسفله حتى يمكن تدمير أي عدد من مدرعات العدو وظلت هذه القوة مرابطة حتى جاء عدد من المصفحات فقام المقاتلون بتفجير الكوبري دون أن نفجر المناطق الأخرى فدمرت بعض المصفحات ولم تدخل المصفحات الأخرى في نطاق منطقة الألغام، فنزل الجنود من المصفحات وقاتلونا وجها لوجه لمدة بسيطة ثم فروا في نهاية الأمر حاملين قتلاهم الذين حاصرتهم نيران الأسلحة والآخرين الذين قتلوا في تدمير الكوبري، وأحدثنا بعض الإصابات بمدافع البويز في المصفحات التي فرت، ولم نكن نملك نحن المدفعية الثقيلة أو المتوسطة المدى التي اصطحبها القائد أحمد عبد العزيز إلى بيت لحم، وقد غنمنا مصفحة ضخمة، وقد اشترك في هذه المعركة عدد من الإخوان أذكر منهم الأخ حلمي الفيومي والأخ الشهيد علي صبري حيث استشهد في هذه المعركة وعادت القوة إلى قواعدها بالمدينة.

وفي اليوم التالي مباشرة ذهبنا إلى موقع المعركة بقيادة الأخ علي صديق وعسكرنا بالموقع حتى أتت مصفحة يهودية لاستكشاف الطريق، وقمنا بتدميرها وانسحبنا دون أن يلحق بنا أذى، وظل هذا الموقع تحت سيطرة قواتنا حيث كانت تجوبه الدوريات الاستطلاعية بصفة مستمرة لتحديد تحركات العدو، وقد نجحنا في تجميد حركة المستعمرات في منطقة شرق النقب وشماله، وقد اشتركت والحمد لله في كل هذه المعارك.

اليهود يخططون للتخلص من الإخوان

وهكذا أوقعنا – بفضل الله – الرعب أينما حللنا في صفوف جيش الدفاع اليهودي مما جعلهم يتجنبون الدخول معنا في معارك إلا مضطرين، ومن هنا عملت الصهيونية العالمية على تحييد جيش التحرير الشعبي من الإخوان المسلمين وغيرهم من المتطوعين من العالم العربي حتى لا يتطور الأمر إلى حرب شعبية في تلك المنطقة ضد الإسرائيليين الغزاة لفلسطين.

لقد وعى هؤلاء التاريخ في الوقت الذي جهله زعماء العرب .. نعم .. لقد وعوا التاريخ ولم يشاءوا أن تتكرر معارك التتار أو الصليبيين مما يصعب السيطرة عليها ولن يكتب النصر لليهود المعتدين.

وقد كان لليهود ما أرادوا، حيث حققت لهم تلك الحكومات العربية العميلة والضعيفة مأربهم، وتوقفت في نهاية الأمر الحرب في الجولة الأولى مع هذا اللون من المناضلين لتبدأ معركة أخرى مع الجيوش والتي خضعت هي الأخرى لكافة المؤامرات ليتحقق بذلك الهدف الصهيوني لابتلاع فلسطين .. كل فلسطين.

رحيل القوات الخاصة بقيادة الرائد محمود عبده

كان عمل القوات الخاصة في بئر سبع يتوقف بالدرجة الأولى على حماية مفتاح النقب لا القتال أو الهجوم، وذلك بأعمال تعرضية في مهاجمة القوافل وقطع طرق الإمدادات وتلغيم الطرق وإزعاج المستعمرات حتى يتعذر على اليهود خرق هذا النطاق، وبعد شهرين تقريبا حركت القيادة العامة القوة الليبية الموجودة في غزة لاستلام مواقعنا في بئر سبع على أن نلحق بالقوات الرئيسية في بيت لحم، وقد تسلمت القوة الليبية المدينة وسلمناها كل الموقع، ولقد حزن أهل بئر سبع حزنا شديدا، ولقد كان شعورنا نفس شعورهم، لقد كانوا أكرم الرجال وأشجعهم فيما قابلناه من أهل فلسطين.

رحلنا إلى بيت لحم مرورا بمدينة الخليل حيث أدينا الصلاة في مسجد الخليل إبراهيم عليه السلام وانضممنا للقوات الرئيسية، ثم تحركنا إلى صور باهر وهي قرية تقع فوق سفح جبل المكبر في مواجهة مستعمرتي رامات راحيل وتل بيوت حيث قمنا باستكمال نقط الدفاع وحفر الخنادق حول تلك القرية الصخرية، وتقدمنا بالسراديب والمواقع لمحاصرة المستعمرين ولم تكن تلك المواقع تبعد عن دشم الإسرائيليين إلا بمقدار ثلاثين مترا فحددنا بذلك إقامتهم داخل حصونهم حيث لم يكن يجرؤ واحد من الإسرائيليين على التجول في أرض المستعمرين، وكنا نسمعهم يوجهون إلينا شتائمهم بالعربية كل صباح.

مدينة بيت لحم

لعل القارئ يذكر كيف احتل القائمقام أحمد عبد العزيز مدينة بيت لحم التي تقع على ربوة عالية، وهي مدينة كبيرة تشرف مباشرة على مستعمرتي راما تراحيل وتل بيوت وتتقدم أحد مواقعها كنيسة ماري إلياس كموقع متقدم للقوات المرابطة في بيت لحم.

إن هذه المدينة جميلة للغاية، يسكنها المسيحيون وهم الأغلبية الساحقة، وقد ولد فيها سيدنا عيسى عليه السلام، وقد رأينا مكان ولادته، ولم نشعر من العرب المسيحيين إلا بالود والترحاب، ولم نر منهم أية إعاقة لعمل القوات المحاربة، وقد قامت القوات الخفيفة الحركة بتحويل المدينة إلى قلعة حربية من حيث توزيع القوات وبناء الدشم والاستحكامات وتوزيع مدفعية الميدان وتمويه المعدات وتوزيع السيارات في أماكن متفرقة حيث تم تمركز القيادة العامة في المكان المعد لها في موقع من المدينة لربط حجرة العمليات بالقيادة المتقدمة والاتصال بين أفرع القوات المدافعة عن المدينة وما حولها.

معركة المواقع رامات راحيل

كان الجيش الأردني يحتل مدينة الخليل وبيت لحم ويحتل موقعا متقدما في كنيسة ماري إلياس الواقعة شمال المدينة الذي احتله الإخوان قبلا ثم عاد الجيش فاحتله ثانية كمركز متقدم لقيادة الجيش الأردني، لقد حاول الجيش الأردني احتلال هذه المستعمرة ولكنه فشل في اقتحامها.

مستعمرتا رامات راحيل وتل بيوت

تقع مستعمرتا رامات راحيل وتل بيوت على ربوة عالية تتحكم في طريق بيت لحم القدس وتسيطر على جبل المكبر، وتعتبران خط دفاع أولي حصين عن القدس اليهودية ويمكنك من رامات راحيل أن تحصي تحركات القوات الموجودة في بيت لحم وما حولها، ولقد قرر القائد أحمد عبد العزيز أن يحتلها، وفي 24 مايو أرسل قوة استطلاع بقيادة الأخ لبيب الترجمان ليقوم باستكشاف المستعمرة وكتابة تقرير عنها، ولقد نجحت هذه المجموعة في التسلل وأحاطت بالمستعمرة حيث تحيط بها المواقع الخرسانية ونقاط المراقبة وظلت هذه المجموعة في موقعها يوما كاملا حتى فطن اليهود لوجودهم فأخذوا يطلقون عليهم النار من قمم الأبراج والدشم، غير أن القوة انسحبت فلم تكن مهمتها القتال.

وفي بيت لحم كتب الأخ لبيب الترجمان تقريره الذي بنى أحمد عبد العزيز عليه خطته لمهاجمة المستعمرة.

وفي 26 من مايو كان كل شيء هادئا ساكنا يلفه الظلام حول المستعمرة، ولعل جنودها كانوا يغطون في النوم، وفي تمام الساعة الثانية ليلا انطلقت جحافل الفدائيين من مركز الرئاسة ليبتلعها ظلام الليل لتلتقي في مناطق مختلفة من قمم الجبال المحيطة بالمستعمرة، وكانت الإشارة الضوئية هي نقطة البدء.

زحف المجاهدون عندما انطلقت تلك الإشارة، وعلى بعد أمتار من المستعمرة توقف الزاحفون استعدادا للاقتحام، ثم دقت ساعة الكنيسة بعد منتصف الليل وبدأت المواقع ترسل حممها وتمزق حجب الليل المظلم من وهج القنابل المحرقة التي انقضت على المستعمرة لتدمر كل شيء فيها، وما هي إلا فسحة من الوقت حتى انتشرت الحرائق في أكشاكها الخشبية وتفجرت حقول الألغام التي لف بها العدو مستعمرته وتبعتها قنابل الدخان لتبدأ القوات زحفها تحت ستار كثيف من قنابل الهاون المتفجرة وقنابل الدخان.

واندفع المهاجمون يفجرون ما تبقى من الألغام تحت الإسلاك الشائكة ومن خلفهم فصائل الاقتحام تعبر بسرعة لتحتل الأغراض التي حددت لها عبر الخنادق والدشم، واستمات جنود الهاجاناه في الدفاع عن مستعمرتهم، وفي نفس الوقت بدأت المدفعية الثقيلة تصب نيرانها الشديدة على مستعمرة تل بيوت لتشل حركتها وتعزل قوتها عن قوة المهاجمين لمستعمرة رامات راحيل، في الوقت الذي استمر فيه الاشتباك من دشمة لدشمة عبر الخنادق والسراديب، وتسللت مجموعة التفجير ووضعوا ألغام البنجالور تحت برج المراقبة، وما هي إلا لحظات حتى هز دوي الانفجار المنطقة بأثرها وأثرت هذه الانفجارات المتوالية والقتال المستميت من دشمة إلى دشمة تأثيرا سيئا في نفوس المدافعين وأسقط في أيديهم وانهارت روحهم المعنوية فبدأوا في مغادرة المستعمرة إلى مستعمرة تل بيوت التي ترتبط برامات راحيل بطريق لا يتجاوز المائتي متر، وبعدها سقطت المستعمرة.

أخذ الإخوان يتجولون بين أبنية المستعمرة فهالهم ما رأوا من الخيرات والمؤن المكدسة حيث كانت هذه المستعمرة مركز التمويل الذي يشرف على المستعمرات الواقعة جنوب القدس إذ كان فيها الدقيق والأبقار والأوز والشيكولاته وكل ما يحتاجه الجندي من غذاء وترفيه.

ولقد وجد الإخوان تحت الردم ما يقرب من مائتي قتيل، فضلا عن القتلى الذين تمكن العدو من سحبهم، وقد حضرت قيادة الجيش الأردني وأصرت على استلام المستعمرة حيث تقع في نطاق الجهد العسكري الأردني وكان ذلك يتفق مع قيادة المتطوعين حيث كانت قواتنا موزعة من الحدود المصرية العصلوج إلى بيت لحم خط ميمنة الجيش المصري، قمنا بتسليم المستعمرة للجيش الأردني، ولكن اليهود لم يكن انسحابهم نهائيا ولم يكن من السهل أن يفرطوا في هذه المستعمرة التي تعتبر خط دفاع أولي عن القدس .. فتجمع اليهود واستجلبوا قوات كثيفة من القدس ليهاجموا المستعمرة ويحرروها من الأردنيين، فقامت طائراتهم بغارة جوية في اليوم التالي مباشرة لتكتشف الحالة وتحدث إقلاقا في صفوف الضيوف الجدد للمستعمرة، فألقت قنابلها على رامات راحيل ثم تجمعت القوات اليهودية من القدس الجديدة وعسكرت في تل بيوت.

وفي يوم 28 مايو هاجم اليهود المستعمرة بقوات كبيرة من كل جانب بحوالي خمسة آلاف جندي تؤيدها المدفعية الثقيلة والعربات المدرعة.

وبادرت قوة من الإخوان لمعاونة الجيش الأردني في الدفاع عن المستعمرة واستبسلت في الدفاع ورغم وقوع خسائر كبيرة بين صفوف المهاجمين اليهود إلا أنهم حسموا المعركة واقتحموا مستعمرتهم التي وجدوها كومة من الأتربة والأنقاض بعد أن دمر الإخوان كل شيء فيها بمعاونة الجيش الأردني وانسحبوا إلى مواقعهم في ماري إلياس وبيت لحم.

الهجوم على ماري إلياس

أراد اليهود أن يعززوا النصر، وفي ختام المعركة أرسلوا قوة من جنودهم هاجمت الجيش العربي الأردني في مقر قيادته في ماري إلياس، وقد اضطرته لإخلائه، وهذا الدير يقع على مقربة من صور باهر التي لها موقع متميز كمستعمرة رامات راحيل، وتشارك المستعمرين في التحكم في طريق بيت لحم القدس وجبل المكبر، فضلا عن احتلال اليهود لهذا الموقع يعتبر تهديدا مباشرا وخطيرا للقوات الخفيفة الحركة في بيت لحم، فكان من الضروري أن يتولى الإخوان علاج هذا الموقف، فاندفعت قوة مقاتلة فدائية تهاجم الموقع من كل مكان ودون هوادة حتى تم تطهير الموقع واسترداده وقتل جميع من فيه.

ورغم حشد اليهود الهائل في مستعمرة رامات راحيل فلم يجرءوا على مواصلة القتال لانتزاع هذا الموقع لعلمهم باستحالة استرداده في وجود هذه الأسود التي ترى الموت أسمى أمانيها.

الهجوم على مستعمرة تل بيوت

كان لهذه المستعمرة برج ضخم دأب الجنود على إطلاق النيران منه على القوات الموجودة في بيت لحم أو صور باهر مما أحدث كثيرا من الخسائر والأضرار، فكان من الضروري إزالة هذا البرج الضخم، فكلف القائمقام أحمد عبد العزيز الأخ حسين حجازي للقيام بالتعامل مع هذه المستعمرة وإزالة هذا البرج، فتقدم بقوة من الإخوان تعاونه قوة فلسطينية من جيش الجهاد المقدس قيادة الأخ جاد الله من سوريا، وفي 4 يونيو انطلقت جماعة المقاتلين من بيت لحم وأحيط انطلاقهم بتكتم شديد حتى أن القوة نفسها لم تكن تعلم حقيقة المهمة التي سيقومون بها إلا حين لمعت في السماء إشارة ضوئية وكان هذا إيذانا بعلاج البرج، فزحفت هذه المجموعة تغطيها المجموعة الفلسطينية في صمت رهيب حتى تمكنوا من وضع الألغام تحت هذا البرج الضخم في صمت رهيب حتى تمكنوا من وضع الألغام تحت هذا البرج الضخم وانسحبوا خارج المستعمرة، وما هي إلا لحظات حتى أعقبها انفجار هائل ارتجت له المدينة وسقط البرج في صورة أحجار متناثرة في الهواء ليصنع من تراكمه قبرا لهؤلاء الذين كانوا يحتلونه من رجال الهاجاناه.

وفي الليل تسلل الأخ ومعه أربعة من زملائه زحفا على الأشواك تحت النيران التي أطلقها اليهود في كل اتجاه، وظلوا كذلك حتى قرب الفجر حين سمعوا انفجارا آخر مدويا مدمرا ثلاثة حصون من تل بيوت.

وانسحب الأخ حسين إلى صور باهر ليتلقى تهاني إخوانه المقاتلين، وقد نشر هذا التحقيق في الدعوة ورواه المقاتلان حسن الجمل ومحمد عبد النبي وآخرون.

معركة صور باهر

بعدما استرد اليهود أنفاسهم واستمر الهدوء يخيم على المواقع كانت مواقعنا لا تكف عن الحركة وهي مسلحة بالرشاشات الثقيلة ومدافع الفيكرز والبويز والبنادق العادية وفرق الكوماندوز للتفجير، وكانت على أهبة الاستعداد بصفة مستمرة، وكانت كافة المواقع مجهزة بالتليفونات ومتصلة لاسلكيا بقائد الكتيبة النقيب محمود عبده.

كانت قرية صور باهر شبيهة تماما – في حصونها ودشمها وسراديبها والخنادق التي تصل إلى مكان الإعاشة وتربطها بالمواقع المتقدمة للدفاع وحفرت أيضا في أرض صخرية – المستعمرات الصهيونية في دفاعاتها.

وفي ليلة العاشر من يونيو قام الإسرائيليون بالهجوم على مواقعنا لمدة 48 ساعة فقمنا بالرد عليهم، ولم يكن يفصلنا عن مستعمرة رامات راحيل غير ثلاثين مترا، وكنت أقود أحد هذه الجماعات في الموقع، ولم يكن لدينا من الأسلحة الأتوماتيكية سوى القليل فكنت أحركها من مكان لآخر لإيهام الإسرائيليين بكثافة التسليح وقمنا بالتصدي للهجوم.

وقد تمت إبادة جميع القوات التي حاولت التقدم صوب صور باهر، وانتهى الهجوم بالفشل التام دون أن يتقدموا خطوة واحدة أو يحتلوا موقعا من مواقعنا، وقد تعاونت معنا المدفعية متوسطة المدى من بيت لحم وقامت بدور نشط ومؤثر في هذه المعركة التي استمرت يومين كاملين.

معركة عسلوج

بينما كان الجيش المصري متمركزا ومنتشرا بين رفح وأسدود والفالوجا شرقي البحر الأبيض، ترك القائد أحمد عبد العزيز قوة من الإخوان المسلمين متمركزة في منطقة غزة دير البلح منتشرة في عمق الصحراء تحيطها المستعمرات اليهودية من الجنوب الغربي وانطلق بالقوات الرئيسية إلى بئر سبع تاركا حامية فيها، ثم إلى الخليل وبيت لحم كما ذكرنا سابقا، وكان من الضروري أن تكون هناك قوة أخرى تتمركز في قرية العسلوج وهي قرية صغيرة وسط الطريق الرئيسي العوجة عسلوج بئر سبع الخليل بيت لحم، والقدس على بعد نحو 40 كم من بئر سبع وتسيطر على الطريق الرئيسي المرصوف وتشرف عليه من خلال عدة (تبات) تحيط بالقرية.

وللإخوان المسلمين مع هذه القرية تاريخ: فقد استشهد فيها ثلاثة من أبر الإخوان هم: الشهيد عبد الوهاب البتانوبي الطالب بمعهد طنطا الديني، الشهيد محمود حامد ماهر، الشهيد رشاد محمد زكي، وبتر الساعد الأيمن للأخ سيد شحاتة.

حين استولى عليها اليهود عدوا في أول يوم من أيام الهدنة، واشترك في تحريرها واستردادها فصيلة من متطوعي الإخوان بقيادة الأخ يحيى عبد الحليم الذي يروي لك قصة معركة عسلوج وهي من كتابه الصغير الذي أصدره وكان معي ضمن الكتيبة، وقد قمت بالتصرف اليسير فيما كتب، حيث قمت بتلخيص وإضافة بعض المعلومات التي غابت عنه وقد استأذنته في ذلك، وأنا لم أشارك في هذه المعركة فقد أنزلني القائد محمود عبده مرتين وذهب 19 فردا بدلا من عشرين.

