الإمام البنا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


حسن البنا
  • الأب : هو الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا الشهير بالساعاتي ، وذلك نظرًا لعمله في إصلاح الساعات ، وكان الشيخ أحمد من علماء الحديث ،فقد رتب مسند الإمام أحمد بن حنبل، وخرَّج أحاديثه، وشرح ما يحتاج إلى بيان، وسمّاه (الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 1377هـ 1957م) ، ورتب معظم أسانيد الأئمة الأربعة علي أبواب الفقه، وله مؤلفات عديدة في السنة منها " بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن ".
  • التحق بمدرسة الرشاد الدينية وسنه حوالي ثمانية أعوام واستمر لمدة أربع سنوات ، وكانت هي الأساس والقاعدة الصلبة التي استند عليها في تجاوز مراحل تعليمه اللاحقة بجدارة وتوفيق .
  • أنتقل بعد ذلك إلى المدرسة الإعدادية ثم إلى مدرسة المعلمين الأولية عام 1920م وتخرج منها مدرساً .
  • أسّس: (جماعة الإخوان المسلمين) سنة 1346هـ/1928م وأعاد إصدار (جريدة المنار) بعدما توقفت، وعمل من أجل المشروع الإسلامي الذي يستطيع مقاومة الاستعمار، ومحاولات قهر الشعوب المسلمة، واقتحم سنة 1355/1936 الميدان السياسي ، ودعا الملوك والحكام إلى تطبيق الشريعة الإسلاميّة في شؤون الحياة سنة 1366/1948 ، وبشّر بالدولة الإسلاميّة في صورة الخلافة، وقال: إذا لم تقم الحكومة الإسلاميّة فإن جميع المسلمين آثمون .
  • ألف : (الرسائل) و (أحاديث الجمعة) و(المـأثـورات) وكتاب سيرته الذاتية (الدعوة والداعية) وأوكل إليه أبوه كتابة " مقدّمة الفتح الرباني " مع ترجمة مؤلف أصل الكتاب الإمام أحمد بن حنبل، فكتب في مناقبه وسيرته، ومحنته، وما يتعلق بمسنده، ومنزلته عند المحدّثين، فأجاد .
" وهو في خطبته التي يلقيها كما تلقى الأحاديث بلا انفعال ظاهر، ولا حماسة بادية، من أبلغ من علا أعواد المنابر، تفعل خطبه في السامعين الأفاعيل وهو لا ينفعل، يبكيهم، ويضحكهم، ويقيمهم، ويقعدهم، وهو ساكن الجوارح، هادئ الصوت، يهز القلوب ولا يهتز ".
  • كان يضع أمامه هدفين الأوّل : تحرير الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي ، والثاني: أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلاميّة حرّة.
  • جمع أتباعه على المحبّة والإخاء ، وربّاهم على إلإيمان بالدعوة ، والتجرد لها، والاستعداد التام لكل ما يلقونه في سبيلها، وأعاد فكرة شموليّة الإسلام ، وضرورة تطبيقه كمنهج حياة، والولاء الكامل للإسلام، والإخاء الإسلامي، وأحدث تياراً بارزاً إسلامياً في المجتمع، وحارب بصدق مظاهر الانحلال الخلقي، وجميع مظاهر الاغتراب في المجتمع.


المولد والنشأة
المولد والنشأة

أولاً : المولد والأسرة
الإمام البنا فى شبابه

المولد :

ولد الإمام الشهيد حسن أحمد عبد الرحمن البنا في ضحي يوم الأحد 25 شعبان 1324هـ الموافق أكتوبر 1906م ، بالمحمودية في محافظة البحيرة بمصر ، وكان الابن الأكبر لأبوين مصريين من قرية شمشيرة بندر فوه التابع لمديرية الغربية سابقاً ومحافظة كفر الشيخ حاليًا.

أبواه وأخوته :

هو الابن الأكبر للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي ، وذلك نظرًا لعمله في إصلاح ، وكان الشيخ أحمد عالمًا بالسنة ، فقد رتب معظم أسانيد الأئمة الأربعة علي أبواب الفقه ، وله مؤلفات في السنة منها " بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن " كما شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل وسمى الشرح " بلوغ الأماني من أسرار الفتح الباني " ، وقد كان الشيخ يعتبر نفسه من تلامذة الإمام محمد عبده .

ووالدة الإمام الشهيد هي السيدة الفضلى:

أم سعد إبراهيم صقر , والدها تاجر مواش بقرية شمشيرة , وهي أيضًا من نفس قرية والد الإمام الشهيد وهي تواجه المحمودية علي الضفة الثانية للنيل .

وكانت ذكية ومدبرة وواعية , كما كانت علي جانب كبير من العناد , فإذا انتهت إلي قرار فمن الصعب أن تتنازل عنه , وهي صفة ورثها الإمام الشهيد ابنها الأكبر كما ورث منها ملامح الوجه, ولكن العناد تحول إلي صورة سوية أصبح معه " قوة إرادة " ولم يشاركه في هذه الوراثة من إخوته سوي شقيقه عبد الباسط رحمه الله .

إخوته :

عبد الرحمن الذي أسس جمعية الحضارة الإسلامية في القاهرة التي اندمجت في الإخوان عند انتقال الإمام البنا إلي القاهرة وأصبح من الأعضاء البارزين في الإخوان .

وفاطمة ( حرم الأستاذ عبد الحكيم عابدين ) , ومحمد توفي في مارس 1990م شعبان 1410هـ , وعبد الباسط ( وكان ضابطًا بالبوليس ورافق الإمام الشهيد حتى قبيل أيام من اغتياله ، واستقال من خدمة البوليس وعمل بالسعودية وتوفى بها ودفن بالبقيع بناء علي وصيته رحمه الله ) , وزينب التي توفيت وهي لم تتجاوز السنة من عمرها.

والأستاذ أحمد جمال الدين ( الكاتب المعروف والمصنف والمشهور باسم جمال البنا ) , وفوزية ( حرم الأستاذ عبد الكريم منصور المحامي الذي كان مع الإمام الشهيد ليلة الاستشهاد وأصابه رشاش من رصاصات القتلة وتوفى سنة 1989 رحمه الله ) .

وقد ولد كل هؤلاء الأولاد والبنات في بيت واحد وفي غرفة واحدة كان يطلق عليها " غرفة الدكة " أو " مسقط الرؤوس العظيمة " .

ثانيًا : علاقة الإمام البنا العائلية
الإمام البنا مع أسرته

أ – الأسرة التي نشأ فيها وترعرع :

كانالإمام الشهيد حسن البنا هو الابن الأكبر للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا ثم تلاه عبد الرحمن ثم فاطمة ثم محمد فعبد الباسط فزينب التي توفيت بعد عام تقريبًا من ميلادها , فجمال ثم الأخت الصغرى فوزية وقد أحاط الأب وكذلك الأم ابنها حسن برعاية كاملة حتى أن الأم " تتمسك بأن يتم حسن تعليمه علي أعلي مستوى.وعندما ضاقت موارد الأسرة باعت ( كردانها ) الذهبي , وفي مرحلة لاحقة ولاستكمال التعليم أيضًا باعت سواريها وكانت مضفرة ثقيلة من الذهب البندقي- كما يقولون – أي أنها من الذهب الخالص عيار 24 "

وعندما تجاوز الابن مرحلة الطفولة قام بمعاونة أبيه في إصلاح الساعات وقضاء بعض الأعمال نيابة عن الوالد , وكان والد الإمام الشهيد يكلفه بقضاء العديد من المصالح وتسوية بعض المشكلات بالبلد ( المحمودية ) بعد أن مضي علي انتقاله إلي القاهرة قرابة عامين.

وظل والده يتعلق بهذه الأعمال حتى عام 1933م " وبعد تعيين الإمام بالإسماعيلية ظل يعاون أباه ولكن بطريقة أخري , فقد كان يمد أباه بربع أو ثلث مرتبه فضلاً عن استضافته لبعض إخوته , وذلك عندما ضاقت أحوال والده المادية يقول جمال البنا :

" عندما بدأت الضائقة الاقتصادية تطبق عليه ( والد الإمام البنا ) أعانه ابنه الأكبر الإمام الشهيد بمبلغ أربعة أو خمسة جنيهات فضلاً عن أنه استقدم إليه بعض أشقائه لمدد طويلة " .

ولم تقتصر مساعدة الإمام الشهيد لوالديه علي المساعدة المالية بل ساعد أيضًا فر تربية إخوته من الناحية الخلقية ومن الناحية العلمية .

ولم يكتف بالاهتمام بمن يعيش معه من إخوته بل كان يقدم النصيحة للأب للعناية ببقية الأخوة فهو يقول في أحد خطاباته لوالده :

" أما جمال فهو مسرور كل السرور وقد أدخلته مدرسة أولية فهو يتعلم بها ويحبه أساتذتها ويكرمونه جداً ، أما فاطمة فأنا أوصيها كلما سنحت الفرصة الوصايا التهذيبية وسأشرع معها في القراءة والكتابة بحول الله وقوته .
وعبد الباسط كذلك أهتم بتهذيبه جداً ، وبالجملة فآمل بعون الله أن أوفق إلي أرشادهم خير الإرشاد إلي ما ينفعهم في المعاش والعبادة ولهم درسان في الأسبوع بعد العشاء يحفظون فيها الحديث ، وكم يكون سروركم عظيمًا إذ سمعتم جمال الدين وهو يقرأ الأحاديث التي حفظها بتجويد وإتقان مثلاً " يامعاذ أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك ولتبك علي خطيئتك " وحديث " صل من قطعك وأحسن إلي من أساء إليك وقل الحق ولو علي نفسك " الخ ، وكذلك الجميع ، ولنا جدول منظم يشمل الرياضة والمذاكرة والسمر والطعام ، فاطمئنوا من هذه الوجهة كل الاطمئنان .
وزارنا بعض الإخوان المدرسين والموظفين فكان لتلك الزيارات أثر في نفس عبد الباسط جعله يتعلم كيف يتأدب ويقابل الناس وهكذا ، وقد فصلت لكل منهما جلبيتين من الياباني وضمنت عليها النظافة وعدم السير بالحفاء ودوام الصلاة والنظام والغسل ونحو ذلك فأصبح يسران الناظرين ، وأسأل الله التوفيق والإعانة ، والذي أرجوه أن تأدبوا محمداً وفوزية كما أؤدب أنا عبد الباسط وجمال " .

وقد أرشد البنا والده لطريقة تحبب النظام إلي الأولاد وتجعل النظام هو سمت كل أعمالهم فيقول في خطاب لوالده " سيدي الوالد ... الآن عرفت أن الأولاد إذا شعروا بالنظام في المنزل نظموا كل أعمالهم ، ولذلك أرجو أن تنظموا المنزل نظامًا حسنًا ، فمثلاً تجعلون الصالة لسفرة الأكل وحجرة للجلوس والمذاكرة وحجرة لنومكم وحجرة لنوم محمد وعبد الرحمن وتضبطوا مواعيد الطعام والنوم بقدر الإمكان " .

ولا يفعل البنا ذلك علي سبيل التفضل علي والديه بل يري أن ذلك حقهم ، ويري أن من حقهم متابعة كل تصرفاته المادية حتى أنه في خطاب من خطاباته يشرح له مصروفاته خلال ثلاثة أشهر ما تم صرفه وما تم استدانته من الأصدقاء ، ويتوقع منهم ألا يتقبلوا بعض التصرفات فيقدم لهم عذره عن هذه التصرفات ومبرراته لفعلها ويطلب من والده بعد شرح ظروفه أن يسكن غضب والدته عليه ويرضيها عنه بحكمته " .

وقد كان البنا مثالاً لما يجب أن يكون الابن لوالديه ، فقد كان أسعد أيامه كما يقول يوم يرضي عنه والده فهو يقول في أحد خطاباته:

" فقد ورد خطابكم الكريم وإن اليوم الذي استطيع فيه إرضاءكم هو أسعد أيامي حقاً ، وعقيدتي أنني ما خلقت إلا لأرضيكم ، وليس لي من الحق في كل ما يقدره الله لي بعض ما لكم ، ذلك ما اعتقده وأقوله بإخلاص ويقين . والذي أريده فقط أن تغتبطوا بذلك وتعلموه وأن تخفف سيدتي الوالدة من ألمها لعدم التوفير فإن هذه ضرورة لابد منها ستنفرج عما قليل ، والله إنني لأقضي ساعات طوالاً في ألم لتألم والدتي ، وفي تفكير كيف أرضيها وكيف أسعدها وكيف أجعلها هانئة مغتبطة . فهل يوفقني الله إلي هذه الأمنية " .

ب – الأسرة التي أسسها :

زواج الإمام البنا :

كان ممن استجاب للدعوة من أهل الإسماعيلية أسرة كريمة من أسرها تدعي أسرة الصولي ، وهم تجار من متوسطي الحال ، وكانت هذه الأسرة من الأسر المتدينة بطبيعتها ومن يربون أولادهم علي الدين ، وكانت والدة الأستاذ تزور هذه الأسرة؟

فسمعت في إحدى ليالي زيارتها صوتًا جميلاً يتلو القرآن فسألت عن مصدر ذلك الصوت فقيل لها إنها فلانة تصلي ، فلما رجعت الأم إلي منزلها أخبرت نجلها بما كان في زيارتها وأومأت إلي أن مثل هذه الفتاة الصالحة جديرة أن تكون زوجة له ، وكان ما أشارت به ، فقد تزوجها فكانت أم أبنائه وهي التي رافقته في السراء والضراء وكانت خير عون في دعوته حتى لقي ربه شهيداً مظلومًا .

ومما تذكره الابنة ثناء في حق والدتها :

والدتي رحمها الله كانت تقدم دائمًا مصلحة الدعوة علي مصلحة نفسها وبيتها ، وقد كانت تقوم علي رعايتنا حق الرعاية وتهيئ جو البيت لاستقبال الوالد المرهق من كثرة الأعباء والأعمال ، فيجد راحته في بيته لمدة سويعات قليلة ينطلق بعدها ثانياً إلي الدعوة ، ويذكر لوالدتي رحمها الله أنه عندما قام والدي بتأسيس المركز العام للإخوان المسلمين طلبت منه يأخذ كثيراً من أثاث البيت عن طيب نفس منها ليعمر بها المركز العام ، فنقل السجاجيد والستائر والمكتبات وكثيرًا من الأدوات وكانت سعيدة بذلك غاية السعادة.

لقد كانت رحمها الله تعتبر أي فرد من أفراد الجماعة هو أحد أبنائها ، وأذكر أنه عندما كانت تأتي أخت من الأخوات لتشكو زوجها كانت أمي تناقشها وكأنها أمها ، وفي نفس الوقت حماتها ، وتبادرها بالسؤال ماذا فعلت في أبني فلان حتى تصرف معك هذا التصرف ؟ ! ولقد كانت تشارك الإخوان أفراحهم وأحزانهم ، فكانت فرحة أي بيت من بيوت الإخوان هي فرحة في بيتنا ، وكانت مصيبة أي بيت هي مصيبة بيتنا أيضًا .

البنا وأولاده :

كان البنا رب أسرة مثاليًا فلم يقصر في رعاية أبنائه والعناية بهم والاهتمام بكل شئونهم ، فقد كان لكل أبن من أبنائه دوسيه خاص يكتب فيه الإمام بخطه تاريخ ميلاده ورقم قيده وتواريخ تطعيمه ،ويحتفظ فيه بجميع الشهادات الطبية التي تمت معالجته علي أساسها ، وهل أكمل العلاج وكم أستغرق المرض إلي آخر هذه التفاصيل ، وكذلك الشهادات الدراسية ويدون عليها البنا ملاحظاته ، وتري أبنته الفاضلة ثناء " وكان عند عودته ليلاً إذا وجدنا نائمين يطوف علينا ويطمئن علي غطائنا ويقبلنا ، بل يصل الأمر أنه كان يوقظ أحدنا ويصطحبه إلي الحمام ".

وكان البنا كريماً مع أولاده وكان يعطي كل واحد منهم مصروفاً يوميًا ثلاثة قروش وكان يعطي أبنه سيف الإسلام مصروفًا شهريًا إضافيًا قدره نصف جنيه لشراء الكتب وتكوين مكتبة خاصة به ، وكان الإمام يتابع كل ما يقرأه أبناؤه رغم مشاغله الدعوية .

وكان أسلوب البنا في تربية أبنائه هو التوجيه غير المباشر فقد عرض لابنه سيف الإسلام بأن دخول السينما أمر لا يليق بالمسلم فلم يدخلها سيف قط ، وكان يتابع تصرفاتهم فعندما اشتري سيف بعض الروايات الأجنبية عن المغامرات لم ينهه عن قراءتها ولكنه أبدله خيراً منها مثل قصة الأميرة ذات الهمة وسيرة عنترة بن شداد وسيف ابن ذي يزن ، وبعض روايات البطولة الإسلامية وسيرة عمر ابن عبد العزيز وكان في رمضان يجلس مع سيف الإسلام وابنته الكبرى وفاء قبل الإفطار لكي يسمعا له القرآن وكان ذلك بغرض تعليمهما ولكن ذلك تم في بعض الأحيان في غير رمضان .

وتطبيقاً لسنة الرسول صلي الله عليه وسلم " إن الله يحب المؤمن المحترف " فقد دفع بابنه الوحيد سيف الإسلام إلي مدير مطبعة الإخوان ليعلمه فن الطباعة .

وتروي أبنته ثناء عن رعاية الإمام له فتقول:

" وفي شهور الإجازة الصيفية والتي كان يقضيها مع الإخوان في محافظات الصعيد والوجه البحري كان لا ينسانا أو يتركنا بلا رعاية ، بل كان يصطحبنا إلي بيت جدي وأخوالي بالإسماعيلية لنقضي إجازتنا هناك ونستمتع ونمرح حيث المزارع الخضراء والحدائق الغناء ، وكان أخي سيف يمارس رياضة ركوب الخيل " .

إكرام البنا لأهل زوجته :

عندما تزوج الإمام البنا حرص علي أن يتعرف علي كل أهل زوجته وأقاربها ، وكل من له صلة رحم بها ، وكان يزورهم جميعًا وكثيراً ما كان يفاجئ زوجته بأنه قد زار قريبها فلان اليوم .
وكان رحمه الله يعامل خادمته كأنها من أهل البيت حيث كان للخادمة مثل أولاده سرير مستقل ودرج مستقر في دولاب واحد ، لكل واحد من أبنائه درج فيه .
وكان يكلف أبنته الكبرى وفاء بتعليم الخادمة في المساء القراءة والكتابة وأن تعلمها الصلاة وكثيراً ما كان يزور الخادمة في بيت زوجها عند زواجها وبعد مدة من توقفها عن الخدمة في بيته " .

وتقول ابنته ثناء :

أذكر أنني ذات مرة عاملت الشغالة معاملة غير لائقة فأفهمني أن ما فعلته معها خطأ لأنها أختي في الإسلام، وكان عقابه لي أن أمسك بقلم رصاص وضربني به علي يدي ، وكان هذا كافيًا جداً يشعرني بأنه غاضب علي وكان درسًا لي لم أنسه طوال حياتي .

التكوين العلمي والثقافي

أولاً : التكوين العلمي

بدأ الإمام الشهيد دراسته بالقرآن الكريم والثقافة الإسلامية فقد تطابقت إرادة والديه علي هذه البداية .

فقد أراد له أبوه رحمه الله أن ينشأ نشأة إسلامية حقيقية وأصر علي أن يحفظ القرآن ، واستكمل له الكثير من جوانب الثقافة الإسلامية في سن مبكرة ، ثم عهد به إلي الشيخ ( محمد زهران ) الذي كان أيضًا شيخه الأول وكان الشيخ زهران كفيفًا .

يقول عبد الرحمن البنا عن طفولة الإمام الشهيد:

" كنا نعود من المكتب فتتلقفنا يد الوالد الكريم ، فتعدنا وتصنعنا ، وتحفظنا دروس السيرة النبوية المطهرة وأصول الفقه والنحو ، وكان له منهاج يدرسه لنا الوالد الكريم ، وكانت مكتبة الوالد تفيض بالكتب وتمتلئ بالمجلدات ، وكنا ندور عليها بأعيننا الصغيرة ، فتلمع أسماؤها بالذهب ، فنقرأ :
النيسابوري ، والقسطلاني ، ونيل الأوطار ، وكان يبيحها لنا ويشجعنا علي اقتحامها ، وكان أخي هو المجلي في الحلبة وفارس الميدان ، وكنت أحاول اللحاق به ، ولكنه كان غير عادي ، كان فرق السن بيننا سنتين ، ولكنه لم يكن الفرق الحقيقي ، بل فرق إرادة إلهية أعدته لأمر عظيم ، فكان طالب علم ولكنه مستقر موهبة ومستودع منحة ربانية ، وشتان بين المنزلتين ، وفرق بعيد بين المريد والمراد ! وكنا نسمع ما يدور في مجلس الوالد الكريم من مناقشات علمية ومساجلات ، ونصغي للمناظرات بينه وبين من يحضر مجلسه من جلة العلماء ، أمثال الشيخ محمد زهران والشيخ حامد محيسن ، فنسمعهم وهم يناقشون عشرات المسائل .

وكانت مراحل دراسة الإمام الشهيد كما يلي :

  1. مدرسة الرشاد الدينية .
  2. المدرسة الإعدادية .
  3. مدرسة المعلمين الأولية بدمنهور .
  4. دار العلوم بالقاهرة .

مدرسة الرشاد

وكانت مدرسة الرشاد هي أول مدرسة التحق بها الإمام الشهيد حيث التحق بهذه المدرسة وسنه حوالي ثمانية أعوام واستمر لمدة أربع سنوات ، وكانت هي الأساس والقاعدة الصلبة التي استند عليها في تجاوز مراحل تعليمه اللاحقة بجدارة وتوفيق ونجابة ، وقد تحدث الإمام الشهيد عن هذه المدرسة وهو يتكلم عن مؤسسها الشيخ محمد زهران فقال :

" وأنشأ مع ذلك مدرسة الرشاد الدينية سنة 1915م تقريبًا لتعليم النشء علي صورة كتاتيب الإعانة الأهلية المنتشرة في ذلك العهد في القرى والريف ، ولكنها في منهج المعاهد الرائعة التي تعتبر دار علم ومعهد تربية علي السواء ، ممتازة في مادتها وطريقتها وتشتمل مواد الدراسة فيها – زيادة علي المواد المعروفة في أمثالها حينذاك – علي الأحاديث النبوية حفظًا وفهما.

فكان علي التلاميذ أن يدرسوا كل أسبوع في نهاية حصص يوم الخميس حديثاً جديداً يشرح لهم حتى يفقهوه ، ويكررونه حتى يحفظوه ثم يستعرضون معه ما سبق أن يدرسوه ، فلا ينتهي العام إلا وقد حصلوا ثروة لا بأس بها من حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وأذكر أن معظم ما أحفظ من الأحاديث بنصه هو مما علق بالذهن منذ ذلك الحين ، كما كانت تشتمل كذلك علي الإنشاء والقواعد والتطبيق ، وطرف من الأدب في المطالعة أو الإملاء ، ومحفوظات ممتازة من جيد النظم أو النثر ، ولم يكن شيء من هذه المواد معروفًا في الكتاتيب المماثلة .

وقالالإمام الشهيد عن شيخه:

" وكان للرجل أسلوب في التدريب والتربية مؤثر منتج ، رغم أنه لم يدرس علوم التربية ولم يتلق قواعد علم النفس ، فكان يعتمد أكثر ما يعتمد علي المشاركة الوجدانية بينه وبين تلامذته ، وكان يحاسبهم علي تصرفاتهم حسابًا دقيقاً مشربًا بإشعارهم الثقة بهم والاعتماد عليهم ، ويجازيهم علي الإحسان أو الإساءة جزاء أدبيًا يبعث في النفس نشوة الرضا والسرور مع الإحسان ، كما يذيقها قوارص الألم والحزن مع الإساءة ، وكثيراً ما يكون في صورة نكتة لاذعة أو دعوة صالحة أو بيت من الشعر إذ كان الأستاذ يقرضه علي قلة ولا أزال أذكر بيتا من الشعر كان مكافأة علي إجابة في التطبيق أعجبته فأمرني أن أكتب تحت درجة الموضوع :
حسن أجاب وفي الجواب أجادا فالله يمنحه رضا ورشادادرجته :
يا غارة الله جدي السير مسرعة في أخذ هذا الفتي يا غارة الله
ولقد ذهبت مثلاً وأطلقت علي هذا الزميل اسمًا فكنا كثيراً ما نناديه إذا أردنا أن نغيظه "يا غارة الله "، وإنما كان الأستاذ يوصي بكراسة بأن يكتب بنفسه ما يمليه عليه لأنه رحمه الله كان كفيفاً ولكن في بصيرته نور كثير عن المبصرين ولعلي أدركت منذ تلك اللحظة وإن لم أشعر بهذا الإدراك أثر التجاوب الروحي والمشاركة العاطفية بين التلميذ والأستاذ ، فلقد كنا نحب أستاذنا حبًا جمًا رغم ما كان يكلفنا به من مرهقات الأعمال "

وكذلك استفاد الإمام البنا من شيخه حب الاطلاع والقراءة ومجالسة العلماء والانتفاع بعلمهم فيقول الإمام البنا:

" ولعلي أفدت منه – رحمه الله – مع تلك العاطفة الروحية حب الاطلاع وكثرة القراءة ، إذ كثيراً ما كان يصطحبني إلي مكتبته وفيها الكثير من المؤلفات النافعة لأراجع له وأقرأ عليه ما يحتاج إليه من مسائل ، وكثيراً ما يكون معه بعض جلسائه من أهل العلم فيتناولون الموضوع بالبحث والنظر والنقاش وأناأسمع".

المدرسة الإعدادية

" تغير الحال في مدرسة الرشاد المباركة لما تركها مؤسسها الشيخ محمد زهران ، وعهد بها إلي غيره من العرفاء الذين ليسوا مثل الشيخ في صفاته وجلاله ، وبالرغم من أن الإمام الشهيد لم يتم حفظ القرآن ، ولم يحقق رغبة والده الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا فهو لم يتجاوز بعد سورة الإسراء ابتداء من البقرة ، وبالرغم من إلحاح الوالد علي إتمام حفظ القرآن إلا أن الإمام الشهيد صارحه فجأة وفي تصميم عجيب أنه لم يعد يطيق أن يستمر بهذه الكتاتيب ، وأنه لابد أن يلتحق بالمدرسة الإعدادية فوافق الوالد بعد عنت شديد بشرط أن يتم الإمام الشهيد حفظ القرآن من منزله " .
" وما حاء أول أسبوع حتى كان الغلام ( حسن البنا ) طالبًا بالمدرسة الإعدادية يقسم وقته بين الدرس نهاراً وتعلم حرفة الساعات التي ألم بها بعد الانصراف من المدرسة إلي العشاء ، ويستذكر هذه الدروس بعد ذلك إلي النوم ويحفظ حصة من القرآن الكريم بعد صلاة الصبح حتى يذهب إلي المدرسة " .
وقد شارك الإمام الشهيد أثناء دراسته بالمدرسة الإعدادية في جمعية منع المحرمات ، كما كان رئيسًا لمجلس إدارة جمعية الأخلاق الأدبية وكانت تحت إشراف أحد أساتذة المدرسة ، واستمر الإمام البنا في هذه المدرسة لمدة سنتين حتى ألغيت المدارس الإعدادية واستبدلت بنظام المدارس الابتدائية .

مدرسة المعلمين الأولية

يقول الإمام الشهيد عن كيفية التحاقه بمدرسة المعلمين الأولية بدمنهور:

" وكان هذا الطالب ( حسن البنا ) قد وفي بعهده فاستمر بحفظ القرآن الذي خرج به من مدرسة الرشاد وأضاف إليه ربعا آخر إلي سورة " يس " ، وقرر مجلس مديرية البحيرة إلغاء نظام المدارس الإعدادية وتعديلها إلي مدارس ابتدائية ، فلم بكن أمام الطالب إلا أن يختار بين أن يتقدم إلي المعهد الديني بالإسكندرية ليكون أزهريًا أو مدرسة المعلمين الأولية بدمنهور ليختصر الطريق ويكون بعد ثلاث سنوات معلمًا، ورجحت كفة الرأي الثاني في النهاية وجاء موعد تقديم الطلبات وتقدم بطلبه فعلاً ، ولكنه كان أما عقبتين :
عقبة السن فهو ما يزال في منتصف الرابعة عشرة وأقل سن القبول في الدخول ولابد من أداء امتحان شفهي في القرآن الكريم ، ولقد كان ناظر المدرسة حينذاك ، وهو الأستاذ " بشير الدسوقي موسي " كريماً متلطفًا ، فتلطف بالطالب وتجاوز عن شرط السن وقبل منه التعهد بحفظ ربع القرآن الباقي ، وصرح له بأداء الامتحان التحريري والشفهي فأداهما بنجاح ، ومنذ ذلك الوقت أصبح طالبًا بمدرسة المعلمين الأولية بدمنهور ، وكان للإمام الشهيد في هذه الفترة نظام حياة لا يكاد يتبدل إلا في الطارئ الشديد فيقول :
" كنت أمضي الأسبوع المدرسي في دمنهور ، وأعود ظهر الخميس إلي المحمودية حيث أمضي ليلة الجمعة وليلة السبت ، ثم أعود صباح السبت إلي المدرسة فأدرك الدرس الأول في موعده .
وكان لي في المحمودية مآرب كثيرة تقضي في هذه الفترة غير زيارة الأهل وقضاء الوقت معهم ، فقد كانت الصداقة بيني وبين الأخأحمد أفندي السكري قد توثقت أواصرها إلي درجة أن أحدنا ما كان يصبر أن يغيب عن الآخر طوال هذه الفترة أسبوعًا كاملاً دون لقاء.
يضاف إلي ذلك أن ليلة الجمعة في منزل الشيخ شلبي الرجٌَال بعد الحضرة ( حيث كنا نتدارس فيها كتب التصوف من الإحياء والياقوت والجواهر وغيرها ، ونسمع أحوال الأولياء ، ونذكر الله إلي الصباح ) كانت من أقدس مناهج حياتنا ، وكنت قد تقدمت في صناعة الساعات وفي صناعة التجليد أيضاً ، أقضي فترة النهار في الدكان صانعًا وفترة الليل مع الإخوان الحصافية ذاكراً .
ولهذه المآرب جميعًا لم أكن أستطيع أن أتخلف عن الحضور يوم الخميس إلا لضرورة قاهرة ، وكنت أنزل من قطار الدلتا إلي الدكان مباشرة ، فأزاول عملي في الساعات إلي قبيل المغرب حيث أذهب إلي المنزل لأفطر إذ كان من عادتنا صوم الخميس والاثنين ثم إلي المسجد الصغير بعد ذلك للدرس والحضرة ثم إلي منزل الشيخ شلبي الرجال أو منزل أحمد أفندي السكري للمدارسة والذكر ثم إلي المسجد لصلاة الفجر ، وبعد ذلك استراحة يعقبها الذهاب إلي الدكان وصلاة الجمعة والغداء والدكان إلي المغرب فالمسجد فالمنزل وفي الصباح إلي المدرسة ، وهكذا دواليك في ترتيب لا أذكر أنه تخلف أسبوعًا إلا لضرورة طارئة " .

وكانت هذه المرحلة مرحلة تحول في حياة الإمام البنا من الناحية العلمية والثقافية " فقد كانت أيام مدرسة المعلمين في سنواتها الثلاث أيام استغراق في التصوف والتعبد ، ولكنها مع ذلك لم تخل من إقبال علي الدروس وتحصيل العلم خارج حدود المناهج المدرسية ، ومرد ذلك إلي أمرين.

أولهما : مكتبة الوالد وتشجيعه له بالقراءة وإهدائه إياه كتبا كان لها أبلغ الأثر في نفسه ومن أمثلتها : ( الأنوار المحمدية للنبهاني ) و ( مختصر المواهب اللدنية للقسطلاني ) و( نور اليقين في سيرة سيد المرسلين للشيخ الخضري ) ، وقد صارت له – بناء علي هذا التوجيه وما تولد منه من شغف بالمطالعة وإقبال عليها – مكتبة خاصة فيها مجلات قديمة وكتب متنوعة " .

أما الأمر الثاني : فهو تشجيع المدرسين المخلصين للإمام الشهيد وصلته الروحية بهم أمثال الأستاذ عبد العزيز عطية ناظر مدرسة المعلمين حينذاك والأستاذ فرحات سليم ، والأستاذ الشيخ عبد الفتاح أبو علام والأستاذ الحاج علي سليمان والأستاذ الشيخ البسيوني .

ومن الأمثلة أن الأستاذ عبد العزيز عطية ذات مرة اختبر الطلاب في مادة التربية العملية اختبار شهريًا وأعجبته إجابة الإمام الشهيد فكتب علي ورقته :

أحسنت جداً ولو كان هناك زيادة علي النهاية لأعطيتك . وحجز الورقة بيده عند التوزيع ثم طلب الإمام الشهيد وسلمه ورقته وزوده بكثير من عبارات النصح والتشجيع والحث علي القراءة والدرس والمطالعة ، كما اختصه بتصحيح بعض " بروفات " كتابه " المعلم " في التربية الذي يطبع إذ ذاك بمطبعة المستقبل بدمنهور .

وأدي الإمام الشهيد امتحان كفاءة التعليم فكان الأول في المدرسة والخامس في القطر ، وكانت هذه النتيجة مفاجأة للإمام الشهيد وكان نجاحه في دخول دار العلوم مفاجأة ثانية ، وكانت مفاجأة ثالثة – كما يقول هو - :

" أن مجلس مديرية البحيرة قرر تعييني فعلاً مدرسًا بمدرسة خربتا الأولية ، ودعيت إلي تسليم عملي عقب الإجازة الصيفية مباشرة ، فكان علي بناء علي هذا أن أختار بين الوظيفة أو العودة إلي طلب العلم بدار العلوم ولكني في النهاية فضلت أن أستمر في سلك التعلم ، وأن أشد الرحال إلي القاهرة ، حيث دار العلوم .

دار العلوم

الإمام-الشهيد-حسن-البنا-عند-تخرجه.jpg

القدر يدخل البنا دار العلوم :

نظراً لما كان عليه الإمام الشهيد من علي غزير عرض عليه بعض زملائه المذاكرة معًا للتقدم إلي دار العلوم العليا ، ويقول الإمام الشهيد في ذلك :

" هذه الثروة العلمية وجهت نظر بعض إخواننا الذين كانوا يعدون أنفسهم للتقدم إلي دار العلوم العليا في ذلك الوقت من مدرسي المدرسة الأولية الملحقة بالمعلمين إلي أن يعرضوا علي أن نذاكر معًا ونتقدم معًا إلي دار العلوم العليا
وكانت دار العلوم حينئذ قسمين :
القسم التجهيزي ، وهذا يتقدم إليه من شاء من طلاب الأزهر ومدارس المعلمين ، والقسم العالي المؤقت ويتقدم إليه من شاء كذلك من هؤلاء الطلاب ، ويكونون غالبًا قد حصلوا علي الشهادة الثانوية الأزهرية ، وكان القسم العالي هذا لم يبق للتقدم إليه إلا هذا العام ( عام 23-24 الدراسي ) ثم يلغي ليحل محله القسم العالي الذي يستمد من التجهيزي وكثرة الإقبال علي القسم العالي المؤقت علي اعتبار أنها الفرصة الوحيدة لمن يريدون اللحاق به .
" وأراد الأستاذ الشيخ علي نوفل أن نذاكر معًا ، وكنت في السنة الثانية أي في السنة التي سأؤدي فيها امتحان شهادة الكفاءة للتعليم الأولي ، وكان هو مدرسًا بالملحقة للمعلمين ، فاعتذرت عن المذاكرة معه ولكنه دخل علي من باب حقوق الأخوة ووجوب معاونة الإخوان والاستماع لرأيهم ، فلم أر بداً من الإصغاء إليه ".

وكان للإمام البنا رأي في العلم تأثراً برأي الإمام الغزالي في أن العلم الواجب هم العلم المحتاج إليه في أداء الفرائض وكسب العيش ثم الانصراف بعد ذلك إلي العمل ، وظل يتساءل بينه وبين نفسه لماذا يريد دخول دار العلوم ، هل للاستزادة من العلم ، فالعلم موجود في الكتب وعند العلماء ، أما إذا كان للدنيا فهذا شر ما يعمل له إنسان وتغلبت عليه الفلسفة علي نفسه حتى استطاع أحد أساتذته أن يقنعه بخلاف ذلك ، يقول الإمام الشهيد :

كادت هذه الفلسفة تغلب علي نفسي بل هي تغلبت فعلاً ، فلم أذاكر مع الأخ الأستاذ نوفل تذممًا ، ولكن أستاذنا الشيخ فرحات سليم رحمه الله وكان يحبني حبًا جمًا ويظهر عطفه علي في كل مناسبة ، وينزل من نفسي منزلة كريمة ، استطاع بلباقة ولطف أن يدفعني إلي المذاكرة بجد ، وإلي التقدم إلي دار العلوم فعلاً ، وكان من قوله : إنك الآن علي أبواب شهادة الكفاءة والعلم لا يضر ، وتقدمك في امتحان دار العلوم تجربة للامتحانات الكبيرة ، وهذه فرصة لا تعوض ، فتقدم لتحفظ لنفسك حقها ، وأنا واثق من نجاحك إن شاء الله ، ثم أمامنا بعد ذلك مجال نفكر فيه كما تشاء ولك أن ترفض أو تدخل ، وهكذا استطاع بتأثيره القوى أن يدفعني دفعًا إلي التقدم بطلبي مع المتقدمين فتقدمت ، وكان الامتحان قبل امتحان شهادة الكفاءة بفترة قليلة .

دخول دار العلوم :

تقدم الإمام البنا لدخول دار العلوم وأخطر بميعاد الكشف الطبي والامتحان وكان ذلك في رمضان ، وكان أبوه قد أرسله إلي أحد أصدقائه من تجار الكتب الميسورين بالقاهرة ليعاونه ولكن هذا الرجل لم يعاونه في شيء ، ثم ذهب الإمام الشهيد لأحد أصدقائه الذين سبقوه إلي دار العلوم بعام وهو الأستاذ محمد شرف حجاج لسؤاله عن طريقة الكشف الطبي والامتحان ، وقد نصحه بعمل نظارة طبية ، وأثناء زيارته للأزهر قابل بعض الطلاب الراغبين في دخول دار العلوم ،

يقول الإمام عن ذلك:

نحو عشرة أيام ، وللكشف الذي سيتم بعد ثلاثة أيام تقريبًا فاندمجت فيهم ، وتحدثت إليهم عن رغبتي وعن " كان عملي في اليوم الثاني منذ الصباح أن قصدت إلي ذلك التاجر الكتبي ، بعد أن ذهبت إلي صديقي في المدرسة ، ليدلني علي صانع نظرات ليصنع لي نظارة طبية استعدادً للكشف ، ولكنه أعرض كعادته فلم أشأ أن أضيع الوقت ، وذهبت من فوري إلي الأزهر ودخلته لأول مرة وراعني ما رأيت من سعة وبساطة ، وحلق الطلاب فيه يدرسون ويذاكرون ووقفت علي الحلق واحدة فواحدة.

ثم رأيت حلقة يتحدثون أهلها عن دخول دار العلوم ، وفهمت أنهم متقدمون لامتحانها الذي سيكون بعد حاجتي إلي من يرشدني إلي طبيب لأصنع نظارة طبية ، فتطوع معي أحدهم وقام من فوره إلي عيادة دكتورة يونانية فيما أظن ولكنها متمصرة ، وصفها بالحذق والمهارة ، وأنها صنعت له نظارة مناسبة مع اعتدال القيمة ، وعندما وصلنا إليها بدأت عملها وأخذت في نظير الكشف خمسين قرشاًَ ، ودلتنا علي محل النظارات الذي أخذ بدوره ثمنًا للنظارة مائة وخمسون قرشاً وأنجز النظارة فوراً ، وبذلك لم يبق أمامي إلا انتظار الكشف بعد يومين " .

صورة الإمام عند التخرج

الكشف الطبي لدخول دار العلوم :

يقول الإمام الشهيد:
" ولست أبالغ حين أقول إن التوفيق حالفني في هذا الكشف محالفة عجيبة في الوقت الذي رأيت بعض من أعرف يخونهم الحظ " سبحان من قسم الحظوظ فلا عتاب ولا ملامة " لقد كان الأطباء ثلاثة ، وكنت آخر اسم في الكشف من نصيب أولهم وهو أطيبهم وأيسرهم كشفًا ، وكان الأخ علي نوفل من نصيب ثالثهم ، وهو أقساهم قلبًا وكشفا ، وبقدر ما كانت نسبة النجاح عند طبيبي عالية ، كانت نسبة الرسوب عند هذا الآخر أعلي ، فنجحت مع شكي التام في النجاح ، ورسب هو مع تأكده التام من سلامة بصره وبدنه ومع استعداده الكامل لهذا النجاح " .

النجاح في امتحان القبول :

يقول الإمام البنا عن ذلك:
" ظهرت نتيجة الكشف وكانت في الحقيقة مفاجأة لي أن أكتب من الناجحين ، ولذلك واجهت مهمة الامتحان في جد لا هزل معه ، فلم يكن إلا الجد ولم يبق إلا أسبوع واحد فلا ينفع إلا التبتل ، وقد كان ، فقد حملت أمتعتي وكتبي ويممت شطر الأزهر المعمور ، وهناك ، وفي القبلة القديمة بالضبط حططت رحالي ، وتعرفت إلي بعض الزملاء المتقدمين إلي دار العلوم ، ونوينا الاعتكاف هذا الأسبوع للعلم وللبركة معًا نتناوب الخروج لإحضار طعام الإفطار والسحور ، ونتناوب الحراسة في النوم فلا ننام إلا غراراً ، وقاتل الله علم العروض فلم أكن أفقه شيئاً من زحافة وعلله وضروبه وقوافيه وكان جديداً علي بكل معني الكلمة.
لكني أخذت أستذكر والسلام ، وكنت أخشي النحو والصرف إذ كنت أتصور أنني لا أشق فيهما غبار الطلاب المتقدمين من الأزهريين الذين جاوزوا الشهادة الأهلية ودرسوا في السنوات العالية ، نعم إنني أحفظ الألفية ، وقرأت شرح ابن عقيل عليها ، وشاركني الوالد في بعض هذه الشئون ، ولكنها لم تكن الدراسة المنظمة التي تهدأ معها النفس ، ويسكن لها القلب ، وجاءت أيام الامتحان ومرت بسلام ، ولازلت أذكر بيت العروض الذي امتحنا فيه وأذكر أنه طلب إلينا أن نقطعه ونذكر ما فيه من علل وزحاف ومن أي بحر هو :
لـو كنـت من شــيء ســوي بشــر كـنت المــنور ليلــة البـــدر
وقد كانت عناية الله تلحظ الإمام الشهيد فقد روي الأستاذ محمود عبد الحليم أن الإمام الشهيدحدثه عن قبوله في دار العلوم فقال:
" ولما حان موعد الامتحان للالتحاق بدار العلوم نفسها وجد أن مطالب الحياة الضرورية لم تدع له وقتًا تؤهله مذاكرته فيه أن يدخل الامتحان ، فشكا إلي الله الذي يعلم أنه لم يقصر لحظة واحدة .. يقول رحمه الله "
ونمت ليلة الامتحان فإذا بي أري فيما يري النائم رجلاً يواسيني ويقول لي:
التفت إلي فالتفت إليه فإذا بيده كتاب المادة التي سأمتحن فيها في الصباح ، فيفتح الكتاب عند صفحة معينة ويشير إلي أن أقرأ حتى إذا قرأت الصفحة فتح الكتاب عند صفحة أخري فأقرأها ، وهكذا حتى أنهي الكتاب فأغلقه وتركني ، فلما أصبحت وجدتني حافظاً كل ما قرأت وكانت هذه طبيعتي أن أحفظ ما أقرأه ودخلت الامتحان فإذا الأسئلة كلها هي نفس ما قرأته في الرؤيا .. وهكذا مرت ليالي الامتحان وأيامه علي هذا النحو وظهرت النتيجة وكنت الأول والحمد لله " .

