مع الإمام الشهيد حسن البنا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مع الإمام الشهيد حسن البنا
غلاف كتاب مع الإمام الشهيد حسن البنا.jpg

تأليف الدكتور محمود عساف (1413 ه – 1993م)


مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا "

صدق الله العظيم


في جلسه هادئة في منزل ابنتي في مدينة برلين يوم 16 / 8 / 1992 , بدأت تنظيم أفكاري حول هذا الكتاب وتسطيرها . . فقد طلب إلى كثير من الإخوان في مصر والبلاد العربية منذ سنوات أن أكتب ذكرياتي مع الإمام الشهيد حسن البنا , لم يعلموه من عمق الصلة بينه وبيني , وملازمتي له في فترة تعد من أخطر الفترات التي مرت بها الدعوة الإسلامية متمثلة في الإخوان المسلمين : فكرا وسلوكا وعملا , حيث كنت أعمل أمينا للمعلومات عنده , متطوعا بغير أجر كما هو شأن الإخوان جميعا . . , إلا القليل ممن تفرغوا للعمل معه وكان لا بد من حصولهم على أجر .

أردت بهذه الذكريات أن أبين لجيل اليوم من الشباب الفائر الثائر , الذي لم يجد ما يملأ به فراغه الروحي والنفسي , فاستجاب – عن جهل وحسن نية – إلى دعاوي باطلة وتأويلات خاطئة وأفكار هدامة , ملأ أذهانهم بها متعصبون ومتطرفون ليسوا من الإسلام الذي تعلمناه على يد حسن البنا في شيء , ذلك الإسلام الحق الذي نادي به رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أردت أن أقدم كذلك لهذا الجيل : حسن البنا الذي ظلمه التاريخ الحديث , فأهمل ذكره تحت ضغوط العلمانيين وأصحاب الأفكار الهدامة ممن لا يزالون يسيطر بعضهم على وسائل الإعلام في العالم العربي والإسلامي .

أقدم شخصيته وأفكاره من خلال أحداث قصيرة متفرقة , يتلمسها القارئ دون أن أنبهه إليها .

لم يكن حسن البنا مجرد داعية إسلامي يدعو إلى السلفية فحسب , بل كان مؤسس أمة متآلفة متآخية , مقتفيا خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أسس أمة المسلمين في المدينة على أنقاض جاهلية عقيمة ممقوتة .

فإلى هؤلاء الذين تلقوا تعاليم الإسلام بطريقة خاطئة ومغرضة , واقتفوا أثر ما أشيع عن النظام الخاص للإخوان المسلمين من إرهاب نسب

إلى النظام زورا إلى أولئك الذين نسوا قول الله تعالى : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن . . . "

إلى الذين يهاجمون دعوة الإخوان عن جهل أو سوء قصد . والى الذين يهاجمون السلفية وهم لا يعرفون معناها .

والذين يريدون أن يحرموا الدعاة إلى الإسلام من العمل بالسياسة , في حين أن السياسة بمعنى شئون الوطن , لا بد وأن تكون في أولى اهتمامات كل مواطن . . إلى الذين اخترعوا عبارة " الإسلام السياسي " ليتهموا الإسلاميين باستغلال الدين لصالح السياسة , وهم لا يعلمون أن الإسلام دين ودولة , عبادة وحياة .

إلى الذين يعيبون على الإخوان مطالبتهم بتطبيق شريعة الله التي أنزل في كتبه السماوية وكانت أساسا قامت عليه الدولة الإسلامية في أزهى عصورها . .

إلى الذين يعتقدون أن تطبيق الشريعة يسلب غير المسلمين شيئا من حقوقهم التي كفلها لهم الإسلام . .

إلى الذين يعتبرون الأصولية سبة على جبين الإسلاميين , وتناسوا أن معنى الأصولية في الإسلام هي العودة للقران والسنة , وتأثروا بالفكر الغربي الذي يعتبر الأصولية تطرفا مسمدين ذلك من سلوك راسب وتين ومحاكم التفتيش .

والى أولئك الذين يتظاهرون بالعمل على نشر دعوة الإسلام وهم لا يفقهون أصولها وفلسفتها . . . والى المؤرخين والأدباء الذين أهملوا حسن البنا وأثره في تاريخ الإسلام الحديث وتناسوا ذكره .

لكل هؤلاء وأولئك أقدم كتابي هذا لعلنا نفهم مبادئ حسن البنا مجسدة في فكره وشخصيته .

ولقد بدأت كتابي هذا مسجلا بعض أحداث الفترة التي عايشت فيها الإمام الشهيد سواء قبل حل الجماعة على يد الحزب السعدي , أو أثناء اعتقالات عام 1948 / 1949 , وأوضحت ما للنظام الخاص للإخوان المسلمين وما عليه , مبينا الفلسفة التي قام عليها والهدف من إنشائه , من خلال قصص قصيرة وأحداث لا زال النظام يهاجم من خلالها , ثم بينت ما خفي على الجيل الحالي من أمور تتعلق بصحافة الإخوان , ثم أوضحت بعض ما لا يعرفه جيل اليوم من فكر الإمام الشهيد , وأتبعت ذلك ببعض الذكريات عما حدث معي بعد الإمام الشهيد , والتي كنت أتمثل خلقه وسلوكه وأطبق تعليماته أثناءها , وأنهيت الكتاب بذكريات ما قبل معرفتي بالإخوان , وما كان ينتابني وينتاب غيري من الشباب من ملل مبعثه الفراغ الديني والنفسي .

أسأل الله أن يثيبنا على قدر نياتنا , وأن ينفعنا وينفع بنا أمة الإسلام . . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

الباب الأول

كنت معه

قال اللواء كمال عبد الرازق وهو على فراش الموت بمستشفى العجوزة لصديق له جالس إلى جوار فراشه , وذلك عندما راني أدخل عليه زائرا :

" ما من مرة ذهبنا ونحن طلاب بكلية البوليس للالتقاء بالإمام الشهيد , إلا ووجدنا محمود عساف معه " .

وقال الأستاذ سيف الإسلام البنا يقدمني إلى رئيس الجماعة الإسلامية : ( وهي حزب كبير في باكستان ) الدكتور محمود عساف . . كان الوالد يحبه كثيرا . "

الفصل الأول :أحداث متفرقة

هذه أحداث عالقة بذاكرتي , لم أرتبها حسب تواريخها , فليس القصد من هذا الكتاب أن يروي تاريخ الإخوان , بل قصدت أن أعرض أحداثا لا يكاد يعرفها غيري , على هيئة قصص قصيرة بأسلوب بسيط , متوخيا الحقائق وحدها .

من هذه الأحداث يستطيع القارئ أن يتعرف على حقيقة دعوة الإخوان المسلمين , ويستشف فكر وشخصية الإمام الشهيد حسن البنا .

سكرتير السفارة الأمريكية

فيليب أيرلاند , السكرتير الأول للسفارة الأمريكية , أرسل مبعوثنا من قبله للأستاذ الإمام كي يحدد له موعدنا لمقابلته بدار الإخوان , وافق الأستاذ على المقابلة , ولكنه فضل أن تكون في بيت أيرلاند حيث أن المركز العام مراقب من القلم السياسي , وسوف يؤولون تلك المقابلة ويفسرونها تفسيرا مغلوطا ليس في صالح الإخوان .

اصطحبني الأستاذ معه , كما اصطحب الأخ محمد الحلوجي الذي كان مترجما فوريا ممتازا , وذهبنا إلى دار أيرلاند في شقة عليا بعمارة الزمالك .

وبعد التحيات دخل أيرلاند في الموضوع فقال بلغة عربية سليمة , جعلت الأخ الجلوحي يجلس مستمعا فقط :

إن موقفكم من الشيوعية معروف لنا , ولقد عبرتم كثيرا أن الشيوعية الحاد يجب محاربته , واطلعت على مقال في جريدتكم اليومية يهاجم الشيوعية باعتبارها مذهبا هداما يحرض على الثورة المسلحة , وتلك هي سبيل الشيوعيين في كل مكان , وطريقهم معروف , وهو نشر الإباحية التي تستهوي كثير من الشباب , ولقد قلتم في تصريحاتكم العلنية أن الحل لتلافي أخطار الفكر الشيوعي المنحرف هو الإصلاح الاقتصادي وتحديد الملكية الزراعية وزيادة الإنتاج القومي والعودة إلى تعاليم الإسلام , وأن الأساليب البوليسية لن تجدي في محاربة الشيوعية , بل ستزيد الشيوعيين إصرارا وتجعل الناس يتعاطفون معهم باعتبارهم معتدى عليهم .

قال الإمام: إن الشيوعية التي بدأت تنتشر في بلادنا العربية , تعتبر خطرا كبيرا على شعوب المنطقة شأنها في ذلك شأن الصهيونية , بل هي أخطر في المدى الكبير , ولدينا معلومات كثيرة عن التنظيمات الشيوعية في مصر.

قال أيرلاند : لقد طلبت مقابلتكم حيث خطرت لي فكرة , وهي لماذا لا يتم التعاون بيننا وبينكم في محاربة هذا العدو المشترك وهو الشيوعية ؟ أنتم برجالكم ومعلوماتكم , ونحن بمعلوماتنا وأموالنا .

قال الإمام: فكرة التعاون فكرة جيدة , غير أن الأموال لا محل لها لأننا ندافع عن عقيدتنا ولا نتقاضى أجرا على ذلك , غير أن هناك نقطة هامة , وهي أنه إذا كانت مصلحتنا مشتركة في محاربة الشيوعية , فان أهدافنا مختلفة , أنتم تحاربوها لأسباب مذهبية وسياسية , ونحن نحاربها لما فيها من الحاد . ولكن لا مانع لدينا من مساعدتكم بأن نمدكم بالمعلومات المتوافرة عنها . وحبذا لو فكرتم في أنشاء مكتب لمحاربة الشيوعية , فحينئذ نستطيع أن نعيركم بعض رجالنا المتخصصين في هذا الأمر , على أن يكون ذلك بعيدا عنا بصفة رسمية , ولكم أن تعاملوا هؤلاء الرجال بما ترونه ملائما دون تدخل من جانبنا غير التصريح لهم بالعمل معكم . ولك أن تتصل بمحمود عساف فهو المختص بهذا الأمر إذا وافقتم على هذه الفكرة . ويجرني هذا الموضوع إلى موضوع آخر , وهو أنكم تؤيدون الصهيونية , وهذا أمر يوجد جفوة بيننا وبينكم . وأنكم تظنون أن منحكم المال لبعض الأحزاب المصرية سيعينكم على تحقيق مآربكم . لهذا سأكون صريحا معك . . نحن لا تهمنا أموالكم ولا نتقاضى أجرا من أحد عندما نعمل لصالح دعوتنا .

وانفض الاجتماع , ولم يتصل بي أيرلاند أو غيره بعد ذلك من طرف السفارة الأمريكية .

ملحوظة :

وردت هذه الواقعة في كتاب الأستاذ محسن محمد " من قتل حسن البنا " نقلا عن الخطابات المتبادلة بين السفارة والخارجية الأمريكية , والتي أفرج عنها بعد مرور المدة المقررة , ولكن بطريقة مغلوطة باعتبار أن الإمام البنا هو الذي سعى إلى تلك المقابلة . وهذا غير صحيح .


جواسيس الملك

كان للملك أكثر من مكتب للمخابرات الخاصة به , علاوة على الأجهزة الرسمية التي كانت تمده بالمعلومات كالمخابرات العامة والمخابرات العسكرية والقلم السياسي ومباحث وزارة الداخلية .

وكان من دأبه أن يجمع البيانات من كل مصدر ليقارنها ببيانات المصدر الآخر , ويتولى هذه المقارنة سمير بك ذو الفقار ( من عائلة ذي الفقار أخوال الملكة نازلي ) إلى جانب الجهاز الذي كان يشرف عليه شخصيا .

كان سمير بك ذو الفقار رئيسا لمجلس إدارة محلات ريفولي للهدايا , ويعمل معه في مجلس الإدارة مجموعة من الألمان . وتعرفت به في زيارة لي إلى محلات ريفولي , وعرفته بشركة الإعلانات العربية التي أديرها وطلبت منه أن يزورها . ولم تمض أيام حتى حضر إلى زيارتي , وأبدى إعجابه الشديد بها ويجهدوه الشباب من الإخوان الذين اقتحموا ميدان الإعلان الذي كان قاصرا على الأجانب واليهود . ونشأت بيني وبينه صداقة , حيث كان رجلا وطنيا متحمسا .

وعندما قررت حكومة النقراشي حل الإخوان المسلمين استجابة لتعليمات الملك والانجليز , كان الإمام حسن البنا حريصا على مقابلة الملك فاروق بأي وسيلة ولو في السر . وقال لي انه إذا تيسر له مقابلة الملك فانه قادر بعون الله تعالى على قلب الميزان المعوج وجعله في صالح الإخوان .

عرضت عليه أن يتقابل مع سمير بك ذو الفقار , لأنه القادر في ذلك الوقت على تدبير اللقاء الخاص . ورتبت موعدا في مكتبي بشركة الإعلانات العربية , وحضر الأستاذ الإمام في الموعد , كما حضر سمير بك ذو الفقار كذلك . عرفتهما يبعضهما , ثم تركتهما يتحدثان بحرية وخرجت من الغرفة .بعد أن انتهى اجتماعهما عدت إليهما , فوجدت عيني سمير بك مغرقة بالدموع . وانصرف واعدا الأستاذ بأنه سيعمل كل ما في وسعه لكي تتم المقابلة المنشودة .

ولكن للأسف كانت الأحداث أسرع مما توقع , وصدر قرار حل الإخوان بعد يومين من هذا اللقاء .

المكتب الآخر الذي كان يعمل في خدمة مخابرات الملك , كانت تديره السيدة سنية قراعه , التي ذهبت بشجاعة إلى دار الإخوان المسلمين وطلبت مقابلة الإمام ,فأذن لها ثم اتصل بي هاتفيا وطلب مني الحضور إليه على وجه السرعة . وجدت السيدة سنية قد ارتدت ثوبا أبيض فضفاضا ووضعت على رأسها ما يشبه العمامة اللون وحجابا من ذات اللون .

قدمها الأمام لي , وقال : السيدة سنية مكلفة من السراي بجمع معلومات عن الإخوان , وقد حضرت إلينا متفضلة لتتلقى المعلومات الحقيقية من مصدرها الأصلي . ولهذا أريدك أن تكون على صلة بها لتمدها بما تحتاج إليه من معلومات , وسأقول لك ما تقوله لها فيما بعد .

كان غرض الإمام ألا تحضر السيدة سنية إلى دار الإخوان مرة أخرى حيث أن باب الدار تحت الرقابة المستمرة , ويمكن أن تؤول زيارتها للأمام تأويلات كثيرة . لهذا طلب مني أن أقابلها في مكتبي بشركة الإعلانات العربية أو بمكتبها في ميدان سليما باشا .

حضرت السيدة سنية إلى مكتبي بعد ذلك بثلاثة أيام , وكنت قد أعددت لها معلومات كافية عن الإخوان ودعوتهم وفكرهم وتشكيلاتهم وما يطالبون به من إصلاحات . وأعطيتها تلك البيانات , واتفقنا على أن نلتقي المرة القادمة في مكتبها .

كانت السيدة سنية تملك مكتبا للمعلومات الصحفية يشغل شقة واسعة في مبنى كبير في ميدان سليمان باشا في مواجهة جروبي , ذهبت إليه , ودخلت من الباب لأجد ردهة كبيرة صفت على جوانبها المقاعد والأرائك , وعلى بعض المقاعد عدد من النساء الجالسات يتسامرون ويتضاحكن وهن عاريات الأذرع والأكتاف والسيقان . سألتني واحدة : أي خدمة ؟ فقلت لها : آسف لقد أخطأت العنوان .

وانصرفت ولم أعد للقائها بعد ذلك للفرض المتفق عليه . المرة الأخيرة التي رأيتها فيها كانت وأنا أعمل مديرا لشركة النصر للتصدير والاستيراد في عام 1968 ,حيث جاءني لزيارتي طالبة معاونتها بنشر إعلان عن الشركة في مجلة ألوان جديدة التي تصدرها , والتي هددها زوجها اللواء الدكتور شهدي بأن تغلقها بسبب خسارتها . اعتذرت لها عن عدم إمكانية النشر في المجلة , ثم سألتها عن أولئك النسوة اللائي رأيتهن في ردهة مكتبها , فقالت إنهن مندوبات أخبار صحفية , وأنها لم تكن تدقق في مظهرهن وكان هدفها الأول الحصول بواسطتهن على ما يلزم المكتب من معلومات صحفية ومعلومات أخرى تهم السراي .

أما المكتب الثالث الذي كان يمد الملك بالمعلومات والأخبار , فكان يديره الدكتور يوسف رشاد الذي سمعت عنه لأول مرة من تقرير مرفوع للإمام ومحال إلي للاختصاص , حيث كان الدكتور يوسف بصحبة زوجته ناهد والملك والأميرة فوزية بعد طلاق الملكة فريدة , على يخت بالبحر الأحمر. ونزل الأربعة على شاطئ جزيرة صغيرة تسمى جزيرة الزمرد ويشحنه اليهودي ليبيعه خارج مصر .

وقد حدثت على هذا اليخت مساخر كثيرة لا محل لذكرها هنا , إلا أنه اتضح من التقرير المرفوع للإمام من أحد البحارة العاملين على اليخت , أن يوسف رشاد على علاقة وثيقة جدا بالملك وأنه يدير جهازا للمخابرات به كان أنور السادات رحمة الله عليه حصيفا حيث كان على علاقة طيبة – قبل الثورةبيوسف رشاد , وكان يتلمس منه ما كان يعرفه الملك عن حركة الضباط الأحرار , كي يتخذ الضباط حذرهم عند اللزوم .


الإخوان والحزب السياسي

من حق كل مصري أن يعمل بالسياسة . والسياسة التي أعنيها هي العمل الوطني . وعلى ذلك فمن حق كل مصري أن يعمل لما فيه مصلحة الوطن . أما السياسة بمعناها الحزبي , أي مجموعات تلتقي حول أشخاص ببرامج هلامية غير معروفة المعالم , فهذا يعني – من وجهة نظري – حربا بين فئات الشعب تدور حول مصالح كل فئة , بل أحيانا مصالح أفراد في الفئة الواحدة .

لهذا كان للإمام الشهيد رأيه في العمل الحزبي . وجه مرة خطابا مفتوحا إلى زعماء مصر على صفحات جريدة الإخوان فقال : " نحن معشر الإخوان المسلمين لن نقحم أنفسنا في مجموعكم ( أي لن ننافسكم في العمل الحزبي ) . . . إن اجتمعتم وجاهدتم ناصرناكم , وان آثرتم ممالأة الأعداء سنمضي في سبيل الله والوطن مستشهدين " . ( انظر : محسن محمد : من قتل حسن البنا – صفحة 143 9 .

وكان الانجليز ينظرون نحو اهتمام الإخوان بالسياسة , نظرة جادة , حيث كانوا يرون في ذلك الوقت أن الإخوان هم القوة التي لا يمكن استمالتها بالترغيب أو التهديد , على خلاف باقي الأحزاب السياسية في مصرالأحزاب . وقالت جريدة التايمز البريطانية ( المصدر السابق صفحة 150 ) : " إن إحدى المجموعات الرئيسية المعارضة لبريطانيا في مصر : الإخوان المسلمين . وهم – كما يقول مرشدهم العام – ليسوا سياسيين , بل هم ببساطة وطنيون يعملون لخير مصر . . . " .

ويقول الإمام الشهيد تحت عنوان وطنية الحزبية ( في رسالة دعوتنا ) :

" إن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب . . . فتلك وطنية زائفة لا خير فيها . . ."

ويقول في رسالة " مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي " عن الأحزاب المصرية : " لقد انعقد الإجماع على أن الأحزاب المصرية هي سيئة هذا الوطن الكبرى . وهي أساس الفساد الاجتماعي . . . وهي ليست أحزابا حقيقية بالمعنى الذي تعرف به الأحزاب في بلاد الدنيا . . . بل هي سلسلة من الانشقاقات والخلافات الشخصية . . . الخ "

لهذا فقد طالب – في ذات الرسالة – بحل الأحزاب المصرية المفروضة على هذا الشعب الطيب .

سألته ذات مرة : لماذا لا تكون حزبا سياسيا كباقي الأحزاب وندخل الانتخابات ببرامج مثلهم ؟ فقال : نحن دعوة . ولسنا جمعية ولا هيئة ولا حزبا . . ندعو إلى الله والى تعاليم الإسلام وتطبيق شريعته . وقد تتفق الأحزاب الأخرى معنا في هذا الاتجاه وقد تختلف . فمن اتفق معنا صار صديقا لنا , ومن اختلف فعقابه عند الله . نحن أكبر من الأحزاب. الأحزاب هدفها الوصول إلى الحكم , أما نحن فإننا نبقى حكم الإسلام حتى ولو كان بواسطة غيرنا . يمكن للوفدي أن يكون من الإخوان إلى حين . . أي إلى أن يتبين له فساد النظام الحزبي .

وكذلك باقي أعضاء الأحزاب. هؤلاء الأعضاء – لا أقول الزعماء – لا شك وطنيون , ولكن وطنيتهم قاصرة على مصر , يهتمون بالاستقلال وطرد المستعمر وإصلاح الدستور وما إلى ذلك . أما نحن فدعوة وطنية إسلامية لها الصبغة العالمية . وان كان من اهتماماتنا الأولى إصلاح الأحوال في مصر , فإنما ذلك لأن مصر هي قلب العالم الإسلامي النابض , والكل يقتدي بها .

عجبت لانضمام الإخوان إلى حزب العمل . فان هذا الذوبان في حزب يعكس مسار الدعوة إلى الوراء . وعجبت أكثر حينما تقدموا بطلب لتشكيل حزب سياسي . وحمدت الله أن رفضته لجنة الأحزاب, بالرغم من أني لا أتفق معها في سبب الرفض وهو أن الحزب ديني النزعة , ففي ألمانيا الحزب الديمقراطي المسيحي , وإسرائيل مليئة بالأحزاب الدينية , ولكني فرحت لأن اللجنة حالت دون انحراف الإخوان عن أساس دعوتهم التي هي دعوة الإسلام .


الإخوان والشيوعيون

مساكين هؤلاء الشيوعيون . أخذوا الشيوعية عن مفكرين . نشئوا في مجتمعات يحكمها رجال الدين المسيحيون , مثل راسب وتين في روسيا الذي كانت له سيطرة كاملة على القيصرة كاترين , ومثل رجال محاكم التفتيش وكلهم من رجال الدين المسيحي الذين كانوا يحكمون على كل من هو مسيحي غير كاثوليكي بالكفر ويعذبونه عذابا أليما إلى أن يعتنق الكثلكة , ورجال الدين في فرنسا الذين كانوا يمثلون طبقة تلي طبقة النبلاء في الجاه والنفوذ والحكم .

ولو أن جوزيف ستالين كان يعرف شيئا عن الإسلام لما قال إن الدين أفيون الشعب . لقد قالها لأن الإنجيل يأمر بالتسامح والغفران , فإذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن فأدر له الأيسر . . . منتهى التسامح الذي لا يفهمه ولا يعيه أهل عصرنا هذا . لم يعرف جوزيف ستالين أن الإسلام كتب, في التوراة " أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص " ( المائدة 45 ) . فذلك حكم الله وعلينا أن نتبعه .

كان لي زميل في وزارة التجارة عام 1944 اسمه عمر أبو الفضل . وكان قد سبقني في التخرج من كلية التجارة بسنة . وكان العمل الموكل إلينا ضئيلا حيث نقل اختصاصه إلى وزارة التموين , ولم يعطونا بعده عملا آخر . فكنا نقضي الوقت في المناقشات . هو شيوعي وأنا من الإخوان . وكان من المستحيل أن نلتقي على فكر واحد . وكان يتردد عليه بعض قادة الشيوعيين مثل أحمد الخشاب وعبد المعبود الجبيلي ( الذي صار في عهد عبد الناصر وزيرا للبحث العلمي ) من زعماء ( حدتو ) وهي منظمة شيوعية اسمها الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني . وما أكثر الحركات الشيوعية التي كانت قائمة في ذلك الوقت . فبعضهم كان لينينا , والبعض تروتسيكا , وكانت العداوة شديدة بين الطرفين . وأشد ما كان يميزهم جميعا في ذلك الوقت ويتفقون عليه , هو أن محاربة اليهود في فلسطين أمر غير جائز وأن التقسيم ينبغي أن يكون . ولا عجب في هذا فقد كان رأس الحركة كلها هنري كورييل المليونير اليهودي .

كان عمر أبو الفضل يقول : لنا برنامج إصلاحي اقتصادي . فهل لكم برنامج ؟ سألت الإمام الشهيد عن ذلك حيث كان الأمر يؤرقني كثيرا فقال : إن برنامجنا الاقتصادي هو ما يقضى به الإسلام وهو العدل . والعدل يمكن أن يتحقق في الشيوعية وفي الرأسمالية على السواء . لذلك فان المذاهب السياسية لا تعنينا , ويمكن أن يطبق الإسلام في ظل نظام اشتراكي يقوم على العدل , كما يمكن أن يطبق في نظام رأسمالي يتوخى العدل . ونحن لا نسبق الظروف . وحينما يحين الوقت الملائم الذي لا بد أن نقدم فيه برنامجنا فسنفعل . هناك مثلا : الملكية الزراعية التي ينبغي تحديدها , وهناك الفرص التي يجب أن تمنح للناس للعلم والتملك والعمل . بحيث تكون متكافئة , وهناك الألقاب التي ينبغي أن تلغي فالناس سواسية كأسنان المشط . . . الخ .

ملحوظة : يقول خالد محي الدين في مذكراته التي نشرت منذ أيام , أنه انضم للإخوان مع عبد الناصر , ثم لم يجد عندهم برنامج , فانضم إلى الشيوعيين لذلك السبب ! ! !

اشتد موقف الشيوعيين ضدنا وهاجمونا في نشراتهم , الأمر الذي دفعنا في عام 1946 أن نزرع عندهم أحد المتعاطفين مع الإخوان ( هو الآن أستاذ جامعي ) . وكان يتقاضى مني خمسة جنيهات شهريا نظير أن يمدنا بأخبار الشيوعيين .ما كان يصلح منها للنشر في مجلة الكشكول الجديد – التي كنت صاحبها – نشرناه , ومثال ذلك المساخر التي كانت تحدث في فيلا لهم بشارع القصر العيني ويجتمع فيها الأولاد والبنات يسكرون ويعربدون . أما الأخبار الأخرى فكنا نعرض ما يهم الدعوة منها على الإمام الشهيد , والباقي كنا نخطر به مدير الأمن العام فوكيل الداخلية المرحوم أحمد مرتضى المراغي , الذي حاول أن يعرف مني مصدري في هذه الأخبار . ولكن هيهات .


مع رجال السياسة

من أهم رجال السياسة الذين اجتمع بهم الإمام الشهيد قبيل حل الإخوان : حافظ رمضان باشا وإسماعيل صدقي باشا .


مع حافظ رمضان

كان حافظ رمضان رئيسا للحزب الوطني خلفا لمحمد فريد . وكان صديقا شخصيا للإمام , شأنه في ذلك شأن صالح حرب ( باشا ) رئيس جمعية الشبان المسلمين وأعضاء الحزب الوطني وأعضاء الجمعية , فقد كان الجميع وطنيون يعملون لصالح مصر .

بعث إلى الإمام بورقة صغيرة مع رسول وأنا في شركة الإعلانات العربية , يقول فيها أن حافظ باشا سيأتي إلى مكتبي في الساعة العاشرة والنصف للالتقاء به عندي .

أعددت المكتب لهذا اللقاء , وقبل الموعد بخمس دقائق , حضر حافظ باشا , وجلس ينتظر الإمام , حيث كان الإمام دقيقا في مواعيده لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنها .

أخذ حافظ باشا يحكي لي نادرة حصلت له في صباح ذلك اليوم , فقال انه توجه للنادي ( نادي التحرير حاليا , وكان أعضاؤه قبل الثورة من أصحاب الألقاب والوزراء السابقين وكبار الأعيان ) وطلب كوبا من الليمون . قال له الخادم ( الجر سون ) : لا مؤاخذة يا باشا ! لقد صدر قرار بالأمس بأن يكون سداد المشروبات نقدا ! ثم علق على ذلك قائلا : أنا لا أحمل معي أية نقود , وكان النادي معتادا على قيد المشروبات على حساب كل عضو ثم يطالبه برصيده في نهاية كل شهر . ثم قال : أخرجت دفتر الشيكات من جيبي , وكتبت لهم شيكا بثلاثين مليما . . . ثم ضحك كثيرا .

عندما حضر الأستاذ الإمام , تركت لهما غرفة مكتبي وجلست في غرفة حسام لطفي سكرتيري الخاص . . . وبعد نصف ساعة دققت الباب مستأذنا , وفتحته لكي أسألهما إن كانا يبغيان شيئا , فوجدت حافظ باشا ممسكا رأس الإمام بيديه ويقول : " مخ كبير . . . مخ كبير " .

علمت فيما بعد أن المقابلة كانت بشأن انسحاب الإخوان من اللجنة العليا للطلية , التي بدأ الشيوعيون يتسللون إليها ويحاولون مع الوفديين السيطرة عليها .


مع إسماعيل صدقي

عندما كلف إسماعيل صدقي بتشكيل الوزارة في عام 1946 , أخذ يبحث عمن يؤيده شعبيا . فلم يجد أحدا . وكان رجلا ذكيا , فحاول أن يطوي الإخوان المسلمين بما لهم من شعبيه تحت جناحه . . زار إبراهيم رشيد زوج ابنة إسماعيل صدقي الأستاذ الإمام طالبا تحديد موعد في ذات اليوم , ليستقبل فيه الإمام إسماعيل صدقي , بمكتبه بالمركز العام . . وتم تحديد الموعد في الساعة الحادية عشرة صباحا بعد أن استشار الإمام أعضاء مكتب الإرشاد تليفونيا .

هاج الإخوان وماجوا , لم علموا أن إسماعيل صدقي كان في زيارة الإمام , ذلك بسبب ما هو معروف عنه من أنه لا شعبية له , وأنه ديكتاتوري الطبع , كاره للجماهير ويسميهم الغوغاء .

قال الإمام لإسماعيل صدقي , إن تاريخه السياسي لا يشجع للتعامل معه , بيد أن الإخوان لا يفقدون الأمل . وعد إسماعيل صدقي بتلبية مطالب الإخوان , وكلها مطالب وطنية تتضمن مقاومة الاستعمار إلى أن يقضى عليه , وتعديل الدستور بما يتفق مع الديمقراطية , والسماح للإخوان بالنشاط بغير قيد , وإقامة انتخابات نزيهة . . . الخ .

قال إسماعيل صدقي : تستطيع أن تتقدم بهذه المطالب من خلال مجلس الوزراء وأنت وزير للأوقاف . فهم الإمام من هذا أن صدقي يعرض عليه الوزارة , فقال سنفكر في الأمر .

في المساء , وأثناء سيرنا من المركز العام إلى منزله , سألت الإمام عن حقيقة ما يشاع حول قبولنا , فقال : ما رأيك أنت ؟ قلت : لا بأس فهي خطوة على الطريق , غير أن وزارة الأوقاف ليست من مقامنا ونحن القوة الشعبية الوحيدة التي يستند إليها إسماعيل صدقي , فحبذا لو كانت وزارة المالية مثلا أو إحدى وزارات الدرجة الأولى . أما الأوقاف فهي وزارة من الدرجة الثالثة . ( لكي ترفع درجة هذه الوزارة ضم إليها اختصاص شئون الأزهر بعد ذلك ) .

ضحك الإمام وقال : نحن رجال دعوة ولسنا رجال حكم . ألا تعلم أن وزارة الأوقاف تسيطر على ما يقرب من عشرة آلاف خطيب مسجد ؟ ! إن هؤلاء سوف يكونون للدعوة في كل مكان إذا تولينا وزارة الأوقاف . . . لا للحكم من خلالها , ولكن لنشر دعوتنا التي هي دعوة الإسلام .

بعد أيام شكلت الوزارة , ولم يكن الأمام من بين أعضائها , وكانت تلك رحمة من الله حيث حفظت بنا الدعوة ونقاوة سمعة الإمام كنا نخشى أن يستغرقه الحكم عن العمل لها . والله لطيف بعباده .

الإخوان ومصر الفتاة

اتخذت جمعية مصر الفتاة مقرا لها من دار الإخوان المسلمين , وكانت هذه الجمعية تقلد جمعية ايطاليا الفتاة , واتخذت لها شعارا هو " مصر فوق الجميع " مثلما اتخذت الجمعية الايطالية شعارا هو " ايطاليا فوق الجميع " .

وكان أحمد حسين رئيس الجمعية رجلا وطنيا يتفجر حماسا وحبا لمصر , ولهذا كان تأثيره بالغا على أتباعه . وكان هناك شبه تفاهم بين الإخوان ومصر الفتاة , فالاثنان يعملان من أجل مصر , والاثنان يعاديا الاستعمار , والاثنان يشجبان تعاون معظم الباشاوات المصريين مع السفارة البريطانية ويعملون على كسب رضاها . . . طبعا على حساب مصلحة مصر .

غير أن مصر الفتاة لم تتسم بوحدة القيادة – مثلما هو حالها الآن – وكان زعماؤها يعمل كل منهم منفردا وفقا لما يراه صوابا من وجهة نظرة .

ونفاجأ في يوم من الأيام بمقال في مجلة مصر الفتاة يقول فيه محرره: " حانت خاتمة الدجل والشعوذة . . الإخوان يتعاونون مع كل الأحزاب بلا مبدأ ويتحالفون مع الكل حتى الانجليز الذين يسخرونهم لمحاربة الشيوعية والوطنية ويفتحون لهم الشعب في السودان وفلسطين . . . الخ . " . ويبدوا أن كاتب هذا المقال كان شيوعيا .

طبعا ذلك كله كان افتراء , وان نم عن شيء فإنما ينم عن غيرة وحقد على الإخوان لذيوع انتشارهم السريع , وإقبال الشباب على الانخراط بجوالة الإخوان وعزوفهم عن القمصان الخضر التابعين لمصر الفتاة . ولست أدري إن كان ذلك المقال بإيعاز من أحمد حسين أم أن كاتبه كان نشازا على سياسة الجمعية ( لم تكن قد سميت بحزب حتى تلك الوقت ) .

وجدنا أنه من بعد النظر أن نعلم ماذا يدور في أدمغة قادة مصر الفتاة . فكلفنا أحد الإخوان بالانخراط في الجمعية . هو المرحوم أسعد السيد أحمد , الذي انضم إليها وبرز فيها سريعا لما كان له من نشاط .

بعد انضمامه بحوالي ثلاثة شهور , جاءني على استحيا وقال لي:

" هؤلاء الناس وطنيون ويعملون لصالح مصر , ولا يتلقون تمويلا أو مساعدة من الخارج . وأحس أن ضميري يؤنبني لأنهم قوم مسلمون فيهم فتحي رضوان وإبراهيم شكري ومحمد علي صبيح وحمادة الناحل وآخرون , وإذا ما حاولت التعرف على أخبارهم فإني أكون قد خالفت أوامر الله التي تقول: " ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا " . قلت: يا أسعد , ما دمت مقتنعا بهم فاذهب واعمل معهم بإخلاص . ويبدوا أنه لا تعارض بين العمل معهم في النشاط الوطني وبين العمل على نشر دعوة الإسلام من خلال الإخوان المسلمين . فرح أسعد وبدأ يزيد نشاطه في حزب مصر الفتاة إلى أن وصل إلى عضوية مجلس الإدارة .

بعد اعتقالات الإخوان في ديسمبر 1948 , والتحقيق مع بعض أعضاء النظام الخاص , جاء ذكر أسعد السيد أحمد في التحقيقات . وعلم بذلك أعضاء مصر الفتاة , جاء ذكر أسعد السيد أحمد في التحقيقات . وعلم بذلك أعضاء مصر الفتاة , فاعتدوا عليه بالضرب ظنا منهم أنه عين عليهم . وأشهد الله أنه كان يعمل معهم مخلصا في ذلك الوقت , وبخاصة بعد أن حضر مؤتمرا عقده أحمد حسين عند سفح الهرم الأكبر معاهدا تابعيه على العمل على نصرة مصر .

الإخوان المسيحيون

انتشر الإخوان في الأربعينات , وبلغ عددهم ما يزيد على 600 ألف وذلك بشهادة السفارة البريطانية . وانتشرت الدعوة في سوريا والعراق والمغرب العربي والسودان . فكان رئيس الإخوان في سوريا الدكتور مصطفى السباعي , وهو فقيه وداعية من الطراز الأول , وفي العراق الشيخ محمد محمود الصواف ( عضو مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة وتوفى إلى رحمة الله حديثا ) وفي المغرب الأستاذ الفضيل الورتلاني , وفي السودان الأستاذجمال السنهوري ( وكان طالبا وقتذاك بحقوق القاهرة ) .

وعرف عن الإخوان السماحة وعدم التعصب . بل كان لي ولغيري أصدقاء من المسيحيين كنت ولا زلت أعتز بصداقتهم حتى الآن .

وبعد المحاضرة التي ألقاها الأستاذ الإمام ببني سويف , والتي أطفأ بها الفتنة التي اشتعلت هناك بين المسلمين والمسيحيين , والتي شرح فيها الإمام دعوة الإسلام , وأوضح فيها ما تتصف به الدعوة من سماحة , وأن المسيحيين أخوة لنا لهم ما لنا وعليهم ما علينا , وأنهم باعتبارهم أهل الذمة فهم في ذمة المسلمين وعلى المسلمين رعايتهم والدفاع عنهم . وأشار إلى ما سكنه الإسلام للمسيحيين من مودة : " ولتجدن أقربهم مودة للذين امنوا الذين قالوا أنا نصارى . . . " وذكر الآيات التي تمجد عيسى بن مريم وأمه العذراء . . . أخذ الإمام يخطب ساعتين . . . وكنت حاضرا معه . . . لدرجة أن قسيسا إنجيليا كان يجلس في مواجهته ودموعه تنساب من عينيه , ما لبث حين انتهى الأستاذ من حديثه أن قام له معانقا بشدة .

بعد هذه المحاضرة التي رتب لها الأخ أحمد البساطي رئيس الإخوان , وعقدها في نادي البلدية وحضرها سكان بني سويف جميعا على وجه التقريب , حضر لزيارة الأستاذ بالمركز العام عدد من قادة المسيحيين أذكر منهم : توفيق ( أو رهيب لا أذكر ) دوس باشا , ولويس فانوس ومريت بطرس غالي عضوا مجلس الشيوخ , وطلبوا من الإمام أن ينشئ شعبة باسم : " الإخوان المسيحيون " , رد عليهم الإمام بأن الفكرة طيبة , ولكن يحول دون تنفيذها أن دعوتنا عالمية ولا تقتصر على مصر وحدها , وأن نشاطنا في مصر لا يعدو أن يكون جزءا من نشاط الإخوان المسلمين العالمي , فقد أرسل الله نبيه صلى الله عليه وسلم للناس كافة . وعلى هذا لا بأس من تكوين " الإخوان المسيحيين " وأؤكد لكم أنه سيكون هناك تعاون تام بيننا وبينكم . في كافة مجالات عمل الخير والدعوة إلى مكارم الأخلاق ومقاومة الإلحاد الذي بدأ ينتشر بين شباب المتعلمين .

نشرت مجلة المصور في ذلك الوقت أن شخصيات غير إسلامية بارزة انضموا إلى الإخوان المسلمين ومن بينهم لويس فانوس ومريت بطرس غالي .

بلغ هذا الموضوع مسامع الانجليز , فأرادوا أن يطوعوا هذه الفرصة لمصالحهم , فأنشئوا جمعية باسم " إخوان الحرية " اتخذت مقرا لها في حي السيدة زينب , ويرأسها المستر فاي – الذي كان مدرسا لي بكلية التجارة واختفى عند قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 , ثم ظهر في عام 1942 ليقود هذه الجماعة المشبوهة , التي حاولت تجنيد عدد من المسلمين والمسيحيين تحت شعار " الدين لله والوطن للجميع " . وطبعا لم يكن الانجليز حريصين على هذا الوطن , بل كانوا يحاولون كسر شوكة حسن البنا وإخوانه , ولكن هيهات , فقد فشلت جمعيتهم فشلا ذريعا , لأنها لم تضم بين ظهرانيها إلا كل انتهازي وأفاق , وتلاشت كما يتلاشى الدخان في الهواء , مع تلاشي المال الذي كان مخصصا لها .

الجواسيس

كان بعض الإخوان يغالون في التشدد – وهم قلة والحمد لله – غير أني اكتشفت أن أمثال هؤلاء منحرفون عن الدعوة ويتظاهرون بالتشدد ليثق فيهم الآخرون .

وكان الإمام إذا اكتشف بعضا ممن يعملون مع القلم السياسي ( هو أصل المباحث العامة الحالية ) – وكانت له مصادره الخاصة – فانه يبعث إليهم تباعا ويجلس مع كل منهم على انفراد , ثم يقول له : عرفت أنك تعمل لحساب القلم السياسي . . فيرد الأخر طبعا منكرا بشدة . فيقول الإمام له : أنا أعلم ذلك يقينا , ولم أحضرك هنا للتحقيق معك , بل لأحل لك المال الذي تأخذه من الحكومة . فأنت تتجسس علينا وهذا حرام . وتتقاضى أجرا نظير تجسسك فهذا الأجر حرام . وأنت لا تعلم شيئا ذا قيمة من أخبار الإخوان فتؤلف لرئاستك في القلم السياسي أية أخبار من عندك , وهذا كذب وهو حرام . أريد أن أبعدك عن هذا الحرام كله وأسمح لك بأن تتقاضى ما شئت من أجر من الحكومة بشرط أن تبلغهم الأخبار الصحيحة .

اذهب إلى محمود عساف مدير شركة الإعلانات العربية ( وهي من شركات الإخوان ) وهو سيعطيك الأخبار الصحيحة مرتين كل أسبوع .

أبلغني الإمام بهذا الاتفاق . وكان بعث لي كل يوم بأهم الإخبار في ظرف مغلق , أو يبلغها لي في آخر الليل حين أصحبه إلى داره . وكنت أعد أوراقا أكتبها بنفسي على الآلة الكاتبة , كل منها يحتوي على خمسة أو ستة أخبار , بحيث يكون هناك خبر مكرر عند كل اثنين , وذلك لكي يصادق كل منهما على تقرير الآخر المرفوع للقلم السياسي .

كانت تلك الأخبار تتعلق غالبا بالأشخاص الهامين الذين يزورون الأستاذ الإمام , وما يدور معهم من أحاديث ومناقشات , وبعض أخبار أقسام المركز العام كالجوالة وقسم الطلاب وقسم العمال , مما كان يهتم به رجال القلم السياسي كثيرا . ولم نكن نؤلف أية أخبار – حيث أن الأخبار الحقيقية كانت كثيرة ومتوافرة –ولم يكن هناك داع إليها لما يحتمل أن يكشف بعد ذلك من كذب فيها , وكان من المهم لنا أن ينال هؤلاء الجواسيس ثقة رجال القلم السياسي .

كان الإمام يقول : لو أن هؤلاء الناس عرفوا حقيقة دعوتنا ما حاربونا هذه الحرب الضروس ولما عاملتنا الحكومة هذه المعاملة السيئة , ولما انقلبت علينا الأحزاب , ولكن الشك يملأ قلوبهم لأنهم لم يعتادوا أن يتعاملوا مع أناس مخلصين لوطنهم ودينهم .

كان عدد هؤلاء الجواسيس سبعة , منهم ثلاثة يعملون موظفين بالمركز العام . أحدهم كان بوابا , وعامة الإخوان لا يعرفون أنه موظف فكانوا يقولون : إن . . . أبو خضرة , رجل منقطع للدعوة يجلس دائما على الأريكة الخشبية على باب المركز العام . وهم لم يكونوا يدرون أنه كان عينا على الداخلين والخارجين . وكان الثاني ملتحيا , ووجهه يشبه وجه النمر , وعيناه ضيقتان تلمعان . كان يدق على الأبواب المغلقة مناديا على من بداخل الغرف : الصلاة ! الصلاة ! الصلاة ! كان متحمسا جدا ويدق الباب قبل حلول وقت الصلاة بربع ساعة لكي يذهب الناس للوضوء . وكان الإخوان يقولون : كم هو ملتزم هذا الأخ . . . العشماوي . ( هو طبعا غير صالح عشماوي أو حسن عشماوي ) , أما الثالث فكان اسمه توفيق . . . ولا أذكر لقبه. كان موظفا بمكتب الأستاذ الإمام يحتفظ بصور الخطابات ويعد البريد للتصدير , وكانت تلك فرصة له لكي يطلع على مكاتبات الإخوان .

قلت للإمام يوما : لماذا لا نتخلص من هؤلاء ونربح أنفسنا ؟

فقال : يا عبيط ! هؤلاء نعرفهم وإذا تخلصنا منهم سيرسلون ألينا غيرهم ممن لا تعرفه .

الجندي المجهول

اسمه محمد البنا . وهو لا يمت للأستاذ الإمام بصلة قرابة . كنت تراه كل مساء حاملا بيده اليمنى دلوه المملوء بالطلاء , مرة يكون أسود اللون ومرة أحمر . وفي يده الأخرى عصاه التي يتكئ عليها عند الكتابة ومعها فرشاة أو اثنتين للكتابة بهما .

كان يبدأ عمله بعد الساعة 12 ليلا والناس نيام والشوارع تكاد تخلو من المارة في ليالي الشتاء . أما في ليالي الصيف فكان يبدأ عمله في الساعة الثانية صباحا , وينهي عمله صيفا أو شتاء قبيل أذان الفجر . كان عمله شاقا , ولم يكن يتقاضى عنه أجرا إلا مرضاة الله تعالى . وهو من إخوان ميت غمر , وأقام بالقاهرة لا يعرف له فيها عنوان محدد , لأنه يبيت عند أي من الإخوان الذين يعرفهم ويتناول طعامه معه أو مع غيره من الإخوان .

كان يجوب القاهرة يبحث عن الحوائط الممهدة التي يمكن أن يكتب عليها , فان كانت عالية استعان بالأحجار يرتفع عليها مثلما فعله نبي الله إبراهيم عليه السلام عند بنائه للكعبة مع ولده إسماعيل .

وتى وجد محمد البنا الحائط الملائم فنه يكتب عليه " الإخوان المسلمون " بخط كبير مرة بالثلث ومرة بالفارسي ومرة بالنسخ ومرة بالرقعة الغليظ , وتحتها " دعوة الحق والقوة والحرية " بخط أصغر , غالبا ما يكون خطا فارسيا أو ديوانيا .

طلبته مرة وأنا أعمل مديرا لشركة الإعلانات العربية لكي يعمل معي بالنهار في كتابة الإعلانات التي كان يعدها القسم الفني عندنا , فأجاب معتذرا بأنه لا يستطيع أن يكتب على الورق , بل على الجدران فحسب . تلك موهبة من الله : خط جميل بغير أن يتعلم قواعد الخط العربي .

كان للافتات التي ملأت أرجاء القاهرة والتي كتبها محمد البنا وحده بدون مساعد , أثرها الكبير في نفوس الجمهور . وكنا نحن الإخوان نسعد كلما مررنا على لافتة عليها لفظ " الإخوان المسلمون " . وكنت إذا أردت أن أرى محمد البنا , أجده دائما بالقرب من باب مكتب الإمام بين المغرب والعشاء .

ترتب على هذه الحملة التي خططها ونفذها محمد البنا وحده , أن بدأ الناس الذين لا يدرون شيئا عن الإخوان المسلمين يتساءلون عما هم , وبدأ الناس يتوافدون على المركز العام وبخاصة في أيام الثلاثاء ليستمعوا إلى الحديث الأسبوعي للإمام . . . وجاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا معاهدين مبايعين على ألا يأتوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن , تائبين من كل عمل يخالف دين الإسلام .

عاصر تلك الحملة تحقيق أجراه الأستاذ محمد التابعي في آخر ساعة . وكان على صفحة غلافها العنوان التالي : " رهبان الليل وفرسان النهار " ثم تحقيق صحفي يشغل صفحتين من مقاس ( التابلويد ) عن فكر الإخوان المسلمين . في الصباح اختفت المجلة من السوق في ساعاته الأولى , فأعاد الأستاذ التابعي طباعة المجلة للمرة الثانية . وما لبثت روزا اليوسف أن حذت حذو آخر ساعة , ثم المصور , والكل يحاول أن يكتب عن الإخوان لكي يزيد التوزيع .

كان لتلك الحملة الصحفية المجانية أثرها في نشر الدعوة , لدرجة أن الانجليز قدروا عدد أعضاء الجماعة بستمائة ألف أو يزيدون .

المبيت مع الإمام

كنت أنتظر الإمام إلى أن يفرغ من عمله ثم أصحبه إلى داره في طريقي إلى داري . ونتحدث في الطريق عن شئون الدعوة وعما حدث معه في ذلك اليوم وما يحتاج إليه من عمل مني .

وصلنا إلى داره وحييته مودعا ومقبلا يده , فقال : أنا الليلة وحيد في البيت فقد ذهبت زوجتي وأولادي لزيارة خالهم الأستاذ عبد الله الصولي في الإسماعيلية , واليوم الخميس وغدا الجمعة , ولا أظن أن هناك ما يمنعك من أن تبيت هذه الليلة معي .

كنت أعيش أعذبا مع أخي علوي واثنين من أولاد عمي . وكانوا معتادين على تغيبي ولا يلقون بالا إلى ذلك . فقبلت المبيت معهم شاكرا .

البيت بسيط جدا . ومفروش بالحصير . وليس فيه من الكماليات شيء .

قال : عندنا هنا غرفتا نوم . بإحداهما سريران ولكنهما مليئان بالبق . أما الغرفة الثانية فقد نظفت سريرها بنفسي اليوم . فان شئت ننام سويا على هذا السرير . قبلت طبعا وارتديت إحدى بيجاماته التي أحضرها لي , وكانت قصيرة جدا ومترهلة علي .

كان الوقت صيفا , وتناولنا طعاما خفيفا من الخبز والجبن وكوبا من اللبن الحليب الساخن , تمددنا على السرير .

كانت ليلة لا تنسى مدى العمر , فالأستاذ الإمام مع بساطته له هيبة في النفس وتقدير عظيم , ولم أكن مصدقا أني أنام إلى جواره على سرير واحد .

ما لبث أن استغرق في النوم في حين أني لم أنم لحظة واحدة حتى قبيل صلاة الفجر . كنت أخاف أن أتقلب من جنب إلى جنب فأوقظه من سباته العميق . لذلك ظللت طول الليل شاخصا ببصري إلى لا شيء , أفكر فقط في أني الآن في مكانة لم يبلغها الكثير من الإخوان قبلي . ولي أن أفخر بذلك .

نادي علي فضيلة الإمام قبيل الفجر وأخذنا نتهجد , ثم صلينا الصبح جماعة ثم قرأنا المأثورات وهي مجموعة من الأدعية مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وبعد الصلاة أخذتني سنة من النوم , تيقظت بعدها على أصوات حركة في الصالة حيث توجد مائدة الطعام , فقمت وقال : لقد كنت على وشك أن أوقظك . لقد جهزت الإفطار .

وجدت على المائدة صحنين من الفول المدمس الساخن بالسمن البلدي وقطعتين من الجب ورغيفين ساخنين . تناولت معه الإفطار حيث كانت الساعة السابعة صباحا . قال : أتعلم أني لا أنام في اليوم أكثر من 5 ساعات , وفي معظم الأيام لا أكل إلا وجبتين ؟

رحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته .

مع الدكتور مصطفى السباعي ورحلات الإمام

كان الدكتور مصطفى السباعي رئيس الإخوان في سوريا , إذا حضر إلى مصر فأنه يقضي معظم وقته مع الإمام الشهيد . وكان الإمام يصطحبه معه في زيارة لشعب الإخوان , وكذلك كان الشيخ محمد محمود الصواف رئيس الإخوان في العراق ( رحمه الله , وقد كان عضوا بمجمع الفقه الإسلامي بمكة قبل وفاته حديثا , وابلغني قبل وفاته بأنه يعد مذكراته عن الأستاذ الإمام , ولا أعرف إن كان تم ذلك أم لا ) .

في ذلك الوقت كان الإخوان في سوريا في عنفوان قوتهم حيث كانت جماعتهم قد نشأت قبل ذلك بأعوام تحت اسم " جمعية دار الأرقم " . وأذكر من قادتهم : عمر بهاء الأميري , الشاعر العظيم الذي عين وزيرا بعد ذلك , وعروف الدواليبي ( الذي ترك الإخوان والتحق بحزب الشعب لأسباب سياسية ثم صار رئيسا للوزراء , والآن هو مستشار الملك في المملكة السعودية ) والشيخ مصطفى الرزقا , وعبد القادر السبسبي , وعبد الفتاح أبو غدة , وعبد الرحمن رأفت الباشا , وعبد القدوس أبو صالح ( وكان أديبا معروفا ) ويشير العوف وعصام العطار ( رئيس الإخوان بسوريا حاليا ) , ذلك بالإضافة إلى مصطفى السباعي .

في يوم من الأيام حضر الدكتور السباعي إلى مكتبي في شركة الإعلانات العربية ومعه الأستاذ عمر بهاء الأميري , وطلبا مني تصميم ترويسة لجريدة المنار ( اسم الصحيفة الذي يتصدر صفحتها الأولى ) فكلفت المكتب الفني عندنا , فأعد 4 تصميمات تقوم كل منها على كتابة ورسم يلاءم معنى المنار . عرضت التصميمات بعد ذلك على الدكتور السباعي , فاختار أحدها , وأعددنا له قالبا من النحاس لكي تستخدمه الجريدة عند طباعتها . دعاني الإمام لأسافر بصحبته ومعه الدكتور السباعي . وكان الدكتور السباعي محدثا لبقا خفيف الظل . . ذهبنا إلى إحدى قرى قليوب لزيارة شعبة الإخوان هناك . وحضرتنا صلاة الظهر , فتوجهنا لأدائها في مسجد عتيق شبه مهدم بالبلدة . أبدى الدكتور السباعي رأيه فيه وطلب من الإخوان إصلاحه وصيانته , فوعدوا بذلك .

أمنا الأستاذ الإمام في الصلاة . وكان جدار القبلة مشروخا . ولما انتهت الصلاة , قال الدكتور السباعي للإمام : لقد حضرتني نكتة بمناسبة هذا الجدار المشروخ . . . فقد وقف اثنان يصليان المغرب أمام قبلة جدارها مشروخ كهذا , وكان أحدهما إماما والأخر مأموما . قرأ الإمام بعد الفاتحة آيات من سورة طه : " قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى , قال . . . " وتلجلج الإمام لأنه رأى حية تبرز من شق جدار القبلة , فرده المأموم : " . . . خذها ولا تخف . . . " فرد الإمام بطريقة عفوية : خذها أنت ! ! ( يقصد الحية الحقيقية التي برزت له ) . هكذا كانت رحلات الإمام في زياراته لشعب الإخوان مسلية للغاية .

كنا نزور تلك الشعب لكي يطمئن الإمام إلى سير أوجه النشاط فيها وكان من أهم ما يعني به : مدارس الجمعة . ذلك أن الإخوان قد ابتدعوا نظاما لمحو الأمية , تقوم به كل شعبة لخدمة بلدتها أو الحي الذي توجد فيه . فتجند أعضاءها من المدرسين وغيرهم من المتعلمين , ليعملوا على محو أمية السكان متطوعين بغير أجر , وذلك لمدة تقرب من 3 ساعات كل أسبوع . وكان مقر المدرسة هو أحد المساجد , ويوم الدراسة هو الجمعة حيث يخلو الناس من أعمالهم ويخلدون إلى الراحة والتثقف , فيجتمعون من بعد صلاة العصر إلى المغرب , ثم يصلون المغرب جماعة وينصرفون .

وكانت شعبة الإخوان توزع على الدارسين الألواح والكراسات والأقلام مجانا .

ذلك بالإضافة إلى محو أمية النساء , إذ يعمل على ذلك عضوات من الأخوات المسلمات , بعد العشاء في يوم يتفقن عليه كل أسبوع , وذلك في بيت أحداهن على التتابع .

يذكرني ذلك برحلة سافرت فيها مع الإمام إلى قرى الصعيد , وقطع كل منا اشتراكا كيلو متريا بالسكة الحديدية , بالدرجة الثانية , وهي في الاشتراك بسعر الدرجة الثالثة .

وأثناء ركوبنا القطار قال لي : النصيحة الأولى التي أنصحها لك هي ألا تشبع حينما تأكل . فسوف نستضاف في الإفطار عند أحد الإخوان , ولعلك تعلم ما معنى ونوع الضيافة في القرى , ثم نستضاف في الغذاء وما سوف يكون فيه من طعام ثقيل عند أخ آخر . وفي العصر سنستضاف على شاي ومعه فطائر عند أخ ثالث , ونستضاف كذلك في العشاء عند أخ رابع . وإذا لم تكن حريصا في كمية الطعام فستصاب بتخمة وأمراض الهضم , وقد يعطلنا ذلك عن رحلتنا .

في هذه الرحلة , أصر الإخوان الضباط في معسكر منقباه , على ضيافتنا ليلة لكي يجتمع فيها الإمام مع الضباط ويتحدث إليهم الحديث القلبي الذي ينتظرونه منه . . . ذهبنا إلى الفراش بعد منتصف الليل , وقمنا لصلاة الفجر , وطلب إلى الأستاذ الإمام ألا أنام فعلينا أن نسافر بعد الإفطار . بدأت أرتدي ملابسي , ووضعت قدمي في الحذاء فأحسست بشيء غريب . أخرجت قدمي بسرعة ونفضت الحذاء , وإذا به عقرب كان نائما وقت أن وضعت قدمي . وكان هذا من لطف الله ورحمته .

أنور وجدي

في يوم من أيام صيف عام 1945 , وكان الجو صحوا ونسمة خفيفة تداعب الشجر في ميدان الحلمية الجديدة . كنت وقتذاك أعمل مديرا عاما وعضوا منتدبا لشركة الإعلانات العربية . ذهبت إلى الأستاذ الإمام كعادتي كل يوم لأتلقى تعليماته فيما يتصل بالمعلومات , وكان في ذلك الوقت غير مشغول بضيوف أو أعمال لها صفة الاستعجال . قال لي : " قم بنا نذهب إلى البنك العربي لنفتح حساب للإخوان هناك " ( إذ لم يكن للإخوان حساب بأي بنك حتى ذلك الوقت ) .

كان البنك العربي حديث النشأة , وكان مركزه في القدس الشريف , ويرأسه عبد المجيد شومان ( أو عبد الحميد شومان – لا أزكر ) وكان العرب والمسلمون متحمسون للتعامل مع هذا البنك في ظاهرها وأجنبية في حقيقتها , بالإضافة إلى بنوك فردية أصحابها من اليهود . ذلك فيما عدا بنك مصر الذي كان الانجليز يحاربونه بشتى الطرق ويعملون عل إفشاله , ولكن الله غالب على أمره .

ركبنا الترام من شارع محمد علي من أمام مسجد قيسون متوجهين إلى العتبة . ومن هناك سرنا على الأقدام إلى ميدان الأوبرا إلى شارع قصر النيل حيث كان البنك العربي .

توجهنا إلى مكتب الرئيس , وكان يتبع سياسة الباب المفتوح للعملاء , ويستطيع أي عميل أن يدخل إليه بغير استئذان . دخلنا وألقينا السلام , وجلسنا على أريكة مواجهة للمكتب . وكان هناك رجل جالس على مقعد مجاور للمكتب وظهره منحرف نحونا . وكان يتحدث مع شومان بك . وفي انتظارنا صامتين إلى أن تنتهي تلك المقابلة , فاجأنا شومان بك بقوله :

" أهلا وسهلا " بصوت عال جعل الجالس إلى مكتبه ينظر نحونا . وإذ بذلك الجالس ينتفض واقفا ويهتف : " حسن بك ؟ . . . أهلا وسهلا يا حسن بك " ثم تقدم نحونا مصافحا الإمام ثم إياي . ثم جلس على مقعد مجاور للإمام وقال : " أنا أنور وجدي . . . المشخصاتي . . . يعني الممثل . . . طبعا أنتم تنظرون إلينا ككفرة نرتكب المعاصي كل يوم في حين أني والله أقرأ القرءان وأصلي كلما كان ذلك مستطاعا " .

كانت مفاجأة لي , فلم نكن ننادي الإمام أو نشير إليه إلا بقولنا فضيلة الأستاذ . أما حسن بك , فقد كانت نشازا .

قال له الإمام : يا أخ أنور أنتم لستم كفرة ولا عصاه بحكم عملكم . فالتمثيل ليس حراما في حد ذاته , ولكنه حرام إذا موضوعه حراما . وأنت وإخوانك الممثلون تستطيعون أن تقدموا خدمة عظمى ل الإسلام إذا عملتم على إنتاج أفلام أو مسرحيات تدعو إلى مكارم الأخلاق . بل أنكم تكونون أكثر قدرة على نشر الدعوة الإسلامية من كثير من الوعاظ وأئمة المساجد " .

إني أرحب بك وأمل أن تحضر لزيارتنا بدار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة لنتبادل الرأي حول ما يمكن أن تسهموا به في نشر الفضيلة والدعوة إلى الله "

هكذا كان الإمام ثاقب النظر بعيد التفكير . ولست أعلم ما إذا كان قد زاره أنور وجدي كما وعد أم شغلته شئون الحياة .

كانت الأفلام المصرية في ذلك الوقت تتخذ مكانها في قصور الباشاوات الأغنياء المشغولة بالحفلات والتي بكل منها بار , ويقدمون للضيف الويسكي علامة على الكرم . بعدها رأينا لأنور وجدي " ليلى بنت الفقراء "

صالح قدور

كنت عضوا بكتيبة المركز العام . وكانت الكتائب نظاما تربويا يجعل من الكتيبة عائلة واحدة , يحس أعضاؤها نحو بعضهم بالتعاطف والمودة . ويتزاورون وتنشأ بينهم صداقة وطيدة لا تنفصم عراها . وكانت الكتيبة مكونة من 40 فردا , يجتمعون مرة في الشهر . وكان موعد كتيبتنا هو الخميس الأول من كل شهر ميلادي . نجتمع بعد صلاة المغرب , وكل منا يحضر معه عشاءه وبطانية ومخدة صغيرة ونصلي العشاء جماعة معا , ثم يجلس بيننا الأستاذ الإمام شارحا الآيات التي قرأها في الصلاة . والعجيب أنه في كل مرة صلى بنا وشرح ما قرأه , كنا نجد جديدا في التفسير لم يكن قد خطر على بالنا قط . وكان ذلك الشرح يطول أو يقصر حسب الأحوال , ثم كنا نتلقى درسا في الفقه على الأستاذ حلمي نور الدين ( رحمه الله ) ثم نجلس للعشاء ويقدم كل منا ما أحضره معه , بحيث يختلط الطعام من هنا وهناك . وكان البعض يتبارى في إحضار الشاذ من الطعام , فبعضهم يحضر فخذه ضأني بالفرن , وآخر يحضر طبق جبنه بالمش وفطيرا مشلتتا , والبعض حماما محشيا بالفريك . . . إلى آخر ما لذ وطاب .

بعد الطعام كنا نجلس للمسامرة وتبادل الحديث , فإذا كان عند بعضنا مشكلة عرضها ليتلقى اقتراحات بالحلول من زملائه ثم نقرأ المأثورات . ثم يفرش كل منا بطانيته على الأرض وننام . ثم نصحو للتهجد , ثم صلاة الصبح يؤمها الإمام الشهيد , ثم شرح للآيات مرة أخرى , فقراءة للمأثورات , ثم ينصرف كل منا إلى حال سبيله .

كانت تلك وسيلة التربية العلمية التي انتهجها الإمام الشهيد . لم يكن يعتمد على الخطب والمقالات فحسب , بل كان يجمع الناس معه ويكون منهم بنيانا يشد بعضه بعضا . وبهذا انفرد عن جميع المصلحين المحدثين حيث نهج منهاج النبي صلى لله عليه وسلم حينما بدأ في تكوين المجتمع الإسلامي في المدينة فآخى بين المهاجرين والأنصار . في إحدى الليالي حينما ذهبنا إلى النوم , وكنا منتشرين في قاعات المركز العام ( القديم الذي حول إلى دار للجريدة فيما بعد ) , كان نصيبي أن أبيت في قاعة الاستقبال . وكانت قاعة الاستقبال هذه يرد إليها كل من هب ودب من ريف مصر . لذلك كانت مليئة بالبق , الذي لم يكد يحس بأنفاس النائمين حتى ينطلق في صفوف على السجادة نحوهم ليمتص من دمائهم . بتنا نهرش , إلا واحدا فقط , كان مستغرقا في النوم . . . وشخيره ملء السمع . وذلك هو الأستاذ صالح قدور , المدرس بالمرحلة الثانوية وكبير القلب وخفيف الظل . نظرنا نحوه فوجدنا البق يسير إلى حافة بطانيته من كافة الجهات , ثم لا يلبث أن يستدير متراجعا من حيث أتى .

أيقظناه وسألناه عن سر المسألة فقال : أنا من أصل مغربي ! ألم تسمعوا عن سيدي قدور بن غبريط ( كان مشهورا في ذلك الوقت وتكتب عنه صفحنا ) قنا " بلى " قال فإني تعلمت منه أن أعزم ( بتشديد الزاي ) على البق قبل أن أنام فينصرف عني .

فألححنا عليه أن يعرفنا بحقيقة الأمر , فالموضوع جد لا هزل فيه فقال : " يا عبطاء ! اذهبوا إلى الغرفة اليمنى السفلية في الطابق التحتي ( البدروم ) وستجدوا فيها صفيحة جاز , اغمسوا فيها قطعة قماش ثم مررها على حواف البطانيات التي تنامون عليها فينصرف عنها الآكلان " ( البق ) تذكرت هذه الواقعة حينما حشرت أنا والأستاذ أنور الجندي في زنزانة ضيقة في السجن الحربي عام 1954 , في الوقت الذي لم يكن لي أو له أي نشاط مع الجماعة .

كان الوقت ظهر أحد أيام شهر يناير القارس البرودة , وكان مع كل منا بطانية واحدة , فرشنا البطانيتين وجلسنا عليهما . وكان في مواجهة الباب نافذة علوية مسحوب قاعها إلى أسفل , ويدخل منها ريح بارد يجمد أطرافنا قبل أن يخرج من تحت عقب الباب المرتفع عن الأرض قليلا .

وفيما نحن نتأمل الجدران التي طليت حديثا بالجير , وإذا بأسراب البق تنساب في صفوف منتظمة من شقوق في السقف , وتتجه كلها نحونا , خلع كل منا فردة حذاء وأخذنا نتسلى بقتل كل ب ق ة تصل على ا لأرض . قضينا في ذلك أربع ساعات إلى أن نؤدي علينا لنركب عربات النقل إلى معتقل العامرية قرب الإسكندرية . رحم الله صالح قدور رحمة واسعة فقد كان الوحيد من الإخوان الذي اتصل بي , وأول من هنأني هاتفيا صبيحة حصولي على الدكتوراه عام 1963

الدمور

كان الجو يومئذ حارا لا يطاق , وكانت الرطوبة في القاهرة عالية لدرجة أن الملابس الداخلية كانت تلتصق بالأبدان . وكانت الحياة صعبة بالرغم من رخص المعيشة . فالرخص شيء نسبي إذ كانت الأشياء رخيصة في حين كان الدخل متدنيا .

كانت البيضة بمليم , وأحيانا نشتري كل 12 بيضة بقرش صاغ . وكان رطل اللحم الضأني بثلاثين مليما والعجالي بخمسة وعشرين . وكان إيجار الشقة يتراوح ما بين 60 قرشا و 120 قرشا للشقة الفاخرة ذات الأرضية البار كيه , وحيثما ذهبت كنت ترى لافتات " للإيجار " معلقة على معظم العمارات .

غير أن الدخل كان محدودا . فكان راتب الموظف بالشركات والبنوك يتراوح ما بين 6 و 10 جنيهات . ولم تكن الحكومة تعين أحدا إلا بواسطة قوية جدا , حيث كانت الدرجات الوظيفية نادرة , بل منعدمة إلا لمن ابتسم له الحظ وكان ذا واسطة واصلة , فكانت الحكومة تعين الحاصل على شهادة عالية بالدرجة السادسة براتب قدره 12 جنيها شهريا .

أذكر أن بعضا من زملائي من خريجي التجارة العليا , اشتغلوا بمخازن الجيش البريطاني بالتل الكبير عام 1941 , بمرتب قدره 3 جنيهات عن المدة والمدة هي 15 يوما وكانوا سعداء الحظ , حيث كانت البطالة سائدة والناس يكادون يأكلون بعضا .

كنا نسير إلى الجامعة لنوفر 6 مليمات أجر الترام . بل أذكر أنني مشيت أنا وابن عمي على قدمينا من دوران شبرا . . حيث كنا نزور بيت عمنا . . إلى مصر القديمة لنوفر 6 مليمات لكل منا .

كان الدخل العمومي لبعض دور السينما بثلاثة قروش , وكان قماش البدلة يتكلف المتر منه ما بين 30 و 40 قرشا حسب نوعه .

وفي ذلك اليوم الحار الذي أسلفت الإشارة إليه . انتظر ت الأستاذ الإمام إلى أن انتهى من عمله , وخرجت معه مصاحبا إلى منزله القريب .

كان الإمام في العادة لا يرتدي زيا واحدا , فأحيانا يضع على رأسه العمامة على الطاقية اليمنية التي أهداه إياها الإمام يحي حميد الدين , وأحيانا يضع الطربوش القصير , وأحيانا العمامة على الطربوش , وأحيانا عمامة أخرى بيضاء , كما كان في بعض الأوقات يرتدي الجلباب وعليه العباءة , وفي أوقات أخرى يرتدي البدلة الكاملة ورباط الرقبة الملون بلون البدلة .

خرجت مع الإمام ولفت نظري أنه يرتدي حلة ( بدله ) لونها سمني ثم قال لي : " ما رأيك في هذه البدلة ؟ " قلت : جميلة. قال : أتدري ما قماشها ؟ قلت : لعله سكروته . ( وكان السكر وته من أغلى الأقمشة الرجالي وتصنع منه القمصان والبدل الصيفية ) . فقال لا . .إنها دمور . والقماش الدمور هو أرخص أنواع القماش والذي تصنع منه المراتب والمخدات قبل كسوتها , وكان المتر منه لا يتجاوز 25 مليما وتحتاج البدلة منه إلى 6 أمتار , أي 15 قرشا .

وبعد أيام ذهبت للإمام في مكتبه في يوم حار كذلك فوجدته مرتديا بدلة عادية . سألته ما بال البدلة الدمور ؟ فقال : لقد طرحتها جانبا . أتدري لماذا ؟ لأنها كثيرة الكشكشة , وتتكلف من المكوي أضعاف ثمنها .

إطلاق اللحية

كنت أمينا للمعلومات مع الإمام الشهيد حسن البنا – مثلما سبق ذكره – منذ أوائل عام 1944 حتى آخر عام 1948 . وكنت – وكان جميع من يعملون معه متطوعين – لا يتقاضى أحد منهم أجرا إلا الرضا النفسي باعتباره خادما للدعوة الإسلامية .

وكنت انتظر الإمام الشهيد كل ليلة حتى يفرغ من عمله بالمركز العام وأصحابه في الطريق إلى بيته الذي لم يكن يبعد 300 مترا . وكنا في الطريق نتبادل الحديث .

ذات يوم نشرت جريدة الإخوان المسلمين اليومية تعليمات موجزة تقول انه ممنوع إطلاق اللحية إلا بإذن المرشد العام . وفي مساء ذات اليوم وأنا معه على الطريق إلى منزله سألته عن تلك التعليمات وما إذا كانت تتعارض مع السنة فقال :

• هناك ظاهرة بدأت تتفشى بين الإخوان , وهي إطلاق اللحية , حتى لمن هم في سن المراهقة . وللحية تبعاتها , فأولا ينبغي أن تكون مقبولة الشكل تضفي على صاحبها وقارا , وهذا لا يتوافر عند المراهق , ثم إن تصرفات صاحبها يجب أن تتصف بالرزانة ما دام يرغب في أن يلتزم بالسنة . وما بالك بشاب يجلس في التزام وهو ملتح , وأمامه امرأة , ويقع نظرة عليها مصادفة ؟ ماذا يقول الناس من حوله ؟ " انظروا إلى السني ابن . . . . " وهكذا يتسبب في سب السنيين جميعا .

• أما عن كون إطلاق اللحية من الواجبات الواردة في السنة , عملا بالحديث " حفوا الشوارب وأعفوا اللحى " , فان لهذا الحديث مقدمة , هي : " خالفوا المشركين " ثم يأتي بعد ذلك إعفاء اللحية وحف الشارب , والمشركون اليوم والملحدون يطلقون لحاهم مثلما فعل لينين وترو تسكي وكثير من اليهود شبابا وكهولا , بل إن رجال الدين المسيحي يطلقون لحاهم . . إلا في بعض مذاهبهم التي تجيز حلق اللحية .

ثم أعطاني درسا في السنة فقال : " ألا فلتعلم أن السنة نوعان : سنة عادة , وسنة عبادة , وسنة العبادات لا مناقشة فيها . أما سنن العادات فوفقا لظروف الأحوال , وهي ليست ملزمة . فليس المسلمون ملزمون بأن يقلدوا النبي صلى الله عليه وسلم فيما يأكل ويلبس , وكيف كان يأكل , وكيف كان يجلس , وكيف كان ينام , وكيف كان يتطهر ( بثلاثة أحجار ) فهذه كلها وفقا للعادات التي كانت سائدة وقت ذاك , والعالم تغير اليوم وأوجد الله فيه الكثير من المخترعات لخدمة عبيده , وعلينا أن نستفيد منها وإلا نكون قد كفرنا بنعمة الله " .

وها أنت ترى كثيرا من أعضاء مكتب الإرشاد وأعضاء الهيئة التأسيسية للجماعة غير ملتحين ولا اعتراض على ذلك "

قال لي الشيخ مصطفى العالم في لقاء معه في 6 يناير 1993 في جدة , أنه بالرغم مما نشر في الجريدة في ذلك الوقت من منع لإطلاق اللحية إلا بإذن من المرشد العام , فانه أطلق لحيته . ثم التقى الإمام بإخوان ميت غمر وعلى رأسهم مصطفى العالم , فقال له الإمام بغضب شديد : " لماذا أطلقت لحيتك يا مصطفى بغير إذن ؟ " فقلبها مصطفى العالم إلى فكاهة ليمتص غضب الإمام فقال : " لقد أتعبني إخوان ميت غمر يا فضيلة المرشد فهددتهم وقلت لهم : والله لأطلقن لكم لحيتي ! " فضحك الإمام والإخوة الحاضرون .

كتبت هذا الموضوع وأنا أعجب لأولئك الشباب الذين لا يرون في الإسلام إلا إطلاق اللحى ولبس الجلباب القصير , والأكل بثلاثة أصابع , وإجبار نسائهم على تغطية وجوههن إلا من ثقبين صغيرين ليرين من خلالهما أو من خلال غلالة سوداء , فتكون الحياة كلها سوادا في سواد في أنظارهن . والشرعة لا يلزمهن بذلك .

زيارة إلى حارة اليهود

أحس اليهود المصريون بسماحة الإخوان وأنهم يدعون إلى الله بغير تعصب . فجاء وفد من طرف حاييم ناحوم أفندي حاخام اليهود لزيارة الأستاذ الإمام ودعوته إلى زيارة حارة اليهود ليرى بنفسه كيف أنهم لا يفرقون في أعمالهم الخيرية بين يهود ومسيحيين ومسلمين . أحال الأستاذ الإمام هذا الموضوع لي وللأستاذ أمين إسماعيل الذي كان يعمل وقتئذ مديرا لتحرير مجلة الكشكول الجديد التي كنت صاحب امتيازها . حددوا لنا موعدا في مكان في شارع عبد الخالق ثروت . كان ذلك المكان متجرا للخمور بالجملة . انتظرنا في الشارع بالقرب من الباب , وإذا بصاحب المتجر – وكان من ضمن الوفد الذي ذهب لزيارة الأستاذ الإمام – وبصحبته سيدة في حوالي الخمسين من عمرها , وقال ستصطحبكم مس ( لا أذكر اسمها ) إلى زيارة لحارة اليهود .

كانت هناك عربة تنتظرنا ركبناها , جلسنا في المقعد الخلفي وجلست السيدة إلى جوار السائق . ويبدو أنه كان شخصية يهودية هامة لأنه صحبنا أثناء الزيارة . توقفت السيارة بالقرب من مدخل الحارة من جهة شارع الموسكي , ونزلنا . وجدناها حارة نظيفة للغاية . ويبدو أنهم كانوا قد رتبوا الأمر للزيارة حيث لم نجد بائعا جائلا أو كناسا في الطريق أو أناسا يتسكعون كما هي العادة في الحواري المجاورة .

دخلنا بيتا أثريا قديما يحافظون عليه جدا , هو بيت موسى بن ميمون , الذي كان وزيرا للحاكم بأمر الله الفاطمي . تفقدنا المنزل ذي الأرض الرخامية والأعمدة وبعض القباب , وقادتنا السيدة إلى حمام رخامي فاخر , به إناء من رخام وإبريق من نحاس أصفر , وقالت لنا كان موسى يتوضأ . ( من المعروف أنه كان يتظاهر بالإسلام , ولذلك فان اليهود يقدرونه أعظم التقدير . وكان يقدم لليهود في مصر خدمات عظيمة اعتباره وزيرا للحاكم ) .

خرجنا من دار موسى لندخل إلى جمعية خيرية هي الجمعية الخيرية المصرية . وقالوا لنا أنها لخدمة سكان حارة اليهود والحواري المجاورة من يهود ومسيحيين ومسلمين . وكان أهم مكان في هذه الجمعية هو المطعم حيث قادونا إليه , وفيه الطعام الذي يعده الطهاة ساخنا ذا نكهة تسيل اللعاب , ويتكون من الخضار واللحم والمقرونة والحلويات , وبالمطعم قاعة للطعام بها مناضد رخامية نظيفة , جلس إليها مجموعة من الرجال والنساء , بعضهم شكله يهودي . وسألت السيدة المصاحبة لنا البعض الأخر عن دينه , فكان منهم المسيحي ومنهم المسلم .

كانت السيدة في غاية السعادة حيث استطاعت أن تقنعنا أن اليهود غير متعصبين , وأن اليهودية شيء والصهيونية شيء آخر . ولكن خاب فألها , فإذا بنا ونحن على الباب لمغادرة المكان , تقبل علينا امرأة يهودية عجوز من سكان الحارة , تقول في هياج شديد : ما هذا الذي تفعلون ؟ لقد حبستمونا في البيت وحرمتم علينا الخروج , وأتيتم بالغرباء ليأكلوا أكلنا . . . أهذا عدل ؟ إن هذا المطعم قد أنشئ لنا وحرمتمونا اليوم من حقنا .

زعقت فيها المرأة المصاحبة لنا , وقالت لمرافقيها : أبعدوا هذه المجنونة . ثم التفتت إلينا وقالت لا تعيرها التفاتا فإنها مجنونة .

أدب الرافعي

سألت الإمام الشهيد ذات يوم عن الطريقة التي استطيع بها أن أحس أسلوبي في الكتابة فقال : اقرأ لمصطفى صادق الرافعي , ذهبت من فوري واشتريت كتب الرافعي المتاحة في ذلك الوقت وهي : أجاز القرءان , ووحي القلم , والسحاب الأحمر , وأوراق الورد .

قدم كتاب " إعجاز القرءان " الزعيم سعد زغلول قائلا : " كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم " .

وكان كتاب " وحي القلم " تجميعا لمقالات نشرها مصطفى صادق في المجلات الأدبية في ذلك الوقت ومن أهمها " الرسالة " التي كان يصدرها أحمد حسن الزيات ونشرت بها مقالاته منذ عام 1934 إلى 1937 . وقد قدم الكتاب الإمام محمد عبدة برسالة مؤرخة في 5 شوال عام 1321 ه الموافق 25 ديسمبر 1903 م .

يقول الرافعي في بعض مواضع الكتاب : " قيل لأرض جدبة : من تختارين زوجك لو كنت امرأة ؟ فقالت : الفأس . . . الطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين ؟ "

وفي موضع اخر يقول : أيجوع إخوانكم أيها المسلمون وتشبعون ؟ إن هذا الشبع ذنب يعاقب الله عليه . . . كان أسلافكم أيها المسلمون يفتحون الممالك , فافتحوا أنتم أيديكم . . . كانوا يرمون بأنفسهم في سبيل لله غير مكترثين . فارموا أنتم في سبيل الحق بالدنانير والدراهم . . . لماذا كانت القبلة في الإسلام إلا لتعتاد الوجوه كلها أن تتحول إلى الجهة الواحدة ؟ لماذا ارتفعت المآذن إلا ليعتاد المسلون رفع الصوت بالحق ؟ أيها المسلمون ! كونوا هنا . . كونوا هناك مع إخوانكم بمعنى من المعاني .

كان ذلك بمناسبة الحرب بين الفلسطينيين والعصابات الصهيونية , آذ يقول في نهاية المقال : كل قرش يبذله المسلم لفلسطين , يتكلم يوم الحساب يقول : يا رب , إن إيمان فلان !

مما أعجبني في وحي القلم : " قصة الأيدي المتوضئة " التي تحكي كيف كان شباب الإخوان المسلمين يجمعون التبرعات لفلسطين في أحد المساجد , وكيف كان رد الفعل عند المشايخ من رجال الدين يعكس ما كان عند البسطاء من العامة , وذلك بأسلوب رقيق ساخر . . . يقول عن رجال الدين : والعجيب أن هذا الذي لا يجهله أحد من أهل الدين , يعرفه بعض علماء الدين على وجه آخر , فتراه في المسجد يمشي مختالا , قد تحلى بحليته , وتكلف لزهوه , فليس الجبة تسع اثنين , وتطاول كأنه المئذنة , وتصدر كأنه القبلة , وانتفخ كأنه ممتلئ بالفروق بينه وبين الناس ! وهو بعد كل هذا لو كشف الله تمويهه لا نكشف عن تاجر علم بعض شروطه على الفضيلة أن يأكل بها , فلا يجد دنيا ذاته إلا في المسجد , فهو نوع من كذب العالم الديني على دينه .

ويقول عن الشبان الذين يجمعون التبرعات : ولما قضيت الصلاة ماج الناس وفيهم جماعة الشبان يصحبون بهم يستوقفونهم ليخطبوهم ! ثم قام أحدهم فخطب , فذكر فلسطين وما نزل بها , وتغير أحوال أهلها , ونكبتهم وجهادهم واختلال أمرهم , ثم استنجد واستعان , دعا الموسر والمخف إلى البذل والتبرع وإقراض الله تعالى : وتقدم أصحابه بصناديق مختومة , فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل والأقل من دراهم هي في هذه الحال دراهم أصحابها وضمائرهم . . . وقعت الصيحة في المكان ! فجاء أحد الخطباء ووقف يفعل ما يفعله الرعد : لا يكرر إلا زمجرة واحدة ! وكان الشيوخ الأجلاء قد سمعوا كل ما قيل , فأطرقوا يسمعونه مرة رابعة أو خامسة ! وفرغ الشباب من هديره فتحول إليهم وجلس بين أيديهم متأدبا متخشعا ووضع الصندوق المختوم . فقال أحد الشيوخ : ممن أنت يا بني ؟ فقال : من جماعة الإخوان المسلمين , قال الشيخ : لم يخف علينا مكانك , وقد بذلتم ما استطعتم ! فبارك الله فيك وفي أصحابك .

قال الراوي : وكان إلى جانبي رجل قروي من هؤلاء الفلاحين الذين تعرف الخير في وجوههم , والصبر في أجسامهم , والقناعة في نفوسهم , والفضل في سجاياهم ! إذ امتزجت بهم روح الطبيعة الخصبة فتخرج من أرضهم زروعا ومن أنفسهم زروعا أخرى . . . فقال لرجل كان معه : إن هذا الخطيب . . خطيب المسجد . . قد غشنا وهؤلاء الشبان قد فضحوه ! فما ينبغي أن تكون خطبة المسلمين إلا في أخص أحوال المسلمين .

قال : ونبهني هذا الرجل الساذج إلى معنى دقيق في حكمة هذه المنابر الإسلامية ! فما يريد الإسلام إلا أن تكون كمحطات الإذاعة , يلتقط كل منبر أخبار الجهات الأخرى ويذيعها في صيغة الخطاب إلى الروح والعقل والقلب , فتكون خطبة الجمعة هي الكلمة الأسبوعية في سياسة الأسبوع أو مسألة الأسبوع ! وبهذا الخطيب ينتظره الناس في كل جمعة انتظار الشيء الجديد ! ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل .

قال : وأخرج القروي كيسه فعزل منه دراهم وقال : هذه لطعام أتبلغ به ولاؤبتي إلى البلد , ثم أفرغ الباقي في صناديق الجماعة ! واقتديت أنا به فلم أخرج من المسجد حتى وضعت في صناديق الجماعة كل ما معي ! ولقد حسبت أنه لو بقى لي درهم واحد لمضى يسبني ما دام معي إلى أن يخرج عني .

ويقول عن خطيب المسجد وسيفه الخشبي : وصعد الخطيب المنبر وفي يده سيفه الخشبي يتوكأ عليه  ! فما استقر في الذروة حتى خيل إلى أن الرجل قد دخل في سر هذه الخشبة , فهو يبدو كالمريض تقيمه عصاه , وكالهرم يمسكه ما يتوكأ عليه ! ونظرت فإذا هو كذب صريح على الإسلام والمسلمين , كهيئة سيفه الخشبي في كذبها على السيف ومعدنها وأعمالها .

أفي سيف من الخشب معنوية غير معنى الهزل والسخافة , وبلاهة العقل وذلة الحياة , ومسخ التاريخ الفاتح المنتصر , والرمز لخضوع الكلمة وصبيانية الإدارة ؟

قال : وكان تمام الهزأ بهذا السيف الخشبي الذي صنعته وزارة أوقاف المسلمين , أنه في طول صمصامة عمرو بن معديكرب الزبيدي فارس الجاهلية والإسلام , فكا إلى صدر الخطيب , ولولا أنه في يده لظهر مقبضه في صدر الرجل كأنه وسام من الخشب .

ويقول عن أصحاب اللحى : . . . فإذا هناك رجال من علماء المسمين , اثنان أو ثلاثة ( الشك في ثالثهم لأنه حليق اللحية ) . ثم توافد إليهم آخرون فتموا سبعة : ورأيتهم قد خلطوا بأنفسهم صاحب ( اللألحية ) , فعلمت أنه منهم على المذهب الشائع في بعض العصريين من العلماء والقضاة الشرعيين , أحسبهم يحتجون بقوله تعالى : " ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " ! وكل أمريء فإنما تبصره مرآته كيف يظهر في أحسن تقويم . أبلحية أم بلا لحية . . . ؟

وأدرت عيسى في وجوههم , فإذا وقار وسمت ونور لم أر منها شيئا في وجه صاحب ( اللألحية )  ! وأنا ما أبصرت فقط لحية رجل عالم أو عابد أو فيلسوف أو شاعر أو كاتب أو ذي فن عظيم , إلا ذكرت هذا المعنى الشعري البديع الذي ورد في بعض الأخبار , من أن لله ( تعالى ) ملائكة يقسمون : والذي زين بني ادم باللحى . وكان من السبعة رجل ترك لحيته عافية على طبيعتها ! فامتدت وعظمت حتى نشرت حولها جوا روحانيا من الهيبة تشعر النفس الرقيقة بتياره على بعد .

ويقول عن مدى الاستجابة للتبرع ووضع شيء من النقود في صندوق جمع التبرعات ! . . . وسكت الشاب , وسكت الشيوخ , وسكت الصندوق أيضا . . . ثم تحركت النفس بوحي الحالة ! فمد أولهم يده إلى جيبه , ثم دسها فيه , ثم عبث فيه ( أي بحث بأصابعه ) ! ثم . . . ثم أخرج الساعة ينظر فيها.

وانتقلت العدوى إلى الباقين , فأخرج أحدهم منديله يتمخط فيه , وظهرت في يد الثالث سبحة طويلة , وأخرج الرابع سواكا فمر به على أسنانه , وجر الخامس كراسة كانت في قبائه , ومد صاحب اللحية العريضة أصابعه إلى لحيته يتخللها ! أما السابع صاحب ( اللألحية ) , فثبتت يده في جيبه ولم تخرج , كأن فيها شيئا يستحى إذا هو أظهره , أو يخشى إذا هو أظهره من تخجيل الجماعة . وسكت الشاب , وسكت الشيوخ , وسكت الصندوق أيضا .

سألت الأستاذ فهمي هويدي الكاتب والمفكر الإسلامي المعروف , وكان ذلك في لقاء عابر أثناء أحد المؤتمرات : ألاحظ أن أسلوبك يشبه أسلوب مصطفى صادق الرافعي , فهل قرأت له ؟ قال نعم . . . كل كتبه . كان الأسلوب الذي تعلمناه من الرافعي بناء على توصية الإمام الشهيد , يتميز بالجزالة مع البساطة والصدق في التعبير ووضع اللفظ في مكانه بحيث لا تحتمل الجملة إضافة كلمة أو يمكن أن تحذف منها كلمة . السيكا والسكسوكة والهردبيسة .

ذهبت مع المرحوم الدكتور حسين كمال الدين لزيارة معسكر لجوالة الإخوان أقيم في حلوان . وكان الغرض من هذا المعسكر هو تدريب أفراد الجوالة ليجتازوا اختبار الكشاف الراقي وكان عددهم 120 فردا . ذلك أن فرق جوالة الإخوان كانت مسجلة بجمعية الكشافة الأهلية المصرية التي كانت تحت رعاية الملك , وكان يرأسها الأستاذ محمد حسنين زهير . وكان كل عضو في الجوالة يحمل بطاقة عليها خاتم الجمعية ( المعترف بها من الدولة ) توضح بياناته الشخصية ورتبته الكشفية , ونداء من وزير الداخلية يرجو تسهيل مهمة الكشاف . وكان نظام الكشافة يبدأ بالكشاف الحديث , ثم الكشاف الراقي , ثم الجوال . وكنت أنا في رتبة جوال في هذا الوقت . ومعنى الجوال أنه الشخص الذي يضع نفسه في خدمة المجتمع , وشعاره : لا يستحق أن يولد من عاش لنفسه فقط " .

كان نظام جوالة الإخوان تربويا ورياضيا , رئيسه الدكتور حسن كمال الدين , يعاونه محمد سعد الدين الوليلي وعبد المغني عابدين . وكان هذا النظام هو نواة النظام العسكري الذي حارب في فلسطين عام 1948 وانتصر في كثير من المعارك بقيادة محمود عبدة وغيره من ضباط الإخوان .

وكان لا بد لعضو الجوالة أن يرقي من كشاف حديث إلى كشاف راق إلى جوال , عن طريق اختبارات تشمل أنواع العقد الملائمة للأغراض المختلفة والإسعافات الأولية وإنقاذ الغرقى وإغاثة الملهوف . . . الخ .

ولما ذهبنا إلى ذلك المعسكر لاختبار الإخوان لينتقلوا من رتبة كشاف حديث إلى كشاف راق , قسمناهم إلى مجموعات يختبر كل منها كشاف راق على الأقل .

ولما حل موعد الغذاء . . وكان الشيخ مصطفى العالم رئيس الإخوان بميت غمر هو المشرف على المطبخ . . قدم لنا الطعام . كانت الوجبة عبارة عن رغيف من الخبز وبعض من الأرز وصحن من الخضار المطبوخ . كان الطعام لذيذا وله شمخة خاصة تثير الشهية . سألنا الشيخ مصطفى عن كنه ذلك الطعام , فقال إنه شيء يسمى سيكا . ولم يفصح لنا عن سره .

أما الحلو فكان شيئا فشيئا بالمهلبية فيها طعم فاكهة لم نتبين نوعها , وسألنا الشيخ مصطفى عن نوع ذلك الحلو فقال إن اسمه " سكسوكة " في المساء حضر الأستاذ الإمام لتفقد أحوال ذلك المعسكر , وصلى بنا المغرب , وسأل عن أحوال جوالة الإخوان . . . وكان معنا مندوبون عن جمعية الكشافة الأهلية المصرية كمراقبين للامتحانات .

لما علم الإمام بموضوع السيكا والسكسوكة , سأل الشيخ مصطفى العالم عن سرهما , فلم يملك الشيخ مصطفى إلا أن يبوح بسره .

أما السيكا , فانه بعث أحد الإخوان ليشتري بريال طعمية , وعشرة أرطال طماطم بخمسة قروش وثلاث أقات بصل بقرش ونصف وبقرشين زيت , وحمر البصل في الزيت وأضاف إليهما الطماطم مقطعة قطعا صغيرة , ثم أضاف إلى ذلك الطعمية بعد أن هرس أقراصها لتختلط تماما بالصلصة , مضيفا إلى كل ذلك قليلا من الملح .

سألناه عن سبب تسمية هذه الوجبة بالسيكا , فقال إنها كلمة لا معنى لها تتفق مع نوع الطعام الذي لا معنى له . فأسميناها " هردبيسة " لأنها تمثل نوعا من اللخطبة ما بين هرس الطعمية إلى تخديعة الصلصة التي تشبه الدبس ( العصير المركز ) في شكلها .

أما السكسوكة , فقد شرح الشيخ مصطفى كنهها , بأنه عندما نقع الأرز في الماء استخسر أن يلقي بذلك الماء في الأرض . وكان الماء مليئا بالنشا المتخلف عن الأرز المنقوع . ثم بعث أحد الإخوان ليشتري بخمسة قروش تين شوكي , ثم غسله وهرسه ليفصل البذور عن لحم التين , ورمى البذور , وألقى بعجينة التين إلى الماء وأضاف بعضا من السكر ووضع ماء الأرز بعجين التين بالسكر على النار إلى أن صارت النتيجة شيئا شبيها بالمهلبية .

ضحك الأستاذ الأمام كثيرا على تصرف الشيخ مصطفى العالم , الذي أنجز وجبة غذاء لمائة وعشرين فردا بمبلغ 35 قرشا ونصف القرش .

قابلت الشيخ مصطفى العالم . . بارك الله في عمره . . بعد هذه الواقعة بخمسة وأربعين عاما في حفل قران ابن الأخ الأستاذ بهجت خليل في جدة , وصرنا نتسامر ونضحك على ما كان يخالط نشاط الدعوة من تصرفات فكهة تبعث على الابتسام .

قال لي الشيخ مصطفى العالم . . وهو العالم اسما والعالم الفقيه حقا وصدقا . . أنه حينما جاء إلى السعودية في الخمسينات ومعه بعض الإخوان , رحب بهم الملك سعود رحمه الله . ثم لما تولى الملك فيصل الأمر , لم يقربه إليه إلا بعد واقعة . . . هي أن الشيخ مصطفى ذهب إليه وقال له عندي ملحوظة أرجو إبلاغها إياك . . وهي أنه في المكان الفلاني ترتكب أعمال فاحشة لا يحس بها رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , حيث يقف الشباب من أصحاب السيارات ليلتقطوا النساء . قال الملك فيصل : النصيحة لمن يا شيخ مصطفى ؟ فقال : " لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " فقال الملك : بارك الله فيك . وما أسرع استجابة الملك فيصل للنصيحة , حيث ذهب الشيخ مصطفى إلى ذلك الموضع في عصر ذات اليوم فلم يجد سيارة واحدة , ووجد جنودا يقتادون من يرد بسيارته ويقف هناك إلى مركز الشرطة ليلتقي جزاءه .

قدمه جلالة الملك فيصل إلى بعض الأمراء ورجال الدين – وكان معه الشيخ عشماوي – قائلا : لم يأت هؤلاء الإخوان إلينا هربا من عبد الناصر فحسب , ولكن ليصححوا لنا عقيدتنا السلفية .

ومنذ ذلك اليوم والشيخ مصطفى يعتبر مستشارا للملك بغير منصب رسمي . لقد تعلم مصطفى العالم من الإمام الشهيد وسار على نهجه , لذلك نال ثقة الحكام والمحكومين في المملكة العربية السعودية , التي استضافت كثيرا من الإخوان ورعتهم . والفضل في ذلك يرجع إلى ما كان بين الملك عبد العزيز آل سعود والأمام حسن البنا من روابط وثيقة , منبعها العمل على نصرة دين الله وتطبيق شريعته السمحة الصالحة لكل زمان ومكان .

الفتوات

كان لفكر الإخوان المسلمين ودعوتهم الأثر الأكبر على النفوس التي ضلت سواء السبيل . لهذا ليس عجيبا أن تجد أخوانا كانوا من قبل من الخارجين على القانون إلى أن هداهم الله فصاروا قدوة طيبة يقتدي بها الرجال . كان الأخ أحمد نار – كما قال لي – قاطع طريق . . وكان من قرية من قرى منيا القمح الشرقية . وكان قويا يهابه الناس جميعا , وله أتباع يأتمرون بأمره .

حضر محاضرة للأستاذ الإمام بمنيا القمح , فأصابه شعاع من نور . . . ثم التقى بالإمام بعد المحاضرة , وجلس يتحدث معه . ثم زاره في المركز العام , وتكررت الزيارات , فإذا بأحمد نار يصير من أعظم الدعاة إلى الإسلام الحق والاهتداء بشريعته , وطوع الله لسانه للخطابة فصار خطيبا يأسر الناس بروحانيته العالية . كان يتقن التحطيب ( اللعب بالعصا ) بحكم سابق خبرته , فصار يعلمنا التحطيب في معسكرات فرق الجوالة بالشرقية .

رحمه الله رحمة واسعة , حيث كان مصابا بحصى في الكليتين , وتوفاه الله في السجن الذي وضع فيه مظلوما . كذلك فان من الشخصيات الملفتة للنظر في الإخوان : الأخ إبراهيم كروم .. كان فتوة السبتية , وكان يفرض على المتاجر هناك إتاوات لحمايتها من المخربين واللصوص . وكان يقطع شارع السبتية راكبا حصانا أبيض وبيده النبوت الشهير, وخلفه الأتباع راجلين .

في أحد الأيام دعا إخوان شعبة السبتي ة الأستاذ الأمام ليلقى كلمة على أهل الحي , وجمعوا من أنفسهم تبرعات لا تكاد تكفي لإقامة سرادق صغير .

علم إبراهيم كروم بالأمر فأخذته النخوة المشهورة عن الفتوات , وذهب بنفسه إلى أصحاب المتاجر يجمع منهم التبرعات التي قرضها على كل منهم . وفي المساء حضر الأستاذ الإمام إلى السرادق , وحكوا له ما قدمه إبراهيم كروم من مساعدة , فقربه الإمام إليه وصار يؤثره بالحديث قبل الخطبة وبعدها .

ذهب إبراهيم كروم يزور الإمام في دار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة , ثم حضر حديث الثلاثاء , واستمع إلى كلام عن الإسلام لم يسمعه من أحد من قبل . فتعلق قلبه بالإمام , ومن ثم بدعوة الإخوان , التي وجد فيها إلى جانب الدعوة إلى الإيمان , الحث على الفضائل والشهامة والاستعداد بالقوة .

وأخذ ينظر إلى شعار الإخوان المكون من سيفين بينهما مصحف , وتحتهما كلمة " وأعدوا " , ويستمع إلى هتاف الإخوان : الله غايتنا . . . والرسول زعيمنا . . . والقرءان دستورنا . . . والجهاد سبيلنا . . . والموت في سبيل الله اسمي أمانينا . فوجد في دعوة الاخوان ما يشبع نفسه المؤمنة بالسليقة وما يفي بحاجته إلى استخدام القوة مع الأعداء .

آخر مرة التقيت فيها بإبراهيم كروم , كانت في معتقل الطور 1949 , كان يسير في الفناء شامخا نوره يسعى بين أيديه .

اختبارات

كان الإمام الشهيد إذا وقع اختياره على شخص ما ليكون مساعدا له أو أمينا على سر من أسرار الدعوة , يختبره أولا في إخلاصه وصدقه , ثم يتبين له بالتجربة معه ما إذا كان صالحا أو غير صالح للعمل الذي يوكل إليه , فإذا نجح يختبره مرة أخرى ليعترف على قدرته على تحمل المسئولية وعلى الإخلاص والصدق في النصيحة . من حيث الإخلاص , كان يسأل الشخص المرشح سؤالا : هل إذا حدث انقلاب في الإخوان وأبعد حسن البنا , هل تظن تعمل في الجماعة ؟

كان هذا السؤال يلح عليه , حيث انشق بعض الإخوان من قبل معارضين فكر الجماعة , مثل شباب محمد وغيرهم , الذين لم يعجبهم أسلوب حسن البنا في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة , ويرون في العنف وتغيير المنكر باليد وسيلة للإصلاح . ولم يحس أمثال هؤلاء بمدى تجسيد الدعوة في شخص حسن البنا وما اتسم به خلقه الرفيع وسلوكه السوي المتزن , ومن كان مثلهم فانه يجيب بأن الدعوة باقية , وحسن البنا زائل ولعل هذا يكون ردا معقولا لصاحب التفكير السطحي . فيقول له الإمام : وماذا لو حدث ذلك في حياة حسن البنا ؟

حدث ذلك معي قبل أن أعمل معه أمينا للمعلومات ومطلعا على أسرار النظام الخاص . فقلت له إن دعوة الإخوان المسلمين بغير حسن البنا , ستكون شيئا آخر غير دعوة الإخوان التي تعلمناها وعرفناها وتربينا فيها ,

قال لي : انظر يا محمود ! . . .إن الإيمان بالإسلام يقوم على شهادتين : ألا اله إلا الله وأن محمد رسول الله . ولا تصلح الشهادة الأولى وحدها ليصير الشخص مسلما . ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتجسد الإسلام في شخصه , ويمكن الإحساس به في خلقه وسلوكه صلى الله عليه وسلم .

فإذا امن الشخص بألا اله إلا الله , ولم يؤمن بأن محمدا رسول الله , فهو كأهل الكتاب الذين يؤمنون بالله فقط , ولا يتعرفون برسول الله صلى الله عليه وسلم .

يجب أن يكون الأيمان بالفكرة وصاحبها معا . فلسنا جمعية ولا تشكيلا اجتماعيا . إن كنا كذلك فلا أهمية للقائد , ويمكن أن يكون أيا من أعضاء الجماعة أو الجمعية أو التشكيل . أما ونحن دعوة فلا بد من الأيمان بها والسير على نهج داعيتها والعمل على تطبيق أفكاره متى اقتنعنا به عن رضا . ولا تظنن أن طاعة القائد واجبة في كافة الظروف , ولكنها تقتصر فقط على اقتناعنا الخاص وثقتنا في القائد بالدرجة التي تبعد الشك به أو سوء الظن به .