سقوط العسلوج في أول يوم من الهدنة الأولى

قبل أن نتحدث عن سقوط القرية لا بد أن نذكر أن قائد القوات الخفيفة البكباشي أحمد عبد العزيز – وكانت قواته كلها من متطوعي الإخوان إلا قليلا – وقد كلفت هذه القوة من قبل القيادة العامة بفلسطين باحتلال خط العوجة عسلوج بئر سبع الخليل لحماية ميمنة الجيش المصري المتمركز على المنطقة الساحلية رفح غزة أسدود ولحماية النقب ومحاصرة اليهود وطردهم من جنوب فلسطين، ولما كانت القوة قليلة العدد لا يمكن أن تحمي هذا الخط الطويل فقد اضطر القائد أحمد عبد العزيز أن يترك فصائل صغيرة لحماية القرى المتحكمة في هذا الطريق ومن أهمها قرية عسلوج التي كانت تشرف على الطريق الرئيسي المرصوف، وكان يقوم على قيادة ومراقبة تلك القرى والمواقع المسيطرة على الطريق من العوجة إلى العسلوج الأخ اليوزباشي عبد المنعم عبد الرؤوف (الذي حاصر قصر الملك بالأسكندرية وهو أحد مؤسسي حركة الجيش 1952 واشترك في ثورة 23 يوليو جنبا إلى جنب مع الذين قاموا بالانقلاب العسكري لتغيير نظام الحكم في البلاد)، ترك الأخ عبد المنعم معظم قواته بالعوجة لأنها كانت الحدود الفاصلة بين فلسطين مصر ومنها يمكن التقدم إلى أبو عجيلة بالإسماعيلية، قناة السويس، وهذا ما حدث في اندفاع القوات الإسرائيلية في عام 1967 للوصول إلى قناة السويس.

شهداء العسلوج الثلاثة

كانت القوة الصغيرة في العسلوج بقيادة الأخ الشهيد البتانوني، وقد انتهز اليهود الفرصة في أول يوم من الهدنة 18 من يوليو فهاجموها من كل جانب واحتلوا القرية وسقط الشهداء الثلاثة حيث لجأوا إلى مخزن الذخيرة عندما تيقنوا أن اليهود قد احتلوا القرية وكانت مخازنها مليئة بالأسلحة والذخائر، وانتبه المجاهدون وسمعوا أصوات العدو في داخل الموقع فتيقنوا من اجتياحهم للقرية، وقام الثلاثة بنسف المخازن لحظة اقتحام العدو لها واختبئوا خلف كومة من صناديق الذخيرة حتى يتحقق قتل أكبر قدر ممكن من العدو. وهنا كما يروي القائد الأخ يحيى عبد الحليم يقول: كانت الأوامر الصادرة إليهم أن يدعوا جنود العدو يدخلون المخازن حتى إذا امتلأت المخازن بأكبر عدد ممكن منهم يشعل الشهداء فتيل المتفجرات حتى يتحول البناء إلى أنقاض في لحظة واحدة، وقد حدث ذلك .. واستشهد الثلاثة وقتل عدد كبير من أفراد القوة المهاجمة.

احتلال اليهود للعسلوج

احتل اليهود القرية واتخذوا مواقع دفاعية فوق المرتفعات المواجهة للقرية وأحاطوها بأسلاك شائكة وبنوا عددا من الدشم حتى صارت موقعا حصينا لهم وأصبحوا متحكمين ومسيطرين على الطريق الرئيسي: العوجة بئر سبع، ولأهمية موقع القرية وتحكمها في الطريق وقربها من الحدود المصرية طلب رئيس هيئة أركان الحرب المصري من القائد العام بفلسطين ضرورة استردادها من اليهود بأي ثمن وأرسل مساعد مدير العمليات الحربية في فلسطين لهذه المهمة، فصدرت الأوامر إلى كتيبة من الجيش المصري بأسلحتها المساعدة مع سرب من سلاح الطيران المصري في 17/ 7/ 1948 للتحرك لمهاجمة عسلوج والاستيلاء عليها فوصلت إليها في صبيحة 18/ 7/ 1948 وأخذ سلاح الطيران في ضرب مواقع العدو ثم تلاه سلاح المدفعية، ولما جاء دور المشاة في احتلال القرية تعذر عليهم دخولها فاستنجدت القيادة العامة بقوات المتطوعين حيث اتصلت بالقائد أحمد عبد العزيز لإرسال قوة تقتحم القرية وتمهد لقوات الجيش، فاتصل بدوره بقائد كتيبة الإخوان الخاصة اليوزباشي محمود عبده بموقع صور باهر على مشارف القدس، ومما يذكر أن موقع صور باهر كان في حالة الطوارئ القصوى دائما نظرا لكثرة المستعمرات اليهودية حوله وتوقع هجوم مفاجئ من اليهود في أوائل الهدنة، ومع هذا صدرت الأوامر للأخ يحيى عبد الحليم باختيار فصيلة للقيام بمهمته فاختار عشرين رجلا.

تنافس المقاتلين للمشاركة

كانت مهمة الاختيار عسيرة، فالكل يبغي الشهادة أو النصر، وقد تجمهر الإخوان الذين هم احتياطيو القوة في الموقع المتأخر بقيادة الكتيبة واندفعوا إلى مكتب قائد القوة وكل منهم يريد أن ينال شرف الشهادة ويحصل على إحدى الحسنيين، وكان على رأس الملحين بشدة الأخ شرف الدين قاسم وكاتب هذه السطور وقد أنزله القائد مرتين من السيارة ونهره واندفعت القوة إلى عسلوج لتبدأ المهمة.

في يوم 17/ 7/ 1948 وبعد صدور الأمر إلينا بالتحرك، حمل كل منا سلاحه، وكنت أود عزيزي القارئ أن تعيش مع كل فرد من أفراد القوة لتتعرف عليهم وقد كسا النور وجوههم واليقين أفئدتهم، ليتك تعرف أسماءهم والتي سجلت في كتاب عند الله، لا يضل ربي ولا ينسى.

نزلت القوة إلى بيت لحم قيادة الصاغ أحمد حسن عبد المجيد والملازم أحمد فهمي من قوات الجيش المصري الذين تطوعوا مع فرق الفدائيين، وقد صدرت إلى هذه القوة الأوامر بحراسة مدفعية بيت لحم وقد أخبرت أن تلك المدافع ستصحبها في هذه المهمة، ثم علمنا بعد ذلك أن قوات الجيش التي كلفت بالاستيلاء على عسلوج قد أحرزت بعض التقدم فصدرت الأوامر بعودتنا إلى مواقعنا في صور باهر، وما كدنا نصل المواقع حتى جاءت إشارة عاجلة من القائد أحمد عبد العزيز يستدعينا للقائه، ذلك لأن قوات الجيش تعذر عليها اقتحام القرية، وكلفنا بإتمام هذا العمل وألقي على أكتافنا إنجاز هذا الأمر.

أحمد عبد العزيز ونابليون بونابرت

طلبت لمقابلة أحمد عبد العزيز: وأنا في طريقي لمكتب القائد فكرت كثيرا وذهب بي الفكر هنا وهناك، فسألت الله الثبات .. وقابلت القائد الذي حدثني باهتمام شديد، وشرح لي دقائق العملية بالتفصيل، كان اللقاء مملوءا بالحماس والإيمان وأتبعه بنصائح قيمة ومفيدة، كما شجعني بكلام طيب وأوصانا بالثبات عند اللقاء وأن النصر مع الصبر، كان لهذا القائد خصال تندر أن تجدها في قائد آخر، كان موهوبا ووطنيا ومخلصا، وكانت تتمثل فيه صفات وأخلاق القيادة الجادة، لقد كان في مقدوره أن يحول الهزيمة إلى معركة متكافئة عمليا، كما كان يحولها إلى نصر في نفوس الأفراد، لقد كان يتمتع بحبنا جميعا، ولم نكن نرضى عنه بديلا، وكنا نغفر له تهوره الشديد واندفاعه المميت بقواته نظرا لتحكمه في أية لحظة في تحويل دفة القتال نحو تدمير معنويات العدو وتحصيناته وإحداث الارتباك بين صفوفه، إنه كان يهاجم على الطريقة النابليونية، فتجده في كل مكان بقواته قاطعا خطوط مواصلات العدو أو مدمرا جزءا من إمداداته خاصة المؤن والذخائر أو مناوشا في أحيان أو داخلا في معارك فاصلة في أحيان أخرى.

إن عمل قواته لم يتوقف يوما منذ أول يوم دخل بها فلسطين وحتى آخر يوم حيث اعتقلت هذه القوات من متطوعي الإخوان في معسكر رفح للإقامة الجبرية (بعد حل جماعة الإخوان المسلمين).

مغادرة بيت لحم:

غادرنا مكتب القائد وركبنا السيارات، كان معنا الدكتور محمد غراب طبيب القوة، تحركت القوة على بركة الله وكان المسير ليلا، ووقفت العربات في الطريق قبل بئر سبع بحوالي أربعة كيلو مترات حيث صلينا المغرب والعشاء، ووصلنا إلى بئر سبع في غسق الليل، وقبل أن يتنفس الصبح – يستطرد الأخ يحيى عبد الحليم – تذكرت ما لنا من ذكريات في بئر سبع، ولاحت لي – في بهاء وجمال – صور شهداء بئر سبع ومرت في مخيلتي لمحات خاطفة للإخوة الأبرار الذين دفنوا في هذه الأرض الطيبة وأولهم بطل من أبر الأبطال وأطهرهم هو البطل الشهيد أنور الصبيحي الذي استشهد في مستعمرة بيت أيشل والأخ علي صبري من إخوان الأسكندرية والذي استشهد في موقعة المصفحات في الدقائق الأخيرة من المعركة، وكأنهما كانا على موعد في الجنة.

الشهيد علي صبري

دعني أيها القارئ أحدثك قليلا عن هذا الشهيد .. كان إنسانا يعيش لآخرته، هجر حياة الناس شأنه شأن كل من خرج مجاهدا في سبيل الله مؤمنا بدينه عازما على تحرير أرضه .. نعم هجر حياة الناس لنفسه، وهي حياة بعيدة كل البعد عن حياة الذين انغمسوا في شهواتهم وظلموا أنفسهم .. عاش لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجهه كالفجر المشرق المضيء، وكانت نفسه مطمئنة تشع بالخير والطهر تواقة إلى المثل الكامل والإخلاص المطلق في إرادة الخير والصدق، كان ظاهره كباطنه، يؤثر الأعمال على الأقوال، له إرادة ماضية لا تعرف اليأس، وله عقل كله ضياء ليس فيه ظلمة، لا يحل مكانا إلا ترك فيه أثرا حسنا، له روح تهفو للحب، كانت آخر خطواته على أرض بئر سبع ولكنها كانت صاعدة إلى السماء ولسان حاله يقول "وعجلت إليك ربي لترضى" .. هذا هو الشهيد، وهؤلاء هم الشهداء من عرفنا منهم ومن لم نعرف .. لبوا نداء الله في عالم الشهادة تزفهم الملائكة وهم أحياء عند ربهم يرزقون.

وبعد أن استرحنا قليلا وأدينا فريضة الصبح فجرا اجتمعنا باليوزباشي حسن فهمي عبد المجيد في الصباح، وركبنا السيارات حيث وصلنا إلى تلال عسلوج، وكان لا بد – بمشيئة الله وقوته – من إعادة القرية إلى أيدي أصحابها والثأر لإخواننا الشهداء، وكان لهذه المعركة حساسية خاصة، فكان لا بد أن نكسبها بأي ثمن، وقد وضعنا نصب أعيننا قول الصديق رضي الله عنه "احرص على الموت توهب لك الحياة".

وقبل أن نبدأ في الدخول في المعركة أحب أن أنقل إلى القارئ شهادة اللواء أحمد علي المواوي بك القائد العام الأول لحملة فلسطين، في قضية السيارة الجيب، بعد أن أقسم اليمين، وهذا نصها من دوسيه القضية:

س: عند دخول الجيوش النظامية أرض فلسطين بقيادتكم .. هل كان فيها متطوعون من الإخوان المسلمين.

ج: نعم .. لأنهم سبقوا بدخولهم القوات النظامية.

س: هل استعان الجيش النظامي ببعض الإخوان المسلمين لبعض العمليات الحربية أثناء الحرب كطلائع ودوريات.

ج: نعم .. استعنا بالإخوان المسلمين واستخدمناهم كقوة حقيقية تعمل على جانبنا الأيمن في الناحية الشرقية، وقد اشترك هؤلاء المتطوعون من الإخوان المسلمين في كثير من المواقع أثناء الحرب في فلسطين، وبالطبع كنا ننتفع بمثل هؤلاء في مثل هذه الظروف.

س: ما مدى الروح المعنوية بين الإخوان المسلمين؟

س: الواقع أن كل المتطوعين – إخوان وغيرهم – كانت روحهم المعنوية قوية جدا وقوية للغاية.

س: هل قام المتطوعون بعمليات نسف في صحراء النقب بطرق المواصلات وأنابيب المياه لفصل المستعمرات اليهودية؟

ج: نعم .. وأذكر أن هؤلاء الإخوان كانوا يقومون بدوريات ليلية يصلون فيها إلى النطاق الخارجي للمستعمرات اليهودية وسط هذه الأسلاك ويستعملونها في تلغيم الطرق الموصلة إلى المستعمرات اليهودية، وقد نتج عن هذه الأعمال خسائر لليهود وتقدم لي من جرائها مراقبو الهدنة يشكون من هذه الأعمال.

س: هل كلفتم المتطوعين بعمل عسكري خاص عند مهاجمتكم عسلوج؟

ج: نعم، عسلوج هذه بلدة تقع على الطريق الشرقي، واستولى عليها اليهود أول يوم من أيام الهدنة، ولهذه البلدة أهمية كبيرة جدا بالنسبة لخطوط المواصلات، وكانت رئاسة الجيش تهتم كل الاهتمام باسترجاع عسلوج بأي ثمن، فكانت الخطة التي رسمتها لاسترجاع البلدة هي الهجوم عليها من كلا الطرفين، فكلفت المرحوم أحمد عبد العزيز بإرسال قوة من الشرق من المتطوعين وكانت صغيرة بقيادة ملازم وأرسلت قوة كبيرة من الغرب تعاونها جميع الأسلحة ولكن القوة الصغيرة هي التي تمكنت من دخول القرية والاستيلاء عليها.

س: وكيف تغلبت القوة الصغيرة؟

ج: القوة الغربية كانت من الرديف، وضعفت روحهم المعنوية، بالرغم من وجود مدير العمليات الحربية بينها، إلا أن المسألة ليست ضابط، المسألة مسألة روح، إذا كانت الروح طيبة يمكن للضابط أن يعمل ما يشاء، ولكن إذا كانت الروح ميتة لا يمكن أن تفعل شيئا.

س: هل تعرف عدد المتطوعين من الإخوان المسلمين؟

ج: بلغ عدد المتطوعين من الإخوان ما يقرب من عشرة آلاف.

هذه شهادة القائد العام للقوات المصرية في فلسطين، وما كانت هذه القوة الصغيرة لتؤدي هذا العمل الجليل بقيادة الأخ يحيى عبد الحليم إلا بإيمانها المتكامل بالله تعالى وحرصها الشديد على جهاد العدو وإجلائه عن أرض المسلمين.

بعض صفات المجاهدين

إن جميع أفراد القوات التي اشتركت في حرب فلسطين كمتطوعين كانوا لا يخشون الموت، ومن هنا كان الله معهم والملائكة تقاتل في صفهم وبين أيديهم، إن الذي حدث في هذه المعركة والمعارك الأخرى الفضل الأول فيه لله – جل جلاله – هو حسبنا، عليه توكلنا ومنه استلهمنا العون "ولينصرن الله من ينصره".

ومن هنا كان على اليهود أن يفكروا طويلا قبل لقائهم بهذا النوع من المقاتلين، وقد عملوا منذ اللحظة الأولى أن يقبروا تلك الروح القتالية التي نمت بين شباب الأمة العربية الراغبين في قتال أبناء صهيون، ولقد فكر اليهود كثيرا في نتيجة هذه المعركة (عسلوج) نظرا لقلة عدد الأفراد المشتركين فيها، رغم أنه لم تكن لنا حرية اختيار الأرض التي دارت فوقها، فقد كانت أرضا مكشوفة ليس بها سواتر نحتمي بها ونتقدم منها، وكان العدو مستترا وراء دشمه المحصنة بالرغم من هذه العوامل التي هي في صالح العدو، كان لا بد من وضع خطة سريعة وخاطفة لتخطي هذه العقبات دون خسائر أو بأقل خسائر ممكنة، فحينما تكون الأرض منبسطة يتسنى للقوة القليلة العدد نتائج جيدة وتكون خسائرها ضئيلة نسبيا، فضلا عن تمتعها بسرعة الحركة ودوام الاتصال، ولا سيما إذا كان الخروج من هذه الساحة المحصورة ليس في يدها، إذ يصير التركيز على هذا العدو القليل الذي سيقع عليه عبء المواجهة الخطوة الأولى، فلا بد من إنهاء فترة اللقاء في قفزات سريعة متعرجة كالسهم وانبطاح المشاة حتى تقترب من الدشم التي تغطي المنطقة بمساحة من النيران.

يقول الأخ يحيى عبد الحليم: لقد اتضح لنا مهارة القيادة في إرسال قوة قليلة العدد ولكنها على درجة عالية من الكفاءة ولها من الإيمان وإرادة القتال ما يجعلها صادقة في النزال صابرة عند اللقاء حيث إن الكثرة العددية تكون خسائرها كبيرة خصوصا إذا كانت غير مدربة تدريبا كبيرا وغير مؤمنة بالهدف الذي تحارب من أجله، وهذه كانت مشكلة الجيوش العربية.

معنويات الأفراد

بالرغم من قلة عدد القوة وطبيعة المعركة حيث تدور في أرض مكشوفة كما ذكرنا، كان الأخ المسلم مقاتلا جسورا، ثابتا في المعركة صابرا في اللقاء، مدربا تدريبا عمليا على جميع أنواع الأسلحة، مع التخصص في بعض الأسلحة، كان ذلك دأب القوة كلها، كلهم حريصون على إحدى الحسنيين والصبر على القتال حتى آخر رمق.

أما عدوهم، وإن كان يقاتل بعقيدة العودة، فهو يأمل في البقاء والحياة، ومن هنا كان الفرق شاسعا بين الطرفين "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين" [البقرة: 249]

إن العمل الهجومي الناجح يعتمد على المبادأة وحرية الحركة وفرض الإرادة على العدو، والهجوم في حد ذاته يساعد على رفع الروح المعنوية للمهاجم، وكان أسلوب القائد العظيم خالد بن الوليد أن يبدأ بالفعل ويترك لعدوه رد الفعل، ووفقا لرأي أكثر رجال الحرب فإن الضربة الأولى تحقق أكثر من 50% من النصر، فإذا تمكن المهاجم من شل قوى العدو ومنعه من الضربة الثانية فقد تحقق النصر كله، وقد قال نابليون "لا تتخير الدفاع إلا في حالة عدم توفر ميزة المبادأة لديك، وإذا أجبرت على الدفاع فيجب أن يكون دفاعك لكسب الوقت وإخراج العدو من قاعدة عملياته، على أن يكون هدفك دائما: الهجوم".

وقد كان من أكبر أخطاء الجيوش العربية في حرب 1948 أنها التزمت تكتيكها الدفاعي دون الهجوم، فكانت الهزائم المتتالية التي منيت بها حتى خسرت الحرب سبعة جيوش عربية أمام العصابات الصهيونية، وقد كان الإمام الشهيد حسن البنا قد عارض وألح في عدم دخول الجيوش العربية فلسطين وأوصى بترك الأمر لقوات المتطوعين.