ويحكي الإمام الشهيد هذا الأمر في كتابه مذكرات الدعوة والداعية وبخاصة ليلة امتحان النحو والصرف فيقول :

" وإن من فضل الله تبارك وتعالي أنه يطمئن ويسكن نفوس عباده ، وإذا أراد أمراً هيأ له الأسباب .

فلا زلت أذكر ليلة امتحان النحو والصرف ( وليس الجبر كما جاء في بعض القول )رأيت فيما يري النائم :

أنني أركب زورقاً لطيفاً مع بعض العلماء الفضلاء الأجلاء يسير بنا الهويني في نسيم ورخاء علي صفحة النيل الجميلة ، فتقدم أحد هؤلاء الفضلاء ، وكان في زى علماء الصعيد ، وقال لي : أين شرح الألفية لابن عقيل ؟ فقلت ها هو ذا ، فقال :

تعال نراجع فيه بعض الموضوعات ، هات صفحة كذا وصفحة كذا لصفحات بعينها ، وأخذت أراجع موضوعاتها حتى استيقظت منشرحًا مسروراً .

وفي الصباح جاء الكثير من الأسئلة حول هذه الموضوعات ، فكان ذلك تيسيراً من الله تبارك وتعالي ، والرؤيا الصالحة عجل بشري المؤمن والحمد لله رب العالمين .

يقول الإمام رحمه الله :

" وغدوت يوم افتتاح الدراسة إلي دار العلوم وكلي شوق إلي العلم ، وقد وجهني الله إلي الدرس توجيهاً حميداً ، ولا أنسي الحصة الأولي ولم نكن قد تسلمنا الكتب والأدوات بعد ، وقد وقف أستاذنا الشاعر البدوي الشيخ محمد عبد المطلب – أغدق الله عليه شآبيب الرحمة والرضوان – أمام السبورة علي المنصة بقامته المديدة يحيي الطلبة الجدد ، ويتمني لهم النجاح والتوفيق ، ثم كتب علي السبورة ، قال عبيد بن الأبرص :

ولـنـا دار ورثـنا مــجــدها الـــ أقـدم القـدمـوس عن عـم وخـال مـنـزل مـنـه آبـاء ورثــونــــا المجـــد فـي أولـي الليــالـي

ثم أمسك جبته الأعلى ، علي عادته – رحمه الله – وقرأها في جرس يحمل معني الفخار والاعتزاز ، ثم طالبنا بإعرابهما ، فقلت في نفسي " بدأنا الجد من أول يوم " وأخذت أتساءل :

ما هذا القدموس ؟ ولماذا قال " منه " وكان في وسعه أن يقول أسسه ؟ ومازلنا ننحت في إعراب البيتين حتى نقلنا الحوار إلي الكلام عن عبيد ابن الأبرص والحياة العربية وما فيها من خشونة ولين وأيام العرب وأوابدها وأدواتها في حربها وسلمها ، وأنواع الرماح والسيوف والسهام وإلي السهم الريش والذي لا ريش له واستشهد الأستاذ بالبيت المعروف :

رمــتني بـسـهم ريشه الكحـل لم يضر ظاهـر جلـدي وهو للقلــب جـارح

وأخذ يرسم علي السبورة السهام بأنواعها ، وأنا مأخوذ بهذا النوع من الاستطراد والتوسع في البحث ، أتابعه بشغف وشوق ، وزادني هذا الأسلوب للعلم حبًا ، ولدار العلوم وأساتذتها احترامًا وعجبًا " .

وتفوق الإمام الشهيد من السنة الأولي لدراسته في دار العلوم وكان الثالث علي دفعته .

ولم يكتف الإمام الشهيد بما كان يدرسه في دار العلوم ، ولكنه كان محبًا للعلم وتحصيله بشتى الطرق ، فقد كان يتردد علي المكتبات وكبار المفكرين والعلماء في ذلك العصر .

ولم يكتف الإمام الشهيد بكل ذلك بل جعل المكافأة الشهرية التي كانت تمنحها له دار العلوم لشراء الكتب النافعة ، وقد قرأ الإمام الشهيد في شتى مجالات المعرفة ، وتشكلت ثقافته من كل أصناف ميراث الحضارة الإسلامية والتاريخ .

فقرأ للغزالي المتصوف والزمخشري وفخر الدين الرازي الفيلسوف وأبي الحسن الأشعري ( مؤسس المدرسة الشعرية ) بالإضافة إلي كتابات السلف والأئمة الصوفية ، كما قرأ لديكارت وإسحق نيوتن وميشال الفلكي الإنجليزي وهربرت اسبنسر واستشهد بهم " .

وقد كان الإمام الشهيد لا يكتفي بمجرد القراءة في المجالات المختلفة فيعرف شيئاً عن شيء بل كانت ثقافته موسوعية ، فقد كان يعرف التطور التاريخي لكل علم وأصوله لا سيما في اللغة والشرع ، حتى أنه كتب في كثير من علوم اللغة والشرع .

ويروي الأستاذ محمود عبد الحليم عن امتحانه في دبلوم العلوم فيقول نقلاً عن الإمام الشهيد :

" وكان امتحان الأدب العربي هو الامتحان الرئيس في الدار وكان الامتحان فيه تحريريًا وشفويًا ، فلما مثلت بين يدي لجنة الامتحان الشفوي في امتحان الدبلوم النهائي لدار العلوم سألني رئيس اللجنة عما أحفظ من الشعر فقدمت إليه الكراريس فقال لي : ما هذه الكراريس ؟ قلت أن ما فيها هو ما أحفظه ! فتعجب الرجل وقال : هل أنت علي استعداد أن اسمع منك أية قصيدة أختارها من هذه الكراريس ؟ فأجبته بالإيجاب ، فطفق يطلب إلي أن أقرأ فأقرأ حتى اطمئن إلي أنني أحفظ ما فيها جميعًا .

ثم قال لي : أني أسألك السؤال الأخير : ما أحسن بيت أعجبك في الشعر العربي ؟ قلت : أحسن بيت أعجبني هو قول طرفة بن عبد في معلقته :

إذا القـوم قـالـوا من فتـى خـلت أنـني عُنـيت فـلـم أكســل ولم أتـبلـد

قال : قم يا بني هذا السؤال يسأل للنابهين من الطلبة في كل عام هنا ، وفي الأزهر فلم يجب أحد بمثل ما أجبت إلا الشيخ محمد عبده .. إنني أتنبأ لك يا بني بمستقبل عظيم " .

ويقول الإمام الشهيد في مذكراته:

" ولا أنسي الامتحان الشفهي وقد تقدمت فيه إلي اللجنة وكانت مؤلفة من الأستاذ أبو الفتح الفقي رحمه الله ، والأستاذ نجاتي ، بمجموعة من المحفوظات بلغت ثمانية عشر ألف بيت ومثلها من المنشور ومنها معلقة طرفة ، فلم أسأل إلا في بيت من المعلقة ، وأربعة أبيات من قصيدة شوقي في نابليون ومناقشة حول عمر الخيام ، وقضي الأمر ولم آسف علي هذا المجهود ، إذ كنت أبذله من أول يوم للعلم لا للامتحان " .
ثانيًا : التكوين الثقافي
الإمام مع أحد الصحفيين

مرت ثقافة الإمام البنا بمرحلتين:

المرحلة الأولي وهي الثقافة الدينية الخالصة مع علوم اللغة وهي مرحلة ما قبل دار العلوم ،ثم تنوعت مصادر ثقافته فشملت كل أنواع الثقافة سواء تاريخية أو اجتماعية أو غيرها من أنواع الثقافات .

وتمثلت ثقافته الدينية في القرآن وعلومه والسنة وعلومها ، بالإضافة إلي علوم اللغة وآدابها وعلوم التصوف والتاريخ والسير والمغازي ، وكان في كل هذه العلوم لا يأخذها من جانب واحد ولكن كان يقرأ للمتخلفين في وجهات النظر لا سيما في المسائل الخلافية وقد كتب البنا بخط يده قصاصة من الورق موضوعة في طيات كتاب " هذه هي الأغلال " ومن بين ما كتبه بخط يده فيها " ويل للذين ينظرون إلي الأشياء من جانب واحد ، ويل وويل للإنسان منهم ، ولن تجد علي الأرض أشد منهم ظلمًا ولا أسقم فهمًا " .

مرحلة الثقافة الدينية :

كانت بداية حبه للاطلاع وكثرة المطالعة في الكتب الدينية عن طريق الشيخ زهران ، فقد كان يصطحبه معه إلي مكتبته التي فيها الكثير من المؤلفات لقراءة بعض المسائل ومراجعتها ، وكثيراً ما كان يحضر لقاءات الشيخ مع أهل العلم الذين يتناولون المسائل المختلفة بالبحث والنظر والنقاش .

كما كان لوالد البنا أثر كبير في ثقافته حيث كان يشجعه علي القراءة في مكتبته الخاصة ويهديه بعض الكتب مثل ( الأنوار المحمدية للنبهاني ) و ( مختصر المواهب اللدنية للقسطلاني ) و ( نور اليقين في سيرة سيد المرسلين للشيخ الخضري ) ، وغيرها من الكتب بل إن والده ساعده علي تكوين مكتبة خاصة به وهو في المرحلة الإعدادية ، ومن شغف البنا بالقراءة كان يترقب الشيخ حسن الكتبي يوم السوق بفارغ الصبر ليستأجر كتبًا بالأسبوع لقاء مليمات ثم يردها ليأخذ غيرها وكان من أهم الكتب وأعظمها أثراً في نفسه قصة الأميرة ذات الهمة وقصص الشجاعة والبطولة والاستمساك بالدين والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق .

وكان لرعاية أساتذته له في مدرسة المعلمين ومناقشته المستمرة ، وحسن توجيههم له الأثر في دفعه إلي القراءة والتحصيل خارج نطاق الدراسة ، فحفظ خارج مناهج الدراسة كثيراً من المتون في العلوم المختلفة ومن أمثلتها (ملحمة الإعراب للحريري) و(ألفية ابن مالك ) و( الياقوتة في المصطلح) و(الجوهرة في التوحيد) و(الرجبية في الميراث) وبعض متن (الغاية والتقريب لأبي شجاع في فقه الشافعية) وبعض منطوق (ابن عامر في مذهب المالكية) ، وكانت لعبارة والده المأثورة " من حفظ المتون حاز الفنون " كذلك الأثر الطيب في حفظه هذه المتون حتى أنه حاول حفظ متن (الشاطبية في القراءات) مع جهله التام بمصطلحاتها.

وكان لعلاقة البنا بالطريقة الحصافية أثر في ثقافته حيث درس كتب الصوفية علي يد بعض المشايخ وكذلك درس الإحياء علي يد الشيخ حسن خزبك وكذلك سمع أحوال الأولياء والياقوت وغيرها .

وكان لهذه الثقافات المتنوعة الأثر في نفس البنا حتى أنه كتب بعض الشعر الوطني ، وقد جمع ديوانًا كبيراً من هذا الشعر الوطني ، كما ألف بعض المؤلفات في الفقه علي المذاهب الأربعة .

وكذلك كتب هو وصديقه الأستاذ محمد علي بدير قصة تودد الجارية . كما حاول تقليد أستاذه وشيخه الشيخ زهران فأصدر مجلة شهرية سماها الشمس وكتب منها عددين ثم توقف وذلك تقليداً للشيخ في إصداره مجلة الإسعاد الشهرية وتشبهًا بمجلة المنار التي كان يكثر من مطالعتها .

مرحلة تنوع الثقافة :

كانت المرحلة الثانية ( مرحلة دار العلوم ) هي مرحلة تنوع الثقافة فلم تكن الدراسة جامدة ، بل كان الطلاب والأساتذة يتناولون كثيراً من الأمور العامة سياسية كانت أو اجتماعية ، وكانت المواد التي تدرس في دار العلوم تتضمن علوم اللغة والأدب والشريعة والجغرافيا والتاريخ ومناهج التربية العلمية والعملية والاقتصاد السياسي ، وكان للبنا لقاءات متعددة مع أعلام الفكر والثقافة في عصره فكانت له لقاءات كثيرة مع السيد محب الدين الخطيب ، والأستاذ الكبير محمد الخضر حسين ، والأستاذ محمد أحمد الغمراوي ، وأحمد باشا تيمور ، وعبد العزيز باشا محمد ، كما كان يلتقي والشيخ رشيد رضا ، والشيخ عبد العزيز الخولي ، والشيخ محمد العدوى ، كان يلتقي بهم ويستفيد من علمهم وثقافتهم .

كما كان البنا يغشي مجالس الشيخ يوسف الدجوي ويلتقي به ومن يجالسه من العلماء ويشارك في لقاءاتهم وكذلك كان كثير اللقاء بالأستاذ محمد فريد وجدي حيث يغشي داره ويجلس للاستفادة من المناقشات التي كانت تتم بينه وبين العلماء من ضيوفه حيث يتدارسون علومًا في شتي مناحي الحياة وكان البنا من محبي قراءة مجلة الحياة وكان من عشاق دائرة معارفه .

وتجلت ثقافة البنا في رسائله وكتبه ، وكثيراً ما تعرض لمواقف شتى تخلص منها بلباقته وسعة ثقافته .

ففي بداية عهد الإسماعيلية تعرض له أحد المشايخ بسؤال أحرجه عن اسم والد سيدنا إبراهيم فقال البنا : إن اسمه تارخ ثم فسر له قول القائل بسؤال بأن آزر عمه وليس أباه . ويدل ذلك علي إلمام البنا بما في حواشي الكتب فضلاً عما تحتويه هذه الكتب من معلومات أساسية ، وهناك موقف للبنا يدل علي معرفته بأساليب ولغة أهل المهن المختلفة فضلاً عن إلمامه بالثقافات المختلفة فيروي لأبيه أحد خطاباته عن رحلة إلي بورسعيد قام بها مع ناظر المدرسة وبعض الزملاء فيقول :

" أما الرحلة فقد أنتجت نتاجًا حسنًا بالنسبة لصلتي مع الناظر ، وقد كانت مصادفات نتج عنها تقدير الرجل ، فمن ذلك أنه بعد الغداء قام خطيبان من بورسعيد يحيياننا ، وكان الناظر تجاهي ولم يكن أحدنا محضراً شيئاً ، فنظر إلي رأسه كالمستفهم فنظرت إليه مطمئن ، وقمت بعدها فارتجلت كلمة كان لها وقع جميل جداً في نفوس الجميع .

ومن الطرائف أن أحد المحامين الأهليين كان حاضراً ونسيت عند الخطبة فقمت وعلي صدري فوطة الطعام فقال ذلك المحامي : أنزل الفوطة أولا ، فضحك القوم ، ولكنني رددت عليه تواً بقولي : علها مقصودة أن أقوم ومعي شاهد إثبات علي كرم الزملاء وأفضالهم فلا يتوجه إلي دفع الأستاذ ، فكانت هذه أطرف من الأولي ، وكذلك طلب إلي أن أتكلم في الثورة الفرنساوية بمناسبة رواية سينمائية فشرحتها بإيضاح وبسط أدهش الإخوان المتخصصين في التاريخ ، وكان الناظر ذلك يتيه سروراً .

حسن البنا .. داعية منذ الصغر

جمعية الأخلاق الأدبية
الإمام البنا فى إحدى خطبة "حديث الثلاثاء"

" الدعوة إلي الله في حقيقتها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وتعاون علي أداء هذا الواجب ، وكان حسن البنا منذ صغره داعيًا إلي الله آمراً بالمعروف وناهيا عن المنكر ، يتعاون علي فعل الخيرات مع أقرانه وإخوانه ، فعندما دخل المدرسة الإعدادية شارك في جمعية الأخلاق الأدبية وبرز فيها ، وأصبح رئيسا لمجلس إدارة هذه الجمعية التي كانت لائحتها تدعو إلي مكارم الأخلاق وتغرم من يخطئ في حق إخوانه مبلغا من المال ينفق في أوجه الخير ، ويذكر البنا ذكرياته مع هذه الجمعية فيقول في كتاب مذكرات الدعوة والداعية :

" وكانت لائحتها الداخلية تتلخص في أن من شتم أخاه غرم مليما واحدا ، ومن شتم الوالد غرم مليمين ، ومن شتم الأم غرم قرشا ، ومن سب الدين غرم قرشين ومن تشاجر مع آخر غرم مثل ذلك ، وتضاعف هذه العقوبة لأعضاء مجلس الإدارة ورئيسه ، ومن توقف عن التنفيذ قاطعه زملاءه حتى ينفذ ، وما يتجمع من هذه الغرامات ينفق في وجوه من البر والخير ، وعلي هؤلاء الأعضاء جميعًا أن يتواصوا فيما بينهم بالتمسك بالدين وأداء الصلاة في أوقاتها ، والحرص علي طاعة الله والوالدين ومن هم أكبر سنا أو مقاما .

وكانت ثورة مدرسة الرشاد الدينية سببا في أن يتقدم هذا الناشئ إخوانه .

وأن تتجه إليه أنظارهم حتى إذا أريد اختيار مجلس إدارة جمعية الأخلاق الأدبية وقع اختيارهم عليه رئيسا لهذا المجلس ، وزاولت الجمعية عملها وحاكمت الكثيرين علي مخالفات وقعت منهم ، وجمع من هذه الغرامات مبلغ من المال لا بأس به أنفق بعضه في تكريم الزميل الطالب لبيب اسكندر شقيق طبيب الصحة الذي نقل إلي بلد آخر فنقل أخوة معه وأنفق البعض الآخر في تجهيز ميت غريب غريق ألقي به النيل إلي جوار سور المدرسة فقامت الجمعية بتجهيزه من هذه الأموال .

ولم يكن نطاق دعوة البنا الأمر بالمعروف ونهيه عن المنكر لتحده جدران المدرسة الإعدادية ، يأمر الكبير والصغير ولا يخشي في الله لومة لائم ، فعندما مر علي شاطئ النيل ولاحظ أن أحد أصحاب السفن المنشأة قد علق علي ساريتها تمثالا خشبيا عاريا علي صورة تتنافي مع الآداب ، وبخاصة أن هذا الجزء من الشاطئ يتردد عليه السيدات والفتيات يستقين منه الماء ، فماذا يفعل ؟

يقول الإمام الشهيد:

" فهالني ما رأيت وذهبت فورا إلي ضابط النقطة – ولم تكن المحمودية قد صارت مركزا إداريا – وقصصت عليه القصص مستنكرا هذا المنظر ، وقد أكبر الرجل هذه الغيرة وقام معي من فوره حيث هدد صاحب السفينة وأمره أن ينزل هذا التمثال في الحال وقد كان " .

وقد دافع عن حقه وحق زملائه في الصلاة بالمسجد المجاور للمدرسة حتى كان له ما أراد وذلك أن إمام المسجد خشي من الإسراف في الماء والبلي علي الحصر ، فانتظر التلاميذ حتى انتهوا من صلاتهم ثم فرقهم بالقوة وتوعدهم وأنذرهم من تكرار الصلاة في المسجد ، فماذا يفعل هذا الصبي الصغير حال هذا الموقف ؟

يقول الإمام:

" كتبت إليه خطابا ، بعثت به إليه في البريد مغرما واعتبرت أن غرامة قرش صاغ كافية هذا القصاص ، وقد عرف رحمه الله ممن جاءته الضربة ، وقابل الوالد شاكيا معاتبا ، فأوصاه بالتلاميذ خيرا وكانت له معنا بعد ذلك مواقف طيبة عاملنا فيه معاملة حسنة ، واشترط علينا أن نملأ صهريج المسجد بالماء قبل انصرافنا ، وأن نعاونه في جمع التبرعات للحصر إذا ما أدركها البلل وقد أعطيناه ما شرط " .
جمعية منع المحرمات

ولم يكتف البنا وأقرانه بالنشاط داخل المدرسة ، وإنما امتد نشاطه وأقرانه إلي خارج نطاق المدرسة ، فأنشأ وأصحابه جمعية منع المحرمات وكانت جمعية تأمر بالمعروف وتنهي الناس عن المنكر عن طريق إرسال خطابات إلي كل من يعرف عنه أنه ارتكب منكرا ، ويقول عنها الإمام البنا في مذكرات الدعوة والداعية :

" وقرروا تأليف جمعية إسلامية باسم " جمعية منع المحرمات " وكان اشتراك العضو فيها يتراوح بين خمسة مليمات وعشر أسبوعيا ، وكانت أعمالها موزعة علي أعضائها ، فمنهم من كانت مهنته تحضير النصوص وصيغ الخطابات ، وآخر مهنته كتابة هذه الخطابات بالحبر " الزفر " وثالث مهنته طبعها ، والباقون توزيعها علي أصحابها ، وأصحابها هم الذين تصل إلي الجمعية أخبارهم بأنهم يرتكبون بعض الآثام أو لا يحسنون أداء العبادات علي وجهها خصوصا الصلاة.

فمن أفطر في رمضان ورآه أحد الأعضاء بلغ عنه فوصله خطاب فيه النهي الشديد عن هذا المنكر ، ومن قصر في صلاته ولم يخشع فيها ولم يطمئن وصله خطاب كذلك ، ومن تحلي بالذهب وصله خطاب فيه حرمة التحلي بالذهب شرعا ، وأيما امرأة شاهدها أحد الأعضاء تلطم وجهها في مأتم أو تدعو بدعوي الجاهلية وصل زوجها أو وليها خطاب.

وهكذا ما كان أحد من الناس صغيرا أو كبيرا يعرف عنه شيء من المآثم إلا وصله خطاب من الجمعية ينهاه أشد النهي عما يفعل ، وكان من اليسير علي الأعضاء لصغر سنهم وعدم اتجاه الأنظار إليهم أو وقوع الشبهة عليهم أن يعرفوا كل شيء ولا يتحرز الناس منهم ، وكان الناس يظنون أن هذا من عمل أستاذنا الشيخ زهران رحمه الله ويقابلونه ويلومونه لوما شديدا ويطلبون إليه أن يتحدث إليهم فيما يريد بدلا من هذه الكتابة.

والرجل يتنصل من ذلك ويدفع عن نفسه ، وهم لا يكادون يصدقون حتى وصله ذات يوم خطاب من الجمعية يلفت نظره إلي أنه صلي فريضة الظهر بين السواري وذلك مكروه وهو عالم البلد ، فيجب عليه أن يبتعد عن المكروهات ليبتعد غيره من العوام عن المحرمات ، وأذكر أن الشيخ رحمه الله أنه دعاني حينذاك – وقد كانت صلتي مستمرة به في الدروس العامة وإن كنت قد تركت مدرسته أو مكتبته – لنراجع معا هذا الحكم في كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، ولا زالت أذكر الموضع كأنه اليوم وكنت أقرأ له وأنا ابتسم وهو يتساءل عن هؤلاء الذين كتبوا له ووجد أن الحق معهم وأنهيت ذلك إلي أعضاء الجمعية فكان سرورهم عظيما .

واستمرت الجمعية تؤدي عملها أكثر من ستة أشهر وهي مثار عجب الناس ودهشتهم ، حتى اكتشف أمرهم علي يد صاحب قهوة استدعي راقصة فوصله خطاب من الجمعية وكانت الخطابات لا ترسل بالبريد اقتصادا في النفقات ، وإنما يحملها أحد الأعضاء ويضعها في مكان يلفت نظر صاحبها إليه فيستلمها ولا يري من جاء بها ، ولكن المعلم كان يقظان فشعر بحركة حامل الخطاب فقبض عليه بخطابه وعاتبه عتابا شديدا أمام من في القهوة ، وعرفت الجمعية عن هذا الجمعية عن هذا الطريق فرأي أعضاؤها أن يخففوا من نشاطهم ويعملوا بأسلوب آخر لمنع المحرمات .

جمعية الحصافية الخيرية

كان ذلك إبان المرحلة الإعدادية ، ولكن بعد أن انتقل إلي مدرسة المعلمين بدمنهور تطورت معارفه وتطورت معها أهدافه في الدعوة إلي الله ، وبمشاركة زميله أحمد أفندي السكري أسسا " جمعية الحصافية الخيرية " وكان أحمد السكري رئيسا لها بحكم السن والعمل وحسن البنا سكرتيرا لها . وكانت أهداف هذه الجمعية ومجال عملها في ميادين أوسع وأشمل من الجمعيات الأولي فيقول الإمام الشهيد عن هذه الجمعية :

" وزاولت الجمعية عملها في ميدانين مهمين :

الميدان الأول : نشر الدعوة إلي الأخلاق الفاضلة ، ومقاومة الإرسالية الإنجيلية التبشيرية التي هبطت إلي البلد واستقرت فيها ، وكان قوامها ثلاث فتيات رأسهن مسز (وايت) ، وأخذت تبشر بالمسيحية في ظل التطبيب وتعليم التطريز وإيواء الصبية من بنين وبنات ، وقد كافحت الجمعية في سبيل رسالتها مكافحة مشكورة وخلفتها في هذا الكفاح جمعية " الإخوان المسلمين " بعد ذلك .

محاربة الفساد في القاهرة
نور.JPG

ولما انتقل البنا إلي القاهرة عند دخوله دار العلوم وشاهد فيها مظاهر التحلل والفساد ، مما لا عهد له به في حياة الريف ، وقرأ في الصحف كثيرا مما ينافي تعاليم الإسلام ورأي جهل العامة بأحكام الدين ، ففكر في تكوين دعاة إسلاميين من زملائه في الأزهر ودار العلوم للدعوة إلي الله في المساجد والمقاهي والمجتمعات العامة ، وانطلق يدعو في المقاهي ليكون قدوة عملية لزملائه ويحكي البنا في مذكرات الدعوة والداعية كيف حاول محاربة المفاسد في المجتمع عن طريق تكوين دعاة إسلاميين فيقول :

ففكرت في أن أدعو إلي تكوين فئة من الطلاب الأزهريين وطلاب دار العلوم للتدريب علي الوعظ والإرشاد في المساجد ثم في المقاهي والمجتمعات العامة ، ثم تكون منهم بعد ذلك جماعة تنتشر في القرى والريف والمدن الهامة لنشر الدعوة الإسلامية.

وقرنت القول بالعمل فدعوت لفيفا من الأصدقاء للمشاركة في هذا المشروع الجليل كان منهم الأخ الأستاذ محمد مدكور خريج الأزهر وكان لازال مجاورا حينذاك ، والأخ الأستاذ حامد عسكرية رحمه الله ، والأخ الأستاذ أحمد عبد الحميد عضو الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين الآن وغيرهم ، كنا نجتمع في مساكن الطلاب في مسجد شيخون بالصليبة ، ونتذاكر جلال هذه المهمة وما تستلزمه من استعداد علمي وعملي ، وخصصت جزء من كتبي كالإحياء للغزالي والأنوار المحمدية للنبهاني وتنوير القلوب في معاملة علام الغيوب للشيخ الكردي ، وبعض كتب المناقب والسير ، لتكون مكتبة دورية خاصة بهؤلاء الإخوان يستعيرون أجزاءها ، ويحضرون موضوع الخطب والمحاضرات منها:

الدعوة علي المقاهي

وجاء الدور العملي بعد هذا الاستعداد العلمي فعرضت عليهم أن نخرج للوعظ في المقاهي ، فاستغربوا ذلك وعجبوا منه وقالوا:

إن أصحاب المقاهي لا يسمحون بذلك ويعارضون فيه لأنه يعطل أشغالهم ، وإن جمهور الجالسين علي هذه المقاهي هم قوم منصرفون إلي ما هم فيه وليس أثقل عليهم من الوعظ ، فكيف نتحدث في الدين والأخلاق لقوم لا يفكرون إلا في هذا اللهو الذي انصرفوا إليه ؟ وكنت أخالفهم في هذه النظرة وأعتقد أن الجمهور أكثر استعدادا لسماع العظات من أي جمهور آخر حتى جمهور المسجد نفسه ، لأن هذا شيء طريف وجديد عليه والعبرة بحسن اختيار الموضوع ، فلا نتعرض لما يجرح شعورهم ، وبطريقة العرض فتعرض بأسلوب شائق جذاب وبالوقت فلا نطيل عليهم القول .

ولما طال بنا الجدل حول هذا الموضوع قلت لهم:

ولم لا تكون التجربة هي الحد الفاصل في الأمر ؟ فقبلوا ذلك وخرجنا فبدأنا بالمقاهي الواقعة بميدان صلاح الدين وأول السيدة عائشة ومنها إلي المقاهي المنتشرة في أحياء طولون إلي أن وصلنا من طريق الجبل إلي شارع سلامة ، والسيدة زينب ، وأظنني ألقيت في هذه الليلة أكثر من عشرين خطبة تستغرق الواحدة منها بين خمس دقائق إلي عشر

ولقد كان شعور السامعين عجيبا ، وكانوا ينصتون في إصغاء ويستمعون في شوق ، وكان أصحاب المقاهي ينظرون بغرابة أول القول ثم يطلبون المزيد منه بعد ذلك ، وكان بعض هؤلاء يقسم بعد الخطبة أننا لابد أن نشرب شيئا أو نطلب طلبات ، فكنا نعتذر لهم بضيق الوقت ، وبأننا نذرنا هذا الوقت لله فلا نريد أن نضيعه في شيء ، وكان هذا المعني يؤثر في أنفسهم كثيرا.

لقد نجحت التجربة مائة في المائة ، وعدنا إلي مقرنا في شيخون ونحن سعداء بهذا النجاح ، وعزمنا علي استمرار الكفاح في هذه الناحية .

دعوة العلماء لمهاجمة الفساد في المجتمع

وبعد الحرب العالمية الأولي وإلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا انتشر تيار الإباحية والإلحاد حتى أصبح هو التيار السائد والمهيمن علي الجامعة وعلي الحياة الأدبية والاجتماعية ، لا سيما في الطبقات الراقية . وكان لهذه الموجة رد فعل قوى في الأزهر والأوساط المعنية بالشئون الإسلامية ولكن رد هذا الفعل لم يزود عن الكتابة في بعض الصحف والمجلات واللقاءات التي لم تشف غليلا ولم ترد كيدا .

وفكر الإمام الشهيد – وهو لا يزال طالبا في دار العلوم في عمل إيجابي يرد به الكيد ، فقام بزيارة الشيخ يوسف الدجوي وكان من المشايخ العلماء المعدودين في ذلك الوقت ، وله صلات بأهل العلم والوجهاء ، وتحدث معه في جمع الجهود لعمل إيجابي يرد به الكيد عن الإسلام، ولكن الشيخ الدجوي نصحه بأنه لا فائدة من كل ذلك وحسب الإنسان أن يعمل لنفسه وأن ينجو بها من هذا البلاء وتمثل بهذا البيت من الشعر

ومـا أبـالـي إذا نفـسـي تطـاوعـني علي النـجـاة بمـن قـد مـات أو هـلكا

أوصاه أن يعمل بقدر استطاعته وأن يدع النتائج علي الله ، ولم يعجب البنا هذا الجواب فقال للشيخ الدجوي :

" إنني أخالفك يا سيدي كل المخالفة في هذا الذي تقول ، وأعتقد أن هذا الأمر لا يعدو أن يكون ضعفًا فقط وقعودا عن العمل وهروبا من التبعات ، من أي شيء تخافون ؟ من الحكومة أو الأزهر ؟

يكفيكم معاشكم واقعدوا في بيوتكم واعملوا للإسلام ، فالشعب معكم في الحقيقة لو واجهتموه ، لأنه شعب مسلم وقد عرفته في المقاهي وفي المساجد وفي الشوارع ، فرأيته يفيض إيمانا ، ولكن قوة مهملة من هؤلاء الملحدين والإباحيين وجرائدهم ومجلاتهم لا قيام لها إلا في غفلتكم ، ولو تنبهتم لدخلوا جحورهم ، يا أستاذ إن لم تريدوا أن تعملوا لله فاعملوا للدنيا وللرغيف الذي تأكلون ، ولا ما تنفقون ، فدافعوا في هذه الأمة ضاع الأزهر وضاع العلماء فلا تجدون ما تأكلون ، ولا ما تنفقون ، فدافعوا عن كيانكم إن لم تدافعوا عن كيان الإسلام ، واعملوا للدنيا إن لم تريدوا أن تعملوا للآخرة وإلا فقد ضاعت دنياكم وآخرتكم علي السواء .

وانقسم الناس بعد هذا الكلام إلي فريقين ، فريق يتهم البنا بالإساءة إلي الشيخ وإلي علماء الأزهر ، وبذلك فقد أساء إلي الإسلام .

وفريق آخر يري أن البنا لم يرد إلا أن يجتمع العلماء لنصرة الإسلام وأن الناس ستكون من خلفهم ، ولم ينته الأمر إلي شيء إلا أن ينتقلوا إلي بيت أحد المشايخ الذي كان موعد معهم لزيارتهم فانتقلوا إليه وتحري البنا مكانًا قريبًا من الشيخ الدجوي وانتهز فرصة وكلم الشيخ الدجوي مرة أخري في الأمر ، وأصر عليه فما كان من الشيخ الدجوي إلا أن أعطاه بعض النقل ووعده بالتفكير في الأمر ، فرفض البنا هذا التفكير وقال له وللعلماء من حوله :

" سبحان الله يا سيدي إن الأمر لا يحتمل تفكيرا ، ولكن يتطلب عملاً ولو كانت رغبتي في هذه النقل وأمثالها لاستطعت أن اشتري بقرش وأظل في منزلي ولا أتكلف مشقة زيارتكم ، يا سيدي إن الإسلام يحارب هذه الحرب العنيفة القاسية ، ورجاله وحماته وأئمة المسلمين يقضون الأوقات غارقين في هذا النعيم ! أتظنون أن الله يحاسبكم علي هذا الذي تصنعون ؟

إن كنتم تعلمون للإسلام أئمة غيركم وحماة غيركم فدلوني عليهم لأذهب إليهم " فوجم الجميع وفاض عين الشيخ وبعض الحاضرين بالدمع، ثم سأل الشيخ الإمام البنا وقال له :

وماذا أفعل ؟

قال له الإمام البنا :

أريد أن تحصر أسماء من تتوسم فيهم الغيرة علي الدين ليفكروا فيما يجب عمله ، يصدرون مجلة يردون فيها علي دعاة الإلحاد أو يؤلفون جمعيات يأوي إليها الشباب وينشطون حركة الوعظ والإرشاد ، ووافق الشيخ وتم كتابة أسماء العديد من العلماء والوجهاء حتى تكونت نواة طيبة من هؤلاء العلماء كان من نتيجتها ظهور مجلة الفتح الإسلامية التي رأس تحريرها الشيخ عبد الباقي سرور ، وكان مدير تحريرها السيد محب الدين الخطيب ثم آل تحريرها وإرادتها إليه ، وكذلك كان من ثمرتها جمعية الشبان المسلمين .

وظل حسن البنا يعيش بروح الداعية الذي يحب الخير للناس ويعتبر الدعوة إلي الله هي أفضل الأعمال وأزكاها ، وكلما سنحت له فرصة للتعبير عن ذلك بالفعل أو بالقول استغلها أفضل استغلال ، وعندما يطلب منه أستاذه في دار العلوم كتابة موضوع إنشاء يعبر فيه عن طموحاته وآماله كان أعظم آماله كما يقول في مذكراته :

" وهو أن أكون مرشدا ومعلما إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار ومعظم العام قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم ، ومنابع سعادتهم ، ومسرات حياتهم ، تارة بالخطابة والمحاورة ، وأخري بالتأليف والكتابة ، وثالثة بالتجول والسياحة " وقد حقق الله له ذلك الأمر عندما أسس جماعة الإخوان المسلمين وأصبح مرشدا لها .
حسن البنا بين السلفية والصوفية
  • 1- السلفية :

نشأ حسن البنا في بيئة سلفية حيث كان والده أحمد عبد الرحمن البنا من علماء الحديث الذي ألزم نفسه وأهله بالتزام السنة ، واشتغل بعلم الحديث وقام بترتيب مسند الإمام أحمد ابن حنبل واهتم بعلوم السنة وغيرها من العلوم ، وقد حمل أهله علي اقتضاء الصراط المستقيم ، يقول إبراهيم البيومي غانم في – الفكر السياسي لحسن البنا:

" ويبدوا من استقرار سيرة الشيخ أحمد أنه كان يحمل نفسه وأهله علي اقتضاء الصراط المستقيم من أداء للفرائض والتزام بالسنن النبوية .

وقد كان لدي الشيخ أحمد مكتبة عظيمة أفاد منها الابن حسن الإفادة الكبيرة بالإضافة لتوجيهه الابن إلي كثرة المطالعة وحفظ القرآن ثم دفع الوالد بالابن إلي الشيخ محمد زهران ذلك العالم السلفي الذي وصفه حسن البنا بأنه " صاحب مدرسة الرشاد الدينية الرجل الذكي الألمعي ، العالم التقي ، الفطن اللقن الظريف ، الذي كان بين الناس سراجًا مشرقاً بنور العلم والفضل يضيء في كل مكان " الذي قام بتحفيظ الإمام البنا القرآن وكذلك تعليمه الإنشاء والقواعد والتطبيق والمطالعة والمحفوظات بالإضافة لسنة الرسول صلي الله عليه وسلم عن طريق حفظ أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم .

وكان هناك تعلق وحب شديد من الإمام البنا لأستاذه جعله يلازمه في كثير من أوقاته ويستفيد من مكتبته ، ويجالس العلماء الذين يأتون إلي الشيخ زهران مستمع إلي مناقشتهم ويتعلم منها .

وكان من نتاج هذه التربية التي أولاه إياها أبوه وشيخه وكذلك مشاركته ورئاسته لجمعية الأخلاق الأدبية وهو في المدرسة الإعدادية ، أن أصبح ذا شعور ديني قوى يدفعه إلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة الرذائل والمنكرات ، سواء كانت اعتقاديه أو سلوكية أو غيرها من المنكرات.

ودفعته هذه التربية إلي تكوين جمعية منع المحرمات هو وبعض أقرانه والتي كانت مهمتها تتلخص في إرسال الخطابات إلي من يرتكبون بعض الآثام أو لا يحسنون أداء العبادات ، ولم يمنعه حبه واحترامه لشيخه الشيخ زهران حين رآه يصلي الظهر بين السواري ( سواري المسجد وذلك مكروه ) أن يرسل إليه خطابًا يذكره فيه بأنه عالم البلدة والذي يجب أن يبتعد عن المكروه.

وقد راجع الشيخ الحكم معه ووجد أن الصواب في جانبه وعندما مر علي الشاطئ ووجد أحد أصحاب السفن يعلق علي ساريتها تمثالا خشبيًا عاريا وأن هذا الجزء من النيل تتردد عليه الفتيات والسيدات يستقين منه الماء ، فهاله هذا المنظر وذهب من فوره إلي ضابط النقطة الذي كان إيجابيا وقام معه من فوره وأمر صاحب السفينة أن ينزل هذا التمثال من سارية السفينة .

وكان من نتاج هذه النشأة أيضًا محافظته علي أداء الصلاة في وقتها حتى لو تعارض ذلك مع أي شيء آخر ، فيروي البنا أنه كثيرا ما جادل أساتذته الذين جادلوه علي أداء صلاة العصر علي وقتها وقد كان وقت أذانها في أثناء الحصص ، وقد برزت آثار التربية السلفية علي حسن البنا في ملابسه وزيه ، فقد كان يذهب إلي المدرسة بالعمامة ذات العدبة ونعل كنعل الإحرام في الحج ورداء أبيض فوق الجلباب وذلك لأنها السنة ، ويدافع عن ذلك الزى وتلك الهيئة باعتبارها سنة الرسول صلي الله عليه وسلم ، ويحكي البنا ذلك في مذكراته فيقول :

" لفت زيي نظر مدير التعليم إذ كنت ألبس عمامة ذات عدبة ونعلا كنعل الإحرام في الحج ورداء أبيض فوق الجلباب فسألني : لماذا ألبس هذا الزى ؟ فقلت : إنها السنة فقال : وهل عملت كل السنن ولم يبق إلا سنة الزى ؟ فقلت لا ونحن مقصرون كل التقصير ، ولكن ما نستطيع أن نفعله نفعله ، قال : وبهذا الشكل خرجت علي النظام المدرسي .

فقلت له : ولم يا سيدي ؟ إن النظام المدرسي مواظبة ... وأنا لم أغب عن الدروس أبدا ، وسلوك وأخلاق .. وأساتذتي راضون عني والحمد لله ، وعلم ودراسة .. وأنا أول فرقتي . ففيم الخروج علي النظام المدرسي إذاً ؟ فقال : ولكنك إذا تخرجت وأصررت علي هذا الزى فسوف لا يسمح مجلس المديرية بتعيينك مدرسا حتى لا يستغرب التلاميذ علي هذا المظهر .

فقلت علي كل حال هذا لم يجيء وقته بعد ، وحين يجيء وقته يكون للمجلس الحرية ويكون لي الحرية كذلك ، والأرزاق بيد الله وليست بيد المجلس ولا الوزارة " . وظل البنا محافظا علي هذا الزى حتى وصل إلي الفرقة الرابعة بدار العلوم فلبس لأول مرة (البدلة والطربوش) وإن ظل يكثر من لبس العمامة ذات العدبة والرداء الأبيض فوق الجلباب ، وظهرت آثار سلفية البنا حين دعوة الإخوان بأنها دعوة سلفية .

  • 2- الصوفية :

بدأت علاقة الإمام البنا بالصوفية وهو بالمدرسة الإعدادية بالمحمودية حينما كان يواظب علي درس الشيخ زهران بين المغرب والعشاء ، فشاهد الجلسات التي كانت تعقد بعد العشاء وجذبه إليه أصواتهم المنسقة الجميلة وروحانيتهم الفياضة ، وسماحتهم مع الصبيان الصغار وتواضعهم لهم ، فواظب الصبي حسن البنا علي هذه الجلسات وتوطدت صلاته بالشباب منهم وتعرف في هذه الحلقات علي أحمد أفندي السكري .

ثم واظب البنا علي الوظيفة الزروقية صباحا و مساء والتي كانت عبارة عن بعض آيات القرآن وأحاديث من أدعية الصباح والمساء وضع والده عليها تعليقا جاء فيه بأدلة صيغها جميعًا تقريبًا من الأحاديث الصحيحة وسمي الرسالة " تنوير الأفئدة الزكية بأدلة أذكار الزروقية " .

ثم زاد تعلق البنا بالطريقة الحصافية ومؤسسها عندما قرأ كتاب " المنهل الصافي قي مناقب حسنين الحصافي " حيث تعرف علي شيخ الطريقة الأول ووجد أنه عالم أزهري تفقه علي مذهب الإمام الشافعي وبلغ درجة عالية من العلم ، وكان طائعًا لله محافظا علي عباداته ، ومؤديا للفرائض حريصا علي السنة والنوافل ، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، منتصرا للكتاب والسنة محاربا للبدع والخرافات التي كانت منتشرة في الطرق الصوفية حينذاك ، وكان أعظم ما أثر في نفس حسن البنا من سيرة هذا الشيخ هو أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، لا يخاف في الله لومة لائم ، يأمر الكبار والصغار ، يأمر أتباعه ومريديه بالتزام السنة والشرع والبعد عن الخرافة وكذلك الكبار حتى الخديوي توفيق .