كان للإمام سحره النابع من إخلاصه , والإخلاص ينتقل كالعدوى, لذلك كان كل معاونيه من الصادقين المخلصين . كان هذا أحد الاختبارات . أما الاختبار الثاني فكان لصغار المعاونين حيث يستلزم الأمر الشجاعة والإخلاص في العمل والأمانة في الحفاظ على الأسرار . كان يكلف رئيس القسم المختص بالمركز العام , فيرشح لي من يراه ملائما من الإخوان العاملين أو المترددين على القسم . كنت أقول له اذهب إلى مكان كذا . . ( ميدان السيدة زينب مثلا ) وستجد شخصا واقفا تحت الساعة في الميدان وفي يده كتاب جلدته خضراء . . . قل له : السلام عليكم . فيقول لك : سلام . فإذا قال وعليك السلام فإنه يكون غير الشخص المقصود وحينئذ أسأله عن عنوان ما وانصرف . أما إذا رد عليك بالشفرة المتفق عليها , فقل له أين الأمانة ؟ سيعطيك شيئا تحمله إلى شخص ما في مكان آخر . نفذ تعليماته .

وبالفعل يذهب المرشح للمكان ويتلقى من الشخص المقصود لفاقة فيها قطعة حجر , ويقول له : هذا مسدس , خذه وأعطه لفلان الواقف على محطة الترام أمام باب المسجد وهو يرتدي حلة زرقاء اللون . فإذا تبين له أنه المرشح قد أنزعج وأظهر الخوف , فإنه يقول له : لا تخف , لقد نجحت في امتحان إطاعة الأوامر , ثم يصرفه . أما إذا أظهر شجاعة ونفذ التعليمات فإنه يكون قد نجح بالفعل وحينئذ ينضم إلى الفئة العاملة المخلصة الحافظة للسر .

أما الاختبار الثالث فهو يكون لكبار المعاونين للإمام , حيث يجتمع بهم فرادى , ويعرض على الواحد منهم رأيا يعلم فضيلته أنه سخيف ولا وزن له في الحقيقة . فإذا أبدا الشخص إعجابا بالرأي وحماسا له باعتباره رأي الإمام , وصار يقرظه متملقا إياه , فان الإمام يعلم عن هذا الشخص النفاق وعدم الإخلاص , فيضعه في ذهنه ضمن أولئك الذين لا يعتمد عليهم في رأي أو نصيحة . أما الذي ينجح في هذا الاختبار فهو الإنسان الصادق الذي يعارض الرأي ويظهر عيوبه .

ليت رجال الأعمال من رؤساء مجالس الإدارات والمديرين العامين يتبعون هذا الأسلوب في الاختبار لكي يقيموا مستشاريهم ومعاونيهم ويتعرفوا على مدى الصدق فيما يشيرون به .

مشروع زواج

أذكر أني التحقت بكلية التجارة عام 1938 على كره مني . فقد كنت أتمنى الالتحاق بالهندسة لاتفاقها مع هواياتي في الرسم ( حصلت على 19 من 20 في الرسم الهندسي في الثانوية العامة ) .

وكان مجموع المواد الرياضية المؤهل لدخول كلية الهندسة يتضمن 130 درجة للهندسة الفراغية وحساب المثلثات والتحليل الرياضي والميكانيكا والرسم الهندسي , كما كان يتضمن 100 درجة للطبيعة والكيمياء . وفي حين أني حصلت على 125 درجة من إل 130 الأولى , لم أحصل في الطبيعة والكيمياء إلا على 40 درجة وهي الحد الأدنى للنجاح . فلم أقبل بكلية الهندسة .

وأنا داخل من باب كلية التجارة – وكانت آنذاك في المنيرة محل معهد التعاون الآن – وإذا بظاهرة ضخمة يقودها المرحوم فؤاد الجنزوري الطالب بالسنة الرابعة , تهتف ضد الحكومة . وعجبت لأمر هذه المظاهرة حيث لم تكن هناك أحداث سياسية تدعو إليها , غير أني عرفت فيما بعد أنه بسبب أن الحكومة عينت بعض خريجي العام الماضي بخمسة جنيهات ونصف شهريا على سبيل المكافأة , حيث لا توجد درجات .

كانت تلك صدمة قاتلة لزملائي بوجه عام , ولي بوجه خاص لأني دخلت هذه الكلية على كره مني , فزادت تلك المظاهرة وأسبابها الطين بله . وأصبحت البلوى بلوتين .

بقينا في مبنى الكلية ذاك لمدة عام واحد . ثم احتاج الجيش البريطاني إليه عام 1939 بعد أن بدأت الحرب العالمية الثانية , فأجلونا منه إلى ملحق تم بناؤه لكلية العلوم في جامعة القاهرة بالجيزة .

كنت أسكن في مصر القديمة ثم في حي الروضة , وأسير يوميا من هناك إلى القصر العيني فالمنيرة لأوفر 6 مليمات هي أجر الترام , ثم تحول ذلك إلى سير آخر مضن إلى الجيزة . وكان لنا أستاذ للقانون ( الدكتور محمد هيبة ) كثيرا ما كنت ألقاه في الطريق إلى الجامعة ونتسلى معا بتبادل الحديث حتى نصل إلى الكلية .

في عام 1939 تقدمت للالتحاق بالكلية الحربية وبكلية البوليس , ونجحت في الكشف الطبي في الاثنتين , ثم رسبت في كشف الهيئة في الاثنتين كذلك , بالرغم من أني لم أدع لمقابلة لجنة الامتحان في أي منهما , في حين أني كنت واقفا مع غيري على الباب , إذ خرج لنا ضابط وقال : اذهبوا وسنستدعيكم إذا لزم الأمر . معنى هذا أنه لم تكن لي أو لزملائي واسطة . وكان هذا أمرا شائعا في دخول الحربية والبوليس .

كان كشف الهيئة هذا وبالا علي إذ كان في يوم امتحان الرياضة في الكلية , الأمر الذي أدى إلى أن أرسب في ذلك العام .

كنت في الكلية عضوا بشعبة الإخوان المسلمين منذ عام 1941 وكان رئيسها زميلي محمد يونس الأنصاري ( شقيق اللواء محمود يونس الأنصاري ) الذي دعاني لزيارة المركز العام . ذهبت معه والتقينا بالإمام الشهيد . وكانت تلك أول مرة أجلس معه ونتبادل الحديث . سألني عن أحوالي وعما إذا كنت أفكر في الزواج , فأخبرته بأني لم أجد بعد ما يوافقني . فقال ابحث بين الأقارب . فقلت : لي ابنه خال ولكنها صغيرة في السن , فقال انتظرها وتوكل على الله .

انتظرتها . . وبعد عام سألني عنها كيف هي ؟ فقلت : بخير قال أتحبها ؟ قلت : نعم . قال أتحبك ؟ قلت : أعتقد ذلك , قال أفصح لها عن حبك .

علمت منه يومها أن ابنته وفاء يتنافس عليها اثنان من الإخوان هما سعد الوليلي وسعيد رمضان , ولكنه أبى أن يعطي أيا منهما كلمة إلى أن تكبر ويكون لها الرأي النهائي فيمن تتزوج . وكانت في النهاية من نصيب سعيد رمضان .

عند زواجي في 11 / 11 / 1948 , أوفد الإمام الشهيد نيابة عنه الأستاذ عبد الحكيم عابدين ليعقد القران . وحضر فريق التمثيل بشعبة السيدة عائشة وأحيى حفل الزواج . وكانت ليلة لم تر لها قريتنا مثيل من قبل .

جهزنا لهم مكانا للمبيت بدوار العائلة وكان معهم موظفو شركة الإعلانات العربية , فنهضوا لصلاة الفجر , وأرادوا ارتداء أحذيتهم تمهيدا للانصراف , فوجدوا الأحذية وقد ربطت كل فردة منها مع فردة حذاء آخر , وصار كل منهم يبحث عن حذائه .

كان سعد تاج الدين رئيس حسابات الشركة قد قام في الليل بمزج الأحذية وربطها من باب الدعابة . . . وكانت دعابة مقبولة من الجميع , وصاروا يتندرون بها لأيام بعد ذلك .

البنك الأهلي المصري

تخرجت من كلية التجارة عام 1943 وكنت السادس في الترتيب . وكانت دفعتي التي تخرجت , مكونة من 43 طالبا على مستوى المملكة المصرية , فلم تكن جامعة فاروق الأول بالإسكندرية قد خرجت أحدا بعد . وطلب البنك الأهلي المصري من الكلية – مستجيبا لحركة التمصير – أن ترشح له العشرة الأول ليلتحقوا بالبنك . وأرسلوا لنا بموعد امتحان سيتم في الجامعة الأمريكية في موعد محدد . فإذا بطالبي الوظائف يزيد عددهم على السبعين : فتيان وفتيات , يونانيون وأرمن وإيطاليون ويهود , بعضهم لا يحمل أية شهادات , وليس منهم من يحمل مؤهلا عاليا . وجلسنا للامتحان وأنا أظن أنهم سيختبروننا في المحاسبة التي حصلت فيها على 18 درجة من 20 في البكالوريوس . فوجئنا بأن الامتحان كالآتي : موضوع إنشاء عربي , وموضوع إنشاء انجليزي ومسألة حساب بسيطة وسؤال عن جغرافية وادي النيل وسؤال عن أهم أعمال رمسيس الثاني وقطعة ترجمة بسيطة من الانجليزية للعربية . احتقر 9 من زملائي ذلك الامتحان وغادروا القاعة, ولكني بقيت وأتممته لحاجتي للوظيفة .

عينت في فرع البنك الأهلي بالزقازيق براتب قدره 8 جنيهات + جنيهين بدل أرياف , فكانت تلك نعمة من الله , لأني عشت مع والدي الذي كان مهندسا بمساحة الزقازيق .

كان مدير فرع البنك الأهلي اسكتلنديا , والباش كاتب ( مسيو ليقي ) يهوديا , وكبير المحاسبين ( مسيو زونانا ) يهوديا ( بعد ذلك صار مديرا لمراقبة النقد ) . وكان باقي العاملين 5 من المصريين , من بينهم متولي الجمل الذي صار عميدا لتجارة القاهرة بعد ذلك بسبعة وعشرين عاما .

وكانت المعاملة قاسية وسيئة للغاية , وكل يوم نجد فيها منغصات من اليهود ومن المدير الذي ينصاع إليهما . وكنا نعمل من 7,30 صباحا إلى 8,30 مساءا مع راحة لمدة ساعة لتناول الغذاء في المنزل . أي كنا نعمل 12 ساعة صافية يوميا . ويوم الأحد ( أي يوم الأجازة ) نعمل من 10 صباحا إلى 3 عصرا .

ذهبت إلى الأستاذ الإمام حسن البنا استفتيته في العمل في البنك , هل هو حلال أم حرام ؟

سألته في ذلك باعتبار أن البنك يتعامل بالربا . فسألني " : هل إذا تركت البنك ستجد عملا آخر لتنفق على نفسك وأهلك ؟ " قلت : " عسير جدا بل شبه مستحيل " . قال : " إذا استقلت من البنك ألا يستفيد من شغل الوظيفة يهودي أو إيطالي أو يوناني ؟ " قلت : " طبعا " قال : " أهذا في مصلحة الإسلام ؟ ثم هل كل أعمال البنك يداخلها ربا ؟ "

فقلت : " لا " . هناك عمليات القطن وفتح الاعتماد وإصدار الشيكات وغير ذلك مما لا يدخله الربا ؟ " فقال : " إذن مال البنك قد اختلط حلاله بحرامه . وما يدريك أنت أنك تحصل على راتبك من الجانب الحرام ؟ عد إلى عملك فإنك تحصل على أجر عن عمل تؤديه أنت , وهو عمل حلال " وقد كنتفي البنك استلم البريد الوارد وأقيده وأعرضه على المدير وأتابع تأشيراته , وأتولى البريد الصادر واخذ صورا منه وأضعها في الملفات الملائمة , كما كانت عندي عهدة الأدوات المكتبية , وأقيد الحسابات .

كان من اختصاصي أن أعد كشوف فرع الخرطوم . وهي كشوف تقيد بها جميع عمليات البنك كل أسبوع , ونبعث بها إلى فرع الخرطوم البعيد عن أخطار الحرب , حتى إذا ضرب أحد فروع البنك بقنبلة , لا تضيع حساباته مع ما يضيع من سجلات وموجودات .

لقد استفدت من عملي بالبنك – على قسوته وصعوبته – فائدة عظمى , كنت أكره الأرقام فصرت أحبها , تعلمت الدقة المتناهية حيث كنت أعيد جميع القيود في كشوف فرع الخرطوم إذا لم يتفق مجموع الأرصدة مع ما هو وارد في الدفاتر . كذلك تعلمت الصبر , والكياسة في المعاملة , وتحمل سوء أخلاق الرؤساء .

الاستقالة من البنك الأهلي

في البنك الأهلي بالزقازيق كنا خمسة موظفين , ونقوم بعمل 30 موظفا . ولم تكن لنا أيام راحة أو أجازات . وفي ليلة عيد الفطر – أي في آخر رمضان – كنت أعمل بالبنك حتى الساعة الحادية عشرة مساء . جاء مسيو زونانا ( رئيس الحسابات اليهودي ) فوجدني منهمكا في العمل . قال : مسيو عساف . . بكرة عندكم عيد . . . تقدر تحضر للبنك الساعة 10 صباحا . قلت له : يوم العيد عندي ارتباطات عائلية في البلد . قال : نحن لا يهمنا هذه الارتباطات . أنت موظف هنا ولم تثبت بعد . ومن شدة غضبي والكبت الذي حدث لي أصبت بمرض لا أعرفه . عرضت نفسي على طبيب صحة أبو حماد الذي منحني أجازة مرضية لمدة 15 يوما . بعثت بها بخطاب مسجل إلى البنك .

بعد أيام العيد , توجهت أبحث عن عمل بالقاهرة . . من الأماكن التي بحثت فيها: ديوان المحاسبة ( الجهاز المركزي للمحاسبات اليوم ) ووجدت هناك أحد زملائي وكان الأخير في الدفعة , يعمل هناك في الدرجة السادسة بمرتب 13 جنيها و30 قرشا . وهو مبلغ كبير نسبيا إذا قورن براتبي البالغ 8 جنيهات بالإضافة إلى جنيهين بدل الأرياف , وكان زونانا يسعى لإلغائها باعتباري من أهل المنطقة . . . لم أوفق لشيء في ديوان المحاسبة فقد كان الأمر يحتاج إلى واسطة كبيرة . لا تقل عن مستوى البطريرك .

توجهت إلى إدارة الخبراء بوزارة العدل , ووجدت هناك زميلين من دفعتي , وجدتهما مع بعض أصدقائهما يتشمسون في الشتاء في فناء الإدارة حول فسقية تضخ الماء , ويشربون عصير القصب, في استرخاء على كراسي من الخشب والقماش مما يستخدم في المصايف . هذا المنظر لا يغيب عن ذاكرتي أبدا .

توجهت لمقابلة عبد الله بك أباظة , وكان نائب بلدنا وصديقا لخالي , وعرضت عليه الأمر فحاول أن يثنيني عن ترك البنك باعتبار أن المستقبل فيه , فأفهمته أني لا استطيع تحمل سلوك اليهود تجاهي , وأنني مرهق جدا بالعمل الذي هو فوق الطاقة .

كنت بعد أن ينتهي عملي في البنك في الساعة الثامنة مساء في العادة , أتوجه إلى دار الإخوان المسلمين بالزقازيق , حيث كنت نائبا لرئيس الجوالة لمنطقة القناة والشرقية , لشئون الشرقية , وكنت أعمل على تكوين فرق الجوالة بمدن الشرقية وقراها وأرتب المؤتمرات الكشفية وأقيم معسكراتها حتى وصل عدد جوالة الشرقية إلى حوالي خمسة آلاف , شاركوا في الاستعراض الكشفي الذي استعرضه الملك عبد العزيز آل سعود حين أقام ضيفا على مصر في قصر الزعفران , وكان الإمام الشهيد يقف إلى جواره أثناء الاستعراض الذي اشترك فيه حوالي 15 ألف جوال . وكنت حاضرا هناك .

وافق عبد الملك بك أباظة – وكيل وزارة التجارة آنذاك – على تعييني بمكتبه بمكافأة قدرها عشرة جنيها , كنت سعيدا بها . وبعد فترة نقلت إلى الدرجة السادسة براتب قدره 12 جنيها تضاف عليها علاوة الغلاء وقدرها 130 قرشا .

حينئذ أرسلت استقالتي إلى مدير البنك الأهلي بالزقازيق . وحتى الآن فالبنك مدين لي براتب الشهر الأخير الذي اشتغلته فيه .

أتاح لي عملي بالقاهرة أن أعمل متطوعا بالمركز العام للإخوان المسلمين , وأن أكون قريبا من الإمام , الذي عهد إلى فيما بعد , بأمانة المعلومات .

حلواني الوحدة العربية

بينما كنت أعمل مفتشا بإدارة الشكاوي بوزارة التموين , وردت شكوى إلى مكتب الوزير موقعا عليها من الشاكي ( حيث لم نكن ننظر للشكاوي المجهولة ) يقول فيها أن حلواني الوحدة العربية بشارع الساحة يتاجر بمقررات التموين المخصصة له , في السوق السوداء .

لم أكن أعرف مقدار تلك المقررات , فذهبت إلى مراقب تموين القاهرة بشارع القصر العيني , وطلبت منه تكليف أحد مفتشيه لمصاحبتي في تحقيق تلك الشكوى .

انتدب المراقب : حسن . . . أفندي , وهو مفتش قديم . توجهت معه إلى حلواني الوحدة العربية , وكان محله عبارة عن مترين عرضا في أربعة أمتار طولا , وقد عرض صواني البسبوسة والكنافة والقطا يف والبقلاوة في جانب من المتجر , وفي الجانب الآخر رص طاولات 40 في 40 سم وعلى جانبي كل طاولة كرسيان . جلسنا وحضر صاحب المحل قائلا : أهلا وسهلا يا بكوات . قلنا نحن مفتشان من التموين . وفتحنا محضرا سجلنا فيه مقرراته التموينية الشهرية من الزيت والسمن والسكر والدقيق , وسألناه عن مخزنه , فأشار إليه وكان في أسفل عمارة في الجانب الآخر من الشارع . ذهبنا لمعاينة هذا المخزن , فوجدنا أن ما به من مواد يعتبر معقولا . وانصرفنا على أن نذهب لنستوفي من الشاكي تفاصيل شكواه .

وفي طريقنا لعنوانه في أحد ميادين الجيزة تحت رقم 25 , قال حسن أفندي : استأذنك في المرور على مكتبي بمراقبة تموين القاهرة . . . ذهبنا سويا , وإذا بنا ونحن على الباب الخارجي , وكان إلى جواره مكتب مدير مباحث التموين , أن اعترضنا هذا المدير , وكان ضابط بوليس برتبة أميرالاي ( عميد ) وقال : ماذا يا حسن أفندي ؟ لقد أزعجتم فلان صاحب حلواني الوحدة العربية في حين أنه رجل طيب ولا يستحق هذه البهدلة . ضحك حسن أفندي وقال : يا فلان بك إنه لم يذيقنا الصنف , وهل هذا يصح ؟ وضحكنا من هذه النكتة .

ذهبنا إلى الشاكي , وعبرنا النيل في قارب ودفع كل منا خمسة مليمات أجرا للعبور , حيث كان كوبري عباس مفتوحا بسبب المظاهرات التي قامت في الجامعة في ذلك الوقت . ذهبنا إلى العنوان المذكور بالشكوى , وبحثنا عن السم الوارد فيها , فأفادنا أحد أصحاب المحلات من المسنين , بأن هذا الشخص كان موجودا فعلا , ولكنه مات من 25 سنة . عرفنا حينئذ أن الشكوى كيدية .

توجهنا في اليوم التالي لمحل الحلواني لكي نختم المحضر ونؤشر عليه بالحفظ . دخلنا المحل وجلسنا , وإذا بصاحبه يقدم لنا صينية كنافة بالسمن البلدي ( النادر في ذلك الوقت ) والفستق وعسل النحل . ثرت في وجهه . . . فقال حسن أفندي له : اسمع يا رجل إما أن نأكلها بالثمن أو نحرر لك محضر رشوة . فقال الرجل : أردت فقط أن تتذوقوا الصنف ! ( نفس العبارة التي قالها حسن أفندي لمدير مباحث التموين ) ثم اتبع ذلك: كلوها بالثمن .

قال حسن أفندي : كل يا محمود أفندي . . . أخذنا نأكل , ولم استطع أن أتناول إلا لقيمات قلائل لشدة حلاوة الكنافة , في حين أن حسن أفندي أجهز عليها .

قمنا بالخروج , وسألت حسن أفندي كم سندفع فيها , فقال انتظر حتى أحاسبه . ثم وضع في يد صاحب المحل نقودا . وانصرفنا . . . قلت : له كم أنا مدين ل كبه ؟ قال : 25 مليما ! ذهلت حيث أن الصينية تساوي خمسين قرشا على الأقل , وليس خمسة قروش . قال حسن أفندي موضحا : إن هذه الخمسة قروش سوف تسبب لصاحب المحل ضيقا شديدا . ففي تقديره إنه لو قبلناها رشوة فإن هذا سيسعده , أما أن ندفع فيها أقل من تكلفتها فإن ذلك سيغيظه على أساس أننا دفعنا فيها ثمنا ! !

لم أشأ أن احكي هذه القصة ل الإمام الشهيد , بيد أن أحداثها ظلت عالقة بذهني , وخاصة فيما يتعلق بمباحث التموين .

أقمشة الإغاثة

تولى الحزب السعدي الحكم بعد حزب الوفد في عام 1945 . وكان الناس في عهد الوفد يعيشون أزمة طاحنة بسبب نقص أقمشة الملابس وارتفاع ثمنها – وبخاصة في ريف مصر . فاستولت حكومة السعديين على جميع إنتاج مصانع النسيج , وقررت توزيعه في الأرياف بواقع خمسة أمتار لكل أسرة . طبعا خمسة أمتار لا تغني من الحر أو البرد شيئا لأسرة تتكون من خمسة أفراد على الأقل , ولكن كان هذا بمثابة إنقاذ ما يمكن إنقاذه .

وضعت الحكومة خطة محكمة للتوزيع , إذ أرسلت إلى القرى عن طريق مراكز الشرطة ومديريات التموين , لكي تعد كل قرية بيانا بأسماء أرباب الأسر فيها , ويوقع العمدة والصراف وشيخ الغفر وشيخ البلد على البيان , ثم قسمت القطر إلى مناطق , كل منها تحتوي على عدد من تلك القرى, ثم اختارت عددا من موظفي الدولة ليشرف كل منهم على عدد من القرى , ومنحت هؤلاء الموظفين صفة الضبطية القضائية .

كنت وقتئذ مفتشا بمكتب الشكاوي التابع لوزير التموين , وخصصت لي ثمان قرى تابعة لمركز دسوق . وكانت أول قرية تدعى " البكاتوش " . جلست بها حوالي أسبوع في انتظار ورود الأقمشة . كان عمدتها الشيخ محمد حرفوش رجلا كريما وأصيلا . وكنا نجلس للمسامرة مساء كل يوم بحديقة داره .

كان غائبا في أحدى الليالي , وجاء أحد أقربائه لكي نتسامر كالعادة . كانوا يسمونني محمد أفندي لأن الإشارة التي جاءتهم من المركز ذكرت اسم محمد بدلا من محمود . ولم أجد غضاضة في أن ينادوني بأي اسم . . . قال ذلك القريب: يا محمد أفندي . . أنت مرهق نفسك كل هذا الإرهاق في انتظار وصول القماش من المركز , وكذلك التاجر الذي سوف يبيعه للناس . . وأنت تنتظر كذلك حتى تحصل على توقيع أصحاب الأسر عندنا أمام أسمائهم الواردة في أبيان المسلم إليك من المركز . . . ما رأيك في أن نحصل لك على تواقيع أصحاب الأسر مصدقا عليها من العمدة والصراف وشيخ البلد وشيخ الخفراء , وتأخذ لك 500 جنيه وتذهب إلى حال سبيلك؟ كانت مفاجأة مفجعة لي , فهو يريد رشوتي بخمسمائة جنيه , وقت أن كان فدان الأرض بمائة جنيه ( هو الآن بحوالي خمسة وثلاثين ألفا ) . فغضبت غضبا شديدا , ووجهت إليه سبابا يتناسب مع تطاوله معي , وقلت له إني تربيت في الإخوان المسلمين على العفة والقناعة والنزاهة والأمانة في العمل . . . فوجئ هو الآخر بموقفي الغاضب , فقال : هل غضبت هكذا ! إنما كنت أمزح معك ! حين حضر العمدة , شكوت له قريبه هذا فعنفه هو أيضا .

وصلت الأقمشة في اليوم التالي , وكان من بينها صوف العسكري ورمش العين والدمور . . . الخ , وأحسست أن الناس محتاجون إلى الدمور أكثر من غيره لصلاحيته للتجنيد . فأعددت أوراقا صغيرة بعدد أصناف القماش , وكتبت على كل ورقة صنفا , ثم وضعت الورق في طربوشي بعد أن قلبته , وجلست أمام شباك في غرفة التليفون بالدوار , فيجيء المنتفع الوارد اسمه في الدفتر ويوقع أمام اسمه ويصادق شيخ البلد الجالس إلى جواري على أنه هو الشخص المعني , ثم يسحب ورقة , ويسدد الثمن في شباك آخر ويتسلم ما يخصه من قماش . وكنت قد علقت لوحة على ذلك الشباك تبين ثمن الأمتار الخمسة من كل صنف من القماش .

سارت العملية سيرا منتظما على أحسن ما يكون . وما جاء وقت صلاة المغرب حتى كان القماش قد تم توزيعه , والكل وقع على البيان الوارد بالدفتر الذي في حوزتي . ثم حرزت الباقي وسجلت به محضرا بعثت به إلى مفتش التموين ليعيد توزيعه بمعرفته على المستحقين بقرى أخرى .

غادرت البكاتوش في ضحى اليوم التالي متجها إلى قرية تبعد حوالي خمسة كيلو مترات . فاستأجرت حمارا بخمسة قروش , وتوجهت إلى تلك البلدة , وإذا بي أجد على الطريق حوالي عشرة أشخاص قادمين نحوي , وأنا على مسافة نصف كيلو متر من البلدة . قال أحدهم : محمد أفندي ؟ قلت : نعم . قال إن سيرتك قد سبقتك إلينا , فأردنا أن نحتفي بك ونستقبلك . أهلا وسهلا . كانت هذه أكبر مكافأة لي فهي تزيد كثيرا على الخمسمائة جنيه .

كان التوزيع ناجحا في جميع القرى , فيما عدا قرية تسمى منشأة الشاذلي , حيث اضطرت للمبيت بمضيفة العمدة لليلة كانت أسوأ ليالي حياتي , إذ لم تتركني البراغيث أنام لحظة , فضلا عن أني كنت أحس بجوع شديد . في الصباح بدأنا التوزيع . . . وإذا بشيخ الخفر يحضر ويسر لي أن العمدة يحتاج إلى عشر قطع لنفسه . قلت له : هذا ممنوع والتوزيع قاصر على الأسماء الواردة بالدفتر . فقال : إن العمدة هو شقيق عبد السلام الشاذلي باشا , وقد يضرك . قلت : لا أحد يستطيع أن يضرني ما دام الله معي . ( تذكرت دعاء من المأثورات التي كنا نقرأها كل ليلة : " بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم" ) تطاول شيخ الخفر علي بالقول فذهبت إلى عامل التليفون وطلبت منه إرسال إشارة إلى مأمور المركز لوقف شيخ الخفر عن عمله , وذلك بصفتي من رجال الضبطية القضائية . تحرك العمدة وجاءني مهرولا وراجيا , وجاء شيخ الخفر معتذرا وآسفا . فأنهيت الموضوع عند ذلك الحد .

بعد أن عدت إلى القاهرة , قدمت تقريري وكشوف الأسماء الموقع عليها والتي كانت بحوزتي , وحررت استمارة لبدل السفر والانتقال . . . فوجئت حينما ذهبت لأقبض المبلغ , أن بدل السفر لا تغير فيه فإنه محسوب على أساس عدد الليالي . أما مصروفات الانتقال فقد خفضت إلى النصف , بالرغم من أني تحريت الدقة التامة في قيدها بالكشف بما يطابق الحقيقة تماما . سألت في حسابات الوزارة عن سبب التخفيض , فقالوا إن قلم الشطب قد خفض النفقات إلى النصف لأن عندك استمارات سفر وكان يمكنك أن تركب بها القطار . حاولت إفهامهم أنه لا توجد مواصلات بين هذه القرى إلا بالحمير . قالوا كان ينبغي أن تحصل على إيصالات من أصحاب الحمير ! قلت : وكيف تتثبتون من أن التوقيع على الإيصال هو توقيع صاحب الحمار ؟ سكتوا وقالوا لا مجال للتغيير بعد قرار قلم الشطب .

كان المبلغ المشطوب ضئيلا , ولكنه ضايقني . فالمسألة مسألة مبدأ وليس قيمة المبلغ .

بعد ذك بأسبوع كلفت بالإشراف على توزيع أقمشة الإغاثة في ست قرى بالشرقية , وطلبت من القائم على التوزيع ألا يعطيني بلدي ( القطاوية ) من بينها , حتى لا أتعرض لضغوط الأقارب والأصدقاء .

وفي بلد اسمها " بني جري " حضر تاجر القماش من المركز " أبو حماد " . وكان صديقا لوالدي . قلت له نوزع في الغد . ووضعت الترتيبات التي سبق أن وضعتها لقرى مركز دسوق . وذهبت للمبيت بدار أسرتي التي تبعد كيلو مترين عن " بني جري " . وتوجهت في الصباح إلى مركز التوزيع بالقرية , وهو دوار العمدة , فوجدت أناسا صادفتهم في الطريق وكل منهم يحمل قطعة قماش , سألتهم عن الثمن الذي اشتروا به فوجدته يزيد علي التسعيرة المقررة بما يتراوح بين ثلاثة وستة قروش .

توجهت إلى الدوار , واصطحبت شيخ الخفراء , ووضعت يدي على النقود التي جمعها التاجر , وحرزتها في منديل سلمته لشيخ الخفراء , وأخذت الأقمشة الباقية والمقسمة إلى قطع كل منها 5 أمتار . وذهبت بذلك إلى المضيفة , وفتحت محضرا أثبت فيه الواقعة .

صار التاجر يرتجف . . . وتدخل عمدة البلدة قائلا إنهم على أبواب الإنتخابات , وهذا الموقف قد يضرهم كثيرا عند أهالي أبو حماد . . . وقال لي افعل ما تشاء ولكن لا تقدم التاجر إلى النيابة لمخالفته للتسعيرة . وجدت حلا ملائما , وعرضته على العمدة فوافق عليه . هو أن يبعث مناديا ينادي كل من اشترى قماشا في صباح ذلك اليوم ومعه القطعة التي اشتراها . . . حدث ذلك وأوقفت المشترين صفا , وصرت أسأل الشخص عن الثمن الذي اشترى به القماش , ثم أرد إليه الفرق بين ذلك الثمن والثمن المقرر بالتسعيرة , والتاجر إلى جواري يسدد للناس حقوقهم وفقا لأقوالهم حتى ولو كان بعضهم مبالغا .

في المساء ذهبت إلى بلدتي , وحضر والدي من أبو حماد , وقال لي : لماذا عمك أحمد . . . ( التاجر ) غضبان منك ؟ فرويت له الحادثة , وقرر على أثرها مقاطعته نهائيا .

عندما عدت إلى القاهرة , حكيت هذه القصة في أحدى الليالي الأستاذ الإمام ونحن في الطريق إلى منزله , فدعا لي بالخير قائلا : بارك الله فيك .

شركة الإعلانات العربية

من المعروف أن وسائل الإعلام لا يمكن لها أن تستمر في حياتها , إلا إذا اعتمدت على الإعلان كمصدر رئيسي لإيراداتها – إلا في حالة الوسائل التي تنفق عليها الحكومة , فيكون إيراد الإعلان فيها عاملا على تحسين أحوالها .

ولقد فطن الأجانب إلى ذلك منذ القرن الثامن عشر, فأخذوا يغزون مصر بالإعلان , إلى جانب غزوهم العسكري واحتلالهم للأرض وسيطرتهم على الناس , وعملهم على تفريق الأمة بين أحزاب متناحرة كل منها يسعى إلى الحكم متنافسا مع غيره في ممالأة المستعمر .

في الأربعينيات كان في مصر وكالات وشركات إعلان , كلها أجنبية . كانت وكالة " لند " للإعلان يملكها مستر لند وهو انجليزي ويملك امتياز الإعلان عن كثير من السلع المستوردة من بريطانيا . وكانت هناك وكالة " ويلسون " التي تملكها مسز ويلسون الأمريكية والتي تتلقى تعليماتها من السفارة الأمريكية . كما كانت هناك وكالة " ماجيار " التي يملكها الإخوان ماجيار الفرنسيان في الأصل , واللذان كانا يتلقيان تعليماتها من السفارة الفرنسية . وفضلا عن ذلك كانت في نصر وكالة إعلان اسمها : " اسبرنت " مركزها الرئيس في تل أبيب . والمصيبة الكبرى كانت في " شركة الإعلانات الشرقية " التي يملكها ويديرها اليهود , وغيروا اسمها عام 1949 لتصير " شركة الإعلانات المصرية " يديرها مصريون شكلا , ويسيطر عليها اليهود في حقيقة الأمر .

أذكر وأنا أصدر مجلة الكشكول الجديد , وكانت حرب فلسطين على أشدها بين المجاهدين من الإخوان والجيش المصري بأسلحته الضعيفة والجيوش العربية الهزيلة من جهة , واليهود من جهة أخرى , أن كنا نهاجم اليهود , وبخاصة أولئك الذين يتبرعون بأرباحهم التي يحصلون عليها من مصر لصالح العصابات الصهيونية . طلبني مسيو " حاييم " رئيس مجلس إدارة شركة الإعلانات الشرقية وقتذاك ( والذي حللت مكانه عام 1955 لكي أمصر هذه الشركة ) . . . قال : مسيو عساف ! أنت تعرف أن العملاء الكبار للإعلانات هم اليهود : شيكوريل , وأريكو , وعمر أفندي , وداود عدس , وبنزايون , غير المحلات الصغيرة الكثيرة . وقد طلبوا مني عدم نشر أي إعلان في مجلتك إن لم تتوقف عن مهاجمة اليهود .

عرضت الأمر على الإمام الشهيد فقال : " نحن أصحاب رسالة . والصحافة من وسائلنا وليست غاية لنا . لا تستمع إليهم وليكن ما يكون " ولم تمض 4 أشهر بعد ذلك إلا وكنت قد أغلقت المجلة لكثرة خسائرها . فكرنا في عام 1945 أن تنشئ شركة إعلانات وطنية , وعرض الإمام الشهيد هذه الفكرة على عدد من رجال الأعمال المسلمين , فوافق عليها محمد سالم سالم ( صاحب شركات الأوتوبيس ) ومحمد عبد المنعم إبراهيم , ومحمد علي إمام تاجر الجملة وعضو حزب الكتلة . وأسسنا الشركة برأسمال قدره عشرة آلاف جنيه دفع منها الربع فقط .

وبعد نجاح الشركة وتمصيرها لمهنة المندوبين الذين كان معظمهم يهود أو غير متعلمين , اتجهت الأنظار إليها لوقف نشاطها . اتصل بالإمام الشهيد جابرييل أنكيري وهو ماروني لبناني وثيق الصلة بإلهامي حسن زوج الأميرة شويكار , وقال له إن إلهامي باشا يتابع نشاط شركتكم وهو يرغب في توسيعها والاشتراك معكم فيها.

كان نصيب جريدة الإخوان في الشركة 1000 جنيه مدفوع منها الربع . تقدم للمشاركة عدد كبير من زعماء الأحزاب ( فيما عدا الوفد ) وأقيم حفل الافتتاح بفندق الكونتيننتال , وافتتحه إلهامي حسين بكلمة باللغة الفرنسية ( لأنه لا يعرف العربية ) . وعين أنكيري مديرا عاما وابنه سكرتيرا , وأنا نائبا للمدير العام . ما لبثت الشركة أن خسرت نصف رأسمالها في شهور , ثم انسلخنا وعدنا إلى شركتنا وحدنا إلى أن صفتها الحكومية عام 1950 وأنشأ أنكيري وشركاه شركة إعلانات الشرق الأوسط , التي لم تلبث أن أفلست عام 1951 .

اليمن السعيد والطشت والإبريق

صديقي أ . ز . كان مدرسا باليمن 1946 موفدا من الحكومة المصرية . وصنعاء العاصمة ليس فيها إلا مدرسة واحدة ابتدائية , يهتم بها الإمام يحيي حميد الدين شخصيا. فكان يزورها كل حين وآخر . دخل مرة الفصل الذي يدرس فيه صديقي مادة التاريخ . فسأله الإمام : وسال أستاذ (أ . ) هل هذا التاريخ يساعد على أكل العيش ؟ فقال: لا ولكنه يمدهم بالثقافة العامة التي لا بد منها لكل عربي ومسلم . فقال الإمام : لا تدرس لهم التاريخ , بل اقصروا التدريس على الكتابة والقراءة والحساب . ( أي مثل ما كان يتعلمه الصبية في الكتاتيب في القرى المصرية قبل دخول المدارس النظامية )

قال لي أ . ز . أن اليمن من أكثر بلاد الله تخلفا , إن لم تكن أكثرها على الإطلاق . كذلك فإنها بلد فقير لدرجة أن البيت الذي فيه امرأتان أو ثلاثة , تجدهن لا يملكن إلا رداء واحدا للخروج , لذلك لا يمكن أن يخرجن من لبيت كلهن , حيث ينبغي أن تخرج الواحدة , وغيرها وتنتظر إلى أن تعود لترتدي الجلباب بدورها . ولم تكن صنابير الماء لها وجود , ولا يوجد مكان للاستحمام . فلا بد من استخدام الطشت والكوز . وكان الإمام يحيي محتكرا النحاس باعتباره معدنا ثمينا , كذلك أجهزة الراديو . ولا يستطيع أحد أن يحصل على إناء نحاس أو جهاز راديو إلا بتصريح من الإمام .

وكانت محطة الإذاعة اليمينية هي عبارة عن سيارة لا سلكي من السيارات المتخلفة عن حاجة الجيش الانجليزي لعدن ( وكانت مستعمرة بريطانية ) اشترتها حكومة اليمن . ولم يستطيع خبراؤها أن يفككوا الأجهزة ويعيدوا تركيبها في مبنى ما , فوضعوا السيارة على الأرض ثم بنو حولها حائطا له باب ثم وضعوا السقف بعد ذلك . احتاج صديقي أ . . , إلى طشت لكي يستحم فيه , والى جهاز راديو ليتسلى به هو وزملاؤه , ولكن الإمام يحيي لم يوافق على التصريح .

كان من عادة ذلك الإمام أن يفتح جميع البريد الصادر والوارد ويطلع عليه . وكان عدد الرسائل محدودا جدا , وكان في الاطلاع عليه تسلية للإمام .

خطرت على بال صديقي فكرة نيرة وجريئة , فكتب رسالة وجهها إلى جلالة الملك فاروق الأول ملك مصر , يبلغه فيها أنه يعمل في اليمن السعيد , وسأله أن ينقل تحياته إلى الوالدة العزيزة الملكة نازلي والى الأخوات الكريمات فايزة وفتحيه وفوزية – وكأنه قريب للأسرة المالكة – وفي أسفل الخطاب كتب ملحوظة تقول : أرجو إرسال طشت وراديو لشدة حاجتي إليهما . وكان في تقديره أن هذا الخطاب أن وصل إلى السراي فسيمزقونه باعتباره صادرا من معتوه .

بعد يومين اتصل به الإمام يحيي يسأل عن حال , وقال له ألا تريد شيئا ؟ قال : لا والحمد لله . قال : كيف تستحم ؟ قال : على الأرض . قال : ألا يوجد عندك طشت ؟ قال : لا . قال : كيف تقضى وقتك ؟ قال : نتبادل الحديث أنا وأصدقائي . قال : لا بد لك من طشت وراديو وأمر بصرف ذلك إليه .

الأمير احمد والنمران

كان للأمير أحمد – الذي يطلق عليه الإمام يحيي : الولد احمد , وهو ولي العهد – نمران , كان يربطهما إلى يمين وشمال باب المسجد , ويذهب يصلي الجمعة , ثم يطلق النمرين وهو خارج فيصيح الناس ويعدون هربا , والولد أحمد يضحك مسرورا بهذا المنظر .

يحكى " محمود " – خادم الأمير الخاص لرجال الجامعة العربية حين ذهبوا إلى هناك للتحقيق بعد قيام ثورة ابن الوزير – إن الأمير ذهب مرة إلى الصلاة وهو جنب . فقال له محمود : مولاي ! ألا تتطهرون ؟ فرد قائلا : " نحن طاهرون مطهرون إل البيت " مشيرا إلى قوله تعالى : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " . ذلك أن إل حميد الذين ينتسبون ليزيد بن علي بن أبي طالب من أم غير فاطمة الزهراء . والإمام يحيي لقب بالإمام باعتباره رأس الطائفة الزيدية والمذهب الزيدي , وهو مذهب شيعي , وهو السائد في اليمن .

ثروة الإمام يحيي

كان الإمام يحيي حميد الدين محتكرا لبيع الأواني المصنوعة من النحاس وأجهزة الراديو , مثلما أسفلنا ذكره , إلى جانب زراعة وبيع القات , الذي فرض على كل أسرة أن تشتري منه أسبوعيا ما قيمته ريال يمني . فكان يجمع ثروة طائلة , يضخمها ما كان يرد إليه من رسوم الميناء وما كان يفرض على التجار من إتاوات .

ولم تكن للدولة نفقات تذكر , سوى بعض الموظفين البدائيين والجنود , لدرجة أن الدولة لم تكن ملتزمة بنفقات إطعام المساجين , حيث كان الجندي يصحب صف المساجين المصفدين مع بعضهم , ويطوف بهم الشوارع يشحذون طعامهم وطعام الجندي الذي يحرسهم . كذلك لم تكن الدولة تنفق شيئا على تعبيد الطرق , والمعاونة التي كانت تقدمها للسكان لم تتمثل إلا في شق قناة بواسطة المساجين في منتصف الطريق لتتجمع بها المياه المتخلفة عن الأمطار أو التي يلقيها السكان في الشارع , حيث لم تكن توجد شبكة للمجاري .

كان الإمام يحيي كلما جمع مبلغا من المال يعتديه , فإنه يحوله إلى ذهب . ثم يكلف اثنين من العبيد بحمله , وينقلانه بصحبته إلى الجبل حيث يوجد هناك مكان خفي لإخفائه , لا يعلمه إلا الإمام يحيي والعبدان , وبعد إخفاء المال وتكديسه مع ما سبقه , يعود الإمام مع العبدين , ثم يكلف أحدهما شرا أثناء طريق العودة , بأن يقتل الآخر بالخنجر الذي يحمله اليمنيون عادة . وبعد ذلك يتولى هو قتل العبد الباقي .

وبذلك لا يعرف مكان الكنز إلا الإمام . وقد قتل الإمام ومات سره معه كان الإمام يحيي يحترم ويقدر الإمام الشهيد حسن البنا , وتقديرا له أهداه عمامة يمنية , كان الإمام الشهيد يرتديها كثيرا . ولم نكن حتى ذلك الوقت نعلم شيئا عن أحوال اليمن السعيد , إلى أن قامت ثورة بن الوزير ففضحت ما كان مستورا .

التاجر اليمني

مما كشفته ثورة احمد بن الوزير بعد قتل الإمام يحيي , وجود رجل في جب تحت الأرض , وله في هذا الجب عددا من السنين لا يعرفه أحد كان الجب مسقوفا وفيه فتحة علوية , منها يدلون له إناء فيه ماء وإناء فيه ذرة جافة . وبعد أن يأكل الرجل ويشرب يسحبون الإناءين . كشف رجال الثورة عن هذا الرجل , فإذا له لحية طويلة بيضاء اللون , وشعرا أبيض كذلك قد وصل طوله إلى نصف ظهره . سألوه عن حكايته , فقال إنه تاجر يمني , بعث بابنته لتتعلم في انجلترا على حسابه , فتعلمت والتحقت بإحدى كليات الطب . ولما تخرجت عرض عليها أن تعمل هناك , فرفضت وقالت إنها تريد أن تخدم بلدها . وعادت إلى اليمن .

رآها الأمير احمد بن الإمام يحيي وولي العهد , فأعجب بها , وطلب من والده خطبتها له , استدعى الأمام أبا الفتاة ؟ وقال له إن الولد احمد يرغب في تشريفه بالمصاهرة . قال الرجل : ولكن الأمير متزوج بأربعة . فقال الإمام يحيي : سيطلق واحدة . . . أسقط في يد الرجل , ثم قال للإمام : أعطني فرصة لأفاتح ابنتي في الأمر . فوجئت الفتاة , ورفضت أن تكون واحدة من حريم الأمير , وهربها أبوها إلى انجلترا في ذات الليلة حيث أرسلها بقارب إلى ميناء بورسودان القريب , ومنها إلى انجلترا .

علم الإمام يحيي بأن الفتاة هربت , فوضع أباها في السجن إلى أن اكتشفه الثوار مصادفة وهو في حال يرثى لها , وقد فقد بصره من طول مدة بقائه في الظلام .

نشرت هذه الأحداث جميعا في مجلة الكشكول الجديد في إعداد متتالية , وإذا باتصال من وزارة الداخلية يبلغونني فيه أن سفير اليمن بالقاهرة آنذاك قد قدم شكوى ضد الكشكول الجديد إلى السراي , التي طلبت من رئيس الوزراء فوزير الداخلية التوقف عن النشر والاعتذار للسفارة اليمنية .

كانت ثورة بن الوزير قد أجهضت , وعاد الحكم الملكي إلى اليمن وعلى رأسه البدر بن أحمد بن يحيي حميد الدين , إلى أن قامت ثورة عبد الله السلال .

طبعا لم تتوقف ولم نعتذر , ولكن توقفنا قسرا لتوقف المجلة ذاتها قبيل حل الإخوان .

مؤتمر التأمين

كان الإمام الشهيد مجتهدا عظيما وسابقا لعصره في تفكيره . . . وجد شركات التأمين تنشط في مصر , وعلماء أفاضل يعتبرون التأمين حراما , في حين أن رجال التأمين يعتقدون أنه حلال . وكان العلماء الذين يفتون بحرمة التأمين بغضهم يحرم كل أنواه , والبعض الأخر يحرم بعض تلك الأنواع ويحل الأخرى , والاثنان ينظران إليه باعتباره بيع غرر , حيث أن شركة التأمين تبيع للمستأمن وثيقة بموجبها تدفع له مبلغا نظير حادث قد يقع أو لا يقع , وان كان لا بد من وقوعه ( كالموت في تأمين الحياة ) فإنه غير معروف الزمان . ذلك في حين أن رجال التأمين ينفون عنه الغرر , بل البيع ذاته , حيث أن شركة التأمين لا تبيع شيئا , ولكنها تتوسط بين المستأمنين بعضهم والبعض .

رأى الإمام أنه لا بد من مواجهة بين هؤلاء وأولئك , وليدلي كل من الطرفين بوجهة نظره , ويقارعوا الحجة بالحجة , إلى أن يصلوا إلى فتوى تريح المسلمين من عناء الشك .

دعا الإمام نخبة من العلماء في عام 1945 , أذكر منهم الشيخ محمد أبو زهرة , والشيخ علي الخفيف , والشيخ محمد شلتوت . . . , كما دعا رجال التأمين وعلى رأسهم الأستاذ أحمد عنان ( رئيس مجلس إدارة شركة مصر للتأمين في ذلك الوقت ) .

كان موضوع التأمين قد تعددت فيه البحوث والدراسات منذ عام 1903 غير أن تلك الدراسات كانت متضاربة وينقصها الوعي الكامل بنظرية التأمين .

اجتمع العلماء ورجال التأمين في فناء المركز العام مساء في الصيف , وبدأ كل منهم يشرح ما توصل إليه من رأي .

ذهب الشيخ علي الخفيف إلى حل أنواع التأمين جميعا باعتبارها تعاونا على البر والتقوى , بعد أن شرح الأستاذ أحمد عنان نظرية التأمين .

قال أحمد عنان إن التأمين هو عبارة عن نوع من التعاون , وهذه هي صورته الأصلية , حيث يتكافل الناس مع بعضهم البعض , ويدفع كل منهم مبلغا من المال , فإذا وقع الخطر لأحدهم ( حريق أو سرقة أو تلف أو وفاة . . . الخ ) عوضه زملاؤه أو عوضوا ورثته مما جمع من الجميع . وهذا لا شك أمر مشروع . ولما اتسع النظام الاقتصادي وكثرت أنواع المعاملات وكبر حجم المجتمعات , فكر البعض في تكوين منشآت اقتصادية تقوم بدور الوساطة بين المستأمنين , فتتلقى هي اشتراكات كل منهم , ثم سدد لمن وقع عليه الخطر المبلغ المتفق عليه لمواجهة كل نوع من المخاطر . وهذا الشكل بصورته البسيطة لا تثريب عليه – في رأي المؤلف – إذا كان دور شركة التأمين هو الوساطة وليس تحقيق الربح لنفسها مع الإجحاف بصالح بعض المستأمنين . وقد كانت الصيغة التي قدمها المستر هوروسل مدير شركة ميوتوال ليف الأمريكية إلى الإمام محمد عبده , على هذه الصورة التي تندرج تحت عقود المضاربة الإسلامية , فأفتى الإمام بصحة هذا النوع من العقود .

ذلك فضلا عن إن اشتراكات المستأمنين ( أي الأقساط ) تحدد قيمتها بحسابات " اكتوارية " تقوم على التنبؤ العلمي الدقيق بنسبة وقوع كل نوع من الأخطار خلال العام .وقد انتهى المجتمعون إلى ما يأتي : 1 – التأمين الذي تقوم به جمعيات تعاونية يشترك فيها جميع المستأمنين لتؤدي لأعضائها ما يحتاجون إليه من معونات وخدمات أمر مشروع وهو من التعاون على البر .

2 – نظام المعاشات الحكومي وما يشبهه من نظام الضمان الاجتماعي المنبع في بعض الدول ونظام التأمينات الاجتماعية المنبع في دول أخرى : كل هذه من الإعمال الجائزة .

3 – أما أنواع التأمينات التي تقوم بها الشركات أيا كان وضعها , مثل التأمين لخاص بمسئولية المستأمن , والتأمين الصحي بما يقع على المستأمن من غيره , والتأمين الخاص بالحوادث التي لا مسئول فيها , والتأمين على الحياة وما في حكمه , فقد قرر المجتمعون الاستمرار في دراستها بواسطة لجنة جامعة لعلماء الشريعة وخبراء اقتصاديين واجتماعيين , مع الوقوف قبل إبداء الرأي – على آراء علماء المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية بالقدر المستطاع .

وللأسف الشديد , عقدت مؤتمرات في دمشق عام 1960 وفي عام 1965 , ولم ينته المؤتمرون إلى رأي قاطع يحل التأمين أو يحرمه . بيد أن بعض العلماء اتسم بالشجاعة فحذا حذو الشيخ علي الخفيف وأفتى بحل جميع أنواع التأمين , مثل الشيخ مصطفى الزرقا – من الأردن حاليا وهو من مؤسسي الإخوان في سوريا منذ الأربعينات – الذي وضع كتابا قيما في هذا الموضوع .

تلك أحداث متفرقة أسعفتني بها الذاكرة , وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على ما يلي :

1 – أن الإمام الشهيد كان سابقا لعصره في تفكيره وتوقعاته , مجتهدا في تفسيره لأمور الشريعة , مع التزامه الكامل بأحكامها الثابتة القرءان الكريم والسنة الصحيحة .

2 – أنه كان يعمل على تكوين مجتمع إسلامي , يبدأ بالفرد فالأسرة ثم المجتمع , ثم العالم أجمع , حيث أن دعوة الإخوان دعوة عالمية .