معركة اقتحام قرية عسلوج لاستردادها

تهيأت القوة بقيادة الأخ يحيى عبد الحليم، وقام بتوزيع الواجبات على الأفراد وعرف كل منهم البدائل التي يمكن أن يتعامل بها مع العدو وقت المفاجأة، والحيز الذي يجب أن يتصرف فيه بحيث لا ينقطع الاتصال بينه وبين قائده في المعركة، كانت مجموعة القلب من الإخوة يحيى عبد الحليم والأخ عبد الكريم السيد والأخ محمد إسماعيل عبد النبي، وآخرين يمثلون مجموعة في الميمنة وأخرى في الميسرة، وجماعة تعزيز في الخلف تتابع التقدم وتراقب بدقة المجموعات الأمامية، وبعد دقائق بدأت المدفعية تدك مواقع العدو ودشمه، وتواصل الضرب وتوالي نزول دانات المدافع، ثم تبعتها قنابل الدخان، وهنا بدأ الهجوم، وتقدمت مجموعة القلب في سرعة مذهلة ولسان حالها يقول: "وعجلت إليك ربي لترضى" كان الشعور رهفا والحواس يقظة، ورصاص العدو يتساقط على القوة.

وفي هذا الجو الذي لا يشعر به إلا من كابد الحرب واصطلى بنارها تسللنا إلى المواقع، وقابلنا الذين كفروا زحفا تحت وابل من النيران ودانات مدافع الهاون التي تتساقط بجوارنا، كان جميع الأفراد في غاية من الشجاعة والثبات والإقدام يرمون بأنفسهم على الموت ابتغاء مرضاة الله، اندفع الأخ محمود إسماعيل عبد النبي إلى أولى الدشم وقام بتطهير الدشمة من جميع الأفراد، ثم تتابعت بقية المجموعات في اقتحام الدشم والمواقع حتى تم تطهيرها جميعا، كل ذلك تم في سرعة مدهشة، غير أنه بقيت تبتان على الطريق الرئيسي ما زالتا تواصلان ضرب النيران أملا في أن يتم إمدادهما بقوات يهودية فتسترد عسلوج مرة أخرى، ولكن القوة لم تمهلهم وتابعت تقدمها صوب الموقعين بعدما قامت بتنظيم جزء من قواتها في المواقع التي تم تطهيرها وكذلك الذين هربوا من السراديب إلى هاتين التبتين، وبهذا تم الاستيلاء على القرية تماما بعد الاستيلاء على التبتين واستولت القوات المهاجمة على سيارات ومعدات وأسلحة وعدد كبير من صناديق الذخيرة.

وقبل أن تنتهي المعركة أصييب قائد القوة الأخ يحيى عبد الحليم برصاصة في ساقه اليسرى عاقته عن التقدم أثناء تطهير هاتين التبتين.

وبعد انتهاء المعركة حمل الإخوان قائد القوة على نقالة وإذا بثلاث طائرات على علو منخفض يمطرون الموقع بوابل من الرصاص والقنابل، غير أن مدفعية الميدان طاردتها حتى هربت من سماء المعركة، وهنا صعد الأخ مصطفى المبلط على المئذنة رافعا صوته بالتكبير وكان هذا إيذانا بأن تندفع قوات الجيش مهللين مكبرين لكي يستلموا قرية عسلوج من الإخوان المسلمين، وعادت الفصيلة تحمل قائدها الجريح إلى مواقعها بعد أن قاموا بإسعافه في مستشفى بئر سبع .. ثم استأنفوا سيرهم إلى القيادة العامة في بيت لحم حيث العمل مرة أخرى في منطقة بيت لحم "القدس".

معركة خاطفة لموقع متقدم

في جبل المكبر للمستعمرات اليهودية – القدس كان هناك بيت ضخم يتكون من عدة طوابق ويقع على ربوة عالية في جبل المكبر، كان هذا البيت بمثابة نقطة متحركة لاكتشاف أي تحرك للقوات المتمركزة في صور باهر خشية الالتفاف من خلف حصون العدو وإحداث هجمات خلف خطوطه.

كان لا بد من تدمير هذا الحصن، وفي ليلة من ليالي يونيو وفي النصف الأول منه أصدر القائد محمود عبده أوامره إلى مجموعة من المقاتلين، أذكر منهم الأخ حلمي الفيومي والأخ عثمان عبد المجيد وآخرين: كان عليهم أن ينسفوا هذا البيت مع عدم اقترابهم من الموقع، ورغم نجاحهم في التسلل إليه إلا أن حراس هذا الموقع انتبهوا إلى الحركة وأطلقوا نيران أسلحتهم الأتوماتيكية على المجموعة المتسللة، وأمام كثافة النيران ووجودهم بين المستعمرتين: تل بيوت ورامات راحيل إلا أنهم فجروا عبوتهم قريبا من البيت فأحدثت دويا هائلا وانسحبوا إلى مواقعهم في صور باهر حاملين أحد إخوانهم المصابين وهو الأخ عثمان عبد المجيد بعد فشلهم في العملية.

الأخ أبو ستة المجاهد العنيد

اغتاظ القائد محمود عبده من هذا الفشل الذي لم يتعوده في أفراد كتيبته، فكلف مجموعة أخرى كان من بينهم الأخ أبو ستة المقاتل العنيد والأخ ضيف الله من إخوان سوريا مع آخرين تم انتقاؤهم من الكتيبة فردا فردا، وقد كلفوا بعدم العودة إلا بعد تدمير هذا الموقع .. مهما كانت الأسباب.

وفي جنح الظلام تحركت هذه المجموعة إلى هذا البيت الذي كان يضم نخبة من ضباط الهاجاناه، تقدموا حتى اقتحموا الموقع فعلا حيث لم يتصور العدو أن يعود هؤلاء الذين فشلوا بالأمس لتدمير موقعهم ليلا.

وعندما أحس العدو حاول علاج دخولهم إلى الموقع من الباب الخارجي فأطلق أحد الفدائيين رصاصة على الباب فانفتح على مصراعيه، ثم ألقوا بقنابلهم شديدة الانفجار والحارقة إلى داخل الموقع منسحبين مسافة تربو على العشرين مترا، ثم قاموا بتفجير الألغام التي زرعوها حول البيت فتحول البناء إلى رماد .. وانسحبوا قافلين إلى مواقعهم حاملين الشهيد الطيب الكريم ضيف الله السوري، الذي استشهد بعد أن دمر البيت تماما وتلاشى من الوجود.

حصار الفالوجا – وقوات المتطوعين

لم نشأ أن نتابع معارك الجيش الذي توقف عند أسدود بقواته، مع العلم أن جزءا من قوات الجيش المصري تربو على الأربعة الآلاف جندي كانت قد اتجهت من المجدل إلى عراق منشية وعراق سويدان المسماة بالفالوجا، وذلك أثناء تقدم القوات المصرية إلى أسدود واشتباكها مع المستعمرات اليهودية التي قامت بتطهيرها ونجحت في احتلالها، ومن هنا اتجهنا مع حركة المتطوعين من الإخوان المسلمين الذين بقوا منهم في منطقة غزة في النقب الجنوبي أو تلك التي اندفعت إلى الشمال الشرقي من النقب واحتلت بئر سبع ثم اتجهت شمالا إلى بيت لحم وجنوبا إلى الحدود المصرية بعسلوج – العوجة – رفح.

النقراشي يمنع دخول المجاهدين لفلسطين

أعلن المرشد العام للإخوان المسلمين عن دخول عشرة آلاف مقاتل من الإخوان، وانتدب لذلك المرحوم الصاغ محمود لبيب الذي كلف بتجهيز فرد واحد من كل شعبة من شعب الإخوان، فجن جنون الاستعمار، الذي دفع النقراشي إلى الحيلولة دون إرسال تلك القوات الفدائية التي من الممكن أن تغير رحى الحرب في كل جنوب فلسطين بعدما لمسوا تلك الفدائية التي أوقفت جميع هجمات اليهود على الجيش المصري على جناحه الأيمن الشرقي طيلة فترة الحرب، كما تستطيع المستعمرات الجنوبية التي تقع بين غزة وبيت حانون شمالا وبيت أيشل في قلب النقب من أن تتجمع وتشكل أي تهديد لقوات الجيش المصري طيلة فترة الحرب كلها.

الجيش المصري وإضعافه عددا وذخيرة وتموينا

أما بالنسبة للجيش المصري الذي طالت خطوط مواصلاته وتركه اليهود يندفع بتلك الآلاف المحدودة إلى أسدود، ورغم ضآلة أسلحته من ناحية التأثير وقوة النيران التي يملكها مقارنة بالعدو، إلا أن الجيش كان يتمتع بروح عالية جدا .. وقد بدا ذلك في مستعمرتي دير سنيد ونيتانيم عندما قام باحتلالهما.

وكما فعلت القيادة السياسية في مصر مع المتطوعين، @@ لم تحاول أن تمد الجيش بمزيد من المقاتلين بما يغطي حجم هذه المساحة الشاسعة التي تبدأ من قاعدة التموين في رفح وما يلزمها من الحراسة والعتاد إلى تلك الخطوط التي وصلت قبل تل أبيب بثلاثين كيلو مترا فقط، ومع طول القوات المصرية وطول خطوط الجناح الشرقي الأيمن للقوات المصرية من المتطوعين، فقد أصبح على قوة المتطوعين أن تمنع فقط أية تجمعات يهودية للانقضاض على ميمنة الجيش المصري ... ورغم حجم المتطوعين الضئيل إلا أنهم بحمد الله استطاعوا أن يحققوا الهدف الذي كلفوا به لمنع محاولات العدو المستمرة في تقطيع خطوط مواصلاته، إلا أن العدو قد نجح في احتلال بئر سبع التي تسلمها الليبيون من الكتيبة التي كان يقودها الأخ محمود عبده أثناء الهدنة 22/ 9/ 1948، وبالتالي فقد تجمد الجيش مكانه فتجمعت القوات اليهودية من مستعمرات شمال النقب، رخابوت وما بعدها، وهاجمت الجيش المصري بكثافة شديدة وقد أجبرته على التقهقر إلى بيت حانون على مشارف غزة، أي انسحب من أسدود والمجدل، وعلينا – قبل أن نسرد تطورات معارك جنوب النقب التي انتهت بمعركتين كبيرتين هما معركة التبة 86 ومعركة العوجة العريش – أن نشير أولا إلى ما تم في جنوب القدس، وما وقع من مناوشات ومعارك في جبل المكبر، وقيام تلك القوات بتمويل قوات الفالوجا مرتين بالمؤن والذخائر، وذلك قبل أن ننتقل إلى معارك الجنوب.

مناوشات جبل المكبر ومعركة جبل المكبر قبل الهدنة الأخيرة

روى لي الأخ حلمي الفيومي تفاصيل هذه المعركة قال: كان هناك موقع قريب من مستشفى (هداسا) يقع على مشارف مستعمرة يهودية جنوب القدس ويسيطر على الطريق الموصل بين صور باهر والقدس ويطل على جبل المكبر، كان علينا أن نحتله قبل تحقيق الهدنة الأخيرة، كان ذلك يوم 18 يوليو 1948، كلفني القائد محمود عبده – وكان معي الأخ عبد الكريم وآخر واثنان من الفلسطينيين (مجموعة أ) – باحتلال هذا البيت، وهذا البيت يحتله اليهود ليلا ويهجرونه نهارا، فقمنا بالتسلل إليه زحفا بين البساتين حيث قمنا بالسير في طرق متعرجة حول الوديان والسواتر الطبيعية لمدة ثلاث ساعات حتى وصلنا إليه ودخلناه فلم نجد به أحدا، فاحتللناه، وقمنا بوضع مدافع البرن والبنادق في المزاغل المعدة للإطلاق، كانت معنا ذخيرتنا من القنابل والرصاص، وفي الساعة الخامسة رأينا طابورا من الصهاينة يستلمون عشاءهم الواحد تلو الآخر.

وفي المستشفى لمحنا صالة للرقص عامرة بالراقصين والراقصات، كانت مهمتنا في الحقيقة ألا نطلق النار حيث كان على القيادة تدعيم هذا الموقع بإمدادات أخرى، في الوقت الذي قام فيه الأخ أبو ستة مع "مجموعة ب" باحتلال موقع آخر، وبهذين الموقعين نكون قد تحكمنا تحكما مطلقا في جبل المكبر، خاصة وأن الصليب الأحمر يريد أن يبقي كل فريق عند مواقعه، غير أنني لم أستطع أن أقنع رغبتي في تحقيق أكبر نصر، فأصدرت على الفور الأمر بإطلاق النيران من خلف الطابور ثم تبعنا الإطلاق من الأمام حتى لا ينجو أحد، وإن هي إلا لحظات حتى تحول هذا الطابور من الجند إلى قتلى ومصابين، وقبل أن يفيقوا من دهشتهم حولنا نيراننا إلى مستشفى (هداسا) حيث صالة الرقص وأحلنا حفلهم ومجونهم إلى مأتم حزين.

وعلى الفور سلطوا نيرانهم على الموقع فأسكتنا مدافعنا عمدا وفي نيتنا أمر آخر، ويواصل حلمي الفيومي كلامه فيقول: أوهمناهم بأننا قد قتلنا خاصة وأن جزءا من الموقع قد تهدم، وفي المساء ظن اليهود أننا قد قتلنا فعلا، كنا نرقبهم من المزاغل وقد رأيناهم وهم يوجهون دورياتهم إلى مواقعهم المختلفة على حافة جوانب المكبر من الجهة الغربية جنوب القدس العربية .. تركناهم حتى بدءوا الحركة في مجموعات مختلفة إلى حصونهم، ثم انتظرنا حتى اقتربت المجموعة المكلفة باحتلال البيت، وعلى بعد عشرة أمتار أمطرناهم بوابل من الرصاص فأرديناهم قتلى، ثم وجهنا نيران مدافعنا السريعة إلى تلك المجموعات المتحركة فأوقعنا بهم خسائر كبيرة ثم أسكتنا الضرب مرة أخرى، وانتظرنا، كان على اليهود أن يطهروا هذا الموقع الذي كنت فيه وإخواني، وعندما جن الليل بدأ انسحابنا إلى القيادة في صور باهر، خاصة وأن الذخيرة قد أوشكت على الانتهاء ... وقد ثار قائد صور باهر على هذا التصرف لأنه أفسد الخطة لاحتلال الموقع.

معركة جبل المكبر:

يقع جبل المكبر إلى الجنوب الشرقي من القدس العربية، وهو مرتفع منيع منحدر إلى واد فسيح يصل مستعمرات اليهود التي تعتبر خط دفاع أول عن القدس اليهودية، ويستطيع من يحتله أن يهيمن على القدس كلها ويقطع الطريق الذي يصلها بعمان، فوق أنه يتحكم في انطلاق قوات المتطوعين التي ترابط في بيت لحم وما حولها وكنا نحن في صور باهر التي تقع في الطرف الجنوبي لهذا الجبل، وفي يوم 18/ 7 كان القائد محمود عبده يسير مع مجموعة من المقاتلين للتفتيش على المواقع، وعندما وصلنا، إلى موقع أبو ستة الذي احتله الإخوان ليثبت أحقيتنا في الوجود قبل الهدنة، أمر القائد بإطلاق طلقة مضيئة وإلقاء قنبلة إيطالية سوستة رومانية والتي تحدث دويا هائلا دون خسائر.

وعندما أضاءت القنبلة السماء .. إذا بالقائد يرى فجأة طوابير ضخمة تتقدم صامتة حول الموقع لاحتلال صور باهر وطرد الإخوان منها.

كان على القائد أن يلقنهم درسا لا ينسونه إذ لم يكن من الممكن التفريط في جبل المكبر وصور باهر، لأن هذا يعني أن يلقي بقوات المتطوعين خارج الحدود المصرية إلى رفح .. هذا إذا نجوا من التقتيل والأسر، وإن حدث هذا فإنهم يحملون في تاريخهم العار لدينهم ولأمتهم.

كان لا بد لهذه المعركة أن تسير إلى أعلى صورة من صور الفدائية، كانت قوات اليهود تربو على عدة آلاف، حشودهم كانت ضخمة لم يتعودها الإخوان طيلة الحرب .. وعندما فطن القائد وظهر له جليا أن خطة اليهود واضحة تماما في تدمير قوات المتطوعين وإجلائهم عن صور باهر وبيت لحم قرر من جانبه إبادة هذه القوات مهما كان حجمها وتلقينهم درسا لا يزالون يحفظونه عن الإخوان طالما بقي الإخوان في ساحة المعركة.

وحين بدأ القائد يتحرك بقواته من صور باهر، كان الرصاص يتساقط من قمة الجبل، في اللحظة التي كان يخبر فيها القيادة في بيت لحم بأن طلائع العدو قد اشتبكت مع المواقع الأمامية للجبل، فقامت المدفعية بصب نيرانها بكثافة لم يسبق لها مثيل على مؤخرة العدو ومقدمته وأجنحته اليمنى واليسرى، في الوقت الذي ألقى فيه بمجموعة فدائية داخل صفوف العدو وكأنهم ضمن المقاتلين اليهود حيث كانوا يلقون بقنابلهم ويطلقون أسلحة مدافعهم الرشاشة وهم وسط تشكيلات العدو.

وفي الظلام الدامس أنار الله قلوبهم وقوى عزائمهم فصاروا يحصدون العدو حصدا غير عابئين بالنتيجة مما أحدث ذعرا ورعبا في صفوف العدو لا يدرون من أين سقط عليهم هذا الوبال، وقد لاحظ القائد أن العدو بدأ يدفع بأمواج متلاحقة من جنوده وعتاده وأنه يستميت في محاولة احتلال هذا الموقع، ويقذف بكتل هائلة من قواته لتحقيق الغرض، وكلما انكسرت موجة قذف بالأخرى، ول يكن هذا الأمر عجيبا، فالقدس اليهودية على مقربة منه وهي تموج بعشرات الألوف من المقاتلين ولكن كان على القيادة أن تلقي بكل ثقلها في هذه المعركة الفاصلة، فبادر القائد بالتصرف السريع فأدار جزءا من قواته إلى اليمين على الطريق الذي يستخدمه العدو في تحركاته ليمنع وصول القوافل التي تتحرك صوب المعركة، وفي نفس اللحظة أصدر الأمر للمدافعين عن الجبل بالانسحاب إلى الخلف انسحابا تكتيكيا، فظن اليهود أن المقاومة قد انتهت فاندفعت قواته لتحتل الجبل، وهنا كانت الواقعة، حيث ركزت المدفعية الثقيلة جحيمها من النيران وكذلك جميع الأسلحة والمفرقعات وإلقاء مواد ناسفة مشتعلة على جموع المهاجمين .. مما أشعل الجبل وحوله إلى قطعة من الجحيم لا ترى فيها إلى الموت.