وكان من تعلق البنا بشيخ الطريقة أن رآه في المنام علي صورة رسمها له في خياله وزادته تعلقا به حيث يروي البنا :

" وزادني تعلقا بالشيخ الجليل رحمه الله أنني رأيت في هذه الأثناء وعلي أثر تكراري للقراءة في المنهل ، فيما يري النائم أنني ذهبت إلي مقبرة البلد ، فرأيت قبرا فخما يهتز ويتحرك ثم زاد اهتزازه واضطرابه حتى انشق فخرجت منه نار عالية امتدت إلي عنان السماء ، وتشكلت فصارت رجلا هائل الطول والمنظر ، واجتمع الناس عليه من كل مكان فصاح فيهم بصوت واضح مسموع وقال لهم : أيها الناس إن الله قد أباح لكم ما حرم عليكم فافعلوا ما شئتم .

فانبريت له من وسط هذا الجمع وصحت في وجهه " كذبت " والتفت إلي الناس وقلت لهم : " أيها الناس هذا إبليس اللعين وقد جاء يفتنكم عن دينكم ويوسوس لكم فلا تصغوا إلي قوله ولا تسمعوا كلامه " فغضب وقال : " لابد من أن نتسابق أمام الناس فإن سبقتني ورجعت إليهم ولم أقبض عليك فأنت صادق " فقبلت شرطه وعدوت أمامه بأقصى سرعتي وأين خطوي الصغير من خطوة الجبار ، وقبل أن يدركني ظهر الشيخ رحمه الله من طريق معترض وتلقاني في صدره واحتجزني بيساره ورفع يمناه مشيرا بها إلي هذا الشيخ صائحًا في وجهه أخسأ يا لعين فولي الأدبار واختفي ، وانطلق الشيخ بعد ذلك فعدت إلي الناس وقلت لهم : أرأيتم كيف أن هذا اللعين يضلكم عن أوامر الله .

" وظل البنا معلق العقل بالشيخ وبالطريقة التي التقي بابن الشيخ وشيخ الطريقة السيد عبد الوهاب الحصافي الذي تلقي عن الطريقة الحصافية الشاذلية وبايعه وأذن له بأورادها ووظائفها .

لقد كان تعرف حسن البنا علي الطريقة الحصافية وانضمامه لها من عناية الله به ، فقد تعرف عليها وهو بين الثانية عشر من عمره في فترة البلوغ وفترة المراهقة فعصمه الانضمام من الانغماس في اللهو مثل أقرانه وكذلك عصمه من الانحراف ، وربت فيه مراقبة الله والخوف من عذاب الله والرغبة في جنته ، وكذلك وفرت له سبل تفريغ طاقته الروحية والجسمية بطريقة صحيحة . وقد وجد الإمام في بعض من سبقه في الطريقة أمثلة للتعبد الصحيح وكذلك بعض أهل العلم . وقد استفاد البنا من هذه الطريقة كثيراً .

فقد علمه شيخ الطريقة وابن مؤسسها الشيخ عبد الوهاب الحصافي البعد عن الجدل وعدم صرف الأوقات إلا في طاعة الله ، وعدم شغل أوقات الأتباع إلا بالمفيد النافع ، وقد كان الشيخ مثالا في ذلك وغيرها من الخصال النافعة " .

يقول الإمام الشهيد:"

وجزي الله عنا السيد عبد الوهاب خير الجزاء ، فقد أفادتني صحبته أعظم الفائدة ، وما علمت عليه في دينه وطريقته إلا خيرا ، وقد امتاز في شخصيته وإرشاده ومسلكه بكثير من الخصال الطيبة : ومن العفة الكاملة عما في أيدي الناس ومن الجد في الأمور والتحرز من صرف الأوقات في غير العلم أو التعلم أو الذكر أو الطاعة أو التعبد ، سواء أكان وحده أم مع إخوانه ومريديه ، ومن حسن التوجيه لهؤلاء الإخوان وصرفهم عمليا إلي الأخوة والفقه وطاعة الله .

وأذكر من أساليبه الحكيمة في التربية أنه لم يكن يسمح للإخوان المتعلمين أن يكثروا الجدل في الخلافيات أو المشتبهات من الأمور أو يرددوا كلام الملاحدة أو الزنادقة أو المبشرين مثلا أمام العامة من الإخوان ، ويقول لهم : اجعلوا هذا في مجالسكم الخاصة تتدارسونه فيما بينكم ، فقد تعلق بنفس أحدهم الشبهة ولا يفهم الرد فيتشوش اعتقاده بلا سبب وتكونون أنتم السبب في ذلك .

وظهر أثر هذه التربية في توجيهات الإمام البنا لإخوانه مثل "دع المراء فإنه لا يأتي بخير " وقوله : " الواجبات أكثر من الأوقات فعاون غيرك علي أن ينتفع بوقته " .

وقد كان لبعض الإخوان الحصافية فضل علي البنا وأثر في تربيته الروحية من حسن صلته بالله ومراقبته وخوف من عذابه ورغبة فيما عند الله فقد كان الشيخ محمد أبو شوشة من رجال الحصافية وكان يجمع بعض الشباب ( وكان البنا يحضر هذه الاجتماعات ) ويذهب بهم إلي المقبرة حيث تتم زيارة القبور ثم يجلسهم في مسجد قريتهم .

يذكرون الله ويذكَُرهم ويعظهم ويعرفهم بسير الصالحين ويبصرهم بمصير الأولين والآخرين ، ثم يأمر بعضهم بنزول القبر والاضطجاع فيه حتى يتذكر مصيره ثم يأمرهم بالتوبة إلي الله وبالإقلاع عن المعاصي ، كما كان البنا يحضر دروسا في شرح الإحياء للشيخ حسن خزبك وكان يعتكف الليالي الكثيرة مع الإخوان الحصافية سواء في مسجد الحي أو مصلي الحطاطبة عند كوبري إفلاقة .

وكان انغماس البنا في التصوف ومع الإخوان الحصافية يتيح له تفريغ طاقته الجسدية ، فكان رغم قيامه الليل ومواظبته علي مجالسهم بدمنهور يحضر دروسه بالمدرسة ويذاكر هذه الدروس بجد واجتهاد ، فضلا عن مشاركته في الأنشطة الطلابية والأنشطة الاجتماعية ، وكذلك الأنشطة الوطنية ، وكان في أيام الجمع التي يقضيها في دمنهور يقوم هو وزملاؤه بزيارة مسجد إبراهيم الدسوقي سيرا علي الأقدام جيئة وذهابا يقطعون فيها حوالي أربعين كيلو متراً سيراً علي الأقدام .

أما إذا ذهب في نهاية الأسبوع إلي المحمودية فإن هناك برنامجًا يستنفد طاقات هذا الغلام فيقول الإمام :

" كنت أنزل من قطار الدلتا إلي الدكان مباشرة ، فأزاول عملي في الساعات إلي قبيل المغرب حيث أذهب إلي المنزل لأفطر إذ كان من عادتنا صوم الخميس والاثنين ، ثم إلي منزل الشيخ شلبي الرجال أو منزل أحمد أفندي السكري للمدارسة والذكر ، ثم إلي المسجد لصلاة الفجر ، وبعد ذلك استراحة يعقبها الذهاب إلي الدكان وصلاة الجمعة والغداء والدكان إلي المغرب فالمسجد وفي الصباح إلي المدرسة ، وكان هذا البرنامج في الصيف يضاف إليه عمل جديد وهو المذاكرة كل صباح من طلوع الشمس تقريبًا إلي الضحوة الكبرى مع أستاذنا الشيخ محمد خلف نوح في منزله" .

وقد ظل البنا في الطريقة الحصافية حتى أسس جمعية الإخوان المسلمين ، وقد تركت مرحلة التصوف آثارها علي نفس البنا وأثرت في دعوته ، فنجد البنا يسمي أذكار الصباح والمساء بالوظيفة ، وكذلك في نظام الكتيبة نجد فيها الصلاة والقيام والتقشف في المأكل والنوم وكذلك دروس التكوين الروحي ، كل ذلك من آثار الصوفية وتجده يذكر في خصائص دعوة الإخوان أنها حقيقة صوفية ، والبنا في ذلك يقصد بالصوفية ما كان يسميه " علوم التربية والسلوك " وهي التي ترسم له طريقة خاصا من مراحل الذكر والعبادة ومعرفة الله ، ونهايته تكون إلي الجنة ومرضاة الله وهذا الذي قصده البنا من أن دعوته حقيقة صوفية .

البنا والحركة الوطنية
البنا فى إحدى المظاهرات

" علي الرغم من انضمام البنا وهو في سن صغيرة إلي الصوفية وانشغاله بالأوراد والصلاة وزيارة الأولياء ، إلا أن ذلك لم يمنعه وهو تلميذ في الإعدادية ، وفي سن الثالثة عشر من المشاركة في الحركة الوطنية وقيادة زملائه في المظاهرات والإضرابات التي كانت تنظم في المدرسة ، بل يكتب شعرا يرثي فيه الزعيم الوطني محمد فريد ، ويهاجم في إصرار لجنة "ملنر" ولقد جمع من هذه البواكير ديوانًا كبيرا .

يقول الإمام البنا : " ولازلت أذكر يوم دخل علينا أستاذنا الشيخ محمد خلف نوح – المدرس بالمعارف بالإسكندرية – والدموع تترقرق في عينيه فسألناه الخبر فقال :

" مات محمد فريد بك " وأخذ يحدثنا عن سيرته وكفاحه في سبيل الوطن حتى أبكانا جميعًا وأوحت لي هذه الذكري ببعض الأبيات لازلت أحفظ مطلعها وشطراً آخر :

أفــريد نم بالأمـن والإيـمـان أفــريد لا تـجـزع عـلـي الأوطـان

أفــريد تفـديـك البـلاد بـأسـرهــا

ولازلت أذكر حديث الناس حول لجنة ملنر وإجماع الأمة علي مقاطعتها ، وكيف كان هذا الشعور فياضا غامرا حتى إنه يدفع بتلميذ الثالثة عشر إلي أن يقول :

يـا مـلـنـر ارجـع ثـم سـل وفــدا ببــاريـس أقــام وارجـع لقــومك قــل لـهـم لا تـخـدعـوهم يـا لـئـام

في قصيدة طويلة لا أذكر منها إلا هذين البيتين .

وبعد أن انتقل إلي مدرسة المعلمين بدمنهور استمر حسن البنا في المشاركة في فعاليات العمل الوطني ضد الإنجليز وأعوانهم ، وقد كان في المقدمة من زملائه حيث كان رغم اشتغاله بالتصوف يعتقد أن الخدمة الوطنية جهاد مفروض لا مناص منه ، وكان للبنا دور بارز مع الطلاب في قيادة الإضرابات حيث كان المجموعة القيادية

يقول البنا :

ولست أنسي أستاذنا الشيخ الدسوقي موسي ناظر المدرسة الذي كان يخشي هذه التبعات كثيرا وقد أخذ بيدنا إلي مدير البحيرة حينذاك محمود باشا عبد الرازق وألقي مسئولية إضراب الغير علينا، وقال : إن هؤلاء هم الذين يستطيعون أن يقنعوا الطلاب بالعدول عن إضرابهم .

وعبثا حاول محمود باشا أن يقنعنا بالوعد أو الوعيد أو بالنصح ، ثم صرفنا علي أن نتدبر الأمر . فكان تدبيرنا أن أوزعنا إلي الطلاب جميعًا بالتفرق في الحقول المجاورة طول اليوم وكان يوم 18 ديسمبر ذكري الحماية البريطانية ، وذهبنا نحن إلي المدرسة وسلمنا أنفسنا لإدارتها وانتظرت وانتظرنا من يجيء ولا من يجيب ، فانصرفنا بعد فترة رغم الإضراب وانتهي اليوم بسلام .

بل إن البنا ليشارك في الإعداد للإضراب ويواجه ضابط البوليس الذي جاء ليقبض عليه وزملائه ، ويذكره بواجبه الوطني حتى يرجع الضابط عن مهمة القبض عليهم ويطمئنهم ويؤمنهم ، فكان مما قاله البنا للضابط ليصرفه :

" إن واجبه الوطني يفرض عليه أن يكون معنا ، لا أن يعطل عملنا ويقبض علينا ، ولا أدري كيف كانت النتيجة . إنه استجاب لهذا القول فعلا ، فخرج وصرف عساكره وانصرف معهم بعد أن طمأننا " .
علاقة الإمام البنا بزعماء التيار الإسلامي المعاصرين له

لقد كان للإمام البنا علاقات واسعة بكل زعماء التيار الإسلامي المعاصرين له ، وتأثر بهم وأثر فيهم ومن هؤلاء :

كان الإمام البنا علي صلة وثيقة بالشيخ رشيد رضا وأسرته منذ كان طالبًا بدار العلوم ، وكانت دار مجلة المنار ملتقاه بأكثر من التقي بهم من رجالات الحركة الإسلامية في ذلك العهد ، واتخذت أكثر المقررات في مواجهة المؤامرات ضد الإسلام في تلك الدار ، وظل الأستاذ علي اتصال بالشيخ بعد قيام دعوة الإخوان وكان يستشيره في كثير من الأمور .

وقد أشار البنا إلي لقاءاته المتكررة به ، وحرصه علي قراءة المنار وأثني كثيراً علي جهود رشيد رضا ومجلته ، واعتبر أنها " أسست مدرسة فكرية إسلامية تقوم علي قواعد الإصلاح الإسلامي الجليل لازالت آثارها باقية في نفوس النخبة المستنيرة من رجال الإسلام ، ووقفت للملحدين والإباحيين والجامدين بالمرصاد في مصر وغيرها من الأقطار .

وقد تولي البنا تحرير مجلة المنار بعد وفاة الشيخ رشيد رضا بعدة سنوات ، واجتهد البنا أن تصدر بنفس شكلها القديم فقام باستكمال تفسير القرآن من حيث انتهي الشيخ رشيد ، وكان حريصًا علي أن يكون بنفس أسلوبه " تفسير سلفي أثري مدني عصري إرشادي اجتماعي سياسي " وقام بشرح هذا الأسلوب في أول حلقة من تفسيره ، ثم إضافة إلي التفسير قام بتحرير " فتاوى المنار " ليرد فيه علي أسئلة القراء ، وباب " موقف العالم الإسلامي السياسي " ليورد فيه أهم أخبار العالم الإسلامي ، ويعلق عليها . كما دأب علي نشر سلسلة من المقالات للشيخ رشيد رضا اعترافًا بفضله ، وتأكيداً لتعاليمه .

وقد كان البنا يعتبر جماعة الإخوان المسلمين الجماعة التي تمني الشيخ رشيد رضا أن يوجدها حيث قال :

" سيكون المنار منذ هذا العام ( 1354هـ - 1935م ) لسان جماعة للدعوة إلي الإسلام وجمع كلمة المسلمين ، أنشئت لتخلف جماعة الدعوة والإرشاد .

لذلك فقد كتب البنا في افتتاحية المنار بعد استأنف تحريرها يقول معلقًا علي أمنية الشيخ رشيد السابقة :

" يا سبحان الله إن جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة التي كان يتمناها السيد رشيد رضا رحمه الله ، ولقد كان يعرفها منذ نشأتها ، ولقد كان يثني عليها في مجالسه الخاصة ، ويرجو لها خيراً كثيراً ، ولقد كان يهدي إليها مؤلفاته فيكتب عليها بخطة : " من المؤلف إلي جماعة الإخوان المسلمين النافعة " ولكنه ما كان يعلم أن الله قد ادخر لهذه الجماعة عبئه وأن تتم ما بدأ به ، وأن تحقق فيها أمنية من أمانيه " .

ولقد ظل البنا متأثراً بالشيخ رشيد رضا حتى النهاية خاصة بمنهجه في تحرير المنار ، فعندما أصدر البنا مجلة الشهاب أكد مجدداً في افتتاحية عددها الأول علي وفائه للشيخ رشيد رضا ، وأمنيته أن تسير " الشهاب " علي أثر " المنار " وقد كان إلا أنه لم يصدر منها سوي خمسة أعداد فقط ثم أغلقت .

ترجع أهمية شخصية السيد محب الدين الخطيب وهو من أصل سوري إلي اعتبارات عديدة تتصل بثقافته الواسعة ونشاطه الحركي المكثف ، وخاصة في ميدان عضويته وتكوين الجمعيات والأحزاب والتنظيمات العلنية والسرية في بلدان عربية مختلفة ، ومن ذلك قيامه بتأسيس حلقة دمشق الصغرى أسوة بحلقة دمشق الكبرى التي أسسها الشيخ طاهر الجزائري ، وعضويته بجمعية النهضة العربية ، وبحزب اللامركزية العثمانية ، ومشاركته في تأسيس جمعيته العربية الفتاة وغيرها ، وكان علي صلة بدائرة واسعة من الشخصيات والقيادات الفكرية والسياسية البارزة من أمثال الشيخ طاهر الجزائري ، والشيخ جمال الدين القاسمي ، ورفيق العظم ، ومحمد كرد علي ، و عبد الحميد الزهراوي، والسيد رشيد رضا ، وغيرهم .

وبعد أن استقر به المقام فيمصر نشط في مجال الصحافة والنشر والدعوة للإصلاح والتحذير من المخاطر التي يتعرض لها المسلمون ، وركز علي دعوته في الإصلاح علي ناحيتين :

الصحافة والتربية ، وإصلاح نظام التعليم، وفي عام 1343هـ 1924م أعاد تأسيس المكتبة السلفية ، وأنشأ المطبعة السلفية التي صدرت عنها مجلة الفتح ثم كان من أبرز مؤسسي جمعية الشبان المسلمين ( 1346هـ - 1927م ) .

عرف الإمام البنا محب الدين الخطيب أثناء دراسته في دار العلوم ، حيث كان يتردد علي المكتبة السلفية :

" حيث نلقي الرجل المؤمن المجاهد العامل القوى العالم الفاضل الصحفي الإسلامي القدير : السيد محب الدين الخطيب " وكان يتلقي فيها بكثير من كبار العلماء وكتابمجلة الفتح " أمثال الشيخ رشيد رضا والشيخ مصطفي صبري والشيخ محمد الخضر حسين ، والشيخ يوسف الدجوي ، والشيخ عبد الوهاب النجار " وقد أورد في مذكرات الدعوة والداعية ما يؤكد أنه كان وثيق الصلة بمعظمهم .

وقد شارك البنا بجهد كبير بل لعله كان بمثابة الشرارة الأولي ضمن الجهود التي ظهرت علي أثرها مجلة الفتح ، ثم تأسست في العام التالي لها جمعية الشبان المسلمين ، يبدو ذلك طبقاً لما يرويه البنا أنه ارتبط مع السيد محب الدين الخطيب بصلة وثيقة ، حيث نشرت أولي مقالاته وكان لا يزال شابًا حديث التخرج في مجلة الفتح ، وعندما صدرت مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية أسندت إدارتها إليه ، وطبعت بالمطبعة السلفية لمدة عامين ، كما أسهم محب الدين الخطيب في تحرير جريدة الإخوان المسلمين اليومية بعد ذلك ، وكان يرأس القسم المتعلق بالعالم الإسلامي .

كان الشيخ يوسف الدجوي من كتاب مجلة الفتح ، وكان البنا يقرأ له كثيراً ويلتقي به مع باقي العلماء في المكتبة السلفية ، وكان الرجل سمح الخلق ، حلو الحديث ، صافي الروح بحكم النشأة الصوفية ، وكان بين البنا وبينه صلة روحية وعلمية حملته علي زيارته الفينة بعد الفينة ، وكان بين البنا بما في نفسه من الإصلاح وضرورة مواجهة الملحدين والإباحيين وجرائدهم ومجلاتهم بعمل إيجابي ، وظل البنا يلح عليه إلي أن استجاب وبدأ العمل فظهرت مجلة الفتح ، ثم تكونت بعدها جمعية الشبان المسلمين .

كان الأستاذ محمد فريد وجدي ( 1295- 1373هـ 1878- 1954م ) من رواد تجديد الفكر الإسلامي عن طريق استيعاب ونقد الفكر الغربي ، وهو صاحب مجلة الحياة ، ودائرة معارف القرن العشرين ، وله مؤلفات كثيرة أخري ، وكانت له آراء كثيرة أثارت الجدل وتعددت بشأنها وجهات النظر .

وكانت للشيخ أحمد عبد الرحمن البناوالدحسن البنا – صداقة بالأستاذ محمد فريد وجدي ، فكان حسن البنا أثناء وجوده في القاهرة كثيراً ما يذهب إليه حيث كانت داره مجتمع الفضلاء من الناس يتدارسون علومًا شتى ثم يخرجون للنزهة .

وحدث ذات مرة أن دارت بين البنا والأستاذ محمد فريد وجدي مناقشة حول شخصية الأرواح يقول البنا :

إذا كان فريد بك يري أن الأرواح التي تستحضر هي أرواح الموتى أنفسهم ، وأري غير ذلك ، وتشعب بنا البحث في هذه الناحية وانتهينا وكل عند وجهة نظره ، وقد أفدت كثيراً من هذه المجالس حينذاك " .

عمل أستاذاً بدار العلوم فترة طويلة ، وكان ذائع الصيت في مصر وفي خارج مصر ، وكثيراً ما كان يقصده العلماء من البلاد الشرقية ومن الغرب :

من أمريكا وإنجلترا وفرنسا ، يتلقون علي يديه علومًا معينة ، وكان يلقب " بحكيم الإسلام " وله كتب عديدة ، أهمها تفسيره للقرآن المسمي " الجواهر " بلغ 32 جزءاً تقريبًا وقيل عن علمه : " لا ينحصر في دائرة محدودة " .

وبعد اقتناع الشيخ طنطاوي جوهري بالدعوة قال له الشيخ البنا : يا سيدي الأستاذ إنك أستاذنا وأستاذ الجميع ، وأنت حكيم الإسلام ، وأراك أحق بمنصب الإرشاد لهذه الدعوة مني وهذه يدي أبايعك .. فقال الشيخ : لا يا أخي .. أنت صاحب الدعوة وأنت أقدر عليها وأنت أقدر بها ، وأنا أبايعك علي ذلك ، ومد يده فبايعه ، ولم ينكث – رحمه الله – بيعته إلي أن لقي ربه .

كان الشيخ طنطاوي جوهري يحاول من خلال جهوده العلمية المكثفة أن يؤكد أن الإسلام دين العقل والتجدد لا دين التسليم والتقليد ، وقد تميز منهجه في هذا الصدد " باستخدام أساليب الغرب المهاجم بعد استيعابها والاستفادة منها ، ولذلك دعا علماء المسلمين وشبابهم إلي الاستعانة علي توثيق إيمانهم بدراسة العلوم الطبيعية الحديثة ، وحثهم علي ارتياد آفاق المعرفة ، واعتبار ذلك تكليفًا شرعيًا يتم به إيمانهم ويصبحون أهلا لأن يستخلفهم الله في إصلاح الأرض وهداية أهلها .

سمع الشيخ طنطاوي جوهري عن الشيخ حسن البنا ، فذهب إليه وسأله إلام تدعو ؟ قال :

أدعو إلي القرآن فقال : دع هذا اللفظ الكريم من حديثنا فإن هذا اللفظ مظلوم ظلمًا من فرقة قامت في الدولة الإسلامية مهما كانت زائفة عن الإسلام إلا وادعت أنها تدعو إلي القرآن ، فأجبني بتفاصيل ما تدعو إليه في كل ناحية من نواحي الحياة .

قال : فشرح لي تفاصيل دعوته فوجدتها في حدود كتاب الله .."

ثم عايش الشيخ طنطاوي جوهري الشاب حسن البنا فرأي فيه صفات القائد الذي يفتقده العالم الإسلامي في آرائه وفهمه لكتاب الله ، وإحاطته بالتاريخ ، وفهمه للمجتمع الذي يعيش فيه ، وذكائه ، وألمعيته ، وشخصيته الأخاذة ، ومقدرته علي جمع الناس علي دعوته ، صبره علي المكاره ، وتعففه عما في أيدي الناس ، وبذله في سبيل دعوته ، ولين جانبه ، وتواضعه بحيث لا تكاد تميزه من أتباعه .

وهكذا كانت تربط البنا بكثير من العلماء وقيادة الفكر في المجتمع صلات كثيرة ووثيقة ، تعرضنا لبعضهم علي سبيل المثال ، ونذكر منهم أيضاً الأمير شكيب أرسلان ، والشيخ مصطفي صبري المنفلوطي ، ومصطفي صادق الرافعي ، وتيمور باشا ، ومحمد إقبال ، وغيرهم ، وهذا يوضح لنا المناخ الفكري العام الذي أحاط بالإمام من خلال هؤلاء وأمثالهم ما يمكن أن يكون قد تأثر به البنا بشكل أو بآخر ، وكان له بعد ذلك أن يأخذ ويدع ، ويقبل ويرفض ، وينتقد ويصحح ، حسب فكره ومنهجه ، ودعوته .

شيوخ الإمام البنا وبعض تلاميذه

لقد كان لنشأة حسن البنا في بيت صالح ، وتعلمه علي يد أساتذة أجلاء أثر كبير في حياته وثقافته ، نظراً لأن البنا تدرج في التعليم بدءاً من التعليم في مدرسة الرشاد الدينية حتى تخرجه في دار العلوم ، فقد أخذ عن كثير من الأساتذة وتأثر بهم ، إضافة إلي غيرهم من المشايخ في كان يحضر دروسهم ، ومن هؤلاء الأساتذة الذين أخذ عنهم حسن البنا .

أولاً : شيوخ الإمام البنا

الشيخ محمد زهران أحد علماء المحمودية ، اشتغل بتعليم الأطفال وتحفيظهم القرآن الكريم ، وكان يدرس للعامة في المسجد ويفقه السيدات في البيوت .

وكان ذا همة عالية وغيرة شديدة دفعته لإنشاء مدرسة الرشاد الدينية سنة 1333هـ 1915م لتربية النشء ، وأصدر مجلة شهرية هي مجلة " الإسعاد " التي ظل يحررها حتى سنة 1347هـ 1928م ، وتتناول تعاليم الدين وأسراره ، وفوائد في التاريخ واللغة والأدب والشئون الاجتماعية ، وكان له أسلوب مؤثر يعتمد علي المشاركة الوجدانية بينه وبين طلابه يحاسبهم علي تصرفاتهم حسابًا دقيقاً ؛ فيجازيهم علي الإحسان أو الإساءة جزءاً أدبيًا يبعث في النفس نشوة الرضا والسرور مع الإحسان كما يذيقها قوارص الألم والحزن مع الإساءة .

وقد التحق حسن البنا بمدرسة الرشاد الدينية وهو في الثامنة من عمره ، وقد درس فيها البنا الأحاديث النبوية، فكان الشيخ محمد زهران يتناول كل أسبوع شرح حديث ويحفظه للصبيان ، حتى ينتهي العام وقد حفظ كل منهم كثيراً من الأحاديث النبوية . ودرس البنا كذلك في مدرسة الرشاد الدينية الإنشاء والقواعد والتطبيق والأدب والمطالعة والإملاء والمحفوظات النثرية والشعرية.

وقد توطدت علاقة حسن البنا بشيخه محمد زهران لعلاقة والده به ، فكان كثيراً ما يصحبه إلي مكتبته ويطلعه علي ما فيها من فنون العلم ينهل ما يشاء منها ، ويحضر مجالسه العلمية مع أصحابه فيستمع البنا إلي ما يدور بينهم من مناقشات علمية .

وقد استفاد حسن البنا من تلمذته للشيخ محمد زهران استفادة ثقافية كبيرة حيث كانت معظم محفوظات البنا من الحديث الشريف ترجع إلي ما حفظه من شيخه محمد زهران ، إضافة إلي قراءته في مكتبته وحضور مجالسه ، واستفاد كذلك من أسلوبه التربوي في التدريس وعلاقة المدرس بتلميذه .

وقد ترك البنا مدرسة الرشاد وهو في الثانية عشر من عمره لما شغل عنه شيخه ولم يحفظ إلا نصف القرآن ليلحق بالمدرسة الإعدادية ، محملاً بحب شيخه وتقديره .

هو شيخ الطريقة الحصافية في دمنهور خلفا لوالده الشيخ حسنين الحصافي ، وقد تلقي عنه حسن البنا أثناء دراسته في مدرسة المعلمين بدمنهور الطريقة الحصافية ووظائفها في 4 رمضان 1341هـ وقد استفاد البنا من الأساليب التربوية الصوفية من صيام وعزلة وصمت وزيارة للأولياء وغيرها .

وتأثر أيضًا بسيرة الشيخ حسنين الحصافي بعد أن قرأ كتاب " المنهل الصافي في مناقب حسنين الحصافي " في سيرته وأعجب البنا بشدته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهما كان في حضرة عظيم .

ومن خلال مصاحبته للشيخ عبد الوهاب الحصافي لمس فيه البنا من خلال الطيبة وتأثر بها في عدم الخوض في الخلافات أو المشتبهات من الأمور ، والجد والتحرز من صرف الأوقات في غير العلم أو التعليم أو الذكر أو الطاعة . وقد ظل البنا علي تقديره للشيخ عبد الوهاب الحصافي ووالده بعدما أنشأ جمعية الإخوان المسلمين .

الشيخ محمد أبو شوشة أحد تجار المحمودية ومن صالحيها ، وكان كثيراً ما يأخذ نفسه بالجد والاجتهاد في العبادة وتذكر أمور الآخرة ، ويقص عليهم بالمسجد حكايات الصالحين وأخبارهم فكان له أثر في تربية البنا الروحية .

وقد توافر للإمام حسن البنا في مدرسة المعلمين كثير من الأساتذة الذين تميزوا بالصلاح والخير والروح العلمية التي تشجع الطلاب علي البحث والدرس ومنهم : الشيخ عبد الفتاح أبو علام: أستاذ الشريعة والتفسير والحديث بمدرسة المعلمين بدمنهور ، وكان البنا كثيراً ما يتناقش معه حول ما يوجه للتصوف من نقد ، وكان أستاذه يغمره بمحبته ورغبته في توجيهه ، ولذلك كان البنا يحبه ويقدره .

ودرس له أيضًا الأستاذ عبد العزيز عطية مادة " التربية العملية " وقد لمس في البنا نبوغًا وذكاء فريداً ، فكان يشجعه علي القراءة والدرس ، واختصه بتصحيح بعض بروفات كتابه " المعلم " في التربية الذي يكاد يطبع في ذلك الوقت بدمنهور.

ولما التحق حسن البنا بدار العلوم أخذ العلم عن أساتذتها ، ومنهم الشيخ محمد عبد المطلب وهو أحد الشعراء المشهورين في العصر الحديث ، ويوصف بأنه حجة في الأدب واللغة ، وله اهتمامات علمية متنوعة حتى أنه وضع سلسلة من الروايات التاريخية التمثيلية .

كما تلقي كذلك عن الشيخ موسي أبو قمر رجلاً كريمًا جواداً وكان حسن البنا علي علاقة طيبة به ، والشيخ أحمد بدير والشيخ علام موسي الذي برع في الأدب ، والأستاذ أحمد يوسف نجاتي الذي امتحنه الشفوي حين تقدم لامتحان دار العلوم .

...........

ثانياً : تلاميذ الإمام البنا

بذل حسن البنا جهوداً كبيرة في سبيل نشر الدعوة وساح في أنحاء القطر المصري والتقي بكثير من الشخصيات التي آمنت بالدعوة وحملت لواء نشرها ، حتى انتشرت في ربوع القطر المصري وخارجه ، وتواصلت الأجيال التي حملت لواء الدعوة جيلاً بعد جيل حتى عصرنا هذا ، ولذلك فإننا إذا تحدثنا عن تلامذة الإمام البنا.

فإنما نتحدث عن كل من ينتمي إل الإخوان المسلمين في مصر والعالم العربي والإسلامي ، فإن هؤلاء جميعًا استوعبوا فكر حسن البنا ودعوته وجاهدوا في سبيلها وإن لم يتلقوا جميعًا منه فقد تلقوا عن تلامذته ، وما تركه من تراث مكتوب ، ولذلك فإنه يصعب علينا أن نشير إلي جميع تلامذته ، وما تركه من تراث مكتوب ، ولذلك فإنه يصعب علينا أن نشير إلي جميع تلامذة الإمام حسن البنا ، لذا فإننا سنكتب إلماحة موجزة عن بعض تلامذته من القيادات الإخوانية مثل :

(1) الأستاذ عمر التلمساني

هو الداعية المربي الأستاذ عمر عبد الفتاح بن عبد القادر مصطفي التلمساني ، تولي منصب المرشد العام للإخوان المسلمين بعد وفاة المرشد الثاني الأستاذ حسن الهضيبي في نوفمبر 1973م ، ترجع أصوله إلي " تلمسان " بالجزائر ، ولد في مدينة القاهرة 1322هـ 1904م بالغورية ، عمل بالمحاماة وعرف عنه الصلابة والقوة داخل السجون التي قضي بها أكثر من سبعة عشر عامًا حيث دخلها عام 1948م ، ثم عام 1954م ، ثم عام 1981م كما عرف بالزهد والتعفف والخشية من الله وحده دون سواه والحرص علي مرضاته ، توفي في الثالث عشر من رمضان 1406هـ الموافق 22/ 5/1986م بالمستشفي بعد معاناة مع المرض تاركًا ولدين وبنتين ....لمزيد من المعلومات

(2) الأستاذ محمد حامد أبوالنصر

هو رابع مرشد للإخوان المسلمين من مواليد 1913م بمدينة منفلوط أحد مراكز أسيوط وكان يعمل مدرسًا إلي جانب أنه من أعيان البلد.

وكان جده من كبار علماء الأزهر ، تعرف علي الدعوة من خلال لقاء الإمام البنا معه عام 1934م فبايعه ولم يمر سوي يوم واحد علي تعرفه به واستمر عضواً في مكتب الإرشاد ولم يخرج منه إلا مرة واحدة في أول مكتب إرشاد شكل بعد تولية المرشد الثاني الأستاذ حسن الهضيبي , تم الحكم عليه في أحداث 1954م ، ولم يخرج إلا في عهد الرئيس أنور السادات وبعد خروجه من الأشغال الشاقة المؤبدة صدر قرار بتحديد إقامته في منزله.

وكان ذلك بسبب إرساله المأكولات والملابس والأدوية إلي إخوانه في السجن ، ظل جنديًا في الدعوة في جميع أطوارها ومراحلها حتى تولي قيادة الجماعة في عام 1986م عقب وفاة المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني وتوفي رحمه الله في يناير 1996م ....لمزيد من المعلومات عن الأستاذ محمد حامد أبوالنصر

(3) الأستاذ كامل إسماعيل الشريف

من قادة كتائب الإخوان في حرب فلسطين عام 1948م ، خرج من مصر عام 1954م وقام عبد الناصر بسحب الجنسية منه ، ولذلك تجنس بالجنسية الأردنية وعينه الملك حسين وزيراً للأوقاف بعد ذلك وله كتابات منها " المقاومة السرية في قناة السويس " ، و " الإخوان المسلمون في حرب فلسطين " ....لمزيد من المعلومات عن الأستاذ كامل الشريف

(4) الأستاذ الشهيد محمد فرغلي

كان الشيخ محمد فرغلي داعية من دعاة الإسلام ومن الرعيل الأول من الإخوان المسلمين , عمل مع الشهيد حسن البنا منذ بدأ دعوته في الإسماعيلية , واختاره الإمام الشهيد لمسئوليات كبار فكان عند حسن الظن به , فكان محدثًا وموجهًا للإخوان في دروس الكتائب والمعسكرات والأسر والرحلات.

كما كان رئيس الإخوان بمنطقة الإسماعيلية ولم يكن الشيخ من ذلك النوع من شيوخ الدين الذين يتعلقون بالقشور ويبحثون عن المناصب والمراكز , ولكنه كان مجاهدًا بحق وحسبه أنه ترك وظيفته وأهله.

وذهب إلي فلسطين مع رجال جماعته من المجاهدين ، وحين نشبت معركة قناة السويس ترك أهله مرة أخرى واندمج بكليته في المعركة حيث قرر التصدي للإنجليز بالقوة ومقاومتهم وضربهم في أوكارهم ومعسكراتهم ، حتى أصبح هو ويوسف طلعت يحسب لهما الإنجليز وأعوانهم حسابًا شديدًا ويرصدون تحركاتهم ويرصدون جائزة كبرى لرأسه حيًا أو ميتًا ولكنهم لم يفلحون.

وكان من المبادرين إلي الجهاد في فلسطين 1948م فدخلها علي رأس قوة من مجاهدي الإخوان المسلمين ، وكان من أبرز قادة الإخوان الذين قاموا بتدريب إخوانهم الفلسطينيين وشاركوهم في اقتحام مواقع اليهود ومهاجمة مستعمراتهم الذين كانوا يتركونها دون مقاومة بفضل جرأة وإقدام هذا الشيخ وأتباعه ، ونال الشهادة في سجون عبد الناصر علي حبل المشنقة هو وإخوانه الشهداء الخمسة الذين أعدموا جميعًا يوم 7/ 12/ 1954م إرضاء لليهود التصدي والإنجليز والأمريكان والروس.

ولكن الشيخ المجاهد وقف شامخ الرأس أمام حبل المشنقة باسمًا في إقدام ، فرحًا في إيمان ، مرددًا قول من سبقوه من إخوانه وهم يمضون في طريق الشهادة وقال قولته الشهيرة : " إنني مستعد للموت ، فمرحبًا بلقاء الله "

وأوردت مجلة " باري ماتش" الفرنسية في عددها الصادر يوم 8/12/1954م الخبر التالي : " في الساعة السادسة من صباح أمس 7/12/1954م رفع العلم الأسود علي سجن القاهرة وسيق المحكوم عليهم بالإعدام يسيرون بأقدام عارية ، وملابس الإعدام الحمراء , وبدأ تنفيذ الأحكام في ستة من الإخوان المسلمين هم : محمود عبد اللطيف , يوسف طلعت ، هنداوي دوير، إبراهيم الطيب ، محمد فرغلي ، عبد القادر عودة ، الساعة الثامنة ، وقد ذهب المحكوم عليهم إلي المشنقة بشجاعة منقطعة النظير ، وهم يحمدون الله علي حصولهم علي شرف الشهادة.

وقال الشيخ محمد فرغلي : " أنا علي استعداد للموت فمرحبًا بلقاء الله " ولقد عم العالم العربي والإسلامي موجة من السخط الشديد والاستنكار الغاضب ، وأعلن الحداد في بلاد الشام وغيرها علي هؤلاء الشهداء ....لمزيد من المعلومات عن الشيخ محمد فرغلي

5 المستشار عبدالقادر عودة

ارتبط المستشار عبد القادر عودة بجماعةالإخوان في أوائل الأربعينيات ، واختبر وكيلاً للجماعة في عهد المستشار الهضيبي المرشد الثاني للإخوان المسلمين ، وقاد مظاهرة 28 فبراير 1954م التي اضطرت ضباط الثورة إلي إعادة محمد نجيب إلي رئاسة الجمهورية ، وطالبت بالقصاص من جمال عبد الناصر للقتلى الذين سقطوا عند قصر النيل يوم المظاهرة ، ولم تنصرف المظاهرة إلا بأمر عبد القادر عودة ، وكان ثمن هذا الموقف أن حكم عليه جمال عبد الناصر بالإعدام عقب تمثيلية المنشية 1954م ، وأهم كتبه : " التشريع الجنائي في الإسلام " ....لمزيد من المعلومات عن المستشار عبدالقادر عودة

(6) الأستاذ صالح عشماوي

هو رائد الصحافة الإسلامية ، الأستاذ صالح مصطفي عشماوي من مواليد القاهرة في 24/12/1910م ، وحفظ القرآن الكريم وهو صغير وتخرج في كلية التجارة 1932م وكان أول دفعته ، عمل بالمصرف الأهلي لمدة سنة واحدة ثم تركه لتعامله بالربا ثم عمل بالأعمال الحرة ، اتصل بدعوة الإخوان المسلمين عام 1937 .

وأسند إليه رئاسة تحرير مجلة " النذير " ورئاسة تحرير مجلة " الإخوان المسلمين " الأسبوعية سنة 1943 ، ورئاسة تحرير الجريدة اليومية سنة 1946م ، ورأس تحرير مجلة " المباحث القضائية " ومجلة " الدعوة " سنة 1951م وظل يعمل بها حتى عام 1954 حين تم اعتقال الإخوان المسلمين ومصادرة مؤسساتهم وتعطيل نشاطهم ، إلا أنه ظل يصدر بعض الأعداد كل فترة حتى لا تسقط الرخصة .

وبعد خروج الإخوان المسلمين من السجون عام 1974م ذهب إلي الأستاذ " عمر التلمساني " المرشد الثالث للإخوان آنذاك ووضع نفسه ومجلته تحت تصرف الإخوان حيث تمت إعادة إصدارها سنة 1976م وظلت تعمل حتى عطلت وسحب ترخيصها عام 1981م ، وتدرج في دعوة الإخوان المسلمين حتى صار وكيلاً لها إبان وفاة الإمام الشهيد حسن البنا.

فتولي المسئولية أما الإخوان لمدة 30 شهراً حتى تم اختيار الأستاذ حسن الهضيبي كمرشد عام للإخوان ، واعتقل بعد حل الإخوان في 8/12/1948م أيام حكم محمود فهمي النقراشي وكذلك إبان قرارات سبتمبر 1981م في عهد الرئيس السادات ، انتقل إلي جوار ربه عمر يناهز 72 عامًا يوم الأحد 11/12/1983م تاركًا ولداً وبنين ....لمزيد من المعلومات عن الأستاذ صالح عشماوي

(7) الشيخ محمد الغزالي

هو الداعية المجدد الشيخ محمد الغزالي السقا ، ولد في 22/9/1917م في قرية " تكلا العنب " من " إيتاي البارود " بمحافظة البحيرة بمصر ، حفظ القرآن الكريم وعمره عشر سنوات ، وتلقي تعليمه في كتاب القرية ثم التحق بالمعهد الديني بالإسكندرية ، حيث أكمل المرحلتين الابتدائية والثانوية ، ثم انتقل للقاهرة حيث درس بكلية أصول الدين سنة 1937م وحصل علي الشهادة العالمية سنة 1941م وبعد تخرجه علم إمامًا وخطيبًا.

ثم تدرج في المناصب حتى صار مفتشاً في المساجد ، ثم واعظاً بالأزهر ثم وكيلاً لقسم المساجد ، ثم مديراً للتدريب فمديراً للدعوة والإرشاد ، وفي سنة 1971م أعير للمملكة العربية السعودية كأستاذ في جامعة أم القرى " بمكة المكرمة " وفي سنة 1981م عين وكيلاً للوزارة ، كما تولي رئاسة المجلس العلمي لجامعة الأمير عبد القادر الجزائري الإسلامية الجزائر لمدة خمس سنوات.

وله مؤلفات جاوزت الستين كتابًا في مواضيع شتى بالإضافة للمحاضرات والندوات والخطب والمواعظ والدروس والمناظرات التي كان يلقيها داخل مصر وخارجها ، وتم ترجمة العديد من هذه المؤلفات إلي العديد من اللغات كالإنجليزية والتركية والفارسية والأردية والإندونيسية وغيرها ، قضي في معتقل الطور سنة 1949 حوالي السنة.

وكذلك في سجن طره عام 1965م فترة أخري من الزمن ، توفي في الرياض يوم 9/3/1996م ونقل إلي المدينة المنورة حيث دفن في مقابر البقيع ، وله تسعة من الأولاد وملايين القراء والتلامذة لعلمه وفكره ....لمزيد من المعلومات عن الشيخ محمد الغزالي

(8) الأستاذ عبدالحكيم عابدين

ولد سنة 1914م في قرية " فيدمين " مركز طامية بمحافظة الفيوم ، وكان من أوائل المنتظمين في صفوف الحركة الإسلامية ومن أوائل الشعراء شعرائها .