3 – أنه كان قوي الذاكرة إلى حد يعجز عن الوصف . عرفته بوالدي ذات مرة في المركز العام بعد حديث الثلاثاء , وحينما ذهب الأمام زائرا لبلدتنا ( القطاوية ) وذهب والدي يسلم عليه , قال له : " أهلا يا إبراهيم أفندي " , ولم يكن قد قابله إلا مرة واحدة .

4 – أنه كان شديد الذكاء , بشهادة حافظ رمضان باشا وغيره من السياسيين .

5 – أنه كان ضد العنف سبيلا لنشر الدعوة , بل كان يؤمن بالتطور البطيء , مع الحكمة والموعظة الحسنة .

6 – ثم أني لم أكن أراه في الأحوال العادية إلا وأجده مبتسما . . لدرجة أن جميع صوره كانت باسمه , الأمر الذي يدل على الرضي والتفاؤل .

الفصل الثاني :طرائف في المعتقلات

هذه هي الأخرى أحداث متفرقة , حدثت في فترة الاعتقال بالطور وهاكستب , فيها من الطرافة ما يبعث على الابتسام , إلا الموضوع الأخير .


عباس عسكر

" يا أولادي ! كنت أظن الإخوان مجموعة من الرعاع مثلما أفهمتني الداخلية , غير أني وجدت فيكم الصحفي والأديب وأستاذ الجامعة والعالم الديني وحامل الدكتوراه والمهندس . . . وغيرهم . لهذا فلتعلموا أني معتقل مثلكم , وهم لم يرسلوني إلى هنا رضاء عني , بل غضبا علي " .

هكذا بدأ اللواء عباس عسكر حديثه معنا , في الأيام الأولى منذ نقلنا من معسكر هاكستب إلى معتقل الطور . كنا لجنة مكونة من : مصطفى مؤمن ( مهندس تخرج حديثا ) , وأحمد عبد العزيز جلال ( مدرس بدار العلوم ) , وأنور الجندي ( كاتب وأديب ) أطال الله عمره , وأحمد أنس الحجاجي ( صحفي ) ومحمد البنا ( شقيق الإمام الشهيد ومدير مجلة الشئون الاجتماعية ) . . . اختارتنا إدارة المعتقل لنكون لجنة اتصال مع القومندان , ننقل إليه مطالبنا وننقل عنه تعليماته .

كان رجلا جادا شريفا . . على خلاف ما يصفه به كثير من الإخوان الذين لم يروا فيه إلا جانب الشدة فحسب. في يوم من الأيام استدعانا القومندان وقال : يا أولادي أنتم اعتقلتم هنا , ليس لتتريضوا أو تلعبوا الكرة في فسحة الحذاء ( المكان المحاط بسياج من السلك الشائك , وكان معتقل الطور مكون من 6 حذاءات ) كما تعلمون , ولكنكم جئتم هنا لكي نكدركم . وأنا لم أفعل هذا . إنما ستأتي غدا صباحا باخرة عليها دفعة جديدة من الإخوان المعتقلين , وبصحبكم عدد من ضباط القلم السياسي . وسوف يكتبون تقريرا عنكم . لهذا أطلب منكم ألا تلعبوا الكرة غدا , وسنغلق عليكم بوابة الحذاء , عندما يمر طابور المعتقلين الجدد , فأرجو ألا تهتفوا هتافكم المعهود , حتى يمر هذا اليوم على خير . وبعد أن ترجع السفينة وعليها الضباط سنعود سيرتنا الأولى ونسمح لكم بالخروج من الأسوار .

نقلنا هذه الرغبة إلى الإدارة الداخلية عندنا . فانبرى أحدهم هائجا وقال : ما هذا الضعف ؟ اسيكممون أفواهنا ؟ قلت له : من الأفضل أن نتعاون مع إدارة المعتقل لما فيه الخير لنا . قال : أنت لا تتسم بالشجاعة الأدبية . ماذا سيفعلون بنا أكثر من هذا ؟ قلت : إن ما يمكن أن يفعلوه كثير .

جاء اليوم التالي والوجوم يسيطر على الإخوان في الحذاء رقم 5 , ثم في الساعة الحادية عشرة ظهرا رأينا طابور المعتقلين الجدد يقطع الطريق من الميناء إلى الحذاء رقم 2 مارا من أمامنا , وإذا بالإخوان عندنا يجأرون بالهتاف : الله أكبر ولله الحمد . . . الخ , ثم زاد الحماس شيئا فشيئا , فهجم " محمود ه " . " ونحلة " ( وهو يعمل بمبوطيا بالسويس وليس من الإخوان ) على البوابة فكسراها وبدأ الإخوان يتجمهرون بعاطفية لا عقلانية فيها خارج بوابة المعتقل .

أدخل الإخوان الجدد إلى حذائهم , ثم فوجئنا بطابور قادم إلينا : عساكر البيادة المدججون بالسلاح ثم الهجانة ومعهم الكرابيج ثم سيارات النصف نقل وبها جنود وضباط مسلحون بالمدافع الرشاشة . تجمعوا أمام الباب , فدخل الإخوان إلى داخل الحذاء , ثم تقدم اللواء عباس عسكر ووزع الهجانة في الفناء ضاربين بالكرابيج كل من يجدونه أمامهم . وكان الأخ الذي اعترض على تعليمات القومندان في الغرفة التي بجوارنا . قد خرج من الباب مناديا بصوت عال : يا سعادة القومندان . . . يا سعادة القومندان . . . فقال القومندان : اضرب يا عسكري . فنال الأخ سوط جعله يقفز ويدخل غرفتنا . قلت له : أين الشجاعة الأدبية ؟ ! !


الأخ المسيحي والأخ الشيوعي

في أحد أيام الشتاء عام 1948 , دخل علينا في معتقل هاكستب شاب غريب على الإخوان . سألوه عن اسمه والى أي شعبة ينتمي , فأجاب بأنه لا ينتمي إلى أي شعبة .

كان الغرض من سؤاله أن يتعرفوا عما إذا كان من الإخوان أم كان جاسوسا بعث به القلم السياسي . وعندما أجاب بأنه ليس من الإخوان بدأت معاملة المعتقلين له تشتد وتعنف , ثم بدءوا يتجنبوه . أحس الشاب بالعزلة وصار مكتئبا . طلبت منه أن يأتي بسريره إلى جواري فجاء به وصرنا نتبادل الحديث . اسمه أ . الوزان , وهو شيوعي . أتى به لخلاف بينه وبين أحد الضباط فوضع اسمه في قوائم الإخوان المسلمين . حاولت أن أجعله يندمج مع الجماعة بأن يقوم للوضوء والصلاة , ولكني فشلت معه . فيبدو أنه كان شيوعيا عريقا ممن لا يؤمنون بالله , ويعتقدون أن المادة هي أساس كل شيء مثلما وردني النظرية المادية الجدلية لجوزيف ستالين .

كانت تسليته الوحيدة هي أن يدندن بنشيد حزين ألفه الشيوعيون في المعتقلات يقول :

يا رفاقي . . يا رفاقي . . طال بي عهد الفراق ففؤادي في اشتياق . . حبذا هذا التلاقي بين جدران السجون

بعد أيام قدم طلبا للنقل إلى عنبر الشيوعيين , فنقل إليه , ولم أره بعد ذلك إلا في معتقل الطور عندما زرت حذاء الشيوعيين .

قرب نهاية المعتقلات , في شهر سبتمبر 1950 ( قبل غلق المعتقلات في يناير 1951 ) سيق إلينا شاب يبكي , ويقول : لست من الإخوان . لقد قبضوا علي ظلما . أنا مسيحي . وهذا هو الدليل : صليب موشوم على ساعده الأيمن . قربته إلى وطيبت خاطره وسألته عن حكايته فقال : قد طلب إليه ضابط المباحث أن يعترف على زميل له بأنه كان يوزع منشورات ضد الحكومة , فأبى أن يشهد زورا . وهددوه كثيرا فلم يستجب لهم . فأقسم الضابط ليضعنه في المعتقل إلى أجل غير مسمى . فكان نصيبه أن وضع مع الإخوان .

ومن المعروف أن الإخوان لا يتعصبون ضد المسيحيين . إذ بدأنا نعطف عليه ونقدر مصيبته . ثم خطرت لي فكرة . .

كان من ضمن طاقم الحراسة كونستابل نوبي لا أذكر اسمه . إنما كان هو الذي قبض بشجاعة على قتلة اللورد موين الانجليزي , وهم يهود أرسلوا لمصر لهذا الغرض لكي يتهم المصريون بقتله . وكان هذا الكونستابل يقدم لنا خدمات لا تقدر بثمن , مثل إرسال الخطابات بالبريد لأهالينا وإحضار ملابس من بيت من بليت ملابسه , وإحضار خطابات لنا . . . الخ .

حدثته في موضوع هذا الشاب المسيحي . وكنت قد أعددت خطابا على لسانه لنيابة بطريرك الأقباط . وطلبت من الكونستابل أن يرمي ذلك الخطاب بيده في صندوق البريد .

بعد أيام قرأنا في الجرائد المهربة إلينا أن البطريرك قابل إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء . فأطلعت الشاب على هذا الخبر , وقلت له لعل في الأمر خيرا له . وقد كان . . . فبعد يومين طلب الشاب لمقابلة القومندان , وأن يأخذ معه ملابسه . ودعناه عند البوابة ونحن نتمنى له الخير في حياة الحرية .

بعد أيام ذهبت إلى مكتب القومندان لأتسلم خطابا بالبريد , وإذ بي أجد ذلك الشاب هناك . سألته : ألم يفرجوا عنك ؟ قال : لا . . لقد نقلوني إلى عنبر الشيوعيين وأنا هنا اليوم لأتظلم عند القومندان وأطلب منه إعادتي إلى عنبر الإخوان .


أكل السمك النيئ

في ديسمبر 1948 , كنا في معتقل هاكستب , وكان العدد حوالي المائة . وكان متعهد الطعام يورد لنا خروفا مذبوحا ومسلوخا كل يومين , ومقسوما بالطول إلى نصفين , نطبخ نصفه في اليوم الأول , والنصف الثاني في اليوم التالي . وكان الوقت شتاء والبرد قارسا لي , فكنا نعلق نصف الخروف طول الليل في الهواء الطلق حتى لا يفسد .

في صباح كل يوم كنا نجد فجوة في فخذ الخروف , أي أنه مأخوذ من الفخذ قطعة لحم هي من أجود ما فيه . تساءلنا , من منا يطبخ وحده ؟ لا أحد إلا الأستاذ عبد الرحمن البنا شقيق الإمام , وكان مريضا بالقلب ويأكل نصيبه كل يوم مشويا . وكان نصيبه هذا شريحة صغيرة من اللحم .

استمر هذا اللغز قائما , إلى أن نقلنا إلى معتقل الطور , وكان مسموحا لنا بالتجول خارج أسوار المعتقل حتى المغرب , ثم نتأكد بأنفسنا أن أحدا منا ليس بغائب , وفقا لوعدنا لقومندان المعتقل اللواء عباس عسكر , حيث كان عبد العزيز أحمد يتمم على المعتقلين مغرب كل يوم .

كنا نذهب أنا والأساتذة محمد البنا وعبد الباسط البنا وأنس الحجاجي وأنور الجندي , لنتجول في وادي مدين القريب من الطور لنأكل الفجل الطازج والطماطم والفلفل الأخضر , وهي الأشياء التي كنا محرومين منها حوالي شهرين . قابلنا أحد الأعراب . سألناه إن كان يحفظ فاتحة الكتاب , فقال نعم . قلنا اقرأها . فقال " بسم الله الرحمن الرحيم , ثم تردد وقال : لا . شعيب " . . . إلى هذا الحد كان الجهل بالدين .

وفي يوم من الأيام كنا نتريض في الميناء عند الرصيف الذي ترسوا عليه السفن . فوجدنا شابا بدويا قد ألقى شبكته في الماء , وربطها من جانبيها في مرسى السفن , وتركها مدلاة في الماء فوق القنطرة الخشبية التي تنتصف الرصيف والتي كان الماء يمر من تحتها . فكان السمك الصغير يجتاز الشبكة من جانب إلى آخر , والكبير يصطدم بها فيرجع على أعقابه , أما السمك الذي يعادل سمكه فتحات الشبكة فإنه يظل معلقا في فتحاتها حيث تمنعه زعانفه من الحركة ذهابا أو عودة . ثم يستخرج الأعرابي الشبكة وهي مرشقة بالسمك ذي الحجم الواحد , ومعظمه من سمك البوري . . . باع الأعرابي شبكته أمامنا لأحد اليهود بثلاثين مليما . طلبنا منه إلقاء شبكة أخرى فأبى , وقال : الثلاثة قروش تكفي اليوم . تعالوا بكرة .

ونحن وقوف على رصيف الميناء , حدثت واقعتان : الأولى أن أحد الإخوان حاول أن يدفع يهوديا إلى الماء من فوق الرصيف , وهو مكان غائر جدا لأنه مرسى السفن الكبيرة . لحقته في آخر لحظة ويداه ممدودتان في اتجاه ظهر اليهودي . قلت له غاضبا : ماذا تفعل , أترتكب جريمة ؟ قال : " إني حضرت مع دفعة المعتقلين في الأسبوع الماضي , وكنت أحارب اليهود في فلسطين , وكان إخواني يتساقطون شهداء إلى جواري . سافرت في أجازة فاعتقلوني في رفح , ونقلوني إلى الطور مباشرة , أأحضر هنا لأجد اليهود الذين نقاتلهم ويقاتلونا , متمنعين هانئين على شاطئ البحر الأحمر ؟ ! ! هذا ما لم أستطيع أن أتحمله . هدأت خاطره وخاطبته بالعقل وأوضحت له أن القتل في الميدان شيء وفي وقت السلم شيء آخر , وكلنا هنا معتقلون ومعتدى علينا معا .

الواقعة الثانية , هي أني وجدت " محمود ه " . الذي سبقت الإشارة إليه من قبل , يصطاد بصنارة , فأخرجت الصنارة له سمكة كبيرة تقفز في الهواء . أمسكها بمنديل معه , وأخرج من جيبه سكينا من مخلفات الجيش الانجليزي ( مطواة ذات منافع متعددة ) . فتح السكين ونظف بها السمكة من قشورها , وقطع رأسها وزعانفها وسلخها , ثم وضعها في فمه ولم يخرج منها إلا سلسلة شوكها , وقال بصوته الأجش : يا سلام يا سلام زى الزبدة . لقد أكل السمكة نيئة .

حينئذ عرفنا يقينا من كان يسرق قطعة اللحم من نصف الخروف في هاكستب ويأكلها دون أن يطبخها . كان الأعراب يصطادون اللؤلؤ من البحر , وهو يوجد في نوع معين من المحار ذي الشكل الدائري , وكان مدير مكتب البريد ببلدة الطور يشترى منهم اللؤلؤ بعشرة قروش . حاولت أن اشتري شيئا من اللؤلؤ الحقيقي الحر , فلم أستطع , حيث كان مدير البريد محتكرا لشرائه .


الغضاريف الآدمية

كان الجو مشمسا في ميناء الطور في يوم من أيام يناير 1949 . وكنا ونحن معتقلين نذهب إلى الميناء , ونجلس على المقهى الصغير والوحيد هناك , نستمتع بدفء شمس الشتاء , وذلك قبل أن تشتد الأمور ونمنع من الخروج من أسوار المعتقل .

وكان قد نمى إلى علمنا من قبل أن أحد المعتقلين من مدينة السويس : محمود ه قد أقدم لشيخ مسجد الطور يخطب ابنته . وكان هذا أمرا شاذا . فالمعتقل لا يجوز له أن يتزوج لأنه لا يعرف أين سيكون غدا , ثم من أين ينفق على زوجته , ثم إنه متزوج من اثنتين أخريين بمدينة السويس .

كان محمود ه . من أنصار السنة المحمدية . وهم يؤمنون بأن التعدد هو الأصل في الزواج , والاستثناء هو الواحدة ؟

فوجئنا في يوم من الأيام بنسخة مهربة لنا من صحيفة أخبار اليوم , ومن أخبارها الرئيسية أن أحد المعتقلين يتزوج في الطور .

ما الذي نفعله لكي نوقف هذه المأساة , بل المهزلة , ونمنعها قبل وقوعها ؟

لو أننا ذهبنا إلى شيخ المسجد وحذرناه فلعله يظن أننا حاسدون للشيخ محمود ه . الوقور المنظر ذي العباءة السوداء والشارب الحليق .

جلسنا نتداول في الأمر : أنا , ومحمد البنا ( رحمة الله عليه ) شقيق الأمام , وعبد الباسط البنا الشقيق الثاني للإمام والذي كان يعمل ضابطا بالشرطة واعتقل وأحيل إلى الاستيداع ثم أعادته الثورة إلى وظيفته ثم أحالوه للاستيداع مرة أخرى . وكان معنا الأستاذ أنور الجندي .

قال عبد الباسط البنا: عندي فكرة لإفساد هذا الزواج . فلنجلس إلى الطاولة المجاورة لتلك التي اعتاد شيخ المسجد أن يجلس إليها . وسأحكي لكم حكاية فأظهروا الاندهاش فقط .

ما لبث شيخ المسجد أن حضر , وجلس إلى طاولته , وطلب فنجانا من القهوة . وإذا بعبد الباسط يقول بصوت مسموع للجالسين إلى جوارنا : " حاولنا أن نمنعه , ولكن جهودنا ذهبت هباء , فقد كان ممسكا بأذن إبراهيم بأسنانه لا يريد فكاكا . وفي نهاية الأمر ضربته على رأسه فتركها وهي تنزف دما . . . " قال الشيخ : " إنه شخص عندنا مريض يأكل الغضاريف الآدمية كالأذن والأنف " قال الشيخ : " أعوذ بالله . . . " قال عبد الباسط : " لعله تعرفه فهو مطلق لحيته وحالق شاربه ويضع عباءة سوداء . " قال الشيخ : " أهو محمود ه . " قال عبد الباسط : " نعم " . قال الشيخ : " ولكنه يزورني ويتحدث إلى ولم ألاحظ عليه شيئا " . قال عبد الباسط : " ألم تلاحظ أنه يميل نحوك كأنه يهمس إليك " قال : " نعم " . قال " فاحترس لأن تلك اللحظات التي يتظاهر فيها بالهمس في أذنك , يراوده فيها شيطانه أن يقضمها . وهكذا فشلت الزيجة بغير عناء .


مع ألبير مزر احي

كان ألبير مزر احي يهوديا يعمل صحفيا . وكان يزورني وأنا مدير لشركة الإعلانات العربية , وبعد أن صرت عضوا بنقابة الصحفيين باعتباري صاحب امتياز مجلة الكشكول , كنت ألقاه في النقابة في كل مرة أزورها . في معتقل هاكستب جاءني أحد الجنود حاملا علبة فيها 6 قطع جاتوه , وقال إنها من ألبير مزر احي . وكان الجاتوه في المعتقل شيئا شاذا , فرح به زملائي في الغرفة , وكنا ستة أشخاص من بينهم الأستاذان أنور الجندي ومحمد البنا .

بعد أن أفرج عنا في يناير 1951 – أي بعد اعتقال امتد على مدى 13 شهرا , ذهبت أزور ألبير مزر احي في مقر جريدة التسعيرة بأوائل شارع عماد الدين من ناحية شارع الملكة نازلي ( رمسيس حاليا ) أخذني في جولة داخل مقره , الذي كان فيه مكتبه وطبعة تعمل باليد وغرفة لجمع الحروف .

كانت جريدة التسعيرة تصدر كل يوم , وكان إصدارها سهلا حيث كان يقتضي تغيير الأرقام التي تدل على الأثمان فقط دون أي تغيير في الكتابة . وكان عنده عاملان في المطبعة يعملان في المساء فقط , أحدهما لإدارة آلة الطباعة والآخر لجمع الأرقام التي تغيرت .

وكان الناس يقبلون على شراء تلك الجريدة لحاجتهم إلى معرفة الأسعار , حيث كانت وزارة التموين تسطر عليها لتمنع جشع التجار . أي أن الجريدة كانت توزع ثلاثة آلاف نسخة , وهو رقم محترم في ذلك الوقت الذي كانت فيه جريدة المصري توزع 25 ألفا. قال لي وهو يريني آلة الطباعة , إنها هدية من فؤاد باشا سراج الدين بمناسبة خروجي من المعتقل , وقد كانت خاصة بجريدة النداء الأسبوعية التي يملكها ياسين سراج الدين , واستغنوا عنها بسبب شراء آلة جديدة . ونحن جالسان نحتسي القهوة , حضر شقيق ألبير , وحيانا وجلس . ثم قال لألبير : أريدك في موضوع خاص , فتركتهما وانتظرت في صالة الاستقبال إلى أن ينتهيا من حديثهما .

فجأة سمعت ألبير يزعق بصوت عال ويغضب شديد قائلا لأخيه : يا بن إل . . . ( سبه سبا يعف عنه اللسان ) ثم ناداني وقال تعالى واسمع هذا إل . . . ! !

انظر . . . وأراني كشفا قدمه له أخوه فيه بيان بمصروفات أنفقها عليه وهو بالمعتقل , من أهمها تذكرة سفر بالقطار إلى هاكستب والعودة , وثمن دستة جاتوه .

أحسست بخجل شديد لأني أخذت نصف هذه الدستة وتمنيت لو استطعت أن أسدد ثمنها لهذا الأخ الشقيق . . . ولكن تلك هي طباع اليهود .

غادر ألبير مزر احي مصر عام 1956 حينما طردت الحكومة جميع اليهود من فاقدي الجنسية أو أصحاب الجنسيات الأجنبية , ذلك بالرغم من أن ألبير كان مصريا صميما ويحب مصر كما كان يبدو لي , ويتكلم بالسوء عن الصهيونية . والقلوب يعلمها الله وحده . سافر إلى كندا وحصل على الجنسية الكندية وصار يدافع في الصحافة الكندية عن القضايا العربية .

علمت بعد ذلك في عام 1976 أنه عاد إلى مصر في زيارة ليستعيد ذكرياته فيها , وسأل عني , لكني كنت في زيارة لعدد من الجامعات الأمريكية في ذلك الوقت .


عساف يؤوي إليه الجواسيس

ليس كل رجل دعوة يصلح أن يكون قائدا , فللقائد صفات وخصائص ولرجل الدعوة صفات وخصائص أخرى . وقد لا يشتركان إلا في كون كل مهما ينبغي أن يكون قدوة . فالدكتوراه تعني أن صاحبها قادر على البحث العلمي , وهي رخصة له ليمارس البحث ونقل العلم . بل إن كثيرا من حملة الدكتوراه لا يتقنون نقل العلم . . . . فما بالنا بشئون الحكم والإدارة ؟

لم نكن داخل المعتقلات بقادرين على أن نحكم أنفسنا , فهل نصلح لحكم الآخرين ؟ إن للحكم رجاله المتمرسون عليه والقادرون على أعبائه . لهذا يخطيء من يظن أن حكم الإسلام يعني حكم رجال الدين مثلما هو حادث في إيران . فإيران تتبع المذهب الشيعي الذي يقضي بعصمة الإمام . أما مذهبنا السني فلا عصمة لأحد فيه . . . أيها القراء : لا تؤاخذوني على هذا الاستطراد , فقد حدث في صيف عام 1949 أن وفد إلينا في الطور أعداد كبيرة من المعتقلين الجدد . وكان من بين من وفدوا الدكتور علام . والدكتور علام هذا كان مدرسا كيميائيا لي في الكلية الحربية . وكان له باع كبير في تركيب المتفجرات التي استخدمت في حرب فلسطين . وكانوا قد اعتقلوه في آخر الشهر , ولم يكن قد قبض راتبه بعد . وأخذ من الكلية الحربية إلى قسم البوليس إلى القلم السياسي إلى المعتقل, دون أن يتمكن من تدبير أمور بيته , حيث ترك زوجته وحماته وحدهما بغير نقود , وهما تركيتان غريبتان لا تعرفان أحدا . طمأنته وأجريت بعض الاتصالات السرية التي كنا نتقنها , وجاءت الأخبار لنا أنهما بخير , وأرسل الإخوان ممن في خارج المعتقل لهما نقودا . ( سمى هذا فيما بعد بتمويل الإرهاب في عهد عبد الناصر ) .

قال لي الدكتور علام إنه يتقن الطبخ لأنه عود زوجتها على أن يعطيها أجازة من الطبخ يوم الجمعة , ويتولى هو ذلك الأمر , تحت إشراف حماته التركية . لذلك فهو يتمنى لو أشرف على مطبخ المعتقل . ( ملحوظة : تعلمت منه ذلك فكنت أتولى أعداد طعام أسرتي كل يوم جمعة ) . أخذته إلى الشيخ . . . رئيس المعتقل وعرفته به . . ولم أبلغه بحقيقة أمره ومكانته في الدعوة . . فقبل أن يشرف على المطبخ .

كان اليوم التالي هو أول يوم في رمضان , فطلب الدكتور علام من لجنة الكانتين ( التي تحضر من الكانتين الذي يملكه المتعهد مواد الطبخ ) أن يستبدلوا أشياء بأشياء أخرى , فوجئنا به يقدم لنا على الإفطار أرزا بالشيكولاته المحلاة بالسكر كنوع من الحلوى .

في اليوم التالي طلب علام من اللجنة إحضار أشياء عينها لهم , فجاءوه بأشياء أخرى . فغضب وذهب يشكوهم إلى رئيس المعتقل الذي قال له : شوف يا دكتور ! أنت عليك الطبخ فقط . فان جاءوك ب . . . ( كلمة بذيئة ) فعليك بطبخه , غضب علام وقال له : . . . في وجهك يا قليل الأدب , وصارت مشادة . . . كان فيها علام هو الخاسر , لأن الإخوان في الغرفة التي كان ينام فيها اضطهدوه لأنه سب القيادة . كان هؤلاء من البسطاء غير المتعلمين الذين ينقادون بغير تفكير . ولما ضاقت الحال بعلام , طلب أن ينتقل إلى غرفتنا حيث كانت تضم مجموعة من المثقفين . فأحضر خشبته التي ينام عليها ( كل منا كان له لوح خشبي يرفعه على قوالب من الطوب ويفرش عليه بطانيته وينام عليه . وكان ذلك اللوح لا يلين أبدا مهما وضعت عليه من طيات البطاطين ) .

هاجمني الإخوان لأني أويت الدكتور علام الذي كان وزنه عند الله كوزن مائة منهم , وقالوا : عساف يؤوى إليه الجواسيس . طبعا هذا لا يهم . وقد حكيت هذه القصة للمرحوم الأستاذ عمر التلمساني حين كان في زيارة جدة وأنا أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز فضحك مقهقها وصار يحكي تلك القصة لغيره من الإخوان .


في أقسام البوليس

يوم أن صدر قرار حل الإخوان المسلمين في ديسمبر عام 1948 , حضرت قوة من الشرطة إلى مقر الإعلانات العربية برقم 53 شارع إبراهيم باشا , واقتادتني مع جميع موظفي الشركة إلى قسم الأزبكية . وضعنا هناك في الحجز من الصباح حتى صباح اليوم التالي . حدثت في هذه الساعات الأربع والعشرين أحداث طريفة :

_ حشروا معنا في الحجز , وهو مكان مسور بدرابزين , أحد المساجين المحالين إلى النيابة للتحقيق , سألناه عن أمره فقال أنه قاتل امتثال فوزي . وكان هو فتوة المنطقة الذي يفرض حمايته على المتاجر والملاهي الموجودة بها نظير جعل يحص عليه من كل منها . رفضت امتثال فوزي الامتثال إلى إرادته وقاومت سلطته ونفوذه وأظهرت التمرد , فما كان منه إلا أن شرب الخمر وسكر , وتناول زجاجة قصف عنقها , ثم ذبحها بالجزء الحاد الحواف الباقي من الزجاجة . وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة . وكان لتلك الحادثة صدى كبير على الرأي العام وقت أن كنت في السابعة عشرة من عمري وأنا طالب في السنة الأولى بكلية التجارة .

سألته : ما الذي جاء بك إلى القسم , فقال : أنا رجل محكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة , أي 25 عاما , قضيت منها بالسجن عشرة أعوام , فاعتدت على حياة السجن . وأنا أقوم بتسلية فيه عن طريق الاتجار بالممنوعات . ولا يتيسر لي ذلك إلا إذا خرجت من السجن لأشتري السجاير والحشيش , ثم أعود إليه لأبيعها للمساجين بأضعاف ثمنها . فمثلا السيجارة بعشرين مليما ( نصف فرنك ) في حين أن ثمنها هو مليم ونصف , وكذلك الحشيش أبيعه بعشرة أمثال ثمنه . قلت له وكيف تخرج من السجن ثم تعود إليه ؟ قال : اضرب أحد الضباط لأي سبب افتعله , فيرسلون بي إلى النيابة للتحقيق , ثم أتصالح مع الضابط وينتهي الأمر . ويتكرر ذلك كل شهرين مرة أو كلما بعت مخزوني من المهربات . قلت له وكيف تدخل بها إلى السجن ؟ فقال اضغط كل عشرة سجائر في غطاء العلبة بحيث تصير في شكل اسطواني وأعبئها في بالونه وألبسها من أسفل , وأدخل السجن وليس معي في الظاهر شيء .

بعد المغرب أتى ضابط شرطة ومعه امرأة تتحلى بعقود وأساور من ذهب تغطي جيدها وصدرها وذراعيها . ثم قذفوا بها إلى غرفة النساء اللائي رحبن بها بالزغاريد . سألنا عنها فقيل لنا إنها المعلمة ! ! رئيسة العاهرات في المكان المخصص للنسوة السقطات في شارع كلوت بك قرب التقائه مع ميدان الخزندار .

بعد ساعة حضر الباش جاويش , وناداها من خارج الباب بأدب جم : يا ست يا معلمة , لازمك شيء ؟ فقال لا . فذهب وعاد بصينية عليها براد شاي ساخن وأدخله إليها .

وفي منتصف الليل اقتاد الباش جاويش فتاة ساقطة , وأدخلها إلى غرفة النساء , وأخرج المعلمة التي شيعت إلى الخارج بمزيد من الاحترام . وفي الساعة السابعة صباحا أتوا بالمعلمة وأدخلوها سجن الحريم وأخرجوا المرأة البديلة .

سألت عن هذه الظاهرة فقالوا لنا إن المعلمة كبيرة القدر ولا ينبغي أن تسجن طول الليل , والبديلة التي أحضروها هي إحدى فتيات المعلمة . جاءت تقوم بالواجب , حتى إذا حضر أحد مفتشي الداخلية ونادي على أسماء السجينات فجأة , فإنه يجد العدد كاملا .

قرب الظهر أدخل علينا شاب سوري , تبادلنا الحديث م عه فقال إنه يعمل في تهريب المخدرات إلى مصر , وأخذ يحكي لنا ما قوم به عصابات التهريب من خدع في نقل المخدرات داخل الإطارات الداخلية للسيارات عبر البحر الأبيض المتوسط من مواني سوريا ولبنان إلى شواطئ مصر . قال إنهم يعملون في النور , ويدفعون رواتب إلى عدد كبير من ضباط حرس الحدود , غير أنهم فوجئوا بنقل ضابط جديد إلى الحرس لم يكن قد اتفقوا معه بعد , قبض عليهم وهم الآن هو وزملاؤه – رهن التحقيق .

_ في ذات الوقت قبض على شاب من الإخوان صغير السن , وأودع في قسم الخليفة . جاء أبوه ليطمئن عليه , فنادي عليه من خارج شباك زنزانة الحجز : ولد يا فلان ! رد الولد : نعم يا به ! قال الأب : مش عايز حاجة يا وله . فرد الابن : عايز مصحف يابه . فرد الأب مستنكرا لأنه يعرف عقاب حمل المصحف : " مصحف ؟ قول هات زجاجة بيرة يا ابن إل . . . " وكأنه بذلك يدرأ شبهة التدين عن الولد , ولعلهم بذلك يفرجون عنه .

_ في عام 1954 حين كنت مديرا عاما لشركة النيل للإعلان , قبض علي وأنا في منزلي , واقتادوني إلى قسم قصر النيل وكان في حي الزمالك . وأودعت في زنزانة في الدور تحت الأرضي . وفي المغرب جاء الحارس وفتح الباب وأدخل لي طبقا ملفوفا في ورق الألمنيوم , به فرخه محشوة بالفريك وأرز بالخلطة , وتركها وأغلق الباب . لم أكن قادرا على تناول أي طعام , حيث لم أكن أعلم لماذا قبضوا علي , في حين لم يكن لي أي نشاط مع الجماعة . وفي منتصف الليل قذفوا إلى الزنزانة بشاب صغير السن لا يتجاوز عمره الست عشرة سنة . دخل في الظلام وجلس يسب الثورة ورجالها ورئيسها ومناصريها . هدأت من باله , وعرضت عليه الدجاجة , فالتهمها ولم يبق منها أو من الأرز شيئا .

وبعد ساعتين سمعت المأمور يسأل الحارس من هنا ومن هناك في باقي الزنازين ؟ ولما علم بأن شابا آخر وضع في زنزانتي ثار غاضبا وقال : ألا تعلمون أن من بهذه الزنزانة شديد الخطورة ويجب أن يكون حبسه انفراديا ؟ . . فتحوا الباب وأخرجوا الشاب , وفقدت في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي , جاء الحارس وطلب مني الخروج ومعي أشيائي التي كنت قد أحضرتها من المنزل , وقادني إلى غرفة المأمور , الذي قام مرحبا بي ومعتذرا عن سوء المعاملة .

وجدت معه الأستاذ صلاح عبد الجيد الصديق الصحفي رحمة الله عليه , ومحيي ترك صديقي , ومحمد هلال مدير مكتب السيد / وجيه أباظة رئيس مجلس إدارة الشركة التي أديرها .

قال لي محمد هلال , إن قائد الجناح وجيه أباظة اتصل بعلي صبري مدير مكتب عبد الناصر , وأبلغه أنه تم حبسي أكثر من ذلك فإن الشركة سوف تتعرض للفشل ثم إلى التصفية . بعد دقائق دق جرس التليفون ورد عليه المأمور , ثم قال : حاضر يا أفندم . ثم قام يعانقني ويودعني بسلامة الله . سألته : ولكن لماذا قلت ليلة الأمس أن بالزنزانة شخص خطر جدا ؟ فقال : لقد التبس على الأمر فقد كان في الزنزانة المواجهة محمد حلمي مراد وظننته في زنزانتك ! !

محمد حلمي مراد عين بعد ذلك بفترة قصيرة وزيرا للمعارف في وزارة رأسها عبد الناصر بنفسه .


ضابط القلم السياسي

اعتقلت في صباح 8 ديسمبر 1948 – يوم حل الإخوان . ثم أفرج عني في اليوم التالي ثم قبض علي مرة أخرى يوم 10 ديسمبر 1948 وأودعت في المعتقل لأخرج منه في أواخر يناير 1950 , أي لمدة 13 شهرا بدأت في اليوم الثامن والعشرين لزواجي الذي تم في 11 / 11 / 1948 وعقد فيه العقد الأستاذ عبد الحكيم عابدين سكرتير عام الإخوان نيابة عن المرشد العام .

اعتقلت للمرة الثانية بعد يومين من الإفراج , لأني كنت أقطن بفيلا بشارع الأصبغ بحلمية الزيتون , تقرب من فيلا استأجرها المهندس سعد جبر نجل الشيخ محمد جبر التميمي عضو الهيئة التأسيسية للإخوان . وكانت هذه الفيلا مقرا لمحطة إذاعة أنشأها سعد جبر لحساب الهيئة العليا لفلسطين بزعامة الحاج أمين الحسيني . وتصور رجل القلم السياسي – كما هو دأبهم دائما – أن هذا المحطة تابعة للنظام السري للإخوان , بالرغم من أنها لم تذع رسالة واحدة تتعلق بالإخوان أو مشاكلهم مع الحكومة .

بعد اعتقالي أودعت بقسم الزيتون لمدة يوم ثم رحلت إلى معتقل هاكستب , ثم إلى معتقل الطور . وعندما ثم نقلنا إلى الطور أحس خالي ( والد زوجتي ) بأنه لا أمل في الإفراج القريب , فتوجه مع زوجتي إلى منزلنا في الزيتون ليحضروا ملابس الصيف حيث اعتقلت في الشتاء , ووقتئذ كان الصيف على الأبواب . وجدا باب المنزل مشمعا بالشمع الأحمر ولا يوجد أي حارس هناك . دفعا الباب ودخلا .

بعد دقائق جاء جندي الحراسة حيث كان يقضي حاجة , واخذ يشتد في كلامه مع خالي لأنه دخل رغم الشمع الأحمر . أفهمه خالي الوضع ولكن الجندي أصر على اصطحابهما إلى القسم . وكان مأمور قسم الزيتون رجلا مهذبا , شرح الأمر لخالي أن رجال البوليس السياسي داهموا الفيلا التي كنت أقطنها لكي يفتشوها وهي خالية , وخافوا أن يكسروا الأبواب المغلقة بالمفاتيح فتكون ملغمة ( كما يبالغون دائما ) , لذلك نشروا الأبواب من أسف ليروا ما وراءها , ثم كسروها . وخوفا من أن يتركوا الباب الرئيسي بغير قفل – حيث كسر قفله – فأنهم شمعوه ووضعوا حراسة عليه حفاظا على موجودات المنزل , وأن مفتاح المنزل بالقلم السياسي طرف الضابط ( فلان ) .

ذهب خالي وزوجتي بصحبة أحد ضباط القسم إلى القلم السياسي . دخلا مكتب ( فلان ) الذي رحب بهما ترحيبا شديدا لا يليق يا لتوتر الذي كانا يحسان به . ثم سأل خالي : لماذا ناسبت محمود عساف وهو رجل خطير وأنت تعرف أن هؤلاء لا خلاق لهم ؟ أجاب خالي : لا تنسى أنه ابن أختي وهو لا خطير ولا حاجة وأنا لا أعرف من أين استقيتم معلوماتكم عنه ! . . قال الرجل : لو أنك تعاونت معنا ودلتنا على مكان الأسلحة التي يحتفظ بها محمود عساف فإني أعدك وعد شرف أن أفرج لك عنه فورا. قال خالي : يا ( فلان بك ) والله هذا كلام عيب ! ! أنت تكلم رجلا كبيرا في السن والمقام والخبرة بالحياة . كيف تدعى أن لدى محمود عساف أسلحة ؟ وكيف توصلت إلى هذه المعلومة ؟ أنه ابن أختي وأنا أدري الناس به وهو ليس من الإرهابيين الذين تتصورهم .

غضب ( فلان ) غضبا شديدا , ثم قالي لخالي : وكيف أعرف أنك محمد حلمي , وأن التي معك هي زوجة محمود عساف وابنتك ؟ عليك أن تثبت لي ذلك .

لم تكن هناك في ذلك الوقت بطاقات الإثبات الشخصية . فأخرج خالي بطاقة زيارة من حافظة نقوده وقدمها ( لفلان ) الذي قال له : لعلك تكون طبعتها قبل أن تحضر لنا , وأنك أنت الآخر من الإرهابيين . ستظل هنا في ضيافتنا في سجن المحافظة إلى أن تثبت من أنت ! !

أسقط في يد خالي , ثم خطرت بباله فكرة , فقال ( لفلان ) :

هل يمكن أن استخدم التليفون لأتصل بدسوقي باشا أباظة وزير المواصلات ليقول لك من أنا ؟ قال ( لفلان ) : آسف فالتليفون هنا للأعمال المصلحية فقط .

وفي حين كان خالي وزوجتي في شدة الضيق من هذا الموقف , فإذا بزائر يدخل على ( فلان ) ويتحدث معه حديثا قصيرا ثم يتوجه للخروج , فوقع بصره على خالي , فقال : محمد بك ؟ ما الذي جاء بك إلى هنا . قال خالي : قل لهذا الرجل من أكون . . . كان ذلك إمام بك عبدون عضو مجلس الشيوخ عن دائرة فاقوس . فسأل إمام بك ( فلان هذا ) عن سبب احتجاز خالي , فقال الرجل : لا شيء يا أفندم أتفضل يا محمد بك مفتاح المنزل ومع السلامة .

ومرت الأيام . . . وفي الفترة من 1965 وحتى آخر 1967 انتدبت للتدريس بكلية تجارة القاهرة , لطلاب البكالوريوس والدراسات العليا . وكنت أدرس للدراسات العليا مادة الإعلان لطلاب دبلوم التسويق , وكان ذلك في الفترة من 5 إلى 8 مساء . وكنت اكتب أسماء الطلاب الحاضرين كل يوم لكي أبلغ إدارة الكلية عمن لا يحققون نسبة الحضور المقررة . وجدت أحد الطلاب باسم ( فلان ) .

بعد المحاضرة الأولى , تأخر عن زملائه في الانصراف , ثم صحبني وأنا خارج من الكلية عارضا على أن يوصلني إلى منزلي حيث كانت سيارتي معطلة في ذلك اليوم . وفي الطريق قال لي : إن اسم " عساف " ليس بغريب علي ! هل كان أخوك معتقلا في عام 1949 ؟ فقلت نعم كنت أنا وأخي معتقلين , والذي يعلق بذاكرتك هو أنا , وذكرته بقصته مع خالي وزوجتي . فقال : هل أنا كنت رديئا لهذه الدرجة ؟ قلت نعم وأكثر . فقال : لقد فعلت أشياء سيئة كثيرة , غير أني كنت مأمور بها . قلت له : إن تطبيقك للأوامر كان عنيفا بوازع من نفسك . فقال : " أسأل الله أن يغفر لي " .

أسأل الله أنا الأخر أن يغفر له ما فعله من سيئات مع الإخوان وأسرهم التي قطعوا عنها الرزق وحاولوا أن يجيعوها , لو لا تكاتف من بقى من الإخوان خارج المعتقلات في ذلك الوقت .


الخواجة خريستو

في عام 1942 رشح الإمام الشهيد نفسه لمجلس النواب عن دائرة الإسماعيلية , في ظل الإسلام وتحت راية القرءان . وكان الكل بما فيهم الانجليز – يتوقعون أنه لو فاز فسيكون زعيم المعارضة لا محالة . لهذا صدرت تعليماتهم لكي ينسحب من الانتخابات . استدعاه النحاس باشا وطلب منه التنازل لأن البلد في حالة حرب وليس من مصلحتها فوز حسن البنا . أجاب الإمام بأن هذا غاية الظلم . فخطواته مفيدة ولا يستطيع السفر خارج القاهرة إلا بإذن من الداخلية , أفيستكثرون عليه استعمال حقه الدستوري كمواطن في هذا البلد ؟ قال النحاس إنه إذا قبل التنازل فسيرفع عنه حظر السفر . اشترط الإمام شرطان لقبول التنازل : الأول هو إتاحة الحرية للجماعة لتمارس نشاطها على نطاق شامل , وأن تعمل الحكومة على منع الدعارة وحظر الخمور إنتاجا وبيعا . قبل النحاس ذلك . وما لبث أن منع ممارسة الدعارة ( قانونا فقط ) وأمر بإغلاق المواخير وحظر بيع الخمر في شهر رمضان وفي الأعياد الدينية .

وسمح باستئناف الجماعة لبعض أنشطتها مثل إصدار المطبوعات وعقد الاجتماعات . وحينما سئل الإمام الشهيد عن السبب في تنازله قال : " لم نرد من الترشيح إلا أن نجد منبرا نعلن فيه عن دعوتنا , فإذا تيسر لنا ذلك في حدود الظروف القائمة دون اصطدام مع السلطة فيكون ذلك أحسن الحلول " ( انظر محسن محمد : من قتل حسن البنا صفحة 49 ) .

في نوفمبر 1944 حل أحمد ماهر رئيس الوزراء مجلس النواب , وأعلن عن انتخابات جديدة في يناير 1945 . رشح الإمام الشهيد نفسه عن دائرة الإسماعيلية , كما رشح خمسة آخرون من الإخوان أنفسهم . وقال الإمام وقتئذ : " ليس البرلمان وقفا على أصوات دعاة السياسة الحزبية , ولكنه منبر الأمة تسمع من فوقه كل فكرة صالحة , ويصدر عنه توجيه سليم يعبر عن رغبات الشعب " .

وبالرغم من أن أحمد ماهر كان وطنيا متطرفا في شبابه , فإن السلطة تخدر الأعصاب الثائرة , والجاه والسلطان يغريان على نسيان المبادئ . وبدلا من أن يطلب إلى الإمام عدم ترشيح نفسه , تركه يخوض المعركة .

الإسماعيلية حصن دعوة الإخوان , ففيها نشأت وازدهرت , و 80 % من سكانها من الإخوان المسلمين , وأقام الإخوان هناك على نفقتهم 60 سرادقا للدعاية الانتخابية , وتوافد على الإسماعيلية الآلاف من إخوان البلاد الأخرى تأييدا للإمام .

كان من المتوقع أن يفوز الإمام في الجولة الأولى . ولكن أعيدت الانتخابات بينه وبين منافسه الدكتور سليمان عيد متعهد توريد الأغذية للجيش البريطاني في الإعادة تدخل الانجليز والحكومة بشكل سافر , وكنا نرى ( حيث كنت بالإسماعيلية في ذلك الوقت ) مئات من سيارات اللوري المليئة بعمال المعسكرات البريطانية ومعظمهم من صعيد مصر , تجوب طرقات الإسماعيلية هتافا لسليمان عيد , ثم تتوقف أمام لجان الانتخابات ليدخل هؤلاء وينتخبون .

احتج عبد القادر عودة على التزوير , وكان يعمل قاضيا ورئيسا لإحدى اللجان , فصدر أمر وزير العدل بنقله فورا من الإسماعيلية : فأبى عبد القادر عودة هذه الاهانة واستقال من القضاء . وكانت تلك باكورة صلته بالإمام الشهيد وبالإخوان المسلمين الذين صار وكيلا لهم فيما بعد قبل أن يغتاله نظام الحكم شنقا . كانت الأصوات التي حصل عليها الإمام محدودة جدا في كل اللجان , فقد بدلت الصناديق بغيرها , إلا لجنة واحدة كانت منسية , حصل فيها الإمام على 100 % من الأصوات , تلك كانت لجنة الطور حيث كان وكيل الإمام فيها الخواجة خريستو صاحب محل البقالة الوحيد هنا .

عندما اعتقلنا في الطور توجهت لزيارة خريستو اليوناني السمح البدين الأصلع , الذي هاجر إلى الطور من اليونان , وعاش هناك مع أسرته وتطبع بطباع المصريين ثم حصل على الجنسية المصرية . كنت سعيدا بلقياه .


الرجعيون يهزمون التقدميين

في أوائل يناير 1950 , عندما وصلنا إلى معتقل الطور وكان عددنا حوالي 500 معتقل من الإخوان , حشرنا في الحذاء رقم 5 . والحذاء هو عبارة عن صفين من الغرف على اليمين وعلى اليسار , وبينهما ساحة واسعة , وبين كل مجموعة من الغرف دورة مياه, ويوجد مكان مخصص للمطبخ الجماعي , ويحيط بالجميع سور من الأسلاك الشائكة . وفي ذات اليوم الذي وصلنا فيه إلى الطور على الباخرة عايدة , كان معنا حوالي 100 من اليهود , هم على السطح ونحن داخل عنبر سفلي كبير , ونقلوهم فور وصولهم إلى الحذاء رقم 6 , وكان بين الحذاء والأخر أرض فضاء واسعة . بعد أيام جاء الشيوعيون المعتقلون , واحتلوا الحذاء رقم 7 , وكان عددهم حوالي 200 شيوعي .

اختارني الإخوان كضابط اتصال مع الشيوعيين واليهود , حيث كنت أعرف بعض هؤلاء وأولئك , وذلك بغرض تنسيق المطالب التي نتقدم بها لإدارة المعتقل , بحيث يكون ما نطلبه من الإدارة مؤيدا من الأطراف الثلاثة . ذهبت لليهود لأتعرف عليهم . كان غذاؤهم نظيفا . وكانوا يشغلون وقتهم في صنع ( فازات )من القواقع التي يجمعونها من شاطئ البحر الأحمر , وهو غني بأنواع القواقع الزاهية الألوان والمتباينة الأنواع . وكان عندهم ديك هندي جميل الشكل , اشتروه من أحد الأعراب , كنا نسمع صياحه كل يوم قبيل الفجر .

وكان من بين اليهود : أيلي عدس شقيق داود عدس صاحب المتجر الكبير الشهير باسمه , وألبير مزر احي الصحفي اليهودي والذي كان يصدر جريدة التسعيرة , وله تأثير كبير في نقابة الصحفيين . تدارست معهما ومع زملائهما فكرة التعاون لما فيه المصلحة , واتفقنا على ذلك .

بعد هذا ذهبت لزيارة الشيوعيين , وكنت أعرف بعضهم معرفة سطحية . رأيت حذاءهم في غاية القذارة وتنبعث منه روائح كريهة , وعلمت أنهم لا يستحمون إلا نادرا , فلم تكن بهم حاجة إلى غسل الجمعة مثلا أو الوضوء خمس مرات في اليوم .

قال لي أحدهم : سمعنا أنك تلعب الشطرنج بمهارة . قلت : إني أتعلم ! ! وفي الحقيقة أني وأنا طالب بكلية التجارة كنت رئيسا لفريق الشطرنج , وكان الرئيس ينتخب باعتباره أمهر اللاعبين , وحصلنا على كأس الجامعة خمس سنوات متوالية لدرجة أن ثبت عندنا الكأس . وكنا نتدرب يوميا على يد أستاذ الجغرافيا الاقتصادية وعميد كلية الآداب بعد ذلك , الدكتور عز الدين فريد .

جلست ألاعب واحدا من الشيوعيين , وهزمته خلال دقائق قليلة , فتقدم آخر متحديا , وما لبث لحق بأخيه , ثم تقدم ثالث ورابع وخامس , وما انتهيت من الخامس إلا وكنت قد أصبت بإرهاق شديد , حيث لعبت عشرة أدوار . تقدم السادس وقال : لا بد أن تلاعبني . فاعتذرت بعدم إمكاني لإرهاقي , فتركوني وذهبوا يتهامسون . عرفت فيما بعد أنهم كانوا يتآمرون لضربي , حيث لا ينبغي لرجعي أن يهزم التقدميين . وكان الذي حماني منهم أحدهم وكان طالبا بكلية العلوم .

في عام 1972 ذهبت أقابل رئيس جامعة عين شمس المرحوم الدكتور إسماعيل غانم , الذي عين وزيرا للثقافة بعد ذلك , وكان جالسا معه أحد أساتذة كلية العلوم , فسلم علي وعرفني بنفسه : الدكتور عبد العظيم أنيس . وقال ألا تذكرني ؟ قلت : ذاكرتي ضعيفة للأسف . فقال : لقد لعبنا الشطرنج سويا عام 1950 .

حكايتي مع أنور الجندي وكب الحبل

كان أنور الجندي أمين خزينة المركز العام , وكنت أمينا للمعلومات إلى جانب كوني مديرا عام لشركة الإعلانات العربية . وكانت الصلة بيننا وثيقة لأننا كنا آخر من يغادر الدار حين يغادرها الإمام الشهيد .

كان حظي مع الأستاذ أنور الجندي عجيبا : يوم اعتقلت في ديسمبر 1948 اعتقل هو الأخر في ذات اليوم . ولما رحلنا من أقسام الشرطة إلى معتقل هاكستب , كان حظي أن أكون معه في قاعدة واحدة , وسريري إلى جوار سريره بغير ترتيب مسبق منا . ثم حين رحلنا إلى الطور وقسموا المعتقلين إلى مجموعات , كان حظي أن أكون معه في غرفة واحدة , هي الغرفة رقم 6 . وبعد أن رحلت من الطور إلى هاكستب بيوم رحلوه هو الآخر ليلحق بي ويقيم معي في غرفة واحدة انس وحشتنا فيها الأستاذ محمد البنا شقيق الإمام وآخرون . بينما أفرج عنه لحقت به في اليوم التالي . ولما اعتقلنا في يناير عام 1954 في عهد عبد الناصر , كان حظي أن أودع معه في زنزانة واحدة في السجن الحربي . وأذكر أنهم حينما كانوا ينادون علينا ليحشرونا في الزنازين اثنين اثنين , أن نادوا على اسمه ثم على اسمي , فقال هاتفا : " يا دي النيلة " يا دي النيلة . . . هو أنت جيت كمان ؟ ! . ولما رحلنا إلى معتقل العامرية كان حظي أن أكون معه في غرفة واحدة إلى أن أفرج عنا بعد 3 شهور , بالرغم من أننا ! لم نكن على صلة بالجماعة منذ ديسمبر 1948 .