هزيمة اليهود:

وعندما استحال على اليهود تقدمهم إلى الموقع فطنوا إلى المصيدة التي وقعوا فيها، فإذا بهم يتراجعون إلى الخلف الأمر الذي أوقعهم في اشتباك مباشر مع تلك القوة التي دارت يمين الطريق ... فأصبحوا في قبضتهم وفشل احتلالهم للموقع وصور باهر، وفي نفس الوقت تقدمت قوات من المشاة وحاصرت قمة الجبل واشتبكت في قتال عنيف مع العدو حيث كان محصورا في أرض المعركة، وعندما حاول العدو التراجع إلى القدس بعدما استيأس من إمداده بالمؤن والعتاد والرجال .. لم تترك له قوات الإخوان الفرصة للتراجع وأبادت جزءا من هذه القوة المهاجمة، وتحول الجبل إلى ساحة الجثث القتلى، وبينما كانت المعركة تسير على هذا النحو إذا بأحد الإخوان الفلسطينيين واسمه خليل قد أصيب، كما أصيب القائد محمود عبده .. لكن استمر القتال بإرادة قواد الفصائل ومعهم مالك نار ويحيى عبد الحليم وغيرهم من الذين أداروا المعركة بمهارة .. إلى أن حضر الأخ لبيب الترجمان في نهاية المعركة وأشرف على نهايتها .. كان عدد القتلى من اليهود يربو على ثمانمائة قتيل، وفي اليوم التالي حاول العدو أن يقوم بالهجوم مرة أخرى على نفس المواقع أملا في احتلاله ورد اعتباره بعد هزيمته المنكرة بالأمس، غير أنه رد على أعقابه حاملا معه عددا لا بأس به بين قتيل وجريح وقد قمنا بحصاره، وعندما استيأس لجأ إلى دار الحكومة حيث رجال هيئة الأمم المتحدة الذين استعانوا بالبكباشي أحمد عبد العزيز والذي حضر على الفور لرفع الحصار عن تلك القوة التي حاصرناها، غير أنه أصر على احتلال موقع متقدم يشرف على دار الحكومة والحي اليهودي في القدس الجديدة .. فوافقوا على ذلك. وفي اليوم الثالث حاول اليهود أن يدفعوا بقوات كبيرة لاحتلال هذا الموقع غير أنهم ردوا على أعقابهم كذلك .. في خنوع وذلكة وانكسار.

وبعد انتهاء المعارك طلب الصليب الأحمر أن يحضر اليهود لأخذ قتلاهم من الأماكن التي تقع في نطاق مواقعنا وأن نحضر نحن أيضا لنأخذ شهداءنا فقلنا لهم ليس لنا شهداء عندكم ولكن عليكم أنتم أن تحضروا لتستلموا قتلاكم فوافقوا فحددنا الوقت والطريقة التي يأتون بها والعربات التي يأتون عليها بحيث تكون تابعة للصليب الأحمر، وأن يأتي اليهود بملابس العمال الحفارين، غير أنهم حضروا في غير الموعد الذي حدد لهم وفي سياراتهم رافعين علم الصليب الأحمر فتركناهم حتى دخلوا في مرمى نيراننا وقمنا بقتلهم جميعا، وأخذنا السيارات غنائم لنا.

وقد احتج الصليب الأحمر على ذلك ولكن القيادة أبانت للصليب الأحمر مخالفة اليهود للشروط التي اتفق عليها وكان لا بد من الحيطة واعتبارهم مقاتلين لا مسالمين، فجدد الصليب الأحمر الاتفاق والتزم اليهود بهذا الاتفاق وحضروا لنقل قتلاهم.

الاحتفاظ برءوس اليهود

كان اليهود عند انسحابهم من المعركة يربطون القتلى في حبال، الواحد تلو الآخر، وكنا نعلم عنهم ذلك، فقام الفدائيون الذين قذفوا بأنفسهم في صفوفهم وقت مهاجمتهم الجبل بتقطيع تلك الحبال، وهذا هو الذي أبقى عددا من قتلاهم في مواقعنا، غير أن الإخوان احتفظوا بعدد من رءوس قتلاهم ليلقنوهم درسا لا ينسونه عند التعامل مع الإخوان حيث سبق لهم أن مثلوا بجثثهم بالعسلوج، فأخذ الإخوان هذه الرءوس ورفعوها على السناكي في اليوم التالي مباشرة وذلك من المواقع في صور باهر التي توجه رامات راحيل ثم أخذوا يحركونها في المواقع فقام حراس مستعمرات رامات راحيل بإطلاق الرصاص على هذه الرءوس، كان الفدائيون يحركونها من موقع لآخر فظنها اليهود رءوسا للمقاتلين الأحياء، ونادينا عليهم حيث لم تكن مواقعهم تبعد عنا بأكثر من عشرة إلى ثلاثين مترا في مواجهة مستعمرتي رامات راحيل وتل بيوت .. نادينا عليهم نبلغهم بأسماء بعض زملائهم الذين كانت ميدالياتهم قد وقعت في أيدينا، وظن اليهود أن لدينا أسرى منهم فصاحوا: هل لديكم أسرى فقلنا لا، هذه رءوس لتلك الأسماء التي سمعتموها حتى لا تنسوا أن تمثلوا بجثث الإخوان مرة أخرى وألقينا بهذه الرءوس إلى مواقعهم.

ولم يحاول اليهود فيما بعد وطيلة الحرب كلها أن يمثلوا بجثة واحدة للإخوان، كما لم يحاولوا – ولو لمرة واحدة – أن يهاجموا هذا الجبل أو موقع صور باهر أو قوات بيت لحم .. إلى أن انسحب الفدائيون من متطوعي الإخوان بأمر من رئيس الحكومة المصرية النقراشي باشا.

استشهاد القائمقام أحمد عبد العزيز

تسلم السيد كمال الدين حسين الموقع – وحتى الآن لم نعرف تفسيرا لهذا التصرف وكان برتبة النقيب وهو أحد أعضاء مجلس الثورة فيما بعد، أما القائمقام أحمد عبد العزيز فقد أصر أن يذهب في هذه الليلة إلى الفالوجا فرحا بهذا النصر الذي تحقق .. وعبثا حاول زملاؤه منعه ولكنه أصر على ذلك، وما كان يدري أن منيته قد اقتربت وأن صفحة كفاحه – كأعظم قائد عسكري مصري في فلسطين – سوف تطوى في هذه الليلة.

ما كاد يصل البطل إلى مشارف الفالوجا حتى نادى أحد الحراس بكلمة سر الليل التي لم يسمعها القائد أحمد عبد العزيز .. وهنا كانت المفاجأة، لقد أطلق الجندي رصاصة على السيارة التي كان يستقلها أحمد عبد العزيز فأصابته في مقتل، فتوقفت العربة، وتوقف جسده عن النبض.

لقد كان بجواره صلاح سالم الذي نادى على الجندي بكلمة سر الليل .. ولكن بعد فوات الأوان .. وصعدت روحه الطيبة إلى ربها .. شهيدا مبرورا.

لقد نعته إذاعات العالم وأذاعت نبأ موته إذاعة العدو كأكفأ ضابط أنجبته القوات المصرية، لقد حيته الإذاعة الإسرائيلية وذكرت محاسنه في إدارة قواته وصمودها واستماتتها في الدفاع عن مواقعها، ورفع اسم أحمد عبد العزيز من السجلات العسكرية ليكتب في سجل الشهداء الصالحين .. وهم أحياء عند ربهم يرزقون.

القافلة الأولى: إمداد قوات الفالوجا بالمؤن والذخائر والطعام والأدوية

لقد بدأ اليهود حصار الفالوجا يوم 21 أكتوبر ولم يكتف اليهود بمحاصرة هذه القوات التي تشكل رأس حربة في منطقة النقب وتقف سدا منيعا في طريق تمويل المستعمرات، وإنما أمطرتها بوابل من المنشورات يطلبون التسليم، ورفض قائد القوات المصرية في الفالوجا اللواء سيد طه فكرة التسليم، والحقيقة التي لا تقبل جدالا في الحرب أن القائد عليه نصف النصر في صموده وقدرته على إدارة قواته، وتستكمل قواته في هذه الحالة النصف الآخر وهذا ما حدث مع قوات الفالوجا.

لقد كان لموقف سيد طه المشرف أثر كبير في رفع معنويات الجنود وصمودهم لمصاعب الحصار وتحملهم متاعبه، لقد اضطرت القوات المحاصرة أن تنقص من تعييناتها الغذائية اليومية حتى تتمكن من مواصلة الجهد لحين تمويلها، ولقد كان الشغل الشاغل للقيادة السياسية في مصر فك الحصار عن هذه القوات، لقد اتصلت القيادة بالملك عبد الله ليرتب عملية فك الحصار عن ثلث قوات الجيش المصري المحاصرة، وعلى ذلك أبلغ الملك عبد الله جلوب باشا الإنجليزي قائد الجيش الأردني لإنقاذ الجيش المصري في الفالوجا، وكانت خطة هذا القائد الإنجليزي المخادع أن يقوم الفيلق العربي الأردني بإشغال ومناوشة القوات اليهودية عند بيت جرين، وفي هذه الأثناء يقوم قائد الفالوجا بتدمير معداته الثقيلة ثم ينسحب هو وجنوده الأربعة آلاف متسللين على الأقدام من طرق سرية، وأن يتم هذا كله تحت إشراف ضباط إنجليز بقيادة الميجور لوكت قائد القوة الأردنية، ودخل الضباط الإنجليز فعلا المواقع المصرية وعرضوا خطتهم على قائد الفالوجا اللواء البطل سيد طه الذي لم يطمئن أبدا إلى هذا الشرك الخبيث من الإنجليز فاتصل باللواء أحمد فؤاد صادق الذي أبلغ بدوره رفض الخطة، والدفاع عن هذه المنطقة لآخر طلقة وآخر رجل، فقام اللواء سيد طه بطرد الضباط الإنجليز من معسكره، ولقد تأكد هذا الظن فيما بعد .. لقد اتفق جلوب مع اليهود على تدمير القوات المصرية وإلحاق العار بها عند انسحابها!!

فشل الجيش في إغاثة الفالوجا ... ونجاح الإخوان في الإغاثة

كان لا بد لهذه القوات أن تمون بالمعدات والمؤن والذخائر والأدوية بعد أن أصبح الموقف حرجا، لقد حاول الجيش المصري إمداد هذه القوات عن طريق الطيران ففشل، ثم حاول برا مرة أخرى عن طريق غزة فلم يتمكن من ذلك بسبب سيطرة اليهود على الطريق وتحكم قواتهم في منافذه، فاتصلت قيادة الجيش ببيت لحم حيث مقر القوات الخفيفة الحركة وكلفتها بضرورة اختراق الحصار بأي ثمن لإمداد الجيش المحاصر بالمؤن اللازمة، ورأت قيادة القوات الخفيفة الحركة أن خير من يقوم بهذا هم متطوعو الإخوان، فانتدبت مجموعة منهم في أحد أيام شهر نوفمبر أذكر منهم الأخ حسن الجمل ومحمود حسن ومحمد عبد النبي، وكان على رأسهم محمد عبد الغفار، لقد كلف البكباشي عبد الجواد طبالة الذي تولى القيادة بعد استشهاد القائمقام أحمد عبد العزيز هذه المجموعة كي تخترق الحصار بأي ثمن وقال لهم إن لكم أخوة يبلغ عددهم أربعة آلاف محاصرون كما تعلمون، والمهمة باختصار أنكم سوف تقومون بنقل المؤن والذخيرة إليهم في الفالوجا، فتقبلت المجموعة التي ذكرت أسماءهم هذا التكليف بفرح وارتياح بعد ما أضيف إليهم الأخ صلاح العطار وبعض الأعراب كأدلة.

القافلة من الظاهرية إلى الفالوجا

وفي اليوم التالي ركبت هذه المجموعة العربات من بيت لحم إلى الخليل ومن الخليل إلى الظاهرية حيث وجدت خمسة عشر جملا في انتظارها محملة بالمؤن والذخائر، كانت أسلحة خفيفة وأطعمة وأدوية، ثم تحركنا عبر طرق متعرجة قادنا إليها الأعراب بمهارة، كانت المسافة تبلغ خمسة وثمانين كيلو مترا، وكنا نخشى أن يكتشفنا اليهود، بالليل، ومع ذلك كاد اليهود أن يكتشفونا أكثر من مرة عن طريق كشافاتهم القوية التي كانوا يسلطونها في كل مكان من الطرق، ولكن مهارة الأدلة كانت تحول دائما بيننا وبين هؤلاء الذين يبحثون عن المتسللين.

ويجب الاعتراف بأن عم رضوان – وهو فلسطيني – كان له فضل كبير في هذه الرحلة، لقد كان يسير في طرق غير معروفة لليهود الذين كانوا حديثي عهد بهذه الأرض.

إن في الحرب أشياء لا يمكن أن تفهمها من أول وهلة، فهي لا تخضع لعقل أو تكتيك، فسر الحياة والموت بيد الله .. وما زلنا نسير في طريقنا إلى الفالوجا .. وفجأة اقتربنا من المكان وظننا أن جميع متاعبنا قد انتهت، وعلى مسافة بسيطة من مواقع جنود قوات الفالوجا توقفنا وأنخنا الجمال، وأنزلنا عنها حمولتها لتستريح وتركنا الأخ حسن الجمل في حراستها ودخلنا الفالوجا، وقام الأخ صلاح العطار ومحمد عبد النبي ودليلنا عم رضوان بالتقدم نحو الجنود للتفاهم مع قوات الحراسة ليسمحوا لنا بالدخول وكانوا يعرفون أننا سنأتي ولكننا وصلنا بعد الميعاد بأربع وعشرين ساعة، وما كدنا نتقدم حتى أطلق علينا الجنود وابلا من النيران فاستترنا بماكينة المياه القديمة داخل معسكر القوات المحاصرة، وبعد ثوان أطلق اليهود ردا على إطلاق النار من جانب الخطوط المصرية، واشتد إطلاق النار بين الجانبين، وكنا في خطر حيث أصبحنا بين شقي رحى .. وبعد أكثر من ساعة هدأت النيران فنادينا الجنود وأفهمناهم من نكون، وطلبوا منا واحدا يتقدم بدون سلاح رافعا يديه، فتقدم الأخ محمد عبد النبي، وفجأة صرخ الجنود: لقد دخلتم منطقة الألغام، يقول محمد عبد الغفار الذي رافق المجموعة المتقدمة: كانت لحظة رهيبة ولولا ستر الله لنسفنا نسفا بهذه الألغام، ولكن بحمد الله خرجنا سالمين ونحن نحاول أن نتجنب شراك الألغام الشخصية.

بين الإخوان واللواء سيد طه قائد جيش الفالوجا المحاصر

وعقب وصولنا إلى الموقع دخلنا مباشرة لمقابلة قائد الفالوجا اللواء سيد طه، وسلمناه رسالة من قائد المتطوعين فقرأها بإمعان ثم قام فقبلنا جميعا وأثنى على متطوعي الإخوان وقائدهم حسن البنا الذي قال عنه: لقد أحسن تربيتكم، ثم قال: لقد جئتم في الوقت المناسب، فنحن في أشد الحاجة إلى المؤن .. اذهبوا فورا لإحضارها.

خرجنا لاستجلاب القافلة التي تركناها.. وكانت أوامر اللواء طه بفتح ثغرة كبيرة في حقل الألغام وقطع السلك الشائك، وخرجنا نبحث عن القافلة، وهنا كانت المفاجأة المذهلة: لم نجد أثرا للجمال في المكان الذي تركت فيه وكان بحراستها الأخ حسن الجمل، وكدنا نجن، لقد ضاعت كل جهودنا هباء، وأخذنا نبحث في كل مكان ونحن في ذهول حتى كاد يأتي النهار، فعدنا إلى القوات المصرية ظنا منا أن قائد القوات سوف يغضب على هذه النتيجة، وكانت المفاجأة من هذا الرجل العظيم فقد استقبل الخبر هادئا وبنفس مطمئنة وقال: هذه إرادة الله.

حسن الجمل يعود بالقافلة

إنني أعتقد أن إيمان هذا الرجل وأعصابه الهادئة وسخريته من الموت هي التي جعلته بطل هذا الصمود التاريخي للقوات المصرية في فلسطين.

لقد اكتشفنا أن الأخ حسن الجمل عند تبادل اليهود لإطلاق النار مع قوات الجيش ثم تأخرنا عنه فترة داخل المعسكر جعلته يظن أننا وقعنا في الأسر أو استشهدنا، يقول الأخ حسن الجمل: لقد خفت أن تكتشف القافلة فكان لا بد من العودة على وجه السرعة وأنزلنا بقية المؤن من على ظهور الجمال وقمنا بعملية تمويه لها حتى لا يعثر عليها العدو وحددنا مواقعها ثم أسرعنا بالعودة ثانية حيث استضافنا في الطريق بعض الفلسطينيين في قرية السودة بالقرب من بئر سبع وقدموا لنا إفطارا ساخنا وكنا لم نتناول طعاما منذ فترة، ومن هناك رحلنا إلى قيادتنا في بيت لحم وأبلغناهم بما حدث، فاتصلت بقيادة الفالوجا حيث اطمأننت على زملائي وأخبرتهم بالموقع الذي تركنا فيه المؤن، وفي هذه الأثناء كلف اللواء سيد طه، محمد عبد النبي وزملاءه بالخروج من الفالوجا إلى المكان الذي فيه المؤن الذي حدده لنا حسن الجمل، ولكن اليهود قاموا في هذه الأثناء بغارة جوية عنيفة على القوات المحاصرة وصمد لها الجنود ولم تقع سوى خسائر طفيفة رغم شدة الغارة، وبعد أن قمنا بمهمتنا عدنا إلى داخل الخطوط المصرية وذهبنا إلى اللواء سيد طه لنجلس معه حتى يأتي الليل فنتمكن من الخروج من المعسكر دون أن يرانا أحد وأخبرناه بمكان المؤن والذخيرة.

السيد طه وعبد الناصر

يقول أحد الإخوان: عندما طرقنا الباب ودخلنا قال سيد طه: أنتم تدخلون علي فورا دون طرق، بابي مفتوح لكم ... وبكى .. وأخذنا نناقشه في الحصار فقال أنا مسلم وابن فلاح، ولا يمكن أن أفرط في هذه الأرض الإسلامية، فإما النصر وإما الشهادة، وسمح لنا بعد ذلك بالجلوس مع ضباطه، وكنا نلاحظ عليهم الإعياء الشديد، لقد كان من بينهم جمال عبد الناصر الذي أشاد ببطولة الإخوان في اختراقهم الخطوط اليهودية ووصولهم إلى الفالوجا، وسألونا عن المؤن الأخرى متى تصل، وكانت روحهم المعنوية عالية جدا، وحاولنا أن نخفف عنهم فذكرنا لهم بطولاتهم التي يتكلم عنها الجميع وردوا علينا بأنها من فضل الله ولولاه لهلكنا جميعا، وضربوا لنا مثلا بالغارة الجوية العنيفة التي حدثت أمس والتي لم تسبب مع ذلك خسائر تذكر، كنا نسامرهم في هذه الليلة عن القتال في فلسطين وعن جماعة الإخوان المسلمين وأهدافها وشرحنا لهم أن هدفنا هو تجديد أمر الدين في نفوس المسلمين حتى يمكنهم مواجهة أعداء الأمة، وفي هذا اليوم وبعد غروب الشمس استدعاني اللواء سيد طه أنا وزملائي وطلب منا أن نخرج مع عم رضوان لاكتشاف بعض مواقع اليهود واستحكاماتهم حول الفالوجا، وفعلت ما أمرني به وقد استمرت مهمتي حوالي ثلاث ساعات، عدنا بعد ذلك إلى المعسكر حيث رسمت للقائد رسما كروكيا لاستحكامات وتحصينات اليهود فأبدى دهشته من هذا الإتقان وقال بالحرف: لو أن البلد كلها مثلكم لهزمناهم بالتأكيد.

لقد خرج الأخ محمد إسماعيل مرة أخرى خارج الفالوجا ومعه زملاؤه إلى المكان الذي توجد فيه المؤن، وكانت المشكلة: كيف يمكن نقل هذه الإمدادات الكبيرة من المؤن دون ضجة ودون أن يكتشفه اليهود ذلك؟!.