تخرج في كلية الآداب بالجامعة المصرية بالقاهرة ، ثم عمل أمينًا لمكتبة جامعة القاهرة ، واختاره الإمام الشهيد ليكون زوجًا لشقيقته باعتباره أول من تخرج في الجامعة ، وبايع علي أن يجعل مستقبله رهنًا بمطالب دعوة الإخوان المسلمين .

تولي الأستاذ عابدين منصب السكرتير العام للإخوان المسلمين ، وقد اعتقل مع إخوانه حين حلت الجماعة في 8/12/1948م ، وخرج من السجن حين ألغت حكومة الوفد الأحكام العرفية سنة 1950م وسقط قرار الحل .

خرج من مصر للحج قبل حادث المنشية 1954م والتحق بالأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام – ساعتها – الذي كان يزور سوريا ورافقه في رحلته إلي سوريا ولبنان والأردن ، ولم يعد بعدها إلي مصر ، لأن الحكومة العسكرية قامت باعتقال جميع الإخوان المسلمين بمصر وزجت بهم في السجون بعد حادث المنشية المفتعل.

وبقي الأستاذ عابدين يتنقل من بلد إلي بلد وبخاصة سوريا ، ولبنان والسعودية والأردن والعراق وغيرها ، يبذل قصارى جهده لنصرة دين الله وإعزاز كلمة الإسلام .

اختاره سماحة الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين ليكون مستشاراً للهيئة العربية العليا في بيروت تحت رئاسة سماحته ، كما اختارته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ليكون مستشاراً لها .

عاد إلي مصر سنة 1975م حيث مارس العمل الدعوي مع إخوانه بقيادة المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني ولم يطل به المقام حيث انتقل إلي جوار ربه سنة 1977م بعد عمر حافل بالنشاط الإسلامي داخل مصر وخارجها منذ شبابه حتى آخر مراحل شيخوخته ....لمزيد من المعلومات عن الأستاذ عبد الحكيم عابدين

اللواء صلاح شادي

(9) الأستاذ صلاح شادي

كان رئيس نقطة بوليس صفط الملوك التابعة لمركز إيتاي البارود بحيرة عندما دعاه صديقه الأستاذ صالح أبو رقيق لحضور محاضرة للإمام الشهيد حسن البنا وكانت هذه المحاضرة هي بداية التحاقه بركب الإخوان المسلمين ، ثم أصبح مسئولاً عن قسم الوحدات الذي شارك في محاربة الإنجليز .

وشارك في الإعداد لثورة يوليو وعرض عليه أن يكون وزيراً للحربية في وزارة الثورة الأولي فرفض ، وقضي في سجون عبد الناصر ما يقرب من عشرين عامًا فما لانت له قناة ثم خرج من السجن ليواصل الجهاد مع إخوانه عاملاً لدين الله حتى آخر يوم في حياته حيث أسلم الروح بعد يوم عمل طويل شاركه فيه الأستاذ مصطفي مشهور حيث توفي وهو جالس بجانبه في السيارة بعد صلاة العشاء وأداء واجب العزاء في وفاة زوجة أحد إخوانه وكان ذلك في عام 1989م ....لمزيد من المعلومات عن اللوار صلاح شادي

الشيخ سيد سابق

(10) الشيخ السيد سابق

من علماء بالأزهر الشريف انضم إلي جماعة الإخوان المسلمين في بداية شبابه ، وعينه للإمام المرشد مفتيًا للنظام الخاص وكانت هذه التسمية سببًا في أن أطلقوا عليه مفتي الدماء ، كلمه للإمام الشهيد حسن البنا بوضع كتاب مبسط في فروع الفقه فكان كتابه الرائع فقه السنة الذي قدمه له للإمام البنا ، وقد اخرج للمكتبة الإسلامية العديد من الكتب منها العقائد الإسلامية وإسلامنا وأوقف حياته للدعوة داخل البلاد وخارجها إلي أن لقي ربه ....لمزيد من المعلومات عن الشيخ سيد سابق


(11) الأستاذ عبدالعزيز كامل

نائب رئيس الوزراء ووزير الأوقاف وشئون الأزهر ، الذي جاهد وابتلي كثيراً في سبيل الدعوة ومات عليها بالرغم من بعده عن مصر ردحا طويلاً من الزمن .





(12) الشيخ أحمد حسن الباقوري


وزير الأوقاف وشئون الأزهر ورئيس جامعة الأزهر الأسبق ، ظل مقيماً علي عهده مع جماعة الإخوان المسلمين بالرغم من اختلافه مع الجماعة ، التقي بدعوة الإخوان المسلمين منذ بدايتها مع الإمام البنا وكان زعيمًا لطلبة الأزهر ، كما كان شاعر الإخوان ومن أقرب الشخصيات للإمام البنا ، وتدرج في جماعة الإخوان حتى وصل إلي عضو في مكتب الإرشاد ولم يسمح لنفسه أن يلقي قصيدة خارج نطاق الإخوان في ناد من النوادي ولا في حفل من الأحفال ولا في صحيفة ولا في مجلة .


(13) الدكتوريوسف القرضاوي

ولد عام 1926م في إحدى قري محافظة الغربية بمصر ، ونشأ في أسرة متدينة رقيقة الحال يشتغل أفرادها بالزراعة ، وانتقل والده إلي رحمة الله تعالي وهو في الثانية في عمره ، فكفله عمه وأتم حفظ القرآن الكريم قبل أن يبلغ العاشرة من عمره وتخرج في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر عام 1952 1953م وكان ترتيبه الأول علي دفعته ثم التحق بتخصص التدريس بكلية اللغة العربية ، فحصل علي العالمية مع إجازة التدريس حائزاً المرتبة الأولي علي خمسمائة طالب من كليات الأزهر.

ثم التحق عام 1957م بمعهد البحوث والدراسات العربية العالمية التابع لجامعة الدول العربية فحصل منه علي دبلوم عال في شعبة اللغة والآداب وفي هذه الفترة نفسها التحق بقسم الدراسات العليا في شعبة علوم القرآن والسنة من كلية أصول الدين ، ثم شرع في إعداد الدكتوراه إلا أن أحداثاً رهيبة حالت دون حصوله عليها عام 1973م بامتياز مع مرتبة الشرف الأولي ، وتأثر بكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم والشيخ محمد رشيد رضا .

اتصل مبكراً بحركة الإخوان المسلمين مما صحح فهمه للإسلام ، ورسالته في الحياة وواجب دعاته في هذا العصر في وطنهم الصغير ووطنهم الإسلامي الكبير ، وذلك من خلال تأثره أيضًا بمؤسس الحركة الإمام حسن البنا الذي قال عنه القرضاوي : إنه أعظم الشخصيات أثراً في حياتي الفكرية والروحية ، وقد أدي انتماؤه إلي هذه الحركة إلي اعتقاله عدة مرات منذ 1949م ثم 1954م ثم 1956م ثم 1962م.

قام بعمل ضخم في سبيل الدعوة الإسلامية في دولة قطر منذ عام 1961م منها إنشاؤه كلية التربية التي صارت نواة لجامعة قطر ، ثم تولي تأسيس وعمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالجامعة نفسها عام 1977م ، وكذلك أصبح المدير المؤسس لحركة بحوث السيرة والسنة النبوية بجامعة قطر .

شارك في العمل الإسلامي خطيبًا ومحاضراً وكاتبًا ومؤلفًا وداعية ومربياً .. مفكراً ومخططًا .

ترجم العديد من مؤلفاته إلي لغات العالم الإسلامي المتعددة ، وكذلك له دواوين من الشعر في معظم أغراضه ومجالاته .. أمد الله في عمره ....لمزيد من المعلومات عن الدكتور يوسف القرضاوي


(14) الأستاذ مصطفي السباعي

هو مصطفي بن حسني السباعي من مواليد مدينة حمص بسوريا عام 1915م ، ونشأ في أسرة علمية وكان والده يتولي الخطابة في الجامع الكبير بحمص، وكان يصحب أباه إلي مجالس العلم.

اشترك مصطفي السباعي في الحركة الوطنية في سورياالتي تكافح الاستعمار الفرنسي ، وهو في السادسة عشر ة من عمره فقبض عليه الفرنسيون لأول مرة 1931م بتهمة توزيع منشورات في حمص ضد السياسة الفرنسية ، ثم أفرج عنه ، وفي عام 1933م ذهب إلي مصر للدراسة في الأزهر ، واشترك سنة 1941م في المظاهرات ضد الإنجليز وكان عقابه السجن .

التقي مصطفي السباعي في مصر بالأستاذ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين وانضم إلي الجماعة ، واختير ليكون أول مراقب لجماعة الإخوان المسلمين بسوريا سنة 1945مم ، واشترك في حرب فلسطين وقاد إخوان سوريا في المعركة ، حصل مصطفي السباعي علي درجة الدكتوراه وعين أستاذاً في كلية الحقوق في الجامعة السورية.

وعندما طلب من الحكومة السورية سنة 1952 السماح بمشاركة الإخوان في سوريا أن ينضموا إلي إخوانهم في مصر في كفاحهم ضد الإنجليز ، صدر الأمر باعتقاله وحل الإخوان في سوريا، واستمر في الدعوة والكفاح حتى مرض ثماني سنوات وتوفي رحمه الله في يوم 3/10/1964م وترك مؤلفات كثيرة منها : شرح قانون الأحوال الشخصية ، المرأة بين الفقه والقانون وغيرهما ....لمزيد من المعلومات عن الأستاذ مصطفي السباعي

(15) الأستاذ مصطفي مشهور

هو خامس مرشد الإخوان المسلمين ولد عام 1920م وتخرج في كلية العلوم وعمل بالأرصاد الجوية , وانضم لجماعة الإخوان المسلمين وكان ضمن قيادة النظام الخاص في الجامعة الذي قام بالعديد من الأعمال الوطنية البطولية ومنها قضية السيارة الجيب عام 1948م وحكم عليه بثلاث سنوات , وفي عام 1954م قبض عليه وحوكم بالأشغال الشاقة فلم يخرج إلا في عهد الرئيس المصري أنور السادات أوائل السبعينات.

ومع إفراج العمل السياسي في هذا العهد شارك مع بقية الإخوان في إعادة الحركة الإخونية للمجتمع , كما كان له دور بارز في إقامة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين , وفي فترة المرشد الرابع محمد حامد أبو النصر كان نائبًا له حتى وفاته ثم تولى القيادة والإرشاد للجماعة منذ يناير 1996م وحتى توفاه الله في 10 رمضان 1423هـ ....لمزيد من المعلومات عن الأستاذ مصطفي مشهور.

(16) الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري " الشاعر والأديب "

كان الأستاذ عمر الأميري من أوائل من التحقوا بحركة الإخوان في سوريا مع الأستاذ محمد المبارك والأستاذ الشيخ محمد الحامد والشيخ عبدالفتاح أبوغدة وغيرهم ، وبذل جهوداً طيبة لدعم الحركة وأسهم في توجيه شبابها وكان وثيق الصلة بالإمام البنا وبعده الهضيبي يكثر من زيارته والتردد عليه ومشاورته في الأمور .

للأستاذ الأميري أسلوبه في علاج المشكلات ومواجهة التحديات فهو يؤثر الحكمة واللين والمهادنة مع أصحاب السلطة لإزالة البغض من نفوسهم وعدم استثارة حفائظهم وترغيبهم في الإحسان إلي شعوبهم ، وعندما كان سفيراً لسوريا في باكستان وفي زياراته لمصر في أوائل الخمسينيات كان يجتمع بطلبة البعوث الإسلامية ليعطيهم توجيهاته ونصائحه فيما يتعلق بالعمل الإسلامي وكان يركز علي المؤامرة علي الإسلام وسبب ضياع دولة الخلافة وانقسام المسلمين علي أنفسهم والاستعانة بأعدائهم علي إخوانهم.

بالإضافة إلي تأخر المسلمين علميًا عن ركب الحضارة وانغماسهم في الشهوات وتكالب الأمم عليهم ، وكان يثني علي حركة الإخوان المسلمين ومؤسسها ويري أنها الحركة التي تتوافر فيها مواصفات النهوض بالأمة من كبوتها ، كما يوصي الشباب المتحمس بعدم التعجل والاعتماد علي التربية لإعداد الرجال ....لمزيد من المعلومات عن الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري


(17) الأستاذ محمد محمود الصواف

كان من أعلام الإسلام ليس في العراق وحدها بل في العالم الإسلامي كله ، صدع بكلمة الحق واستنهض الهمم لإنقاذ فلسطين بعد قرار التقسيم سنة 47 ، وأنشأ جمعية " إنقاذ فلسطين " وسارع إلي الجهاد ، يعد الكتائب ويجهز المجاهدين ويجمع الأموال لدعمهم ، وأسهم وتلامذته في العراق بإسقاط معاهدة ( جبر – بيفن ) الاستعمارية.

وظل يساند المجاهدين في كل مكان حتى غادر العراق مطارداً من الطاغية عبد الكريم قاسم وأعوانه الذين أهدروا دمه ، ولجأ إلي سوريا ثم إلي المملكة العربية السعودية التي آوته وآزرته كما كان له جولات دعوية في أفريقيا وجنوب آسيا لقيت دعمًا كبيرا من الملك فيصل آل سعود أحيا بها روح التضامن الإسلامي ، وكانت له مواقف بطولية أمام تجبر الطغاة والمستعمرين.

ونظم لهما المؤتمرات الشعبية لمساندة الثورة وقضية الشعب الجزائري ، ولم يترك مدينة العراق وكان أول كتاب صدر له كتاب " صرخة مؤمنة إلي الشباب والشابات " يلهب فيه الحماس ويحرك المشاعر ويدعوهم فيه إلي الحق والخير والالتزام بالإسلام عقيدة شرعية ، وكانت له مواقفه المساندة للثورة الجزائرية مع أخوية الورتلاني والإبراهيمي ودعاهما لزيارة العراق

ونظم لهما المؤتمرات الشعبية لمساندة الثورة وقضية الشعب الجزائري ، ولم يترك مدينة بالعراق إلا وزارها ودعا جماهيرها إلي منهج الإسلام وطريق الدعوة ، كما زار معظم الأقطار ينشر دعوة الإسلام ، وفي السنوات العشر الأخيرة من عمره أعطي وقته وجهده للجهاد الأفغاني يناصره ويسانده ويصلح بين فئات المجاهدين ليمنع الفتن التي يكيدها أعداء الإسلام ويخطب ويبكي الحضور ويملأ القلوب إيمانًا وعزيمة ....لمزيد من المعلومات عن الشيخ محمد محمود الصواف


جوانب من شخصية البنا

جوانب من شخصية الإمام البنا

تمتع الإمام البنا بصفات شخصية قلما تجتمع في إنسان واحد ، وقد أهلته هذه الصفات الشخصية والمواهب التي حباه الله بها لأن يصبح الداعي الأول في القرن العشرين ، ومؤسسًا وقائداً لأكبر حركة إسلامية علي مستوى العالم ، وهي حركة الإخوان المسلمين ، فقد حباه الله بجسد قوي يتحمل الشدائد والمصاعب فضلا عن ذاكرة حديدية تحتفظ بالمعلومات والأسماء بطريقة عجيبة ، وسرعة بديهية وسعة أفق ، وقدرة علي تحليل الأحداث واستخلاص النتائج التي قلما تخطيء ، فقد كان رحمه الله عليمًا بعصره ففيهًا في حركته ذا حكمة ودهاء ، وكان رحمه الله زاهداً في العيش مع القدرة علي الكسب ، متواضعًا في غير ذلة معتزاً بنفسه وبدعوته من غير كبر ، يحب إخوانه ويألفهم ويألفونه .

وكان الإمام البنا يقدم دعوته علي غيرها من الأشياء ، يقدمها علي راحته ويقدمها علي أولاده ، فقد عاش بالدعوة وللدعوة ، وقد امتلك الإمام البنا قوة روحية هائلة وإرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ، وعزيمة ماضية لا تنثني .

ولندع الحديث حول هذا المعني لمن رافق الإمام الشهيد رحمه الله حيث عاش حركته الدائبة في الدعوة إلي الله لا يفتر عن ذلك أبداً.

يقول الأستاذ محمد عبد الحميد وهو من الرعيل الأول :

" إن من أبرز سمات شخصية الإمام الشهيد روح " الحركة " في طبيعته وطاقة العمل الضخمة في أعصابه ودمه .
كان شخصية عجيبة فذة حقًا ، هي روح وعقل وجسد ، روح : هي شعلة سماوية تتوهج بالحرارة والضياء !! وعقل : هو ميزان محكم لا يميل ولا يضطرب علي كثرة الأحداث وهول المشاكل !! ، وجسم هو أداة طيعة لهذه القوى الكبيرة والمعاني القدسية العالية !! .
كان شخصية متحركة لا تقف ولا تسكن ، كأنه فلك إنساني يدور مع الكواكب يعمل ويوجه ويعد وينظم وينتج في لحظات ما يقصر عنه غيره في شهور وسنوات ، كان يركض إلي الله حين يمشي العاملون ، ويثب إليه حين يركض المخلصون ، ويطير إليه حيث يثب المصلحون ، كان يتأسي بالرسول صلي الله عليه وسلم في جهاده الدائم حتى كان من أوصافه :" ليست له راحة "
تبهرك أعصاب فذة كأنها كهربائية ، نسيج وحده لا يخضع لمؤثرات المادة وقوانينها في الطاقات والمواقيت ، سهر دائم وفكر عامل ثاقب وسلسلة لا تنقطع حلقاتها في الفكر والعلم والإعداد والتوجيه ، وأسفار حتى تغلغل في أعماق الكفور والنجوع وبين العشائر والقبائل ، فكان الزعيم الحق الذي جلس علي التراب وخالط لأول مرة طبقات الشعب في حياتهم وأحس آلامهم ومشاكلهم !! .
كان يختزل الحياة اختزالاً كأنما كان يسابق الأفلاك في دورانها ، خطواته خطوات العماليق ، وجهاده جهود أمة كاملة لا فرد محدود ، كأنه علم أن حياته أقصر من دعوته الشاملة فحرص علي أن يكون لدعوته من أسباب القوة ، ويحوطها بأضخم ما يستطيع من أسوار ، ويجهزها بأعظم ما يقدر من العدة والذخائر ، ولما رأي أن مشاكل المجتمع فوق ساعاته المحدودة وحياته القصيرة جعل شعاره تلك الكلمة المأثورة " الواجبات أكثر من الأوقات " .
كان سمته " الحركة الدائمة " والعمل السريع وكان يدافع إلي تكاليف الحياة ومطالبها في هيام وغرام ليس لهما مثيل ، وهو خلال ذلك ينتج إنتاجًا ضخمًا هائلاً رغم المسارعة في غير زلل أو عثار ، بل كانت سرعته يتوجها التوفيق وحركاته المتلاحقة يزينها الإحكام !! .
كانت همته فوق قدرته ، وقدرته فوق التعب والزمن ، يتسامي فوق الطاقة البشرية ، وأعماله الضخمة الموفقة أشبه بكرامات الأولياء منها بجهود العباقرة ، عزيمة تتضاءل دونها العزائم ، وهمة لا تبلغها العصبة أولو القوة إلا بروح من الله ورضوان !!

فحق لنا في هذا الجزء من هذه الصفات نلقي عليها الضوء من خلال بعض جوانب شخصيته وهي جديرة حقاً بالتأمل والدراسة .

الجانب العقائدي

كان الإمام الشهيد حسن البنا رجل العقيدة بحق ، وقد صور الإمام الشهيد حسن البنا في كتابه " العقيدة وشخصية رجل العقيدة" حال رجل العقيدة وما أخاله إلا أنه كان يتحدث عن نفسه في وصفه لشخصية رجل العقيدة ، ولن نحصي كل مفردات الجانب العقائدي في حياة الإمام الشهيد ، لكننا سنستعرض بعض منها :

  • 1 – التوكل علي الله :

التوكل علي الله باب كل خير ، به يفتح الله أبواب الرزق المغلقة ، وبه يكون الله كافيًا عباده كل مشقة ، ، وهذا المعني مطلوب تعميقه في نفس كل مسلم عامة وفي قلب كل داعية خاصة حتى لا يعرف لليأس طريقاً ولا يتسرب القنوط منه إلي نفسه أبداً ، وهكذا كان الإمام البنا رضي الله عنه متوكلاً علي الله حق توكله ، ولم يخب ظنه بالله حتى في أحلك الظروف وأشدها .

حين رغب الإخوان في شراء قصر آل " أبو الحسن " وهو المبني الضخم المقابل لدار المركز العام للإخوان في ميدان الحلمية الجديدة ، لم يكن في خزانة الجماعة غير مائتي جنيه فقط بينما المبلغ المطلوب أربعة عشر ألفًا من الجنيهات ، وحين طلب أصحاب القصر مبلغ خمسمائة جنيه عربونًا علي أن يتم سداد باقي المبلغ بعد كتابة العقد بشهر .

هنا هتف حسن البنا قائلاً : شيء عظيم ، اشترينا القصر إن شاء الله ، وهو يعلم أن الخزانة ليس بها إلا مائتا جنيه ، لكنه متوكل علي الله ويوقن أن الله سيجعل له من أمره يسراً ، وما دام القصد إرضاء الله تعالي ، والغاية إعلاء كلمة الله فلن يخيب هذه المساعي الحميدة .

فمن أين لنا بباقي المبلغ ؟ فيرد عليه الإمام البنا : توكل علي الله . فتسري هذه الكلمات في وجدان الرجل ولا يجد وسيلة لتدبير بقية العربون إلا أن يبيع " حلي زوجته " ويستكمل باقي العربون كدين عليه وأحضر قيمة العربون .

وبينما الإخوان يفكرون في تدبير ثمن شراء القصر إذا بأبواب الخير تنفتح عليهم ، فيأتي أحد المحبين لزيارة الإمام البنا فيخبره بأن الإخوان عقدوا العزم علي شراء القصر المقابل ، فيسأل : ولماذا لم تنتقلوا إليه ؟ فيجيبه بأنهم دفعوا العربون فقط وأن تسليم القصر يكون بعد دفع مبلغ ألف جنيه ، فإذا بالرجل يعلن عن تبرعه بمبلغ خمسمائة جنيه في الحال حتى يتمكن الإخوان من استلام القصر والانتقال إليه .

وفي أول حديث ثلاثاء أعلن عن شراء القصر المقابل للمركز العام ويُفتح باب التبرع لهذا الغرض ، وطلب الإمام أن يساهم كل أخ مستطيع في عملية الشراء وقال : لا أريد أن أحرم أحداً من الإخوان المسلمين في أنحاء القطر أن يكون له حجر أو لبنة في المركز ، وفي أقل من شهر استكمل المبلغ وزادت التبرعات عن المبلغ المطلوب . فسارع الإمام البنا وأعلن غلق باب التبرع لحساب الشراء .

وهكذا صار للإخوان مركز عام ضخم يستوعب الكثير من أوجه نشاطهم ، خاصة حديث الثلاثاء الذي أصبح مقياسًا صادقًا ومعبراً بوضوح عن قوة الإخوان في المجتمع المصري .

فمن مبلغ صغير في الخزانة محبوس أصبح للجماعة منارة عظمي تفد الوفود والجموع إليها .

  • 2 – اليقين في نصر الله :

إن الإنسان الطموح إلي غاية سامية وهدف عظيم إذ لم يكن متيقنًا من الوصول إلي غايته فإنه لم يصل إليها ، لأن اليأس سوف يستبد بقلبه ويسيطر علي مشاعره ، ويستسلم له فيقعده عن العمل ، وقد كان هذا المعني متمكنًا من قلب الإمام البنا ، ظهر ذلك في خطته التي كان يلح فيها ويركز علي بعث الأمل ، وبث الثقة في نفوس إخوانه ضاربًا الأمثلة الحية من سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم كموقفه من غزوة الأحزاب .

في هذا الجو الرهيب شديد البر ، والأعداء كثر ، استعصي حجر من الأحجار علي الصحابة ، فأخذ رسول الله صلي الله عليه وسلم المعول وضربه وقال : " بسم الله الله أكبر ، فتحت عليكم الروم ، واله إني لأنظر إلي قصورها البيضاء ...) .

بمثل هذه المعاني كان يتحدث البنا مع إخوانه ، ولم يكن ذلك أقوالاً فقط بل كانت أفعالاً أيضًا ، فعندما اعتقل بعد مقتل أحمد ماهر ازداد يقينًا في نصر الدعوة وكتب إلي إخوانه من خلف القضبان في 16/3/1363هـ يقول : إن ما نلقاه الآن ليس جديداً علينا ولا هو من المفاجآت في طريق دعوتنا.

فكذلك كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم من الأنبياء والصديقين والشهداء ، وقد حقق لنا القوم بهذا ما كنا نتمثل به من قبل : " إن سجني خلوة وقتلي شهادة وتغريبي سياحة " ، وقد نقلونا بهذه المحنة نقلة واسعة إلي الأمام والحمد لله ، ووقفوا بنا علي طريق معبد من طرق الدعوة ، وهذا أول الخير وأنا به جد متفائل وأعتقد أن وراء ذلك الفتح العظيم إن شاء الله .

  • 3 – يرضي بالقضاء والقدر :

كان الإمام الشهيد رضوان الله عليه يؤمن بالقضاء والقدر إيمانًا راسخاً ، لا عن طريق الدراسة والتعليم فقط ؛ وإليك قوله في هذا:

  • إن إيماني بالقضاء والقدر ، والرزق والأجل ، ليس نتيجة الدراسة والتسليم والإيمان بالنصوص فقط ، ولكنه نتيجة التجارب والمشاهدة ، فقد تعرضت للموت في صغرى أكثر من مرة وبصورة مختلفة ، وكانت نجاتي بأعجوبة ، فوجئت أنا وأخي عبد الرحمن ونحن صبيان نلعب في " الحارة " بانقضاض بيت كامل فوق رؤوسنا ، ولم ينجنا إلا استناد السقف علي " درابزين " السلم فأصبحنا في مأمن بالفراغ الناشئ عن ذلك حتى رفعت الأنقاض وخرجنا سالمين " .
  • ووقعت من فوق سطح يرتفع عن الأرض أكثر من ثمانية أمتار ولكن الله سلم فجاءت الوقعة في " ملطم المونة " فلم تحدث إصابة .
  • وقذفت بنفسي في إحدى الترع الكبيرة في أيام الفيضان ، والماء علي أشده فراراً من مطاردة كلب عقور ، فانتشلتني سيدة كريمة، لا أزال أذكر منظرها، وقد خلعت في سرعة البرق جلبابها وتعممت به، وقذفت بنفسها إلي الماء، وبعض الرجال وقوف ينظرون، ولا ينجدون، مما جعلني أؤمن بأن الشهامة والنجدة ليستا وقفًا علي الرجال .
  • وتقدمت لإطفاء النار في منزل اندلعت ألسنتها فيما علي سطحه من وقود علي عادة الريف ، فامتدت النار إلي ثيابي وأطرافي ، ولكن فرقة الإطفاء كانت قد أقبلت ، وقدر رجالها هذا الموقف من ناشئ صغير ، فوجهوا إلي خراطيمهم ، ونجوت بذلك من احتراق محقق .
  • وجمحت بي الفرس مرة جموحًا شديداً ، واعترضني حاجز قوى لسور خشبي يحاذي الرقبة ، كان الاصطدام كافيًا ليطيح بالرأس إلي مكان بعيد ، لولا أن الله تبارك وتعالي ألهمني في هذه الساعة الحرجة أن استلقي علي ظهري علي السرج استلقاءً كاملاً حتى اجتزت هذا الحاجز .

وكان رضي الله عنه ينزل عليه القضاء ، فيرضي به ، بل ويشكر عليه كأنه برد وسلام علي قلبه ، لدرجة أنه لا يغير من برنامجه شيئًا ، ويشهد بذلك موقفه من موت ابنه ، فيقول أنور الجندي : كان قد دعا إلي " كتيبة تبيت بالمركز العام ، يتحدث معهم إلي هزيع الليل ، ثم ينامون ساعة أو ساعتين ، ثم يستيقظون لصلاة الفجر.

كان قد ذهب إلي المنزل فوجد ابنه في حالة الخطر ، وعلي شفا الموت ، وكان موعد الكتيبة قد اقترب فانصرف إليها ، وبينما هو يتحدث معهم في بشاشته المعهودة ، جاء من يسرٌَ إليه أن ابنه توفي ، فما زاد علي أن قال له بضع كلمات تتعلق بغسله وتكفينه .. وواصل حديثه مع أعضاء الكتيبة ونام معهم ، وفي الصباح أمر بمن يذهب به إلي القبر .

الجانب العبادي

كان الإمام الشهيد حريصًا علي أداء العبادات علي أكمل وجه ، فكان حريصًا علي أداء الصلاة في وقتها ، وقد نبه إخوانه إلي ذلك فقال : " قم إلي الصلاة متى سمعت النداء مهما تكن الظروف " وكان حريصًا علي قيام الليل مهما اشتد به النصب مع حب وشغف بالقرآن لا ينتهي .

  • صلاته:
أخر صورة للبنا قبل إستشهاده

يقول الأستاذ محمود عبد الحليم:

" لقد كنت في أيام اتصالي بالإخوان المسلمين حريصًا علي مراقبة كل ما يدور في مركزهم العام ، لا سيما ما يصدر من مرشدهم من حديث وأعمال .
وقد لفت نظري أن صلاة المرشد وكان دائمًا هو الإمام لا تكاد تختلف عن صلاة كثير من الناس ، فهي وإن كانت صلاة خاشعة مطمئنة ؛ لكن رائيها لا يمكن أن يصفها بأنها صلاة مطولة كتلك التي تمارس في مساجد بعض الجمعيات ، أما في الصلوات الجهرية فكان له فيها رحمه الله أسلوب آخر .. كان يطيل فيها من قراءة القرآن ..
ولكن هذه الإطالة لم تكن مجرد إطالة ولا القراءة مجرد قراءة ، وإنما كانت قراءة هادفة ، كانت قراءة من مواضع مختارة .. يتناول في كل صلاة منها معالجة موضوع معين من المواضيع الحساسة التي تمس النفوس وتعالج مشاكل المجتمع ، ففي صلاة يستعرض علي المأمومين أصناف الناس ، وفي صلاة أخري يستعرض طبائع النفوس ، وفي ثالثة يعرض صورة لغرور السلطة وعواقبه ، وفي رابعة يستعرض مواقف الحق الأعزل من الباطل المسلح ، وفي خامسة يستعرض دلائل قدرة الله في مخلوقاته ، وهكذا من المواضيع التي يخرج المأمومون من كل منها بتوجيهات محددة وتعاليم معينة .
وغير خافِ علي القارئ المجرب أن سماع المؤمن القرآن وهو واقف في الصلاة بين يدي الله ذو أثر في النفس أشد عمقًا وأعظم وقعًا من سماعه القرآن في غير هذا الوضع .. وقد يفهم من القرآن في هذا الموقف ما لا يفهمه منه في غيره من المواقف .. لا سيما إذا كان القارئ أستاذاً مربيًا يفهم ما يقرأ ، ويعرف كيف يتلو الآية تلاوة تبرز ما خفي من معانيها فهو يعرف كيف يكون الوقف ويعرف كيف يكون الوصل .. ولا يمر بآية وعيد وعذاب إلا استعاذ في سره بالله ، ولا يمر بآية من البشريات إلا طلب في سره من الله المزيد ، وهكذا كانت الصلاة إحدى وسائل حسن البنا في تثبيت أفكار دعوته في النفوس وفي تربية من وراءه وتوجيههم .
لكن القليل من الإخوان من لمس من حسن البنا اختلافًا عن الناس في الصلاة التي بينه وبين ربه أعني الصلاة يحكي الأستاذ عمر التلمساني عن موقف صحبه فيه إلي لمنزلة ، بعد كثرة الإجهاد من السفر، والجلوس مع الإخوان ، ومتابعة أنشطتهم،حدث ما يلي:
وبعد الحفل صعدنا إلي الطابق الثاني في منزل لنأخذ قسطًا من الراحة ، ودخلت معه إلي حجرة بها سريران وعلي كل سرير ناموسية ، لأن المنطقة كانت زاخرة بجحافل الناموس ، التي لا ترتوي إلا من امتصاص دماء البشر ، ودخل سريره وأرخي ناموسيته ، وفعلت مثلما فعل علي السرير الآخر ، وكان التعب والإجهاد قد بلغ مني مداه ، فاعتراني قلق وبعد خمس دقائق تقريبًا سألني فضيلته :" هل نمت يا عمر ؟
قلت ليس بعد ، ثم كرر السؤال بعد فترة ثم بعد فترة ، حتى ضقت بالأمر ، وقلت في نفسي : ألا يكفيني ما أنا فيه من إجهاد وقلق حتى تضاعف علي المتاعب ! ألا تدعني أنام ؟ كان هذا حديثا صامتًا يدور بيني وبين نفسي فصممت علي ألا أرد علي أسئلته موهمًا إياه أنني نمت ، فلما اطمئن إلي نومي نزل من سريره في هدوء كامل ، وعند الباب أخذ القبقاب بيده وسار حافيًا حتى وصل دورة المياه ، حيث توضأ وأخذ سجادة صغيرة ، وذهب إلي آخر الصالة بعيداً عن الغرفة ، التي ننام فيها .. وأخذ يصلي ما شاء الله له أن يصلي ونمت أنا ما شاء الله لي أن أنام.

يقول عمر بهاء الدين الأميري:

" لقد راقبته أدق المراقبة، حتى إنني أتابعه من شقوق الباب وهو يصلي في غرفته خاليًا قبل النوم، وكنت أفحص خشوعه فأراه أطول سجوداً وأكثر إقبالاً علي الله منه يصلي بنا "

الرجل القرآني :

القرآن الكريم نور يضيء جنبات النفوس ويتسرب إلي أعماق القلوب فيهزها ويضيئها ولكن هذا النور لا يضيء إلا النفوس التي فتحت له مغاليقها واستدعته إلي دروبها ، لتستضيء بنوره وتتلألأ بأسراره العجيبة.

ونحسب الإمام البنا كان واحداً من القرآنيين الذين شغلهم القرآن الكريم تلاوة وحفظاً وفهمًا وعملاً ، فكانت حياتهم كلها له . وهذه بعض المواقف المشهودة للرجل رحمه الله .

غاب عن الناس من خلقه ما جعله بين نفسه وربه يستره عن الناس فلا يطلع عليه إلا خاصة أهله ، فهو في بيته شهد الله لا يفتر عن مصحفه ولا يغيب عن قرآنه ولا يغفل عن ذكره، يتلو القرآن علي الحافظ منا فيسمع له ويلقي بالمصحف إذا لم يجد حافظاً إلي الصغير فيراجع عليه ويملأ البيت بالقرآن والتلاوة سابحًا في آيات ، غارقاً في ذكريات ، صاعداً إلي سماوات ، يعرف الطريقة التي كان يقرأ بها النبي صلي الله عليه وسلم فيقرأ بها والمواقف التي كان عندها فيقف عندها .

وكان تعرو جسمه رعدة وتأخذ نفسه روعة فيتجهم لدي آيات الوعيد ، ويشرق عند آيات البشري والنعيم ، خارجًا عن الجو الذي يحيا فيه غائبًا عن معني بعيد بعيد .

يقول عنه الكاتب الأمريكي " روبير جاكسون " :

لقد حمل البنا المصحف ووقف به في طريق رجال الفكر الحديث ، ثم يقول عنه : وكان الرجل القرآني يؤمن بأن الإسلام قوة نفسية في ضمير الشرق وأنها تستطيع أن تمده بالحيوية التي تمكن له في الأرض .

وكان رحمه الله ذا فهم قرآني راق نابع من قلب داعية ، ففي ذلك يقول محمد عبد الحميد أحمد :

" من الذكريات الجميلة التي لا تزال راسخة في أعماق نفسي ما فتح الله علي إمامنا الشهيد خلال محاضرات يوم الخميس من كل أسبوع لقسم الطلاب بالمركز العام ، وكان موضوع المحاضرة " دراسات قرآنية " تناول فيها موضوع الحروف المقطعة في أوائل بعض السور من القرآن الكريم مثل ( ألم ، ق ، ص .. الخ ) وتناول أراء المفسرين في دلالتها وحكمتها ..
ثم هداه الله وكشف في هذه الحروف إذا جمعت وحذف المكرر منها تكون عبارة تدل علي أن هذه الحروف لها حكمة ربانية وسر إلهي ، وهذه العبارة هي " نص قاطع حكيم له سر " وقد عرضنا هذا التصوير علي الشيخ الصالح " كامل حسن " وكيل كلية الشريعة سابقًا رحمه الله فكان جوابه إن القرآن كما وصف الرسول عليه الصلاة والسلام لا تنتهي عجائبه ، وهذا فتح من الله يؤتيه الله من يشاء من عباده الصالحين ، والإمام البنا رجل قرآني امتزج القرآن بدمه ولحمه فلا عجب أن يهديه بتأمله وتدبره إلي هذه الملاحظة البديعة حقاً .

ويصفه الشيخ الغزالي فيقول:

" إن الله جمع في شخصه مواهب تفرقت في أناس كثيرون وقد استفاد من تجارب من سبقوه من القادة ، وكان يدمن قراءة القرآن ويتلوه بصوت رخيم ويحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي ، ويفهم أصعب المعاني ويعرضها علي الجماهير بأسلوب سهل قريب .
وقد درس السنة والفقه ففهم منهج السلف والخلف وأحاط بالتاريخ الإسلامي واطلع علي منهج محمد عبده ، ورشيد رضا وتعمق في حاضر العالم ومؤامرات الاحتلال الأجنبي" .
الجانب البدني

البدن هو مركب الروح لتنفيذ رغباتها والنفوس العظيمة تتعب من مرادها الأجسام فإذا كانت النفس تواقة إلي معالي الأمور والبدن لا يتحمل ذلك عجز عن تحقيق أهدافها وآمالها ، ولذلك وهب الله الإمام البنا قوة بدنية كبيرة ساعدته في أداء رسالته في هذه الحياة وقد بدت قوته وقوة تحمله في مواقف عديدة ، نذكر منها :

  • فعندما كان طالبًا في مدرسة المعلمين الأولية بدمنهور وهو لا يزال فتي يافعًا يظل اليوم والليلة عاملاً مذاكراً لا ينام، ثم إذا نام نام الوقت القليل،فكان في يوم الخميس بعد ذهابه للمدرسة في دمنهور يرجع إلي المحمودية، فلا يذهب إلي بيته رغم أنه صائم ولكن إلي دكان الساعات، ومنه إلي البيت حتى يفطر ثم يذهب إلي المسجد للصلاة والدرس ، ثم يذهب إلي الحضرة ، ثم يسهر في المدارسة والذكر حتى صلاة الفجر ، ثم يستريح لفترة ، ثم يذهب بعدها للدكان للعمل حتى صلاة الجمعة ، ثم الدكان إلي المغرب فالمسجد فالمنزل ثم يذهب في الصباح إلي المدرسة .
الإمام البنا فى السويس
  • وعندما أصبح مرشداً للإخوان كان يقطع القطر المصري بمحافظاته المختلفة من شرقه إلي غربه ومن شماله إلي جنوبه في أيام معدودات ، يزور المراكز والقرى ويزور شعب الإخوان ويحاضر فيها ويوجه إخوانه إلي الخير ولا تسل كيف كانت وسائل المواصلات في ذلك الوقت ، ومع صعوبتها فقد كان حسن البنا لا يركب إلا قطار الدرجة الثالثة في معظم رحلاته ، وسأقدم لك نموذجًا لبعض الرحلات التي قام بها الإمام البنا لزيارة الشعب في يناير وفبراير سنة 1946م ، فهذه هي أيامه .

في يوم 9 صفر الموافق 13 يناير بالمنيا ، ويوم الاثنين و الثلاثاء حفلات بالمركز العام بالقاهرة " موعد المحاضرة الأسبوعية ".

ويوم الأربعاء 16 يناير بمنيا القمح وفاقوس ويوم الخميس 17 يناير أبو كبير والزقازيق ، والجمعة 18 يناير بالإسماعيلية ، والسبت 19 يناير ببورسعيد ، والأحد 20 يناير بالعزيزية ، والاثنين والثلاثاء حفلات بالمركز العام بالقاهرة ، والأربعاء 23 يناير بالمنصورة بشبين الكوم وطنطا أول والجمعة 25 يناير بطنطا ثان ودمنهور ، والسبت 26 يناير بالإسكندرية بمناطقها الثلاث ، والأحد 27 يناير بقليوب وشبين القناطر ، والاثنين 28 يناير بطوخ وبنها ، والثلاثاء بالمركز العام حفلات والمحاضرة الأسبوعية .

تلك كانت الزيارات المتفرقة ، وهي تبين مدى الجهد الذي يبذله دون كلل وملل ، وهناك رحلات أخري عرفها الإمام البنا وكانت تستغرق منه يوم الخميس بعد انتهاء اليوم الدراسي في مدرسته ، والجمعة والسبت ويعود منها مباشرة علي مدرسته يوم الأحد دون أن يتأخر عن موعده ، وقد كان يبذل فيها من المشقة والجهد ما يصعب علي كثير من أصحاب الأبدان القوية وإليك نموذج لذلك:

سنة 1357هـ-1939م:

  1. الساعة 3.40 يسافر من " القاهرة" مساء الخميس 21 ذي القعدة 12 يناير يصل إلي " المنيا " الساعة 8 مساء .
  2. الساعة 11.35 يسافر إلي " المنيا " في نفس الليلة – يصل " إدفو " الساعة 8.40 من صباح الجمعة .
  3. الساعة 1.25 يسافر " إدفو " بعد ظهر الجمعة فيصل إلي " قنا " الساعة 6.36 مساء .
  4. الساعة 8.24 يسافر من " قنا " صباح السبت إلي " نجع حمادي " فيصل الساعة 9.45 صباحًا أيضًا .
  5. الساعة 4.24 يسافر من " نجع حمادي " إلي " جرجا " فيصل إليها الساعة 5.44 مساء السبت أيضًا .
  6. الساعة 10.55 مساء السبت يسافر من " جرجا " عائداً إلي القاهرة فيصلها الساعة 7 صباح يوم الأحد .