أذكر ونحن في معتقل الطور , أن كان الذباب كثيرا بدرجة مزعجة . وكان يتجمع في غرفتنا منذ قبيل المغرب , ويتحد مكانه على حبل نصبناه في وسط الغرفة لنعلق عليه الملابس , فيصير الحبل غليظا أسود اللون من كثرة الذباب الجاثم عليه . وكانت الغرفة في ذلك الوقت تضاء طول الليل إلى أن وجدنا طريقة لفصل التيار حينما نرغب في النوم , وحينئذ يصحو الذباب من سباته بعد ساعة من نومنا يحط على وجوهنا ويقلق راحتنا .

فكرت مع الأخ أنور الجندي في طريقة للتخلص من الذباب حيث لم تكن المبيدات الحشرية قد عرفت بعد , وهدانا الله إلى فكرة . . هي أن نقوم نحن الاثنين في وقت واحد , ويتجه كل منا إلى طرف من طرفي الحبل , حيث كان أحد طرفي الحبل معقودا بمسمار في الحائط والطرف الآخر معقودا لآخر في الحائط المقابل , فنرفع الحبل بحيث يظل مشدودا ولا يهتز لكي لا يفر الذباب منه , ثم نخرج من باب الغرفة وراء بعضنا يتوسطنا الحبل المشدود , والأخير منا يغلق الباب . فإذا توسطنا الفناء , فإننا ننظر الحبل في الهواء ليطير الذباب ويحط حيث يشاء , ثم نرجع إلى الغرفة لكي نكرر ذلك في كل ليلة حيث أقول لأنور : " هيا بنا نكب الحبل ! " أس نسكبه بذبابه في الفناء .

كان معنا في الغرفة الأستاذ أحمد عبد العزيز جلال الأستاذ بدار العلوم , والأستاذ أحمد أنس الحجاجي من سكرتيري الإمام , وكان اختصاصه إعداد الردود على مئات الخطابات التي كانت تصل إلى الإمام كل يوم , واثنان من إخوان العباسية كبيري السن , والأستاذ محمد عبد الهادي طراد الذي كان يعمل مساعدا من طرف الإخوان مع الشيخ محمد تقي قمي رئيس جمعية التقريب بين المذاهب الإسلامية . كان مما يميز محمد عبد الهادي أنه كان ينقى الفول المدمس المخصص له في الإفطار من السوس فيلقي جانبا بكل فوله اعترتها سوسة , فلا يتبقى له بعد ذلك أكثر من أربع أو خمس فولات .


السلاح والكباب والسيد سابق

دخل علينا الشيخ سيد سابق معتقل هاكستب ظهر أحد أيام عام 1949 , وهو شاحب الوجه زائغ النظرات , وكان عهدنا به أن نراه باسما رصينا وصابرا . . . قال : إنهم أخذوه من المنزل , وفتشوا البيت تفتيشا دقيقا , وأخذوا كل الأوراق التي وجدوها عنده , ومنها أصول كتاب " فقه السنة " . الذي كان يستعد لإصداره كاملا .

أخذوه بغير أي تحقيق إلى قسم السيدة زينب , حيث وضعوه في حبس انفرادي . لم يكن قد تناول غذاءه أو عشاءه , حين دخل عليه أحد الضباط , وهمس في أذنه قائلا : يا شيخ سيد ! أنا من الإخوان ولا أحد هنا يعلم بذلك . فإن كنت تقصدني في أي خدمة فأنا على استعداد تام . شكره الشيخ سيد . فغادر الضابط الغرفة , ثم جاء مرة أخرى بعد منتصف الليل يحمل رطلا من الكباب وخبزا طازجا وسلطة طحينة وسلطة خضراء .

قال : يا شيخ سيد أنا أعلم أنك لم تأكل اليوم فأتيت لك بهذا الطعام المتواضع ! . . . ترك الطعام وغادر الغرفة . . أكل الشيخ سيد ما استطاع , حيث كانت أكلته ضعيفة , وحمد الله وبدأ ينام . . . جاء الضابط مرة أخرى قائلا : يا شيخ سيد , أنا ذاهب حيث انتهت نوبتي . وأنا مستعد لأي خدمة ! قال الشيخ سيد : شكرا لا أريد شيئا . قال الضابط : إذا كان عندك في المنزل أوراقا تحب إعدامها أقوم بذلك , ولأن كانت عندك قطعة سلاح فإني أخذها وأخبيها , لأني علمت أنهم سيفتشون بيتك في الفجر . قال الشيخ سيد : شكرا , فقد فتشوا البيت في حضوري صباحا , وليس عندي أي سلاح إلا سكين المطبخ . قال الضابط : على كيفك . وعندما هم بالخروج تذكر الشيخ سيد شيئا , فقال مناديا الضابط : لو سمحت هناك شيء هام في المنزل أرجو إحضاره . . . عاد الضابط متحفزا فقد وجد بغيته ! ! قال ما هو : قال : النظارة لأني لا أرى بغيرها . فأسفر الضابط عن وجهه القبيح قائلا : نظارة يا ابن إل . . . ؟

كان الشيخ سيد ضئيل الجسم كثير العالم . وكان إذا تحدث جالسا فإنه يهتز يمينا وشمالا كعادة قدامى الأزهريين . وكان حضوره للمعتقل نعمة كبيرة أنعم الله علينا بها , حيث صرنا نغترف من علمه .

حدثته عن هذه الواقعة بعد 42 عاما وهو يعمل رئيس لقسم الدراسات العليا في كلية الشريعة لجامعة أم القرى بمكة المكرمة , فوجدته قد نسى بعضها , وأخذ يضحك . . . "

في ذلك الوقت , حدثت واقعة جديرة بالتسجيل, إذ ذهب ضابط من القلم السياسي يستعلم عن المدير المالي لشركة الشرق للغزل والنسيج بإمبابة , فقال لزملائه – كما قال مدير الأمن بالشركة – للضابط : إنه رجل طيب, ليست له ميول سياسية , وهو متدين يواظب على الصلاة في أوقاتها . . . . . قال الضابط : أهو يواظب على الصلاة ؟ قالوا : نعم . قال : هذا يكفي . واعتقله .

ثم جاءنا معتقلا بغير ذنب إلا أنه يصلي .

حلقة الوصل بين الإخوان والشيوعيين

في أحد الأيام ورد إلينا في معتقل الطور ستة أشخاص . هم عبارة عن 6 أصدقاء , اثنان منهم من الإخوان ( احدهم المرح وواحد شيوعي , والثلاثة الباقون لا علاقة لهم بالسياسة . كل ما جمع هؤلاء هو أنهم كانوا زملاء في مرحلة البكالوريوس في كلية التجارة ) .

سألناهم عما جاء بهم للمعتقل , فقالوا : إنهم متهمين بأنهم يكونون خلية , هي عبارة عن حلقة الاتصال بين الإخوان والشيوعيين . بقوا معنا في المعتقل 6 شهور ثم أفرج عنهم قبيل امتحانات الجامعة . هكذا كان التلفيق من أجهزة التحقيق ومن القلم السياسي , بالرغم من أنهم يعلمون جيدا بأن الإخوان على طرفي نقيض من الشيوعيين . . . والأعجب أن تخرج علينا جريدة أخبار اليوم , وعلى صدرها عنوان يقول : القبض على حلقة الصلة بين الإخوان والشيوعيين .

ذكريات باسمة في ظروف حزينة

لم تكن أيام المعتقلات أو الأيام التي سبقت حل الإخوان تخلو من بسمات . . ومنها :

اختلاس الوطن

كانت كل دفعة تدخل إلى السجن الحربي , يؤمر أفرادها بالجري . وكان يستقبلهم الجنود وفي أيديهم يفرقعون بها في الهواء . سابين إياهم وهاتفين : " اجروا يا مختلسين الوطن يا أولاد إل . . . " طبعا لم نفهم معنى اختلاس الوطن , وهم أيضا ورؤساؤهم كانوا لا يفهمون .


يا مفرج

كان معنا في الطور الشيخ عبد الصادق , وهو محام شرعي في أحدى مراكز الغربية , كان سليط اللسان باعترافه هو . وكان يجلس معنا يتسامر , ويحكي كيف أنه كان يسب القاضي الشرعي في مرافعته , فيحكم ضده , ثم يخرج إلى موكليه فيضربوه . سألنها : بم ؟ قال : بالبلغة , وقد عددتها 42 بلغة .

كان يسير ويدعو الله أن يفرج عنه ويناجي ربه : يا مفرج . . . يا مفرج . . . ولم يقتنع بأن " المفرج " ليس اسم من أسماء الله الحسنى !


الترجمة الانجليزية

كان أحد الإخوة طالبا بالأزهر , ووضع ألفية ليحفظ الطلاب بها الترجمة الانجليزية لبعض الألفاظ العربية , وكان مستهلها : " يس يعني أيوه , ونو يعني لا " وكان يغنيها متخذا طبلة من علبة صفيح قديمة .

قابلت هذا الأخ بعد ذلك بأكثر من 40 سنة , وكان رئيسا لجامعة لها مكانتها في العالم الإسلامي .


الصلاة مع الراديو

عدت مع الإمام الشهيد من مسجد قيسون بعد صلاة الجمعة , فوجدنا الفراشين في المركز العام . قد وضعوا جهاز المذياع في فناء المركز العام , ويصلون مع الإمام الذي نقل الجهاز الصلاة عنه . نهرهم الأستاذ الإمام وأعطاهم درسا في شروط الصلاة مع الجماعة ولزوم اتصال الصفوف .

كان ذلك قبل حل الإخوان بأيام , وكان الإمام مشغولا بالحل , ويرى أن قوى عديدة قد تآمرت ضده : السراي , والحكومة , والانجليز . كان يردد بيت شعر يقول : تكاثرت الذئاب على خراش : فلا يدري خراش ما يصيب . وكان يقول : اللهم عليك بهم فهم بهم , الباء في الأولى بالكسر وفي الثانية بالضم . ذلك لأنهم كانوا قد سدوا عيونهم وآذانهم وحجبوا عقولهم عن فهم حقيقة دعوة الإخوان . وصدق الله العظيم : " لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم أذان لا يسمعونه بها , أولئك كالأنعام بل هم أضل , أولئك هم الغافلون " ( 179 الأعراف ) .


نوتة عبد البديع

كان عبد البديع صقر – رحمه الله – من قدامى الإخوان الذين تشربوا الدعوة من الإمام مباشرة , وكان خفيف الظل ومتحمسا ومجددا في تفكيره . فكان إذا سافر بالقطار وجلس إمامه أو إلى جواره بعض الناس , كان يحدثهم عن دعوة الإخوان المسلمين , ثم يأخذ بيانات عن أسم كل منهم وعنوانه وعمله , ويقيدها في مفكرة عنده , لكي يراسلهم فيما بعد ويبعث إليهم بوسائل الإمام .

دخل علينا في معتقل الطور في يوم ما حوالي 150 معتقلا ليسوا من الإخوان . سألناهم عن سبب اعتقالهم , فقالوا : نوتة عبد البديع .

كان رجال القلم السياسي عندما قبضوا على عبد البديع صقر , قد صادروا المفكرة التي وجدوها معه , وفسروا ما بها من أسماء أنهم أعضاء تنظيم يعمل على قلب نظام الحكم , مثلما نشرت الصحف وقتذاك . عمل عبد البديع صقر بعد هجرته من مصر مستشارا للشيخ زايد أل سلطان , وكان له الفضل الأكبر في إصلاح ذات البين بينه وبين عبد الناصر بعد هزيمة 1967 . كانت نفسه طيبة وروحه عالية ولا يحقد على أحد .


الكوارع

في أول يوم في رمضان , رغبنا – سكان الغرفة رقم 6 في معتقل الطور بالحذاء رقم 5 , أن نفطر على كوارع ومرقتها . فطلبنا من المتعهد بيع زوج من الكوارع لنا . اشتريناها وهي بشعرها . غلينا ماء في صفيحة كبيرة , ووضعنا الكوارع فيها لننتف شعرها لمدة 4 ساعات , ولكن عجزنا عن نتف شعره واحدة . فقمت أنا وأنور الجندي وعلي عمران إليها حاملين ماكينات الحلاقة , وأخذنا نحلقها . . . ولكن هيهات فقد ظلت بها بقايا من الشعر تشبه الشوك القصير . . . وأخيرا ألقينا بها في القمامة , وضاعت الوليمة التي كنا ننتظرها .


الديك الرومي

في أواخر أيام معتقل هاكستب كان معنا نجل حسن يوسف باشا وكيل الديوان الملكي , معتقلا لأنهم وجدوا اسمه بإحدى الشعب . بنفوذه استطاع أن يحضر آلة سينما 16 مللي , وعرض علينا في المساء فيلما للتسلية . وكان الفيلم من الأفلام المضحكة , إلا أنه انتهى نهاية مأساوية بالنسبة لنا , حيث كانت به وليمة كبيرة نظمها عمدة بلدة أمريكية بمناسبة عيد الميلاد , وقدم فيها عددا من الديوك الرومي الباعثة على الشهية والتي جعلتنا نأرق ونحلم بها لحرماننا من أي طعام شهي


صينية البطاطس

سأمنا في هاكستب طعام المتعهد , ففكر المرحوم الأستاذ محمد البنا – شقيق الإمام – في غذاء لا يتكلف كثيرا . بعث يشتري من المقصف ( الكانتين ) بطاطس وطماطم وبصلا , وأحضر قالبا من الطوب حفر فيه دوائر حلزونية , وأحضر سلكا برمه ووضعه في الحفرة الحلزونية , ووصل السلك بالكهرباء فاشتعل . ووضع عليه الصينية بالبطاطس والبصل والطماطم , وغطاها بقطعة من الصفيح إلى أن نضجت . كانت أشهى طعام تناولناه في المعتقل .


الأستاذ عطية الشيخ

كان يفيض منا طعام كثير في معتقل الطور , وبخاصة الخبز والأرز . وكنا نلقي الفضلات خارج السلك الشائك الذي يتكون منه السور . وكانت هذه الفضلات نعمة أنعم الله بها على الكلاب التي كانت تروح وتجيء هنا وهناك , إلى أن سمنت تلك الكلاب .

كان الأستاذ عطية الشيخ رئيس الإخوان بطنطا ورئيس المنطقة التعليمية بها , ينظر إلى الكلاب بحسرة ويقول : " آه لو كانت هذه أغنام ؟ ! ! "


المحاكمة

في يوم تقدم بعض الإخوان بشكوى في سكان الغرفة رقم 6 ( التي أنا فيها ) إلى رئاسة المعتقل التي تتكون من الأساتذة : محمد الخضري والبهي الخولي وعمر التلمساني . فحضروا إلينا للتحقيق في الشكوى , وكل منهم يضع على كتفيه عباءة صنعت من بطانية ثنيت ثلاث ثنيات بحيث تغطي الظهر والصدر وتتدلى اليدان منها . قالوا : جئنا نحاكمكم . قلنا المحاكمة تحتاج إلى منصة , وصنعنا لهم منصة من لوح خشب مما كنا ننام عليه , ورفعناه عن الأرض بأربع قطع من الطوب , وفرشنا عليه بطانية , وأجلسناهم في صدر الغرفة وقلنا : هاتوا ما عندكم . قالوا إن بعض الإخوان يشكوكم بأنكم تتلفظون ألفاظ غير لائقة وتسبون بعضكم البعض ! استنكرنا ذلك وقلنا : هذا كذب وافتراء , وما كان ينبغي لأحد الإخوان أن يتجسس علينا ثم يشكو ما توهم أنه سمعه , إنما الحقيقة أننا نسلي أنفسنا بقصص من تجارب حياتنا وبعض النكات التي تتفق مع المواقف في تلك القصص .

قالوا : لا شيء في هذا . وأضاف الأستاذ البهي الخولي : حتى ولو كانت تلك النكات خارجة , فإنها تعتبر من قبيل اللمم . وخرجوا .

بعد لحظة وجدنا الباب بفتح , وكانت هناك عاصفة ترابية بالخارج , وإذا بالأستاذ عمر التلمساني يدخل قائلا : أين أنتم من زمن . إنه لتحضرني النكتة فلا أجد من هو مستعد لسماعها . . . إليكم نكتتان . وروى لنا نكتتان ظللنا نضحك منهما كلما تذكرناهما , حتى بعد أن خرجنا من المعتقل .


المسمط

قبل حل الإخوان بيومين , وأنا أحس بغم شديد , كنت أسير في ميدان الأزهار متجها إلى عابدين فالمركز العام . تقابلت مصادفة مع الأستاذ عبد الحكيم عابدين الذي سألني : هل تعشيت ؟ قلت : ليس بعد . قال : تعالى أعشيك . . . دخلنا مسمط قريبا من الميدان وجلسنا . قال للعامل : جهز لنا طبقين من الفت وعلى كل منهما تشكيلة بثلاثة تعريفة – أي خمسة عشر مليما . فأحضر لنا طبقين من المرفق وطبقين من الثريد , على كل منهما قطعة من اللسان وقطعة من الكرشة وقطعة من الفشة وكارع كامل . . . وتعشينا معا بثلاثة قروش .


الإخوة الأزهريون

كان الإخوة الأزهريون الذين يترددون على المركز العام يوميا أربعة : الشيخ محمد الغزالي , والشيخ زكريا الزوكة , والشيخ عبد المعز عبد الستار , والشيخ السيد سابق . وكانوا جميعا طلابا بالأزهر أو حديثي التخرج . وكان الشيخ سيد سابق قد بدأ في إصدار كتابه: فقه السنة , في سلسلة من الكتيبات التي كان كل منها يباع بخمسة مليمات . قرأت منها : الطهارة وأنواع الماء والصلاة . . . ولقد استعدت هذه الذكريات وأنا أقرأ كتابه الكامل الشامل : فقه السنة المكون من 3 مجلدات ضخمة . وكان الشيخ الغزالي مشهورا بعلمه الواسع وأسلوبه المنطقي في الخطابة والذي كان يدخل القلوب , وكان الشيخ عبد المعز متحمسا يثير من يخطب فيهم ويملأهم حماسا .

قلت للإمام مرة : شتان بين هؤلاء وبين باقي رجال الدين الأزهريين . فقال :إن هؤلاء رجال دعوة , أما أولئك فهم ليسوا رجال دين , بل رجال علم الدين ! !


عز الدين إبراهيم

حضر عز الدين إبراهيم وهو طالب بكلية الآداب إلى منزل شقيقي بمصر الجديدة مختفيا عن أعين الشرطة في عام 1950 حيث كان مطلوبا للقبض عليه في قضايا الأوكار المزعومة . وجلس مع أخي وعدد من أقربائي . وبعد الغذاء قال له أخي ( رحمه الله ) : إن رجال الشرطة قد حضروا بالأمس للتفتيش , وصادروا جهاز راديو , وانصرفوا , خشي عز الدين إبراهيم أن يكرروا الحضور للتفتيش , فانصرف بعد صلاة المغرب . بعد ذلك بعشر دقائق بالتحديد , حضر رجال الشرطة للتفتيش مرة ثانية . ولكن عز الدين كان قد وجد طريقه إلى خارج القاهرة , ثم إلى خارج مصر . . . حصل على الدكتوراه وصار أستاذا يشار له بالبنان وعمل رئيسا لجامعة الإمارات بمدينة العين , ويعمل الآن مستشارا للشيخ زايد آل سلطان .


من أنت ؟ . . . أمين

كان جندي الحراسة في معتقل الطور إذا اقترب أحد من بوابة المعتقل سواء من داخله أو خارجه , يهتف طالبا كلمة السر كما هو معتاد في حراسة الجيوش , فيقول : من أنت ؟ فيرد القادم : أمين . فيقول الجندي أمين مين ؟ ( طالبا كلمة السر ) فيرد عليه الأخ من داخل المعتقل : أمين إسماعيل ؟

كان أمين إسماعيل هو الوحيد الذي يسمى بأمين . رحمه الله رحمة واسعة .


الطحاوي

ورد إلينا معتقل جديد , وتعرف على وعلى إخوان من الشرقية باعتباره من الأسرة الطحاوية . كانت ل لحية سوداء , وعيناه دائما تلمعان . وكان كثير الجلوس مع مجموعتنا لأن غرفتنا كانت قريبة من مدخل المعتقل . لمحته في أحدى الليالي يتسلل إلى البوابة ويعطي ورقة لجندي الحراسة . . . وضعناه تحت المراقبة , وإذا بنا نكتشف أنه جاسوس يراقب الإخوان ويسمع أحاديثهم وينقل خلاصتها للقومندان ليرفعها إلى القلم السياسي , كان يهرب تقاريره مرتين في الأسبوع .

حذرنا الإخوان منه وطلبنا عدم كشفه أو إظهار أنهم اكتشفوه حتى لا ينقلوه ويبعثوا غيره ممن لا نعرفهم . . . سار الأمر على ذلك لمدة شهر . غير أن أحد الإخوان لم يستطع أن يكبح جماح نفسه . . . التقى به وهو عائد من البوابة , ولم يملك نفسه وضربه علقة شديدة أدت إلى نقله للمستشفى . لم نره بعد ذلك ولعله نقل إلى حذاء آخر .

جلسنا نضحك على هذا الأخ الطحاوي الذي ذكرنا بقريب له من قبل , خان أحمد عرابي .


استشهاد الإمام

في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليلة 12 فبراير 1949 , سمعنا في الراديو الذي كنا قد هربناه داخل الحذاء رقم 5 بمعتقل الطور , ووضعناه في الغرفة التي بها مصطفى مؤمن , ذلك الخبر المشئوم الذي أذاعته محطات صوت أمريكا .

استيقظ من كان نائما من الإخوان , وبكى الجميع وعلا النحيب , ونحن مقهورون داخل أسلاك شائكة لا نقدر على شيء . واستمر الإخوان واجمين أساما , يتابعون الإذاعات ليعرفوا تفصيل ما حدث .

قال بعض الإخوان : ما كان لحسن البنا أن يموت على فراشه كيفية الناس , بل كان ينبغي أن يموت شهيدا . . . لا بل قتيلا تتآمر عليه حكومة بكل قوتها وعنفوانها وضباطها وجنودها وسياسييها , فهو يشرف بأن يموت شهيدا , ويزيده شرفا أن قاتله دولة بأكملها .

قالت الإذاعات الأجنبية بعد ذلك أن الذي قتل الإمام ضباط القلم السياسي . وقالت إذاعات أخرى أن الذي قتله هم حراسي النقراشي ورجال الحزب السعدي انتقاما لمقتل زعيمهم . . . أما العجب العجاب أن يذيع راديو مصر أن الاخوان المسلمين هم الذين قتلوه , لأنه كان ينوي إبلاغ الحكومة عن أماكن الأسلحة , وأنهم غضبوا عليه لأنه استنكر مقتل النقراشي في بيانه الذي نشر بالصحف ! ! !

وليس غريبا جريدة الأساس ( لسان حال الحزب السعدي ) هذا الخبر المختلق الذي يعد من قبيل الدعارة الصحفية , إنما الغريب أن تنشر الأهرام المستقلة التي عرفت باتزانها على مر العصور , مثل هذا الخبر . . . . " كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا " .

لقد هربت إلينا نسخة من الأساس ونسخة من الأهرام , حيث كانت ترد الجرائد إلينا سرا كل أسبوع . ثم ثبت في التحقيقات التي أجريت بعد قيام ثورة يوليو 1952 , أن استشهاد الإمام كان بناء على مؤامرة تمت باتفاق بين القصر والوزارة والانجليز . وأن الذين قاموا بتنفيذ خطة القتل , أخلو شارع الملكة نازلي ( رمسيس حاليا ) من المارة والسيارات في مساء تلك الليلة , واعتموا الضوء الكهربائي . كان الإمام في زيارة لجمعية الشبان المسلمين ليلتقي مع ذكي علي باشا – عضو الوزارة والواسطة بين الإمام والحكومة - الذي لم يحضر تلك الليلة بالرغم من الاتفاق معه على موعد اللقاء , وكان الإمام قد تلقى وعودا طيبة من الحكومة بالإفراج عن المعتقلين .

كان القتلة يقتفون أثره ويترصدون حركاته , حتى إذا خرج بعد أن فات الموعد بكثير , ومعه زوج شقيقته الدكتور عبد الكريم منصور أستاذ القانون , تقدمت منهما سيارة تاكسي كانت معدة لذلك , وبمجرد أن جلسا فيها تقد منهما اثنان ملثمان وأطلقا عليهما الرصاص من الجانبين بعد أن كسرا زجاج الأبواب . كان أحدهم حارس النقراشي " محمد وصفي " وكان الثاني المخبر " أحمد حسين جاد " الذي احتسى الخمر بناء على أمر الضابط عبدة أرمانيوس ليصير مخمورا عند القيام بمهمته .

لم تكن إصابات الإمام مميتة , فخرج من التاكسي , وذهب إلى دار الشبان المسلمين حيث طلب له محمد الليثي رئيس قسم الشباب بالجمعية سيارة إسعاف . كانت الساعة الثامنة مساء .

تجمع بعض الناس الذين حضروا من الحواري المقابلة عند سماع أصوات الرصاص , ففرقهم الضابطان حسين كامل وعبدة أرمانيوس بحجة أن هناك قنابل يلقيها إرهابيون , فخاف الناس وانصرفوا مهرولين . بالرغم من الرقابة البوليسية المستمرة المفروضة على الإمام , فإذا أحدا من الشرطة لم يتدخل عند سماع الرصاص .

نقل الإمام وعبد الكريم منصور إلى الإسعاف الذي حولهما إلى القصر العيني بسبب النزيف , حيث أمرت الحكومة مدير المستشفى الدكتور . . . حجاب – وهو زوج شقيقة الدكتور يوسف رشاد كبير أطباء اليخوت الملكية ورئيس أحد أجهزة المخابرات الخاصة بالملك – أن يعمل على ترك حسن البنا ينزف حتى يموت إذا لم تكن الرصاصات التي أطلقت عليه قاتلة .

قال الدكتور أحمد شكيب الطبيب الشرعي الذي أجرى الصفة التشريحية للجثمان : إن الإمام ترك ليموت بالنزيف الذي كان يمكن وقفه وإنقاذ حياة المصاب بعملية جراحية بسيطة .

ذهب عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية وقتذاك إلى قصر عابدين في اليوم التالي , لكي يوقع في سجل التشريفات ( ليفيد بأن الجريمة تمت ) فقابلوه هناك بالعناق والتبريك .

لم يسمحوا بتشييع جنازة الشهيد كيفية الناس , بل لم يسمحوا لأحد أن يطل من شرفة داره أو لامرأة بأن تبكي وتولول , ولا لأحد أن يقترب من النعش , بل كان الذي يرتدي رباط عنق أسود يتعرض للاعتقال . سارت الجنازة من منزل الإمام تحت حصار البوليس , وحمل النعش بنات الشهيد . قالت وفاء ابنته الكبرى : " قر عينا يا أبتاه . فلن نتخلف عن رسالتك . ولئن منعت الحكومة من يشيع جنازتك , فحسبنا عزاء وجزاء أن أرواح الشهداء تمشي معنا وتشيع من أهل السماء ما عجز عن تشييعه أهل الأرض " .

صلى الأب الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا على ولده الشهيد في مسجد قيسون الذي كان يصلى فيه الإمام بالناس المغرب والعشاء من كل يوم جمعة , ثم شيع إلى المقابر تحت الحراسة المشددة .

الوحيد الذي حضر للعزاء بعد الجنازة , ولم يستطع الحراس منعه , هو مكرم عبيد باشا .

زورت الحكومة محاضر التحقيق , وضغطت على الليثي ليغير أقواله فيما يتصل برقم السيارة وهو 9979 وقد عرف أنها سيارة العقيد محمود عبد المجيد , ولكن الرجل لم يخضع للتهديد , فزوروا محضر التحقيق وكتبوا أن رقم السيارة هو 9997 .

ذكرت جريدة المصري الرقم الحقيقي الذي عرفه محي الدين فكري المحرر بالجريدة من كونستبلات الشرطة المتجمعين عند باب الجمعية , فصادر الرقيب الجريدة , وأحيل هو ومرسي الشافعي مدير التحرير لنيابة الصحافة للتحقيق معهما . ومع ذلك كانت خمسة آلاف نسخة من الجريدة قد تسربت إلى السوق قبل المصادرة . عندما تقرر فتح ملف القضية من جديد بعد الثورة , انتحر محمود عبد المجيد , فذهب إلى جهنم غير مأسوف عليه .

ثبت من التحقيقات الجديدة أن الملك فاروق كان ضائعا في هذه المؤامرة وكان الانتقام الإلهي منه , أن مات مقتولا بالسم في بار في ايطاليا . وشتان بين من يموت شهيدا في سبيل دعوة الإسلام , ومن يموت على يد راقصة في بار . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار " . ( 1 )

الفصل الثالث :مع النظام الخاص

قام الجهاز الخاص للإخوان المسلمين بأعمال مجيدة , كما قام بأعمال خاطئة انحرفت به عن أهدافه السامية التي أنشئ من أجلها , فصار وجوده هدفا في حد ذاته .

في هذا الفصل أجلو بعض الغموض الذي أحاط بمقتل الخازندار وأحمد ماهر والسيد فايز والنقراشي .


النظام الخاص والتنظيم الطليعي

أنشئ النظام الخاص في عام 1940 تحت شعار أن الحق لا بد وأن تحميه قوة , وأن الله يذع بالسلطان ما لا يذع بالقران كما قال الفاروق عمر بن الخطاب . وكان الهدف من إنشاء هذا النظام هو مواجهة الانجليز في الداخل والصهاينة في فلسطين .

وكانت فكرة الأمام حول هذا النظام تقوم على تكوين مجموعة من الإخوان الشبان المخلصين – أي من صفوة الإخوان – لا يزيد عددهم على عشرين شخصا ( مثلما أبلغني بذلك الدكتور حسين كمال الدين ) , يتلقون تدريبا عسكريا يشبه تدريب فرق الصاعقة في الجيوش الحديثة , وتكون مهمتهم حماية ظهر الدعوة من أعدائها من الكفار . ولم يكن في فكر حسن البنا أن يقتل مسلما أو مصريا يقول لا اله إلا الله , أو يعتدي على منشات مصرية أو يعمل بها مصريون .

وعهد الإمام للأخ عبد الرحمن السندي بتكوين هذا النظام . غير أن عبد الرحمن توسع في العدد شيئا فشيئا , إلى أن وصل إلى حد يهدد الدعوة العامة لنقص الدعاة والإخوان المخلصين وتخلف الكثيرين عن العمل الميداني لنشر الدعوة , للدرجة التي جعلت الإمام يفكر في كيف يستطيع أن يقلص هذا النظام بدون أن يؤدي ذلك اهتزاز يصيب سير الدعوة ويعطل مسيرتها , وبخاصة بعد أن يؤدي ذلك إلى اهتزاز يصيب سير الدعوة ويعطل سيرتها , وبخاصة بعد أن حدثت من النظام بارتكاب أفعال استنكرها الإمام مثل مقتل الخازندار , الذي سأتحدث عنه في الموضوع التالي .

كان أعضاء هذا النظام هم جند الإسلام في حرب فلسطين قبل تدخل الجيوش . وكان التفاهم تاما بين قيادة النظام والحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ورئيس الهيئة العليا لتحرير فلسطين , حيث كان الإخوان يجمعون السلاح للهيئة , وانشئوا لها محطة إذاعة سرية في فيلا استأجرها المهندس سعد جبر لهذا الغرض , فضلا عن التنسيق مع المفتي فيما يتعلق بالفصائل التي أرسلت إلى أرض فلسطين لتقاتل العصابات الصهيونية التي تزعمها وقتئذ وزراء إسرائيل الحاليين .

قام النظام بأعمال على سبيل الترهيب لا الإرهاب , فألقوا قنبلة دخان على بار مليء بالجنود الانجليز , وقنبلة شبيهة على شركة الإعلانات الشرقية التي كان رئيس مجلس إدارتها ممثلا للصهيونية العالمية الذي قابلته بعد أن طرد من مصر في عام 1956 في روما وباشر مهامه العامية من هناك تحت ستار مكتب للصور الصحفية , واسمه مسيو حاييم .

كذلك قام النظام بإلقاء قنبلة دخان على حارة اليهود , حيث كان اليهود المصريين يساندون الصهيونية الإسرائيلية ويمدونها بالمال الكثير .

وفي يوم من أيام مايو 1948 , كان أفراد النظام الخاص ينقلون بعض أوراقهم داخل سيارة جيب , فضبطت مصادفة , وكان بها بعض الأسلحة الخاصة بالهيئة العليا لفلسطين , وقدم الذين قبض عليهم للمحاكمة فيما سمي بقضية الجيب . العجيب أن المستشار الذي حكم في هذه القضية وهو أحمد كامل بك , طلب التقاعد من خدمة الحكومة بعد انتهاء القضية وانضم للإخوان بعد أن اقتنع بسمو فكرتهم وسلامة عقيدتهم , واشتغل بالمحاماة في الإسكندرية , ثم ترافع ضد الحكومة في قضية مقتل الإمام الشهيد . كذلك فإن عضو اليمين في المحكمة المستشار محمود عبد اللطيف , قال بعد المحاكمة . . كنت أحاكمهم فأصبحت واحدا منهم " .

من هذا النظام اقتبس عبد الناصر التنظيم الطليعي الذي شكله في أواخر الستينات ولا يزال بعض أعضائه يحكمون مصر في هذه الأيام . كانت فكرة عبد الناصر تتفق مع فكرة حسن البنا , إذ شكل التنظيم ليكون سرا وليحمي ظهر الثورة عند اللزوم .

غير أن هناك فارقا كبيرا بين التشكيلتين . فأعضاء النظام الخاص كانوا من المؤمنين بفكرته والمخلصين لها , أما أعضاء التنظيم الطليعي فكانوا من فلول ومخلفات هيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي , من أصحاب المصالح وذوي النزعات الفردية .

كان تشكيل التنظيم الطليعي سريا , وانتشر بحيث شكلت له وحدات في الشركات والمصالح الحكومية , وكان العضو المؤسس ملتزما باختيار عدد يضمه كأعضاء , وبعضهم تحت الاختبار لفترة , فإذا رسب أحدهم استبعد من التنظيم . وأذكر أن صديقا لي في أحدى الشركات أسر لي أنه عضو في التنظيم الطليعي , وصار يتباهى بذلك أمام أصدقائه , ولم يسر عليه أسبوع واحد حتى استبعد من التنظيم .

وكما هو شأن التنظيمات السرية , كان هدف التنظيم الطليعي المعلن سليما , غير أنه انحرف عن هذا الهدف وصار عمل الأعضاء قاصرا على حضور اجتماعات سرية وكتابة التقارير عن العاملين والزملاء , الأمر الذي تسبب في مشاكل كثيرة وبخاصة في الجامعات , مما حدث بالرئيس السادات إلى إلغائه . . ولكن العجيب أن نفوذه مستمر حتى اليوم .

ولنعد الآن لما قاله أمين الحسيني مفتي فلسطين ورئيس الهيئة العربية العليا في حق النظام الخاص للإخوان المسلمين , ردا على سؤال للمحكمة حول جمع الأسلحة لنصرة فلسطين بواسطة النظام الخاص ( انظر : محمود الصباغ : حقيقة التنظيم الخاص – دار الاعتصام 1407 ه . الصفحات 172 - 178 ) , حيث يقول :

" كان للإخوان المسلمين حركة مشاركة في حرب فلسطين منذ البدء . وقاموا بدعاية لها , ثم شاركوا بأنفسهم في سنة 1936 أثناء الجهاد هناك , وجمعوا أسلحة وذخيرة , وذهب فريق منهم إلى الجهاد هناك واستمروا على ذلك . . . وظلت الهيئة تجمع أسلحة بعد دخول الجيوش , وكذلك الإخوان . وأذكر حادثة قد يكون لها أهمية في هذا الموضوع وهي أن المرحوم الشيخ حسن البنا زارني بعد الهدنة الأولى وقال لي ما يدل على قلقه مما ظهر في بعض الجيوش العربية من التخاذل ومما لمسه من الدسائس التي ترمي إلى هدم قضية فلسطين , وتسليم فلسطين إلى اليهود وبدون حرب . قال لي : إنه يشعر بقلق شديد مما لمسه من هذا التخاذل والدسائس , ولذلك فقد فكر في أنه سيرسل نحو عشرة آلاف من الإخوان المسلمين ليشتركوا مع المجاهدين في فلسطين . وقال أنه سيعرض الأمر على المختصين في الحكومة المصرية لتمونهم وتسلحهم , وإذا تعذر تسليحهم بسبب قلة السلاح فإنه سيطلب إلى جميع الشعب لتجهز كل شعبة متطوعيها بسلاح تشتريه , بحيث يتسلح عشرة آلاف , وكان مصمما على هذه الفكرة واعتقد أنه طلب إلى هذه الشعب أن تجمع الأسلحة , وأخذ في تنفيذ هذه الخطة , ولكن لا أدري كم استطاع أن يرسل منهم في ذلك الحين , وهذا يدل على أنهم كانوا يشترون الأسلحة حتى بعد دخول الجيوش النظامية وذلك بسبب خيبة الآمال في بعض الجيوش العربية .

وكانت الهيئة العربية تجمع السلاح وترسله إلى فلسطين حتى 11 أو 12 ديسمبر 1948 ( تاريخ حل الإخوان ) وصادرت الحكومة من قبل حوالي 4 أغسطس الأسلحة والذخائر من مخازن الهيئة العربية في حلمية الزيتون والمرج بالرغم من حصولها على تصريح بجمع السلاح . . . وعن الإخوان المسلمين ذاتهم يقول المفتي ( صفحة 178 من المرجع السابق ) :

" الإخوان المسلمون هيئة إسلامية تعتنق المبادئ وتحمل دعوتها وتعمل لخير المسلمين ونفعهم , وتعمل على إنشاء جيل مصلح يعمل بمبادئ الإسلام وأخلاقه , هذا ما أعرفه عن الإخوان المسلمين , أعرف أن أهداف المرحوم حسن البنا والإخوان كانت لمصلحة المسلمين خاصة ولخيرهم ولإنقاذهم مما هم فيه من ذل وبلاء ولا اعتقد أنها تعمل أي شيء يخالف الشرع من العنف والقتل والإرهاب . "

ويقول اللواء احمد فؤاد صادق باشا قائد عام حملة فلسطين عن جنود الإخوان هناك أنهم كانوا أبطالا . وتسأله المحكمة عن وقائع تدل على بطولتهم فيقول ( المرجع السابق ص 179 ) :

" سمعت بعد وصولي لرئاسة القوات في فلم المخابرات العسكرية أن اليهود يبحثون دائما عن موقع الإخوان ليتجنبوها في هجومهم , فبحثت عن حالتهم من الناحية الفنية , وأمرت بتمرينهم أسوة بالجنود ودخلوا مدارس التدريب , وأصبح يمكن الاعتماد عليهم في كثير من الأحوال التي تستدعى بطولة خاصة , مثلا : أرسلتهم من دير البلح ما يقرب من 100 كيلو إلى الجنوب لملاقاة الهجوم الإسرائيلي على العريش فاستبسلوا وأدوا واجبهم تماما , واشتركوا أيضا في حملة للدفاع عن موقع 86 في دير البلح وأعطيتهم واجبا من الواجبات الخطيرة فكانوا في كل مرة يقومون بأعمالهم ببطولة استحقوا من أجلها أن اكتب لرياسة مصر أطلب لها مكافأة بنباشين , وذكرت بعضهم للشجاعة في الميدان , وبعضهم ذكر اسمه في الأوامر العسكرية , واتصلت بالحكومة في ذلك الوقت وطلبت منها مساعدة هؤلاء بأن يعطوهم أعمالا عندما يعودون أسرهم والحكومة ردت ووافقت وأرسلت تأخذ معلومات عنهم وكان ده تكريم الحكومة لهم . . . ولا اعرف إن كانت قد نفذت هذا الوعد أم لا . ولكن الحكومة طلبت مني اعتقالهم فرفضت ووضعتهم تحتي حراستي الخاصة . . . كانت روحهم المعنوية بعد حل الإخوان عالية وقاتلوا ببسالة . . . وقاموا بدور خطير في دير البلح . . . فهم أحسن المتطوعين عندي .

وقد طلبوا مني بعد أن بلغتهم باغتيال المرشد إقامة حفلة تأبين للأستاذ البنا , فرفضت لأني لم أقم حفل تأبين للنقراشي , ولهذا وضعتهم في شبه معتقل , ولكن ليعاملوا معاملة كريمة فهم زملاء ميدان .

ويقول اللواء أحمد علي المواوي بك قائد عام حملة فلسطين ( المرجع السابق صفحة 182 وما بعدها ) : سبق متطوعو الإخوان المسلمين ( النظام الخاص ) دخول القوات النظامية الحرب في فلسطين . . . واستعان الجيش النظامي بهم أثناء الحرب كطلائع ودوريات . . . استخدمناهم كقوة حقيقية تعمل على جانبنا الأيمن في الناحية الشرقية . . . كانت روحهم المعنوية قوية جدا للغاية . . . وأذكر بالنسبة لروحهم المعنوية أنهم كانوا يطلبون دائما ألغاما للنسف وكانت في هذا الوقت العام متعذرة وأذكر أن هؤلاء الإخوان كانوا يقومون بدوريات ليلية يصلون فيها إلى النطاق الخارجي للمستعمرات اليهودية , وينزعون من تحت الأسلاك الشائكة الألغام التي يبثها وسط الأسلاك ويستعملونها في تلغيم الطرق الموصلة إلى المستعمرات اليهودية , وقد نتج من جراء هذه الأعمال التي كانت تعمل في وقت الهدنة . . . وقد كلفنا الإخوان المتطوعين بعمل عسكري عند مهاجمة العسلوج . والعسلوج هذه بلد تقع على الطريق الشرقي واستولى عليها أول يوم هدنة , ولهذا البلد أهمية كبيرة جدا بالنسبة لخطوط المواصلات , وكانت رئاسة الجيش تهتم كل الاهتمام باسترجاع هذا البلد , حتى أن رئيس هيئة أركان الحرب أرسل لي إشارة هامة يقول فيها : لا بد من استرجاع هذا البلد بالهجوم عليها من كلا الطرفين من الجانبين , فكلفت المرحوم أحمد عبد العزيز بك بإرسال قوة من الشرق من المتطوعين وكانت صغيرة بقيادة ملازم وأرسلت قوة كبيرة من الغرب تعاونها جميع الأسلحة ولكن القوة الصغيرة هي التي تمكنت من دول القرية والاستيلاء عليها " .

هذه الشهادات الثلاث تدل على جدية دور الإخوان في حرب فلسطين , وهي صادرة من شخصية سياسية على أعلى مستوى ومن أعلى قائدين عامين أشرفا على الحرب تباعا .

ويقول الصاغ محمود لبيب بك عضو الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين وقائد منظمة شباب فلسطين والمشرف على التنظيم العسكري للإخوان ( الذي انضم له فيما بعد عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين وحسين الشافعي وعبد اللطيف البغدادي وخالد محي الدين ثم حنثوا بالبيعة التي بايعوها لما وجدوا أنفسهم على رأس السلطة ) في شهادته أمام المحكمة ما يلي :

عينتني الهيئة العربية العليا قائدا لمنظمة شباب فلسطين . فسافرت إلى هناك وكونت جيشا من أهالي فلسطين عام 1947 , فأخرجني الانجليز من هناك بالقوة . ولما عدت اتصلت بسماحة مفتي فلسطين . . . ثم بدأ التطوع في ديسمبر 1947 . وتجمعنا في العريش ثم توجهنا إلى الميدان . . . كان المتطوعون من الإخوان يحاصرون المستعمرات اليهودية , ثم يبحثون عن مواسير المياه لقطعها ويمنعون الماء عن المستعمرات ويهاجمون القوافل اليهودية , وإنهم كانوا على الدوام يهاجمون القوافل , وأرادوا معرفة قوة المستعمرات وعملوا رسما كروكيا لمستعمرة دير البلح المعروفة بالعبرية كفار ديروم , وكانت على مسافة 800 متر من جهة النصيرات وأرادوا أن يهاجموا هذه المستعمرة , وفعلا هاجموها وقد نجحوا في دخولها واستشهد بعضهم , وقد كان هذا الهجوم من نوع الاستكشاف وهذا يحصل دائما في حروب العصابات , وقد استشهد في هذه المعركة 12 مجاهدا وجرح كثيرون وبعد هذه المعركة اتصلت بصالح حرب باشا والمرحوم المرشد العام بصفتهم عضوين في هيئة وادي النيل , ورئيسها علوية باشا كي يتصلوا بالحكومة ووزير الحربية ليعطوا المتطوعين قشلاقا للتدريب , كما فعلت سوريا في شمال أطنة وتكلموا مع علوية باشا في الموضوع , علوية باشا اتصل بحيدر باشا فوعده أنه سيوجد معسكر للتدريب وتوجهت أنا والمسيري بك إلى الهايكستب , وهناك أخذنا المعسكر الذي سيجري فيه التدريب وابتدأ بعد ذلك التطوع بأوسع مدى , والحكومة عينت في المعسكر مدربين من الجيش ونادت هيئة وادي النيل بالتطوع , وكان أكثر المتطوعين من الإخوان إذ بلغوا 90 % من المتطوعين جميعا وفعلا توجهوا إلى المعسكر وتدربوا تدريبا عمليا كاملا وانضموا لإخوانهم في فلسطين .

زرعنا قواتنا لمحاصرة المستعمرات اليهودية التي يمر عليها الجيش على أبعاد متفاوتة , وعملنا على وضع الألغام في الطرق المجاورة للطريق الرئيسي الذي يمر منه الجيش .

وفعلا مر الجيش ولم تطلق أي رصاصة واحدة من المستعمرات عليه , ولما دخل الجيش غزة كان معهم متطوعون وتسلم القيادة المرحوم احمد بك عبد العزيز واحتلوا العوجة والعسلوج وبير سبع والفالوجة وعراق المنشية وبيت جبريل والخليل وبيت لحم , ودخلوا في حدود القدس الجديد 3 كيلو وحصل هذا كله في مدى 12 يوما وأصبح جميع النقب تحت إشراف الإخوان المسلمين .

وقبل دخول الجيش بثلاثة آثام أو أربعة عملنا معركة وذلك في يوم 11 مايو , هذه المعركة تدل على مدى قوة ومتانة المتطوعين الروحية والمادية , فقد علمنا بوجود المصفحات اليهودية في مستعمرة اسمها " المشبه " تبعد عن غزة بحوالي 20 كيلو للجنوب الشرقي فراقب الإخوان هذه الحركة طوال الليل , وفي الصباح بدأت قافلة المصفحات تتحرك , فخرج المتطوعون " بالبويز " وهي عبارة عن مدافع ضد المصفحات , وما أن تقدمت المصفحات حتى فتحت عليها النيران من كل الجهات , وفي خلال فترة وجيزة كان الفدائيون مسيطرين على الصهيونيين وأخذ الصهيونيين في التسلل فمنهم من قتل و منهم من نجا , وحضر سواقوا الإخوان وقادوا المصفحات ومعي الآن صور لهذه المصفحات , وأخرج الشاهد من جيبه خمس صور واطلعت عليها المحكمة وأعيدت إليه ثانيا .

ولما دخل الجيش ووصل الإخوان بيت لحم ودخلوا ثلاثة كيلو داخل حدود القدس الجديدة كانت هناك مستعمرة يهودية كان لا بد من أخذها اسمها مستعمرة " راما تراحيل " فأمر أحمد عبد العزيز بك أن يستولى عليها الإخوان , وهذه المستعمرة كبيرة و كانت تمون القدس باللبن والدواجن , وقد تسلق الإخوان المستعمرة لأنها كانت في مستوى عال واحتلوها وإذا بهم يفاجئون ببعض جنود إحدى الدول العربية وقد اخذوا في السلب والنهب , ولذلك فكر الإخوان في أن الصهيونيين لا بد لهم من العودة , فتركوا المستعمرة لجيش تلك الدولة , وارتد الصهيونيين واستولوا عليها , وصمم أحمد عبد العزيز على أخذها مرة أخرى , وفعلا استولى عليها الإخوان بعد ذلك .

أرسل لي عبد الرحمن عزام باشا أمين الجامعة العربية لكي أحضر للجامعة فتوجهت إلى هناك وقابلني الأميرالاي احمد بك منصور ضابط الاتصال , وسألته عن سبب دعوتي , فأخبرني برغبتهم في جمع المتطوعين وأن الأومباشي حسن مصطفى مندوب الهايكستب حاضر لهذا السبب , وحضر الأومباشي حسن مصطفى وطلب كتيبتين من 1600 من المتطوعين , وسألته هل يريدهم من كل صنف ؟ فقال لي : إنه يريدهم من صنف واحد فقط هم الإخوان المسلمين بالذات . قلت له : ممكن, فأفهمني أن المسألة مستعجلة لأننا سندربهم في حوالي 15 إلى 20 يوما على الأسلحة لفك الحصار عن الفالوجا , فقلت له : " ممكن وميسور " وأخذني معه لوزارة الحربية وهناك قابلني البكباشيصلاح صبري وعرفني أنه مدير مكتب الوزير , وقد عرفه بي وسألني هل أخبروك عن المأمورية . قلت : مستعدين , . . . وقام الإخوان بفك الحصار .

وفضلا عن كل ما مضى فقد انشأ النظام الخاص مصانع للهيئة العربية العليا على شكل ورش في فيلات مستأجرة في حلمية الزيتون والمرج , لكي تنظف وتصون الأسلحة الصدأة المجموعة من الصحراء .

هكذا قام النظام الخاص بواجبه كاملا ومحققا الهدف الذي أنشئ من أجله . . . فتلك أمجاده . فلماذا فعل التنظيم الطليعي غير القفز إلى الحكم ؟

بيد أن النظام انحرف عن أهدافه اعتبارا من حادث مقتل الخازندار , فالجميل لا يكتمل جماله كما يقول المثل الشعبي .

مقتل الخازندار

كنت مستشارا لمجلس إدارة النظام الخاص منذ عام 1945 باعتباري أمينا للمعلومات تابعا للأمام حسن البنا . وكنا نحضر الاجتماعات وتعرض علينا مشاكل النظام وأعضائه , ونقر أساليب التدريب التي تخدم الفصائل التي سوف تتوجه إلى فلسطين .

قتل المستشار الخازندار وأنا مستشار لمجلس إدارة النظام . ولم يكن مجلس الإدارة يعلم شيئا عن هذه الواقعة إلا بعد أن قراناها في الصحف وعرفنا أنه قد قبض على اثنين من الإخوان قتلا الرجل في ضاحية المعادي ومعهما دراجتين لم تتح لهما فرصة الهرب عليهما حيث قبض الناس عليهما .

في ذات اليوم طلب الأستاذ الإمام عقد اجتماع لمجلس الإدارة بمنزل عبد الرحمن السندي . وحضر الأستاذ بعد صلاة العشاء وبصحبته شخص آخر , لا أذكر إن كان حسن كمال الدين المسئول عن الجوالة أو صلاح شادي رئيس نظام الوحدات الذي كان يضم ضباط وجنود البوليس .