قافلة فاشلة

وبينما نحن كذلك إذا بعشرة جمال بقيادة ضابط مصري قد أرسلته قيادتنا إلينا محملة بالمؤن وقال ارجعوا أنتم إلى بيت لحم فقد انتهت مهمتكم، وشرحنا له كيفية الدخول إلى الفالوجا ولكنه أصر على سلوك طريق آخر، وعدنا إلى بيت لحم تاركين تلك المؤن مكانها في الوقت الذي لم يستمع فيه الضابط إلى نصيحتنا، وإذ بنا نرى الضابط وقد عاد إلى بيت لحم بحمولته ولم يقم بنقل المؤن التي تركناها ضمن مهمته.

ولما كنا نرى أن هذه الرحلة إن كانت لم تحقق هدفها إلا أنها زادتنا معرفة بطبيعة الأرض والطرق المحيطة بالقوات المحاصرة مما حقق نجاح الرحلة الثانية في الوقت الذي لم يكتشف اليهود شيئا من مهمتنا .. وكان لا بد من مواصلة الرحلة الثانية حتى يمكن إمداد القوات بالمؤن وتوصيلها إلى القوات المصرية.

القافلة الثانية: لإمداد قوات الفالوجا المحاصرة بالمؤن والأسلحة

تحركت قوة – من الفدائيين المصريين والأردنيين – من الإخوان والأكراد والفلسطينيين – بقيادة الأخ اليوزباشي معروف الحضري، ومعهم ثلاثة وخمسون جملا، كل جمل يحمل صندوقين من المؤن، تحركت القافلة على بركة الله وقال القائد عبد الجواد طبالة: إذا لم تصل هذه القافلة والمؤن وكذلك المؤن التي أنزلتموها قريبا من مواقع الفالوجا فلن أعتبركم من الإخوان ولا حاجة لمصر بكم، فالمسلم الحق هو الذي ينجح في مهمته مهما كانت الصعاب، وانطلقت القافلة في ظلام الليل وسكونه ووقعت أول مفاجأة: لقد أخبرنا قائدنا معروف الحضري أن الطريق ليس آمنا وسنسلك طريقا آخر من عراق المنشية، وفعلا كنا نسير بالقرب من مستعمرات اليهود وهو يقول لنا ضاحكا إن اليهود لا يتصورون أننا سنمر من عندهم، لقد كنا نشاهدهم ونحن بين الوديان ونسمع ضجيج سياراتهم، لقد اهتم اليهود بمداخل الطرق ووضعوا عليها حراسة مشددة ولم يكن بوسعهم أن ينشروا قواتهم مبعثرة في الصحراء، ومن هنا كانت حكمة قائدنا بأن يسلك بنا طريقا يقع في مأمن منهم.

وصلنا إلى الخطوط المصرية ورأينا شجرا كثيفا من التين الشوكي ففتحنا فيه طريقا ودخلناه وقابلنا مجموعة من الضباط كان من بينهم جمال عبد الناصر الذي استقبل معروف الحضري بالأحضان، (ثم سجنه بعد ذلك في عام 1965 وأراه ألوانا من العذاب لانتمائه إلى جماعة الإخوان) وأخذ الجنود المصريون يفرغون المؤن ويهللون ويكبرون.

استقبلنا اللواء سيد طه وهو يقول إن فرحتنا بوصولكم لا توصف، إن الجميع يشعرون بأن عناية الله ترعانا وترعاكم، ثم قال استريحوا وسنتقابل غدا في الصباح، وأنتم مدعون على وليمة ممتازة، وتساءلنا جميعا: ماذا تكون هذه الوليمة؟ لأننا نعلم أن الجيش المحاصر يكاد يكون بلا مؤن أو طعام إلا الضروري، وكانت المفاجأة الكبرى: لقد ذبحوا عددا من الجمال ولم يتركوا إلا ثلاثة منهم فقط والفرحة تعلو وجوه الضباط والجنود وكأنهم في يوم عيد، لقد انقلب الحال وتوفر كل شيء للقوات، وذلك بفضل الله الذي يؤتيه من يشاء.

عبد الناصر ومعروف الحضري في الفالوجا

وعقب الغذاء استضاف جمال عبد الناصر كلا من معروف الحضري ومحمد عبد الغفار في حجرته وقال ضاحكا إننا لم نأكل لحما منذ فترة طويلة، ولعلنا غدا نكون أخوة كفاح، وقال إنكم تمثلون حقا أمة يجب أن تتحرر وإن الجيش سوف يزاملكم لتحرير مصر من العبودية والاستعمار .. لقد ترجم جمال عبد الناصر فعلا هذه الكلمات إلى عمل وقام الجيش والشعب في عام 1952 بالثورة، ولكنه غدر بالإخوان الذين عاونوه واحتضنوه، ولم يطل الحديث مع عبد الناصر حيث بدا أن اليهود قد شعروا أن هناك أمرا داخل الموقع فقاموا بأعنف هجوم بالطيران حاولوا من خلاله إحداث الذعر والهلع بين صفوف القوات المحاصرة، وما كان لهم أن يحققوا شيئا من هدفهم، ذلك أن القوات المصرية في الفالوجا امتنعت تماما من أن يتمكن منها العدو الصهيوني وهي في قلب النقب، وذلك لون من ألوان الرجولة والفداء، لقد أعلنت هذه القوة عن هويتها منذ البداية أنهم رجال مصر الأشداء الذين صمدوا حتى تحقق لهم الانسحاب بكامل أسلحتهم ومعداتهم بعد توقيع هدنة رودس وهم يرفعون رأس مصر عاليا ضاربين المثل لهؤلاء الذين خانوا قضيتهم سواء بضعفهم أو إدارتهم لمعركة فلسطين سياسيا أكثر منها عسكريا مما حقق هدف الصهيونية مرحليا.

العودة إلى القاهرة

عدت إلى القاهرة بعد هذه الفترة الحافلة بالمعارك – والحمد لله – ركبت السيارة من بيت لحم وركب معي الأخ حسن الجمل الذي كان عليه أن يسافر لمرضه المفاجئ والذي استدعى مغادرته أرض المعركة، عدت إلى أمي وأبي رحمة الله عليهما، وقد رأيت عليهما ألما ولوعة، ورغم أنهما لم ينكرا علي مهمتي إلا أنهما بحضوري قد أمسكا بتلابيبي وقالا لن تبرح مكانك ولن تعود إلى فلسطين.

قال أبي: لو أن كل واحد ذهب إلى فلسطين ستة أشهر وقاتل الجميع قتالكم كما نسمعه في الإذاعة لانتهينا من اليهود وها أنت قد قمت بالواجب وزيادة ولن أسمح لك بالعودة ثانية، وإذا عدت وأصبت فلن أزورك بالمستشفى وإذا مت فلن أنصب لك جنازة، فضحكت وقلت: يا أبي لا حاجة لي بجنازتكم هذه، وإذا تقبلني ربي شهيدا فسوف أشفع لك ولأمي.

أما والدتي فقد ذهبت إلى الإمام الشهيد حسن البنا وقصت عليه الحال بصدق وأمانة فوعدها بأن علي نعمان لن يعود ثانية وأضاف: نحن نرسل تباعا متطوعين من الإخوان إلى حرب اليهود، وفعلا استدعاني فضيلته وأمرني ألا أذهب إلى فلسطين وقال لي إن هناك أفواجا سوف تأخذ طريقها إلى أرض المعركة وسوف يكون فيهم من يحل محلك في القتال وسوف نجهز لك عملا كتابيا في إدارة جريدة الإخوان .. وعليك يا علي أن تطيع الأمر الذي صدر إليك.

بالطبع كان لفضيلة المرشد عين ثاقبة وهو المربي الأول لهذا الجيل، فقد لمح في عيني إصرارا على السفر، وبالتالي أعطى فضيلته أوامره إلى قيادة الإخوان بالإسماعيلية دون أن أعلم بمراقبتي ومنعي من السفر، حيث كان علي أن أركب القطار من هذه المدينة إلى فلسطين، وفعلا بعد أن مكثت فترة قصيرة غافلت أبواي وانطلقت إلى الإسماعيلية وكان لدي إحساس شديد بأن هناك أوامر لمنعي وخشيت المراقبة على المحطة فذهبت مباشرة إلى شعبة الإسماعيلية للتمويه حيث مكثت بها ثلاث ليال وقد أخبرت بمنعي ولكني تسللت منهم وانطلقت للقطار الذاهب إلى فلسطين، وركبته وهو المخصص للمحاربين، وهناك على مشارف خان يونس ودير البلح كان يقع معسكر البريج الذي يحتله الإخوان ومنه تنطلق المجموعات القتالية في صحراء النقب.

من هذا المعسكر انطلقت قوات الإخوان تتصدى لأكبر معركتين في تاريخ حرب فلسطين في تلك الجولة – التي توقفت الحرب بعدها عام 1949 وأخذت قضية فلسطين اتجاها آخر بعدما تبين للصهيونية أن هذا الطريق الذي سلكته الأمة العربية بدفعها للمتطوعين لمحاربة إسرائيل لا يمكن أن يؤدي إلا إلى تدمير إسرائيل.

وفي هذا المعسكر التقيت بالمرحوم الشهيد الشيخ محمد فرغلي الذي أعدمه عبد الناصر ضمن من أعدموا في عام 1954 والأخ كامل الشريف القائد العسكري للإخوان في هذه المنطقة والذي حكم عليه بخمسة وعشرين سنة سجنا ولكنه هرب إلى الأردن وتقلد منصب السكرتير العام للمؤتمر الإسلامي فترة طويلة وألف كتابا عن الإخوان في حرب فلسطين، قال لي فضيلة الشيخ فرغلي: عليك أن تمكث هنا لأننا بحاجة إليك خاصة وأن الهدنة تطبق الآن في القطاع الشمالي من الجبهة الجنوبية في بيت لحم وسوف نبلغ قيادتك في بيت لحم بوجودك ضمن قوات البريج، وسوف يحضر إن شاء الله فوج آخر للاشتراك في الحرب لأننا لا نتمسك هنا بالهدنة، وفعلا حضرت السرية بقيادة الأخ حسن دوح والتقيت بمجموعة من أحب إخواني وهم: فوزي فارس والشهيد علي الفيومي، والأخ عبد الرحمن البنان والمرحوم نجيب جويفل وسيد عيد يوسف وإسماعيل حافظ وسيد الشراقي وأبو الفتوح عفيفي وعبد المجيد أحمد حسن والأخ حسن عبد الغني وشقيقه أحمد عبد الغني الذي كان معي في صور باهر مقاتلا (هو الآن لواء أ. ح بالمعاش) والشيخ حافظ مصطفى خليل أيوب.

العمل في منطقة النقب

نعود مرة أخرى إلى العمليات في صحراء النقب وما وقع فيها من معارك بين القوات الصهيونية والقوات المصرية تساندها قوات المتطوعين من الإخوان المسلمين في معسكر البريج، حيث كان أكبر تجمع في منطقة النقب للإخوان يحتضن بين جنباته كتيبتين من الصفوف الأولى للجماعة وتشرف على قيادة هذا المعسكر قيادة روحية وأخرى عسكرية، كان فضيلة الشيخ الشهيد محمد فرغلي هو القائد الروحي للمعسكر، وتتكون القيادة العسكرية من الإخوة: كامل الشريف، نجيب جويفل، حسن دوح، فوزي فارس، سيد الشراقي، نصر جاد، وفوزي فارس كان قائدا لمجموعة الاستطلاع للعمليات العامة ونصر جاد للشئون الإدارية والمهمات، وكنت أحد قواد الفصائل وقائد المدفعية 81 مم وقائد ثاني المدرعات حيث أوفدتني القيادة العسكرية إلى معسكر التدريب برفح حيث مدرسة الضباط وعينت برتبة الملازم لتلك المهام، وعلى الفور قمت بتوزيع ثلاثة وعشرين مدرعة ومصفحة وسيارة في جميع المعسكر بعدما تم تمويه تلك المعدات.

هذه المصفحات والمدرعات اغتنمها الإخوان المقاتلون من اليهود وأنشئت حظيرة لإصلاح وصيانة تلك المعدات وإعداد الفنيين اللازمين لها، وكان يعمل معنا في مجال الصيانة فلسطينيون وأردني يدعى بهاء الدين، وكان على قائد المدرعات أن يقوم بترتيب وتجهيز تلك المعدات سواء فيما يتعلق بالإعاشة أو الشئون الإدارية أو الاشتراك بالقتال، وكان على قائد كل فصيلة أن يمكث بأحد المواقع شهرا كل ثلاثة شهور، وبالتالي كنت على اتصال من الموقع المتقدم الذي تحتله فصيلتي بالمعسكر لإدارة الحملة الميكانيكية فيما يتعلق بكل شيء في هذا المجال ... وسبحان الله العظيم، إذا اخترت الله أعطاك من فضله ما يشاء.

المستعمرات في هذه المنطقة

سبق وأن أشرنا إلى حزام المستعمرات التي أقامها اليهود من رفح على الحدود المصرية وهي الدنجور والمشبه وزمارة والعمارة وكفار ديروم وغيرها، وكان على المتطوعين أن يكونوا نشطين في هذه المنطقة التي يمكن فيها مهاجمة مدينة غزة وما حولها خاصة خان يونس التي تقترب من الشريط الساحلي للطريق العام الذي يربط بين رفح وغزة ويوازي منطقة العمران على جانبي الطريق.

كانت كفار ديروم شوكة تهدد مؤخرة الجيش وقد أزيلت عند تقدم القوات المصرية إلى أسدود، وكان على قوات المتطوعين أن تمنع أي تجمع لقوات العدو حتى لا يتكرر حصار الفالوجا وذلك بالهجمات المستمرة. وسوف نرى أن اليهود فعلا قاموا بمهاجمة خان يونس في معركة كبرى أطلق عليها اسم التبة 86 وقطعوا الطريق بين رفح ومدينة غزة وبالتالي عزلوا قوات الجيش بعضها عن بعض وقطعوا خطوط إمداداته لفترة لم تزد عن أربع وعشرين ساعة، وسوف يروي قتال التبة 86 في حينه.

مواقع الإخوان في جنوب النقب

كان هناك موقعان قد أقيما: التبة التركية وموقع المشبه، والتبة التركية عبارة عن جبل صخري ضخم في جنوب المنطقة التي تعمل فيها قواتنا ويتحكم في مستعمرتي زمارة والعمارة (تل جمة) وموقع المشبه يتحكم في مستعمرة المشبه وملحقاتها بالمنطقة مما يحرم قوات العدو من أية ميزة عسكرية. كان موقع الشيخ نوران أحد المواقع الأساسية التي يعمل فيها الإخوان، وقد أقمنا مخازن الذخيرة وحجرات الإعاشة في تلك الصخور وكانت تضاء بالبطاريات ليلا من الداخل، وهذه المواقع لا يمكن أن تنال منها أية مدفعية أو طيران مهما كان حجم ما يلقى من المتفجرات مما جعل قواتنا في مأمن كامل من أية هجمات للعدو الصهيوني، ولقد قامت تلك المواقع بحماية ظهر الجيش من أية حركة التفاف حول قواته طيلة فترة الحرب.

موقع المشبه

كنت بالموقع في شهر سبتمبر عام 1948 لإدارة المهام الموكلة إلي في مناوشة العدو وإقلاقه.

العملية (أ):

قمت بإرسال مجموعتين للاستطلاع وكذلك اصطحبت مجموعة من الأفراد للاستطلاع لمنطقة تجمع مواسير المياه التي تتدفق منها جميع توصيلات المياه إلى مناطق عمل المستعمرات المذكورة، وكذلك لزرع الألغام في طرق مواصلات العدو، ذهبت كل مجموعة من طريق غير الذي ذهبت منه الأخرى حتى يتسنى لنا رصد كل شيء بدقة، وبعد مراجعة المعلومات التي توافرت لدى قيادة الموقع قمت بقيادة مجموعة في حدود ستة أفراد من فصيلة إخوان حوض نجيح، وقبل بدء العمل توقفت وسألتهم جميعا عن رأيهم في الخطة بعد أن شرحتها لهم .. ثم بدأنا السير ليلا .. وكان علينا أن نقطع سبعة كيلو مترات داخل المنطقة اليهودية .. وبعد فترة معينة من السير خلعنا أحذيتنا جميعا ووضعناها في مكان معروف حتى لا نحدث صوتا .. وصدرت الأوامر بعدم العطس أو إحداث أي صوت مهما كانت الأسباب .. وفعلا وصلنا المكان، والحق أنني شخصيا شعرت بالوحشة والخوف .. وإن النفس لمتقلبة، وليس القتال كما نظن سهلا على الإنسان، ولكن الله يثبت من يشاء من عباده "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة" [إبراهيم: 27]. وأن لليل سكون وللجبال وحشة وسرعان ما تذكرت أننا جند الله، نسعى لأمره، وتخيلت الصحابة: كيف كانوا يجاهدون في سرايا متكررة للإغارة على كفار قريش وحلفائها .. فسرى في نفسي نور بدد ظلمتها وشعاع من اليقين ملأ كل جوانب نفسي .. وتحول المكان إلى شيء آخر .. وكأننا نسير في دنيا غير تلك التي يعرفها الناس، وحياة غير التي يألفها العباد "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".

وأمام المكان الذي هو مهمتنا قمت بنشر مجموعة من ثلاثة أفراد للمراقبة وثلاثة آخرين لزرع الألغام لنسف مجمع المياه، ومع اقتراب الفجر حيث ينام غالبية الجند أو يكونون في وضع لا يتوقعون فيه هجوما خاصة أنهم في عقر دارهم دوى صوت الانفجار الذي حول المنطقة إلى كم هائل من الدخان والأتربة، ثم انسحبنا جميعا في ظل هذا الدخان الكثيف .. دون أن نطلق طلقة واحدة حيث كانت هذه مهمتنا ... وعدنا جميعا إلى قواعدنا سالمين.

العملية (ب):

كنت بالموقع في يوم من أيام سبتمبر عام 1948، وإذا بمجموعة من الأعراب يأتون إلينا مهرولين يخبروننا بأن اليهود قد أغاروا عليهم وأخذوا ثلاثمائة رأس من الغنم، وبعد التحقق من معلوماتهم ومشاهدتنا لهذا الحدث بواسطة النظارة المكبرة أعلنت حالة الطوارئ القصوى في المعسكر مخافة أن يكون ذلك فخا لجنودنا، وعلى الفور استدعيت عددا من الإخوان لملاحقة هؤلاء اللصوص الغاصبين من الصهيونيين، ولما كنا على دراية بهذه المنطقة فلم يكن صعبا علينا أن نوقع بهؤلاء الهزيمة المنكرة.

وفعلا تمت ملاحقتهم بهجوم خاطف لم يستغرق نصف ساعة وتم استرداد الأغنام وقتل بعض من أغاروا، وفر الباقون يحملون قتلاهم، وقد اشتبك معنا في هذا القتال مجموعة من الهجانة المصرية الذين كانت مواقعهم قريبة منا، وأراد العربان أن يعطونا ثلاثة خراف من الخراف المصابة فرفضت وأخذنا ثلاثة خراف سليمة وأعطيناهم للهجانة هدية منا.