أما في أيام الإجازات الطويلة كإجازة نصف العام، أو إجازة آخر العام، فقد كان لها برنامج مماثل يتناسب مع طولها ، وإليك نموذج لها:

اليوم التاريخ البلد الموعد والقطار
الأربعاء 30 يناير العياط الوسطي القيام من القاهرة الساعة 1.45 مساء ويصل الساعة 3 عصراً،القيام من العياط الساعة 7.45 مساء ويصل 8.15 مساء
الخميس 31 يناير أسيوط البداري آبنوب القيام من الواسطي الساعة 9.35 صباحًا ويصل الساعة 2.38 طهراً بالسيارات
الجمعة 1 فبراير كوم أمبو أسوان القيام من أسيوط الساعة 2.10 صباحًا ويصل 10.44 صباحًا،القيام من كوم أمبو الساعة 5.35 مساء ويصل 6.30 مساء
السبت 2 فبراير إدفو إسنا القيام من أسوان الساعة 6.5 صباحًا ويصل 8.38 صباحًا القيام من إدفو الساعة 5.20 مساء ويصل 6.20 مساء
الأحد 3 فبراير الأقصر قوص قنا القيام من إسنا الساعة 9.57 صباحًا ويصل 11.5 صباحًا القيام من الأقصر الساعة 3 مساء ويصل 3.42 مساء القيام من قوص الساعة 6.35 مساء ويصل 7.20 مساء
الاثنين 4 فبراير دشنا نجع حمادي فرشوط القيام من قنا الساعة 7.28 صباحًا ويصل 8.10 صباحًا القيام من دشنا الساعة 1.32 ظهراً ويصل 2 ظهراً القيام من نجع حمادي الساعة 6.6 مساء ويصل 6.30 مساء
الثلاثاء 5 فبراير البلينا جرجا سوهاج وأخميم القيام من فرشوط الساعة 9.5 ويصل 9.45 صباحًا القيام من البلينا الساعة 3.5 ظهراً ويصل 3.30 ظهراً القيام من جرجا الساعة 7.45 مساء ويصل 8.36 مساء
الأربعاء 6 فبراير طهطا طما أبو تيج القيام من سوهاج الساعة 8.5 صباحًا ويصل 8.55 صباحًا القيام من طهطا الساعة 11.43 صباحًا ويصل 3.30 ظهراً القيام من طما الساعة 5.56 صباحًا ويصل 6.30 مساء
الخميس 7 فبراير منفلوط ديروط ملوي القيام من أبو تيج الساعة 7.8 صباحًا ويصل 9.9 مساء القيام من منفلوط الساعة 1.30 ظهراً ويصل 2.2 ظهراً القيام من ديروط الساعة 5.44 مساء ويصل 6.17 مساء
الجمعة 8 فبراير الفكرية سمالوط بني مزار القيام من ملوي الساعة 10.25 صباحًا ويصل 11.15 صباحًا القيام من الفكرية الساعة 2.52 ظهراً ويصل 3.45 ظهراً القيام من سمالوط الساعة 8.7 مساء ويصل 8.42 مساء
السبت 9 فبراير مغاغة الفشن ببا القيام من بني مزار الساعة 10.2 صباحًا ويصل 10.30 صباحًا القيام من مغاغة الساعة 4.34 مساء ويصل 4.56 مساء القيام من الفشن الساعة 6.53 مساء ويصل 7.10 مساء
الأحد 10 فبراير بني سويف الفيوم القيام من ببا الساعة 11.18 صباحًا ويصل 11.39 صباحًا بالسيارة من بني سويف بعد المغرب إن شاء الله
الاثنين 11 فبراير القاهرة من الفيوم بالقطار أو السيارة إن شاء الله والله المستعان

ومن ذلك نستطيع أن نصف الإمام الشهيد بأنه " رحالة في سبيل الله أبداً " حيث إن الداعية الحق هو من يقسم جهده ووقته بين أبناء دعوته ، فلكل واحد منهم نصيب ، البعيد منهم كالقريب عنده ، القاصي منهم لا يقل عن الداني ، وقد اعتاد الناس في شهور الصيف أن يفروا من حرارة جو الصعيد إلي حيث سواحل مصر الشمالية يتبردون برطيب جوها ويسعدون بشذا زرعها ومائها ، وكان الإمام البنا رحمه الله علي خلاف ذلك .

فشهور الصيف الحار التي تتشقق منه الأحجار يقضيها هذا الداعية المجاهد هناك حيث الكفور والنجوع والجبال ، وبمجرد أن تنتهي الأجازة الصيفية يعود أدراجه إلي القاهرة ليبدأ برنامجًا حافلاً لرحلته الشتوية في أرجاء الوجه البحري ، وكان له في ذلك كله مواقف وطرائف .

كان يقطع الوجه القبلي كله بلداً بلداً وقرية قرية في عشرين يوما ينام ساعة أو بعض ساعة في القطار وهو يضع رأسه تحت ذراعه وهم يتحدثون من حوله .

فإذا سافر مع أصحابه أشرف علي نومهم وبحث عن الأسرة والغطاء وكل أمورهم فإذا اطمأن إلي أنهم رقدوا عاد إلي حجرته يتوضأ ويصلي هزيعاً من الليل ويناجي حتى الفجر ثم ينام بعده ساعة أو ساعتين يستيقظ بعدها فتيا قويًا ، وسرعان ما يرتدي ثيابه ويتناول إفطاره ويكون في الطريق إلي العمل يجتمع مع أهل كل بلدة خاصة فإذا انتهي جمعهم في جماعة عامة .

وفي " القوصية " دعا زعيم البلدة الأستاذ البنا وإخوانه إلي طعام العشاء في قصره وما أن انتهي من الحفل المقام حتى بدأ ينصرف وسار وراءه كثير من أتباعه وقريبًا من القصر وقف وقال : يا فلان ثلاثة فقط يذهبون معنا ، ودعا كل جماعة تأخذ طريقها ، المسافرين والمقيمين ، حتى لا يعطي الرجل صورة معروفة عن بعض الطوائف ، وهناك علي المائدة – كعادته دائمًا – لا يأكل إلا القليل والقليل جداً ، فإذا عاد إلي غرفة نومه أخذ في كتابة مذكراته عن أعمال يومه .

وربما يزور بلدة من البلاد لأن له فيها مريداً واحداً وكان من عادته أن يزور إخوانه في أماكنهم ولا يحملهم مشقة الانتقال إليه ، فيركب الحمار والجمل والفرس ويركب القطار والأتوبيس والسيارة والمركب والمعدية ويمشي أحيانًا .

ذات مرة أراد أن ينتقل من البر الغربي للنيل إلي البر الشرقي ليزور بعض إخوانه هناك فقالوا له : إن المركب الوحيد علي هذا البر مفتوح ولا تصلح للركوب ويحسن أن نرسل إليهم أن يحضروا ، فقال : لا بل نذهب فيه وننقل الماء منه إلي البحر وقد كان .

وفي رحلاته كان يصحب معه حقيبة صغيرة فيها غيار الملابس وبعض كتب ومناديل وجرابات ومشط وفرشاة أسنان وشيء آخر " علبة الدقة " وهي علبة صفيح مستديرة ذات غطاء فيها مسحوق أسود اللون وقال له أحدهم : لم تحمل هذا ؟ فأجاب : من يدري لعلنا نذهب إلي بلد لا نجد فيها من ننزل عنده أو نعرفه عندئذ نغمس الرغيف في الدقة وننام في المسجد يضع أحدنا ذراعه تحت رأسه ويتغطي بعباءته وينام .


وكان كثيراً ما يحدث في أول الأمر أن ينزل بلداً من البلاد ويكون الوقت عصراً مثلاً فيتوجه إلي المسجد وبعد أن يصلي مع الناس يقف بجوار أحد الأعمدة ويستأذن الإمام في الكلام ، ويأخذ في تفسير حديث من أحاديث رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم يستطرد إلي ما يريد أن يقول في يسر وبساطة ، وقد ينصرف الناس بعد أن يستمعوا إلي حديثه فيكون من أمره أن يبيت بالمسجد بعد أن يتوسد ذراعه وينام علي حصير الجامع ويتغطي بعباءته .

وكم قضي من الليالي علي هذا الوضع وكان قد عود نفسه أن يسافر إلي أسوان والأقصر في أجازة الصيف ، وقد قدر له أن يزور أربعة ألاف قرية في القطر كله وكان يخطب في كل بلدة ، وكان يأكل طعام الغداء مرتين أو ثلاثة ويسر لإخوانه الحاضرين معه من القاهرة : " كلوا نصف بطن هنا فأمامنا غداء آخر في البر الغربي وإذا لم نأكل هناك يغضبون منا " .

وكان في هذا التنقل العجيب يعرف كثيراً : اللهجات ، الأخلاق ، الطبائع ، القصص ، الأسرار ، التاريخ ، البيوت ، العائلات ، الغني والفقير ، الحياة والموت .

وما كان يتمتع به الإمام الشهيد من قوة بدنية ، قادرة علي تحمل المشاق والمصاعب يصفه الأستاذ أنور الجندي حيث صحبه في رحلته للحج عام 1946م يقول : نركب السيارة بين مكة والمدينة ويصيبنا الدوار ولا يصيبه ، نأكل بعض الأصناف فتصاب أمعاؤنا ولا يصاب ، ندخل جو مكة الحار بعد جونا الرطب ، وجو المدينة الرطب بعد جو مكة الحار فتتأثر صدورنا بالزكام والسعال وهو لا يتأثر ، يتعبنا المشي والتصعيد في غار حراء وهو لا يتعب ، تزعجنا المشاق وهو باسم راض ، تتأفف نفوسنا وتتوتر أعصابنا لبعض المواقف وهو هادئ يرد عنا ما بنا من غلظة وجفاف .ذلك فضل الله وذلك نتيجة التمرس الدائم بأعباء الحياة وأجوائها وأطعمتها وأسفارها .

وبتلك القوة البدنية التي حباه الله بها كان الإمام الشهيد قادراً علي تحمل كل الأجواء والظروف , قائظ ، أو برد قارص ، هواء عاصف ، أو نسيم عليل ، صحراء مقفرة ، أو أرض موحلة ، الكل يستوي عنده ، يتكيف مع كل ذلك دون مشقة أو عناء .

ومن لطيف ما يحكي في ذلك أنه لما دخل المعتقل في 16 أكتوبر عام 1941م وكان مع الأستاذ أحمد السكري ، وعبدالحكيم عابدين ، كان كثيراً ما يختلفان حول إعداد غرفة النوم أثناء النوم ، فقد كان الأستاذ أحمد السكري لا يستطيع أن ينام إلا إذا أغلق الشبابيك ، والزجاج والمنافذ كلها ، ولا يترك منفذاً أبداً ، وكان الأستاذ عابدين يقول له : " أن أكاد اختنق ، سأموت من الحر " وكان الأستاذ الإمام يضحك عليهما ويقول : " أضربوا رأسكما في رأس بعض " ، أنا سأنام فتحتم أو قفلتم .

ويعلق الأستاذ عابدين فيقول : والعبرة التي تأخذني أن الإمام الشهيد طيب الله ثراه ما كان يهمه أبداً أن ينام علي الأرض أو علي سرير ، في شباك مفتوح أو مغلق ، في حر أو في برد ، لا يبالي أبداً بشيء من هذا " .

الجانب العقلي

ليس المؤمن كما يتصوره الناس " كيس قطن " ولكنه كما جاء في الأثر " كيس فطن " وكما أخبر بذلك الخليفة الثاني رضي الله عنه " لست بالخب ولا الخب يخدعني " ، وهكذا فليكن الدعاة إلي الله : إيمان وتقي محوط بيقظة ودهاء يمكن الداعية من حسن التصرف في المواقف التغلب علي العقبات ، وقد كان الإمام الشهيد – رحمه الله – واحداً من هذه النماذج ، فلندع القول لمن عاصروه ورأوا المواقف بعيونهم شاهدة علي ذلك :

قال فضيلة الشيخ طنطاوي جوهري :

" إنحسن البنا في نظري مزاج عجيب من التقوى والدهاء السياسي ، إنه قلب علي وعقل معاوية ، وإنه أضفى علي دعوة اليقظة عنصر " الجندية " ، ورد علي الحركة الوطنية عنصر " الإسلامية " ، وبذلك يعد هذا الجيل الإسلامي الحاضر النسخة الإسلامية الثانية الكاملة المعالم بعد الجيل الإسلامي الأول في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم .

ومما يذكر علي سبيل المثال أن أزهرًا أراد أن ينفر منه المستمعين بإثارة جدل عقيم حول جزئيات سخيفة في بدء حركته في الإسماعيلية , فسأله عن اسم والد " إبراهيم الخليل " في معرض قصته فقال له البنا : " إن اسمه " تارخ " وإن " آزر " عمه .

والقرآن يقول إن آزر أبوه ولا مانع من أن يكون عمه لاستخدام ذلك في لغة العرب وقال بعض المفسرين:

إن آزر اسم للصنم لا لأبيه ولا لعمه ونطق الإمام البنا كلمة تارخ بكسر الراء ، فرد عليه الأزهري إن الكلمة بضم الراء لا بكسرها إحراجًا له .. " وحين أراد الأزهري أن ينحو هذا النحو في كل درس تذرع بوسيلة تدل علي دهائه فدعاه إلي منزله وأكرمه وقدم له كتابين في الفقه والتصوف هدية وطمأنه علي أنه مستعد لمهاداته بما شاء من الكتب ، فطابت نفس الأزهري وواظب علي حضور الدروس وكف عن اللجاج .

ولعل أشد المواقف امتحانًا لذكائه ودهائه كان عندما صادر إبراهيم عبد الهادي أموال الجماعة وطاردها بعنف وتهمها بتبيين الانقلاب وعدم الولاء للعرش ، فما كان من البنا إلا أن صرح بأن الهيئة ستأخذ بالنهوض بحالة البلاد من الناحية الدينية والاجتماعية والاقتصادية مهملاً الناحية السياسية التي توغل فيها أيما توغل إبقاء علي الجماعة في وجه العنف ، وهو موقف لا بد من أن يكون قد حز في نفسه ؤآلمه أشد الألم بعد أن كان يرجو أن يجعل من الإخوان " الإنقاذ وكتائب الجهاد " وبعد أن صرح مرارًا أن السياسة جزء لا يتجزأ من منهجهم .

ومن أهم مفردات الجانب العقلي للدعاة الذاكرة القوية ، والقدرة علي التركيز ، لأن الدعاة يلقون كثيرًا من الوجوه ويتحدثون إلي أناس كثير ، فلو لم يؤتهم الله نعمة التركيز وهبة التذكر القوي والذاكرة الحادة ما استطاعوا أن يقودوا جموع الأتباع ولا أن ينشروا فكرتهم في كل الأصقاع .

وكان الإمام البنا نموذجًا فريدًا في هذا الباب وطرازًا عجيبًا في هذا الصدد:

يسمع إلي آلاف الأفكار والآراء والمذاهب فلا تؤثر في اتجاهه المركز الثابت وإنما تمده بالعون، ذلك أنه أوتي القوة الكاملة علي تحرير نفسه فلا يجرفه تيار فكرة ما إلا بعد البحث الدقيق .

أعطي هذا الرجل ذاكرة عجيبة لا تنسي اسمًا ولا وجهًا ولا مكانًا ولو طالت السنون ، ولذلك فهو يعرف أكبر مجموعة من الناس ويعرف عنها كل ما يحيط بها معرفة تامة ، ويعرف القطر مدنه وقراه ، ويعرف روح كل بلد ووضعها ونظم أهلها وتقاليدها وعاداتهم ومذاهبهم الدينية وكل ما يتعلق بكيانهم الروحي والاجتماعي والعقلي ، فيتمشي معهم ويحاول أن يرتفع بهم ، وكان يعرف أتباعه من صورهم وكانوا قد أرسلوا رسومهم وحضروا بعد عام فلما رآهم ناداهم بأسمائهم وكان يعرف أسماء أتباعه بعد أن يتلقي بهم للمرة الأولي وكان إذا سمع اسمًا ردده ، وإذا قيل له : فلان من عائلة " كذا " فتوقف وقال : هناك خمس عائلات في مصر تحمل هذا الاسم فمن أيهم هو ؟ .

عقله كأنه من المطابع التي تحفظ الصور والأسماء والأماكن علي كثرة ما لقي من الناس وشاهد من الصور والأماكن ، فقد طاف القطر من أقصاه إلي أقصاه المدن والقرى ، ورأي من المغرب والهند والشام والجزيرة العربية، وهو علي قدر ما التقي بالناس لا تغيب عنه أسماؤهم ولا أهدافهم ولا مسائلهم ، فذاكرته حافظة عجيبة الصمامات يفتحها في الوقت المطلوب , بالقدر المطلوب تحتوي شعرًا ونثرًا وأدبًا وتاريخًا وفقهًا وحديثاً وتصوفاً وقرآناً وطباً وقانوناً .

يصفه الأستاذ عمر التلمساني فيقول : كانت له ذاكرة غير مألوفة في قوتها : إذا سأل أخاً عن اسمه مرة وابنه وأبيه وعمله ثم التقي به بعد أشهر طوال حياه باسمه ، وسأله عن والده فلان ، وابنه فلان ، وكان ذلك مثار العجب عند الجميع ، ولو علمت عدد شعب الإخوان أيام حياته ، ولكل شعبة مسئول ثم هو بعد ذلك يعرف كل مسئول عن كل شعبة ،وهو الذي يعرف الآخرين بهم ، لأذهلتك هذه الذاكرة الجبارة ، التي ما ضاقت يوماً عن اسم أو غاب عنها حدث مهما طال به الزمن .

ومن الوقائع الدالة علي قوة ذاكرته رحمه الله ما كان بينه وبين كتاب " مستقبل الثقافة في مصر " حيث طلبت منه جمعية الشباب المسلمين إلقاء محاضرة عن الكتاب بعد خمسة أيام ولم يكن عند الإمام الشهيد وقت يخصصه لقراءته إلا في فترة ركوبه الترام في الصباح إلي مدرسته ، وفترة رجوعه منها ، وكان يضع علامات بالقلم الرصاص علي فقرات معينة .

وفي الموعد المحدد ذهب الإمام الشهيد إلي دار الشباب المسلمين فوجدها علي غير عادتها غاصة بالحاضرين وهم من رجال العلم والأدب والتربية في مصر ونتركه يكمل القصة فيقول : " ووقفت علي المنصة , واستفتحت بحمد الله , والصلاة والسلام علي رسول الله , وبجانبي الدكتور يحيى الدرديري السكرتير العام للشباب المسلمين , ورأيت الكتاب كله منطبعاً في خاطري بعلاماتي التي كانت علمتها بالقلم الرصاص .

وبدأت أول ما بدأت فقلت إنني لن أنقد هذا الكتاب بكلام من عندي , وإنما سأنقد بعضه ببعضه , وأخذت – ملتزماً بهذا الشرط – أذكر العبارة من الكتاب , وأعارضها بعبارة أخري من نفس الكتاب , ولاحظ الدكتور الدرديرى أنني في كل مرة أقول : " يقول الدكتور طه حسين في الكتاب في صفحة كذا .. واقرأ العبارة بنصها أيضاً من خاطري.

ثم أقول : ويناقض الدكتور طه نفسه فيقول في صفحة كذا .. وأقرأ العبارة بنصها أيضاً من خاطري , فاستوقفني الدكتور الدر ديري , وطلب إلي أن أمهله حتى يحضر نسخة من الكتاب ليراجع معي النصوص والصفحات , لأنه قرأ الكتاب , ولم يلاحظ فيه هذا التناقض " وكأنه لم يقرأ العبارة التي يسمعها الآن .

وأحضر له الكتاب , وظل يتابعني , فيجد العبارات لا تنقص حرفاً , ولا تزيد حرفاً , ويجد الصفحات كما أحددها تماماً , فكاد الدكتور الدرديري يجن , كما ساد الحاضرين جو من الدهشة والذهول والكل يتجه كلما قرأت من خاطري عبارتين متناقضتين إلي الدكتور الدرديري في كل مرة : " تماماً بالنصوص والصفحات " , وظللت علي هذه الوتيرة حتى أنهيت الكتاب كله ، وأنهيت المحاضرة ، فقام الجميع وفي مقدمتهم الدكتور الدرديري بين معانق ومقبل .

وفي موقف آخر : قدم إليه أكثر من مائة " كرت " بأسماء شباب الجوالة في إحدى المحافظات لتوقيعها , فراح يمعن النظر في صورة كل جوال ويحفظ اسمه ولما توجه بعد أكثر من سنة لزيارة بعض قرى هذه المحافظات , كان يلتقي بالإخوان ويناديهم بأسمائهم , ولم يكن قد التقى بهم من قبل إلا من خلال تلك " الكرنيهات" فكان ذلك مثار دهشة الجميع .

ويذكر المهندس سعد لاشين موقفاً للإمام البنا يدل علي ذكائه وقوة ذاكرته فيقول : " إنه أثناء حفلات الإخوان في سوهاج حضر الأستاذ البنا وكنت قد التحقت بالإخوان هناك حيث كنت أعمل بمديرية الزراعة بسوهاج.

فلما انتهي الحفل بدأ التعارف بين الإخوان وذكرت اسمي ومهنتى ، وبعد انتهاء التعارف بادرني الإمام البنا بالسؤال الآتي : الأستاذ محمود لاشين يقرب لك إيه ؟ فقلت له : هذا عمي فذهبت إلي عمي وكان في هذا الوقت مدرساً أول بالمدرسة الثانوية بسوهاج وقلت له : إن الأستاذ المرشد حسن البنا يعرفك فدهش عمي لأنه لم يلتق به إلا في سنة 1929م إذ كانا في مراقبة امتحان الشهادة الابتدائية , والمراقبة لا تستمر أكثر من أربعة أيام ، وكان ذلك أول لقاء لي مع الإمام البنا رحمه الله .

كان للداعية الأول للإسلام من البلاغة والفصاحة وحسن الحديث وروعة البيان ما جذب إليه فصحاء العرب وبلغاءهم حتى إنه لما سئل صلي الله عليه وسلم عن ذلك , قال : أدبني ربي فأحسن تأديبي ، حتى أن مشركى قريش كانوا يقولون عنه إنه ساحر لما يسلب به القلوب بحلو حديثه وعذب كلامه وبليغ منطقه .

وهكذا جعلها الله سنة في خلقه فحملة أولوية الدعوة إلي الله من بعد الداعية رسول الله صلي الله عليه السلام يمنحهم الله هذا البيان الصافي والأسلوب الساحر الأخاذ ، ومن هؤلاء كان الإمام البنا رحمه الله وحسبنا تدليلاً علي ذلك :

أقوال من عاصروه واغترفوا من معينه

يقول الأستاذ أنور الجندي :

" كان حسن البنا كاتبًا وخطيبًا ومحدثاً من آيات البيان والتعبير ، ووراء ذلك كله المحصول الضخم من القراءات والثقافات والتجارب ، فقد أحاط بالتراث الإسلامي إحاطة طيبة ، وعرف من الناس العشرات ، استمع إليهم وحدثهم وعرف تجاربهم وما وعوه من سير الدعوة والدعاة " .

ويقول الدكتور منصور فهمي :

" كان علي قدر عظيم من الإيمان والذكاء ومبشراً من الصالحين ، ويدعو لوجه الله علي أبلغ ما يدعو داعية مؤمن بما يقول وعلي خير صور التبليغ الذي يصل به المعلم المختار الملهم إلي نفوس تلاميذه وأذهان مريديه .
اجتمعت به مراراً في المجالس التي تعمل للصالح العام كان إذا بدأ له أن يسوق رأيًا أو حكمًا كانت الحجج القاطعة تواتيه منتظمة في فصاحة البلغاء ولباقة الأذكياء الكيسين ، وفي تواضع العلماء الراسخين ، وفي إيمان الدعاة المخلصين ، وطالما سمعته خطيبًا ومحدثاً في المحافل العامة فكانت المعاني تواتيه جلية واضحة مرتبة ، وتتوالي علي لسانه العبارات طيعة سهلة فصيحة ولطالما كان يثبت معانيه وأقواله بقول الله المكين والأحداث المناسبة والشواهد الأخاذة من أعمال السلف الصالح " .وبمثل فصاحته البليغة الفياضة بحرارة الإيمان كان يقود الجماهير ويفيدهم بما ذهب إليه ويدعو له .

ويقول أحد الأمراء العرب :

" لقد خاب ظني بادئ الرأي في حسن البنا أول ما لقيته في القاهرة لجسده الضئيل وبذلته الباهتة وسمته الذي لا يلفت العين ، فضلاَ من أن يلفت النفس ، فإن هي إلا دقائق في أحاديث مختلفات حتى بهرني الرجل البسيط : أصالة في الصدق تطوع من كان له بعض قلب وأصالة في الحجة والرأي مبرأة من شوائب الحسد أو العجب ، كل ذلك جمع سماحة نفس سيالة الود وتواضعًا عجيبًا ليس فيه إثارة وواقعية مدهشة وحفاظ علي ثلاثة أمور في وقت واحد :
  1. وعي راسخ بالأحكام الشرعية .
  2. حاضر الحجة من الكتاب والسنة ومحيط بخلافات الفقه ووجوهها .
  3. علي ثقة تم بدعوته وبمستقبل الإسلام والمسلمين .
بعض المواقف الرائعة في هذا الميدان

الموقف الأول : دخول الإمام البنا إلي الجامعة محاضراً عن ذكرى الهجرة النبوية :

كان الاحتفال بالهجرة مقصوراً علي الأزهر الشريف ، ولم تكن الجامعة في ذلك الوقت تحتفل بأي ذكري دينية ، وأراد طلاب الجامعة من الإخوان المسلمين أن يقيموا احتفالاً دينيًا في رحاب الجامعة ويدعو الإمام البنا لحضورها وإلقاء خطبة بها ، فأعلنوا في الجامعة عن الاحتفال وأن الذي يتلو السيرة النبوية هو الشيخ حسن أحمد عبد الرحمن ، فلم يعترض أحد علي ذلك من إدارة الجامعة ، وحان وقت الحفلة ، وامتلأت القاعة بالحضور والضيوف المتحدثين ، وكانوا صفوة من العلماء والمدرسين بالجامعة وعلي رأسهم الأستاذ أحمد أمين ، والأستاذ محمد الغمراوي.

وجلس معهم الإمام البنا وحين جاء الدور عليه في الحديث قام علي هيئة المتواضع ، ويتحدث بهدوء ، ويثني علي السادة العلماء ويذكر مناقبهم ، واحداً واحداً ثم بدأ حديثه بهدوء ، بدأ خفيض الصوت ، ناعمًا ، هادئًا ، ثم انطلق وتدفق حديثه وانسابت كلماته متدفقة إلي قلوب السامعين حتى جذبهم إليه ، وكان للإمام حماسه في حديثه وقوة في منطقته ، وبلاغة في حجته وسحر في بيانه ، فتجاوب معه الحاضرون والتهبت أيديهم بالتصفيق إعجابًا بحديث الإمام ، وصارت كلمة " الله أكبر ولله الحمد " تدوي في رحاب الجامعة ، وكان من ثمرة هذا النجاح الباهر أن أصرت إدارة الجامعة علي أن تكون الاحتفالات بالمناسبات الإسلامية بانتظام وأن يكون الإمام البنا هو الخطيب الرئيسي فيها .

فإذا كان حسن البنا رحمه الله مؤثراً في جموع البسطاء من العمال والفلاحين فإن تأثيره في رواد وطلاب الجامعة كان أشد .

موقف أخر :

يروي أحد ضباط البوليس : " كنت اعمل في أحدى قري مديرية " جرجا " وبينما أنا منهمك في لعب النرد بعد الغروب إذا جاءتني إشارة مستعجلة هذا نصها : ( يمر الليلة بالبلدة من يدعي الشيخ حسن البنا فالمطلوب مراقبة الاحتفال الذي يقام له وسماع كلمته فإذا وجدتم فيها ما يخالف القانون يقبض عليه فوراً ويرسل مع مخصوص.

قال : ضقت بالإشارة وبالشيخ فقد صرفاني عن رغبتي في اللعب ومضيت إلي ذلك السرادق البسيط المتواضع الذي أقيم ، وكان الرجل قد وصل وبدأ يتحدث وجلست في آخر الصفوف استمع وأراقب فماذا وجدت ؟ تكلم الرجل عن البلدة والإنارة والنظافة وطلب من الأهالي وضع " فوانيس " علي بيوتهم إلي أن يستطيعوا إنشاء مجلس كروي ودعاهم إلي بناء المساجد ، وظل يتحدث وأنا أصغي وأقول : ماذا في قول مثل هذا الرجل مما يضير الأمن العام .

وتحدث عن نسيان الخلافات وإجراء المصالحات بين الأسر واستطرد إلي حال الأمة حين تنسي ربها ودينها ، كنت استمع إليه كالمأخوذ ، وكأنما قد امسك بعناني وسحرني ، فما أن انتهي من كلمته حتى كنت أسرع الناس إلي التسليم عليه وفي اليوم التالي كنت أحمل حقيبته إلي القطار ! .

أوتي الإمام البنا أسلوبًا سهلاًَ ممتنعًا جمع الله إليه صوتًا قويًا له رنة حلوة نفاذة إلي القلوب مؤثرة في الأعصاب والأرواح تفعل فيها فعل السحر ، وهو إلي ذلك لا يستعمل الألفاظ الرنانة ولا الجمل المثيرة ولا الكلمات الجوفاء،إنما يستعمل المعاني العامرة ويخاطب القلوب والعقول معًا، ويعتمد علي المنطق والبرهان والحجة،ويجمع بين الأدب العربي الخالص البليغ واللهجة العادية التي يفهمها كل الناس ويجمع بين الفلسفات والاجتماعيات والقانون في نمط واحد يبسطه للناس حتى يصل إلي الأذهان فلا يثقل علي العامة ولا يزدريه الخاصة .

وهو يدعو إلي التراحم والمحبة بين الناس ،لا يفتعل العبارة ولا يتكلف الحديث ولكم يرسل القول إرسالاً ويبين ما يريد في بساطة ووضوح مستشهداً في كل موقف بآيات القرآن الكريم ، يحفظها حفظًا جيداً ويتلوها تلاوة عذبة ويوضحها إيضاحًا كاملاً ويفهمها فهمًا دقيقاً ، ويفتح عليه فتوح الفيض الإلهي والفتح الرباني وتمضي الساعات وهو مسترسل ويفيد فيسمع الناس في دهشة وذهول .

الجانب النفسي

إن نقاء السريرة وإخلاص النية وصفاء النفس من أهم صفات الداعية الحق ولا يجد القبول من الناس إلا بها وقد كان الإمام الشهيد علي قدر كبير من تلك الصفات النفسية الضرورية لكل إمام مجدد ونحاول في عجالة أن نعرض لبعضها :

  • 1 – كان أبغض شيء إلي نفسه المدح والإطراء الشخصي :

عندما يسن إمام الدعاة إلي الله قانونًا فلا يسع أتباعه وحملة ألوية دعوته إلا السير علي نفس النهج ، فرسول الله صلي الله عليه وسلم ، يقنن لأمته عامة ولأهل الدعوة خاصة ذلك القانون العظيم " احثوا في وجه المداحين التراب " ذلك أنه كثيراً ما يكون نابعًا من النفاق ، أو يكون دافعًا إلي غرور الممدوح وتكبره بعد أن يمتلئ إعجابه لنفسه .

وعلي نفس المنوال نسج الدعاة إلي الله ومنهم الإمام البنا فقد كان يبغض المدح الشخصي أيما بغض ، ويكره ، ويبدو ذلك واضحًا من خلال هذه المواقف :

" دعيت وأنا وحديث عهد بدعوة الإخوان المسلمين إلي لقاء الإمام الشهيد حسن البنا في دمنهور .. كنت أتخليه شيخًا كبيراً له لحية طويلة وفي يده مسبحة طويلة ، ويضع علي رأسه عمامة واسعة فوجئت بأنه " أفندي " يرتدي البدلة وله وجه باسم يستقطب الناس بالنكتة اللطيفة وكان معروفًا وقتها أن الأفندية معظمهم لا يصلون .

وقف الأستاذ أحمد السكري وكيل الجماعة – في ذلك الوقت – والقي كلمة ثم قدم الأستاذ البنا بكلمات فيها الكثير من الإطراء قائلاً : " أيها الإخوان .. ها هو زعيمكم ومرشدكم ها هو قائد المسيرة ، نظرت إلي الأستاذ البنا فوجدته يرتجف ووجهه ممتقع ثم قام وأمسك بالميكروفون وقال : ما ماتت الدعوات إلا بسبب التفاف أصحابها حول الأشخاص فإذا مات الشخص ماتت الدعوة ..

وأنتم أيها الأحباب مبادئكم خالدة .. الله غايتكم والرسول زعيمكم والقرآن دستوركم والجهاد سبيلكم والموت في سبيل الله أسمي أمانيكم .. هذه المبادئ التي تلتفون حولها هي الباقية .. فسمح رحمه الله بهذه الكلمات كل الإطراءات التي قالها الأستاذ السكري .. وما رأيت إنسانًا بعده مسح إطراء قيل عنه كما فعل الإمام الشهيد وإنما يكتفي الناس بشكر من أثني عليهم أو بقول : غفر الله لنا ولكم .

ويذكر الأستاذ أنور الجندي أن الإمام كان ينزعج من المدح في شخصه ويقول : " إنه أنزلني من فوق منصة الخطابة في أسيوط بشدة وعنف لأنني كنت ألقي قصيدة جاء فيها ذكره فغضب لذلك وقال : إما أن يقول شيئًا عن الدعوة وإلا فانزلوه ، وقد فعلها مع كثير غيري من الإخوان وكنت اشعر بضجرة إذا حاول أحد من الإخوان أو من الناس أن يذكره بكلمة ثناء في قصيدة أو خطبة ، وكان يقول دائمًا : " تكلموا في الدعوة فهي باقية والأشخاص فانون " .

  • 2 – التواضع والبعد عن العجب :

إن كان التواضع وخفض الجناح محجوبًا ومرغوبًا للمسلمين فهو الدعاة واجب ولازم لا غني لهم عنه ، ورسول الله صلي الله عليه وسلم كان إمام الدعاة وقدوة المتواضعين فهو القائل : " طوبي لمن تواضع في غير منقصه ولزم أهل الذل والمسكنة " حتى إن الجارية تلقاه صلي الله عليه وسلم في الطريق فتأخذ بيده تطوف به طرقات المدينة ما يمنعه من ذلك شيء ، ومن معينه صلي الله عليه وسلم قبس حملة لواء دعوته من بعده ، فكانوا به متأسين وعلي منواله ناسجين ومن هؤلاء كان مجدد دعوة الإسلام في هذا العصر الذي كادت أن توأد فيه دعوة الإسلام .

يذكر عبدالحكيم عابدين في مذكراته غير المنشورة :

" بل أذكر مرة ومرات عديدة كان يكثر من التبرؤ بنفسه إلي الله عز وجل ، مثلاً في بعض المحاضرات يري إقبال الناس والإخوان يأتون في محاضرات الثلاثاء هذه بدون دعوة من أقصي أطراف القاهرة ، وقد يمشي الواحد منهم أكثر من عشرة كيلو مترات علي قدميه فكان هؤلاء الإخوان يحضرون دروس الثلاثاء وإذا نظر وراء هذه الكثرة الكاثرة وانتفاضها بالتكبير والتحميد عندما يتحدث ويكون في حديثه ما يروع ويعجب – وكل حديثه والحمد لله يروع ويعجب.
كان لا يتردد في أن يقول : أيها الإخوان إنكم لتأتون إلي من بقاع بعيدة ومن بلاد نائية وأنا أعلم أن فيكم من يأتي مشيًا علي الأقدام وتأتون لتستفيدوا مني علمًا وتأخذوا عني خيراً ، والله لأعتقد في أعماق قلبي وشعوري بأن هناك في أواخر صفوفكم من لا تنظر إليهم عين ولا تصغي لهم أذن ، أناساً وشبابًا تدركني أنا بهم رحمة الله واقترب إلي الله أنا بمحبتهم ، واستمد الفيض والبركة من الله ومن قلوبهم.
فكان دائمًا حريصًا علي هذه المعاني والفرار إلي الله عز وجل فراراً تامًا من أي معني أو مادة أو مكسب أو فائدة من هذه الدعوة من علو أو تقدير ، ويعلن فراره من هذه إعلانًا يكسر أنف من يركبه الغرور وتجعل أعلي الناس فخاراً بمواهبه لا يشعر إلا أنه حفنة تراب أمام جبل أشم .
أما عن تواضعه رضي الله عنه فقد كان يجلس علي الحصير إذا كان المجلس أرضًا وفي آخر الصفوف إذا اصطفت المقاعد للجلوس منكمشاً فلا يكاد يري متواضعًا فلا يكاد يعرف لولا ما ينم عنه من علم وفضل ونور ، يلبس في غالب أحيانه الجلباب العادي من أرخص الأقمشة والعباءة من فوقه والعمامة يشرق من تحتها جبين وضاء ووجه كله سماحة وذكاء .
  • 3 – التسامي عن المناصب والترفع عن المنن:

إن حب الرياسة خلق دنيوي ترابي لا يطمح إليه المحلقون في الآفاق الرحبة والأبراج العالية من النورانية والربانية والنعيم العظيم في الآخرة .

هذا إمام الدعاة الأول صلي الله عليه وسلم جاءه عتبة بن ربيعة ممثلاً قومه يعرض عليه أموراً :

" قل يا أبا الوليد أسمع .. قال يا بن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاًً ، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا .. " ، فتلا رسول الله صلي الله عليه وسلم سورة فصلت حتى انتهي إلي السجدة فيها ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك ، هكذا رفض رسول الله الملك الذي يلهث وراءه الناس ..

وهو الأمر الذي كان الإمام البنا رحمه الله يتسامي عن طلبه والسعي إليه ، فقد كان يود أن يكون جنديًا من جنود الدعوة ويسلم قيادها إلي من يحمل عنه هذا العبء .

وقد عرضه مرات ورغب من الإخوان عدة مرات أن يكون هو جنديًا متواضعًا يتلق الأمر ممن يلي أمر الدعوة حين يجد من يلقي هذه الأوامر وكان يعني ذلك بجد لا بتحد وتعجيز بل برغبة صادقة حتى كان يقول : فرغوني أنا للعمل الخاص للدعوة اتركوا لي أنا الناس والشعب للتربية والتفقيه واختاروا لكم مرشداً عامًا يكون همه إدارة الدعوة وتصريف شئونها ويكون عملي مجرد داعية فقط ، لا أقيم في القاهرة إلا أيامًا قليلة أنقل لكم أخبار الأقاليم ، وسرحوني علي أجيال هذه الأمة وقراها وأصغر القرى فيها لأتولى التربية ، كانت هذه أمنيته وحرص عليها حتى إنه في أواخر أيامه رحمه الله قبل استشهاده بنحو سنة ونصف استطاع بعد مجهود أن يصل إلي صورة من هذه الصور ، وهو أن يوزع أعباء القيادة الفعلية علي أعوانه الموثوقين علي أن يكون هو فقط للسياسة العليا .

ومن عجيب أفعاله أنه رفض عرضًا من أحد علية القوم ، بأن يطلب إلي وزير المعارف ترقيته ليكون مفتشاً عامًا علي التعليم الديني في القطر المصري ، ويكون معه " أبونيه " الدرجة الأولي ليتفرغ للرحلات في أنحاء القطر المصري كله ، يوجه العملية التعليمية ، وينشر دعوته بين الناس ، فرفض الإمام الشهيد ذلك ، واعتذر له بلطف وأدب ، وقد عاتبه الأستاذ عبدالحكيم عابدين ، والشيخ الباقوري والأستاذ مصطفي الطير وقد كانوا معه في هذا الموقف علي هذا الرفض حيث كانوا يرون في عرض الشناوي بك عدة فوائد وضعوها بين يدي المرشد وهي :

  1. توفير الوقت ، حيث يتسع للزيارات والرحلات وعدم التقيد بمواعيد المدرسة .
  2. توفير المال الذي يسرف علي الرحلات .
  3. توفير الجهد ، حيث يجد المرشدالراحة في الدرجة الأولي أثناء السفر فيوفر علي نفسه الجهد والإرهاق الذي ينتابه من ركوب الدرجة الثالثة .
  4. أنه سوف يوجه العملية التعليمية توجيهًا صحيحا ، فضلا عن علاقته مع علية القوم من المفتشين والمديرين والنظار وغيرهم ، وسوف يكون ذلك فتحًا للدعوة حيث تستقطب هؤلاء الناس .

وقد أجاب الإمام الشهيد علي ذلك ، فأما توفير الوقت فقال : عندنا أجازة صيفية أربعة أشهر ، فالرحلات الطويلة نقوم بها فيها ، وعندنا أجازة نصف العام عشرة أيام ، وأجازة عيد الأضحى خمسة أيام ، وعيد الفطر أربعة أيام ، فما الذي يريده داعية بعد ذلك ، هل يريد بساط سليمان ليتصل بشعبه وجمهوره في الأقاليم ؟ ! .

قالوا : لكن هذا يكلفك الجهد الكثير ، فقال : يا إخوان : أنت نسيتم مبادئكم الدعوية ، من يطلب الراحة في أداء دعوته ، كيف تتجدد عنده شحنة الإيمان ؟ فإذا كان الداعية سيؤدي عمله كما لو كان يقوم برحلة صيد أو بنزهة فما هو المحرك الذي يؤجج الحماسة في نفسه ، وما هو الجديد الذي يستفيده علي مشاعره حتى يستطيع أن يشعر أنه مربوط بهذه الدعوة رباط حياة أو موت ؟ ، ثم لو طلب الداعي الراحة فسوف يطري عوده ، ولا يكون له جلد علي استكمال مشواره إلي نهايته ,

ثم هل تظنون أن الدعوة في القاهرة من السهل أن تستغني عن المرشد العام الشهور التي تتصورونها ؟ أنا لا أخاف إلا علي إخوان القاهرة ، لذلك أذهب إلي الأقاليم أتزود من إيمانهم وأحضر إلي القاهرةأجدد به إيمانكم .

أما توفير المال ، فأجاب المرشد : إذن لا نشعر بلذة البذل في سبيل الله ، ويفقد الأخ منا سعادته بأنه اقتطع القرش من قوته وقوت أولاده ليبذله في سبيل الله ، وهذه لذة لا يعرفها إلا من ذاقها مثلكم ، أنا نفسي إذا فقدت الشعور بأني أترك ولدي شبه جائع في سبيل تبليغ دعوة الخير للناس ، فقد أصبحت رئيس حزب أو رئيس جمعية ولم أكن داعية ، أين نحن من رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي تروي عنه السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها : " كنا نري الهلال ثم الهلال ما يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلي الله عليه وسلم نار ، فقيل لها : فما كان طعامكم ياخالة ، قالت : الأسودين ، التمر والماء " .

أما عن إرهاق الدرجة الثالثة في السفر ، فأجاب المرشد : هل شكوت لكم يومًا من الإرهاق ؟ هل قال لكم الإخوان الذين تحدثت معهم طوال الليل : إن المرشد كان باديًا عليه الإنهاك لدرجة أنه لم يستطع أن يبلغ الدعوة ، يا إخواني ارجعوا إلي أصلنا ، فليست لنا قوة ، وليست لنا طاقة إلا الفقر إلي الله عز وجل ، الذي يمدنا بمدده الله : إننا استغنينا عنك ، واستبدلناك بوسائل الراحلة ، يا إخواني الافتقار إلي الله يأتينا بالقوة والعون ، ولولاه لوكلنا الله إلي أنفسنا ، فنضيع وتضيع الدعوة.

أما عن ذلك سوف يكون فتحًا للدعوة ويستقطب علية القوم لها ، فأجاب المرشد : إننا فعلاً سوف نكسب الكثير من رجال التعليم وكبارهم لكن لن يدخلوا لحلاوة الدعوة وانصبابها في قلوبهم ، وإنما سيدخلون تقربًا للمفتش العام ، الذي بيده ترقيتهم ، ونقلهم ، ووضع التقارير عنهم ، وحينئذ سنتعب في غربلة هؤلاء الناس وفوزهم وسنجد من هؤلاء من يكون بلاءً علي دعوتنا لأنهم يشبهون مسلمة الفتح ، الذين قبلهم الرسول صلي الله عليه وسلم حين ثبتت الدعوة ، واشتد عودها ، وأصبحت لها دولة تحميها أما نحن فما زلنا في مرحلة التأسيس ، وإذا قبلنا مسلمي الفتح هلكت دعوتنا وهلكنا جميعاً .

وبعد أن أجاب لهم المرشدعما حسبوه فوائد ذلك العرض ، وأعطاهم درسًا تربويًا مهمًا ، قال لهم : إن الشناوي بك يعرض ذلك بدافع إخلاص للدعوة ، لكنه لن يحصل عليه بموافقة وزير الأوقاف زكي العرابي باشا الذي هو وزير في وزارة الوفد ، وربما يحتاج إلي موافقة النحاس باشا نفسه ، ومعني ذلك أننا نطوق أعناقنا بأنفسنا للوفد المصري.

فإذا كنا الآن وليس لأحد علينا منة – نتهم بأننا وفديون ، ويرمينا البعض أننا أحرار دستوريون أو سعديون أو وطنيون .. فما بالكم لو قبلنا عرض الشناوي بك فسيقول الناس إن الإخوان أصبحوا أذناب الوفد ، ولا يهم الدليل ، بل وسيشعر الوفد بأننا أتباعه ، وهذا معناه إما أن نوافقهم دائمًا وإما أن تطلع علينا صحفهم وتقول : إن مدرس الخط الحقير الذي رفعناه إلي مفتش عام للتعليم الديني لم يذكر لنا هذا الجميل ، ولم يعرف لنا الوفاء .