دخل الأستاذ وهو متجهم , وجلس غاضبا , ثم سأل عبد الرحمن السندي قائلا : أليست عندك تعليمات بألا تفعل شيئا إلا بغير إذن وبغير عرض على مجلس إدارة النظام ؟ فقال عبد الرحمن : لقد طلبت الإذن وصرحتم فضيلتكم بذلك ! قال الإمام : كيف ؟ هل أصرح لكم وأنا لا أدري ؟ قال عبد الرحمن : لقد كتبت إلى فضيلتكم أقول ما رأيكم دام فضلك في حاكم ظالم يحكم بغير ما أنزل الله ويوقع الأذى بالمسلمين ويمالئ الكفار والمشركين والمجرمين ؟ فقلتم فضيلتكم : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض . فاعتبرت هذا إذنا ! !

قال الأمام : إن طلبك الإذن كان تلاعبا بالألفاظ , فلم يكن إلا مسألة عامة تطلب فيها فتوى عامة . أما موضوع الخازندار فهو موضوع محدد لا بد من الأذن الصريح فيه . ثم انك ارتكبت عدة أخطاء : لم تعرض الأمر على مجلس النظام . ولم تطلب إذنا صريحا , وقتلت رجلا يقول لا اله إلا الله محمد رسول الله . واعتبرته يحكم بغير ما أنزل الله وهو يحكم بالقانون المفروض عليه من الدولة . ولو افترضنا أنه كان قاسيا , فإن القسوة ليست مبررا للقتل .

وأثناء حديثه كانت الدموع تنساب من عينيه إلى لحيتيه وهو في غاية التأثر . ثم قال إن كان قتلك للخازندار قد تم بحسن نية فإن علينا الدية ولكن الحكومة دفعت تعويضا كبيرا لأسرة الخازندار , فأسقطت الدية عن الإخوان .

إن الإخوان المسلمين كجماعة إسلامية لا تقر الاغتيالات السياسية . وتنظيمهم الخاص كان مخصصا لأعمال الجهاد في سبيل الله , فهو – كتنظيم – بريء كل البراءة من هذا الحادث الذي يقع وزره على رئيس النظام وحده . لهذا كان استنكار الإمام لهذا الحادث علنا أمام إخوانه جميعا .

كان مرتكبو هذا الحادث هم : عبد الرحمن السندي رئيس النظام , ومحمود سعيد زينهم وحسن عبد الحافظ . وقد خدع الاثنان الأخيران ظانين أن هذا عمل شرعي مصرح به . وبرر عبد الرحمن السندي موقفه أمام زملائه فيما بعد بأن هذا القاضي حكم في ثلاث قضايا :

_ قضية وطنية هي إلقاء قنابل على الإنجليز بواسطة شباب مصر الفتاة في الإسكندرية , وحكمت المحكمة عليهم بالسجن عشر سنوات .

_ قضية سفاح الإسكندرية ( حسن قناوي ) الذي كان مصابا بالشذوذ الجنسي وقتل سبعة رجال أثناء ممارسة الشذوذ معه . وحكت المحكمة برئاسة الخازندار على هذا القاتل المأفون بالسجن 7 سنوات مع الأشغال الشاقة .

_ قضية سيدة اتهمت بتعذيب خدمتها تعذيبا وحشيا إلى حد إدخال عود من حديد محمي بالنار في موضع العفة منها فماتت . وحكم عليها الخازندار بعام واحد مع إيقاف التنفيذ .

فكان التعليق العام على أحكام الخازندار هذه , هي أنه قاس على الوطنيين متسامح مع المجرمين . وعلى أية حال فإن هذا ليس بمبرر للقتل , وإلا حدثت الفوضى وصار الشخص يقتل غيره عندما يظن فيه القسوة أو ممارسة الظلم .

وقد استغلت وسائل الإعلام هذا الحادث – الذي نسب إلى الإخوان ظلما – فصارت تهاجم الإخوان , وانتهزته صحف الوفد فرصة مواتية للهجوم على شخص الإمام . وإن خروج بعض أعضاء الجماعة على قيادتها لا يعيب الجماعة نفسها . فمن قبل قامت جمعية السيد السوداء برئاسة احمد ماهر والنقراشي , وكان ما تقوم به من اغتيالات مفخرة للوفد .

ومن قبل قتل بطرس باشا غالي ( جد أمين عام الأمم المتحدة الحالي ) اغتيالا , واغتيل السير لي ستاك , ومن قبلهم اغتيل الكثيرون . ولكن اغتيال الخازندار ثم قضية الجيب , هما القشة التي قصمت ظهرت البعير . فاتخذتا حجة لحل الإخوان المسلمين , بالرغم من أن ذلك الحل كان لصالح الصهيونية وبأمر من الانجليز إلى الملك ورئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي .

وقد اتهم النظام الخاص باغتيال أحمد ماهر . وهذا غير صحيح كما يتضح من الموضوع التالي .


مقتل أحمد ماهر

في يوم 24 فبراير 1945 اغتيل أحمد ماهر رئيس الوزراء حينذاك , أثناء انتقاله من مجلس الشيوخ إلى مجلس النواب في البرلمان . وكان من المعروف أنه ذهب ليعلن قرارا بدخول مصر الحرب ضد المحور .

كانت الحرب في أواخر مراحلها . ولكنها لم تنته بعد , حيث لم تكن معركة العلمين قد نشبت ولم يتول الفيلد مارشال مونتجومري قيادة الحلفاء في معركة الصحراء . وكان كل المفكرين ضد دخول مصر الحرب , حيث كانت الطائرات الألمانية والايطالية تغير على مصر يوميا , ولكنها لا تلقي قنابلها إلا على المعسكرات البريطانية فحسب . وإذا دخلت مصر الحرب فإن الألمان والايطاليين يكونون في حل من ضرب أي موقع في مصر .

اعترض زعماء مصر – ما عدا الحزب السعدي الذي على رأسه رئيس الوزراء – على دخول مصر الحرب . وكانت حجة أحمد ماهر أنه متى صارت مصر في صف الحلفاء فإنها تستفيد من اتفاقية الهدنة بعد هزيمة ايطاليا وألمانيا باعتبارها شريكا كاملا .

فكر الشاب محمود العيسوي – وهو من الحزب الوطني – في هذا الأمر , وزار معظم زعماء مصر مستطلعا رأيهم في دخولها الحرب , وعلى أثر ذلك قرر اغتيال أحمد ماهر .

وقد نسبت هذه الحادثة إلى الإخوان زورا وبهتانا , حيث أقر محمود العيسوي في التحقيقات أنه من شباب الحزب الوطني , وأنه لا يمت إلى الإخوان بصلة . كذلك لم تثبت التحقيقات الخاصة بهذه القضية أية صلة للإخوان به . غير أن الدقة التي نفذت بها هذه العملية جعلت الكثيرين يشكون في أنه من صنع النظام الخاص للإخوان المسلمين , بل إن بعضا من الإخوان ظن ذلك أيضا , وبخاصة وإن أحمد ماهر هو الذي اسقط الأستاذ الإمام في انتخابات البرلمان عن دائرة الإسماعيلية عن طريق التزوير المتعمد من الحكومة استجابة لطلب الملك والانجليز .

ويقول الشيخ خالد محمد خالد في مذكراته التي نشرها بجريدة الوفد بتاريخ 15 / 10 / 1992 ما نصه : " كانت أولى جرائم النظام الخاص – اغتيال أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء في الممشى الواقع بين مجلس النواب ومجلس الشيوخ بدار البرلمان . . . وأن الأستاذ المرشد كان قد رشح نفسه لانتخابات عام 1942 ثم انسحب نتيجة لتفاهمه مع النحاس باشا . وفي وزارة أحمد ماهر هذه رشح نفسه لمجلس النواب وحصل على نصيب كبير من الأصوات بيد أنه أعيد الانتخاب بينه وبين منافسه , فنجح منافسه بطريقة لم يشك الإخوان معها في تزوير الانتخابات . . . وفي أوائل عام 1945 – وكانت الحرب العالمية الثانية تلفظ أنفاسها . . . وكان إعلان الحرب شكليا بحتا . . . لأن الحرب قد انتهت بانتصار الحلفاء ( هذا غير صحيح فلم تكن الحرب قد انتهت في 1 / 5 / 1945 )

هناك ذهب أربعة من شباب التنظيم السري ( لست أدري من أين استقى معلوماته حيث لم يظهر التحقيق هذه الواقعة ) وانتظروا اجتياز الدكتور ماهر البهو الفرعوني في طريقه إلى مجلس الشيوخ , وتقدم أحدهم متظاهرا بمصافحته , فلما بسط أحمد ماهر إليه يمينه , فاجأه برصاصات استقرت في قلبه . . وهرب الثلاثة الآخرون . . . وعرف اسمه : محمود العيسوي , محام تحت التمرين , ومن أنصار اللجنة العليا للحزب الوطني ( غير مفهوم معنى : من أنصار اللجنة ) . . كان التنظيم السري بارعا في التنكر , فهو بعد تدريب أعضائه على كل أفانين الإرهاب . . ( كذا ! ! ) يأمر بعضهم بأن يلتحق ببعض الأحزاب أو الجماعات , حتى إذا اختير يوما لعمل من أعمال الاغتيال أو الإرهاب . لم يبد أمام القانون ولا الرأي العام من أعضاء الإخوان . . . من هذا النوع كان محمود العيسوي . "

جعلت أفكر في كيف يقول خالد محمد خالد هذا الكلام , وهو لم يكن على صلة وثيقة بالإخوان أو تنظيماتهم مثلما أوضح في مذكراته , غير أني أذكر أني كثيرا ما كنت أشاهده يتردد على الأستاذ الإمام , وهو بملابس جماعة أنصار السنة ويضع على رأسه العمامة ذات العدبة .

سألت الأخ الشيخ سيد سابق , فقال إنه هو مصدر هذا الهراء الذي نشره خالد محمد خالد , حيث أن الشيخ سيد علم من أحد الإخوان أنه كان يجمع معلومات عن أحمد ماهر . وبني على هذه المعلومة أن النظام الخاص للإخوان متورط في هذه الجريمة . أوضحت للشيخ سيد أن جمع المعلومات شيء وجريمة ا لاغتيال شيء آخر , ذلك أننا كنا نجمع معلومات عن جميع الزعماء والمشاهير من رجال السياسة والفكر والأدب والفن , سواء كانوا من أعداء الإخوان أو أنصارهم . وهذه المعلومات كانت ترد لي لأحتفظ بها في أرشيف , وأعود إليها كلما طلب أحد هؤلاء مقابلة الأستاذ الإمام , أو اجتمع الإمام لأية مناسبة من المناسبات , وأذكر الإمام بالمعلومات حتى تكون في خليفته وهو يتحدث مع ذلك الشخص .

أما حقيقة علاقة الإخوان بحادث اغتيال أحمد ماهر , فهو كالآتي :

دعا عبد الرحمن السندي إلى اجتماع – وكنت حاضرا فيه – وقال إنه ينبغي أن نفكر في خطة لقتل أحمد ماهر قبل أن يعلن الحرب على المحور , وقال إنه وضع خطة أولية تقوم على تكليف احد الإخوان بالمهمة , فيزود بمسدس , وينطلق إلى مزلقان العباسية ( مكان نفق العباسية الحالي ) وينتظر هناك مرور سيارة احمد ماهر , حيث أن السيارات تبطئ كثيرا من سرعتها عند المز لقان , ثم يطلق الرصاص عليه , ويكون هناك شخص آخر منتظرات بموتوسيكل , يحمله مع ويهربان . تلك هي الخطة البدائية التي أثارت الاستياء من جميع الحاضرين , لذلك سألته : هل هناك فتوى شرعية بقتل رجل مسلم يقول لا اله إلا الله محمد رسول الله ؟ فقال : إننا نعد مجرد خطة ولكن لن تنفذ إلا بعد الفتوى . قلت : ولنفرض أن هذا الشخص قبض عليه . أحسست أن المسألة لعب بالنار , واستجابة للهوى الشخصي وليس مصلحة الإخوان . ثم قال : لقد اخترت أحمد عبد الفتاح طة لهذه المهمة , وهو ينتظر خارج الغرفة . ثم استدعاه وشرح له الخطة , وقال غدا إن شاء الله نكمل دراستها في وجودك .

في اليوم التالي حضر أحمد عبد الفتاح طة وهو متجهم الوجه . وعندما بدأ الاجتماع قال : قبل أن تنظروا في أية خطة أريد أن أبلغكم أني جبنت ولن استطيع القيام بهذه المهمة . فغضب عبد الرحمن واتهمه بالضعف والتخاذل , فقلت : إن احمد عبد الفتاح في غاية الشجاعة لأنه واجهكم جميعا وصارحكم بحقيقة إحساساته , وكان يمكنه أن يكتمها ثم يهرب دون فعل شيء أو إخطاركم بموقفه , وانفض الاجتماع على لا شيء .

في اليوم التالي , طالعت صحف الصباح , وإذا بخبر اغتيال أحمد ماهر يحتل عناوين الصفحات الأولى , فظننت أن احمد عبد الفتاح أعاد التفكير في الموضوع , ووجد أنه من الكثير عليه أن يجبن وهو الشخص الشجاع كما اعرفه – ثم قرر تنفيذ العملية بمفرده وبخطة من عنده . . وليكن ما يكون .

بادرت إلى جميع الأوراق الخاصة بالإخوان والموجودة بمنزلي فأعدمتها , واستعددت للقبض على . غير أن صحف المساء أوضحت الأمر وذكرت أنه محمود العيسوي المحامي , الذي لم أكن سمعت باسمه من قبل , ثم تبين أنه من الحزب الوطني .

ولا عجب في ذلك فقد كان كل الزعماء ضد دخول مصر الحرب إلى جانب الحلفاء , وأنصار هؤلاء الزعماء يغلون من الغضب على أحمد ماهر وسياسته التي يحتمل أن تدمر مصر . هذه كلمة أقولها للتاريخ , والله يشهد على صدق كل كلمة فيها , وفيها البراءة للإخوان المسلمين من تلك الجريمة .

انحراف النظام الخاص ومقتل السيد فايز

في يوم من أيام مايو 1944 , دعيت أنا والمرحوم الدكتور عبد العزيز كامل ( نائب رئيس الوزراء ووزير الأوقاف وشئون الأزهر في أواخر عهد عبد الناصر ) لكي نؤدي بيعة النظام الخاص . ذهبنا إلى بيت في حارة الصليبة في منتصف المسافة بين السيدة زينب والقلعة . دخلنا غرفة معتمة , يجلس فيها شخص غير واضح المعالم بيد أن صوته معروف , هو صوت صالح عشماوي , وإمامه منضدة منخفضة الأرجل وهو جالس أمامها متربعا . وعلى المنضدة مصحف ومسدس . وطلب من كل منا أن يضع يده اليمنى على المصحف والمسدس ويؤدي البيعة بالطاعة للنظام الخاص والعمل على نصرة الدعوة الإسلامية .

كان هذا موقفا عجيبا يبعث على الرهبة . وخرجنا سويا إلى ضوء الطريق , ويكاد كل منا يكتم غيظه . قال عبد العزيز : هذه تشبه الطقوس السرية التي تتسم بها الحركات السرية كالماسونية والبهائية , ولا أصل لها في الإسلام . صدقت على كلامه . ثم انصرف كل منا إلى حال سبيله .

عينت بعد ذلك أنا وعبد العزيز كامل مستشارين للنظام الخاص , نحضر اجتماعات مجلس إدارته , وكنا كالفرامل التي تكبح جماح السيارة إذا انفلت زمامها . وكنا نناقش الأمور بحرية وغير التزام بمبدأ الطاعة التي كان يسير عليه غيرنا .

كانت أهداف النظام واضحة : وهي العمل على نصرة فلسطين وتخلصها من عصابات الصهاينة , والعمل على تحرير مصر من الاحتلال الانجليزي , وفي ذات الوقت عمل على نشر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة .

اعتقد أن الإمام الشهيد كان على علم بهذه البيعة التي تختلف كثيرا عن البيعة العامة التي تبدأ بالتوبة والاستغفار ثم المعاهدة على نصرة الإسلام والعمل على تطبيق شريعته .

ظل النظام الخاص يؤدي دوره بكفاءة تحقيقا لهدفيه الرئيسيين . ولكن السلطة التي كان يتمتع بها رئيسه حولته بالتدريج من رجل دعوة إلى رجل عنف , وذلك اعتبارا من حادث الخازندار .وبعد استشهاد ألاما , تطلع رئيس النظام إلى الزعامة , وفقد روحانياته التي كانت قبل ذاك بادية على وجهه , وناصب الأستاذ الهضيبي المرشد العام العداء .

قال لي الأخ أحمد نار – وهو يرتجف غضبا – إن رئيس النظام يقول إن لدعوة الإخوان مرشدان : مرشد ظاهر هو الهضيبي , ومرشد خفي هو ذاته . وهذا الموقف منه قد يفسر عداء بعض أعضاء مجلس إدارة النظام للأستاذ الهضيبي , لدرجة إنهم أعلنوا العصيان لأوامره وهددوه , وحرضوا بسطاء الإخوان على الاعتصام بالمركز العام بعد أن سمحت حكومة الثورة بعودة الجماعة .

وكان رئيس النظام على صلة وثيقة بعبد الناصر حيث كان عبد الناصر عضوا بالنظام وعلى صلة طيبة بقيادته , حتى بعد أن نكث ببعثه هو ومعظم أعضاء مجلس قيادة الثورة . لذلك فإن من المحتمل أن يكون عبد الناصر وراء الفتن التي حاقت بالإخوان , حيث كان يبغي أن يحل الإخوان أنفسهم بأيديهم إذا ما اختلفوا وتضاربوا .

كانت دعوة النظام الخاص إلى الوجود بعد قيام الثورة أمرا عجيبا . أذكر أنه حضر رئيس النظام إلى منزلي ومعه الأخ مصطفى كمال الذي كان رئيسا للمكتب الفني بشركة الإعلانات العربية وقت أن كنت مديرا لها , وسألني الأخ عبد الرحمن سؤالا مباشرا : هل أنت معنا أم لا ؟

قلت : من أنتم ؟ إن كنت تقصد الإخوان المسلمين فأود أن أقول لك إننا بايعنا الإمام حسن البنا . وبعد وفاته سقطت البيعة . والبيعة عقد , لهذا ينبغي الاتفاق على شروط عقد جديد . . . هناك أشخاص يعملون في الجماعة وأنت تعلم أني اشترطت عليك – لكي لا ابلغ الإمام بما يفعلون – أن تبعدهم عن الإخوان ولو بالتدريج . وهؤلاء الآن يتصدرون الجماعة بعلمك وموافقتك . . . أما إن كنت تقصد النظام الخاص , فأريد أن أعرف أولا ما هي أهدافه ؟ لقد كان له هدفان : فلسطين والاستعمار البريطاني . والآن توجد حكومة وطنية نابعة من الشعب ومعظم أعضائها من صميم الإخوان , وهم مخلصون ( حتى ذلك الوقت عام 1953 ) , وفلسطين قد انتهى أمرها بالإعلان قيام دولة إسرائيل واعتراف العالم بها , والاستعمار البريطاني موكول الآن إلى الحكومة الوطنية . فما هو هدف النظام الخاص الآن ؟ ثم إن جميع قيادات النظام لخاص ومعظم أفراده قد انكشفوا للحكومة , والتحقيقات السابقة معهم جعلتهم يعترفون على بعض ! فهل النظام هو هدف في حد ذاته ؟

لم يرد علي عبد الرحمن وقال : إذا أنت لست معنا . وانصرف . بعد ذلك بحوالي أسبوع , التقيت بالأخ المهندس السيد فايز في شارع العباسية أمام مكتبة المطيعي . وجدته غاضبا على النظام الخاص , وأفكاره حوله تكاد تتطابق مع أفكاري .

في اليوم التالي – وكان ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم – ذهب شخص ما بصندوق من حلوى المولد وطرق باب بيت السيد فايز في شارع عشرة بالعباسية , وسلم صندوق الحلوى إلى شقيقته قائلا أنه لا يجب أن يفتحه إلا السيد . وبالفعل . . . حضر السيد فايز وتسلم الصندوق وبدأ يفتحه . . . وإذا بالصندوق ينفجر ويودي بحياته .

تلك جريمة رهيبة , لا شك عندي أنها من فعل النظام الخاص , لمجرد أن السيد فايز يعارض وجوده سألت الشيخ السيد سابق عن هذه الواقعة فقال إن رئيس النظام هو الذي خططها ونفذها أحد معاونيه بناء على فتوى نسبت للشيخ السيد سابق وهو بريء منها . وقال لي إنه يعرف الشخص الذي قام بتلك الفعلة النكراء .

بعد هذه الحادثة بحوالي الشهرين , وكنت آنذاك أعمل في الفترة المسائية سكرتيرا لتحرير مجلة الاقتصاد والمحاسبة التي يصدرها نادي التجارة . وكان معي موظف للكتابة على الآلة الكاتبة في المساء كذلك . اختلى بي بعد انتهاء العمل , وقال : هنا شيء أحب أن أبلغك به . . . فأنا أعمل موظفا بالمباحث العامة , ومهمتي كتابة التقارير على الآلة . وقد ورد تقريران , في دار الإخوان بالأمس وكان يهتف بهتافات الإخوان بحماس زائد . . . وأنا أعلم أنك لم تكن هناك لأنك كنت معي هنا حتى منتصف الليل . أما التقرير الثاني فهو عبارة عن كشف وجد مع أحد الإخوان الذين قبض عليهم مؤخرا , وفي هذا الكشف اسم السيد فايز تحت رقم ( 1 ) واسمك تحت رقم ( 3 ) . ولما قرأت خبر جريمة اغتيال السيد فايز , رأيت أن أحذرك . وهذا الكشف يحتوي على عشرة أسماء يبدو أنه يراد اغتيالهم , وفيهم الشيخ سيد سابق .

فوضت أمري إلى الله , فقد انحرف النظام وقائده وثلاثة من مجلس إدارته , وأصبح وجود النظام غاية في حد ذاتها .

وفي يوم قريب من نهاية عام 1953 , طلبت للاجتماع بمكتب الأستاذ عبد القادر عودة وكيل الإخوان بميدان الأوبرا , وكنت قد توقفت عن ممارسة أي نشاط مع الإخوان جهرا أو سرا , وقيل أثناء الاجتماع أن 4 من زعماء الخاص قدموا استقالاتهم من الإخوان وأنهم يحاربون المرشد العام ( الأستاذ الهضيبي ) , وأن هذا الموضوع سيبحث بعد أيام في اجتماع آخر في بيت أحد قادة النظام , دعيت إلى هذا الاجتماع , وسمعت فيه من الأعضاء المستقيلين سبابا في المرشد العام , الأمر الذي يتنافى مع أبسط قواعد الأدب , وأخذوا يشرحون موقفهم .

وقبلت استقالاتهم . ثم قال احد المجتمعين : علينا أن نعين رئيسا جديدا للنظام . . . وإذا بي أفاجأ بأن الشخص الذي كنت قد اشترطت على عبد الرحمن السندي إبعاده عن نشاط الإخوان , يرشحني أنا لقيادة النظام . فاعتذرت لأني غير مقتنع بفكرته بل أنا ضد وجوده . فرشح الشيخ فرغلي الشهيد يوسف طلعت . وقد كان . . .

ولم تمر شهور حتى قبض على قادة وأعضاء النظام , وقدموا للمحاكمة , وأعدم الشيخ فرغلي والأستاذ يوسف ضمن الشهداء الستة الذي اعدموا . . . لا شك أن عبد الناصر كان على علم بدقائق مجريا الأمور داخل تشكيلات الإخوان المسلمين , بل ويعلم موقفي لأنه لم يوجه لي أي اتهام .

ولقد أدت انحرافات النظام هذه إلى انحرافات فكرية عند شباب الإخوان , جعلتهم ينسلخون عن الجماعة ويؤمنون بالعنف طريقا للإصلاح متناسين أمر الله بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة , لدرجة أن احد زعمائهم حاكمه الأستاذ الهضيبي في السجن وفصله قائلا جملته المشهورة : نحن دعاة لا قضاة . وقد انحرف الكثيرون واتجهوا إلى الإرهاب بعيدين تماما عن فكر الإخوان المسلمين , وأسموا أنفسهم أسماء رنانة لا تنطبق على المسميات . مثل تنظيم الجهاد ( وليس فيه أي جهاد بل فيه قتل للنفس التي حرم الله كالشيخ الذهبي حامل القرءان ) وتنظيم التكفير والهجرة ( الذي يكفر المجتمع ولا ينفذ الهجرة لأنه لا يوجد مكان يهاجرون إليه , ونسوا أنه لا هجرة بعد الفتح ) وتنظيم " الناجون من النار " والله وحده يعلم من هو الذي سوف ينجو من النار . . . إلى آخر تلك المسميات .

لقد اخذ هؤلاء أفكارهم عن الشهيد سيد قطب . . . فقد ألف سيد قطب كتابا هو " في ظلال القرءان " , وهو كتاب تفسير عظيم مبتكر إذ يفسر السورة تفسيرا شاملا , كما ألف كتابا آخر وهو في السجن , هو " علامات على الطريق " , ألفه وهو في حالة نفسية سيئة , وكان فيما كتبه في ذلك الكتاب متشائما إلى أبعد حد بسبب ما كان يعانيه من ظلم وتعذيب وافتراءات , لذلك أخذوا عنه فكرة الحاكمية لله , وتكفير المجتمع إلى غير ذلك مما غذى عقولهم المريضة .

لم يكن الشهيد سيد قطب من الإخوان القدامى , ولم يزامل الإمام حسن البنا , بل كان كاتبا إسلاميا وأديبا فحسب , ثم عمل رئيسا لتحرير مجلة الإخوان بعد سماح حكومة الثورة باستئناف نشاطهم . لذلك فإنه لم يتشرب فكر حسن البنا .

عين غصين

كان النظام الخاص يدرب معظم أعضائه في جبل المقطم – ولم يكن المقطم مأهولا بالسكان بعد – في أماكن نائية منه لا يسمع منها طلقات الرصاص أو انفجار القنابل . أما النخبة من الأعضاء فكانوا يدربون في صحراء الإسماعيلية قرب قرية تسمى " عين غصين " ويرمز لها ب ع . غ

وكان التدريب يشمل قيادة الموتوسيكلات في أطراف مدينة الإسماعيلية , والسباحة في البحيرات المرة , وإطلاق الرصاص في الصحراء .

أذكر وأنا أتعلم السباحة أن كنت أتراجع في الماء على الشاطئ وأنا واقف , وإذا بي لا أشعر إلا وأني أغوص في الماء حيث وقعت في حفرة تحت أرض البحيرة , حاولت القفز , فظهرت على الماء مرتين ثم غصت , ولم أشعر إلا وأنا على الشاطئ يجرون لي التنفس الصناعي . كان إنقاذي بإذن الله على يدي محمود الصباغ ومصطفى مشهور الذين يجيدان السباحة إذ قفزا إلى الماء وأخذا يدفعانني خراجا حتى نجوت .

في الصحراء تعلمنا إطلاق الرصاص واستعرضنا أنواع القنابل : المفجرة والحارقة وقنابل الدخان . كما استعرضنا أنواع المسدسات ذات الساقية وذات الزناد والمدافع الرشاشة والتومي جن وما إليها . وكان ذلك المكان قريبا من المعسكرات البريطانية فكان الأهالي إذا سمعوا أصوات الرصاص أو الانفجارات ظنوها صادرة عن تلك المعسكرات التي كان يتم فيها تدريب الجنود الانجليز على العمال الفدائية . بتنا في منزل الشهيد يوسف طلعت ( الذي طلبوا منه في محكمة الثورة أن يقرأ الفاتحة بالمقلوب ! ! ) وفي الصباح توجهنا إلى عين غصين . وفي الظهر دعينا إلى الغذاء بواسطة رئيس الإخوان هناك , وهو الشيخ حسن الأحمر , وهو من قبيلة البحر الأحمر العربية التي تمتد جذورها إلى مئات السنين ولها فروع في اليمن والسعودية ودول الخليج .

جلسنا إلى الغذاء على الطريقة العربية القديمة , وقدموا لنا الأرز ولحم الخروف الذي ذبح خصيصا لهذه المناسبة . أكلت قدر ما استطيع من هذه الوجبة الدسمة , ثم توقفت . قال الشيخ حسن : إن من عاداتنا القديمة أن الضيف الذي يدعى إلى الطعام , نربط عن بطنه خيطا , فإذا لم ينقطع ذلك الخيط يعد الضيف غير مخلص لنا ويحق قتله ! ! قلت : وعلى ذلك إذا جاءكم ضيف تكرهونه تربطون على بطنه حبلا . فضحك الجميع . قال أحد المدعوين : حسب ابن ادم لقيمات يقمن صلبه , المعدة بيد الداء والحمية رأس الدواء , وإن كان ولا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه . فرد أحد أفراد القبيلة قائلا : نحن نعرف هذا الحديث , ولكن لنا فلسفة تقول : أملأها ( يقصد المعدة ) حتى تضيق , وزرق المية تزريق , وخلى النفس على الله ! ! هكذا كان يمتزج الجد بالفكاهة والعبوس بالضحكات .

من قتل النقراشي

كان الاستعمار جائما على صدر مصر . والاستعمار البريطاني الذي كان يحكم مصر , هو ذاته الذي كان يرعى مصالح العصابات الصهيونية في فلسطين , وكان يرى في المتطوعين من الإخوان حجر عثرة في سبيل إعلان دولة إسرائيل .

لم تكن القوى السياسية في مصر بقادرة على الوقوف في وجه الاستعمار أو وجه الملك الذي كان مغلوبا على أمره ويأتمر بأمر السفير البريطاني . ولقد كان كل حزب يناصر الانجليز وهو في الحكم ويحاربهم بالشعارات والمظاهرات وهو خارجه . وكان الانجليز يعلمون ذلك ولا يلقون بالا إلا لثلاث قو ى سياسية , هي الإخوان والحزب الوطني وحزب مصر الفتاة .

وفي حين كان الحزب الوطني ضعيفا لا يسيطر على قوى شعبية يعتد بها , كان حزب مصر الفتاة قويا بأنصاره المؤمنين بفكره والمتحمسين له , وكان أحمد حسين رجلا وطنيا يحاول أن يفعل شيئا لصالح وطنه . غير أن حزب مصر الفتاة كان محدود العدد في أعضائه ولا يقارن بعدد أعضاء الإخوان المسلمين المنتشرين في المدن والقرى والنجوع .

قرر الانجليز إنهاء حرب فلسطين , وأعلنت الهدنة الرسمية , وقبلها العرب جميعا , إلا الإخوان المسلمين الذين لم يعترفوا بها . لذلك قامت حكومة النقراشي باعتقال المجاهدين داخل معسكرات في فلسطين يشرف عليها الجيش المصري .

وبالرغم من أن الجيش المصري المسلح بأسلحة بدائية , قد كان محتلا لجزء كبير من أرض فلسطين , فقد صدرت الأوامر له من حكومة النقراشي بالانسحاب . فتعرضت فلول الجيش لهجمات يهودية عاتية وحوصرت كتائب منه في الفالوجا , ولم يفك الحصار عنها إلا قوات المتطوعين الإخوان , وقد كانوا معتقلين . وبناء على تعليمات اللواء المواويء وتركوا ليقوموا بهذه المهمة ثم يعودوا مختارين إلى الاعتقال مرة أخرى .

وبدأ الإخوان في تجهيز كتائب جديدة لتسافر إلى فلسطين بناء على طلب من عبد الرحمن عزام باشا أمين الجامعة العربية , تحت قيادة الصاغ محمود بك لبيب الذي كان زميلا لعزيز المصري باشا ورفيق كفاحه , حتى يسهموا في إنقاذ الجيش المصري .

هاج النقراشي وماج , فإن هذا الأمر يغضب الانجليز , ولا يتفق مع أهواء السراي , لذلك بادر بإصدار القرار بحل الإخوان المسلمين ومصادرة جريدتهم ومطابعهم وشركاتهم وكافة ما يملكون , وأمر بمنع سفر الكتيبة المستعدة للسفر . وكانت حجته في الحل هو موضوع السيارة الجيب , الذي شهد فيه قادة الحملة المصرية الرسمية في فلسطين , كما شهد فيه الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين بما يشرف الإخوان , فضلا عن انضمام رئيس المحكمة وعضو اليمين إلى الإخوان بعد أن عرفا على شرف مقاصدهم .

وبدأت حرب إعلامية تهاجم الإخوان ومبادئهم , اشترك فيها بعض علماء الأزهر الذين ضللتهم وسائل الإعلام وبعض الكتاب المشايعين ل الحزب السعدي .

كان بعض الإخوان في ذلك الوقت في السجن متهمين في قضية السيارة الجيب , كما كان بعضهم مقبوضا عليه في قضايا ما سمي بالأوكار وكانوا يتعرضون للتعذيب كل يوم ليعترفوا بوقائع لم يفعلوها . وكان الباقي من الإخوان المعروفين للمباحث العامة رهن الاعتقال بهاكستب ثم الطور . ومع ذلك فقد كان هناك من أعضاء النظام الخاص عدد طليق حيث لا تعرفهم أجهزة الشرطة .

كان الإمام حسن البنا بعد اعتقال آلاف الإخوان معتقلا هو الآخر . ذلك بأنه ترك حرا يذهب أيا يشاء , ولم يكن مسموحا بأن يرافقه أحد إلا الأستاذ عبد الكريم منصور المحامي زوج أخته , والذي أصيب إصابات غير قاتلة عندما اغتالوا الأستاذ الإمام الشهيد .

حكي لي الأستاذ عبد الكريم منصور رحمه الله ( وهو زوج شقيقة الإمام ) , وكان يعمل أستاذا للقانون بجامعة الملك عبد العزيز حين كنت معارا لهذه الجامعة عام 1979 , أنه كان إذا تقدم أحد ليحيي الأستاذ أثناء سيره في الطريق متجها إلى جمعية الشبان المسلمين أو خارجا منها , فإنه يعتقل على الفور . بل إنه إذا حياه أحد ولو من بعيد , فإنه يلقي القبض عليه . لذلك كان الإمام في موقف هو أشد وأقسى من الاعتقال . صار الإخوان الذين لم يقبض عليهم من أعضاء النظام الخاص في حال يرثى لها . فليس هناك من يرشدهم إلى ما ينبغي أن يفعلوا , ولا أحد يوعيهم بما لا يجوز أن يفعلوه . فصارت كل مجموعة منهم تلتقي سرا , ويقررون فعل شيء وفقا لاجتهادهم .

من هذه المجموعات : مجموعة أحمد فؤاد ( كان ضابطا بالشرطة ضمن تنظيم الوحدات التي كان يشرف عليه الصاغ صلاح شادي ) وكانت تضم محمد مالك يوسف , وشفيق أنس , وعاطف عطية حلمي , وعبد المجيد أحمد حسن ومحمود كامل . لم تجد هذه المجموعة أحد يوجهها , فقررت قتل النقراشي جزاء على حله للإخوان واستجابته للانجليز وتخريبه لحرب فلسطين .

كان الإمام في ذلك الوقت يعمل في اتجاه آخر , حيث كانت أسر المعتقلين وأحوالهم تقض مضجعه , وكان يحس بأنه هو السبب فيما وقع عليهم من ظلم وما واجهوه من شدة وبأس . كان يسعى بكل الطرق لكي يتم الإفراج عنهم . وكانت ترد لنا أخبار ذلك ونحن في معتقل الطور عن طريق رسائل سرية كانت ترد لنا من خلال ضباط شرطة من أعضاء قسم الوحدات . . . وكان الإمام يظن أن الإفراج عن المعتقلين قريب مثلما وعدوه , نظير أن يقوم هو بحل الإخوان وتشكيلاتهم حلا اختياريا بإرادته , ويضمن للحكومة وقف نشاطهم كلية . وتسليمهم ما بقى في حوزة الإخوان من سلاح , حيث انتهت حرب فلسطين .

وسم أحمد فؤاد وجماعته خطة قتل النقراشي , ونجح عبد المجيد أحمد حسن في مهمته بعد أن تنكر في زى ضابط بوليس , وقتل النقراشي رميا بالرصاص وهو على وشك دخول المصعد متجها إلى مكتبه في وزارة الداخلية . ولو أن حسن البنا لم يكن معتقلا هكذا , ولو أنه أتيح له أن يوجه مجموعات الإخوان الذي صاروا لا رئيس لهم . . . لما قتل النقراشي . ولكن إرادة الله غالبة .

فمن الذي قتل النقراشي ؟ لا شك أنهم أولئك الذين يسروا قتله ودفعوا قتلته وحجبوا التوجيهات الحكيمة عنهم . . . أنهم رجال الشرطة ومحرضوهم من الوزراء ورجال السراي بتفكيرهم العقيم .

كتب حسن البنا بعد ذلك بيانا نشر بالجرائد المصرية , وهو يغلي غضبا لما سببه له قتل النقراشي من فشل في الإفراج عن المعتقلين , وذلك تحت عنوان " ليسوا إخوان وليسوا مسلمين " .

وكان مقتل النقراشي سببا في اغتيال حسن البنا وهو أعزل أمام جمعية الشبان المسلمين , بناء على مؤامرة مدبرة كشفت عنها سلطات التحقيق بعد قيام ثور 23 يوليو , وانتحر القاتل قبل أن يقبض عليه ويفشي أسرار المحرضين على الاغتيال . ولقد أراد الله لحسن البنا أن يموت شهيدا .

الفصل الرابع :مع صحافة الإخوان

أسس الإخوان صحافتهم لتكون منبرا يعبرون من فوقه عن فكرهم ورأيهم في الأحداث وكانوا كلما حيل بينهم وبين إصدار صحيفة , يستأجرون رخصة أخرى , أوعلى الأقل يتفقون مع أصحابها على أن تكون لسانا معبرا عنهم . ومن أهم صحف الإخوان : الجريدة اليومية التي تحمل اسم الإخوان المسلمون , والمجلة الأسبوعية ( النذير ) , ومجلة الشهاب التي أصدرها الإمام , والكشكول الجيد التي أصدرها مؤلف هذا الكتاب .

حرص الإخوان على أن تكون لهم صحافة منذ تأسيسهم , لكي يعبروا عن طريقها عن فكرهم ولتكون شاهدا لهم على مر التاريخ .

ومنذ البداية , ساهم الإمام الشهيد بالكتابة في مجلة الفتح التي كان يصدرها السيد محب الدين الخطيب , ومجلة الشبان المسلمين التي تصدرها جمعية الشبان المسلمين , وذلك في الفترة من 1928 حتى 1932 حين كان نشاط الإخوان قاصرا على الإسماعيلية .

ولما انتقل المركز العام إلى القاهرة عام 1932 , أصدر الإخوان مجلتين أسبوعيتين , هما " مجلة الإخوان المسلمين " وجلة " النذير" . صدرت الأولى اعتبارا من عام 1933 ,وأسندت رئاسة تحريرها للشيخ طنطاوي جوهري الذي كان أستاذا بدار العلوم وهو صاحب تفسير " الجواهر " , أما مجلة النذير فقد صدرت في عام 1938 وأسندت رئاسة تحريرها إلى صالح عشماوي .

وبعد وفاة السيد محمد رشيد رضا , صاحب المنار في عام 1935 , تولى الإخوان إصدار المجلة بناء على طلب من أسرة الشيخ رشيد , وذلك اعتبارا من عام 1939 .

وقد قدم العدد الأول المصدر بواسطة الإخوان : الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر , بمقال قدم به الأستاذ حسن البنا مقرا له بالإمامة في العلم والدعوة .

ومع بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939 , فقد الإخوان مجلة النذير بسبب انشقاق إدارتها , فاستأجروا بعض المجلات , وهي " النضال " و " الشعاع " و " التعارف " , ثم أصدروا مجلة " الإخوان المسلمون " الأسبوعية في إصدارها الثاني عام 1942 وكان رئيس تحريرها صالح عشماوي كذلك .

ومن أشهر كتاب المجلة :

أحمد أنس الحجاجيأحمد السكري ( وكيل الإخوان وقت ذاك , - الدكتور إبراهيم حسنعبد الحكيم عابدينعبد الرحمن البنا ( شقيق الإمام ) عشماوي سليمانكامل عدلانمحمد الغزاليمحمد لبيب البوهيمحمود حمدي جمعة – الصاغ محمود لبيبإبراهيم الزوكةإبراهيم الجباليحسن عبد الوهابعبد الله المازنيعبد المنعم خلافمحمد جاد الموليمحمد حسني عبد المجيدمحمد سعاد جلال ( عالم الأزهر ) – محمد علي ناصفمحمد فريد وجديمحمد مصطفى الطوبجيمحمود بسيوني ( نقيب المحامين وقتئذ ) – أحمد لطفي عبد البديعسعيد رمضانالسيد سابقعبد العزيز كاملعبد القوى باشا احمدعبد الله فكري أباظة بك – د . محمد البهيمحمد رجب البيوميمحمد عبد العاطي حلاوةمحمد عبد العظيم الزرقانيمحمد يوسف محمد موسىمحي الدين اللبانيوسف أبو الخير .

ومما أجمع عليه النقاد فيما يتعلق بسياسة تلك الصحف ( 1 ) , الالتزام بالإسلام نصا وروحا , والوضوح في الفكر والتعبير , والصدق في كل ما ينشر من أخبار , والشمول لقضايا العالم الإسلامي .


جريدة " الإخوان السلمون " اليومية

كان إصدار جريدة إسلامية يومية , أملا يتطلع إليه المؤمنون في مصر والعالم العربي والإسلامي . كانت الفرصة مواتية بعد أن انتشر الوعي الإسلامي في مصر بانتشار فكر الإخوان المسلمين , وبعد أن وجد الإخوان أن المجلة الأسبوعية لا تكفي لعرض وجهات نظرهم وشرح أفكارهم , في وقت كانت فيه الأحداث سريعة , والتغيرات اليومية كثيرة , فلا بد من مواجهة ذلك بنشر يومي لفكر الإخوان ووجهات نظرهم في تلك الأحداث .

لذلك أسس الإمام الشهيد شركتين مساهمتين : شركة الإخوان للصحافة وشركة الإخوان للطباعة , وكان يرأس مجلس إدارة الشركتين , وكنت عضوا بكل من المجلسين .

أصدرت شركة الإخوان للصحافة : الجريدة اليومية وضمت إليها المجلة الأسبوعية . وكان إصدار جريدة يومية أمرا شاقا يقتضي أموالا كثيرة وتنظيما وخبرة بالصحافة .

وجه الإمام نداء في مجلة " الإخوان المسلمين " في العدد 68 بتاريخ 30 / 8 / 1945 تحت عنوان : " أيها الإخوان . . مشروعكم الثاني " ( ذلك لأن المشروع الأول , كان شراء دار المركز العام من تبرعات الإخوان ) .

قال الإمام في هذا المقال : . . . " الآن أيها المجاهدون الصامتون , أنتم أمام مشروع آخر أعمق في الدعوة أثرا , وأندى بها صوتا , وأرفع لها ذكرا , وألزم إليها من كل ما سواه , هو مشروع الجريدة اليومية والمطبعة الإسلامية " . . وأوضح كيف انتهت حرب المدافع والطائرات وبقيت حرب المبادئ والآراء وبقى دور المطبعة والإذاعة ومعركة الصحف والأوراق تغزو العقول والأفكار بمختلف الدعايات . . . واستطرد قائلا : " وخطوت الخطوة العملية اعتمادا على حسن الظن بالإخوان وما عرفوا به من مبادرة إلى الإجابة , وإقدام على البذل والتضحية , وإن قوما معلوا شعارهم ( الجهاد سبيلنا , والموت في سبيل الله أسمى معانينا ) لجديرون إذا دعوا إلى الجهاد بالمال وهو أهون من الجهاد بالنفس أن يستجيبوا للداعي , وألا يدخروا وسعا في البذل والإنفاق , وما داموا مخلصين في غايتهم فإن الله لهم خير كافل وأفضل معين " . . . ثم شرح الخطوات التي اتخذت لتأسيس هذا المشروع الجديد وقال مختتما نداءه : " إن المشروع ليس اكتتابا خيريا ولا صدقة وإحسانا , على أنه لو كان كذلك لما اتهمنا سخاءكم وحبكم للخير ومبادرتكم للبذل , ولكنه في حقيقة وضعه مشروع تجاري لعله من أفضل المشروعات في تثمير المال وحسن الانتفاع به مع ما له من أثر جليل في الدعوة , ولا أقول لكم هذا إغراء بالمساهمة فإني أود أن يساهم أحدكم وهو يحتسب مساهمته عند الله , فإن ربحت المساهمة ماديا فقد حاز الآخرين الربح المالي والثواب الأخروي , وإن خسرت ماليا فحسبه مثوبة الله العلي الكبير . . وانتهزوا الوقت ولا تسرفوا , والبركة في البكور والبدرة لمن بدر وفضل السبق في مثل ذلك ليس له كفاء وفي ذلك فليتنافس المتنافسون . كتب الله لكم الإيمان وأيدكم بروح منه " .

ومرة أخرى تستحث المجلة الإخوان ليسارع من لم يساهم بالاكتتاب , ومن اكتتب فليبادر بالسداد مذكر لهم بقولها : " إن سبعين مليونا من العرب ومن ورائهم أربعمائة مليون من المسلمين ينظرون إليكم , وينتظرون همتكم , فحققوا الآمال فيكم , وكونوا عند حسن الظن بكم , والله المستعان وبه التوفيق " .

صار المال متوفرا , وبقيت الخبرة الصحفية . فاستأجر الإخوان عددا من الصحفيين , منهم رئيس التحرير الذي ينبغي أن يكون عضوا بنقابة الصحفيين , وعددا من المخبرين الصحفيين ليحصلوا على الأخبار من الوزارات والمصالح , ثم طعم هؤلاء المخبرين بعدد من شباب الإخوان , لمع منهم زيد شريف ورشاد الشبرابخومي ( عملا بعد حل الإخوان في مؤسسة أخبار اليوم ) .

غير أن كثيرا من المحررين الذين جلبهم أحمد السكي وكيل الإخوان من صحف الوفد لم يكونوا على مستوى الإخوان الفكري والخلقي .

دخلت مرة مكتب المحررين بالجريدة , وجلست إلى ح . العباسي ( أحد المحررين ) أتبادل معه الحديث فوجدته يسخر من فكر الإخوان , ثم فتح درج مكتبه وإذا فيه عدد من الصور الفاضحة لنساء عاريات . . وقال : هذه هي المادة التي تجعل الصحيفة تنتشر , غضبت ولقنته درسا , ثم نقلت ما حدث للإمام الشهيد , فطلب مني كظم الغيظ إلى أن يكتسب بعض الإخوان الخبرة الملائمة .

غيرنا رئيس التحرير المحترف , برؤساء تحرير من الإخوان من حملة الشهادات العالية , منهم . . . الشريف ( لا أذكر اسمه الأول ) والدكتور فتحي عثمان , والسيد محب الدين الخطيب . كان من رواد النهضة القومية , وقدم للحركة الوطنية وللثقافة العربية والإسلامية الشيء الكثير .

وعمل فترة من عمره محررا بجريدة المؤيد . وكان له الفضل في توحيد كلمة العرب عند قيام الحرب العالمية الأولى . وأصدر جريدة القبلة أثناء الحكم التركي , ثم عمل محررا في جريدة الأهرام , ثم أصدر مجلة الزهراء الشهرية لمدة خمس سنوات , ثم أسس صحيفة الفتح الأسبوعية عام 1936 واستمرت حتى عام 1948 . وكان يملك المطبعة السلفية في جزيرة الروضة , و كثيرا ما كنت أزوره هناك .

كان للمقالات الافتتاحية التي كان يكتبها السيد محب الدين , أثرا عظيما في نفوس الإخوان , إلا أن صحته لم تساعده على الاستمرار في رئاسة التحرير .

وكان قد صدر العدد الأول من جريدة " الإخوان المسلمون " يوم 5 مايو 1946 ( اليوم السابق على عيد جلوس الملك فاروق ) وعليه شعار الإخوان ( السيفان والمصحف وتحتهما كلمة : وأعدوا . ) وكتب الإمام الشهيد افتتاحية ذلك العدد , تحت عنوان مطلع الفجر , أوضح فيه مهام الجريدة وأهدافها حيال الدعوة الإسلامية والقضايا الوطنية ومطالب أفراد الأمة , وموقفها من الهيئات الإسلامية الأخرى التي تتفق مع منهاج الدعوة .

وابتداء من العدد السادس : بدأ الإمام يكتب مقالات تحت عنوان " منبر الجمعة " , وذلك يوم الجمعة من كل أسبوع . كان عنوان مقاله الأول : الآية الكريمة : يأيها الذين امنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع . . ) بين فيه قيام دعوة الإسلام على الإيمان بالله والعمل الصالح والأخوة الإنسانية . . واعتماد الإسلام في تقرير هذه المعاني في النفوس وتثبيتها في القلوب على الدعوة الدائبة والكلمة الطيبة . . وكيف أراد الإسلام أن يذكر الناس بالغاية والوسيلة في صورة عملية فاختار يوم الجمعة ودعا الناس فيه دعوة مؤكدة إلى بيوت الله . . ليجلسوا ليستمعوا لآيات تتلى وعظات تقرأ .

ويقفوا بعد ذلك في صف الصلاة متوجهين إلى قبلة واحدة لغاية واحدة هي التقرب إلى الله . ثم يتساءل : " ومن الإمام ؟ يقود الأمة في المحراب ويشرح لها السنة والكتاب ويؤمها في الصلوات ويدعوها إلى الصالحات , أهو ممثل السلطة الدينية ؟ وسادن الحقائق الروحية ؟ لا .

فليس هناك سلطتان ولا يتنازع المجتمع الإسلامي جهتان ولكنها سلطة واحدة لا تتعدد , إنها الدولة وحدها . تشرف على شئون المجتمع في الدنيا والدين , وتوجه الأمة جميعا إلى خيرهما معا . تقيم فيها الأحكام وتحرس الأمن والنظام , وتؤم في المعبد , وتدرس في المعهد وتوزع العدالة بالقسطاس ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها , وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) . ثم يتوجه بختام كلمته إلى الأئمة والمصلين . . يقصد الحكام وأبناء الأمة فيقول : " فيا أيها الأئمة : قدروا مهمتكم , وقودوا هذه النفس إلى الخير , ووجهوها إلى الحق والخلق والفضيلة والنور , وأنتم لها ضامنون , فالإمام ضامن والمؤذن مؤتمن , ويا أيها المصلون :

أصيغوا آذانكم وأحضروا قلوبكم , وتدبروا في هذه العظات الأسبوعية , ولا تجعلوها أعمالا عادية آلية , فالعلم علمان علم في القلب , فذلك العلم النافع , وعلم على اللسان , فذلك حجة الله على ابن ادم , ويا أيها القاعدون عن الصلاة لماذا تقعدون ؟ وهي رياضة لأرواحكم , ونور لقلوبكم وطمأنينة لأنفسكم وصلة بينك وبين ربكم وعمل صالح في الدنيا ومثوبة في الآخرة , وليس فيه بعد ذلك من تعب ولا إرهاق " .

وتؤكد الجريدة مسيرتها على نفس المنهج الذي رسمته لنفسها منذ أن صدرت فتكتب في مقالها الافتتاحي للعدد الثامن : " صحيفتنا بعد أسبوع " فتقول : " لقد عاهدنا الله من فكرنا في إصدار هذه الصحيفة أن تبرز إلى الوجود في ثوب من الحق الصراح والحرية والمطلقة , في أعمدتها يتلمس القارئ الكريم أدواء المجتمع ولكل داء منها دواء , وفي انهرها غذاء روحي , طابعة الإسلام . . . وهي بعد لا حزبية ولا طائفية . . هي منبر الرأي الحر والمعارضة النزيهة . . لا نخاصم أحدا إلا لوجه الحق . . من أذانا إساءة إلينا , أو هاجمنا تجنيا علينا فشعارنا معهم دائما ( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم . . ) . . سنحارب الاستعمار في صوره المختلفة . . سنحارب الاستبداد في صوره المختلفة . . سنحارب الطغيان . . سنحارب الفقر . . والجهل . . والمرض . . والخلاعة والمجون . . وفوق هذا أو ذاك فسندعوا الأمة حكومة وشعبا إلى الرجوع من جديد إلى آداب الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام " .

وعلي هذا النمط شقت جريدة " الإخوان المسلمون " طريقها خلال اثنين وثلاثين شهرا , عاصرت فيها أحداثا أثرت تأثيرا بالغا في مسيرة الحركة الإسلامية , وشاركت في دفعها للقيام برسالتها جهود مخلصة وقفت أمام التيارات المتعددة التي كانت تسعى لإيقاف المد الإسلامي المتمثل في اليقظة الإسلامية التي اجتاحت صفوف الشباب من أبناء الأمة , وتكالبت قوى الشر وتعاونت لتحيط بهذا المد الإسلامي , وحسبوا أنهم نجحوا في ذلك عندما استجابت حكومة مصر – وقتئذ – لشرورهم فأصدرت قرارا بحل الإخوان المسلمين , ومن قبله أوقفت إصدار جريدة " الإخوان المسلمون " التي كانت تمثل معلما ظاهرا من معالم اليقظة الإسلامية خلال عصرنا الحديث , والتي كان إصدارها تجربة ناجحة لم تتكرر للأسف حتى الآن .

أذكر في يوم من أيام عام 1948 , وقبل إيقاف إصدار الجريدة , أن كتب الإمام مقالا يعنون : " هذا الجنيه " يتحدث فيه عن المشاعر المادية التي طغت على الأحاسيس الروحية . وبعث لي بعنوان المقال كي يقوم المكتب الفني بشركة الإعلانات العربية , بتصميم عنوان المقال . فوجدنا من المناسب أن نصور جنيها ونضعه كخلفية للعنوان . فبعثنا بجنيه إلى ورشة قنصوة للزنكوغراف , وهي الورشة التي كنا نتعامل معها كشركة إعلانات . وكان الوقت ظهرا , وهو يناسب عمل القالب المصنوع من الزنك اعتمادا على ضوء الشمس . . جاءني قنصوه منزعجا , لأن تصوير الجنيه قد يفهم منه أنه يراد تزويره , والبوليس يطارد ورش الزنكوغراف ليتعرف على ما تصوره . . . قلت له : إذا نصور الجنيه بنصف حجمه الطبيعي , وبذلك لا يمكن لأحد أن يتهم الورشة بالتزوير . . . وقد كان .


مجلة الشهاب

أصدرها الإمام الشهيد في 14 نوفمبر 1947 . وهي مجلة شهرية للآراء والبحوث الإسلامية , في حجم الكتاب ذي القطع المتوسط , على غرار مجلة المنار التي كان يصدرها السيد محمد رشيد رضا وأوكل إلى الإمام الشهيد إصدارها بعد وفاته .

صدر من الشهاب خمسة إعداد فقط حيث توقفت عن الصدور بسبب حل الإخوان المسلمين . وأوضح الإمام في عددها الأول أهدافها التي تتلخص في الأتي :

1 – عرض الأحكام الإسلامية عرضا مبسطا عمليا شاملا يوافق أسلوب العصر .

2 – تقديم الإسلام كنظام اجتماعي مبسط بشكل عملي شامل يوافق أسلوب العصر .

3 – الدفاع عن أحقية عقيدة ( الإيمان بالله ) .

4 – الانتصار للروح الإنساني : ( أي دون تعصب ) .

واحتوت أعداد المجلة على العديد من المقالات لأشهر الكتاب الإسلاميين , مثل السيد محب الدين الخطيب وعبد القادر عودة ومحمد أبو زهرة ومصطفى الزرقا وعبد الوهاب خلاف وأحمد مظهر العظمة وعبد الحميد مطر وسعيد رمضان وعبد العزيز عطية وعباس العقاد وعلي الخفيف وأحمد حسن الباقوري ومحمود أبو النجا , وغيرهم من كبار المفكرين الإسلاميين على مستوى العالم العربي والإسلامي .

وتحت عنون : " أصول الإسلام كنظام اجتماعي " , كتب الإمام الشهيد في العدد الثاني عن " اتجاه النهضة الجديدة في العالم الإسلامي ."

كما كتب في العدد الثالث عن : " إعلان الأخوة الإنسانية والتبشير بفكرة العالمية , وكتب في العدد الرابع عن " السلام ومشروعية القتال في الإسلام " .

وعنيت المجلة بتلخيص الكتب , فنشرت بعددها الأول تلخيصا لكتاب " المادية الجدلية " لجوزيف ستالين . كان من المأمول أن تسد هذه المجلة فراغا في مجال الصحافة الإسلامية الشهرية , ولكن إرادة الله فوق كل شيء , فماتت المجلة وليدة بعد أن ولدت عملاقة , وذلك بسبب حل الإخوان وإيقاف نشاطهم .


الاستقالة من الحكومة وتولي إعلانات جريدة الإخوان

رشح عبد الله أباظة بك نفسه للانتخابات في دائرتنا . وأثناء وقوفي أمام الدوار , حيث كانت تجري الإنتخابات , جاء أحد أقاربي – وكانت بيني وبينه مشاكل خاصة – وقال يستفزني : طبعا أنت حاضر إلى هنا لتنتخب رئيسك ! غاظني قوله هذا , فقلت له : أنا أنتخب بمحض إرادتي من أراه الأصلح للدائرة . . . فما كان منه إلا أن ذهب إلى عبد الله أباظة في الوزارة , أبلغه أني كنت أقوم بدعاية ضده في الإنتخابات ! وكان ذلك افتراء منه كذب لا أساس له . غير أن عبد الله أباظة لم يطلبني للسؤال عن صحة هذه الواقعة , ونقلني إلى وزارة التموين , فعينت فيها مفتشا بمكتب الشكاوي التابع للوزير .

قمت بعملي في المكتب خير قيام , وأجريت تحقيقات هامة , كان بعضها مع مراقبي التموين ومفتشيه . وكنت في المساء أشرف على قسم الإعلانات بجريدة الإخوان المسلمين اليومية , متطوعا بعير أجر . وكان ذلك القسم قبل إشرافي عليه , يرأسه شخص اسمه حسن صبحي بك , ( وهو غير حسن صبحي مندوب أخبار اليوم في ذلك الوقت ) وكان جاهلا بالإعلان , وكل مؤهلاته أنه صديق أحمد السكري وكيل الإخوان . وكان يساعده سكرتير اسمه رضا . . . , وهو شاب طيب قليل الخبرة , ويعمل بالقسم عدد من المندوبين المحترفين الذين يبيعون المساحات الإعلانية في مختلف الجرائد والمجلات , أي لم يكونوا متفرغين لجريدة الإخوان , التي كانت تعاني من الخسائر لنقص إيرادات الإعلانات .

فجأة قررت حكومة الحزب السعدي نقلي إلى قنا مفتشا للتموين هناك , تحت رئاسة مراقب التموين الذي يحمل الثانوية العامة وكان مساعدا لي في الوزارة قبل نقله إلى هناك .

تزامن ذلك مع نقل سعد الوليلي الذي كان يعمل في وزارة الحربية , هو الآخر إلى قنا أو أسيوط . ذهبت إلى الأستاذ الإمام , وأبلغته بما تم , فقال : قدم استقالتك لهم .

كان الوقت قرب نهاية الشهر . وتقديم الاستقالة في ذلك الوقت يعني حرماني أنا وسعد الوليلي من راتب ذلك الشهر . توجهنا سويا إلى الدكتور إبراهيم حسن وكيل الإخوان وكان يعمل وكيلا لمستشفى الحميات , وطلبنا منه دخول المستشفى , فأدخلنا .

في البدء أرادوا أن يحلقوا لنا رؤوسنا , فاستنجدنا بالدكتور إبراهيم الذي أمر بمنع الحلاقة , ثم بقينا 24 ساعة تحت الملاحظة بدون طعام , ثم بدؤوا يطعمونا طعاما خفيفا إلى أن تتبين لهم حقيقة مرضنا . وبعد ثلاثة أيام أفرجوا عنا حيث تبينوا أننا أصحاء , بالرغم من أننا كنا نشكو من الدوسنطاريا . أعد الأستاذ عبد الحكيم عابدين استقالتينا , ونشرتا في جريدة الإخوان المسلمين . وفيها هجوم على الحكومة وسياستها تجاه الإخوان .

تفرغت لإدارة إعلانات الجريدة , فعينت سكرتيرا من الاخوانا هو حسام الدين لطفي , الذي ظل معي حتى حل الإخوان في ديسمبر 1948 , كذلك عينت عددا من المندوبين من الإخوان , دربتهم بنفسي , حتى صاروا من أصلح المندوبين وتفوقوا على المندوبين اليهود والأجانب . كانوا خمسة : علي الباشا ومحمد كامل عبد الستار , وفتحي . . . وآخران لا أذكر اسميهما , ولقد كون كل منهم ثروة صغيرة من العمولة التي كان يحصل عليها إلى جانب مرتبة , كانت له عونا في المحنة بعد حل الجماعة ومصادرة صحفها وممتلكاتها .

وبدأت إعلانات الجريدة تنتعش . ولم أكن أذهب إلى منزلي مساء إلا بعد أن يتم طبع الجريدة وأطمئن إلى نشر جميع الإعلانات بها وفي الأماكن المتفق عليه من العملاء .

وفي ليلة عيد الأضحى , وكنا نطبع الجريدة في مطابع البلاغ , مر محمود عبد القادر حمزة مدير إدارة البلاغ ( وهو ابن عبد القادر حمزة باشا صاحب الجريدة ) , ورأى عدد الجريدة مليئا بالإعلانات . دهش جدا . . . وقال من هو مدير إعلانات الجريدة ؟ قلت : أنا . قال : إذا وافقت على أن تترك جريدة الإخوان وتأتي تعمل معنا في البلاغ سأعطيك مائة جنيه شهريا ! . . . مسكين ! لم يكن يعلم أن أصحاب الرسالات لا تهمهم الماديات , حيث كنت أتقاضى 20 جنيها شهريا من الجريدة قررها لي الإمام الشهيد بنفسه , بدلا من مدير الإعلانات السابق الذي كان يتقاضى 50 جنيها .

شكرت محمود عبد القادر حمزة على ثقته واعتذرت له .

كان تعييني مديرا لإعلانات جريدة الإخوان , مقدمة للتفكير في تأسيس شركة الإعلانات العربية بعد ذلك بعدة شهور .


الخلاف مع الوفد

في أواخر عام 1946 وخلال عام 1947 اشتد الخلاف بين الوفد والإخوان المسلمين . لم يكن هناك سبب ظاهر لهذا الخلاف , سوى أن الإخوان ذوو تفكير مستقل عن الوفد , وتوجهاتهم السياسية وطنية بحتة ولا علاقة لها بالحزبية بل بمصلحة البلاد فحسب . فهم يؤيدون الحاكم ما دام ملتزما بمصالح البلاد حتى ولو كان عدوا سياسيا للوفد . تنامي عدد أعضاء الإخوان المسلمين فبلغوا 600 ألف , وبدأت السفارة البريطانية ترصد حركاتهم , غير أن الرسميين البريطانيين كانوا منصفين فلم يتهموا الإخوان بالعمالة للشيوعية أو لجهات أخرى فاشية . فقد ورد في تقرير للسفير البريطاني مرفوع إلى وزارة الخارجية البريطانية ما يلي :

" لا تتعرض الجماعة حاليا لنفوذ خارجي , سواء شيوعيا أو فاشيا , ولكنها تمثل أيديولوجية ذات طبيعة سياسية دينية تقتضي بالضرورة تصنيفها كمنظمة سياسية متطرفة . . . هي جماعة مصرية خالصة , ولكن نجاحها الباهر في البلاد في السنوات الأخيرة شجع قادتها على مد أنشطتها إلى الدول الإسلامية المجاورة وخاصة فلسطين وسوريا والسودان " ( انظرمحسن محمد : من قتل حسن البنا – صفحة 188 و 189 ) .

أحس الوفد بقوة الإخوان , وأنهم سحبوا البساط الشعبي الذي يتربع عليه من تحت رجليه . فبدأت جرائد الوفد : صوت الأمة والبلاغ والجمهور والنداء , هجوما عنيفا على الإخوان , اتسم بقلة الأدب والخروج على الأعراف والأخلاق . ومن أمثلة ذلك ما ورد في صوت الأمة لسان حزب الوفد يوم 9 مايو 1947 حيث تقول تحت عنوان : " الشيخ راسبوتين . . . يفقد عقله وأدبه . . . " : استطاع هذا الشيخ الملتاث أن يكتب خطابا إلى رفعة زعيم الوادي ويحشوه بالمطاعن والسباب , ويصور فيه نفسه وما فطر عليه من خلق . . . يا مولانا الشيخ :

أنت أحقر من أن تكتب إلى وفدي عادي . فما بالك بهذه الجرأة المجنونة التي دفعتك بالكتابة إلى زعيم الوادي والدين وانفض من جماعتك كل غيور على كرامة الإسلام والمسلمين ؟ من أنت يا مدرس الخط حتى تجعل من نفسك شيئا فتتكلم إلى رجل بينك وبينه ما بين الأرض والسماء . . ؟ . . . هل بعد تذبذبك وحقارة تصرفك ضد إخوانك وخيانتك لمبادئ الإسلام الشريف. . . أبعد هذا أيها المستعبد لشهواته ونزواته الوضيعة تجد من نفسك الجرأة على أن تقوم بدور الممثل التافه في دور المصلح الهادي ؟ . . . الخ من ألفاظ السباب الخارج على كل خلق ودين .

أيدري القارئ لماذا هذه السفالة والسباب ؟ لأن الإمام البنا وجه خطابا مفتوحا لمصطفى النحاس على صدر جريدة الإخوان المسلمين اليومية , يسأله أن يتضامن مع الإخوان في طلب تطبيق الشريعة الإسلامية وإغلاق المواخير ودور القمار . وفي آخر المقال وعد الإمام مصطفى النحاس بأنه إذا فعل ذلك فإن الإمام سيسلمه جموع الإخوان أنصارا له .

ازدادت حملة الصحف الوفدية عنفا . وأورد الأستاذ محسن محمد في كتابه : من قتل حسن البنا في الصفحات 194 و 195 , نماذج مما قالته تلك الصحف في مايو ويونية 1947 , ومن ذلك :

• يمعن الشيخ في التضليل فيزعم أنه ليس حزبا سياسيا , إذن ماذا أنت وجماعتك يا هذا . أنت تزاول نوعا من السياسة هو أرخص وأقذر الأنواع.

• انحسر آخر قناع عن وجه الشيخ حسن البنا فإذا به أقبح سياسي لعب على مسرح السياسة في الجيل الحاضر . . . إن العفن والقاذورات والألفاظ النابية بل والجرائم المنكرة مصدرها وكر الإخوان .

• أما من الذي أيقظ الفتنة فهو أنت أيها " المرشد " المضلل .

• شيخ متآمر . . . متستر خلف الدين .

• أيها الشيخ الماجن لقد أفصحت عن حقيقة أمرك , بعبشك , وخداعك , فانكشف سترك ووضحت جنايتك السافرة .

• إلى زعيم عصابة الإخوان صليتم تظاهرا وتصدقتم تفاخرا , واتخذتم هيئة الصلاح لتتسلطوا على عقول البسطاء .

• إن جماعة الإخوان المسلمين فضيحة قومية للمصريين في العصر الحاضر.

• أصبحت ذمة الشيخ مطاطة . . الشيخ المصلي العارف بالله يكذب علنا في جريدته .

• شيخ سوء ينحدر هابطا كلما انتفخ جيبا فهو يتعمق في الإسفاف كلما افعم جيبه بالمال , أجير لا يكتب من وحي قلمه . وإنما يدافع عن انتفاخ جيبه . ومقياس الصالح من الطالح عنده هو مقدار ما تمتد له به الأيدي من نفحات وعطايا فإن قرأت فجورا وقحة فاعلم أنه قد قبض .

• الشيخ الأفاق . الشيخ الأشر .

الإسلام ليس لحية , ولا عمامة , ولا سفسطة بل هو تعاليم نبيلة رفيعة تطبع المؤمنين بطابع الشرف والأخلاق , والسمو وعدم الإسفاف , لا الجري وراء المال الحرام باستخدام التهريج , والدجل والضحك على الذقون . . !

وهكذا بدأ الصراع بين الوفد والإخوان , وبخاصة بعد أن أيد الإخوان محمود فهمي النقراشي في عرضه لقضية مصر على الأمم المتحدة , حيث طالب باسم مصر بجلاء القوات البريطانية عن مصر و جلاء تاما وإنهاء النظام الإداري ل السودان .

اعترض مصطفى النحاس على تمثيل النقراشي لمصر باعتباره ليس زعيما لها , غير أن الإمام البنا أبرق إلى مجلس الأمن مساندا النقراشي ومؤيدا مطلب مصر في الجلاء ووحدة وادي النيل , مستنكرا برقية النحاس لمجلس الأمن وخطابه المرسل إليه واصفا إياه بأنه سقطة سياسية ومناورة حزبية لا تلقي بالا إلى الاعتبارات الوطنية , ثم قال لأن التوكيل الذي منحته الأمة للوفد المصري عام 1918 أصبح باطلا , وأن الوفد لم يعد هو الأمة , فقد تخللت صفوفه في الأيام الأخيرة طوائف من ذوي المبادئ الهدامة الذين يدينون بالشيوعية .

ذلك لأن الشيوعيين تضافروا مع الوفد في حملته ضد الإخوان , حيث لم تكن هناك قوة وطنية تعوق مسيرتهم سوى الإخوان المسلمين الذين يقاومون إلحادهم ودعوتهم إلى الإباحية .

طلب الإمام في مقال له بجريدة الإخوان من مصطفى النحاس أن يطهر حزبه من الشيوعيين , ويلوم سياسة الوفد التي تعتبر الانجليز أعداء الإسلام والأمة ما دام الوفد خارج الحكم , فإذا تولى الحكم نسى ما كان يدعو إليه وصار الانجليز هم الحلفاء المخلصون .

إن كل ما قالته جريدة الإخوان ردا على جرائد الوفد كان كالأتي :

" صحف الوفد تفيض إباحية وفجورا , وعلى الوفديين أن يجددوا إسلامهم , فهم في تصرفاتهم خصم للإسلام وحرب على تقاليده وتشريعه , وأن النحاس بعد 4 فبراير صار متعاونا مع الانجليز تعاونا كاملا , . . . ويخاف الوفد على زعامته الشعبية . . . وزعماؤه يدجلون على الشعب ويغررون بالسذج البسطاء . وصحف الوفد تلغ في أعراض الأبرياء بلا تورع ولا حياء .

رد مهذب لأسباب فيه ولا شتائم مقذعة مثلما ورد في جرائد الوفد من سفالات .

بدأ الوفد بعد ذلك حملة في صحفه تحمل استقالات جماعية من الإخوان موقعوها أشخاص وهميون . ووردت للمركز العام للإخوان المسلمين برقيات من الشعب التي ورد ذكرها في الاستقالات الوهمية , تندد بسياسة الوفد وتفضح أكاذيب صحفه .

وعل الأثر بدأ عدد من أعضاء الوفد – ممن يتسمون بالخلق القويم – الاستقالة من لجان الوفد – هكذا كانت حرب الاستقالات .

فكر الإمام حسن البنا فيما ينبغي فعله لمواجهة شتائم جرائد الوفد والرد على سفالاتهم . وكانت الفكرة جديدة لم تخطر على بال أحد , وكلفني بتنفيذها .

تلك الفكرة هي إصدار مجلة مستقلة تنبري للرد على جرائد الوفد بذات الأسلوب .

وصاحب الحملة الوفدية ضد الإخوان , حربا أخرى بتحريض السفارة البريطانية , حيث دفعت الصحف الأخرى التي كانت لا لون لها , إلى إعلان الحرب على الإخوان .

لم يكن المقصود بمحاربة الإخوان هو مقاومة جماعة دينية كباقي الجماعات كالشبان المسلمين والعروة الوثقى والجمعية الخيرية الإسلامية وأنصار السنة والجمعية الشرعية والعروة الوثقى . . . إنما كان المستهدف هو الإسلام , لأنهم وجدوا خطرا كبيرا من وجود جماعة مسلمة صحيحة الإسلام لا تنظر إلى الإسلام باعتباره عبادة فحسب , بل تعتبر الإسلام دينا ودولة , ويحتمل أن يعيد ذلك مجد الإسلام الأول قبل أن يصاب بالفتن والفرقة التي قطعت أوصاله .

والعجيب أن التاريخ يعيد نفسه وقت تأليف هذا الكتاب , فذات التهم والادعاءات والأكاذيب توجه للإسلاميين الذين يحاربون في كافة أنحاء العالم الإسلامي , وتلصق بهم تهم التطرف والعنف , وهم من ذلك أبرياء , لأنهم يفهمون الإسلام حق فهمه ويدعون إليه بالحكمة والموعظة الحسنة .


مجلة الكشكول الجديد

مجلة الكشكول كان يصدرها سليمان فوزي في الثلاثينيات معارضة لسياسة الوفد بأسلوب فكه يتسم بالسخرية والاستهزاء .

وكان قانون المطبوعات المصري يشترط في صاحب امتياز أية صحيفة : جريدة أو مجلة , أن يكون حاملا لشهادة عالية . فاستدعاني الإمام إلى مكتبه وشرح لي الفكرة موضحا أنه لا سبي للرد على سباب الوفد إلا بمثله . بأسلوب رادع بشرط ألا يمس تاريخ وأدب الإخوان , وعلى ذلك ينبغي أن تنأى جريدة الإخوان اليومية عن هذا الأسلوب فهي جريدة للتاريخ , وسيكتب عنها المؤرخون فيما بعد , ولا يجد ربها أن تنزل عن المستوى الرفيع الذي احتلته في نفوس الناس .

جمعني الإمام مع الأخ الأستاذ أمين إسماعيل , وجلسنا سويا نتداول في الأمر , واخترنا هيئة التحرير من كبار الكتاب الساخرين في ذلك الوقت :

  • عبد الله حبيب ليكتب باب : مجلس نوابهم في المنام .
  • محمد مصطفى حمام ليكتب باب : البلاء ( بدلا من جريدة البلاغ )
  • حسين ثابت ليكتب باب : نحاسيات , ويتولى الإشراف على الطباعة .
  • محمود يوسف ( صاحب شموع تحترق في جريدة المصري بعد ذلك ) ليكتب : أخبارا وفدية والأمثال السابرة .
  • طوغان للرسم الكاريكاتوري ( أطال الله عمره )
  • عبد الله نوار ( عضو نقابة الصحفيين ) ويتولى سكرتارية التحرير .
  • محمد علي أبو طالب ( عضو نقابة الصحفيين وكان سعديا ) لرئاسة التحرير حيث كان القانون يشترط أن يكون *رئيس التحرير عضوا بالنقابة .
  • أمين إسماعيل مديرا للتحرير

ذلك إلى جانب آخرين كانوا يعملون بالقطعة , وكلهم ممن كانوا يكرهون الوفد وجرائده . صدر العدد الأول من الكشكول الجديد يوم الاثنين 8 سبتمبر 1947 في حجم المجلة ( ربع الجريدة ) واستمر على هذا الشكل إلى يوم الاثنين 22 ديسمبر , ثم غيرنا الشكل إلى حجم التابلويد ( نصف الجريدة ) لتخفيض نفقات الطباعة بالألوان , واستمر الصدور إلى العدد 59 الصادر في 27 نوفمبر 1948 . أي قبل حل الإخوان بأيام . كانت المجلة وهي في حجم ربع الجريدة تحتوي على أبواب فكهة ساخرة أشهرها :

على الأرغول : أغناي شعبية ساخرة .

مجلس نوابهم في المنام : تخيل لمجلس النواب الوفدي وما ينطق به الأعضاء من تفا هات ومناقشات سطحية وما يتخللها من معارك تافهة .

-الأمثال السايرة : أمثال وشعر ذي طابع نقدي ساخر .

_ الشعر الخالد : شعر باللغة العامية ذي طابع فكاهي ينقد تنظيمات الوفد وزعماءه .

_ نحاسيات : أخبار الزعيم : بعضها حقيقي وبعضها مفتعل أو متصور ذلك غير الأبواب الأخرى الثابتة كباب الرياضة , وبرامج الإذاعة , والمقالات الوطنية , وما يتعلق بقضية فلسطين .

ونجد على الصفحات التالية نماذج مما نشر في العدد السادس عشر من المجلة الصادر في 22 ديسمبر 1947 أي قبل حل الإخوان بعام تقريبا استمرت الحرب سجالا بين الإخوان والوفد بسبب تأثير الإخوان على الشعب المصري واستجابته لهم وانصرافه عن الوفد .

انتقل الوفد بعد ذلك إلى مرحلة جديدة من الصدام , فأثناء زيارة الإمام لبور سعيد في 6 يوليو 1947 , فجر الوفديون قنبلة كادت تصيبه , وهاجم الشباب الوفدي دار الإخوان مساء وهي مغلقة وأشعلوا فيها النيران .

وفي منفلوط حاول الوفديون حرق دار الإخوان المسلمين , وأطلقوا النار ليلا على رئيس الإخوان هناك وهو الأستاذ محمد حامد أبو النصر , ( المرشد الرابع للإخوان المسلمين ) , ولكن رحمه الله كانت أوسع من مكرهم فلم يصبه شيء , كما اعتدوا على الإخوان في مؤتمرهم الذي عقد في مسجد أبو النصر في منفلوط . تنبه الإخوان في باقي الشعب المنتشرة في أنحاء مصر إلى المؤامرة الوفدية , وأجهضوها قبل أن تقوم لها قائمة .

وقامت مجلة الكشكول الجديد على العهد , يقرأها الإخوان بمتعة فائقة لما فيها من متنفس للغيظ المكظوم في الصدور , إلى أن دس عبد الله نوار سكرتير تحرير المجلة , وهو صحفي محترف لا علاقة له بالإخوان , صورة رجل يقبل امرأة , في أحدى صفحات المجلة . . . فثار عدد كبير من الإخوان عليها . . . حاولت أن أفهم كيف حدث ذلك , فلم استطع إلا أن استنتج أنه كانت مكيدة مدبرة , أساسها وفدي .

وأما غضب الإخوان رأيت والأستاذ أمين إسماعيل أن نتقدم باستقالتنا من الهيئة التأسيسية للإخوان , حتى لا نجرح الجماعة ونسيء إلى تاريخها , ونتحمل عبء ما يقع من أخطاء أو اسقاف في الأسلوب , الذي كان يناسب ظروف ذلك الوقت .

وفيما يلي نص الاستقالة المرفوع للمرشد العام : " . . وبعد , فقد انتوينا إصدار مجلة " الكشكول الجديد " بروح قد لا تتفق مع أسلوب الدعوة في محاربة الحزبية , وحتى نتحمل تبعة عملنا وحدنا أمام الله وأمام أنفسنا وأمام الرأي العام , رأينا أن نرفع إلى فضيلتكم استقالتنا من الهيئة وتبعاتها وما يترتب على عضويتها راجين التفضل بقبولها مشكورين . والسلام عليك ورحمة الله وبركاته" . ونشر نص هذه الاستقالة بالعدد الرابع من مجلة الكشكول الجديد الصادر في 29 أغسطس 1947 .

وحمل إلينا البريد كثيرا من رسائل أصدقائنا من الإخوان المسلمين , يعيبون علينا الخروج عن بعض الحدود التي رسمها الإخوان لأنفسهم في محاربة الحزبية , كما علمنا أن رسائل كثيرة بهذا المعنى أرسلت إلى المركز العام للإخوان المسلمين , وذلك بناء على ما يعلمه حضرات المراسلين من صلتنا الوثيقة بالإخوان ودعوتهم . فكتبنا نقول : ولهذا نرى لزاما علينا أن نكاشف حضرات هؤلاء الكاتبين وغيرهم من القراء الكرام بحقيقة موقفنا من الإخوان المسلمين , وموقفهم منا , وضعا للأمور في نصابها . إننا نشأنا في دعوة الكريمة " دعوة الإخوان " وأمنا بأهدافها السامية إيمانا لا يتطرق إليه شك ولا ريب , وهل هناك دعوة أسمى من الدعوة إلى الله ورسله وأنبيائه ؟ وهل هناك هداية أحكم وأقوم وأصلح للناس من هداية السماء للأرض ؟ .

كما أننا نذكر دائما فضل هذه الدعوة الكريمة , وقيادتها الفاضلة , في إرشادنا وتوجيها الوجهة القومية في عواصف الحياة الهوجاء . ونحن نتفق مع الإخوان المسلمين – كما سمعنا منهم أفرادا وهيئات – على أن الحزبية العمياء – وكل الحزبية في مصر عمياء مع الأسف – هي السبب الأول والأكبر , في كل ما حل ويحل في هذا البلد المنكوب بهذا الداء , من فساد في الداخل والخارج . – فالحزبية هي التي تفتح الثغرات التي ينفذ فيها خصومنا الانجليز إلى كياننا الداخلي , لئلا نقف أمام مطامعهم وعنتهم وتدخلهم , كتلة واحدة . ويشتغل بعضنا بحرب بعض وننسى العدو الأصلي , فتفلت الفرصة . . ويضيع الوقت . . ويفوز الخصم . . ونظل من مطالبنا وحقوقنا حيث نحن إن لم نتقهقر إلى الوراء – وكل ذلك بفضل الحزبية العمياء . . والحزبية هي التي قتلت الأخلاق , وقضت على الفضيلة , وأوجدت النفعية وعلمت الشعب النفاق والكذب والرشوة , وأشاعت في الإدارة المحسوبية والمحاباة والظلم , وفرقت الأسر والعائلات , وأخرت كل مشروع إصلاحي نافع , ومزقت مناهج الإصلاح كل ممزق . ولهذا كان واجبا على المصلحين أن يبادروا بمحاربة الحزبية وأن يبذلوا للقضاء عليه كل الجهود . نحن نقول هذا الكلام , ويقوله الإخوان المسلمون معنا .

ولكننا اختلفنا في الأسلوب الذي تكون به هذه الحرب . . فالإخوان يرون أن أفضل الوسائل لقتل الحزبية تقوية الأخلاق , وبناء شعب جديد على الفضيلة والإسلام , ولا يريدون أن يشتبكوا مع هذه الأحزاب في حب ينتصر فيها الحق الواضح , ويهزم الباطل الفاشي , ولا يحبون أن ينزلوا إلى ميدان التشهير بمخازي هذه الأحزاب ومساوئها حتى تحذرها الأمة , وينفض عنه من بقى معها من الناس إن كان بقى معها أحد , غير النفعيين الذين يعيشون على أشلاء المصلحة العامة , ونحن نرى أن هذه الطريقة طويلة وأن موجة الفساد عاتية , وأنه لا بد من أن ينضم إلى هذا الأسلوب الإنشائي البناء , الهدم والتحطيم , والفضح , والكشف العام عن مثالب هذه الأحزاب , ودجلها , وتهويلها وتهريجها وتضليلها للرأي العام – ونعتقد أن هذا هو أسلوب القرءان الكريم الذي يتخذه الإخوان دستورا لهم والذي يجب أن يكون دستور العالم لا دستور الإخوان وحدهم . ومن هنا افترقنا في الرأي والأسلوب لا في الإيمان والعقيدة والغاية , ولما ضقنا ذراعا بصبر الإخوان وطول أناتهم , لم نجد بدا من أن نصدر هذه المجلة اللا حزبية بهذا الأسلوب الذي يراه القراء , والذي نعتقد أنه يرضي كل من ضاق ذرعا بمفاسد الأحزاب , وسوء أثرها في هذا الوطن , وحتى نتحمل وحدنا تبعة عملنا هذا , وحتى نكون منطقيين مع أنفسنا , ومع الحقيقة – أرسلنا إلى الأستاذ المرشد العام للإخوان المسلمين ( وذكرنا خطاب الاستقالة السابق الإشارة إليه ) . "

وقد رد الإمام على هذه الاستقالة , برسالة تحت عنوان : " في سبيل بناء جديد قائلا : " فقد تلقيت استقالتكما من الإخوان المسلمين , وقرأت ما كتبتماه عن ذلك في مجلة الكشكول في عددها وعرضته على الهيئة التأسيسية للإخوان في اجتماعها الماضي فوافقت عليه شاكرة لكما جهودكما الصادقة في خدمة الدعوة الكريمة سابقا وحسن استعدادكما لخدمتها لاحقا . وجميل ثنائكما عليها واعترافكما بما تقدم للشباب من خير وحسن توجيه , فأبلغكما ذلك سائلا الله تبارك وتعالى أن يوفقنا جميعا لخير دينه والعمل على إعلاء كلمته وإرشاد الناس إلى سبيله أمين ولقد تابعت بعد ذلك ما يكتب الكشكول فأردت أن أتقدم لكما بمخلص النصيحة , نصيحة من لا يزال وسيظل شعر لكما بعاطفة الأخوة الكاملة التي ربط الله بها قلوب عباده المؤمنين في محكم كتابه إذ يقول " إنما المؤمنون أخوة " . ذلك أني وإن وافقتكما موافقة تامة في وجوب محاربة الاستعمار والحزبية ومقاومة المبادئ الهدامة الفاسدة كائنة ما كانت , فإني لا زلت أخالفكما في الأسلوب على الصورة التي رأيتها في الكشكول الجديد " . ولهذا أرجو أن تسلكوا به مسلكا آخر نحو بناء جديد .

حاربوا الحزبية بصورتها البغيضة التي ظهرت بها في مصر فأحرجت الصدور وجرحت الأبرياء ونفرت القلوب وتقززت النفوس , وأوهنت القوى وأفسدت الأخلاق والضمائر , وفعلت بالمجتمع الأفاعيل , وحاربوا الاستعمار الغاشم الظالم الماكر الخادع الذي سلب حريتنا , وقيد استقلالنا وتدخل في كل شؤوننا , وحرمنا خيرات بلادنا وتراث كدنا وكفاحنا , واستأثر دوننا بكل شيء ومهد في وطننا لكل دخيل , وكان في حياتنا الاجتماعية رأس كل خطيئة . وحاربوا هذه المبادئ الهدامة التي لا تتكشف في حقائقها وأهدافها ومراميها إلا عن الإلحاد والكفران والإباحية والإثم والعصيان والتمكين للمستعمر القديم أو التمهيد للمتحفز الجديد , كأنما كتب على هذه الأمة ألا تنقل من سيادة إلا إلى سيادة وألا تتذوق طعم الحرية أبدا على أيدي هؤلاء الخبثاء . ويأبى الله ذلك والمؤمنون .

حاربوا كل هذا واكشفوا هن مخازيه للناس وحذروهم إياه , ولقد كان سفيان الثوري يقول لأصحابه إذا اجتمع إليهم : تعالوا نذم ساعة في سبيل الله . لا تجالسوا فلانا فإنه كذاب , ولا تأخذوا عن فلان فإنه يضع الحديث , ولا تثقوا بفلان فإنه متهم في دينه , أو رأيه وهكذا . ولكن تحروا في ذلك كلمة الحق الذي لا يفترى ولا يعتدي ولا يكذب – والجد – الذي يحفظ على النفوس قوتها فلا تتميع مع الأخلاق ولا تموت بكثرته القلوب , ولا يذهب برهبته العدوان ولا يضعف مشاعر السخط وهي عدة المجاهدين , ولا ينافى ذلك ورود المزحة القاسية والنكتة اللاذعة , ورب واحدة من هذه أبلغ من قو ل كثير . ثم خصصوا أبوابا لهذا , واحرصوا على أن يظهر هذا اللون واضحا وتجنبوا الانحياز إلى جهة فإنكم تحاربون مذاهب وأراء وأعمالا على يد كائن من كان , ولا تكشفوا عما ستر الله من النقائص الشخصية , فإن الإذاعة عن ذلك في ذاتها إثم من الآثام ما لم يتعلق بذلك حق المجتمع أو مصلحة تعود على الناس , والعفة عن الولوغ في الأعراض أدب الإسلام , ولا أجمل من التورع والاحتشام . كونوا كذلك واطبعوا مجلتكم هذا الطبع وانهجوا به نهجا جديدا , " ونحو بناء جديد " وأعتقد أنكم بذلك ستقدمون إلى الناس غذاء شهيا سائغا لا تعب معه ولا ضرر فيه إن شاء الله . وحينئذ يكون لمثلي على ضعفه وضيق وقته ألا يحرم نفسه المساهمة معكما في هذا الجهاد والله اسأل لكما كمال الهداية ودوام التوفيق . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " .

ولقد استجبنا لتوجيهات الإمام , وظهر ذلك جليا اعتبارا من العدد السابع عشر الصادر في 12 يناير 1948 , فألقينا بعض أبواب النقد القاسي والساخر , واتخذ النقد الذي تبديه المجلة اتجاها آخر يتمشى مع توجيهات الإمام . أضفنا " صحيفة الهدم والبناء " لا استعمار ولا شيوعية ولا رأسمالية ولا صهيونية ولا حزبية " , وباب : " خلف المسرح السياسي " , وباب : " الغرب والشرق " , وباب : " أسرار " , وباب : " خطاب مفتوح " ( موجه إلى إحدى الشخصيات العامة موضحا مالها وما عليها . "

ذلك فضلا عن أبواب أخرى خاصة بالمرأة , والرياضة , والطلاب ( بين الروضة والجامعة ) , والعمال ( صوت الشعب ) , كذلك بدأنا منذ 22 مايو 1948 ننشر " حديث الجمعة " ل الإمام الشهيد .

وقد كتب في المجلة – بحجمها الجديد – عدد من كتاب الإخوان , منهم :

أحمد سعيد

أحمد نار

أحمد نجيب

أمين إسماعيل

جلال احمد

حسن البنا

حسين ثابت

زغلول السيد

زيد الشريف

سعد إبراهيم سعد

صالح الجنايني

صالح عشماوي

طعيمه عبد الحميد الجرف

عبد الحليم الوشاحي

عبد الحميد إبراهيم عبد العزيز

عبد العزيز شرف

عبد العزيز علي

عبد الملك عودة

عفيف بهنسي

علوي عساف

عوض المنشاوي

كامل الشافعي

محمد بكير

محمد شاهين حمزة

محمد عبد العزيز أحمد

محمد الغزالي

محمد فرغلي

محمد لبيب البوهي

محمد لبيب الترجمان

محمود عساف

مصطفى مؤمن .

شكر الله جهدهم , فلم يكونوا يتقاضون أي أجر عما يكتبون .

أم عن سبب توقف المجلة عن الصدور , فهو أن المسيو حاييم رئيس مجلس إدارة شركة الإعلانات الشرقية ( المصرية فيما بعد ) اتصل بي , وحذرني من أني لو استمررت في الكتابة ضد اليهود . فإن اليهود المصريين سيمتنعون عن الإعلان في المجلة – وقد حدث ذلك .

والمجلة لا يمكن بأية حال أن تعتمد على إيرادات التوزيع , حيث أن إيرادات الإعلان هي المصدر الرئيسي للصحف بأنواعها , ولا يمكن تغطية نفقات الصحفية إلا إذا كان 40 % من مساحتها مخصص للإعلانات المدفوعة الثمن .

بيت الفنانين

ورد إلى الأستاذ الإمام تقرير من إخوان شعبة السيدة عائشة بأن بعضا من محرري الكشكول الجديد يتعاطون الحشيش في بيت من بيوت الفنانين بحي القلعة . فأحال إلى هذا التقرير بصفتي أمينا للمعلومات وكذلك بصفتي مسئولا عن الكشكول الجديد .

كنت قد أعددت غرفة ضمن إدارة شركة الإعلانات العربية , لكي يجتمع فيها محررو الكشكول الجديد ويضعوا فيها أوراقهم ويباشروا منها نشاطهم . أما إدارة المجلة فكنت أتولاها بنفسي , وحساباتها يقيدها الأخ سعد تاج الدين رئيس حسابات شركة الإعلانات وفرا للنفقات .

طلب المحررون ورئيس التحرير وسكرتيره ومدير التحرير الاجتماع بس . وفي الاجتماع أوضحوا أن جو العمل بالشركة لا يساعدهم على التفكير الابتكاري الذي هو أساس المادة التحريرية بالقلعة , حيث أنها معدة إعدادا يبعث على الراحة النفسية ويثير الخيال .

ذهبت إلى العنوان الذي ذكروه , وعاينت البيت , فكان من البيوت المبنية على الطراز المملوكي من طابقين يربطهما سلم من الرخام , وفي الدور السفلي مطبخ ومنافع عامة , وتحت السلم زير كبير لزوم الديكور , وفي الدور الأول قاعة الجلوس بنوافذ من الزجاج الملون , وبها مصاطب من الرخام مفروش عليها سجاجيد عجمية ثمينة , وفي الدور الثاني غرفة النوم , وبها مصطبة كبيرة عليها سجادة عجمية , ونوافذ الغرفة من الزجاج المعشق الملون , وعل جدرانها زينة من ريش الطاووس , والى جوار الغرفة حمام تركي ذو سقف من البلو وبه مغطس من الرخام وقاعدة وحوض من الرخام وأرضيته رخام ملون .

كان إيجار هذا المنزل عشرة جنيهات , في وقت كانت الشقق العادية المكونة من 4 غرف يتراوح إيجارها ما بين 80 و 120 قرشا . وافقت على مضض على استنجار البيت , وسلمت المفتاح إليهم , وكان مفتاحا خشبيا حيث كان القفل عبارة عن ضبة خشبية مما هو مستخدم في ذلك الوقت في بوابات البيوت في الأرياف .

عندما تسلمت التقرير الذي أحاله لي الأستاذ الإمام , كان إلي جواري علوي أخي , وكان في ذلك الوقت محاميا حديثا . اصطحبته معي وذهبنا سيرا على الأقدام إلى ذلك البيت . طرقت الباب فسمعت من يقول : مين ؟ . فلم أرد . فأعاد سؤاله : مين ؟ فلم أرد . فنزل السلم وأنا أسمع دبيبه عليه , وفتح الباب . فلما رآنا صرخ بأعلى صوته : " كبسة يا أولاد إل . . . . "

صعدت إلى أعلى فوجدت الغرفة عابقة بدخان الحشيش . أصبت بذهول وأنا أرى ما أمامي في الغرفة :

_ أحد المحررين جالسا على طرف المصطبة فاتحا فخذيه , وبينهما امرأة جالسه على طرف المصطبة .

_ برميل صغير مركب من قوائم وله صنبور ينفط خمرا .

_ منقذ عليه فحم مطفأ والدخان يتصاعد منه .

نطق الجالس على المصطحبة بألفاظ متلعثمة من السكر : دي قريبتي , مشيرا إلى المرأة . ضبطت أعصابي بشدة فهذا موقف يتطلب ضبط الأعصاب لتلافي أية ردود فعل ضارة , وكنت أبرمت في نفسي أمرا , وتكلمت بهدوء وقلت : جئت أطمئن على مواد المجلة فاليوم الجمعة وموعد الصدور الاثنين والطباعة تستغرق يومين . فقالوا : اطمئن ! إن كل شيء جاهز .

غادر تهم وتوجهت إلى مسكني في حي السيدة عائشة , وأنا وأخي لا نكاد نرى الطريق من شدة الغم . في اليوم التالي سألني الإمام : هل وجدت ما ورد في تقرير الأمس صحيحا ؟ فقلت نعم . فقال : وماذا ستفعل ؟ قلت : سأتصرف .

وفي صبيحة ذلك اليوم بعثت لجميع أعضاء هيئة تحرير المجلة خطابات أشكرهم على حسن تعاونهم فيما مضى , اسأل كلا منهم إن كان يقبل أن يعمل نظير نسبة من الأرباح أم لا . طبعا أجابوا بالرفض لأنهم يعلمون أن المجلة لا تحقق أية أرباح بل كانت تخسر .

ألغيت عقد الشقة , وتخلصت من جميع من كان يعمل معي , ثم بدأت بعد ذلك في إصدار المجلة بمقاس ( التابلويد ) نصف الجريدة المعتادة , وأخذت أحررها بنفسي , يعاونني في ذلك سعد إبراهيم سعد الذي عينته مديرا لإدارة المجلة وكان يعمل معي في شركة الإعلانات العربية . وآخر مرة لقيته فيها كان يعمل مديرا بهيئة المعارض والأسواق الدولية منذ حوالي 15 سنة , وصدرت المجلة حتى العدد 65 , وكان حل الإخوان هو أحسن حل لمشاكلها , حيث اضطررت إلى إيقافها قسرا . ولو لم يحدث الحل لأوقفتها مختارا , إذ توقف اليهود عن الإعلان فيها لتشييعها إلى فلسطين وعدائها ل الصهيونية .

الفصل الخامس :من فكر الإمام الشهيد

حملت صحافة الإخوان ومطبوعاتهم , فكر الإمام الشهيد الذي عبر عنه كتابة قبل نهاية 1948 . إننا نقرأه الآن فنجده وكأنه قد كتب اليوم أهدي هذا الفكر إلى جيل عصرنا الحاضر والذي لم يعايش حسن البنا أو يتلقى فكره من نبعه الصافي . . . أهديه كذلك إلى المتشددين في الدين والمتطرفين في فهمه والدعوة إلى ذلك التطرف , كما أهديه إلى الشباب المغرر به والذي يستغله المضللون الجاهلون بأمور الدين أو يتجاهلونها لتحقيق مآرب خاصة , ويتخذون من البسطاء أداة لنشر الإرهاب باسم الإسلام , والإسلام بريء من كل ذلك .

كان حسن البنا بليغا في أدائه : كاتبا وخطيبا ومحدثا . وكان إذا خطب فإن كل مستمع يحس وكأن حديث الإمام موجه إليه وحده . . . وكان متفقها عالما القرءان والسنة والتفسير , كما كان واسع الاطلاع على المذاهب والنظريات والإيديولوجيات الجديدة . وكان شجاعا في الحق ومقاوما للباطل , لا يقيده شيء إلا رباط الإسلام وحده .

ثم إنه كان يعيد النظر , يرى المستقبل ببصيرته النفاذة التي هي هبة من الله تعالى . وفيما يلي بعض أفكاره , نقلتها عما كتبه من مقالات في صحافة الإخوان , ومما ورد في رسائله .


أهداف الإخوان

تتلخص أهداف الإخوان المسلمين في هدف واحد استراتيجي , يمكن الوصول إليه بتحقيق أهداف مرحلية , هي كالآتي :

( 1 ) تكوين الفرد المسلم

ليكون نموذجا حيا مما يريده الإسلام في الأفراد من الإدراك الصحيح للصواب والخطأ والإدارة الحازمة التي لا تلين أمام الحق , والجسم السليم القادر على تحقيق الإرادة الصالحة , وذلك بحسن أداء العبادات والتخلق بالخلق الإسلامي وإتباع النظام الإسلامي في كل نواحي الحياة .

( 2 ) تكوين الأسرة المسلمة

بتكوين الفرد المسلم – رجلا كان أو امرأة – يمكن تكوين الأسرة المسلمة على الأسس والقواعد التي وضعها الإسلام بالإرشاد إلى حسن الاختيار وبيان أفضل الطرق للارتباط وتحديد الحقوق والواجبات ورعاية ثمرة هذه الأسرة حتى تنشأ في بيئة إسلامية فتتكون الأسرة المسلمة في تفكيرها وعقيدتها , وفي خلقها وعاطفتها , وفي عملها وتصرفها .

( 3 ) الأمة المسلمة

الأمة هي مجموعة الأسر , وإذا صلحت الأسرة فقد صلحت الأمة . لذا كان من أهداف الإخوان تكوين الأمة الإسلامية التي يربط بين لبناتها – أي أسرها – أواصر الأخوة والحب والإيثار والقضاء على كل ما من شأنه أن يمزق هذه الأخوة والمحبة مع تحديد حقوق وواجبات أفراد الأمة من محكومين وحكام على أسس إسلامية .

( 4 ) الحكومة الإسلامية

يهدف الإخوان في دعوتهم إلى تكوين الحكومة الإسلامية التي تعمل بأحكام الإسلام وتطبق نظامه وتعلن مبادئه وتبلغ دعوته للناس وتقود الشعب إلى المسجد , وتقود الدول إلى الإسلام وتضم شتات المسلمين تحت راية القرءان , على أن يسبق ذلك سواد الفكرة الإسلامية حتى تؤثر في كل أوضاع الأمة وتصبغها بصبغة إسلامية . وقد أوضح الإخوان المسلمون أنهم لا يطلبون الحكم لأنفسهم , فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي فهم جنوده و أنصاره , وإن لم يجدوا فسيعملون على استخلاصه من كل حكومة لا تنفذ أوامر الله بعد أن تنتشر مبادئهم وتسود , ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة .

( 5 ) وحدة الوطن الإسلامي

يهدف الإخوان المسلمون إلى ضم كل جزء من أجزاء الوطن الإسلامي الذي فرقته السياسات الخاطئة والأحقاد الاستعمارية , ولهذا لا يعترفون بالتقسيمات السياسية التي جعلت الوطن الإسلامي دويلات ضعيفة ممزقة سهل على الغاصبين ابتلاعها .

( 6 ) عودة الأوطان السلبية

وذلك بعودة راية الله خفاقة عالية على تلك البقاع التي سعدت بالإسلام حينا من الدهر ثم انحسر عنها بعد أن وقعت فريسة في يد أعداء الإسلام .

( 7 ) تبليغ الدعوة إلى كافة البشر

وذلك بإعلان دعوة الإسلام على العالم كله وإخضاع كل جبار لها حتى تكون كلمة الله هي العليا وينتشر النور والهدايةة بين البشر أجمعين .

قال لي الإمام الشهيد ذات مرة : إن هذه المبادئ لا نتوقع أبدا أن تتحقق في حياتنا , فهي تستغرق عشرات السنين , وإذا وصل المسلمون إلى تحقيقها بعد مائة عام , فيكونون قد فعلوا شيئا عظيما . إنما المهم هو أن نبدأ نحن , ولا شك أن الله ناصرنا وإن طال الأمد .


منهج الإخوان المسلمين

وضع الإمام الشهيد منهجا لإعداد عضو الإخوان , يقوم على دعامات ثلاثة , هي البيعة , والأسرة , والأوراد .

( أ ) فالبيعة هي عقد بين الفرد والدعوة , تقوم على أركان , هي الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخوة والثقة .

وتترتب على البيعة وأركانها واجبات هي :

1 – حسن تلاوة القرءان والاستماع إليه والتدبر في معانيه , وأن يكون للأخ ورد يومي منه .

2 – دراسة السيرة المطهرة وتاريخ السلف الصالح بقد ما يتسع له الوقت .

3 – الابتعاد عن أسباب الضعف الصحي والاهتمام بأسباب القوة والوقاية الجسمانية .

4 – الابتعاد عن المشروبات المنبهة إلا في ضرورة والامتناع عن التدخين .

5 – العناية بالنظافة في كل شيء .

6 – الصدق وعدم الكذب .

7 – الوفاء بالعهد والكلمة والوعد

8 – الشجاعة والاحتمال بالصراحة في الحق وكتمان السر والاعتراف بالخطأ .

9 – الوقار وإيثار الجد ولا يمنع ذلك من المزاح الصادق والضحك في تبسم .

10 – الحياء ودقة الشعور والتواضع في غير ذلة .

11– العدل في الأحكام في جميع الأحوال في الرضا والغضب

12 – النشاط في الخدمة العامة , والمبادرة الدائمة إلى فعل الخيرات

13 – الصفح والحلم والرفق بالإنسان والحيوان وحسن المعاملة وحسن السلوك مع الجميع .

13 – إجادة القراءة والكتابة والاهتمام برسائل الإخوان والإلمام بالشئون الإسلامية العامة .

15 – مزاولة أي عمل اقتصادي والإقدام على العمل الحر .