هذه الفترة كان معظمها متعلقا بالتعاون مع الشئون الإدارية والتنسيق معها بقيادة الأخ نصر جاد، فيما يخص الذخائر والمهمات والطعام والحراسة والتفتيش على المواقع والحركة فيما بين المعسكر وقوات الإخوان المنتشرة في المواقع وما حولها من منافذ الطرق .. وكنا نقوم بمناوشات العدو في مستعمراته، وكان لدي تدوين كامل بواسطة المدفعية 81 مم لبعض مواقع هذه المستعمرات، وكنا نرسل تحية الصباح والمساء من مدفعيتنا إلى هذه المواقع، وفي يوم من أيام أكتوبر قمنا بمناوشة العدو في مستعمرة المشبه لاستدراجه والدخول معه في معركة حيث قمنا بالتسلل إلى مواقع مستعمرة المشبه نهارا وبجرأة فائقة واشتبكنا مع حرس المستعمرة، وما لبثت المناوشات أن تحولت إلى معركة كبرى استدعينا على أثرها قوات الجيش التي حضرت بمعداتها وقواتها وقامت بالاشتراك معنا في معركة حامية غطت أثناءها سماء تلك المستعمرات سحب الدخان المنبعثة من مدفعية الجيش الثقيلة التي دكت بها جوانب المستعمرة مما دفع العدو إلى اللجوء إلى حصونهم ظنا أنهم قد أحيط بهم ولم يكن هدفنا احتلالها بل تدمير الجزء الأكبر منها.

وبعد أن أتممنا مهمتنا من إيقاع أكبر قدر من الخسائر في المباني والأفراد أسرعنا بالانسحاب، وكنا كما قلت، حريصين على إقلاق العدو بصفة مستمرة ووضعه في حالة توتر دائمة مما يجعله ينسحب وهو فاقد السيطرة على التكتيك السليم بالنسبة لعمل قواته ... وهكذا نجحنا في إقامة سجن كبير لتلك القوات في المنطقة الجنوبية التي تقع ما بين رفح وغزة وجزء من صحراء النقب إلى بئر سبع .. وقام بسحب القوات كل من فوزي فارس وسيد عيد يوسف وكاتب هذه السطور .. وعدنا إلى قواعدنا دون خسائر والحمد لله.

حل جماعة الإخوان، والأمر بانسحاب قواتهم واعتقالهم

في يوم 8/ 12/ 1948 صدر الأمر بحل جماعة الإخوان في مصر وأصدر القائد العام للجيش المصري في فلسطين اللواء فؤاد صادق أمرا إلى جميع قواد الإخوان والسرايا والفصائل للحضور إلى معسكر البريج، وقد سبق هذا الأمر مقابلة بعض كبار ضباط الجيش، واجتمع كل من كان بالمعسكر من جنود الاحتياط وجميع القوات في مسجد المعسكر، ووقف اللواء فؤاد صادق خطيبا فقال: إن الأوامر صدرت إلينا من القاهرة باعتقال جميع الأفراد سواء من كانوا بالمعسكر أو في المواقع، على أن يستخدم الجيش الأسلحة والدبابات لتنفيذ هذا الأمر، غير أنني لا يمكن أن أفعل ذلك لأني أعلم جيدا أن تلك القوة قاتلت قتال الرجال وفاقت في قتالها تلك القوات التي تمتلك الأسلحة والعتاد .. فأنتم قد شرفتم بلادكم وأمتكم ووضعتم بصماتكم في التاريخ العسكري لقتال المصريين المتطوعين في فلسطين، وأضاف: إذا عرض ابني في السوق للبيع وعرض هذا الأخ – وأشار إلى إسماعيل حافظ الذي لم تكن سنه قد تجاوزت السبعة عشرة عاما – لاشتريت هذا الأخ، وإنني أدعوكم إلى انسحاب جميع قواتكم من جميع المواقع إلى المعسكر وستكونون أحرارا في تحركاتكم للترفيه عن أنفسكم، وقد نحتاجكم إذا حدث قتال .. واستمر الاعتقال لمدة سنة في رفح ثم العريش .. حتى زوال حكم السعديين.

كلمة قائد الإخوان:

ثم قام الأخ كامل الشريف قائد الإخوان فقال:

أولا: نرحب بزيارة القائد العام الذي كنا نود أن نراه زائرا في غير هذه الظروف.

ثانيا: ما كنا نود أن نسمع ذلك التهديد الذي بدا في كلمة القائد العام، وهو يعلم جيدا أن الذين قاتلوا اليهود في نصف أرض فلسطين وأمنوا تقدم الجيش وقاموا بكل ما هو مطلوب سواء في الفالوجا أو على مشارف القدس أو في المنطقة الجنوبية كلها .. لن يكونوا جبناء في الدفاع عن أنفسهم ومقاتلة الذين يغدرون بهم .. وهم في هذا الأمر لا يهابون شيئا.

ثالثا: إن انسحاب الإخوان من مواقعهم قد يكلف القوات المصرية ثمنا باهظا وذلك باحتلال تلك المواقع ومنها سوف تنطلق القوات اليهودية لمحاربة الجيش المصري، وكنا نود ألا يكون هناك دخل للسياسيين في أرض المعركة، بل يسعدني ويشرفني أن أخبر القائد العام أن المرشد العام الأستاذ حسن البنا أرسل إلينا رسالة شفهية مع رسول قد حضر إلينا وأمرنا بالاستمرار في القتال دون الالتفات إلى ما يجري في مصر للإخوان.

وقام الأخ حسن دوح فأكد ما قاله القائد كامل الشريف، فرد القائد العام بالشكر، وقال: أرجو أن تقدروا موقفي مع القيادة العليا في مصر وتنفذوا أمر الانسحاب وإنني أدرك الخسارة التي سوف تنجم عن إخلائكم لتلك المواقع، ولكن دعوني أدبر الأمر باعتباري القائد العام بفلسطين وما عليكم إلا الانسحاب.

وانتهى المؤتمر الصغير، واجتمعت قيادة الإخوان للتشاور، خاصة أن المرشد العام حسن البنا قد أرسل رسالة شفهية قال فيها: احذروا ألا تؤدوا أمانة القتال التي وضعها الله في أعناقكم دفاعا عن دين الله في أرض فلسطين التي يريد أن يغتصبها اليهود ويجلوا عنها أهلها عرب فلسطين.

وعلى ضوء هذه الأحداث قررت القيادة تنفيذ أمر الانسحاب حقنا للدماء ونزولا على أوامر القائد العام الذي لا يحق لنا مخالفة أمره لأن القوات المصرية هي التي تقوم بعملية الإمدادات عموما سواء كانت أغذية أو معدات أو ذخائر وما إلى ذلك، وتم الانسحاب من كافة المواقع سالفة الذكر في المنطقة الجنوبية من صحراء النقب.

احتلال مواقع الإخوان

في نفس الليلة التي انسحب فيها الإخوان من كافة المواقع الحصينة التي حالت بصفة مستمرة دون أن تجمع قوات العدو لحماية ظهر القوات المصرية المتمركزة في المنطقة الجنوبية من صحراء النقب، احتل اليهود كافة المواقع سالفة الذكر، ولم يمر أسبوع حتى تجمع العدو في حشد هائل لقواته وألقى بها في معركة كبيرة، تلك هي معركة التبة 86 وسيطروا على مساحة تربو على 700 كم مربع دون قتال ومنها انطلق العمل ضد القوات المصرية.

معركة التبة 86

يقع هذا الموقع في مواجهة قرية خان يونس التي تقع على الطريق الرئيسي الذي يربط رفح بمدينة قطاع غزة وتقع المدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.

الخطة اليهودية:

هي احتلال مواقع التبة 86 ومنها تندفع القوات الصهيونية لاحتلال خان يونس وتتجه شمالا إلى غزة وبيت حانون، ثم إلى دير البلح ومعسكرات الفدائيين جنوبا وفي اتجاه رفح لتمشيط كافة المواقع الموجودة في هذه المنطقة للجيش، وبهذا تتم محاصرة القوات المصرية التي سوف تصبح متناثرة وليس لها خطوط إمدادات وبالتالي تجبر ما تبقى من هذه القوات على إخلاء كل مواقعها والانسحاب من الفالوجا المحاصرة والتي قام الإخوان بإمدادها بالمؤن والذخائر والمواد الطبية وغيرها من مواد الإعاشة، وفي هذه الحالة فلن يكون أمام هذه القوات إلا التسليم بدون قيد أو شرط .. وإلا التدمير.

الجيش يستعين بالإخوان وهم رهن الاعتقال

في يوم 21 ديسمبر 48 حضر إلى معسكر البريج لفيف من كبار ضباط الجيش المصري في فلسطين على رأسهم أركان حرب القوات اللواء نعمت واللواء محمود رأفت وقالوا لنا: إن قتالا شديدا قد وقع على القوات المصرية المرابطة في التبة 86 في مقابل خان يونس، وإن هناك أمواجا من الإسرائيليين يلقى بهم في أتون المعركة لاحتلال مواقع التبة.

وأضافوا: ونحن بدورنا نشترك الآن بقوات ضخمة من الجيش في هذه المعركة، وإذا قدر واحتلت هذه التبة فلن يكون للجيش بقاء في فلسطين، وعلى قيادة الإخوان أن تجهز قوة ضاربة قد نحتاجها في اللحظات الأخيرة إن لم نوفق في الاحتفاظ بمواقعنا.

واستطرد الضباط: لقد عرفنا أنكم لا تهابون الموت في سبيل الله، وليس هناك أقدر منكم على اقتحام المواقع والالتحام مع هؤلاء الخبثاء، وهذا أملنا فيكم إن شاء الله، ثم انصرفوا.

الاستعداد للمعركة

صدر الأمر من الأخ كامل الشريف قائد القوة إلى جميع القواد: حسن دوح، فوزي فارس، ونصر جاد، وسيد الشراقي، بالاستعداد لخوض معركة التبة 86 الفاصلة، وقامت القيادة بتجهيز خمسة وأربعين رجلا من خيرة المقاتلين ولا تعجب إن كنا نقاتل اليهود بأعداد قليلة فإنها تصبح في أعينهم كثيرة بإذن الله، وفور انتهاء إعداد هذه القوة حضر إلينا الضباط الذين سبق ذكرهم وطلبوا منا التحرك نحو دير البلح حيث الموقع على وشك السقوط من أيدي القوات المصرية، وتحركت هذه القوة إلى دير البلح بالأسلحة الأتوماتيكية وبنادق البويز المضادة للمصفحات وستة مدافع 81 مم، وهناك في دير البلح قبعت القوات في سياراتها على أمل إنهاء المعركة بقوات الجيش المصري، وبزغ نور الفجر وصلينا في أماكننا وسطعت الشمس، ثم صدرت الأوامر إلينا بأن نتقدم صوب أرض المعركة، لقد احتلت القوات اليهودية المواقع من الجيش المصري، وقال القائد نعمت: لا أمل إلا فيكم .. فقلنا: على الله ربنا توكلنا.

وعند تقدمنا كانت دهشتنا كبيرة، إذ لاحظنا أن كما هائلا من الأسلحة والمدرعات في مكان المعركة وكأنها مظاهرة عسكرية، لكننا لم نلحظ أي سيطرة على تلك القوات، ووصلنا إلى موقع القيادة المتقدمة وحدثنا القائد أركان حرب محمود رأفت بحديث مدح فيه المقاتلين، فقاطعه الأخ فوزي فارس قائلا له: كف عن هذه اللهجة لأنها تفسد علينا نفوسنا، فنحن لا نقاتل إلا لله وحده وليس لنا عقيدة إلا دين الإسلام الذي يدفعنا إلى هذا الأمر مخلصين لله رب العالمين، ثم أصدر الأخ كامل الشريف أمره بتوزيع القوات لتحرير التبة 86.

كنا خمسة وأربعين رجلا أذكر منهم الأخ سيد منصور الذي استشهد والأخ سيد عيد الذي أصيب برصاصة والأخ عبد الحميد خطاب، وقد استشهد أيضا الأخ حسن عزازي واستشهد عدد من الإخوان، كانت هذه القوة جميعا من المشاة الكوماندوز لاقتحام المواقع عدا قوة المدفعية 81 مم وهم اثنا عشر فردا تحت قيادتي، وزعت المدفعية بأرض المعركة وكان معي الأخ علي شيحة والأخ حسن الذي كان يمتاز برباطة جأش وشجاعة، وآخرون، وقمت فورا بتحديد نقاط مراقبة اتجاهات كمية النيران المنصبة من مواقعهم، وبدأت المدفعية بدك حصون العدو، والمواقع التي احتلتها لإحداث الارتباك بين صفوفه، وفي نفس الوقت تقدم الإخوان خلف الدبابات وتحت ستار مدافع الميدان ومدافع الدبابات الصغيرة وقد تحولت المنطقة إلى قطعة ملتهبة من النيران غطت سماء المعركة .. وظلت المدفعية تقذف العدو بالدانات لتتساقط على العدو وبين صفوفه محدثة ارتباكا لا مثيل له، وفجأة توقفت إحدى الدبابات وكان خلفها الإخوان سيد منصور وعبد الحميد خطاب ضمن المجموعة المتقدمة للاقتحام، وبدلا من أن يتحرك قائد الدبابة للأمام تحرك للخلف فجأة فوقع تحت عجلاتها الشهيدان فما كان لهذا أن ينال من المقاتلين في سبيل الله ..

بل تقدمت جميع القوة وألقى الجيش بأمواج من الجند ثم أطلقت قاذفات اللهب نيرانها في اتجاه العدو، وهنا اقتحم الإخوان المواقع تحت وابل من قنابل الدخان وألقوا بقنابلهم داخل المواقع وقاموا بقتل جميع من فيها، وتم تطهيرها من كافة المعتدين الإسرائيليين، يشاركهم رجال الجيش في اقتحام المواقع .. وتم القضاء على اليهود وقد غطت جثثهم أرض المعركة بشكل لم أشهده من قبل .. وفشل الهجوم، وفر من تبقى من فلولهم تاركين قتلاهم يملأون أرض المعركة.

لقد انتهت معركة التبة 86 وقد لقن اليهود درسا عظيما في أساليب القتال لن ينسوه، وعاد الجيش يسيطر على موقعه الحصين، وكان عجبا أن أنزل الله تعالى بانتهاء المعركة مطرا غزيرا فرحنا له لأنه جاء بعد نصر (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) وليفرح الشهداء بلقاء ربهم وهم عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله .. وعدنا إلى معسكرنا آمنين.

الشهيد عبد الحميد خطاب

استشهد في التبة 86، وهو من طلبة الأزهر .. لقد ركبنا معا السيارة من دير البلح في الطريق إلى التبة 86 فأخذته سنة من النوم وهو جالس معنا، فلما استيقظ كان مستبشرا وقال يا إخوتي لقد رأيت (الحور العين) في الجنة ينادونني ويشيرون إلي وإني والله أحس الشهادة، وأسأل الله أن يرزقني إياها، فاستبشرنا جميعا، فكلنا يحب الشهادة ويطلبها، وقد قاتل هذا الأخ أشد ما يكون القتال لاستعادة التبة وكان مستترا بدبابة متقدمة نحو العدو ولكنها فجأة رجعت للخلف لوجود أمطار غزيرة وعدم سيطرة قائدها عليها فقضى الأخ عبد الحميد فنال ما كان يرجوه من الشهادة وذهب بفضل الله إلى جنات النعيم وإلى الحور العين اللاتي كن يشرن إليه .. لقد تحقق أمله وأصبح حلمه حقيقة ونال الخلود في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين حسن أولئك رفيقا.

عملية محدودة: الجيش يطلب من الإخوان المعتقلين تلغيم المنطقة

وفي ليلة من ليالي ديسمبر حضر إلى أرض المعسكر ثلاثة من ضباط الجيش، من الفرقة 12 التي كانت تمثل موقعا متقدما في المنطقة التي كان يحتلها الإخوان، وهذا الموقع يقع في الجنوب الغربي من صحراء النقب قريبا من مستعمرة كفار ديروم التي أزيلت من الوجود.

قال هؤلاء الضباط: لدينا معلومات أن هناك هجوما سوف يقع علينا وسوف يكرر اليهود محاولاتهم السابقة لاختراق خطوطنا، وسألته القيادة عن المطلوب فقال: نريد تلغيم منطقة الكريرة حتى تحول دون تقدم أية قوات محمولة على آليات ميكانيكية مدرعات كانت أو دبابات، وكذلك وضع شرك خداعية للأفراد.

ولما كنا جميعا على دراية تامة بهذه المنطقة وبدروبها ووديانها فقد صدرت الأوامر إلى قائد المدفعية 81 مم بالقيام بهذه المهمة، وعلى الفور أخذت معي مجموعة من ثلاثة أفراد هم: عبد الرحمن البنان وأبو الفتوح عفيفي وعبد المجيد أحمد حسن، وذهبنا إلى المنطقة، وكانت ليلة حالكة، وبين أشجار الزيتون وبساتين الفاكهة قادنا الضباط إلى موقع القيادة المتقدمة وهو بيت من الطوب اللبن فسيح من الداخل وفي ردهة هذا البيت وفوق الرمال خرج إلينا ضابط طويل القامة حسن المظهر قوي البنية ممسكا بعصاه تحيط به مجموعة من أركان حربه وقدموه إلينا باعتباره قائد الأورطة 12 أي الفرقة 12 التي عليها حماية تلك المنطقة ما بين خان يونس إلى الحدود المصرية.

وفي غرور متعاظم بدأ في شرح الخطة على الأرض الرملية بعصاه ورسم لنا المنطقة التي يريد أن يملأها بالألغام، وذلك في ضوء لمبة غاز خافت.

ولما كنا والحمد لله نعرف مسالك هذه المواقع قلت له على الفور: لقد فهمنا مرادك ولكننا نريد 600 لغم فقال: ليس في سلاح المهندسين كله ستمائة لغم، وقد لاحظت من أول وهلة أن خطته قامت على الخوف وليس على أساس استراتيجي.

كل ذلك وأمامه أربعة شبان لا يتجاوز الواحد منهم العشرين عاما، فقلت له إذن اتركنا للتصرف قال فما المطلوب؟ قلت: نريد مائة وعشرة من الألغام واستأذنته في عصاه التي يمسكها فأعطاني إياها مستغربا!!

قلت: هذه المنطقة – وأشرت إلى جزء من الرسم الذي رسمه على الأرض – يستعاض عنه بهذا الشريط، لأن أي تقدم للمشاة أو المدرعات لا بد أن يمر على هذا الشريط، فوافقني، فأسلمته عصاه، وحضر الجنود وحملوا كمية الألغام إلى المكان المحدد ومعنا بعض الخدع الشراكية للأشخاص وزرعنا جميعا في شكل مثلثات، وكان الإخوة جميعا يقومون بالواجب دون تردد وفي صمت وهدوء، بشجاعة نادرة قام كل من عبد الرحمن البنان وأبو الفتوح عفيفي وعبد المجيد أحمد حسن بزرع الألغام وباستكشاف المنطقة حتى بيوت العربان التي في أسفل الوادي، ثم عدنا إلى القيادة بعد أن أتممنا العمل فحيانا ذلك القائد وعدنا إلى معسكرنا.

إقامتنا بالمعسكر:

بعد معركة التبة 86 وما تلاها قبعنا في معسكرنا نتعجب من هذه الأمة المستضعفة التي استخف بها حكامها وجعلوا من أنفسهم شركاء لله فأذلوها وتحكموا في رقابها حتى تقلدوا أرفع المناصب وما علموا أن الصهاينة قد سيطروا على المال والاقتصاد ووجهوا الحكومات الغربية والشرقية، وهم الذين أشعلوا الحربين العالميتين، وهم يعدون في كل ذلك العدة لينقضوا على دين محمد صلى الله عليه وسلم، وليثأروا من أهله الذين اتبعوه، إن هؤلاء الحكام يجهلون التاريخ أو يتجاهلونه .. نعم لقد دخلنا هذه المعركة ونعلم تاريخ هذه الأمة اليهودية، ولقد صدر قرار حل الإخوان المسلمين في 8/ 12/ 1948 وعرفنا كيفية صدوره، وكيف لعب الإنجليز دورا فيه.