  • 4 – محاسبة النفس حتى علي خلجاتها وخواطرها:

ومن المواقف النفسية المهمة التي تدل علي شدة محاسبة الإمام البنا لخلجات نفسه ومراقبة الشهوات النفسانية الدقيقة ما حدث بعد أن أصدر حسين سري رئيس الوزراء سنة 1941م قراراً بنقل حسن البنا إلي قنا ، علي أن يكون التنفيذ فوراً وإلا الاعتقال ، ورأي الأستاذ المرشد في الأمر انتقاصًا من عزة الإيمان ، وامتهانًا لكرامة الإسلام ، وتخويفًا بالاعتقال ، وكأنه السيف المسلط من قبل الحكومة علي رقاب الإخوان وهو في مثل هذه الحالات ينقلب اللين والتسامح والرحمة والرأفة المعهودة في شخصية حسن البنا إلي الإسلام وصمود الحق ضد كبر الباطل وغروره .

والموقف يتلخص في أنه بعد أن أصدر حسين سري القرار رفضه الإمام الشهيد ، مستعداً للاعتقال المقرون عند الرفض ، وتجمع خلفه الإخوان وأصبحت الحكومة في موقف حرج ، خاصة وقد حددت موعداً نهائياً للتنفيذ ، وساقت عليه القوم لإقناع البنا بالقبول ، وتخويفه من إصرار حسين سري واستحالة عدم رجوعه عن قراره.

لكن أمام إصرار الإمام البنا وتمسك الإخوان بحقهم تدخل القصر الملكي في الموضوع ، وقبل انتهاء الموعد المحدد للتنفيذ بنصف ساعة ، اتصل القصر بالأستاذ عبد الحكيم عابدين ، وطلب منه ضبط عواطف الإخوان ، وطمأنه أن الموضوع بين يدي الملك الذي سوف يوجد له الحل خلال لحظات ، فدخل الأستاذ عابدين يخبر المرشد بذلك ، ونترك له تكملة القصة :

فدخلت علي المرشد وحوله الإخوان ،وهنا موقف من أعظم المواقف في أدب النفس ، وفي مراقبة الشهوات النفسانية الدقيقة من مواقف حسن البنا ، لأنني بمجرد أن دخلت عليه قلت : يا أستاذ يبدو أن المسألة ستنفرج ، اتصل بي حسنين باشا الآن وقال : المسألة بيد الملك ينظر فيها ، فيبدو أن المسألة ستنفرج ، ويزول شبح الاعتقال ، فإذا به يقول :

الله لا يجعلها تنفرج ، نريد أن نري إلي متى يظلون يخفوننا بالاعتقال ، وأخذ هذا الموقف في نفوسنا وألبابنا ، ورأينا فيه موقفًا رائعًا جداً من معاني الإباء والجلد والاستعداد للبذل والتضحية في سبيل الله والبلاء في سبيل دعوة الحق ، لكن حسن البنا لم يلبث أن مسح هذا الموقف بنفسه ، مسحة عظيمة وأثبت لنا أنه ليس موقفاً جديراً به إذ قال : والله ما كادت تمر ثوان بين الثورة التي قام فيها لا جعلها الله تنفرج وبين مقولته الثانية : قال استغفر الله العظيم ، هو الاعتقال سوف يتحول من أن يكون بلاء في سبيل الله إلي أن يكون شهوة من شهوات النفس ؟

ثم أخذته هزة سيطرت علي كل مشاعره وقال بصوت متهجد : اللهم إن كنت تعلم أن هذا الاعتقال شهوة من شهوات نفسي فاصرفه عني واصرفني عنه وهنا وجدنا أنفسنا فعلاً مشدوهين .

إن هذا الرجل وفي هذا المكان يسلط من إيمانه رقابة علي أدق أحاسيسه فيدركه الخوف أن تكون هذه الكلمة الأبية تنطوي علي شهوة من شهوات النفس في الاعتقال ، وما وراء الاعتقال من سمعة ، وما وراء الاعتقال أن يقال : هذا مجاهد ، وما وراء الاعتقال من ثناء وإعجاب ، وخشي أن تكون حظًا من حظوظ النفس ، لا بلاء ولا امتحان في سبيل الله ، فقال هذه الكلمة :

اللهم إن كنت تعلمها شهوة من شهوات نفسي فاصرفها عني واصرفني عنها ، وجلسنا صامتين حوله ، وهو لا يتكلم ، وقد شعرنا بأننا رفعنا عن هذه الأرض وعشنا بأجنحة خضراء تحت ظلال العرش ؛ لأنه مهما كان معني الكلمة ، ومهما كانت حافظة لحرفيتها ، فإن إلقاءها في هذا الجو لا يمكن أن يعاد إلا إذا عاد حسن البنا وعادت المسألة مرة ثانية ليعيش السامع هذا الجو الذي عشناه .

الجانب الإداري

ربما يندرج الجانب الإداري تحت الجانب النفسي ، إلا أننا أفردناه لأهميته في بناء الشخصية التي تريد أن تبعث أمة ، فقد كانت همم الإمام الشهيد فوق قدرته ، وقدرته فوق التعب والزمن ، يتسامي فوق الطاقة البشرية ، وأعماله الضخمة الموفقة أشبة بكرامات الأولياء منها بجهود العباقرة ، عزيمة تتضاءل دونها العزائم ، وهمة لا تبلغها العصبة أولو القوة إلا بروح من الله ورضوان .

وقد عرضنا قبل ذلك موقفه من شراء قصر آل أبو الحسن في الحلمية الجديدة ليجعله داراً للإخوان ، ورغم تعجب الجميع واجتماعهم علي أن ذلك ليس في الإمكان إلا أن إرادة البنا لم تضعف ، وتحقق له ما أراد .

ومثل ذلك حدث حين أراد أن يصدر مجلة الإخوان المسلمين ولم يكن في خزينة الإخوان شيء ، فجعل جنيهين في جيب أحد الإخوان هما رأس مال المجلة ، وصدر العدد الأول منها بعد ذلك بقليل ، وهكذا برأس مال " جنيهين سلفه " أنشئت مجلة عاشت أربع سنوات كاملة .

وموقف أخر لإرادة البنا التي لا تعرف المستحيل حين تآمر أصحاب مدرسة أهلية في مغاغة علي ناظر المدرسة الذي انتمي للإخوان ورأس شعبتهم هناك ، فاستغنوا عنه في وقت لا يستطيع معه الذهاب لمدرسة أخري ، حيث انتهت كل المدارس من إعداد معلميها ونظارها للعام الدراسي الجديد الذي لم يبق عليه إلا أقل من شهر واحد ، فاستقبل المرشد الخبر وهو يبتسم وقال : " لا بأس إذن ننشئ لع مدرسة يكون هو ناظرها وصاحبها " .

ولم يكن لقولة الأستاذ المرشد هذه معني في عرف العقل والمنطق والقياس للأسباب الآتية :

أولا : لم يبق علي بدء الدراسة إلا أقل من شهر واحد

':ثانيًا' : أن هذا المشروع إذا أريد تنفيذه فإنه يحتاج إلي رأس مال لا يقل عن آلاف من الجنيهات في ذلك الوقت ، علي أن يستغرق تنفيذه إذا وجد هذا المال سنة علي الأقل .. فكيف يمكن مجرد التفكير فيه وليس لدي الشعبة ولا لدي المركز العام شيء من هذا المبلغ ؟! .

ثالثاً : إذا فرضنا جدلاً أن مدرسة كاملو المباني وافية بجميع ما يشترط من الشروط الصحية والاجتماعية أنزلت لنا من السماء الآن ، فإن العقبة الكبرى التي لا يمكن تذليلها هي العثور في هذا الوقت علي مدرس واحد يتعاقد معه بعد أن ارتبط كل مدرس بمدرسته.
رابعًا : أن إعداد المقاعد والقماطر والسبورات لمدرسة كهذه يحتاج إذا وجد المكان والمال إلي عدة أشهر .
خامسًا : إذا افترضنا جدلاً أن هذه المدرسة موجودة بكامل معداتها ومدرسيها ، فإنها باعتبارها مدرسة جديدة إلي عام كامل مع جميع وسائل الإعلام الميسورة حتى يعلم الناس بوجودها .. ثم هي لا تبدأ إلا بالسنة الأولي أي بالصف الأول فقط ، لأن الناس لن يثقوا إلا إذا أثبتت نتائجها جدارتها ، لا سيما وفي المدينة مدرسة قديمة أثبتت جدارتها من قبل والجميع يثقون بها .

ويعلق الأستاذ محمود عبدالحليم قائلاً : تلقي وفد إخوان مغاغة وتلقينا نحن الحاضرين من إخوان المركز قولة الأستاذ هذه بابتسامة فيها كل المعاني التي تضمنتها الأسباب الخمسة السابقة ، ولكن الأستاذ المرشد كان مصممًا علي قولته حيث كررها أكثر من مرة تكرار الواثق المتمكن ..

ومع ارتيابنا بل ما نراه من استحالة في تحقيق هذا المشروع ، فإن ثقتنا التي تفوق كل تصور الأستاذ المرشد جعلتنا نتهم عقولنا ونتهم المنطق والواقع ونصدق ما يقول ، وبمشيئة الله وقدرته بدأت المدرسة في أول أيام الدراسة باستقبال تلاميذها وهي مستوفية جميع ما لا تستوفيه مدرسة إلا بعد مضي أربع سنوات علي إنشائها أو أكثر إذ الظروف مواتية ، ورحم الله الإمام البنا الذي كانت له إرادة لا تعرف المستحيل .

الجانب الروحي

رغم كل مميزات الإمام الشهيد إلا أن الميزة التي تنقطع دونها الأعناق ، والتي قلما يجود الزمان بزعيم يظفر بنصيب منها هي القوة الروحية الخارقة ، ويشهد بذلك موقعة الأستاذ أحمد السراوي معه في أوائل أيام انتقال الأستاذ المرشد من الإسماعيلية إلي القاهرة.

حيث طلب إليه الأستاذ السراوي أن يصاحبه في قضاء مصلحة له ، فسار معه حتى دخل معه منزلاً فوجد نفسه في مكان يشبه عيادة طبية ، ويكمل الأستاذ المرشد القصة فيقول : " وجاء الطبيب قبالتي وأخذ يحملق في عيني وأنا أنظر إليه في تعجب لا أدري ماذا يريد مني ..

يقول الأستاذ المرشد : وبعد نحو ساعة وقف الطبيب ، وقال للسراوي : صاحبك هذا قوة روحية خارقة ، ليس في الدنيا الآن قوة تستطيع التغلب عليها ولا أن تعادلها ، لقد حاولت معه بجميع الوسائل ولم اتركه إلا بعد أن أحسست أنني إذا زدت علي ذلك لحظة فسأنام أنا .

قال الأستاذ المرشد : وبعد أن خرجنا سألت السراوي عن هذه المفاجأة ، فقال لي : لقد لاحظت أن فيك قوة روحية جارفة ، فحاولت أن أعرف مدي هذه القوة ، فاتفقت مع هذا الرجل وهو أقوى منوم مغناطيسي في مصر علي مبلغ كبير إذا هو استطاع أن ينومك، ولم أشأ أن تعرف عن عزمي هذا شيئاً حتى آخذك علي غرة دون أن تستعد ، وقد خسر الرجل المبلغ " .

وكانت تلك القوة الروحية السبب الرئيسي في مقدرته علي إقناع الناس بما يريده ، بل إقناع أعداء الدعوة الذين يعملون علي تدميرها بالعزوف عن ذلك ، وكان هؤلاء الأعداء يعرفون ذلك جيداً ، ويحسبون حسابه ، من ذلك موقف عبد الرحمن عمار بك عندما كان وكيلاً للداخلية في وزارة النقراشي وشعر الأستاذ البنا بأمر الحل يعد فعلاً ، فحاول مقابلة النقراشي باشا ، وقابل عبد الرحمن عمار ، وطلب منه ذلك فاعتذر له عمار بك بمشغولية النقراشي باشا.

وتظاهراً بأنه سوف يحدد له موعداً ، وبعد خروج الإمام البنا من عنده سأله أحد العاملين بوزارة الداخلية وكان سامعًا للحوار الذي دار بينهما : لم كان منه هذا التصرف ؟ فقال عمار بك : " إحنا لو تركنا الأستاذ لمقابلة النقراشي باشا فلن يصدر أمر الحل ، لأن هذا الرجل قادر علي إقناع النقراشي باشا ، وبذلك تحدث أزمة بين الحكومة والسراي " .

وقد أعلن الأستاذ محمود عبدالحليم عن ذلك فقال : " إن حسن البنا كان من اتساع الأفق بحيث لا يعدم أن يجد بديلاً مهما بدا لجميع الناس أن الأمور قد ضاقت واستحكمت حلقاتها حتى صار الطريق مسدوداً لا منفذ فيه ، وكان هذا هو السبب في أن كثيرين من أعدائه كانوا يتحاشون لقاءه ؛ لأنهم كانوا واثقين من أنه سوف يلزمهم الحجة ويكسبهم إلي جانبه وهم لا يريدون ذلك حسداً من عند أنفسهم .

الجانب الاجتماعي

إن حملة لواء الدعوة الإسلامية بعد الإمام الأول رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يكتب لهم النجاح إلا إذا ترسموا طريقه ونهجوا نهجه وتخلقوا بخلقه ، ولا شك أن الجانب الاجتماعي في شخص الداعي من الأهمية بمكان ، وقد تعدد مفردات الجانب الاجتماعي في شخص الإمام البنا إلي حد بعيد :

  • أ – اجتماعي يألف ويؤلف:

يقول صلي الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأحبكم إلي أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة ؟ قالوا : بلي يا رسول الله ، قال : أحاسنكم أخلاقًا ، الموطأن أكنافًا ، الذين يألفون ويألفون "

ونحسب الإمام البنا من هؤلاء ولا نزكيه علي الله ، فقد كان يتمثل هذا الحديث في حياته ، يتضح ذلك من سماته السابقة واللاحقة ونضيف هنا تلك الشهادات الصادقة :

كان الأستاذ البنا يشارك الإخوان في كل المناسبات الفردية والاجتماعية ، فهو يخطب الجمعة والعيدين ، ويصلي التراويح بهم في رمضان بختمه القرآن كاملة ، ويجري في كثير من الأحيان صيغة عقود الزواج لهم بنفسه ، ويدعو لأطفالهم بالدعاء المأثور ، حين يولدون ويشيع جنائزهم ، ويوجههم في حياتهم العامة والخاصة أفضل توجيه ، ويدير معهم الحديث في كل المناسبات ، ويخلص لهم الحب والمودة من كل نفسه وهم يبادلونه هذه العاطفة وهذا الشعور من أعماق قلوبهم ، وهذا هو سر تماسكهم ، وعجزت الدسائس والفتن عن أن تصل إلي كيانهم ، أو تنال من بنيانهم .

ويقول أنور الجندي : كانت صلة الداعية بإخوانه عجيبة حتى يكاد يشعر كل أخ من إخوانه إن له علاقة خاصة وصداقة خالصة ، يمتاز بها علي من سواه ، فضلاً عن أن له سرائر روحية كريمة مع كل أخ من الإخوان ، وله كلمات نافعة يستوحيها من نفوسهم واتجاهاتهم تظل ثابتة ، تفعل فعل السحر كلما قدم بها العهد ، تبرق في أطواء النفس ببريقها الجذاب الخاطف كما يبرق الكوكب اللماع في ظلمة الليل .

وما تزال هذه الألفاظ الكريمة والتوجيهات الصادقة تؤثر في الأخ الحبيب وتذكي في نفسه اللهب المقدس كالما اشتد الحنين .

الإمام-الشهيد-حسن-البنا-المتطوع-رقم-1-في-حرب-فلسطين.jpg

كان رحمه الله عليه أرق من نسيم الصباح ، هذا العملاق الجبار الذي ملأ المشارق والمغارب ذكراً ، كان إذا كلم ولداً صغيراً في شأن من الشئون يحمر وجهه من الخجل والحياء لأن عنصر العاطفة كان طاغيًا علي هذا الرجل ، ولا أقول مسيطراً عليه ، والحنين والرقة للإخوان والرقة للناس ، كان شيئا عجيبا والله إنه أبر بالواحد منا وأخوف عليه من أمه التي أرضعته.

وهذا أيضًا حملنا متاعب كثيرة ، متاعب عاطفة المرشد العام وقد كلمه في ذلك مرة الشهيد الشيخ محمد فرغلي ، وقال له : إنك تحملنا كل هذه المتاعب في سبيل إرضاء عاطفتك الشخصية ووفائك الشخصي ، كنا مثلاً إذا سافرنا معًا ويكون لابس " معطف – كبود – فإذا من الإخوان مثلا يقول له : ما أحلي هذا البالطو ، إنه جيد وجميل ، فيخلعه ويعطيه للأخ ويقسم ولا يعود يلبسه .

  • ج – يحب لغيره ما يحب لنفسه:

إن من علامات الإيمان أن تري المسلم يحب لغيره كل خير يتمناه لنفسه ، وهو في نفس الوقت يبغض للناس كل شر يبغضه لنفسه عملاً يقول إمام الدعاة صلي الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ، وتطبيقًا لهذا النص المبارك علي حياة الإمام الشهيد رحمه الله نجد أنه آمن به عمليًا وجعله نبراسًا لحياته.

يؤيد ذلك هذا الموقف الذي كان بالمعتقل عندما جاءته البشري بالإفراج عنه دون أخوية اللذين معه مع إن خروجه له مبرره القوى حيث يتولي الإمساك بدفة الدعوة ويوجهها حيث يريد الله لكن عليه رحمة الله رفض الخروج بدون أخوية عبدالحكيم عابدين ، وأحمد السكري ، وأرسل رئيس الوزارة حسين سري باشا العضو البرلماني عن منطقة أسيوط حامد جودة إلي الإمام البنا في المعتقل محاولاً إقناعه بذلك ، إلا أن الإمام البنا أصر علي موقفه ، وجلس مع حامد جودة يحدثه عن كيف يكون أخلاق القائد مع جنوده .

وتنازلت الحكومة أن تخرج الأستاذ المرشد بالقوة إلا أن الأستاذ عبد الحكيم عابدين هدد بقتل كل من يتعرض للإمام البنا أو يمس شعرة منه ، ورأي المرشد أن يقبل بالإفراج عنهما "البنا والسكري " حقنًا للدماء ففعل .

ومن الذكريات التي تكشف عن عبقرية الإمام الشهيد في حل المشكلات وإنقاذ المواقف ما بلغني من الأخ السيد " عبد الحي الخولي " نائب شعبة " سوهاج " بالصعيد ، فقد حدثني أن الشيخ " عبد الله المازني " عضو الهيئة التأسيسية رغب في تأسيس شعبة للإخوان في قريته " نجع مازن " ولم يرد الاستئذان من عمدة بلدته.

ورأي أن الإخوان أسمي من أن يستأذنوا أحداً في هذا الشأن فاتصل رأسًا بالمركز العام وطلب من فضيلة المرشد أن يفتح هذه الشعبة ومعه من يشاء من كبار الإخوان ، وأعد سرادقًا كبيراً يسع المئات من الناس ، وحدد اليوم الذي يحضر فيه ، ووافق الأستاذ المرشد ووعد بالحضور في الموعد المحدد ..

وبعد إعداد السرادق الكبير وفي اليوم الذي قدم فيه المرشد بلغ العمدة " عمدة القرية " هذا الاحتفال وذلك الاستقبال فعز عليه أن يتم كل هذا دون علمه وبغير استئذانه وعو عمدة البلدة ، فثار ثورة مضرية وغضب غضبة " صعيدية " وعزم علي أن يتقلد سلاحه مع مجموعة من الرجال الأشداء ذوي قرباه ليهدم هذا السرادق علي رؤوس أصحابه ويقتل من يتعرض له من الإخوان ..

وفي اللحظة الأخيرة بلغ المرشد هذه الثورة العارمة وذلك العزم الرهيب فما كان منه إلا أن تسارع في خطوات سريعة إلي بيت العمدة ولم يعر اهتمامًا بالحفل الإخواني ومن فيه والاستقبال الذي ينتظره في ظلال التكبير والتهليل ..

ومضي راكضاً إلي مقر العمدة فالتقي به في منتصف الطريق ومعه عصابته الأشداء وبأيديهم الأسلحة والمعاول والحجارة .. فما كان من المرشد إلا أن اندفاع إلي العمدة يحييه ويعرفه بنفسه قائلاً : " أنا " حسن البنا " جئت أعتذر إليكم مما فعله الشيخ " عبد الله المازني " معكم ، فقد أقام هذا الحفل الكبير دون استئذانكم وقد جئت أطلب إليكم عقوبة شديدة عليه لمخالفة آداب الإسلام في موقفه هذا ، فما كان من العمدة إزاء كلمة المرشد إلا أن قال : لقد سامحته يا شيخنا من أجل خاطركم ، فأجاب الأستاذ ولكني لا أسامحه وأصر علي عقوبته ..

فقال العمدة : عفا الله عما سلف ، ويسرني أن أدعوكم إلي حضور هذا الحفل ليزداد بكم سروراً وشرفاً كبيراً " فلبي العمدة ومن معه طلب الأستاذ المرشد راضيًا مغتبطاً واندمج العمدة ومن معه في هذا الحفل يكبر مع المكبرين ويهلل مع المهللين .

وهكذا أنهي الله سبحانه وتعالي هذه الحملة النازية الحامية التي أدركها الإمام قبل اشتعالها وأطفأها بحكمته وتواضعه ، وقد آثر ألا يستريح لحظة بعد قدومه من هذا السفر البعيد المرهق وقد علاه غبار السفر ولم يجف عرقه بعد .. تاركًا المظاهر ؛ مظاهر القيادة والهتاف والتكبير والتعظيم ، فإذا بالنار المتأججة تتحول إلي برد وسلام وإذا بالخصومة المستعرة تنقلب إلي محبة غامرة .. وهكذا يعالج الإمام الشهيد المشكلات ويقضي عليها بنفحات إخلاصه وإيمانه وتقواه .

مواقف من حياة الإمام البنا

1 - قيام الليل

ذهب الأمام الشهيد إلى مؤتمر بالمنزلة دقهلية وبعد الفراغ من المؤتمر ، و الذهاب إلى النوم ، توجه الإمام و في صحبته الأستاذ عمر التلمساني إلى حجرة بها سريران ، ورقد كل على سريره .

وبعد دقائق قال الأستاذ : أنمت يا عمر ؟ .

قال : لا .

وتكرر السؤال .

وتكرر الرد.

وقال الأخ عمر في نفسه إذا سأل فلن أرد .

وظن الأستاذ أن الأخ عمر قد نام . فتسلل على أطراف أصابعه ، وخرج من الحجرة ، وأخذ نعليه في يده ، وذهب إلى دورة المياه حافياً ، حيث جدد وضوءه ، ثم اتجه إلى آخر الصالة ، وفرش سجادة ، وأخذ يتهجد .

2 - إننا مجاهدون بأموالنا

جاء مبعوث من السفارة الإنجليزية إلى دار المركز العام وقابل الإمام الشهيد وقال له:

إن الإمبراطورية من خططها مساعدة الجمعيات الدينية و الإجتماعية ، وهي تقدر جهودكم ونفقاتكم .. لذلك فهي تعرض عليكم خدماتها بدون مقابل وقد قدمنا مساعدات لجمعية كذا وكذا ... ولفلان و فلان .. وهذا شيك بعشرة آلاف جينيه معاونة للجماعة. فتبسم الإمام الشهيد وقال:

إنكم في حالة حرب وأنتم أكثر احتياجاً إلى هذه الآلاف.

فأخذ المبعوث يزيد في المبلغ و الإمام الشهيد يرفض ..وكان بعض الإخوة يتعجبون ويتهامسون:

لم لا نأخذ المال و نستعين به عليهم .

فكان جواب الإمام الشهيد:

إن اليد التي تمتد لا تستطيع أن ترتد .و اليد التي تأخذ العطاء لا تستطيع أن تضرب .أننا مجاهدون بأموالنا لا بأموال غيرنا و بأنفسنا لا بأرواح غيرنا .
3 - أريدك معي في الوزارة

اتصل فؤاد سراج الدين في بداية بريقه بالإمام الشهيد وقال له : أريدك في أمر هام .

فقال الإمام : وما هو يا فؤاد باشا ؟

فقال الباشا : أريدك معي في وزارة الشؤون الإجتماعية .

فقال الإمام : أنا موظف أعمل بالحكومة في أي مكان أنتج فيه . و لكن لي شرط واحد يا باشا .

فقال الباشا : وما هو ؟

فقال الإمام : أن أنقل في نفس الدرجة و بنفس المرتب .

فقال الباشا : مستحيل فسيكون تحت أمرك من هو بدرجة مدير عام .

فقال الإمام : آسف يا باشا و أنا متمسك بشرطي .

فقال الباشا : أنا لا أستشيرك في الأمر ولكني أخبرك وسيصدر المرسوم الملكي بهذا الأمر .

فقال الإمام : سأعتذر ولن أحرج وسيكون الحرج لك والوزارة .

4 - تقدير المسؤول

بقول الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله :

كان الإمام الشهيد يرفع من معنوياتنا:

دعاه أحد الإخوان إلى الغداء في عزبته على مقربة من شبين القناطر بلدتي ، ولم يدعني الداعي ، وأحب المرشد أن يشعره بالتقصير دون إحراج ... فجاء من القاهرة و أرسل من يستدعيني من المحكمة ، فجئت مسرعاً ، فقال متعجلاً : اركب .

قلت : إلى أين ؟

قال : لنتناول الغداء عند فلان .

قلت : ولكني لم أدع ، وفضيلتك تعرف حساسيتي في هذا المجال .

قال : أعلم حقاً ، ولكنني لا أستطيع أن أمر من شبين القناطر دون الأخ المسؤول عنها .

فكيف تريدني أن أتخطاك ؟

قلت : و لكنك أنت المسؤول عنا جميعاً ، وتجب طاعتك على من عداك .

قال : ذلك في الشؤون العامة .

أما هذه المسائل فمسؤول المنطقة هو صاحبها و الرأي فيها رأيه و لئن لم يراع رئيس الجماعة وضعية المسؤولين في الجماعة كان الأمر إلى الفوضى أقرب منه إلى النظام .

قلت : جزاك الله خيراً على هذا الدرس .

قال : فإما أن تركب و إما أن أرسل إلى الداعي ليحضر ويدعوك معنا .

قلت : إذاً لأركب .

5 - عاطفة .. وجندية

في معسكر الدخيلة كانت ذكريات ودروس وعظات من ذلك :

أصدر الأخ مسعود أبو السعود قائد المعسكر قراراً بمعاقبة أحد الإخوة وذلك بصرف نصف رغيف فقط في وجبة الغداء .

ونزل الإخوان البحر وجاء وقت الغداء وكانت جلسة الأخ المعاقب بجوار الإمام الشهيد وتزاحمت العاطفة والجندية.

فأخذ الإمام الشهيد يجمع من الخبز من أمامه لكي يعطيه للأخ المعاقب ثم يضعه ثانية .

وتكرر هذا المشهد عدة مرات .

لقد دفعته العاطفة لجمع الخبز ..

ومنعته الجندية من تكسير الأمر ..

وقام الإمام و لم يذق لذة الطعام .

6 - الناظر والوافد الجديد

يقول الأستاذ عمر التلمساني :

كان الإمام الشهيد حلالاً للمشاكل في بساطة ويسر ناجحين .

في مركز من المراكز شعبة يرأسها ناظر مدرسة إلزامية وانتقل إلى هذا المركز أخ أكثر علماً من الناظر.

وبعد أيام قلائل قال الناظر للوافد الجديد : يا أخي إنها أمانة فأنت أحق بحملها مني فاقبل رئاسة الشعبة وارحمني يرحمك الله .

فرفض الأخ في إصرار قائلاً : إن أهل مكة أدرى بشعابها .

وصمم كل منهما على رأيه ، ورفع الأمر إلى فضيلة المرشد .

فقال لنائب الشعبة : لماذا تصر على أن يكون أخوك هو نائب الشعبة ؟

قال : إنه أعلم مني .

فقال الإمام : هب أنه قبل ، وزاول عمله فأخطأ فمن يصلح خطأه ؟

وأنت كما تقول دونه علماً ، فابق في مكانك فإن أخطأت أصلح لك خطأك . أليس هذا صحيحاً ؟

قال : بلى .

وانتهى الأمر بهذه البساطة ، وهذه الحنكة .

7 - لا هتاف بالأشخاص

في مؤتمر الطلاب الذي انعقد بدار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة عام 1938 م خطب الإمام الشهيد فتحمس أحد الإخوة من الطلاب فهتف بحياة حسن البنا – وبرغم عدم استجابة الحاضرين لهذا الهتاف – إلا أن الأستاذ المرشد وقف صامتاً لا يتحرك برهة ، فاتجهت إليه الأنظار في تطلع ... ثم بدأ حديثه في غضب فقال :

أيها الإخوان ، إن اليوم الذي يهتف في دعوتنا بأشخاص لن يكون ولن يأتي أبداً . إن دعوتنا اإسلامية ربانية قامت على عقيدة التوحيد ، فلن تحيد عنها .

أيها الإخوان ، لا تنسوا في غمرة الحماس الأصول التي آمنا بها ، وهتفنا بها : (الرسول قدوتنا)

﴿ إن لله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾
8 - أين نحن من تلامذة الرسول (ص)

في مدينة رشيد أقام الإخوان حفلاً بمناسبة ذكرى الإسراء و المعراج ، فتحدث أحد الإخوة المتحمسين فقال :

إن مثلنا الآن من الأستاذ المرشد وهو يشير إليه كمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه .

وما كاد الأستاذ المتحدث ينتهي من هذه العبارة حتى قفز الإمام الشهيد إلى المنصة ثم اتجه إلى الناس قائلاً :

إيها الإخوة ، معذرة إذا كان الأستاذ البالمتحدث قد خانه التعبير فأين نحن من تلامذة تلامذة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثم نزل إلى مكانه .

9 - الدعوة في المقاهي

يقول الإمام الشهيد في مذكراته :عرضت على زملائي و انا طالب بدار العلوم أن نخرج للوعظ في المقاهي فعارضوا ... و كنت أخالفهم في هذه النظرة ، وكنت أعتقد أن كثيراً من رواد المقاهي فيهم خير .

وقلت لزملائي :

إن العبرة بحسن اختيار الموضوع فلا نتعرض لما يجرح شعورهم .

وبطريقة العرض فتعرض بأسلوب شائق جذاب .

وبالوقت فلا نطيل عليهم القول .

وقمنا بالتجربة فألقيت في أول ليلة أكثر من عشرين خطبة تستغرق الواحدة منها ما بين خمس دقائق إلى عشرة .

ولقد كان شعور السامعين عجيباً ، وكانوا دائماً بعد الخطبة يقسمون أن نشرب شيئاً ، فنعتذر لهم بضيق الوقت وبأننا نذرنا هذا الوقت لله .

وكان أسوتنا قول كل رسول : ﴿ قل لا أسألكم عليه أجراً ﴾ .ونجحت التجربة مائة في المائة بفضل الله وتوفيقه(1) .

وكرر الإمام الشهيد هذا الأسلوب وحده في الإسماعيلية عندما تخرج ، وعين مدرساً هناك ، فنجح بفضل الله.

10- تمثال على الشاطئ

يقول الإمام الشهيد في مذكراته :

مررت ذات يوم على شاطئ النيل وأنا تلميذ .. فلاحظت أن أحد أصحاب السفن قد علق في ساريتها تمثالاً خشبياً عارياً على صورة تتنافى مع الآداب ، وبخاصة و أن هذا الجزء من الشاطئ يتردد عليه السيدات والفتيات يستقين منه الماء .

فذهبت فوراً إلى ضابط النقطة وذكرت له ما رأيت وأنا غاضب .. فقام الرجل على الفور ، وهدد صاحب السفينة ، وأمره بإنزال التمثال حالاً .

ولم يكتف الرجل بذلك بل ذهب في صباح اليوم التالي إلى المدرسة وأخبر الناظر الخبر في إعجاب وسرور .

فسر الناظر وأذاع الخبر على التلاميذ في طابور الصباح.

فأين سلوك كثير من النظار والضباط اليوم ؟!

11- إمام المسجد والتلاميذ

يقول الإمام الشهيد في مذكراته :

" ونحن طلاب في المدرسة الإعدادية كنا نصلي الظهر في المسجد الصغير المجاور للمدرسة.

وذات يوم مر إمام المسجد فرأى كثيراً من التلاميذ يزيد على ثلاثة صفوف أو أربعة .. فخشي الإسراف في الماء ، والبلى للحصير.

فانتظر حتى أتم المصلون صلاتهم، ثم فرقهم بالقوة مهدداً ومنذراً ومتوعداً ، فمنهم من فر ومنهم من ثبت .

وأوحت إلي خواطر التلمذة أن أقتص منه ولا بد .

فكتبت إليه خطاباً ليس فيه إلا هذه الآية :

{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شىء ومن حسابك عليهم من شىء فتطردهم فتكون من الظالمين }

وبعثت الخطاب بالبريد

ثم عرف الشيخ ممن جاءته هذه الضربة ، فقابل الوالد شاكياً...

فأوصاه بالتلاميذ خيراً.

وكانت له معنا مواقف طيبة بعد ذلك.

واشترط علينا أن نملأ صهريج المسجد بالماء قبل انصرافنا وأن نعاونه في جمع تبرعات للحصر .

فأعطيناه ما شرط.

12- مناقشة من أجل أذان العصر

يقول الإمام الشهيد في مذكراته :

"كنت أؤذن الظهر والعصر في مصلى المدرسة، وكنت أستأذن المدرس- إذا كان وقت العصر يصادف حصة من الحصص – لأداء الأذان...

وكان بعض الأساتذة يسمح وهو مسرور وبعضهم يريد المحافظة على النظام، فأقول له:

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وأناقشه مناقشة جادة لا يرى معها بداً من السماح حتى يتخلص منها ومني "

13 – تهادوا تحابوا

يقول الإمام الشهيد في مذكراته :

نظمت درساً بالمسجد في الإسماعيلية بين المغرب والعشاء ، وأقبل الناس ، وكان له أثر طيب .

ولكن أحد قدامى المشايخ المولعين بالجدل والحواشي وإحراج الوعاظ حاول إحراجي ذات مرة وأنا أقص قصة الخليل إبراهيم عليه السلام .

فسألني عن اسم أبيه ؟

فابتسمت . وقلت : إن اسمه (تارخ) وإن آزر عمه والقرآن يقول : إن آزر أبوه.. ولا مانع من ذلك في لغة العرب .. ونطقت بكلمة تارخ بكسر الراء.

فقال : لكن اسم أبيه (تارُخ) بضم الراء لا كسرها.

فقلت: فليكن ، وهو اسم أعجمي على كل حال، وضبطه يتوقف على المعرفة بهذه اللغة ، والمهم العظة والعبرة.

وأراد الشيخ أن يستخدم هذا الأسلوب في كل درس ومعنى هذا أب يهرب العامة والمستمعون .

ففكرت في العلاج : فدعوته إلى المنزل وأكرمته وأهديته كتابين .. فسُرّ الشيخ سروراً عظيماً.

وجعل يواظب على الدرس ، ويدعو الناس إليه بإلحاح وكف عن الجدال ، وصدقت الكلمة الطيبة : " تهادوا تحابوا".

14 – رؤيا صالحة

يقول الإمام الشهيد في مذكراته :

" إن من فضل الله تبارك وتعالى أنه يطمئن ويسكن نفوس عباده ، وإذا أراد شيئاً هيأ له الأسباب .

فلا زلت أذكر أن ليلة اكتحان النحو والصرف للإلتحاق بدار العلوم ، رأيت فيما يرى النائم أنني أركب زورقاً مع بعض العلماء الفضلاء .. فتقدم أحدهم وقال لي:

أين شرح الألفية لابن عقيل ؟

فقلت : ها هو ذا .

فقال : تعال نراجع فيه بعض الموضوعات.

هات صفحة كذا ، وصفحة كذا .. وأخذت أراجع موضوعاتها.

وفي الصباح جاء الكثير من الأسئلة حول هذه الموضوعات.

فكان ذلك تيسيراً من الله تبارك وتعالى.

والرؤيا الصالحة عاجل بشرى المؤمن والحمد لله رب العالمين".

15 – حقد ونجاة

حقد أحد الزملاء الطلاب على الإمام الشهيد لتفوقه في الدراسة ففكر في حيلة يعيقه بها عن الامتحان.

فانتهز فرصة نوم جميع الطلاب ، وأخذ يصب زجاجة من صبغة اليود المركزة على وجهه وعنقه ، ثم تظاهر بالنوم ولكن الإمام ألهمه الله أن يقوم مسرعاً إلى دورة المياه ليغسل وجهه وعنقه .

وكان أذان الفجر ، فنزل مسرعاً إلى الصلاة . وكان تحقيق في الصباح في هذه الكارثة. واكتُشف الجاني واعترف بجريمته ....

فأخذ عقابه من الزملاء وهموا بتبليغ النيابة وإدارة المدرسة ولكن الإمام تذكر أنه قد نجا، وهذه نعمة تستحق الشكر وليس الشكر إلا بالعفو والصفح {ومن عفا وأصلح فأجره على الله}.

فجعل الله هذه الحادثة خيرا وبركة إذ كانت سبباً لانتقال الأسرة كلها من المحمودية إلى القاهرة.

16 - الكلوب الخطر

دعي الإمام الشهيد إلى حفل في مدينة الزقازيق .

وكانت الإضاءة بواسطة الكلوبات ،فهوى إلى الأرض محشرجاً مدخناً ، يكاد ينفجر ، ولو انفجر لدمر السرادق ،ولكان الحريق مروعاً .

وهرول الناس مبتعدين عن هذا الكلوب الخطر .

وفي كل بساطة ، وثقة ، وشجاعة ، وهدوء ، ترك الإمام المنصة ، وأخرج مدية الجوالة من جيبه ، وتقدم إلى الكلوب في غير هرولة ، وفصله عن السقف ، وحمله إلى خارج السرادق .

وعاد الهدوء والأمن واستكمل الحفل على خير وجه.


17- حرص الإخوان على مصلحة البلد

حين صدر قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين في الثامن من ديسمبر عاد 1948 م في عهد النقراشي وكان ما كان من محنة وبلاء واعتقال وإيذاء .

حينئذ ذهب بعض الشباب إلى الإمام الشهيد ليستأذنوه في المقاومة حسب الطاقة .

فنهاهم بشدة عن هذا الأمر ، وأوضح لهم عاقبته الوخيمة وذكرهم الإمام الشهيد بالقصة المشهورة عن نبي الله سليمان حين اختمصت امرأتان على طفل وليد ... وادعت كلتاهما بنوته ... فحكم بشطره نصفين بينهما ، وبينما وافقت المرأة التي لم تلد على قسمته، عز ذلك على الأم الحقيقية ، وآلمها قتل فلذة كبدها ، فتنازلت عن نصيبها فيه لقاء أن يظل الطفل متمتعاً بحياته ..

ثم قال لهم الإمام الشهيد:

إننا نمثل نفس الدور مع هؤلاء الحكام .ونحن أحرص منهم على مستقبل هذا الوطن وحرمته. فتحملوا المنحة ومصائبها ، وأسلموا أكتافكم للسعديين ليقتلوا ويشردوا كيف شاؤوا ، حرصاً على مستقبل وطنكم ، وإبقاءً على وحدته واستقلاله .

18 - دعوتنا لكل الناس

زار الإمام الشهيد محافظة سوهاج ، وبعد انتهاء المؤتمر دعي إلى مائدة ، وجلس بجواره أحد الإخوة .

وكان هذا الأخ يتمنى أن تتاح له هذه الفرصة ليهمس في أذن الإمام الشهيد بأمر هام . فقال له : يا أستاذ .

إن الدعوات لا تقاس بالكم وإنما بالكيف .

فماذا لو وضعنا ضوابط للذين يريدون الإنتساب ...

كأن نحدد لهم قدراً من الثقافة الإسلامية يدرسونه ، ويظلون زمناً في إطار الانتساب وتحت الاختبار ، ثم ينقل الصالح منهم إلى العضوية العاملة ؟

فابتسم الإمام الشهيد ، وقال:

يا فلان ، هل تريدون مني ما لم يرده الله من أنبيائه ورسله وهم صفوة خلقه. إننا دعوة لكل الناس وليست لفئة محمودة. يتربى فيها كل من يريد أن يخدم الإسلام مهما كانت مكانته وثقافته .. وكل ميسر لما خلق له .

ومن يدري فلعل هذه الدعوة تواجه محناً عاتية ، تعدون فيها الرجال على الأصابع . وجاءت المحن العاصفة ، وثبت كثير من الذين نحسبهم بسطاء في مكانتهم وثقافتهم . ولكنهم تخلقوا بمقومات الرجولة فصدقوا ما عاهدوا الله عليه . وسقط آخرون من أصحاب الثقافة الواسعة ، والشخصيات اللامعة ، ولله في خلقه شؤون.

19 - العدس بالحلبة

خرج الإمام الشهيد مرة في رحلة خلوية مع الجوالة .

وقام الإخوة المكلفون بإعداد الطعام بعملهم .

ولكنهم أخطأوا بخلطهم العدس بالحلبة .

فكان مذاق الطعام غير مألوف .

ولكنه خفف الحرج عن الآكلين والطهاة لتشجيع الجوالة على تناول هذا الطعام الغريب فقال : أتعرفون ما اسم هذه الطبخة يا أحباب ؟

إنها الحلبة التي تسمعون عنها ، وها أنتم قد رأيتموها وأكلتموها ، فبالهناء والشفاء .

20 - حفل مع الفتوات

دعي الإمام الشهيد مرة على إلى حفل بمناسبة المولد في بولاق .

وكان هذا الحي يشتهر في ذلك الوقت بالفتوات والأقوياء .

فكان حديثه يدور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوته وشجاعته وصرعه لأبي جهل ، وركانة أقوى أقوياء الجزيرة العربية وسبقه لأبي بكر وعمر .. ذلك الحديث المحبب لأولئك الفتوات .

ثم انتقل بهم إلى القوة الروحية التي مصدرها طاعة الله والتزام أمره واجتناب نهيه ..

كذلك استخدام القوة في نصرة المظلوم ، ومجاهدة الأعداء ..

فما كان من أحد الفتوات إلا أن صاح معجباً:

" اللهم صلي على أجدع نبي " .

وانتهى الحفل ، وبايع الكثيرون ، وعلى رأسهم المرحوم إبراهيم كروم أشهر فتوات بولاق السبتية .

21- لو خرجنا بواحد لكفى

يقول الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله :

ذهبت مع الإمام الشهيد مرة إلى مدينة طوخ بالقليوبية .

وكان الحفل حاشداً ، والهتافات عالية ... وفي الطريق سألني فضيلته : ما رأيك في الحفل ؟

قلت : إن الصخب شديد ، والأصوات العالية لا تطمئنني كالطبل الأجوف ..

قال : اسمع ، نحن على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم . كان يعرض نفسه على الناس في الأسواق ، فلا يلقى إلا السخرية والإيذاء .

فهلا نصبر على بطء الإستجابة إننا لو خرجنا من هذه الآلاف بواحد فقط ، فذلك خير من الدنيا وما فيها .

22- أنا لا أؤلف كتباً بل رجالاً

طلب كثير من الناس الغيورين من الإمام الشهيد أن يؤلف كتباً يودعها ما عنده من معارف بهرت عقول كبار العلماء .

فكان رده عليهم : أنا لا أؤلف كتباً ... وإنما مهمتي أن أؤلف رجالاً أقذف بالرجل منهم في بلد فيحييه .. فالرجل منهم كتاب حي ينتقل إلى الناس ويقتحم عليهم عقولهم وقلوبهم ، ويبثهم كل ما في قلبه ونفسه وعقله ، ويؤلف منهم رجالاً كما ألف هو من قبل .

23- أين المركز العام ؟

عرفت الإسماعيلية صغيرها وكبيرها حسن البنا والإخوان المسلمين فلما انتقلت الدعوة إلى القاهرة حدث الإمام الشهيد بهذه الطرفة فقال : جاء أحد إخوان الإسماعيلية في القاهرة لزيارتي ..

فلما نزل من القطار في محطة مصر سأل أول من قابلهم من أهل القاهرة عن المركز العام للإخوان المسلمين ، وهو يظن أنه يسأل عن أحد معالم القاهرة، فاعتقدوا أنه شخص ساذج ..

وقالوا له : اتجه من هذا الطريق ... ثم اسأل هناك فاتجه ثم سأل ... وهكذا

حتى قابل الإمام الشهيد صدفة وقد جاوز المركز العام بمسافة فأخذه الأستاذ ورجع به المسافة .

وقص على الأستاذ القصة وقال :

كل من سألته صدقني إلا صاحب هذا المحل (وأشار إلى محل على بعد أمتار لا تتجاوز الخمسين متراً) إذ قال لي:

-امش إلى نهاية هذا الشارع ( شارع الناصرية ) فستجد ميدان السيدة زينب فاسأل هناك.

-ضحك الأستاذ المرشد ، وفهم أن الدعوة حتى بعد انتقالها إلى القاهرة بثلاث سنوات لا زالت مجهولة حتى أن الجيران لا يعرفونها .

24- حال الجامعة

كانت الجامعة في بداية عهدها خالية من الإعلان بمظاهر الإسلام حتى الصلوات كانت تؤدى تحت الأرض ، وفي أماكن بالية وعلى استحياء .

فقال الإمام لأحد الطلاب : أذن للظهر في مكان مرأى بأعلى صوتك ، واصبر .

ففعل الطالب ، فدهش الطلاب والفراشون ، والموظفون وكانت إحدى العجائب ...

فصلى السنة ، ثم أقام الصلاة ، وصلى وحده ، والجموع حوله تتعجب .

وفعل في اليوم التالي مثل ما فعل بالأمس .

وبعد أيام قلائل زاد العدد واحداً بعد الآخر

وهكذا لما جاء الحق وصمد ، زهق الباطل وفر .

25- استعراض الجوالة رغم العقبات

أعلنت الجوالة عن القيام باستعراض في إحدى المناسبات ، فاتخذ البوليس جميع وسائل المنع ، فحاصر المركز العام وجميع الشعب والميادين .

ولكن الإمام الشهيد أعطى أمراً سرياً بأن يتجه كل فرد من أفراد الجوالة إلى ميدان محدد في لحظة محددة بملابسه الملكية ، وفي حقيبته ملابس الجوالة .

حتى إذا سمع صفارة معينة ، خلع ملابسه ، وارتدى ملابس الجوالة ، ثم تنتظم الصفوف ، ويبدأ الاستعراض . فنفذت الخطة ، بكل دقة ، وعجزت الشرطة .

26- ننشئ له مدرسة

في مغاغة مدرسة خاصة تملكها جمعية قبطية .

وكان ناظر المدرسة من الإخوان ، وقد خدم في هذه المدرسة ثمانية عشر عاماً .

ولكن الإدارة بيتت أمراً خبيثاً ، فقد فاجأته بالإستغناء عنه قبل انتهاء الإجازة الصيفية بقليل ، وقد استوفت كل المدارس حاجتها من المدرسين والنظار ....

فوصل الخبر للإمام الشهيد ،فقال لإخوان مغاغة وهو يبتسم بثقة وطمأنينة:

" لا بأس .. إذن ننشئ له مدرسة يكون هو ناظرها وصاحبها "

فتعجب الناس إذ لم يبق على بدء الدراسة إلا أقل من شهر ولا يوجد رأس مال ....

فوضع الإمام الشهيد خطة ، وأصدر الأوامر ، ووزع الأعمال وتحقق الأمل ، وأنشئت المدرسة بفضل الله وعونه .

27 - نقد كتاب طه حسين

ألف الدكتور طه حسين كتاب " مستقبل الثقافة في مصر "

وقد أحدث دوياً ، واختلفت الآراء بين مادح وقادح .

وقد دعي الأستاذ المرشد حسن البنا ليدلي بدلوه حول الكتاب وحدد الموعد ، ووزعت الدعوات .

وقبل الموعد بخمسة أيام ، قرأ الأستاذ الكتاب في التزام أثناء ذهابه و إيابه من المدرسة .

وذهب إلى دار الشبان المسلمين في الموعد المحدد ، فإذا بها ممتلئة برجالات العلم و الأدب والتربية..

ووقف الإمام على المنصة واستفتح بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله .

ثم بدأ ينتقد الكتاب بكلام من داخل الكتاب .

فأخذ يأتي بفقرات ويشير إلى رقم الصفحات والحاضرون يتعجبون من هذه الذاكرة ، وتلك العبقرية .

وفي الختام أبلغ السكرتير العام للشبان المسلمين الأستاذ المرشد بوجود الدكتور طه حسين في مكان خفي .

وفي اليوم التالي طلب الدكتور طه مقابلة الأستاذ المرشد ...

فقابله ، ودار حديث أكبر فيه الدكتور طه الأستاذ المرشد، ثم قال الدكتور طه : ليت أعدائي مثل حسن البنا إذن لمددت لهم يدي من أول يوم .

يا أستاذ حسن ، لقد كنت أستمع إلى نقدك لي وأطرب ...

وهذا النوع من النقد لا يستطيعه غيرك .

28 - من السفر إلى الحصة الأولى

يقول الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله :

ذهبت مع الإمام الشهيد مرة إلى محطة طنطا بدعوة من أحد وجهائها لافتتاح مسجد ، وقضينا ليلة طيبة مليئة بأعمال الخير و الدعوة إلى الله .

وفي الصباح ذهبنا جميعاً إلى محطة طنطا لنأخذ القطار إلى القاهرة ، وصلينا الفجر على رصيف المحطة ..ووصلنا القاهرة ، وذهب كل منا إلى منزله ليستكمل راحته .ولكن الإمام الشهيد ذهب إلى مدرسته بالسبتيه ليلقي دروس الحصة الأولى .

29- لا نشارك في معاصي الأفراح

وجه علي ماهر باشا الدعوة للمرشد العام لحضور حفل زفاف ابنه بالإسكندرية .

فذهب الأستاذ المرشد إلى الإسكندرية ونزل عند الإخوان ، وكلف الأستاذ أحد الإخوة الذين رافقوه بالذهاب إلى الحفل ، وقال له :

إذا لم تجد أي مخالفة شرعية فاتصل بي تليفونياً حتى أحضر ، وإذا وجدت ما يسبب أي حرج فقم أنت بالواجب .

وانتظر الأستاذ فترة ، ولم يتصل الأخ .

فقال الأستاذ للإخوان : ألا توجد مناسبة عند أحد الإخوة ؟

قالوا : بلى ، عند فلان عقد زواج .

فذهبوا جميعاً ، وكانت مفاجأة سارة ، وعمت الفرحة والبهجة .

30- غضبة الأسبوع

يقول الأستاذ عمر التلمساني عن الإمام الشهيد : كان يناقش أعضاء مكتب الإرشاد في جلسات الانعقاد، وكان في بعضهم إلحاح مثير.

فإذا ما نفد صبره هب خارجاً وصك الباب في شدةٍ مردداً " أنتم متعبون ولا ينفع العمل معكم " .

وكنا نظنها غضبة الأسبوع .

فإذا به يطالعنا في اليوم الثاني بنفس إشراقة الأمس الزاهية .

البسمة على وجهه المليح.

31 – إلغاء الرحلة

أعلن الإمام الشهيد عن رحلة إلى الإسماعيلية . فجاء الإخوان المشتركون في الموعد المحدد، وجاء الأتوبيس ، وكان عدد الإخوان أكثر من عدد المقاعد .

فلما أذن الأستاذ المرشد بصعود الأتوبيس ، إذا بمجموعة من الشباب تسارع وتزاحم ليحجز كل واحد مقعداً يجلس عليه.

فلما رأى الأستاذ هذا المشهد ألغى الرحلة وكان درساً عملياً في مراعاة النظام ، والتدريب على الإيثار ، واحترام الكبار.

32 – وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا

عقد الإمام الشهيد اجتماعاً مع بعض الإخوان والضيوف ، وأصدر أمراً بتأجيل أي مقابلة حتى ينتهي الاجتماع. وفي أثناء الاجتماع جاء شيخان أزهريان يريدان الدخول للأستاذ المرشد ، فأخبرهما الإخوة بالاجتماع وانشغال المرشد به .

فعلت أصوات الشيخين ، وتكلما عن اعتزازهما بشخصيتهما ...!!

فأحس الأستاذ بالصخب وعلو الصوت ، فخرج من الاجتماع واحتوى الموقف فعاتب الاخوة ، واحتفى بالشيخين وهش وبش وطلب لهما الشاي ... وهدأ الخواطر حتى انصرفا في رضى وإشباع للذات.

ثم قرأ الإمام الشهيد قوله تعالى : {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم}

33 – شاي بملح

زار الإمام الشهيد إحدى قرى الصعيد ، وأقام الإخوان احتفالاً كبيراً في هذا اليوم . وبعد انتهاء الحفل ألح أحد الفلاحين على الإمام الشهيد أن يزوره في بيته ... وكان عدد الإخوان كثيراً... وكان هناك مواعيد ولقاءات ...

فقبل الإمام أمام الإصرار الشديد الزيارة بشرط أن يكون وحده ، وألا تتجاوز الزيارة فنجان شاي . وتوجها إلى البيت ، وكانت فرحة ، وطلب الرجل من زوجته إعداد فنجان شاي بسرعة...

وسُر الرجل وجعل الإمام الشهيد يشرب الشاي وكلما أخذ رشقة تبسم وآنس الرجل، ثما عاد إلى إخوانه المنتظرين وودعه الرجل بكل حفاوة.ثم رجع إلى بيته سريعاً ، وتناول فنجان الشاي ليحظى بسؤره وما تبقى منه فلم يجد سوى الأثر ، ولكنه وجد عجباً ، فوجئ بأن الشاي قد أضيف إليه الملح بدل السكر !!!

34 – وكيل نيابة مسكين

أوصى بعض رجال الحكم الحاقدين أحد وكلاء النيابة بإيجاد مسوغ قانوني للنيل من جماعة الإخوان المسلمين .

فأخذ وكيل النيابة يخطط ويدبر ، ويفكر ويقدر ، ويبحث وينقب حتى وجد فريسته . فاستدعى الإمام الشهيد وخاطبه بلهجة الشامت المتمكن ،

فقال : اليوم لا فرار .

الإمام الشهيد : من أي شيء أفر ؟

النيابة : إنك تعمل على قيام ثورة في البلد .

الإمام الشهيد: وما دليلك على هذا .

الوكيل : دليلي مكتوب بخط يدك .

الإمام الشهيد: وماذا يقول هذا الدليل ؟

الوكيل : إنك شكلت لجنتين : إحداهما ثورية والأخرى لإثارة الرأي العام .

الإمام الشهيد: وممن تتكون اللجنتان؟

الوكيل : أما الأولى : فهي من الشيخ شلتوت ومعه آخرون. وأما الثانية : فهي عزيز المصري وآخرون . تبسم الإمام الشهيد وقال : يا سيادة الوكيل الأفضل أن تغير الوضع ، وتضع إحداهما مكان الأخرى .

انفعل الوكيل وقال : لا لزوم لهذا . أهذا خطك ؟ فقال الإمام الشهيد: لا لزوم لرؤيتها . فلن أنكر ما في الورقة . ولكن أنكر قراءتك لها فاقرأ جيداً ...

أما الأولى : فهي لجنة شورية وليست ثورية وأما الثانية : فهي لإنارة الرأي العام وليست لإثارة . اقرأ يا أخي بإمعان وأوصيك ألا تتسرع وأنت رجل قانون .

ولا تعجب إذا علمت أن هذا الدليل كان عبارة عن ورقة مكتوبة بالقلم الرصاص قد التقطها هذا الشخص وأعوانه من سلة المهملات .

35 – لا نستعين بمن يعصي الله

عندما قام الإخوان بعمل مظاهرات في البلاد انتصاراً لقضية فلسطين عام 1936م استدعى رئيس النيابة في القاهرة الإمام الشهيد للتحقيق معه .

وقبل أن يدخل مكتب النائب العام تقدم أحد الإخوة المحامين يطلب من الأستاذ المرشد أن يدخل معه أثناء التحقيق .

ولكن الأستاذ لاحظ أن المحامي يمسك (بسيجارة) مع العلم بأن الوقت في شهر رمضان المعظم .

فقال له الأستاذ المرشد : نحن لا نستعين بمن يعصي الله في طاعة الله تعالى .

36 – إحساس رقيق ... إهداء الورد

يقول الأستاذ عمر التلمساني : " كان الإمام الشهيد يتحسس في رقة ودقة كل ما يرضي الإخوان في الحدود المشروعة. ففي ذات يوم زاره الأخ الشاعر عمر الأميري أحد قادة الإخوان في سوريا ليستأذنه في السفر إلى الإسكندرية مع والده في القطار الذي يغادر القاهرة غداً في السابعة صباحاً .

وذهب عمر الأميري مع والده .. وقبل أن يتحرك القطار بدقيقة أو دقيقتين إذ بعمر يرى الإمام الشهيد وهو يسرع الخطى على رصيف القطار ، يحمل باقة من الورود الناضرة ، يقدمها تحية لوالد عمر الأميري . وكان لهذا الموقف تأثير كبير في نفس عمر الأميري الشاعر الكبير "

37 – عزاء والد الشهيد

يقول الأستاذ عمر التلمساني :

" لقد أحيا الإمام الشهيد روح الجهاد في نفوس أبناء هذا الجيل . وتأثر الإمام ، وتأثر الشباب ، وتأثر آباؤهم وكانت مواقف رائعة :

استشهد أحد أبناء الإخوان في فلسطين ، فذهب الإمام إلى والد الشهيد ليعزيه ، فسمع الناس ورأوا درساً باهراً .

قال الوالد للإمام : إن كنت جئت معزياً فارجع أنت ومن معك . وأما ان كنت جئت لتهنئني فمرحباً بك وبمن معك . لقد علمتنا الجهاد وبينت لنا ما فيه من عزة ورفعة في الدنيا والآخرة فجزاك الله خيراً .

وإني لحريص على مضاعفة الأجر ، فها هو ولدي الثاني ، أقسمت عليك لتصحبنه إلى ميادين الجهاد . فانهمرت دموع ، وعلا تشنج ، وتصاعدت زفرات وارتج على الإمام من روعة الموقف ".

38 – يحمل الحذاء لضعيف البصر

تطوع أحد الإخوان في كتائب المجاهدين في فلسطين ، فظن والده أن الإمام الشهيد هو الذي أثر عليه . فجاء إلى المركز العام ثائراً ، وكلم الأستاذ بحدة بالغة . فقدر الأستاذ مشاعر الأبوة ، وتلطف بالرجل ... فلما هم الرجل بالانصراف ، وكان ضعيف البصر ، وقد ترك حذاءه خارج الغرفة ، إذا به يفاجأ بالإمام الشهيد يحمل حذاءه إليه ويضعه تحت قدميه . فقال الرجل : كأنما ألقى عليّ المرشد بعض الماء البارد . يعني أن كل ما في نفسه قد زال .

39 - يا أستاذ عمر

يقول الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله :

كان الإمام الشهيد إذا آخذ يؤاخذك في رفق ، يشعرك بالخطأ دون أن يحرجك .

في ساعات الرضى كان يناديني باسمي المجرد .... يا عمر .

فإذا كان هناك ما يستدعي المؤاخذة ناداني .. يا أستاذ عمر.

فأشعر على الفور بأن هناك ما لا يرضيه فأسرع قائلاً " ليه هو حصل حاجة؟ ما هو أنا عمر برضه". فتنفرج شفتاه عن البسمة التي تسترضي كل غاضب ، ويبدأ في المؤاخذة بأسلوب العتاب المحبب إلى النفوس ".

40 – جئنا لنتغدى عندك

يقول الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله :

غاضبت الإمام الشهيد مرة وانصرفت... وشعرت بخطئي فعدت في اليوم التالي معتذراً . فلم يقبل ، وأمرني بالرجوع من حيث أتيت !! ، فعدت كاسف البال ، ولكن لست ناقماً ...
وما راعني إلا أنني بعد عودتي إلى منزلي ، أجد باب المنزل يدق ، وإذا به الإمام الشهيد ومعه أحد الإخوان ، ويقول جئنا لنتغدى عندك!
الأصول العشرين لفهم الإسلام

الأصول العشرين لفهم الإسلام بقلم الإمام حسن البنا

  1. الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر وقوة أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء.
  2. والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام، ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات.
  3. والإيمان الصادق والعبادة الصحيحة والمجاهدة نور وحلاوة يقذفهما الله في قلب من يشاء من عباده، ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية، ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه.
  4. والتمائم والرقي والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب، وكل ما كان من هذا الباب منكر تجب محاربته إلا ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة.
  5. ورأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة وفي المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد.
  6. وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالإتباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص ـ فيما اختلف فيه بطعن أو تجريح، ونكلهم إلى نياتهم وقد أفضوا إلى ما قدموا.
  7. ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين ، ويحسن به مع هذا الإتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وان يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صلاح من أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر.
  8. والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين ، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب.
  9. وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعا، ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع، والخوض في معاني الآيات القرآنية الكريمة التي لم يصل إليها العلم بعد، والكلام في المفاضلة بين الأصحاب رضوان الله عليهم وما شجر بينهم من خلاف، ولكل منهم فضل صحبته وجزاء نيته وفي التأول مندوحة.
  10. ومعرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام ، وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يليق بذلك من التشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء ، ويسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) (آل عمران:7).
  11. وكل بدعة في دين الله لا أصل لها استحسنها الناس بأهوائهم سواء بالزيادة فيه أو بالنقص منه ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شر منها.
  12. والبدعة الإضافية والتَّركِية والالتزام في العبادات المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان.
  13. ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلى الله تبارك وتعالى، والأولياء هم المذكورون بقوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)، والكرامة ثابتة بشرائطها الشرعية، مع اعتقاد أنهم رضوان الله عليهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا في حياتهم أو بعد مماتهم فضلا عن أن يهبوا شيئا من ذلك لغيرهم.
  14. وزيارة القبور أيا كانت سنة مشروعة بالكيفية المأثورة ، ولكن الاستعانة بالمقبورين أيا كانوا ونداؤهم لذلك وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد والنذر لهم وتشيد القبور وسترها وأضاءتها والتمسح بها والحلف بغير الله وما يلحق بذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها، ولا نتأول لهذه الأعمال سدا للذريعة.
  15. والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله تعالى بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة .
  16. والعرف الخاطئ لا يغير حقائق الألفاظ الشرعية، بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها، والوقوف عندها، كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين، فالعبرة المسميات لا بالأسماء.
  17. والعقيدة أساس العمل ، وعمل القلب أهم من عمل الجارحة، وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب شرعاّ وإن اختلفت مرتبتا الطلب.
  18. والإسلام يحرر العقل، ويحث على النظر في الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء ، ويرحب بالصالح والنافع من كل شيء، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
  19. وقد يتناول كل من النظر الشرعي والنظر العقلي ما لا يدخل في دائرة الآخر، ولكنهما لن يختلفا في القطعي، فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة، ويؤول الظني منهما ليتفق مع القطعي، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالإتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار.
  20. ولا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض ـ برأي أو بمعصية ـ إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن ، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر.
حسن البنا


إغتيال البنا

مقدمات الاغتيال:

لم يكن الغرض من اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا القضاء علي حياة شخص إنما كان الهدف هو القضاء علي دعوة وجماعة الإخوان المسلمون ، ومحو المبادئ التي تؤمن بها هذه الجماعة وتدعو إليها .

ولقد حاول أعداء الدعوة أن يحرفوا الجماعة عن أهدافها ومبادئها بشتى الطرق فخاب مسعاهم وضل سعيهم ، وحتى حين تمكنوا من إصدار قرار بحل الجماعة وقتلوا الإمام الشهيد ظانين بذلك أنهم قد قضوا علي الجماعة ومبادئها خاب ظنهم ، وذلك لأن دعوة الإخوان في حقيقتها ما هي إلا دعوة الإسلام التي لا تموت بموت شخص أياً كان هذا الشخص ، فهي دعوة الله ودينه الذي ارتضاه لعباده .

ولقد حاولت قوي متباينة اغتيال الإمام الشهيد أو احتواءه هو وجماعته وإن اختلفت الدوافع ، فكان دافع البعض الحقد والحسد والغيرة العمياء من زعامته وقوة جماعته ، أما القوة الرئيسية التي كانت وراء الكثير من المحاولات فكان دافعها هو كراهية الإسلام وكراهية أتباعه ، ولأن الجماعة أصبحت عقبة كؤوداً في وجه مخططاتهم وأطماعهم وإليك نبأ ما استطعنا معرفته من هذه المحولات

أولا : محاولات الإنجليز لاغتيال الإمام البنا :

  1. في عام 1941 طلب الجنرال " كلايتون " مدير عام المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط لقاء الإمام البنا وفي هذا اللقاء عرض كلايتون جوانب الاتفاق بين ما ينادي به الإسلام من حرية وشوري وبما ينادي به العالم الحر " يقصد الحلفاء أمريكا وانجلترا وفرنسا من نفس المبادئ ، وأن هناك اختلاف بين الإسلام وبين ما ينادي به هتلر . وطلب من الإمام الشهيد أن يقوم الإخوان بالدعاية لذلك وإظهار جوانب الاتفاق بين الإسلام وما يدعو إليه الحلفاء وجوانب الاختلاف بين الإسلام وما تدعو له دول المحور الوثنية ، وكان ذلك في مقابل إصدار جريدة للإخوان ، ومقر لهذه الجريدة مع إمدادها بأحدث أدوات الطباعة بالإضافة إلي مبلغ قدره نصف مليون جنيه كدفعة أولي يتبعها دفعات أخري ، وشفع طلبه بأن كل زعماء مصر يحصلون علي المال لمساعدة بريطانيا ، والأولي أن يصرف هذا المال في مساعدة الدعوة الإسلامية ، وقد رفض الإمام البنا هذا العرض ثم أوضح له ما جرته السياسة البريطانية علي مصر والعرب من خراب ودمار ، وذلك رغم تسليم الإمام البنا بأن الإخوان يرفضون دعوات دول المحور وسياستها .
  2. ولما لم تنفع محاولة الاحتواء عن طريق المال دبر الإنجليز حادثًا لاغتيال الإمام الشهيد عن طريق قيام سيارة من سيارات الجيش البريطاني بصدم الإمام الشهيد وقتله بحيث يظهر الأمر وكأنه قضاء وقدر وكأنه حادث سيارة عادي ، ولكن الإخوان علموا بهذه المؤامرة عن طريق أحد الإخوان الذي كان يعمل مع أحد أعوان الإنجليز وهو الأخ عبد اللطيف سيد أحمد ، وأبلغ الأستاذ عبد الحكيم عابدين بذلك فقام الأستاذ عبد الحكيم عابدين بإذاعة الخبر بطريقة غير رسمية حتى انتشر الخبر مما منع الإنجليز من الإقدام علي تنفيذ تدبيرهم .
  3. وفي عام 1941 أوعز الإنجليز لرئيس الوزراء والحاكم والعسكري حسين سري باشا بنقل الإمام الشهيد إلي قنا ، فأصدر أمره إلي وزير المعارف د . محمد حسين هيكل بنقل الإمام الشهيد إلي قنا ، وصدر قرار بنقل الإمام البنا إلي قنا . وقد اعترف الدكتور هيكل في كتابه مذكرات في السياسة المصرية بأن نقل الأستاذ البنا كان بناء علي طلب الإنجليز ولما لم يجد قرار النقل في تقييد حركة الإمام الشهيد وتعويق حركة الجماعة رضخ حسين سري لضغوط نواب أحزاب الائتلاف بعد أن قدم الأستاذ محمد عبد الرحمن نصير استجوابًا لوزير المعارف يقول فيه : إن نقل حسن البنا كان بناء علي دوافع خارجية لا تمت بأدنى صلة إلي مصلحة التعليم . وهنا فقط أعيد الإمام الشهيد إلي وجاءت وزارة " النحاس " علي أسنة رماح الإنجليز في 4 فبراير 1942 وقرر النحاس غلق جميع شعب الإخوان عدا المركز العام وذلك بناء علي طلب الإنجليز ، ولم تفتح إلا بعد مفاوضات تمت بين الإمام الشهيد والنحاس حول تنازل الإمام الشهيد عن الترشيح للبرلمان في مقابل فتح شعَب الإخوان وعدم التضييق علي الإخوان ، وكان منع الإمام البنا من الترشيح بناء علي طلب الإنجليز .

ثانيًا : محاولة الوفد لاغتيال الإمام البنا :

وفي عام 1946م قام بعض شباب الوفد في بور سعيد بالاحتكاك بجوالة الإخوان وقذفهم بالبيض والطماطم أثناء استعراضهم في شوارع بور سعيد ، وذلك بإيعاز من أحد كبار رجال الوفد في بور سعيد ، فتصدت لهم جوالة الإخوان وعندما دخل الإخوان المسجد لبدء احتفالهم.

بدأ أنصار الوفد يتحرشون بالإخوان فأمر الإمام الشهيد الإخوان بالانصراف فانصرفوا جميعًا ولم يبق معه في دار الإخوان إلا الشهيد محمد فرغلي والحاج عبدالله الصولي ، فاستغل أنصار الوفد الفرصة وحاصروا دار الإخوان وظلوا يرمون الدار بالحجارة وكرات النار المشتعلة وكان ذلك في وجود البوليس الذي تواطأ معهم واستمر الحال حتى قبيل الفجر حتى قام الأستاذ علي رزة هو وبعض إخوانه بحيلة أخرجوا بها الإمام الشهيد ومن معه من بور سعيد .

ثالثاً : محاولات مصر الفتاة لاغتيال الإمام البنا :

وكان لمصر الفتاة نصيب في محاولات اغتيال الإمام الشهيد وإن كنا لا نرجح أنها تمت بإيعاز من قوى أجنبية إنما كان دافعها الغيرة والحسد ، فقد كانت هناك محاولتان تم رصدهما وقام الإخوان بإفشالهم .

  1. كانت المحاولة الأولي في مدينة المحلة وكان تقوم فكرتها علي حرق السرادق المقام فيه الحفل ، عن طريق خلع الأعمدة التي يقوم عليها السرادق في توقيت معين ، فيتهدم السرادق وتشتعل فيه النار عن طريق قناديل الإنارة . وقد علم الإخوان بتلك المؤامرة واستعدوا لها ، وقام الإخوان بالإمساك بالمنفذين عندما شرعوا في التنفيذ .
  2. أما المحاولة الأخرى فكانت تقوم فكرتها علي وضع قنبلة زمنية تحت المنصة التي يخطب عليها الإمام الشهيد ، وكانت هذه المؤامرة بأمر من أحمد حسين نفسه ، واستطاع الإخوان الإمساك بهؤلاء النفر ومعهم المتفجرات . وقام الإمام البنا باستدعاء الأستاذ أحمد حسين وسلمه رجاله ومتفجراتهم ومن يومها توقفت محاولات مصر للفتاة .

رابعًا : محاولة الحزب الشيوعي لاغتيال الإمام البنا :

ولم تكن روسيا لتترك هذا الميدان بل ساهمت فيه بنصيب ، وذلك أن قامت السفارة الروسية بالاتصال بالحزب الشيوعي في طنطا وكلفته بتنفيذ مؤامرة لاغتيال الإمام الشهيد عن طريق إلقاء قنبلة عليه وهو يخطب في الإستاد الرياضي طنطا.

وكان الذي تلقي الاتصال وكُلف بتنفيذ المؤامرة أحد أفراد النظام الخاص وهو الحاج " فرج النجار " وكان قد انضم إلي الحزب الشيوعي بناء علي تكليف من النظام الخاص وأصبح مساعد سكرتير الحزب طنطا الذي قام بإفشال هذه المؤامرة وتم القبض علي أعضاء الحزب الشيوعي .

خامسًا : محاولات حكومة النقراشي لاغتيال الإمام البنا :

  1. أما حكومة النقراشي الأخيرة فقد كان لها نصيب وافر في محاولات اغتيال الإمام الشهيد ، بل إن حادث اغتيال الإمام الشهيد رُتُب قبل حل الجماعة واغتيال النقراشي بوقت طويل ، فعندما أراد الإخوان القيام بمظاهرة تخرج من الأزهر لتشد من أزر النقراشي – وهو يعرض قضية مصر علي مجلس الأمن – وسمح لهم البوليس بهذه المظاهرة إلا أنه اتخذ هذه المظاهرة فرصة لاغتيال الإمام البنا ، يقول الأستاذ محمود الجوهري – وكان بجانب المرشد طيلة هذه المظاهرة – إنه لاحظ كما لاحظ الأستاذ نفسه أن تصرف رجال البوليس في ذلك اليوم كان يشعر بأن هناك خطة مرسومة لاصطياد الأستاذ المرشد منفرداً للتخلص منه .. ذلك أن قوات البوليس حاصرت الأزهر وكانت تعمل علي تفريق من يخرجون منه وتشتيتهم أولا بأول حتى إذا خرج الأستاذ المرشد اصطادوه وحده .. وكان الأستاذ آخر من خرج من المسجد وكأنهم ظفروا بما أرادوا فحاصروه بالقوة كلها راكبة الخيل وهو منفرد .. وهنا تصرف الأستاذ المرشد تصرفًا مذهلاً ، إذ اختطف عصا من أحد أفراد القوة وأخذ يضرب بها كل حصان علي أنفه فيرفع الحصان رجليه الخلفيتين فيهوي الجندي الذي يمتطيه علي الأرض ، وبذلك تمكن من إسقاط القوة كلها ، وكان [الإخوان] قد لحقوا به من خلال هذه المنازلة البارعة والتفوا ولم تكن المظاهرة السلمية تصل إلي ميدان العتبة الخضراء وفي مقدمتها سيارة تحمل الشيخ البنا وبعض الأعضاء حتى انطلقت الأعيرة النارية في كل صوب ، فنزل الشيخ ليستطلع الخبر فإذا بعيار ناري يطلق عليه وتستقر رصاصة في ساعده ، ثم اقتيد عقب إصابته إلي قسم الموسكي فاعتدي رجال الشرطة علي أتباعه ، ودارت معركة بينه وبين ضابط البوليس هدده بمسدس وسدد فوهته في صدره ، فهجم عليه الشيخ البنا ، وأمسك بالمسدس من يده ، وأصيب زوج شقيقته عبد الكريم منصور بإصابات نقل علي أثرها إلي مستشفي القصر العيني وانتهي الحادث بالحفظ ) .
  2. عندما توجه حسن البنا إلي مطار القاهرة للحج في 23 من سبتمبر 1948م ومعه جواز سفر يتيح له السفر إلي جميع أنحاء العالم .. وعلي الجواز أيضًا تأشيرة تسمح له بأن يستقل طائرة شركة " سعيدة " قام العقيد حسن فهمي مفتش الجوازات بسحب الجواز منه ، وألغي جميع الدول المصرح له بالسفر إليها ، واكتفي منها بالمملكة العربية السعودية ، وقال إنه فعل ذلك بناء علي تعليمات من عمر حسن – مدير القسم المخصوص ، وسافر المرشد العام إلي بالمملكة العربية السعودية فأبرقت وزارة الداخلية إلي القنصل المصري في جدة بعدم السماح للبنا من السفر إلي أية دولة عربية أخرى ، وقد قال عبد القادر عودة وكيل جماعة الإخوان : " لم تستطع الحكومة منع البنا من السفر لأداء الحج وإلا قيل أنها صدته عن سبيل الله ، والبيت الحرام ، ومن يفعل ذلك يعد كافراً ، ومن ناحية أخري – كما قال اليوزباشي عبد الباسط شقيق المرشد – فإن الحكومة المصرية أعدت العدة لقتله في السعودية علي أن تنسب الجريمة إلي بعض اليمنيين ! ، وكان أمير الحج المصري حامد جودة – رئيس مجلس النواب الذي ينتمي إلي الحزب السعدي – قد صحب معه بعض الأشخاص الخطرين ، ولكن الحكومة السعودية استشعرت ذلك فأنزلت المرشد العام ضيفاً عليها وأحاطت مقره بحراسة شديدة ، وقدمت إليه سيارة خاصة بها جندي مسلح لمنع الاعتداء عليه ، وعاد حسن البنا في 28 من نوفمبر 1948م .

حادث الاغتيال

وسنتناول حادث الاغتيال من خلال حديث الأستاذ عبد الكريم منصور الذي رافق الإمام الشهيد في الحادث :

الإجراءات التي اتخذت لإتمام الاغتيال:

وقد اتخذت الحكومة عدة إجراءات لتسهيل عملية الاغتيال الإمام البنا تتلخص في الآتي :

  1. اغتيال الإخوان عدا الشهيد وإيداعهم السجون .
  2. سحب المسدس المرخص الخاص بالإمام الشهيد .
  3. سحب الجندي المكلف بالحراسة علي منزل الإمام الشهيد ، رغم أنه عرض عليهم التكفل براتبه ، وكان جميع الزعماء توضع لهم حراسة خاصة .
  4. الاغتيال أخيه اليوزباشي عبد الباسط الذي أحس بالمؤامرة علي أخيه وجاء ليحرسه .
  5. قطع خط التليفون حتى لا يتمكن من الاتصال بالخارج .
  6. اغتيال كل من ذهب لزيارة الإمام حسن البنا في هذه الفترة ، وإذا دخل الزائر ولم يُر اعتقل أثناء خروجه .
  7. إذا سلم عليه شخص في الطريق أثناء سيره اعتقل حتى ولو كان من غير الإخوان المسلمين .
  8. سحب السيارة الخاصة بالإمام الشهيد وكانت ملك صهره عبد الحكيم عابدين .
  9. عدم السماح له بمغادرة القاهرة أو السفر إلي أي مكان .
  10. شَغْل الإمام الشهيد بمفاوضات الصلح بينه وبين الحكومة .
ما حدث يوم الاغتيال

في يوم الاغتيال كلفني الإمام الشهيد حسن البنا قبل العصر بالذهاب إلي التليفونات الخارجية في السيدة للاتصال بالشيخ عبد الله النبراوي في بنها ، لكي أبلغه رغبة الإمام في الإقامة عنده في عزبته " أبعادية النبراوي " وكانت هذه العزبة محاطة برجال النبراوي وحراسه ، فلما تكلمت مع رد علي أهله وقالوا : لا داعي لحضور الإمام لأن البوليس جاءنا وضربنا ودمر أثاث المنزل وممتلكاتنا ، واعتقل الشيخ عبد الله ، وعدت إلي الإمام لأخبره بنتيجة المكالمة فقال إنه قد جاءه الأستاذ محمد الليثي رئيس قسم الشباب بجمعية الشبان المسلمين وأخبره بأن الحكومة تريد استئناف المفاوضات ، وإن بعض الشخصيات الحكومية ستحضر في جمعية الشبان المسلمين لهذا الغرض ، فأخبرت الإمام بأمر اغتيال الشيخ النبراوي ، ورجوته عدم الذهاب إلي الشبان المسلمين ، ولكنه رحمه الله صمم علي الذهاب قائلاً : إني وعدت ولا يجوز أن أخلف الميعاد .

ظهرت حقيقة الحادث بتفاصيله والذي تم في الساعة الثامنة والثلث من مساء يوم السبت 12 فبراير 1949م الموافق 14 ربيع الثاني في 1368هـ . يقول الأستاذ عبد الكريم منصور : " ذهبنا إلي جمعية الشبان المسلمين وقد أخبر الأستاذ البنا بأن الحكومة تريد استئناف المفاوضات وأن شخصيات حكومية ستحضر في جمعية الشبان لهذا الغرض ، وجلسنا في الجمعية ولم تحضر الشخصية الحكومية حتى العشاء ، فقام الإمام الشهيد وصلي بالموجودين صلاة العشاء ، ثم جلسنا قليلاً بعدها ولو تحضر هذه الشخصية .

وهنا طلب الإمام من الأستاذ محمد الليثي أن يستوقف تاكسي ، وخرجنا من الجمعية إلي شارع رمسيس الذي كان مظلمًا وكانت السعة تشير إلي الثامنة والثلث ، ووقف التاكسي الذي لم يكن هناك غيره في الشارع كله ، ودخل الإمام الشهيد في المقعد الخلفي ودخلت بعده وجلست إلي يمينه ، ثم نهض وأبدل المقاعد فجلس علي يميني وجلست علي يساره ، وفي هذه الأثناء كان يقف أمام السيارة شخصان فتقدم أحدهما وأراد فتح باب السيارة فأغلقته ، وحاول الفتح .

وأنا أحاول الغلق مهدداً لي بمسدسه ، وأخيراً فتح الباب وأطلق علي صدري الرصاص فتحولت إلي الجهة اليسرى فجاءت الرصاصة في مرفقي الأيمن ، وأمسكت بيده التي فيها المسدس وحاولت بيدي الأخرى أن أنتزع منه المسدس فلم أجد ذراعي إلا معلقًا ، العضد هو الذي يتحرك فقط ، وهنا أطلق المجرم رصاصة أخرى اخترقت المثانة وشلت حركة الرجل اليسرى ، وهنا عجزت عن الحركة ، فتركني وتوجه إلي الإمام الشهيد وحاول فتح الباب ولم يستطع فأطلق الرصاص عليه ثم فتح الباب وظل يطلق الرصاص علي الإمام الشهيد وهو يتراجع وهنا قفز الإمام من السيارة وجري خلفه حوالي مائة متر إلا أن السيارة كانت تنتظره عند نقابة المحامين فاستقلها وهرب ، وعاد الإمام الشهيد وحملني وأجلسني في السيارة حيث كانت رجلي اليسرى خارج السيارة لا أستطيع تحريكها .

ونادي الإمام الأستاذ محمد الليثي وقال له رقم السيارة عندك " 9979" وجاء شخص آخر طويل القامة أسمر ، وقال : هل أخذت رقم السيارة التي ارتكبت الحادث .. رقمها " 1179 " وانصرف .

دخل الإمام البنا إلي جمعية الشبان المسلمين وطلب عربية إسعاف ولكنها تأخرت وهنا كان الناس قد تجمعوا فطلبوا من سائق السيارة أن يوصلنا فرفض ولكنهم أرغموه علي ذلك فأوصلنا إلي الإسعاف .

وأمام الإسعاف حملني الإمام الشهيد مرة أخرى من السيارة وأدخلني إلي الإسعاف وقبض حرس الإسعاف علي السائق الذي حاول الهرب .

وجاء طبيب الإسعاف ليسعف الإمام البنا الذي قال له : " أسعف الأستاذ عبد الكريم أولاً لأنه حالته خطيرة ، ورأي طبيب الإسعاف ورأي طبيب الإسعاف أن حالتي تستدعي نقلي إلي القصر العيني فنقلنا أنا والإمام الشهيد وأدخلونا إحدى الغرف ، وجلسنا فترة حتى اتصلوا بالطبيب المناوب في منزله في روكسي بمصر الجديدة ، واستدعوا من السينما المجاورة حيث كان يشاهد فيلمًا ، وركب سيارته وجاء إلي القصر العيني .

في هذه الأثناء دخل علينا الأميرالاي محمد وصفي مندوب الملك وقال صارخًا : " انتم لسه مامتوش يا مجرمين " ، وانصرف .. وهنا دخل الطبيب الذي أراد أن يسعف الإمام الشهيد أولاً ولكنه قال له " أسعف الأستاذ أولاً .. وأمر الطبيب أحد الممرضين بخلع ملابس الشهيد ولكنه نهض من علي السرير وخلعها بنفسه ، ولما أرادوا أخذ اسمي وعنواني قال لهم الإمام الشهيد : " اتركوا الأستاذ عبد الكريم لأن حالته خطيرة وأعطاهم الاسم والعنوان .

وهنا دخل الأميرالاي محمد وصفي مندوب الملك ثانية وقال للطبيب : أنا جاي من عند الحكمدار لأعرف حالة الشيخ حسن البنا ، فقال له الدكتور : إن حالته ليست خطيرة ، وبعد ذلك فصلوا بيني وبين الإمام ووضعوني في غرفة مع أحد المرضي ، ووضعوا الإمام في غرفة وحده .

وعلمت فيما بعد أن الأميرالاي محمد وصفي أتي إلي المستشفي مندوبًا عن الملك وكان مكلفًا بالإجهاز علي حياة الإمام الشهيد ..إذ منع الطبيب من مواصلة العلاج وتركت دماء الإمام تنزف حتى صعدت روحه الطاهرة إلي بارئها تشكو ظلم الطواغيت .

الجنازة

اتخذ عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية قراراً عصبيًا بضرورة تشييع الجنازة مباشرة من مشرحة مستشفي قصر العيني ، حتى لا تتاح فرصة لتفاقم مشاعر الحزن والألم ، و تحسبًا لتدفق المشاعر وانفلات زمام الأمور .

ولكن رجلاً طاعنًا في السن قد أحنى ظهره يبلغ من العمر سبعة وستين عامًا كاملة ، عاريًا من كل حيلة أو وسيلة أمام اللواء أحمد طلعت يسأل – بإلحاح وبتوسل دون ملل – أن تشيع الجنازة من منزل الفقيد ، إنه الشيخ " أحمد عبدالرحمن البنا " والد " حسن البنا " الذي زلزلت كلماته الملتاعة كيان اللواء المصمم علي إنفاذ أمر رؤسائه ، فوعد باستئذان المسئولين علي أن تشيع الجثة من غير مظاهرات . وأن تدفن في الساعة التاسعة صباحًا .

التشييع :

وردت تفاصيل التشييع في صحيفة " الكتلة " الناطقة باسم حزب الكتلة برئاسة مكرم عبيد باشا ، والمنشور بعد تسعة أشهر كاملة من الحادث نتيجة الرقابة .

لقد وصفت الصحيفة ما حدث وكتبه مأمون الشناوي بدون توقيع في عدد 11 نوفمبر 1949م في عهد وزارة عبد الهادي .

أتت الصحيفة بعناوين تكفي تلاوتها للعن الطغاة والمجرمين تقول:

" القبض علي المعزين ، ومنع الصلاة علي جثمان الفقيد ، منع تلاوة القرآن الكريم علي روحه .."ثم نشرت الوصف التاريخي الآتي الذي استقته من والد الشهيد الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا .

كيف دفنوا الإمام الشهيد ؟

نقلت جثة الفقيد إلي بيته في سيارة تحرسها سيارات مملوءة بفريق من رجال البوليس المسلحين ، وقد أنساهم هول الجريمة أن الموتى لا يتكلمون ولا ينطقون !

وفي أحد شوارع الحلمية وقفت القافلة ، ونزل الجند فأحاطوا بيت الإمام الفقيد ، ولم يتركوا ثقباً ينفذ إليه إنسان إلا سدوه بجند وسلاح .

أما الشيخ البنا ذلك الشيخ الهرم فلم ينؤ بها ولم تبد عليه عوامل السنين كما بدت في هذه الليلة النكباء ، فقد عرف بخبر وفاة ولده من أحد الضباط ساعة وقوعها ، وظل ساهراً تفجعه الأحزان منتظراً الفجر ليؤدي فريضة الله ، ويقول له : سبحانك ، وعدالتك ياربي لقد قتلوا ولدي " .وتتابعت علي باب المسكن طرقات كان صداها يطحن قلب الشيخ الكبير الرحى .