اللواء فؤاد صادق وتفريطه في أرض المسلمين وسجنه لقوات الإخوان

هنا لا بد من وقفة .. أمام الموقف الذي قام به اللواء فؤاد صادق قائد الجيش المصري بفلسطين، إننا قمنا بالقتال المشرف على أرض فلسطين بما شهد به الأعداء قبل الأصدقاء، بل وأقره كل من اللواء أحمد فؤاد صادق نفسه واللواء أحمد علي المواوي في المحكمة .. فكيف سمح لنفسه أن ينفذ أمرا لملك مخرب وحكومة فاسدة هي أداة الاستعمار .. إنه كان يملك جيشا مقاتلا – وهو قائده – في أرض المعركة، وقوة من المتطوعين تمثل الطلائع الأولى لمقاتلي الشعوب العربية والإسلامية تحتل مكانا استراتيجيا بين قواته بل هي التي قامت بتمويل حصار الفالوجا من المؤن والذخائر.

كان على هذا القائد أن يؤمن بربه إيمانا راسخا لا يتزعزع، وأن يفتح صفحة جديدة في تاريخ هذه الأمة بإعلانه استمرار القتال حتى لو أفنى كل هذه القوات في هذه المهمة، إنني كنت واثقا من أننا سنكون كأصحاب الكهف .. إننا لو قتلنا يهوديا واحدا أمام كل فرد منا لخربنا مهمة الصهيونية في فلسطين ولكتبنا صفحة الحياة لهذه الأمة العربية.

وكان لا بد أن تتهاوى جميع تلك الحكومات التي هي عميلة الاستعمار في منطقتنا العربية.

لقد كان بوسع هذا القائد أن يستقيل أو أن يأخذ الأمر على عاتقه ويتحدى تلك السلطات الخائنة وهذا من صميم عمل القيادة خاصة بعد أن أوضح له القائد المحنك الشاب كامل الشريف خطورة انسحاب الإخوان من المواقع وما تلا ذلك من معركة التبة 86 التي كان على الجيش أن ينسحب خارج الحدود مهزوما لولا أن سلم الله تعالى وكتب النصر على أيدي القلة المؤمنة، كانت تلك الخواطر تمر بالجميع، ولم لا؟ فنحن جميعا نرتشف من معين واحد وهو الإخلاص لله في معركة العقيدة مع الصهيونية واليهودية العالمية .. ولماذا ينصاع الجند والشعب لحاكم ظالم مستبد، بل لماذا يكون الجند عونا لمثل هذا الحاكم الذي يقهر شعبه ويخون وطنه ويتصرف كما لو كان سيدا للعبيد.

لقد كنا نعيش تلك الأحداث في بلادنا وعلى بعد مئات الأميال حيث طوانا معسكر البريج شبه معتقلين، لكنا كنا الأقوياء، بل كان باستطاعتنا رفض الاعتقال، ولم نفقد أبدا روح المقاومة والتحفز وليس لنا أن نقعد عن الواجب ونستكين لهؤلاء الذين أداروا معركة الهزيمة وباعوا قضية فلسطين.

معركة العوجة – العريش (معركة السبعة أيام)

في ليل 24/ 12/ 1948 دخل علينا لفيف من كبار ضباط الجيش وقالوا لنا: نريد قوة كوماندوز تمثل جميع الأسلحة للاشتراك في معركة العوجة – العريش، لقد اجتاحت القوات اليهودية بئر سبع وهي المحتلة – واتجهت جنوبا واحتلت عسلوج وأسرت ما تبقى بها من قوات وهي الآن في طريقها للعوجة تتقدم صوب الأراضي المصرية وسوف تندفع من العوجة إلى أبو عجيلة على محورين لتتجه الأولى إلى الإسماعيلية التي تبعد 120 كيلو مترا عن أبو عجيلة وتتجه الأخرى إلى العريش، وإن الأمر جد خطير، وسوف يلحق العار بمصر والأمة العربية إذا حدث ذلك – لا قدر الله.

وعلى الفور قام القائد الشاب كامل الشريف بإعداد قوة ضاربة من خيرة شباب الإخوان المقاتلين، ولم يكون مفهوما من القيادة العامة في فلسطين كيف تترك مجموعات صغيرة بسيطة التسليح في الجزء الشرقي من النقب والذي يمتد من بئر سبع – العسلوج، العوجة – تلك التي تقع في نطاق القوات المصرية، إن هذه المجموعات المتناثرة لا تصلح للدفاع عن نفسها فضلا عن عجزها عن نجدة غيرها، في الوقت التي تبعد فيه عن قاعدة التموين الأساسية في رفح، كيف غاب عن قيادة الجيش أن تحرك جزءا من قواتها فورا إلى هذه المنطقة وتقيم قاعدة على الحدود المصرية يحشد فيها عناصر القوة من الإمداد والمؤن والذخيرة والأفراد، إن أي قائد محنك يستطيع أن يتحرك بقوة محدودة على عدة جبهات، لقد فعل نابليون هذا في مصر مع المماليك والعثمانيين وجنوده منهكو القوى ... وهذا ما فعله العسكريون عبر التاريخ الإسلامي في قتالهم ضد المعتدين، بل فعله اليهود أنفسهم في تحريك قواتهم من شمال وغرب النقب ليهاجموا تلك المجموعات ويقضوا عليها.

أخطاء الجيش المصري

كان من الممكن أن تتحول معركة فلسطين إلى نكبة للصهيونية لا إلى نكبة للأمة العربية، فعند مهاجمة اليهود لتلك المنطقة من بئر سبع إلى العوجة وهي لا تتجاوز أربعين كيلو مترا كان على القوة المصرية الضاربة تركها تتقدم حتى مشارف الحدود المصرية وتقوم بمناوشتها ليجلب العدو أكبر عدد من آلياته ثم تقوم القوات المصرية بمهاجمة جيش الدفاع اليهودي بعد انهماكه بتلك المناوشات والقضاء عليه في الوقت الذي تقوم فيه القوات الموجودة غرب النقب الفالوجا بحركة التفاف، خاصة وأن تلك القوات قد لقنت اليهود درسا لن ينسوه في معركة التبة 86، لقد اندحروا مهزومين وسوف يكون قتالهم قتال المهزوم في الوقت الذي تشتبك فيه قوات العدو مع الجيش المصري الذي كان عليه أن يقضي على تلك القوة التي تجرأت واحتلت بئر سبع وتقدمت إلى الحدود المصرية وعندئذ كانت القيادة في مصر لا تستطيع أن تعيق دعم القوات المصرية في فلسطين وذلك بإمدادها بقوات جديدة.

سبب الهزيمة

إن النتيجة الفعلية وحركة الالتفاف التي كان على الجيش المصري أن يفعلها وفعلها العدو نفسه عندما وجد تلك القوات تقبع في مكانها وتأخذ موقع الدفاع ولا تريد الحرب، أقول: لو أصدر اللواء أحمد فؤاد صادق أمره بتنفيذ خطة كهذه لتغيرت نتيجة الجولة الأولى عسكريا ولتغير تبعا لذلك الموقف السياسي لفلسطين.

لكن لم يحدث هذا، لماذا؟ لأن الذين يديرون دفة الحكم دخلوا فلسطين إما طامعين وإما مناورين، ولم يكونوا أبدا محاربين.

كانت هذه الخواطر تدور بخلدنا ونحن لا نملك من أمر القوة لردع العدو شيئا، وما نحن إلا قوة من المتطوعين تتبع القيادة المصرية في التسليح والطعام وليس لنا إملاء شيء من أفكارنا على القيادة فيما يخص أمر الحرب غير الذي شرحناه للقائد العام عند لقائه بنا في معسكر البريج ولكن .. في هذا الجو المشحون بالأسى والحزن بسبب تلك المؤامرة الدنيئة التي بدت خيوطها تظهر بدءا بقبول الهدنة تلو الهدنة، والتدخل في شئون القتال والتردد في الإمدادات بالعتاد والرجال، ونهاية بحل الإخوان وتحجيم قوتهم وشل حركتهم وجمعهم في معسكرات شبه معتقلين، في هذا الجو لم يكن أمامنا إلا المشاركة الفعلية في القتال حتى ولو لم ندع إليه.

الاستعداد لمعركة العوجة – العريش

قام القائد كامل الشريف بالتجهيز للمعركة واستدعى على الفور قيادات المعسكر للتشاور وتم تجهيز القوة بقيادة الأخ حسن دوح.

قوة الاقتحام (حسن دوح)

الاستطلاع والمفرقعات (فوزي فارس)

قوة مشاة (تابعة لقائد القوة، وعلى رأسها كامل الشريف قائد المتطوعين في المنطقة الجنوبية للنقب).

كان عدد السيارات التي تحمل المؤن والعتاد والمقاتلين تسع سيارات تتقدمهم عربة القيادة بقائدها الشاب كامل الشريف، وهناك في رفح التقى كامل الشريف باللواء أحمد فؤاد صادق الذي كان ينتظره هو وأركان حربه، وتبادل معه الحديث وأوضح له سير المعارك على الجبهة في منطقة العوجة العريش، وطلب منه أن تذهب قوة إلى العسلوج لمناوشة العدو وأخرى تتقدم إلى العوجة على رأس الجيش لتحريرها، وقال اللواء: هذا ما يجب أن يقوم به الإخوان كعادتهم، بحسم تقدم جيش الدفاع الإسرائيلي وإجلائه عن العوجة واحتلال العسلوج، وكان رد قائد المتطوعين أن الأمر قد جاوزه الوقت وأن القوة التي يملكها لا يمكن أن تصد هجوما عاما كهذا وفي ظل الروح المعنوية التي ليست في مستوى المعركة ولو تقدم الإخوان كما يطلب القائد العام لتحطمت أقوى قوة ضاربة في هذه المعركة ولأصبح الأمر يتعلق بعد ذلك بدفاع القيادة عن مقرها هنا.

المطالبة بقوات جديدة من الجيش والمتطوعين

نعم، لقد رسم له الصورة بصراحة، رغم أنها قاتمة، لكن الحروب لا تعرف المجاملة، غير أنه قال للقائد في الوقت نفسه: إننا سنقوم بمهمة الإعاقة ونحول تماما بين تقدم القوات اليهودية في الأرض المصرية ما استطعنا، وعلى القائد أن يستجلب قوات رئيسية إلى أرض المعركة من خلف قاعدة القيادة من جند لم يسبق لهم الاشتراك في تلك المعارك الأخيرة وأن يسمح على عجل بدخول المزيد من المتطوعين حتى يمكن حسم المعركة ودفع اليهود ثانية من حيث أتوا، فأومأ القائد العام بما يشير أن الحرب في هذه الفترة توشك على الانتهاء واستأذن كامل الشريف في الانصراف إلى قواته، وعند خروجه وجد ثلاث سيارات إحداها محملة بالماء والأخرى بالطعام وثالثة بالذخيرة، وقد أبلغه القائد العام أن الأوامر قد صدرت لقائد القطاع لإعطاء الإخوان حرية الحركة وإمدادهم بالسلاح والمؤن والعتاد، وتحركت القوة ورأت القيادة أن تأخذ طريقا آخر آمنا حيث لم يغب عن بالنا ذلك الانقلاب الهائل الذي حدث في استراتيجية اليهود في المعارك الأخيرة، فلم يحدث قط أن اليهود قد شنوا هجوما عاما على القوات المصرية في فترة الحرب كلها وبهذه الكثافة من حجم القوات، مرة شرقي خط النقب ومرة جنوبي غرب النقب وعلى ساحل الأبيض المتوسط، وهم الذين بدءوا القتال مرتعشين من العرب، ولكنهم علموا حجم المؤامرة، وقد قرب أملهم في استكمال الأساس لقيام الدولة الإسرائيلية، فلماذا لا يقومون بهجوم هنا وهجوم هناك وليس أمامهم إلا أشباح ترتدي السترة العسكرية ويفرون من القتال.

لماذا تجرأ اليهود؟

إن هذه العصابات اليهودية لم تجرؤ فترة الحرب على أن تشن مثل هذا الهجوم على الجيش عندما كنا في مواقعنا، وكنا نتعامل معهم على أنهم عصابات يهودية سرقت الأرض وليسوا جيوشا تعرف قوانين الحرب والسلام، ومن هنا كان لا بد لهؤلاء أن يفروا عند لقائهم بنا، إذ كيف يثبت اللص أمام صاحب الدار، فإن اللص مهما سرق فإنه في النهاية يريد الغنيمة والحياة، ولكن صاحب الدار لا يهمه الموت في سبيل الحفاظ على حقه والدفاع عنه، إننا نريد النصر أو الاستشهاد، فماذا يريدون هم؟ إن هؤلاء الذين تهودوا من شعوب مختلفة لم ترتبط نفوسهم ارتباطا فعليا بفلسطين ولكنهم تعلقوا بها للأفكار التي لقنها إياهم الصهاينة الأفاكون، فإذا وجد هؤلاء رفضا عربيا كاملا وحربا ضروسا لا تهدأ فسوف يرحلون إلى حيث أتوا.

معركة العوجة والهزيمة

في هذا الجو المفعم بالمشاعر والواقع المؤلم تحركت القوة من رفح إلى العريش ووصلنا إلى أبو عجيلة ليلا واسترحنا بعض الوقت، وبعد أداء صلاة الفجر في أبو عجيلة اختبر الإخوان أسلحتهم وتلقوا أوامر التحرك والعمل القتالي حتى في أسوأ الظروف وركبوا سياراتهم التي انطلقت بهم عبر الطريق المتجه إلى العوجة، وكان المنظر مفزعا لتلك العربات الكثيرة على الطريق وفي الصحراء والتي كانت زاخرة بالجند والمعدات، وسأل قائد القوة كامل الشريف عن قائد القوات فلم يعثر عليه، فقد كان جيشا بلا قائد، ففي معركة العوجة العريش قال الضباط الصغار: نحن هنا في انتظار الأوامر، وكان اليهود يصبون النيران على جسر مرتفع يقع على الطريق ليحول دون تقدم القوات التي جاءت أصلا لتحرير العوجة ونجدة القوات التي ما زالت تقاوم الهجوم اليهودي.

صحيح أن الضباط الصغار في هذه الفترة لم يكن لهم حرية الحركة ولم يتعودوا حرية التصرف ولا اتخاذ القرار في ميدان القتال لأنهم كانوا يؤخذون على ذلك إذا أصابوا، وقد يحاكمون إذا أخطأوا، ولم يضع الإخوان الوقت فتقدمت القوة وأخذت مكانها على مقربة من الموقع وأنزل الإخوان مدافعهم ووزعوا قواتهم وبدءوا في التعامل مع هذا الموقع، حيث صبوا عليه كمية من النيران الضخمة، وما لبث الموقع في السقوط حتى سكتت مدفعيته، فتقدم المتطوعون الفدائيون وفتحوا الطريق لتقدم الجيش الذي تحرك للأمام غير أن اليهود فيما يبدو فهموا حالة الارتباك التي تسيطر على القوات فألقوا بفصيلة من المصفحات تقدمت عبر الوديان وبدأت تدور حول القوات المتقدمة في تلك الصحراء الواسعة وهاجمت تلك المصفحات جانبي القوة وذلك بعدما ظهرت فجأة في مواجهة قواتنا.

وهنا ارتد الجنود المصريون في ذعر عجيب وبدءوا يتراجعون بسياراتهم بل كان يتعلق المشاة بمؤخرة تلك السيارات مما أتاح الفرصة للطيران الإسرائيلي أن يقوم بمهمة سهلة، فحلقت الطائرات الإسرائيلية لتحصد تلك الأمواج المتراجعة من القوات المصرية حصدا وقد خلا تماما أي غطاء جوي مصري في هذه اللحظة، فإذا كانت القوات ليس لها قائد ولم تستدل عليه، مع فقد قوة الغطاء الجوي .. فكيف نقاتل عدوا تدرب على أساليب القتال بل وأساليب الحرب النفسية، إن هذا أشبه بجمع للمتظاهرين سرعان ما فرقته قوة البطش من الشرطة.

إن الذي حدث لم يكن صحيحا على الإطلاق، إننا نعرف عن اليهود ذلك اللون من المناورة، كنا نتركهم حتى يقعوا في قبضتنا ولكن الضباط لم يستطيعوا السيطرة على الجنود الذين تهاوت أعصابهم، وفي تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل كنت تسمع بوضوح صرخات الجنود وهم يطالبون قادتهم بالذخيرة لأن ما لديهم قد نفد، إنها مهزلة وليست حربا ولم نر أبدا في معاركنا ولا معارك الجيش السابقة التي اتسمت بالبطولة والصبر مثل هذه الروح المعنوية المنهارة التي وصلت إلى الحضيض.

في هذه الأثناء أحسست بتقدم المشاة عبر ممر يقع في مواجهة الموقع الذي كنت فيه، وكان بجواري مدفع فيكرز عليه أحد الجنود ومدفع موتور للإضاءة والشهيد علي الفيومي والأخ عبد الحميد أحمد حسن ويمتد على الجسر بجواري الجنود شمالا وجنوبا الذين أصبحوا لا ذخيرة لهم.

لقد أحسست بوقع أقدام الجنود وكان صوتهم في أذني كترنيمة موسيقية، فوضعت أذني على الأرض في الرمل للتنصت وتحديد اتجاه القوة المهاجمة – لقد تأكدت من تقدم العدو فأمرت على الفور الجندي أن يطلق طلقات كاشفة وهنا كانت المفاجأة: على بعد أمتار منا .. كثافة من الجند لا حصر لها يهاجموننا ويقولون: كاديما كايرو – أي تقدم إلى مصر .. ووالله الذي لا إله غيره كنا نقاتل بهدوء ولم ترتجف لنا شعرة وكنا أهدأ مما تتصور، لقد ألقى الله علينا ثباتا عجيبا ولقد انسحب من كان بجوارنا، وبدأ الجيش – للأسف – بالفرار .. والصدق أقول .. لقد ظللنا ندافع وننتقل بين المواقع القريبة ولم يثبت معنا غير ذلك الجندي البطل الذي قرأ معي الفاتحة في ميدان القتال أن لا يبرح أرض المعركة .. وقد وفى بعهده.

وبعد فترة من القتال نادى علي أحد الإخوان بالانسحاب ولكنني رفضت وأمرته بالثبات واستمر قتالنا على أمل أن تدور القوات بحركة التفاف من خلف العدو، وكان على الإخوان ألا يغادروا مواقعهم على ميمنة الجيش من ذلك الجسر الذي قبعت فيه القوة المدافعة.

لقد ظللنا ندافع وتتساقط القذائف من حولنا وطلقات الرصاص والقذائف تملأ كل شبر من أرض المعركة، إن هناك سرا في الآجال .. ماذا تفعل الدنيا بأسرها إن لم يحن الأجل وماذا تستطيع أن تفعل إذا جاء الأجل "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" [الأعراف: 34].

نعم، ظللنا نقاتل وإذا بالأخ عبد المجيد أحمد حسن يخبرني بإصابته في يديه، وقد رأيت الدم ينزف من يديه، فأمرته بالانسحاب والانحياز إلى قوة الإخوان، وبعد لحظة أصبت برصاصة في فخذي واقترب العدو وحاولت أن ينسحب أخي العزيز الشهيد علي الفيومي ولكنه ظل يقاتل قتال الشجعان، وقد فات الوقت فوقع شهيدا في أرض المعركة وانسحبت إلى مواقع الإخوان.

وعند وصولي شعرت بالندم الشديد .. شعرت أنه كان علي أن أقاتل كما قاتل الشهيد علي الفيومي .. لقد قاتل بشجاعة نادرة وبأس شديد. إنني أشهد أنه ضرب المثل الأعلى في الصمود والاستشهاد.

لقد أحسست رغم إصابتي أنه كان يجب علي أن أستمر في القتال حتى يقع أمر الله بالاستشهاد أو الأسر، ولكن تغلب علي نظام الحرب، وهو عندما يجرح أي جندي يجب أن ينسحب خارج المعركة، وهو ما فعلته مع نفسي ومع الآخرين، فعند وصولي إلى موقع الإخوان لم أستطع الوقوف على قدمي ولقيني الأخ كامل الشريف وسألني عن سير المعركة فأخبرته، فقال لقد ذهبنا إلى عبد الحكيم عامر فلم نجد له أثرا وبدأت الأورطة رقم خمسة في الانسحاب انسحابا فرديا .. وهي من الرديف – أي احتياطي الجند وهم ليسوا معدين للحرب، وأخبرني القائد كامل الشريف أن النقراشي باشا قد اغتيل. كان ذلك في 28/ 12/ 1948.

النقراشي سبب الهزيمة وعميل اليهود

إنني لا أنسى هذا اليوم – يوم علمنا بمقتل النقراشي – لقد كان الخبر هدية لنا ولا يمكن أن نخفي فرحتنا به ولا ندعي غير ذلك في رجل سجلت عنه الأحداث أنه ساعد على هزيمة الجيش وضرب الجبهة الداخلية في وقت الحرب ولم يبال بما كانت عليه سياسته الحمقاء من نتائج، لقد كتب النقراشي خط الحرب لتاريخ الجيش المصري في الجولة الأولى من الحرب الفلسطينية.

لقد دخل الفدائيونرغم قلة أسلحتهم وفقر عتادهم وحجم قواتهم بل وضعف تدريباتهم – كما ذكر القائد العام أحمد علي المواوي – أرض فلسطين ورغم أن الجيش المصري سجل النصر تلو النصر إلا أن النقراشي ومعه الحكام العرب قد أقروا بقبول الهدنة تلو الهدنة حتى وقعت الكارثة وظل الجيش المصري يقاتل على جبهة واحدة طيلة فترة الحرب وهي الجبهة الجنوبية دون أن تقاتل بقية الجيوش العربية أو حتى تقوم بأية مناوشات لشغل العدو عن الجبهة المصرية في جبهات القتال الأخرى فلم يتم شيء من هذا مما أنهك الجيش المصري ووصل به إلى الحضيض كما رأينا في سير معركة العوجة – العريش.

لقد قاتل الجيش المصري أطول فترة في تاريخ الحرب الفلسطينية، ولقد كان باستطاعة النقراشي أن يرفض الهدنة مثلما رفضها الإخوان، ولا يمكن قبول العذر بأننا دولة تحترم نداء المجتمع الدولي، إن هذه الحجة واهية بل هي اشتراك مع تلك المجموعة الدولية التي كانت تصدر قرارات الهدنة وتقوم بتمويل قوات العدو من الذخائر والمعدات والطيران بل والمتطوعين من الدول الأخرى.

لقد فرحت بنبأ اغتيال النقراشي في أرض المعركة أيما فرح، لقد حملني كامل الشريف في عربته وأودعني عربة الإسعاف وانطلق هو للقيادة وانطلقت بي العربة إلى أبو عجيلة، وهناك في أبو عجيلة ألقى بي في بيت مهجور اتخذته القوات المصرية كمستشفى للإسعاف السريع، ألقى بي وسط أكوام من الجثث تطايرت بعض أطرافها وأصحابها بين الحياة والموت وآخرون يتألمون من شدة الآلام والجراح التي بهم، إن هذا المنظر كان له أثره السيئ على نفسي أشد من الجرح الذي ألم بي، لقد ظلت هذه الحالة تلازمني في حياتي حتى الآن لدرجة أن زيارة المريض تمثل لي عبئا ثقيلا، فإذا زرت مريضا فإنما يكون ذلك رغما عني والتماسا للأجر وعملا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكثت بين الجرحى فترة وأنا أنزف دما وسألت عن الإسعافات فقالوا حالا سيأتي من يسعفك وفعلا أتى من ضمد الجرح ليمنع النزيف وقالوا لي ستنقل إلى مستشفى العريش مع بقية الجرحى.

ظهور كبار القادة بالمستشفى الميداني

وفي هذه الأثناء دخل علي كوكبة من ذوي الشرائط الحمراء .. إنهم من كبار الضباط الذين بحثنا عنهم طويلا فلم نجدهم ولم نعثر لهم على أثر في أرض المعركة.

لقد كان من بينهم القائمقام الرحماني، القائمقام سيف الدين، وآخرون، دخلت هذه الكوكبة من الضباط العظام وهم يحملون ضابطا كبيرا وهو في حالة هستيرية عصبية، ذلك هو اللواء علي مقلد قائد القطاع الذي تتعامل قواته مع العدو الصهيوني في أرض المعركة والتي ما زالت دائرة.

لقد أدهشني هذا المنظر واستفزني حتى حولني في الحال إلى نمر شرس يريد أن يفترس هؤلاء الضباط جميعا، ولقد لاحت لي الفرصة عندما بدءوا ينقلون الجرحى فإذا بهم يتسابقون لنقل سعادة اللواء، وإذا بي أقف على قدم واحدة موجها سلاحي لهم جميعا ناعتا إياهم بالجبن، ثم أمرتهم أن يقفوا مكانهم وإلا أطلقت عليهم الرصاص، وقلت لهم إن مكانكم أرض المعركة ودعوا هذا القائد ليلقى مصيره هنا فإنه لا يستحق العناية أو الرعاية، وعليكم أن تغادروا المكان وإلا قتلتكم جميعا .. وفعلا تسمروا في مكانهم، وإذا بعدد من الجنود يهدئونني ويحملونني إلى عربة الإسعاف مع كثير من الجنود .. وانطلقت العربة إلى مستشفى العريش، وهناك رقدت على سريري وبدءوا فعلا في العلاج، وقد شعرت بالراحة النفسية مما لاقيته من عناية طبية.

مكثت في المستشفى ليلة واحدة وإذا بقيادة المستشفى تنقل جميع المرضى والجرحى بالمستشفى على عجل إلى قطار خاص من العريش ليتجه إلى القاهرة، لقد قالوا لنا إن اليهود اجتاحوا قرية أبو عجيلة واحتلوا أرض المطار وهم على بعد اثني عشر ميلا من العريش، وهناك بمستشفى العجوزة أودعت ضمن بقية جرحى القوات المسلحة للعلاج، وفي الصباح فوجئت بأمي تنادي في كل حجرة، وقد سمعت صوتها قبل أن تصل إلى حجرتي، فلما وجدتني ارتمت علي تقبلني وهي تبكي – رحمة الله عليها وعلى أبي – وسألتها متعجبا من الذي أخبركم ولم أصل إلا بالأمس فأخبرتني أن والدي قد رأى مناما: أن عليا قد قتل وقال اذهبي لتري من الذي استشهد أهو علي الفيومي أم علي ابنك، وكان الشهيد علي الفيومي أحب الإخوان إلي وكان ذلك معلوما لدى أهلينا وإخواننا فقلت لها إن الذي استشهد هو الأخ علي الفيومي، وها أنذا بين يديك.

ولندع الآن أمر المستشفى لنعود إلى أرض المعركة .. إنني ألخص فقط الجزء الأخير من اشتراك الإخوان في المعركة إلى انتهائها من كتاب الأخ كامل الشريف: "الإخوان المسلمون في حرب فلسطين" وذلك بعد إصابتي وذهابي إلى مستشفى العجوزة، يقول القائد كامل الشريف: لقد بدأت القوات تنسحب أمام قوات العدو، ولقد بدت المعركة كما لو كانت من جانب واحد، وأصبح موقع المتطوعين خطيرا فهم وحدهم الذين يحتلون المرتفعات وإن عددهم لا يمكن أن يغطي موقف المدافعين الذين انسحبوا لمسافة عشرين كيلو مترا إلى الخلف، وهذا الموقف سوف يغري اليهود بمواصلة التقدم، وما هي إلا لحظات حتى كان كامل الشريف بين تلك القوات التي تركت مكان دفاعها.

قائد المنطقة يظهر فجأة

لقد التقى قائد المتطوعين بعدد من الضباط الصغار وحاول عبثا أن يدفعهم إلى العودة لمواقعهم وأن يختاروا منهم قائدا عاما حتى يمكن التقدم إلى العوجة لتطهيرها من العدو واستردادها، وبينما هو يناقش الضباط الذين أبوا أن يتحملوا نتيجة مثل هذا العمل إذ بسيارة جيب صغيرة تقف بينهم وبها قائد المنطقة الأميرلاي فؤاد ثابت الذي طال انتظارنا للقائه، وفي نفس اللحظة وصلت إشارة من القائد العام للقوات المصرية بضرورة التقدم إلى العوجة واستردادها بأي ثمن، فأخذ القائد يرسم بعصاه على الرمال ويبين على الخريطة عمل كل قوة تجاه مهاجمة العوجة وكيفية تقدم المشاة، وبعد أن تكون المدفعية قد قامت بدك حصونهم وأمطرتها بكميات ضخمة من النيران، وبعد أن أوضح الخطة لقوات الآليات والمشاة ناول كل قائد أمر عملياته في أمر الهجوم.

يقول الأخ كامل الشريف: لقد فرحت بهذا الأمر، وكان يجب أن ينفذ منذ الصباح الباكر حتى لا يأخذ العدو أنفاسه ويعمل على تحصينات مواقعه، فانطلقت إلى إخواني وخلفي جميع قوات الجيش تتقدمهم عربة القيادة وبها قائد القوة وأركان حربه، وقمنا بحركة التفاف وسحب بعض الإخوان للتقدم، وما أن وصلنا جميعا – قوات الجيش والمتطوعون – على مقربة من العوجة حتى أخذت المدفعية تصب حممها على مصفحات العدو وآلياته التي كانت تدور حول العوجة، واستمرت المدفعية في إطلاق قذائفها وقد شكلت في أرض القرية مساحة من النيران التي فرشت أرض العوجة وتبعتها قنابل الدخان تتساقط على القرية وصدر الأمر لاقتحام العوجة فاندفع المتطوعون وخلفهم جنود الجيش لاقتحامها.

وبعد لحظات بسيطة صدر الأمر بالتوقف عن الهجوم وصدرت الأوامر بالانسحاب وكان موقفا غير مفهوم وتراجعت القوات مرتدة إلى الخلف ولم تقف إلا هناك .. عند نقطة قريبة من أبو عجيلة ثم الانسحاب بعد أبو عجيلة.

إن القائد لم يطمئن إلى الجنود في تقدمهم وإن الروح المعنوية كانت منهارة، فأدرك أن دفعهم إلى العوجة لتحريرها لن يكون إلا مقبرة لهم ولهذا أصدر أوامره بالتراجع.

وبتراجع القوات المصرية فتحت سيناء على مصاريعها أمام الغزاة ليتقدموا، ولم يجد الإخوان مفرا من التراجع، وهناك في أبو عجيلة وقف المتطوعون وحدهم لعل قوات الجيش تنظم صفوفها وتعاود التقدم.

أبو عجيلة

وفي أبو عجيلة أخذ الإخوان يعدون مواقع للدفاع عن هذه القرية وهي المفتاح الرئيسي إلى الإسماعيلية وتتحكم في طريق العوجة – العريش.

لقد انطلق كامل الشريف للاتصال بالجيش المنسحب وقابل بعض قواده وعلى رأسهم قائد المنطقة طالبا الإمدادات فوعده بالاستجابة، غير أنهم لم يمدوا المتطوعين إلا بعدد من السيارات تحمل الطعام.

وبدا لقيادة المتطوعين أن العدو بدأ ينشر دورياته العسكرية لدراسة مداخل الصحراء، في الوقت الذي قام فيه بنسف جسر أبو عجيلة – الإسماعيلية الضخم ليمنع طريق الإمدادات، فلم يجد الإخوان بدا من الانسحاب، وأصبح الميدان خاليا من الجند الذين تملكهم الذعر والفزع، ولا ندري كيف يصل حال الجنود إلى هذا الحد من التدهور أمام قوة لا تفوقهم عددا ولا عدة إلا في تلك المصفحات التي لعبت دورا مهما بجانب الطيران في الجولة الأولى من الحرب، ونحن لا ننكر أن العدو كان على جانب كبير من التدريب وحسن المناورة التكتيكية في القتال وباستطاعته أن يهاجم خطوطا طويلة مركزا إحدى هجماته على أكثر من نقطة استراتيجية ليوقع خصمه في ارتباك تكتيكي ويشل حركته في توجيه قواته وبالتالي يحول العدو الصهيوني هجومه فجأة إلى المنطقة التي يريد ضربها واحتلالها، ومن هنا يسهل عليه احتلال الموقع الذي يريده مع إحداث إرباك عام لدى قوة خصمه.

الانسحاب إلى العريش والدفاع عنها

.. وهكذا انسحب الإخوان .. وهنا وقبل العريش بحوالي اثني عشر كيلو مترا قام المتطوعون بالدفاع باستماتة، ولم يفكروا في الانسحاب مهما كان السبب بل قرروا ألا يدخل العدو الصهيوني مدينة العريش إلا فوق جثثهم، واستمال الإخوان قطاعا من الجنود وذكروهم بالله والدفاع عن أوطانهم فثبتوا وعادت حمية القتال للجند، وارتفعت روحهم المعنوية واشتركوا في الدفاع عن العريش ببسالة، وشاء الله أن تتعطل إحدى دبابتين شيرمان كانتا ضمن القوة المتقدمة، كان يركب إحداهما إسحاق رابين.

.. وهكذا انسحب العدو الذي كان يقاتل بشراسة على أبواب العريش راجعا إلى العوجة، وفي الطريق دمرت قواته بعض طرق المواصلات واحتلت المطارات واستولت على جميع الأسلحة بتلك المطارات ونسفت بعض أجزاء من القرى في طريق انسحابها، وهكذا أمنوا انسحابهم من أي قوات تتبعهم بالمطاردة، في الوقت الذي بدت فيه طلائع القوات اليهودية تطرق معسكر القيادة في رفح واحتلت فعلا تبة الأسرى وهي التبة الرئيسية للمعسكر، واقتحمت المعسكر، وحاولت إنزال الهزيمة بالجيش في عقر داره، غير أن الجنود تصدوا ببسالة لهذا الهجوم، وكان اللواء أحمد فؤاد صادق ينتقل بنفسه بين المواقع ويحث الجند على القتال، وكانت قوات المتطوعين الرئيسية مشتركة في القتال على طول الجبهة من غزة إلى خان يونس إلى رفح، وكان على رأس قوة المتطوعين التي تشارك الجيش دفاعا عن القيادة الأخ محمد علي سليم، واستطاع المدافعون عن رفح إنزال الهزيمة المنكرة للقوات اليهودية موقعين بهم مئات القتلى وأخذوا ما تركوه من سلاح.

وهكذا أحبطت قوات المتطوعين على امتداد الجبهة من خان يونس إلى غزة بقيادة كل من الأخوين السيد الشراقي والأخ حسن عبد الغني، هجوم الصهاينة، وقاتلت هذه القوات بدءا من العوجة وحتى انتهاء المعركة لمدة سبعة أيام متوالية سقط فيها العديد من الشهداء والجرحى، وانتهت بذلك الجولة الأولى من الحرب الفلسطينية عام 1949.

الشهيد علي الفيومي

تقدم كل منا – علي الفيومي وأنا – إلى المركز العام للتطوع، فتم تحويل الأخ علي الفيومي إلى معسكرات الهايكستب التابعة للجامعة العربية وقتذاك، واستبقيت أنا ضمن الكتيبة الخاصة التي كان عليها أن ترحل إلى فلسطين لتأخذ مكانها بجوار الكتيبة التي سبقتنا بقيادة الصاغ محمود لبيب.

لقد ذهب الأخ علي الفيومي إلى معسكرات التدريب، وبعد أن أتم تدريباته الأولية أخذ دوره في التعبئة وعرف مكانه بين صفوف الكتيبة الأولى بقيادة قائد القوات الخفيفة الحركة القائمقام أحمد عبد العزيز، لكن حدث تطور مهم، ذلك أن عددا من سيارات الجيش التي كانت تقل المتطوعين لتوصيلهم إلى تلك القافلة الراحلة قد انقلب بعضها، وكان علي الفيومي وبعض الإخوة قد أصيبوا ونقلوا إلى المستشفى العسكري بالقبة، ولما علمنا بما وقع لإخواننا ذهبنا لزيارتهم بالمستشفى، وكانت المفاجأة أن كان علي الفيومي من بين المصابين ورجله في الجبس، وعندما رآني بكى فقلت له: ما يبكيك؟ قال: لقد ذهبوا وبقيت هنا مصابا، فقلت له سوف تلحق بنا يا علي إن شاء الله، وشاء الله أنه سافر في آخر فوج دخل فلسطين ليخوض أكبر معركتين تاريخيتين في تاريخ الجولة الأولى من الحرب وقد استشهد في معركة العوجة – العريش، رحمة الله عليه.

عودة الإخوان إلى (معسكر الاعتقال)

عادت قوات الإخوان إلى معسكرهم الرئيسي بالبريج، وهناك كافأتهم الحكومة المصرية برئاسة النقراشي بوضعهم في معسكر الاعتقال برفح، وقد أجبر اللواء أحمد فؤاد صادق على هذا، وقد خير الإخوان بين أن يعودوا إلى بلادهم وهناك ينتظرهم الاعتقال على أيدي البوليس السياسي أو يستمروا رهن اعتقال الجيش الذي كانوا يعملون معه في أشرف ميدان، وآخر الإخوان أن يظلوا معتقلين تحت يد إخوانهم في الكفاح .. رجال القوات المسلحة.

أيها القارئ: تعرف على قضيتك

لقد عشت أيها القارئ الكريم مع سطور هذا الكتاب، ولعلك عشت مع هؤلاء الذين قدموا المثل الأعلى للتضحية والفداء من أجل إعلاء كلمة الحق، ولعلك معي أيضا أنه يجب أن نعرف جيدا حقيقة هذه القضية التي قاتلنا من أجلها، وحقيقة هذا العدو المخادع الذي كتب عليه الهزيمة دائما .. إلا أمام العرب المحدثون، الذين نسوا لب دينهم وحقيقة عدوهم فكان واقعهم كما نشهده .. ذل وعار، وتراجع وانكسار.

إن النصر على هؤلاء الأعداء وتحرير فلسطين .. كل فلسطين، ليس أمنية صعبة التحقيق، أو أملا بعيد المنال .. إنه يمكن أن يكون واقعا ملموسا .. إذا أخذت الحرب شكلها الصحيح، بأن يكون جهاد الصهاينة قائما على العقيدة، مع الثقة في نصر الله، وبذل الجهد وإفراغ الطاقة قبل ذلك، أما ما يرفع من رايات وشعارات باسم القومية أو غيرها .. فلا حظ له إلا الهزيمة والعار .. وهذا ما أثبتته الأيام فهل نتعظ؟!