كان الوالد هو وحده الذي يعلم وينتظر فإن أشقاء الفقيد جميعا كانوا في السجون ، وفتحوا الباب وأدخلوا الجثة ، ونشج الوالد المحطم بالبكاء فقالوا له : لا بكاء ولا عويل ، بل ولا مظاهر حداد ، ولنترك الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا والد الشيخ حسن يتم القصة : قال : " أبلغت نبأ موته في الساعة الواحدة ، وقيل : إنهم لن يسلموا إلي جثته إلا إذا وعدتهم بأن تدفن في الساعة التاسعة صباحًا بدون أي احتفال ، وإلا فإنهم سيضطرون إلي حمل الجثة من مستشفي قصر العيني إلي القبر ، واضطررت إزاء هذه الأوامر إلي أن أعدهم بتنفيذ كل ما تطلبه الحكومة ، رغبة مني أن تصل جثة ولدي إلي بيته فألقي عليه نظرة أخيرة ، وقبيل الفجر حملوا الجثة إلي البيت متسللين ، فلم يشهدها أحد من الجيران ولم يعلم بوصولها سواى .

حصار حول البيت

وظل حصار البوليس مضروباً حول البيت وحده ، بل وحده ، بل حول الجثة نفسها لا يسمحون لإنسان بالاقتراب منها مهما كانت صلته بالفقيد .

وقمت بنفسي بإعداد جثة ولدي للدفن ، للدفن ، فإن أحداً من الرجال المختصين بهذا لم يسمح له بالدخول ، ثم أنزلت الجثة حيث وضعت في النعش ، وبقيت مشكلة من يحملها إلي مقرها الأخير .

وطلبت إلي رجال البوليس أن يحضروا رجالا يحملوا النعش فرفضوا ، قلت لهم : ليس في البيت رجال ، فأجابوا : فليحمله النساء ! وخرج نعش الفقيد محمولاً علي أكتاف النساء .

ومشت الجنازة الفريدة في الطريق ، فإذا بالشارع كله رصف برجال البوليس ، وإذا بعيون الناس من النوافذ والأبواب تصرخ ببريق الحزن والألم والسخط علي الظلم الذي احتل جانبي الطريق !

وعندما وصلنا إلي جامع " قيسون " للصلاة علي جثمان الفقيد ، كان المسجد خالًيا حتى من الخدم ، وفهمت بعد ذلك أن رجال البوليس قدموا إلي بيت الله وأمروا من فيه بالانصراف ريثما تتم الصلاة علي جثمان ولدي .

ووقفت أمام النعش أصلي فانهمرت دموعي ن ولم تكن دموعًا بل كانت ابتهالات إلي السماء أن يدرك الله الناس برحمته .

ومضي النعش إلي مدافن الإمام ، فوارينا التراب هذا الأمل الغالي ، وعندما عدنا إلي البيت الباكي الحزين ، ومضي النهار وجاء الليل لم يحضر أحد من المعزين ، لأن الجنود منعوا الناس من الدخول ، أما الذين استطاعوا الوصول إلينا للعزاء ، فلم يستطيعوا العودة إلي بيوتهم ، فقد قبض عليهم ، وأودعوا المعتقلات ، إلا شخصًا واحداً هو مكرم عبيد باشا .

تحقيقات القضية والحكم فيها

قد بدأ التحقيق في هذا الحادث بعد وقوعه بساعات وانتهي في 18 ديسمبر عام 1952م ، وقيد برقم 1701 جنايات عسكرية قصر النيل سنة 1952م .

وكان المرحوم الأستاذ عبد العزيز حلمي رئيس نيابة جنوب القاهرة أول من تولي تحقيقات هذه القضية ، وهذه بدأها ليلة الحادث 12 فبراير 1949م وانتهي دوره في 2 مارس 1949م ، وقد سئل في هذه التحقيقات محمود عبد المجيد ومحمد محفوظ بعد أن حامت حولهما الشبهة بأقوال الشاهد الأول محمد يوسف الليثي ولم يوجه إليهما الاتهام ، وفي 17 مارس 1949م أعيد فتح التحقيق بعد أن أخطر الملازم أول " عزت النقيب " الضابط بسجن شبين الكوم بأن المسجون الفلسطيني صلاح أحمد بركات قد ادعي أنه قاتل المرشد ولكن هذا المسجون عاد فأنكر ما اعترف به للضابط أمام نيابة شبين الكوم .

وفي عهد حكومة الرئيس السابق حسين سري استأنفت التحقيقات بعد أن تلقت النيابة بعض الشكاوي وقد بدئ التحقيق في 28 نوفمبر 1949م ، وانتهي في 24 فبراير 1950م ، وسئل في هذه التحقيقات المتهمون محمود عبد المجيد ومحمد محفوظ وحسين كامل وعبده أرمنيوس وأحمد حسين ومحمد سعيد وحسين محمدين ومحمد الجزار ، وكشفت التحقيقات عن أهم وقائع الدعوي وهي استقدام المخبرين المتهمين من سوهاج بإشارة تليفونية قبل الحادث لارتكابه ، ولكن الأدلة لم تكن قد اكتملت لدي النيابة فقررت إخلاء سبيلهم ، وظل الوفد – بعد استقالة إبراهيم عبد الهادي – يطالب بإعادة تحقيق في القضية ، وعندما تولي مصطفي النحاس رئاسة الوزارة المصرية في 12 من يناير 1950م لم يفتح الوفد التحقيق في قضية الإمام البنا وظل التحقيق نائمًا لمدة عامين .

وقررت النيابة العسكرية ضم القضية بعد ذلك إلي قضية " الأوكار " دون أن يصدر قرار النيابة فيها ، وأعيدت التحقيقات من جديد في 26 يوليو 1952م . وفي هذه التحقيقات بدأت سلسلة اعترافات المتهم محمد محفوظ والبكباشي محمد الجزار، وأحيل التحقيق بعد ذلك إلي النيابة وتولاه الأستاذ فؤاد سري في 19 أغسطس 1952م .

واختارت الجمعية العمومية لمحكمة استئناف القاهرة المستشار الأستاذ حسن داود ليتولي إعادة التحقيق في القضية ، وبدأ تحقيقاته في أول أكتوبر سنة 1952م وانتهي منها في 18 ديسمبر سنة 1952 . وكان المستشار حسن داود آخر من تولي التحقيق في هذه القضية بعد أن استمرت التحقيقات ثلاث سنوات وعشرة وستة أيام .

وكان جميع المتهمين قد قبض عليهم ثم تقرر إحالتهم في غرفة الاتهام التي قدمتهم إلي محطمة الجنايات أمام الدائرة المشكلة برئاسة كامل ثابت وتحدد نظرها دور يونيو سنة 1953م وتأجلت إلي دور سبتمبر .

الدائرة التي حكمت

وتنحت دائرة كامل ثابت ووكل أمر الفصل في الدعوي للدائرة التي شكلت برئاسة المستشار محمود عبد الرازق، وانتهت المحكمة من نظر القضية يوم 2 أغسطس للنطق بالحكم .

حكم المحكمة علي قتلة حسن البنا : قضت المحكمة 26 يومًا في المداولة وكتابة الحيثيات ثم أصدرت حكمها في 2 أغسطس 1954 وذلك بعد خمس سنوات وخمسة أشهر و 21 يومًا و14 ساعة و15 دقيقة من وقت وقوع الجريمة .

قضت المحكمة

أولاً : بمعاقبة أحمد حسين جاد بالأشغال الشاقة المؤبدة وكل من الباشجاويش محمد محفوظ محمد الأميرالاي محمود عبد المجيد بالأشغال الشاقة المؤبدة لمدة خمس عشرة سنة وإلزامهم بطريقة التضامن والتكافل مع الحكومة المسئولة عن الحقوق المدنية :

  1. بأن يدفعوا عشر آلاف جنيه علي سبيل التعويض للسيدة لطيفة حسين زوجة الشيخ حسن البنا وأولاده القصر منها : وهم : وفاء وأحمد سيف الدين وسناء ورجاء وهالة واستشهاد المشمولين بولاية جدهم الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا .
  2. وبأن يدفعوا للشيخ أحمد عبدالرحمن البنا والسيدة أم السعد إبراهيم صقر والدي القتيل " قرش صاغ واحد " علي سبيل التعويض المؤقت .
  3. وبأن يدفعوا للأستاذ عبد الكريم محمد منصور مبلغ ألفي جنيه علي سبيل التعويض .

ثانياً : بمعاقبة البكباشي محمد محمد الجزار بالحبس مع الشغل لمدة سنة ورفض الدعاوى المدنية قبله .

ثالثا : ببراءة كل من مصطفي محمد أبو الليل واليوزباشي عبده أرمانيوس والبكباشي حسين كامل والجاويش محمد سعيد إسماعيل ، والأومباشي حسين محمدين مع رفض الدعاوي المدنية الموجهة إليهم .

كان الحكم مفاجأة للعميد محمود عبد المجيد الذي اسند رأسه علي يديه وعلت وجهة صفرة شديدة ، وظل في مكانه بالقفص إلي أن قاده الحراس إلي السجن .

أما أحمد حسين|أحمد حسين جاد فظل يبتسم ابتسامة عريضة بعد سماع الحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة كأنه لا يدري ما حوله .

وانفجر مصطفي أبو الليل الذي حكم ببراءته باكيًا وأخرج منديله من جيبه ليجفف به دموعه .. وكان يقول إنه يبكي علي العميد محمود عبد المجيد الذي عمل معه فترة طويلة .

بعد صدور الحكم أمر جمال عبد الناصر بالإفراج الصحي عن محمود عبد المجيد 29 يونيه 1955م أي بعد عام تقريبًا من صدور الحكم .

وطعن محمد الجزار في الحكم بطريق النقض ولكن محكمة النقض قبلت الحكم شكلاً ورفضته موضوعًا، وقررت رد اعتباره بعد أن صدر حكم لصالحه من محكمة جنايات القاهرة في 25 من نوفمبر عام 1957 ، وقد اشتغل بعد ذلك بالمحاماة ثم بشركة الشرق للتأمين .

والتقي المخبران أحمد حسين جاد ومحمد محفوظ في السجن بأعضاء جماعة الإخوان الذين اعتقلهم جمال عبد الناصر أو صدرت ضدهم أحكام من المحاكم التي شكلتها الثورة .

وأفرج صحيًا عن سائق محمود عبد المجيد الرقيب محفوظ عام 1960 .

وأفرج صحيًا عن الرقيب أحمد حسين جاد في 4 من سبتمبر عام 1967، دون أن يمضي مدة العقوبة كلها ، افتتح عبده أرمانيوس محلاً لتجارة الموبيليا بعد أن أمضي عامًا في الحبس الاحتياطي ، قبل القضية ..

واختفي نص الحكم وحيثياته حتى التي كتبها رئيس المحكمة بخط يده ! .

من قتل حسن البنا ؟ .. دراسة تحليلية

إن حكم المحكمة والتحقيقات تشير إلي أن قتلة الإمام الشهيد حسن البنا هم محمود عبد المجيد وعصابته ولكن ملابسات الحادث والمستفيدين منه تدلنا علي أن محمود عبد المجيد وعصابته لم يكونوا إلا أداة أو قفازاً قذر استخدمه الفاعل الأصلي . وعلي الرغم من أن التحقيقات استمرت في حادث الاغتيال ما يقرب من أربعة سنوات كان بعضها في عهد الملك وبعضها في عهد الثورة إلا أنه لم يقدم للمحاكمة إلا هؤلاء المرتزقة .

وعلي الرغم من أن التحقيقات والأحداث كانت تشير لبعض المساعدين للفاعل الأصلي وأيضًا تشير لهذا الفاعل الأصلي إلا أن هذا الفاعل كانت له القدرة علي طمس الحقائق في العهدين ؛ عهد الملكية وعهد الثورة .

أما في عهد الملكية فلم يحاكم أحد علي الإطلاق وحفظ التحقيق في عهد إبراهيم عبد الهادي لتورطه هو ووزارته في قتل الإمام البنا . أما في عهد وزارة حسين سري وزارة الوفد فقد حفظ التحقيق لمصلحة الملك المتورط هو الآخر في هذا الحادث . أما في عهد الثورة فتم تحقيق عن طريق نائبي الأحكام ثم أسندت التحقيق إلي النيابة التي أحالت محمود عبد المجيد وزمرته إلي المحاكمة يتطرف التحقيق ولا المحاكمة للفاعل الأصلي ، فمن هو الفاعل الأصلي ؟

الفاعل الأصلي ؟

إن جريمة اغتيال الإمام الشهيد لا تنفصل عن قضية حل جماعة الإخوان ، ومن كان وراء قرار الحل هو الذي دبر لحادث الاغتيال من وراء ستار وإن لم يظهر في الصورة ، وعلي مسرح الأحداث ، وهذا معروف في الجرائم المنظمة حيث يختفي العقل المدبر للجريمة والمستفيد الأول منها خلف من هم أقل استفادة من الجريمة من القتلة المأجورين من أمثال محمود عبد المجيد وعصابته .

والفاعل الأصلي في هذه الجريمة هو القوى الاستعمارية " إنجلترا ، وأمريكا ، وفرنسا ، والصهيونية العالمية .. " أما المساعدون لهم فهم الملك ووزارة الحزب السعدي سواء وزارة النقراشي أو إبراهيم عبد الهادي الذي جاء من بعده ليتم الجريمة أما محمود عبد المجيد وزمرته فلم يكونوا سوى قفاز قذر استخدم في الجريمة . ولكي ندلل علي ما ندعيه إليك الآتي :

1– دور محمود عبد المجيد وعصابته :

لم يكن دور محمود عبد المجيد وعصابته يتعدي دور القاتل المحترف فهو لا يعرف الإمام البنا ولم تكن بينه وبينه أي خصومة لا هو ولا أحد من عصابته ، فقد جاء به عبد الرحمن عمار من " جرجا " لما عرف عنه من إجرام وانتهاك للقانون حيث كان محمود عبد المجيد يعمل حكمداراً لجرجا وكان لا يتورع عن قتل المجرمين المطلوب القبض عليهم أو المشتبه فيهم . فمن بين 18 متهمًا بالقبض عليهم قتل 15 منهم وكان لا يتورع عن التمثيل بجثث المتهمين وقد وصفه صابر طنطاوي مدير الأمن العام بأنه " رجل بلا ضمير ولا يخاف الله " .

وقد انتدبه عبد الرحمن عمار في أول أغسطس 1948 وعينه مديراً لإدارة البحث الجنائي بالوزارة ، ولما أمر بتنفيذ اغتيال الإمام الشهيد قام بندب باقي أفراد العصابة من جرجا أو من عمل معه هناك قبل .

في أول يناير ندب كلاً من البكباشي أمين حلمي والرائد حسين كامل من جرجا وندب اليوزباشي عبده أرمانيوس من الجيزة إلي إدارة البحث الجنائي .

وفي يوم 2 يناير قرر ندب مخبر الشرطة الأمباشي أحمد حسين من مباحث جرجا إلي الإدارة علي أن ينفذ النقل خلال 24 ساعة

وفي يوم 21 من يناير ندب من جرجا أيضًا المخبر حسين محمدين رضوان والباشجاويش محمد سعيد إسماعيل معلم أنه لم يسبق قبل ولا بعد ذلك ندب مخبرين من إحدى المديريات للعمل بالقاهرة عدا هؤلاء الثلاثة وكان ندب هؤلاء المخبرين يتم شخصيًَا ودون مكاتبات رسمية .

وعندما لاحظ الصول محمد البهي شرف المكلف بمراقبة حضور المخبرين في الدفاتر وتوزيع الخدمات عليهم وجود المخبرين الثلاثة وسأل عنهم قيل له : إن العقيد محمود عبد المجيد جاء بهم من سوهاج أثبت حضورهم في دفتر الإدارة ، وعندما علم محمود عبد المجيد بذلك الأمر نقل الصول محمد البهي يوم 26 يناير 1949م ونفذ النقل في اليوم ذاته .

وعلي ذلك لم يكن هناك ثمة أي نوع من المصلحة أو الفائدة التي يمكن أن تبرر ارتكاب محمود عبد المجيد جريمة اغتيال الإمام الشهيد .. اللهم إلا تنفيذ رغبات أسياده .

2 – دور الحكومة السعدية :

قامت الحكومة السعدية برئاسة النقراشي بمحاولات عديدة لاغتيال الإمام الشهيد " راجع بداية هذا الفصل " بل إن التدبير لهذه الحادثة بدأ في عهد النقراشي وليس صحيحًا أن رأس البنا كان في مقابل رأس النقراشي . فرأس البنا كان مطلوبًا لذاته لا مقابل لرأس أحد ولو كان النقراشي ، ويشهد بذلك .

  1. اغتيال كل الإخوان بعد قرار الحل ورفض اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا .
  2. ندب العقيد محمود عبد المجيد للعمل بوزارة الداخلية تم في أول أغسطس 1948 وقيل اغتيال النقراشي بقرابة الأربعة أشهر
  3. عندما أراد الإمام البنا أن يذهب إلي الحج ألغي مفتش الجوازات جميع الدول المرح له بالسفر إليها ، واكتفي منها بالسعودية وعندما سافر إلي السعودية للحج أبرقت وزارة الداخلية إلي القنصل المصري في جدة بعدم السماح للبنا بالسفر إلي آية دولة عربية أخري وكان ذلك في 23 من سبتمبر سنة 1948م .
  4. ما ذكره " الماجور سانسوم " ضابط الأمن بالسفارة البريطانية في مذكراته " إن كل الإجراءات التي اتخذت لمنع المظاهرات بعد الاغتيال وفي الجنازة تم تخطيطها قبل عدة أسابيع " .

أما بعد تولي إبراهيم عبد الهادي السلطة فقد كشفت عن وجهها القبيح واتخذت من الإجراءات ما يسهل عملية الاغتيال " راجع الإجراءات التي اتخذت لإتمام حادث الاغتيال " وبعد حادث الاغتيال حاولت الحكومة تضليل العدالة وتسترت علي القتلة علي هذا النحو :

  1. فقد اتهم عبد الرحمن عمار الإخوان المسلمين بقتل مرشدهم وصرح لجريدة الأساس جريدة الحزب السعدي بأن " النار بدأت تأكل بعضها " .
  2. لم يفت الحكومة أن تصرح بأن الإخوان قتلوا الإمام يحيي إمام اليمن وأن قتلة الإمام البنا يمنيون أخذوا بالثأر .
  3. وقد كافأت إدارة الجنايات محمود عبد المجيد علي جهوده في " جرجا " عام 1946م وقررت مكافأته بمبلغ 300 جنيه وعند عرض الأمر علي عبد الرحمن عمار رفع المكافأة إلي 600 جنيه .
  4. وزراء الأمباشي أحمد حسين حرم النقراشي فقدمت إليه هدية عبارة عم صورة لقرينها الراحل مكتوب عليها " هدية مني إلي البطل الأمباشي أحمد حسين " وأهدته قطعتين من الصوف الإنجليز وحقيبة بداخل ملابس حريرية لزوجته ، ورزمة أوراق مالية مجموعها 400 جنيه .
  5. مصادر الحكومة " لجريدة المصري " التي نشرت رقم السيارة الصحيح الذي فر بها الجناة ، وتحويل مرسي الشافعي ومحيي الدين فكرى إلي نيابة الصحافة للتحقيق معهما لنشرهم الخبر ، ولأن بعض الأعداد أفلتت من الرقابة ووصلت إلي أيدي القراء .
  6. كان هناك شاهد علي الحادث وهو شاب أسمر أبلغ نقطة بوليس " كوتسيكا " بشارع " معروف " برقم سيارة الجناة وقال إنه شاهدهما فإنه يمكنه التعرف عليهما ، فتحفظ عليه حتى جاء الصاغ توفيق السعيد من القلم السياسي إلي نقطة كوتسيكا وقام بتهديده وأوسعه ضربًا وهدده بأن سيحاكم بتهمة إحراز سلاح بدون ترخيص ، وقد أشرف علي تعذيبه بعد ذلك العقيد محمود عبد المجيد بنفسه ولم يظهر لهذا الشاب أثر بعد ذلك .

3 – دور القصر :

لقد بارك القصر قتل حسن البنا لأن فاروق كان يري في الإمام الشهيد الملك الجديد ، وكان يري في الإخوان أنهم العدو اللدود له ، وذلك بعد انتشار فضائحه ومخازيه وتمثلت مباركة القصر في هذه الأمور :

  1. استمرار التستر علي الجريمة وعدم تقديم الجناة للمحاكمة طوال أيام الملك ، حتى إن حزب الوفد الذي كان في دعايته الانتخابية يطالب بتقديم الجناة للمحاكمة ، وعندما تولي الحكم لم يتقدم التحقيق قيد أنملة ، وما كان حزب الوفد ليتستر علي جريمة يتورط فيها السعديون وحدهم ولكن لابد من وجود قوى أكبر هي التي جعلت حزب الوفد يتخذ هذا الموقف .
  2. تمتع محمود عبد المجيد بالحماية الملكية حتى نهاية عهد فاروق وقد أنعم عليه الملك في 4 يوليو 1949م برتبة البكوية من الدرجة الثانية لما يبديه من جهود في خدمة الأمن ثم عين محمود عبد المجيد بعد ذلك مديراً لجرجا في 3 من أبريل 1952م
  3. إقرار محمد الجزار ضابط البوليس السياسي بأن عبد الرحمن عمار أمر ضابط القسم السياسي بإخفاء رقم سيارة الأميرالاي عبد المجيد لأن الأمر يهم السراي .
  4. متابعة البوليس السياسي للقضية وذهاب محمد وصفي إلي قصر العيني حتى يتم الجريمة ويتأكد من وفاة الإمام الشهيد : " وقال محمد حسن الأمين الخاص للملك فاروق في التحقيقات التي جرت بعد الثورة : سمعت محمد وصفي وهو يتحدث إلي أحمد كامل قائد شرطة القصر الملكي ويقول له : بعد إصابة حسن البنا رحت المستشفي لأخلص عليه إذا كان حيًا "ويقول يوسف رشاد الذي كان يعمل كبيراً لأطباء البحوث الملكية عام 1941م : سمعت من زميلي أحمد شكيب الطبيب الشرعي الذي أجري الصفة التشريعية للبنا أن البنا ترك ليموت بالنزيف من الشريان ، وكان يمكن إيقاف النزيف وإنقاذ حياته بمبضع بسيط .
  5. اتصال الملك بالدكتور يوسف رشاد في التاسعة من يوم الحادث وأبلغه باغتيال الإمام البنا في لهجة تدل علي فرحته وارتياحه للحادث قائلاً : " حسن البنا ضرب بالرصاص وحالته خطرة ، ولكن لم يمت بعد " ، ثم قام الملك بإبلاغ حسن يوسف وكيل الديوان بالخبر في منزله .
  6. ذهاب الملك فاروق بنفسه إلي مستشفي قصر العيني في ليلة الحادث للتأكد من وفاة الإمام الشهيد حسن البنا هو ورجاله وحاشيته والبوليس السياسي ، ولما تأكد من وفاة الإمام غادر المستشفي .
  7. ويقول " الماجور سانسوم " ضابط أمن السفارة البريطانية :" قرر رجال البلاط الملكي والحكومة اغتيال البنا بعد مصرع النقراشي ولم يكن هذا قراراً جديداً " ، أي إنه اتخذ قبل مقتل النقراشي .

4 – دور القوى الاستعمارية :

يعتبر الاستعمار هو الفاعل الأصلي وصاحب المصلحة الكبرى في مقتل حسن البنا ، ومحاولة تحطيم جماعة الإخوان المسلمين ، ونقصد بالقوى الاستعمارية هنا " إنجلترا وأمريكا وفرنسا " وذلك لما مثله وجود الإخوان من تهديد لمصالح تلك الدول .

فقد كان المركز العام للإخوان مكانًا لتجمع وانطلاق حركة التحرر في جميع الدول العربية والإسلامية التي كانت تحتلها تلك الدول أو التي كانت تهيمن عليها وتوجهها دون احتلال عسكري .

وأما أمريكا فبعد الحرب العالمية الثانية أصبحت هي الوريث لهذه القوى الاستعمارية وبدأت تنشط في المنطقة العربية والإسلامية تبحث لنفسها عن موطن لقدم ولو علي حساب حلفائها وقد بدأ تدخل وأمريكا في شئون مصر من بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة ، حيث عرضت وأمريكا علي الملك في عام 1945م مشروعًا للإصلاح الزراعي وهو نفسه المشروع الذي عرضته علي حكام ثورة يوليو ، وكان هدفهم إصلاح صورة الملك وتحقيق مصالحهم من خلاله ، فلما تبين لهم استحالة إصلاح الملك بدأ وأمريكا يتحركون في اتجاه ضباط الجيش فوجدوا أن الإخوان قد سبقوهم في هذا الاتجاه حين كان المرحوم الصاغ محمود لبيب يقوم بهذا الدور .

وقد برزت قوة الإخوان في حدثين أثارا إزعاج كل الدوائر الاستعمارية والصهيونية ، أما الحدث الأول فهو تدخل الإخوان في اليمن ، والثاني كان تدخل الإخوان في حرب فلسطين عام 1948م ، وفي الحالتين كان تدخل الإخوان عمليًا وليس بالدعاية والخطب مما أربك مخططات تلك الدول فطالبوا بحل الإخوان ونصحوا بقتل الإمام البنا وقد شاركنا في هذه الوجهة الكثير من الكتاب .

ويقول الدكتور محمد السيد الوكيل : " لقد حاول الاستعمار صرف حسن البنا عن غايته عن طريق المرأة والمال والجاه كما يقول روبير جاكسون ولكن ذلك كله لم يفلح معه وكان الاستعمار الصليبي واليهودي يعلم أن غاية حسن البنا إعادة مجد الإسلام والخلافة الإسلامية ، وطرد الاستعمار وملاحقته وغزوه علي أرضه ، ولن يتم كل ذلك إلا بضرب الإنجليز وطردهم من مصر وطرد اليهود من فلسطين ، لذلك عزم الاستعمار وأذنابه أن يقبضوا علي هذا الرجل ظنًا منهم أن بموته تموت دعوته .

ولسنا هنا في محل استقصاء هذه الآراء ولكننا في محل ذكر التدليل علي ما نقول :

أولا : إن القرار حل الإخوان قد صدر بناء علي طلب من سفراء إنجلترا وأمريكا وفرنسا.

ففي 10/11/1948م اجتمع سفراء إنجلترا وأمريكا وفرنسا في فايد ، وقرروا اتخاذ الإجراءات اللازمة بواسطة السفارة في القاهرة لحل جمعية الإخوان المسلمين التي فهم أن حوادث الانفجارات الأخيرة في القاهرة قد قام بها أعضاؤها ، وأرسلت هذه الإفادة إلي رئيس المخابرات تحت رقم 13 في 13/11/1948م وترجمة الخطاب كالآتي :

الموضوع اجتماع سفراء صاحب الجلالة البريطانية وأمريكا وفرنسا في فايد في 10/11/1948 ، رقم القيد 1843/ 1س/48 ، التاريخ 13/11/1948 ، إلي رئيس المخابرات رقم 13 : " فيما يختص بالاجتماع الذي عقد في فايد في 10 الجاري بحضور سفراء صاحب الجلالة البريطانية وأمريكا وفرنسا أخطر أنه ستتخذ الإجراءات الازمة بواسطة السفارة البريطانية في القاهرة لحل جمعية الإخوان المسلمين ، التي فهم أن حوادث الانفجارات الأخيرة في القاهرة قام بها أعضاؤها " .

إمضاء / ج .د . أوبريان

وفي 20/11/1948 أرسل رئيس إدارة المخابرات فرع ( أ ) بقيادة القوات البريطانية بالشرق الأوسط إلي إدارة المخابرات ج . س – 13 في القيادة العليا للقوات البريطانية في مصر خطابًا هذه ترجمته الحرفية :

الموضوع : جمعية الإخوان المسلمين .

رقم القيد : 1670/ أ ن ت ب 11120/ 1948 إلي إدارة ج – س – 13 .

القيادة العليا للقوات البريطانية في مصر والشرق الأوسط .

  1. بخـصـوص مـذكـرتكم رقم 734/ أ ن ت أ ب/ 38 المؤرخـة في 17/11/1948 .
  2. لقد أخطرت هذه القيادة العليا رسميًا من سفارة صاحب الجلالة البريطانية بالقاهرة ، أن خطوات دبلوماسية ستتخذ بقصد إقناع السلطات المصرية بحل جمعية الإخوان المسلمين في أسرع وقت ممكن .

وفيما يتعلق بالتقارير التي كانت قد رفعت من الرعايا الأجانب المقيمين فقد أرسلت لوزارة الخارجية للعلم .

التوقيع

رئيس إدارة حرف أ في الشرق الأوسط كولونيل أ . م . ماك درموث

وبناء علي ذلك أبلغت السفارة البريطانية النقراشي بهذا القرار المطلوب وهو حل جماعة الإخوان المسلمين في أسرع وقت ممكن ، وكان ذلك مصحوبًا بتبليغ " بأنه في حالة عدم حل الإخوان المسلمين فستعود القوات البريطانية إلي احتلال القاهرة والإسكندرية ".

فاستدعى رئيس الوزارة محمود فهمي النقراشي والذي كان يشغل أيضًا منصب وزير الداخلية وقتئذ اللواء عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية وشرح له الأمر ، وهو طلب السفارة البريطانية حل جمعية الإخوان المسلمين وإلا احتلوا القاهرة والإسكندرية.

وطلب منه كتابة مذكرة تبرر حل جمعية الإخوان المسلمين أمام الرأي العام ، حتى لا يظهر أنه ينفذ ما طلبته السفارة البريطانية من تدخل سافر في الشئون الداخلية لمصر ، وهي دولة مستقلة ذات سيادة من الناحية الرسمية ! !

تعهد اللواء عبد الرحمن بذلك ، واتصل بالمديرين وطلب منهم أن يوافوه بالحوادث التي كان الإخوان المسلمين طرفًا فيها ولو كانوا مجنيًا عليهم ، وقد ثبت هذا في شهادته أمام محكمة الجنايات في قضية مقتل النقراشي .

ثانيُا : ما ذكره " الماجور سانسوم " ضابط الأمن بالسفارة البريطانية في مذكراته " إن كل الإجراءات التي اتخذت لمنع المظاهرات بعد الاغتيال وفي الجنازة تم تخطيطها قبل عدة أسابيع " .

فمن أطلعه علي ذلك إلا أن تكون سفارته شاركت في هذا الأمر ! ! .

ثالثًا : في مقابلة بين " تشابمان آند روز " الوزير البريطاني المفوض وكريم ثابت المستشار الصحفي لفاروق ، ويدور الحديث حول الوزارة الجديدة بعد مقتل النقراشي ويرى آند روز أن الوزارة لابد أن يشارك فيها حزب الوفد ، ويقرر أن بريطانيا قد بذلت مساعي كبيرة لإشراك حزب الوفد في الوزارة وذلك حتى تتم الوزارة مهمتها بنجاح . وقد لخص آند روز مهمة الوزارة حيث قال : " المهمة الرئيسية للحكومة الحالية هي تحطيم الإخوان " .

رابعًا : عندما علم محمد وصفي قائد حرس الوزارات – وكان من المشاركين في اغتيال الإمام الشهيد – بأن تحقيقات الثورة في مقتل الإمام الشهيد تناولته لجأ إلي السفارة البريطانية طالبًا حق اللجوء السياسي ، وأيد الماجور سانسوم ضابط أمن السفارة طلبه وقال للسفير : " أنقذوا حياة هذا الرجل الذي ساعدنا كثيرًا " ولكن السفارة والخارجية البريطانية رفضت ذلك ، فانتحر محمد وصفي بتناول كمية من الحبوب المنومة مؤثرًا الموت علي مواجهة الموقف .

خامسًا : الاهتمام البالغ للسفارة الأمريكية والبريطانية بآثار قرار الحل والتابعة الدقيقة لحادث الاغتيال ونقل ردود الأفعال وما يقال حول الاغتيال في تقارير رسمية من السفارتين إلي دولتيهما .

سادسًا : وفي عام 1948م وبعد الهدنة الثانية عقد " موشى ديان " مؤتمرًا صحفيًا في أمريكا وفيه سأله أحد الصحفيين : هل يستطيع أن يضمن بقاء إسرائيل وسط دول كثيرة تعاديها وتضمر لها الشر ؟ فأجاب موشى ديان : إن إسرائيل لا تخشى لقاء هذه الدول مجتمعة أو متفرقة فهي كفيلة بهزيمتهم ، ولكنها تكره أن تلقي فئة واحدة فقط وهم الإخوان المسلمون وستكفينا حكومتهم مؤونتهم.

سابعًا : الفرحة الغامرة التي عمت أمريكا وشرب الأمريكان أنخاب الخمر عندما سمعوا بمقتل الإمام الشهيد حسن البنا كما روى ذلك الشهيد سيد قطب .

ثامنًا : عندما قامت الثورة في 23 يوليو كان أول إجراء اتخذته الثورة هو إعادة التحقيق في قضية حسن البنا حيث قبض علي الجزار 25 يوليو قبل طرد الملك وبدأ التحقيق مع المتهمين من قبل محكمة الثورة ولكن بعد أقل من شهر وبالتحديد في 17 أغسطس 1952م تم تحويل القضية إلي النيابة العامة .

فمن نصح الثورة بذلك أو ضغط عليهم مع الوضع في الاعتبار أنه في هذه الفترة القصيرة لم يحدث ما يعكر صفو العلاقة بين الإخوان والثورة , بل إن جميع الإخوان تقريبًا كانوا يعتبرون أن هذه الثورة ثورتهم .


صورة الإمام حسن البنا
الإمام حسن البنا.jpg
صور عائلة البنا
صور الإمام حسن البنا
صور حسن البنا الجزء الأول
 

حسن البنا

-.البنا-الحج

حسن البنا

001-الإمام-البنا-مع-علي-ماهر-باشا

حسن البنا

002الشيخ-أحمد-عبد-الرحمن-البنا-والد-الإمام-الشهيد

حسن البنا

17-الإمام-البنا-يخطب-بالأزهر-في-المؤتمر

حسن البنا

Copy-of-الإمام-الشهيد-حسن-البنا-وربير-جاكسون

حسن البنا

الاستاذ-حسن-البنا-عضو-في-لجنة-مساعدة--المشردين-بفلسطين

حسن البنا

الأستاذ-حسن-البنا-والصاغ-محمود--لبيب-وكبار-رجال-السياسة

حسن البنا

الأستاذ-حسن-البنا-وغخوانه-في-مظاهرة-من-اجل-فلسطين-عام-1947م-وقد-اصيب

حسن البنا

الإمام-البنا-في-السويس

حسن البنا

الإمام-البنا-في-معسكر-حلوان-للجوالة-وبجواره-الأستاذ-فريد-عبد-الخالق-سبتمبر-1946

حسن البنا

الإمام-البنا-متحدثا-وسط-إخوانه

حسن البنا

الإمام-البنا-وأعيان-سوريا-01

حسن البنا

الإمام-حسن-البنا-شابا

حسن البنا

الإمام-البنا-وسعد-الدين-الوليلي-وعباس-السيسي-الثالث-من-اليمين

حسن البنا

الإمام-البنا-يستعرض-مجاهدي-الإخوان-في-فلسطين

حسن البنا

الإمام-الشهيد-حسن-البنا-06

حسن البنا

الإمام-الشهيد-حسن-البنا-بغزة

حسن البنا

الإمام-الشهيد-حسن-البنا-عند-تخرجه

حسن البنا

أم-السعد-صقر-والدة-الإمام-البنا

حسن البنا

أخر-صورة-للإمام-الشهيد-حسن-البنا-قبل-استشهاده


للمزيد:

صور حسن البنا الجزء الأول..|..صور حسن البنا الجزء الثاني..|..صور حسن البنا الجزء الثالث..|..صور حسن البنا الجزء الرابع..|..صور حسن البنا الجزء الخامس..|..صور حسن البنا الجزء السادس..|..صور حسن البنا الجزء السابع..|..صور حسن البنا الجزء الثامن

وثيقة التعريف

للتكبير إضغط على الصورة

Ikhwan150.jpg


التعريف-بالإخوان-بقلم-حسن-البنا-02.jpg


البنا والقضية الفلسطينية

إضغط على الصورة للتكبير

"إن الدماء التي خضبت أرض فلسطين .. وإن آلاف الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل المثل الإسلامي الأعلى .. وإن المسجد الأقصى الذي انتهكت حرمته .. كل أولئك يهيبك أيها الأخ المسلم أن تبذل في سبيل الله ما وهبك من روح ومال لتكون جديراً بالاسم الذي تحمل، وباللواء الذي ترفع وبالزعيم الذي أنت به مؤمن .."."ما دام فيفلسطين يهودي واحد يقاتل فإن مهمة الإخوان لن تنته"

حسن البنا

حظيت القضية الفلسطينية من الإمام الشهيد حسن البنا باهتمامٍ بالغٍ، حتى لا تُذكر فلسطين إلا ويُذكر معها الإمام وجهاد الإخوان المسلمين.

إن فلسطين تضم الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومهد الرسالات السماوية، وأرض المعارك الإسلامية المجيدة التي لا توجد فيها ذرة رملٍ واحدةٍ إلا وقد رُويت بدماء الصحابة والتابعين والمجاهدين من السلف.

كيف لا .. وهي جزءٌ من العقيدة الإسلامية وملكٌ لجميع المسلمين، وقطعةٌ من الوطن الإسلامي غاليةٌ لا يجوز التفريط في شبرٍ واحدٍ منها؟!.

ولقد عبَّر الإمام الشهيد عن ذلك بقوله:

"فلسطين تحتل من نفوسنا موضعًا روحيًّا وقدسيًّا فوق المعنى الوطني المجرد؛ إذ تهب علينا منها نسمات بيت المقدس المباركة، وبركات النبيين والصديقين، ومهد السيد المسيح عليه السلام وفي كل ذلك ما ينعش النفوس ويُغذي الأرواح".

الإمام البنا يعلن فتح باب التطوع للجهاد فىفلسطين

عندما أعلن الإمام الشهيد حسن البنا عن فتح بقاب التطوع لسفر المجاهدين إلى فلسطين سنة 1948م حدد أسبقية التطوع بالشروط الآتية:

  1. أن يكون شابا غير متزوج.
  2. ألا يكون مسئولا عن كفالة أسرة.
  3. ألا يقبل من الأسرة غير فردا واحدا.

وقد تقدم للتطوع الشقيقان عبد السميع علي قنديل وعبد المنعم علي قـنديل من قرية أولاد علام - جيزة - وعندما عرض الأمر على الإمام الشهيد قال لهم: اتفقا على سفر واحد منكما حتى نسمح له بالتطوع فاختلف الشقيقان وتمسك كل منهما بحقه فى التطوع فطلب منهما إحضار والدهما ليختار واحدا منهما...

تابع القراءة

البنا والفن

ربما يستغرب القارئ للوهلة الأولى من عنوان الفصل ، فما شأن حسن البنا والفن ؟ وهل فعلاً كان للبنا تجربة في الفن ؟ وهل هذه التجربة ثرية لدرجة أن تتناول ، ويوجد فيها مادة تجعلها جديرة بالبحث ؟

هذه الأسئلة التي ربما يثيرها عقل القارئ ، أثارها عقلي عند دراسة للموضوع عند الإمام البنا رحمه الله ،ولكني بعد أن انقدحت محاور الموضوع في رأسي رأيت أنه بالفعل موضوع حري بأن يبحث ،وأن يناقش ويثار ، وهو من الموضوعات القلائل التي نأى الباحثون بأنفسهم وأقلامهم عن البحث فيها ، إما لوضع نتائج مسبقة قبل البحث بأن علاقة البنا بالفن لن تتجاوز حدود إصدار فتوى ، أو العروج من قريب أو بعيد بالفن من حيث الحل والحرمة لا أكثر .

لم يقف البنا من الفن مجرد المنظر أو مبدي الرأي الفقهي ، أو الداعي نظرياً إلى تبني الفن ، دون الولوج إلى ذلك عملياً ، بل ربما سبق عند البنا جانب التطبيق الجانب التنظيري ، وليس معنى ذلك أن البنا لم يكن معنياً بذلك ، بل لم يكن معنياً بالوقوف كثيراً عند الإسهاب في التنظير ، ما دام قد اقتنع بشرعية فعل الشيء.

وهذا ما حدث مع الأستاذ البنا رحمه الله ، فقد جعل للفن مساحة ليست بالصغيرة في جماعة الإخوان المسلمين ، فأنشأ فرقة مسرحية بل فرقاً مسرحية لعل أبرزها وأشهرها فرقة القاهرة ، فقد أنشأ الأستاذ البنا في معظم شعب الإخوان المسلمين فرقاص مسرحية ، كشعبة السيدة عائشة ، والتي قدمت عدداً من المسرحيات للناس ، منها ما هو تاريخي ، ومنها ما هو خلقي ، ومعظمها كان من اللون الفكاهي النظيف الراقي .

علاقة البنا بالفنانين

كما كوّن البنا علاقة بالفنانين الذين تيسّر له الوصول إليهم ، فقد كان يتعامل مع الفنانين بروح أخرى غير ما كان يتعامل بها معظم إسلامي عصره ، وهي روح المقاطعة وعدم إقامة أي علاقة معهم ، ولا حتى الحرص على السلام عليهم ، بل السخرية أحياناً والتنقٌص من امتهانهم للتمثيل ، على عكس البنا رحمه الله.

فقد أقام البنا علاقات مع الفنانين ، تركت أثراً طيباً عن دعوة الإخوان في نفوسهم ، سواء كانت العلاقة بلقاء عابر لا يفوته فيه غرس معنى من معاني الإسلام الحسنة ، أو بإقامة علاقة تواد وتودد معه ، أو بظهور الدعوة أمامه بمظهر لا يدعوه للريبة من حملتها ، أذكر من هؤلاء الفنانين ثلاثة فقط ، هو ما وصلت إليه من خلال بحثي وتنقيبي في هذا الأمر ، إضافة إلى أعضاء فرقة مسرح الإخوان المسلمين مع الفنانين .

أنور وجدى

أما أولهم فهو الفنان أنور وجدي ، الذي كان له صيت ذائع في فترة الأربعينيات من القرن العشرين، والذي كان يلقب بفتى الشاشة، وله جمهوره المتابع لفنه،

يقول الدكتور محمود عساف:

( في يوم من أيام صيف عام 1945م ، وكان الجو صحواً ونسمة خفيفة تداعب الشجر في ميدان الحلمية الجديدة ، ذهبت إلى الأستاذ الإمام كعادتي كل يوم أتلقى تعليماته فيما يتصل بالمعلومات ، وكان في ذلك الوقت غير مشغول بضيوف أو أعمال لها صفة الإستعجال، قال لي : قم بنا لنذهب إلى البنك العربي لنفتح حساب للإخوان هناك " إذ لم يكن للإخوان حساب بأي بنك حتى ذلك الوقت" .
توجهنا إلى مكتب رئيس البنك وكان يتبع سياسة الباب المفتوح للعملاء، ويستطيع أي عميل أن يدخل إليه بغير استئذان، دخلنا وألقينا السلام ، وجلسنا على أريكة ، وكان هناك رجل جالس على مقعد مجاور للمكتب وظهره منحرف نحونا ...تابع القراءة
ملفات مهمة للإمام البنا

ملفات مهمة للإمام البنا


كتب هامة متعلقة بالإمام البنا

كلمات خالدة للإمام حسن البنا

متعلقات أخرى للإمام البنا

كلمات عن الإمام حسن البنا

مقالات متعلقة بالإمام البنا

وصلات فيديو للامام حسن البنا