16 – عدم الحرص على الوظيفة الحكومية مع اعتبارها أضيق أبواب الرزق , ورفضها عند تعارضها مع واجبات الدعوة .

17 – الإتقان والإجادة وعد الغش وضبط المواعيد في أداء المهنة .

18 – حسن التقاضي وأداء حقوق الناس كاملة .

19 – البعد عن الربا والكسب الحرام والميسر .

20 – تشجيع المصنوعات والمنشات الإسلامية الاقتصادية .

21 – أداء الزكاة الواجبة والاشتراك بجزء من المال في تحمل أعباء الدعوة .

22 – الادخار للطوارئ وعد التورط في الكماليات .

23 – مراقبة الله تعالى في كل شيء من حسن الطهارة وحسن الصلاة والصوم واستصحاب نية الجهاد وحب الشهادة في سبيل الله وتجديد التوبة والاستغفار ومحاسبة النفس وجهادها حتى يسلس قيادها .

24 – إحياء العادات الإسلامية وإماتة ما ينافيها في كل مظاهر الحياة .

25 – تجنب الخمر والابتعاد عن أقران السوء وأماكن اللهو والابتعاد عن ظاهر الترف .

26 – التخلي عن الصلة بأي هيئة أو جماعة لا يكون الاتصال بها في مصلحة الدعوة .

27 – العمل على نشر الدعوة في كل مكان مع التعرف على أفراد الأسرة معرفة تامة بالمحافظة على الاجتماعات وإيثارهم بالمعاملة .

وهكذا كان فكر الإمام الشهيد يتجه نحو السلوك السوي للإخوان وليس مجرد الإيمان بالفكرة فحسب .

( ب ) أما الأسرة ( وهي تتكون من عدد من الإخوان لا يتجاوز السبعة ) , فنظامها يقوم على التعارف والتفاهم والتكافل . وفي اجتماعاتها يباشر أعضاؤها أعمالا محدودة هي :

1 – مدارسة نافعة لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم , وأحد الكتب القيمة .

2 – مذاكرة لشئون المسلمين ومدارسة التوجيهات الواردة من القيادة العامة للأسر .

3 – عرض المشاكل الخاصة بأفراد الأسرة لإيجاد الحلول في جو صادق من الأخوة المخلصة .

4 – تحقيق معنى الأخوة خاصة في المجاملات مثل عيادة المريض , ومواساة المحتاج , وتهنئة الناجحين , وتعهد أسرة الغائب , وتعزية أهل المتوفى , وصلة الرحم .

وفي الرسالة الثانية لقسم الأسر " من آداب الأسرة والكتيبة " شعبان 1373 ه جاء في قسم آداب الاجتماعات بعض النقاط التي يجب أن يتذكرها الأخ عندما يذهب لاجتماع الأسرة متبعا في ذلك الآداب التي سنها أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم وهي :

1 – الاستئذان

2- السلام

3 – الجلوس

4 – آداب التحدث والاستماع

5 – المناقشة

6 – أدب المزاح

7 – تلاوة القرءان

8 – آداب الطعام

9 – آداب النوم

10 – آداب قيام الليل

11 – ختم المجلس .

ولزيادة الروابط بين أفراد الأسرة . حدد لها برنامج عملي تقوم بها مثل :

1 – رحلات ثقافية , أو رياضية .

2 – صيام يوم في الأسبوع والإفطار معا .

3 – صلاة الفجر جماعة .

4 – المبيت مرة كل أسبوعين أو أسبوع في مكان واحد لقيام الليل وترديد الأوراد فيما يعرف به ( ( الكتيبة ) ) .

وكانت الكتيبة تتكون من حوالي 40 شخصا , أي نحو ثمان أسر .

( ج ) وأما الأوراد , فالغرض منها تربية الروح والمشاعر والوجدان , والترقي بها إلى مستوى الطهارة والعفة , ونيل الرضا من الله تعالى . فهي تربية روحية تقوم على الآتي :

1 – قيام الليل ووقت السحر .

2 – الدعاء والاستغفار وآدابهما .

3 – نماذج من الدعاء : من القرءان الكريم , ومن السنة المطهرة , ومن مأثورات الصحابة , ومن مأثورات الصالحين .


الوصايا العشرة

وضع الإمام الشهيد وصايا , يمكن على ضوئها أن يقيم الفرد نفسه ويتعرف على مدى التزامه بالدعوة . وتلك الوصايا هي :

1 – قم إلى الصلاة متي سمعت النداء مهما تكن الظروف .

2 – أتل القرءان أو طالع أو استمع أو أذكر الله ولا تصرف جزءا من وقتك في غير فائدة .

3 – اجتهد أن تتكلم العربية الفصحى فإن ذلك من شعائر الإسلام .

4 – لا تكثر الجدل في أي شأن من الشئون أيا كان فإن المراء لا يأتي بخير .

5 – لا تكثر الضحك فإن القلب الموصول بالله ساكن وقور .

6 – لا تمزح فإن الأمة لا تعرف إلا الجد .

7 – لا ترفع صوتك أكثر مما يحتاج إليه السامعون فإنه رعونة وإيذاء .

8 – تجنب غيبة الأشخاص وتجريح الهيئات ولا تتكلم إلا بخير .

9 – تعرف إلى من تلقاه من إخوانك وإن لم يطلب إليك ذلك فإن أساس دعوتنا : الحب والتعاون .

10 – الواجبات أكثر من الأوقات فعاون غيرك على الانتفاع بوقته وإن كان لك مهمة فأوجز في قضائها .


حدثني الأستاذ سعيد عرفة – وهو معار لجامعة أم القرى ويهتم بالدراسات الإسلامية , أن تلك الوصايا هي أول ما اجتذبه إلى فكر حسن البنا , وشده نحو التحمس للدراسات الإسلامية .


الإصلاح الاجتماعي

يرى الإمام الشهيد أن القرءان الكريم هو الجامع لأصول الإصلاح الاجتماعي الشامل , فقد جمع الله فيه تبيان كل شيء , واشتمل منهاجه هذا على أسس وركائز نجملها فيما يلي :

الربانية – التسامي بالنفس الإنسانية – تقرير عقيدة الجزاء – إعلان الأخوة الإنسانية , النهوض بالرجل والمرأة جميعا – تأمين المجتمع بتقرير حق الحياة , والملك , والعمل , والصحة , والحرية , والعلم , والأمن لكل فرد , وتحديد موارد الكسب – ضبط الغريزتين الأساسيتين : غريزة حفظ النفس وغريزة حفظ النوع , مع تنظيم مطالب الفم والفرج – الشدة في محاربة الجرائم الأصيلة – تأكيد وحدة الأمة – إلزام الأمة بالجهاد في سبيل الله – اعتبار الدولة ممثلة لفكرة وقائمة على حمايتها ومسئولة عن تحقيق أهدافها في المجتمع وإبلاغها إلى الناس جميعا .

وفي رسالة " نحو النور " حدد الإمام حسن البنا منهج الإخوان المسلمين بشأن الإصلاح الاجتماعي على هيئة اقتراحات مقدمة للحكام والرؤساء شملت النواحي السياسية والقضائية والإدارية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية على أسس إسلامية .


رأيه في الأحزاب المصرية

فيما يلي نتفا مما كتبه الإمام الشهيد حول الأحزاب :

. . . إن الحكم النيابي في أعرق مواطنه لم يقم على هذه الحزبية المسرفة , فليس في انجلترا إلا حزبان هما اللذان يتداولان فيها الأمر , وتكاد تكون حزبيتهما داخلية بحتة , وتجمعهما دائما المسائل القومية المهمة , فلا تجد لهذه الحزبية أثرا البتة – كما أن أمريكا ليس بها إلا حزبان كذلك لا نسمع عنهما شيئا إلا في مواسم الإنتخابات , أما فيما عدا هذا , فلا حزبية ولا أحزاب – والبلاد التي تطورت في الحزبية وأسرفت في تكوين الأحزاب ذاقت وبال أمرها في الحرب وفي السلم على السواء , وفرنسا أوضح مثال لذلك .

لقد انعقد الإجماع على أن الأحزاب المصرية هي سيئة هذا الوطن الكبرى , وهي أساس الفساد الاجتماعي الذي نصطلي بناره الآن , وإنها ليست أحزابا حقيقية بالمعنى الذي تعرف به الأحزاب في أي بلد من بلاد الدنيا , فهي ليست أكثر من سلسلة انشقاقات أحدثتها خلافات شخصية بين نفر من أبناء هذه الأمة اقتضت الظروف في يوم ما أن يتحدثوا باسمها وأن يطالبوا بحقوقها القومية . كما انعقد الإجماع على أن هذه الأحزاب لا برامج لها ولا مناهج , ولا خلاف بينها في أي شيء أبدا إلا في الشخصيات , وأية ذلك واضحة فيما تعلن من بيانات خارج الحكم وفيما تطلع به من خطب العرش داخل الحكم , وبما أن الأحزاب هي التي تقدم الشيوخ والنواب , وهي التي تسير دفة الحكم في الحياة النيابية , فإن من البديهي ألا يستقيم أمر الحكم وهذه حال من يسيرون دفته .

وإذا كان الأمر كذلك فلا ندري ما الذي يفرض على هذا الشعب الطيب المجاهد المناضل الكريم , هذه الشيع والطوائف من الناس التي تسمى نفسها الأحزاب السياسية ؟ إن الأمر جد خطير , ولقد حاول المصلحون أن يصلوا إلى وحدة ولو موقته لمواجهة هذه الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد , فينسوا وأخفقوا , ولم يعد الأمر يحتمل أنصاف الحلول , لا مناص بعد الآن من أن تحل هذه الأحزاب جميعا, وتجمع قوى الأمة في حزب واحد يعمل لاستكمال استقلالها وحريتها , ويضع أصول الإصلاح الداخلي العام , ثم ترسم الحوادث بعد ذلك للناس طرائق في التنظيم في ظل الوحدة التي يفرضها الإسلام .


الإخوان و السياسة

يقول الإمام الشهيد : . . . . ويقول قوم آخرون إن الإخوان المسلمين قوم سياسيون ودعوتهم دعوة سياسية , ولهم من وراء ذلك مآرب أخرى , ولا ندري إلى متى تتقارض أمتنا التهم وتتبادل الظنون وتتنابذ بالألقاب , وتترك يقينا يؤيده الواقع في سبيل ظن توحيه الشكوك ؟ .

يا قومنا إننا نناديكم والقرءان في يميننا والسنة في شمالنا وعمل السلف الصالحين من أبناء الأمة قدوتنا , وندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام وهدى الإسلام فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا وإن كان من يدعوكم إلى هذه المبادئ سياسيا فنحن أعرق الناس والحمد لله في السياسة , وإن شئتم أن تسموا ذلك سياسة فقولوا ما شئتم فلن تضرنا الأسماء متى وضحت المسميات وانكشفت الغايات .

يا قومنا لا تحجبكم الألفاظ عن الحقائق , ولا الأسماء عن الغايات , ولا الأعراض عن الجواهر , وإن الإسلام السياسة في طيها سعادة الدنيا وصلاح الآخرة : وتلك هي سياستنا لا نبغي بها بديلا فسوسوا بها أنفسكم , واحملوا عليها غيركم تظفروا بالعزة الأخروية , ولتعلمن نبأه بعد حين .


فكرة الإخوان تضم كل المعاني الإصلاحية

كان من نتيجة الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين أن شملت فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمة , وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر الإصلاحية , وأصبح كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته , والتفت عندها أمال محبي الإصلاح الذين عرفوها وفهموا مراميها , وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك إن الإخوان المسلمين :

( 1 ) دعوة سلفية : لأنهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله .

( 2 ) وطريقة سنية : لأنهم يحملون أنفسهم على العمل بالسنة المطهرة في كل شيء , وبخاصة في العقائد والعبادات ما وجدوا إلى ذلك سبيلا .

( 3 ) وحقيقة صوفية : لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس ونقاء القلب والمواظبة على العمل والأعراض عن الخلق والحب في الله والارتباط على الخير .

( 4 ) وهيئة سياسية : لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل وتعديل النظر إلى صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج وتربية الشعب على العزة والكرامة والحرص على قوميته إلى أبعد حد .

( 5 ) وجماعة رياضية : لأنهم يعنون بجسومهم , ويعلمون أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لبدنك عليك حقا " وإن تكاليف الإسلام كلها لا يمكن أن تؤدي كاملة صحيحة إلا بالجسم القوي , فالصلاة والصوم والحج والزكاة لا بد لها من جسم يحتمل أعباء الكسب والعمل والكفاح في طلب الرزق , ولأنهم تبعا لذلك يعنون بتشكيلاتهم وفرقهم الرياضية عناية تضارع وربما فاقت كثيرا من الأندية المتخصصة بالرياضة البدنية وحدها .

( 6 ) ورابطة علمية ثقافية : لأن الإسلام يجعل طلب العلم فريضة عل كل مسلم ومسلمة , لأن أندية الإخوان هي في الواقع مدارس للتعليم والتثقيف ومعاهد لتربية الجسم والعقل والروح .

( 7 ) وشركة اقتصادية : لأن الإسلام يعني بتدبير المال وكسبه من وجهه وهو الذي يقول نبيه صلى الله عليه وسلم : " نعم المال الصالح للرجل الصالح " ويقول : " من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له " , " إن الله يحب المؤمن المحترف " .

ملحوظة : كان للإخوان 5 منشات اقتصادية , هي دار الإخوان للصحافة , ودار الإخوان للطباعة ( ويرأس الإمام مجلسي إدارتهما ) وشركة الإعلانات العربية ( التي كنت أشرف بإرادتها ) وشركة المعاملات الإسلامية ( التي كان يديرها الأخ رياض جمجوم يعاونه الأخ محمد عبد الكريم ) ومستوصف الإخوان ( الذي كان يديره الدكتور محمد سليمان الأستاذ بكلية الطب ) .


رأيه في الحكومة في الإسلام

يقول الإمام الشهيد : يفترض الإسلام الحنيف الحكومة قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي الذي جاء به للناس , فهو لا يقر الفوضى , ولا قواعد النظام الاجتماعي الذي جاء به للناس , فهو لا يقر الفوضى , ولا يدع الجماعة المسلمة بغير إمام , ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه : " إذا نزلت ببلد وليس فيه سلطان فارحل عنه " , كما قال في حديث آخر لبعض أصحابه كذلك : " وإذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم رجلا .

فمن ظن أن الدين – أو بعبارة أدق الإسلام – لا يعرض للسياسة , أو أن السياسة ليست من مباحثه , فقد ظلم نفسه , وظلم علمه بهذا الإسلام , ولا أقول ظلم الإسلام فإن الإسلام شريعة الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . . وجميل قول الإمام الغزالي – رضي الله عنه – أعلم أن الشريعة أصل , والملك حارس , وما لا أصل له فمهدوم , وما لا حارس له فضائع " فلا تقوم " الدولة " الإسلامية إلا على أساس " الدعوة حتى تكون " دولة رسالة " لا تشكي إدارة , ولا حكومة مادة جامدة صماء لا روح فيها – كما لا تقوم " الدعوة " إلا في حماية تحفظها وتنشرها وتبلغها وتقويها .

وأول خطتنا أننا نسينا هذا الأصل , ففصلنا الدين عن السياسة عمليا , وإن كنا لم نستطع أن نتنكر له نظريا فنصصنا في دستورنا على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام , ولكن هذا النص لم يمنع رجال السياسة وزعماء الهيئات السياسية أن يفسدوا " الذوق الإسلامي " في الرءوس ! والنظرة الإسلامية في النفوس , والجمال الإسلامي في الأوضاع باعتقادهم وإعلانهم وعملهم أن يباعدوا دائما بين توجيه الدين ومقتضيات السياسة , وهذا أول الوهن وأصل الفساد .

ويقول عن دعائم الحكم الإسلامي أن الحكومة في الإسلام تقوم على قواعد معروفة مقررة , هي الهيكل الأساسي لنظام الحكم الإسلامي . . . فهي تقوم على " مسئولية الحاكم " و " وحدة الأمة " و " احترام إرادتها " , ولا عبرة بعد ذلك بالأسماء والأشكال .

كذلك فإنه يقول ردا على من يتهم الإخوان بالسعي إلى حكم البلاد . . . فالإخوان المسلمون لا يطالبون الحكم لأنفسهم , فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرءاني فهم جنوده وأنصاره وأعوانه , ولئن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم , وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله .

وعلى هذا فالإخوان أعقل وأحزم من أن يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذا الحال , فلا بد من فترة تنشر فيها مبادئ الإخوان وتسود ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة .


رأيه في نظام الانتخاب

يرى الإمام الشهيد أنه لا بد من تعديل وإصلاح نظام الانتخاب , ومن وجوه هذا الإصلاح ما يلي :

1 – وضع صفات خاصة للمرشحين أنفسهم ! فإذا كانوا ممثلين لهيئات فلا بد من أن يكون لهذه الهيئات برامج واضحة وأغراض مفصلة يتقدم على أساسها هذا المرشح . . وإذا لم يكونوا ممثلين لهيئات فلا بد أن بكون لهم من الصفات والمناهج الإصلاحية ما يؤهلهم للتقدم للنيابة عن الأمة , وهذا المعنى مرتبط إلى حد كبير بإصلاح الأحزاب في مصر , وما يجب أن يكون عليه أمر الهيئات السياسية فيها .

2 – وضع حدود للدعاية الانتخابية , وفر ض عقوبات على من يخالف هذه الحدود . بحيث لا تتناول الأسر ولا البيوت ولا المعاني الشخصية البحتة التي لا دخل لها في أهلية المرشح وإنما تدور حول المناهج والخطط الإصلاحية .

3 – إصلاح جداول الانتخاب , وتعميم نظام تحقيق الشخصية , فقد أصبح أمر جداول الانتخاب أمرا عجبا بعد أن لعبت بها الأهواء الحزبية والإغراض الحكومية طول هذه الفترات المتعاقبة , وفرض التصويت إجباريا.

4 – وضع عقوبة قاسية من أي نوع كان . وللرشوة الانتخابية كذلك .

5 – وإذا عدل إلى الانتخاب بالقائمة , إلى الانتخاب الفردي كان ذلك أولى وأفضل , حتى يتحرر النواب من ضغط ناخبيهم , وتحل المصالح العامة مجل المصالح الشخصية في تقدير النواب والاتصال بهم .


رأيه في النظام الاقتصادي

يتلخص نظام الإسلام الاقتصادي في عوامل أهمها :

1 – اعتبار المال الصالح قوام الحياة , ووجوب الحرص عليه , وحسن تدبيره وتثميره .

2 – إيجاد العمل والكسب على كل قادر .

3 – الكشف عن منابع الثروات الطبيعية , ووجوب الاستفادة من كل ما في الوجود من قوى ومواد . 4 – تحريم موارد الكسب الخبيث .

5 – تقريب الشقة بين مختلف الطبقات , تقريبا يقضي على الثراء الفاحش والفقر المدقع .

6 – الضمان الاجتماعي لكل مواطن , وتأمين حياته , والعمل على راحته وإسعاده .

7 – الحث على الإنفاق في وجوه الخير , وافتراض التكافل بين المواطنين , ووجوب التعاون على البر والتقوى .

8 – تقرير حرمة المال , واحترام الملكية الخاصة ما لم تتعارض مع المصلحة العامة .

9 – تنظيم المعاملات المالية بتشريع عادل رحيم , والتدقيق في شئون النقد .

10 – تقرير مسئولية الدولة في حماية هذا النظام .

والذي ينظر في تعاليم الإسلام , يجد فيه هذه القواعد مبينة في القرءان الكريم والسنة المطهرة وكتب الفقه الإسلامي بأوسع بيان .


رأيه في القومية المصرية والعربية والشرقية والعالمية

كما أن دعوتنا هذه ربانية تدعو إلى هجر المادية ومقاومتها والوقوف في وجه طغيانها والحد من سلطانها والفرار إلى الله والإيمان به والاعتماد عليه وحسن مراقبته في كل عمل , فهي كذلك إنسانية تدعو إلى الأخوة بين بني الإنسان وترمي إلى إسعادهم جميعا لأنها إسلامية , والإسلام للناس كافة ليس لجنس دون جنس ولا لأمة دون أخرى " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا " " قل يا أيها الناس أني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا اله إلا هو يحيي ويميت فامنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون " " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا " .

( أ ) فالمصرية أو القومية لها في دعوتنا مكانها ومنزلتها وحقها من الكفاح والنضال . إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة في الأرض التي نبتنا فيه ونشأنا عليه ومصر بلد مؤمن تلقى الإسلام تلقيا كريما وذاد عنه ورد عنه العدوان في كثير من أدوار التاريخ وأخلص في اعتناقه وطوي عليه أعطف المشاعر وأنبل العواطف وهو لا يصلح إلا بالإسلام ولا يداوى إلا بعقاقيره ولا طب له إلا بعلاجه .

( ب ) والعروبة : لها في دعوتنا كذلك مكانها البارز وحظها الوافر , فالعرب هم أمة الإسلام الأولى وشعبه المتخير وبحق ما قاله صلى الله عليه وسلم : " إذا ذل العرب ذل الإسلام " ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية ونهضتها وإن كل شبر أرض في وطن عربي نعتبره من صميم أرضنا ومن لباب وطننا . فهذه الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية لا تمزق في أنفسنا أبدا معنى الوحدة العربية الإسلامية التي جمعت القلوب على أمل واحد وهدف واحد وجعلت من مكان هذه الأقطار جميعا أمة واحدة مهما حاول المحاولون وافترى الشعوبيون .

( ج ) والشرقية لها في دعوتنا مكانها وإن كان المعني الذي يجمع بين المشاعر فيها معنى وقتيا طارئا لإنماء ولده وأوجده اعتزاز الغرب بحضارته وتغاليه بمدنيته وانعزاله عن هذه الأمم التي سماها الأمم الشرقية بتقسيمه العالم إلى شرقي وغربي , وندائه بهذا التقسيم . . . أما حين يعود الغرب إلى الإنصاف ويدع سبيل الاعتداء والإجحاف فتزول هذه العصبية الطارئة وتحل محلها الفكرة الناشئة , فكرة التعاون بين الشعوب على ما فيه خيرها وارتقاؤها .

( د ) أما العالمية أو الإنسانية فهي هدفنا الأسمى وغايتنا العظمى وختام الحلقات في سلسلة الإصلاح والدنيا صائرة إلى ذلك لا محالة فهذا التجمع في الأمم , والتكتل في الأجناس والشعوب , وتداخل الضعفاء بعضهم في بعض ليكتسبوا بهذا التداخل قوة , وانضمام المفترقين ليجدوا في هذا الانضمام أنس الوحدة , كل ذلك ممهد لسيادة الفكرة العالمية وحلولها محل الفكرة الشعوبية القومية التي امن بها الناس من قبل ! .


رأيه في الخلافات الدينية

يقول الإمام الشهيد تحت عنوان " تجمع لا تفرق " . أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة عامة لا تنتسب إلى طائفة خاصة , ولا تنحاز إلى رأي عرف عند الناس بلون خاص ومستلزمات وتوابع خاصة , وهي تتوجه إلى صميم الدين ولبه , ونود أن تتوحد وجهة الأنظار والهمم حتى يكون العمل أجدى والإنتاج أعظم وأكبر , فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملوثة بلون , وهي مع الحق أينما كان , تحب الإجماع وتكره الشذوذ , وإن أعظم ما مني به المسلمون الفرقة والخلاف وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة , ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها .


رأيه في الأقليات غير المسلمة

يظن الناس أن التمسك بالإسلام وجعله أساسا لنظام الحياة ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة , وينافي الوحدة بين عناصر الأمة وهي دعامة قوية من دعائم النهوض في هذا العصر , ولكن الحق غير ذلك بالمرة فإن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها قد احتاط لهذه العقبة , وذللها من قبل , فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الواضح الذي لا يحتمل لبسا ولا غموضا في حماية الأقليات , وهل يريد الناس أصرح من هذا النص : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين " .

فهذا نص لم يشتمل على الحماية فقط , بل أوصى بالبر والإحسان إليهم , وإن الإسلام الذي قدس الوحدة الإنسانية العامة في قوله تعال : " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " .


ثم قدس الوحدة الدينية العامة كذلك فقضى على التعصب وفرض على أبنائه الإيمان بالأديان السماوية جميعا في قوله تعالى : " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيس وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون , فإن امنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وان تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم , صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة " ! .

ثم قدس بعد ذلك الوحدة الدينية الخاصة في غير صلف ولا عدوان قال تبارك وتعالى : " إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون " .

هذا الإسلام الذي بني على هذا المزاج المعتدل والوسطية البالغة لا يمكن أن يكون أتباعه سببا في تمزيق وحدة متصلة , بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط . . . ذلك موقف الإسلام من الأقليات غير المسلمة , واضح لا غموض فيه ولا ظلم معه , وموقفه من الأجانب موقف سلم ورفق ما استقاموا وأخلصوا .


رأيه في الإصلاح بالقوة

يقول الإمام الشهيد في معرض موقف الإخوان من مصر الفتاة في قضية تحطيم الحانات :

ومعلوم أنه ما من غيور في مصر يتمنى أن يرى فوق أرضها حانة واحدة , وقد كتب الإخوان يلقون تبعة هذا التحطيم على الحكومة قبل الذين فعلوه لأنها هي التي أحرجت شعبها المسلم هذا الإحراج ولم تفطن إلى ذلك التغيير النفساني والاتجاه الجديد القوي الذي طرأ عليه من تقديس الإسلام والاعتزاز بتعاليمه . وقديما قيل قبل أن تأمر الباكي بالكف عن البكاء تأمر الضارب أن يرفع العصا , ونحن نعتقد أن هذا التحدي لم يحن وقته بعد , ولا بد من تخير الظروف المناسبة أو استخدام منتهى الحكة فيه , وإنفاذه بصورة أخف ضررا.


طبيعة الإخوان

يقول الإمام الشهيد مخاطبا الإخوان :

أيها الإخوان : أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزبا سياسيا ولا هيئة موضعية لأغراض محدودة المقاصد . ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة فيحييه القرءان ! ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله ! وصوت داو يعلو مرددا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ! ومن الحق لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى الناس عنه , إذا قيل لكم إلام تدعون ؟ فقولوا ندعوا إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والحكومة جزء منه والحرية فريضة من فرائضه , فإن قيل لكم هذه سياسة ! فقولوا هذا هو الإسلام ونحن لا نعرف هذه الأقسام تلكك بعض أفكار الإمام نقلتها بنصها , وهي إن دلت على شيء , فإنما تدل على أنه كان سابقا لعصره .

الباب الثاني

أما بعد.. كان الإمام الشهيد معي في حياته , واستمر معي بعد استشهاده , أتمثله في كل عمل أقوم به , وأطبق ما تعلمته منه : الصبر , والإخلاص , والتفاني في العمل , والإتقان فيه. . . فالعمل عبادة .

الفصل السادس :العمل في منشات الأعمال

ما كانت منشات الأعمال التي عملت بها , إلا مدارس تعلمت منها الكثير ,بقدر ما أعطيتها من وقت وجهد , أخذت منها خبرة لا تقدر بمال , كانت عونا لي في مرحلة العمل بالجامعة ونشأت أخرى للأعمال فيما بعد .


البحث عن عمل

تعلمت من الإمام الشهيد الإخلاص في العمل والإتقان باعتبار أن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه , والعمل هنا هو أي عمل مهما كان المخدوم . كذلك تعلمت منه الوفاء , وهو صفة نادرة في هذا الزمان . وكنت وأنا أعمل ديرا لشركة الإعلانات العربية في الفترة من 1946 حتى عام 1950 معروفا لمندوبي الإعلان العاملين لدى الصحف المصرية , كما كنت معروفا لمديري الإعلانات . وكنت مهتما بدراسة الإعلان من الوجهة العلمية , لذلك سجلت رسالتي للماجستير في الإعلان : " دراسة تحليلية لوكالات الإعلان في مصر " في عام 1947 وقطع الاعتقال في ديسمبر 1948 مسيرتها حتى انتهيت منها في عام 1953 , ثم تقدمت للدكتوراه , وحصلت عليها في عام 1963 , وكانت في الإعلان أيضا , وموضوعها : " الإعلان وعلاج مشكلات مندوبية في مصر " .


في مصنع صابون شاهين

بعد خروجي من المعتقل في يناير 1950 , عملت مديرا لمصنع صابون شاهين . كان محمد شاهين بك صاحب المصنع قد اختلف مع حمدي ابنه من زوجته الأولى والذي كان يدير المصنع , فأقسم يمينا بالطلاق ليجدن مديرا للمصنع من خارج الأسرة . رشحني لهذه الوظيفة المرحوم الأستاذ السيد أبو النجا الذي كان يعرفني جيدا – وكان آنذاك مديرا لشركة الإعلانات المصرية التي توليت إدارتها بعده .

بعد عملي في المصنع لمدة شهر , لاحظت أن حمدي بدأ يتردد عليه , ثم علمت من صاحب المصنع أن الأهل قد تدخلوا بين صاحب المصنع وابنه وأصلحوا ذات بينهما , فلم يكن أمامي إلا أن أقدم استقالتي بعد شهر واحد من عملي هناك . أثناء هذا الشهر حاولت أن أصلح من أمر المصنع , حيث كان الصابون النابلسي لا يتيسر إمساكه باليد لكبر حجم القطعة منه , وكانت المبيعات تتم عن طريق البريد إذ يرسل العملاء طرود بالسكة الحديدية . فلم يكن هناك جهاز للبيع , وعملت الدراسة الخاصة بإنشاء ذلك الجهاز , غير أنه لم تتح لي الفرصة للتنفيذ .


محاولات

جلست بعد ذلك ثلاثة شهور أبحث عن عمل . ذهبت مع صديقي المرحوم عز الدين عطاطة لمقابلة يسن سراج الدين الذي كان محاميه الخاص , لكي أعمل مديرا لإعلانات جريدة النداء الأسبوعية , فأحالني إلى المسيو كوهين مدير إدارة الجريدة الذي عرض على 20 جنيها في الشهر . تركته وانصرفت . . . ذهبت بعد ذلك إلى أحد الباشاوات رئيس مجلس إدارة شركة جركو , فاعتذر لي بأن راتبي كبير والشركة لا تستطيع تحمله . ( علمت بعد ذلك أن هذه الشركة كانت في ضائقة مالية بسبب سوء إدارتها ) .


شركة مصر للمستحضرات الطبية

في يوم ما اطلعت في جريدة الأهرام على إعلان يطلب مديرا تجاريا لإحدى الشركات على عنوان بريد معين . بادرت بإرسال طلب إلى ذلك العنوان موضحا مؤهلاتي , فجاءني الرد بعد أربعة أيام طالبا مني التوجه لمقابلة رئيس مجلس إدارة شركة مصر للمستحضرات الطبية . توجهت لمقابلته , ووافق في نفس الجلسة على تعييني , وسألني كم أطلب راتبا , فأجبته بأني أفضل أن أعمل لمدة شهر بدون ارتباط على راتب , وله في آخر ذلك الشهر أن يقرر ما يراه ملائما . أثناء ذلك الشهر أخذت أتعرف على أحوال الشركة ونظام البيع فيها , فوجدت أنها تستخدم مندوب مبيعات واحد للوجه البحري , وآخر للوجه القبلي وثالثا ل القاهرة . كما كان لها مندوب دعاية ( يشرح الأدوية للأطباء ) للوجه البحري وآخر للوجه القبلي وثلاثة مندوبين للدعاية بالقاهرة , وهم من الصيادلة غير المتفرغين .

وضعت تنظيما جديدا للمبيعات , يقضي بتقسيم مصر إلى 8 مناطق بالإضافة إلى توكيل بالإسكندرية والبحيرة . واخترت مندوبين بناء على إعلان , بمواصفات معينه وراتب صغير من 10 إلى 12 جنيها , وعمولة 3 % ( كانت العمولة من قبل 1 % والراتب 30 جنيها ) بحيث يصلح المندوب للبيع والدعاية في آن واحد , وذلك حتى نتلافى إلقاء مندوب الدعاية العجز في المبيعات على مندوب البيع في حين يلقي مندوب البيع التبعية على إهمال مندوب الدعاية .

بعد شهر قفزت المبيعات من 3 آلاف جنيه شهريا إلى 6 آلاف , ثم 9 آلاف . . . إلى أن وصلت إلى 30 ألفا شهريا في نهاية العام .

في عام 1952 حضر إلى مكتبي الدكتور أحمد السرياقوني وكيل الشركة بالإسكندرية من أجل جدولة الديون المدين بها للشركة . وأحضر معه علبة من الحلوى وعلبة صغيرة مغلقة بالقطيفة . ثم ذهبنا معا لقلم القضايا ببنك مصر ( الذي تتبعه الشركة ) لتوقيع الاتفاق هناك . بعد أن خرجنا , هرول إلى سيارة تاكسي ليلحق بالقطار . ناديته وقلت له : لقد نسيت شيئا ما في مكتبي , فقال : إنها هدية بسيطة من ابنتي إلى ابنتك المولودة حديثا . غضبت جدا , ولكنه كان قد فر بالسيارة . . . ذهب له بعد ذلك في الإسكندرية ولقنته درسا لن ينساه , وأعدت له الحلية الذهبية التي تركها بمكتبي , أما الحلوى فكنت قد وزعتها على الموظفين

تعرفت أثناء عملي بالشركة على أنواع الأدوية وتركيباتها ومسمياتها , وكذلك المستحضرات الصيدلية الأخرى كالكولونيا ومواد التجميل , وعاونني على ذلك الدكتور رياض زين الدين مدير المعامل رحمة الله عليه . كانت سكرتيرة رئيس مجلس الإدارة زوجة أحد الشيوعيين الذين قابلتهم بالمعتقل ولعبت معهم الشطرنج .


شركة النيل للإعلان

في عام 1954 جاءني الأستاذ فرج حنفي مندوب الإعلانات بدار الهلال , يدعوني لمقابلة وجية أباظة رئيس مجلس إدارة شركة النيل للإعلان , وكان فرج قد انتقل للعمل بها . أبلغني أن الشركة في حالة سيئة , وأن مندوبي الإعلانات – الذين يعرفونني من قبل – قد رشحوني لإدارة الشركة .

ذهبت إلى وجية أباظة – وكنت زميلا له في مدرسة الزقازيق الثانوية – فطلب مني الاستقالة من شركة مصر للمستحضرات الطبية , ولما كان في ذلك مخاطرة , فقد عرضت عليه أن أعمل معه مساء كل يوم لمدة ستة شهور , أقرر بعدها الاستقالة , ذلك حتى أتعرف على الشركة وتتعرف الشركة علي .

بعد ثلاثة شهور قال لي : لا استطيع الانتظار أكثر من ذلك , وعليك أن تستقيل فورا وتحضر لتعمل معي كل الوقت . قدمت استقالتي من شركة مصر , وتسلمت عمل مديرا عاما لشركة النيل للإعلان .

كانت شركة النيل للإعلان هي باكورة شركات الثورة , وافتتحها قبل ذلك بعام الرئيس عبد الناصر . و كان وجية أباظة حتى ذلك الوقت يعمل مديرا لإدارة الشئون العامة للقوات المسلحة .

لم أعلم أن الشركة قد فقدت رأسمالها كله إلا بعد أن عملت به لمدة 4 شهور , حيث أخفى عني الأستاذ محمد عبد الله رئيس حساباتها الأمر حتى لا أترك الشركة . وكان محمد عبد الله يعمل مديرا ماليا لإخوان جعفر – أصحاب 3 من كبار دور السينما في مصر , عمل بعد ذلك رئيسا لشركة الفنادق المصرية , ولا زالت تربطني به صداقة حميمة .

كانت أحوال الشركة سيئة للغاية إذ أن نفقاتها تزيد على ضعفي إيراداتها . وكان بها مجموعة من السكرتيرات اليهوديات واليونانيات والايطاليات اللائي لا يتميزون إلا بالجمال فحسب . سرعان ما تخلصت من هؤلاء جميعا , لدرجة أنه أشيع في الشركة أني ضد البنات . وهذا غير صحيح في جملته . . . كذلك كان هناك اثنان من الضباط : النقيب علي الجارحي وقائد الأسراب محمود ذكي , وكانا لا يدريان عن الإعلان شيئا , وإذا توجه أحدهما لمقابلة أحد العملاء أبلغه أنه من المخابرات . لذلك أشيع عن الشركة – ظلما وكذبا – بأنها من أجهزة المخابرات .

جلست في الشركة حتى نهاية عام 1954 أحاول إصلاح حالها , واستطعت بفضل الله مع الجد والمثابرة أن أحول خسائرها من 3000 جنيه شهريا إلى أرباح قدرها 250 جنيها . . . وعينت بها مجموعة من المتخصصين في الإعلان مثل محي الدين ترك للحملات الإعلانية , وموسى عبد الحفيظ لإعلانات السينما , والمرحوم صلاح عبد المجيد لإعلانات الصحف .

كانت الشركة مدينة بالشيء الكثير , وكنت أعاني لأجمع مرتبات العاملين , لدرجة أني كنت أوقف الصرف بعد منتصف الشهر لكي تتجمع المرتبات من الإيرادات .

حضر إلى مكتبي مدير الإعلانات بإحدى الشركات الكبرى عارضا على استئجار لافتات بمحطات السكة الحديدية – وكان امتيازها ملكا لنا – لمدة 5 سنوات على أن تسدد شركته إيجار العاملين الأولين مقدما , ويبلغ عشرة آلاف جنيه , بشرط أن يتقاضى هو ثلاثة آلاف لنفسه . تلك رشوة . . . والراشي والمرتشي في النار . . . ولكي لا أضيع فرصة على الشركة بعثت به إلى رئيس مجلس الإدارة الذي اتفق معه وحرر له شيكا بالمبلغ . ثم ساءت العلاقة بيني وبين وجية أباظة . بسبب تمسكه بالضابطين في حين أني طلبت استبعادهما من الشركة , وبسبب الدس والوقيعة التي يمارسها المحيطون به , ولرفضي صرف مبالغ مجاملة لضباط بحجة سفرهم للحصول لنا على توكيلات في حين أنهم لا يدرون شيئا عن الإعلان أو عمل الشركة .

وأثناء القطيعة التي حدثت بيني وبينه , اتصل بي أحد أصدقائه الحميمين , وأبلغني أن محسن عبد الخالق عضو مجلس الإدارة المنتدب لدار التحرير للطبع والنشر التي يرأسها أنور السادات والتي تتبعها شركة الإعلانات المصرية , يريد مقابلتي .

ذهبت لمقابلتهما في مقصف بشارع عماد الدين , وسألني محسن عن عملي بالشركة وأحوالها فقلت له إنها على ما يرام . قال إنني أعرض عليك أن تأتي معنا مديرا عاما لشركة الإعلانات المصرية مكان الأستاذ السيد أبو النجا . فقلت له : حقيقة إني غير مرتاح في شركة النيل , ولكني أحس أني إذا تركتها فستتعرض للإفلاس , فضلا عن أن ذلك يعد خيانة من جانبي . غضب زميله قائلا : ابحث عن مصلحتك ولا تتمسك بهذا الوجيه أباظة . استغربت ذلك القول منه وهما صديقان . فقال محسن معبرا عن خلقه العالي : إنك كبرت كثيرا في نظري , وأقول لك إن أبواب شركة الإعلانات المصرية مفتوحة لك في أي وقت تشاء .

لم تمر ثلاثة أيام إلا واجتمع مجلس إدارة شركة النيل , وقرر بناء على توصية وجية أباظة , ترقية علي الجارحي ومحمود ذكي مساعدين للمدير العام . كان هذا تحديا , وفهمت المقصود منه وهو دفعي إلى الاستقالة . توجهت فور سماعي بهذا الخبر إلى محسن عبد الخالق الذي طلب مني أن أقدم استقالتي فورا من شركة النيل وأتسلم عملي , فورا كذلك , في شركة الإعلانات المصرية .

ذهبت إلى وجية أباظة أقدم إليه استقالتي , فوجدته على علم بمقابلة محسن عبد الخالق , ذلك لأن رجال الثورة كانوا يتجسسون على بعضهم البعض .

أذكر أن وجية أباظة سألني يوم جمعة – وكان أجازتنا يوم الأحد – أين كنت في ساعة ؟ قلت كنت أصلي الجمعة . قال : في مسجد الكخيا ؟ قلت نعم لأنه أقرب مسجد . قال : انظر ! هذا تقرير جاءني توا يقول أنك صليت الجمعة في مسجد الكخيا . وهذا يدل على أن ميولك الأخوانية كما هي . أرجوك ! صل في مكتبك ظهر ولا داعي للجمعة في هذه الأيام . كان ذلك أثناء محاكمات 1954 والأعصاب كلها مشدودة .


شركة الإعلانات المصرية

كان الهدف من تعييني مديرا للشركة , هو أن أعمل على تمصيرها حيث كانت الإدارة العليا يهودية , كما كان رؤساء الأقسام من الأجانب : مسيو زيزوس مديرا للمكتب الفني , وجريسبوي مديرا لوكالة الإعلان , وايزيدور حكيم للملصقات , وبرونشتاين للإدارة والحسابات , علاوة على المندوبين اليهود .

بدأت أفكر في كيف أمصر الشركة دون أن أعرضها لهزة قد تضر بمسيرتها , فاخترت عددا من العاملين بها من حملة الشهادات العالية والذين أتوسم الخير فيهم , وذلك بعد أن استعرضت كشوف العاملين جميعا . فوقع اختياري علي : عبد الحميد حمروش ( عضو مجلس الإدارة المنتدب لدار الهلال حاليا ) ليعمل مع برونشتين مدير الإدارة والحسابات , وسيد مورسي ( رحمه الله ) ليعمل مع حكيم مديرا للملصقات , وخضر عبد السلام ( مدير عام الشركة بعد ذلك ومدير إعلانات العالم اليوم حاليا ) ليتولى إدارة إعلانات الصحف , وسمير عبد السلام ( سفير بالخارجية حاليا ) ليتولى إدارة الإعلانات الصغيرة , ومحمد خليل ( رحمه الله ) ليحل محل زيزوس , وسمير جريس ( مدير وكالة الأخبار للإعلان بعد ذلك ) ليحل محل جريسبوس مديرا لوكالة الإعلان بالشركة . كلفت كلا منهم بأن يلاحظ عمل المدير الذي الحق به , بشرط ألا يشعر المدير أنه رقيب عليه . ونبهت عليهم أنه إذا أحس المديرين بأن الموظف عين عليه , فإني سأبادر بإلغاء تكليف الموظف .

سارت الأمور كما ينبغي . وكنا نجتمع سويا لنعرف مدى التقدم الذي أحرزه كل منهم , حتى إذا جاء العدوان الثلاثي عام 1956 وكنت آنذاك في روسيا , احتل كل من أولئك مكان المدير اليهودي أو الأجنبي, حيث أخرجت الحكومة الأجانب واليهود الفاقدين الجنسية من البلاد فجأة وبدون مقدمات .

كنت وأنا مدير الشركة أتجول في أنحائها لأتعرف على سبر العمل بها , وكانت أبواب المكاتب شفافة من نصفها الأعلى ليتيسر رؤية ما بداخلها .

لاحظت أن إحدى الموظفات تسير في الطرقة الرئيسية التي تنتظم المكاتب على يمينا ويسارها , جيئة وذهابا , وهي ترتدي رداء أسودا قصيرا بغير أكمام , وتضع في قدميها حذاء ذهبي اللون وتحكم الرداء بحزام ذهبي اللون كذلك . استدعيتها إلى مكتبي ونصحتها كأخ كبير لها ألا تفعل ذلك , فالموظفون معظمهم شبان وهم ينظرون إليها نظرة اشتهاء وليس نظرة إعجاب كما تظن . وعدتني خيرا , وعادت في اليوم التالي بملابس فيها حشمة . أقامت الشركة حفلها السنوي بكازينو عابدين – وأنا غائب في روسيا – وأجريت مسابقة للرقص اشتركت فيها الموظفة المذكورة , ورقصت رقصا بلديا جعل أنور السادات – وكان يتصدر الحفل – يتساءل عن هذه الفتاة , فقال له من بجواره : هذه موظفة عندنا , وهي ابنة أخت . . . . ( راقصة مشهورة ) . فقال أنور السادات : افصلوها .

بعد أعوام قابلتها مصادفة مصعد العمارة التي كانت تقطنها شركة النصر للتصدير والاستيراد , وإذا بها تحييني وتقول : فاكر سعادتك لما فصلتني ؟ لو لم تفعل لظللت شحاذة حتى اليوم ! ! . . . ذلك لأنها كانت تعمل عارضة أزياء وممثلة في تلك الأيام .

كانت غرفة أنور السادات إلى جوار غرفتي في بادئ الأمر عندما التحقت بشركة الإعلانات المصرية . وكان بيننا باب يفتح إلى ناحيتي , فوضعت خلف أريكة لكي لا يتيسر دفعه من الجانب الآخر ليفتح . وأشهد أن أنور السادات كان شهما خدوما وعادلا ولا يحيد عن الحق .

حينما تقرر سفري لروسيا ومعظم دول الكتلة الشرقية في صيف 1956 , بعث أنور السادات بخطابات تعريف عني إلى سفراء مصر في تلك الدول , وأخذت صورا من تلك الخطابات . فكنت إذا وصلت إلى مطار دولة منها وجدت من يناديني , فاذهب فأجد سائق سيارة السفارة في انتظاري , وعليها العلم المصري الحبيب , وأذهب إلى دار السفارة ليرحب بي السفير ويدعوني للعشاء , ثم يشكو لي أحوال السفارة ونقص الاعتمادات , لأنقل ذلك إلى أنور السادات .

في عام 1957 تقرر سفري مرة أخرى ممثلا لدار التحرير للطبع والنشر . وسألني أنور السادات : أتريد خطابات تعريف أخرى يا عساف ؟ قلت : شكرا يا سيادة الرئيس ( رئيس الدار ) فإنهم يعرفونني الآن . سافرت وطلبت كل سفير من الفندق الذي أنزل به . فكان ردهم جميعا : أهلا وسهلا . . أي خدمة ؟ فأقول : لا . شكرا .

ولأنور السادات موقف ينبغي تسجيله ويخص عصمت السادات شقيقه :


قصة عصمت السادات

وردت إلى أنور السادات شكوى من مجهول تفيد بأن عصمت السادات وكيل الشركة بطنطا يختلس أموال الدار . أحال إلى هذه الشكوى , فرأيت أن أحققها بنفسي حتى لا يشيع خبرها بين الموظفين , ذلك بالرغم من أن الشكاوى من مجهول لم نكن نعيرها التفاتا , بيد إن تلك الشكوى تتعلق بشقيق الرئيس , ففيها شيء كثير من الحساسية .

فكرت في كيف يمكن أن يتم الاختلاس ؟ ليس من سبيل إلا إعطاء العميل المعلن أو المشترك إيصالا بالمبلغ الذي يكون قد دفعه , وتكون الصورة المبلغة للشركة والتي بكعب دفتر الإيصالات بمبلغ أقل . . أخذت كعوب الإيصالات وطلبت جراج الشركة وقلت جهزوا لي سيارة إلى طنطا . ولم أكن أدري أن لعصمت عيونا في الشركة . . . سافرت لكي أطابق الإيصالات التي لدي كبار العملاء مع الكعوب التي معي . ذهبت إلى الدكتور إميل عماد ( مدير مصانع الصابون في مدخل طنطا ) وسألته عن الإيصالات حتى نصحح بعض الأخطاء التي اكتشفناها في دفاترنا إذ اختلطت حسابات بعض العملاء مع بعضهم الآخر , فكان إلى محلات الويشي ومحلات البشبيشي والقصراوي وحلمي , وهم من كبار عملاء الشركة , فكانت الإجابات تهربا بأساليب مختلفة , مثل : نحن لا نتحفظ بأية إيصالات . . أو نحن نعدمها لأنها تدل على أننا نعلن عن أنفسنا وهذا يضرنا لدى مصلحة الضرائب . . . هكذا .

عدت بخفي حنين , وكتبت لأنور السادات تقريرا بما حدث وانتهيت منه إلى أن هناك شبهات ولكنها لا ترقى لمستوى الحقائق , فأشر على التقرير بكلمتين : " يفصل فورا " . والتقرير وتأشيرة الرئيس عليه , محفوظ ضمن مستندات دار التحرير للطبع والنشر حتى اليوم .

وهكذا فصل عصمت السادات , وحرم عليه أنور السادات أن يدخل منزله , وظل محروما من ذلك إلى أن استشهد أنور السادات يوم احتفاله بذكرى انتصاره على إسرائيل .

في عام 1975 , وكنت آنذاك عميدا لكلية التجارة بالمنصورة , مررت على الدكتور محمد الدكروري محافظ الدقهلية في مكتبه , في طريقي إلى القاهرة . وجدت عنده رجلا جالسا أمام المكتب . سلمت وجلست . . قال لي الرجل : كيف حالك يا دكتور عساف ؟ ألا تعرفني ؟ فقلت : الشكل ليس بغريب على ! قلت له مصححا , ليس أنا الذي فصلتك , إنه أخوك والكل يعلم ذلك .


موقف آخر لأنور السادات

سافر محسن عبد الخالق العضو المنتدب لدار التحرير وشركة الإعلانات المصرية , إلى ألمانيا ليشتري آلات طباعة حديثة للدار . كانت شركة النيل للإعلان في ذلك الوقت تحتضر , وعلم يقينا أن قرارا من مجلس قيادة الثورة على وشك الصدور بتصفيتها وتصفية شركات النيل الأخرى : للسينما , وللنشر والتوزيع .

وبينما كان محسن عبد الخالق في الخارج , صدر قرار من عبد الناصر بتعيين وجية أباظة عضوا منتدبا لدار التحرير . ولم يصدر بالقرار شيء عن محسن عبد الخالق . . احتفل الموظفون في شركة النيل للإعلان بهذا النبأ لأنهم سوف ينقلون إلى دار التحرير . وخرج أحدهم من مكتب وجية أباظة فرحا قائلا : الآن يتم توقيع قرار فصل عساف من شركة الإعلانات المصرية .

جاءني خبر ذلك عن طريق صديق كان موجدا هناك . فجلست في مكتبي ذلك اليوم واليوم التالي لا أفعل شيئا وانتظر ذلك القرار .

لست أدري كيف عرف أنور السادات بهذا الأمر . إذ استدعاني . . . ذهبت إليه فقال : فيه إيه يا عساف ؟ قلت : لا شيء . قال : لا بل هناك أشياء . قل لي ماذا حدث ؟ فحكيت عليه ما سمعته , فقال : يا عساف أنت تعمل مع أنور السادات . . وطرق المكتب بشدة بقبضة يده وقال : أعلم أنه إذا أصابك بأي سوء فسأنسفه . اذهب إلى عملك مطمئن البال !

هكذا كان الرجل , الذي كان والده حتى ذلك اليوم يعمل كاتبا في مستشفى سليمان جوهر , وكنت كلما ذهبت إلى هناك لإجراء عملية لأحد أطفالي أو أقاربي – أجلس إليه وأتسامر معه . كان رجلا طيبا , وكان رافضا أن يترك عمله , بل ظل متمسكا به وابنه نائب لرئيس الجمهورية . . . رحمة الله عليه وعلى ابنه الذي لم يجد غضاضة في أن يعمل أبوه في عمل بسيط بينما هو قريب من قمة السلطة .


أخلاق رجال الثورة

جاءني الضابط صديق وجية أباظة الحميم والذي عرفني بمحسن عبد الخالق , وكنت جالسا بمكتبي المجاور الرئيس في الساعة الثانية عشرة مساء أعد التنظيمات الجديدة المتعلقة بتمصير شركة الإعلانات المصرية . كان معي آنذاك صديقي موسى عبد الحفيظ صاحب الشركة الأهلية للدعاية والسينما بعد أن فصل من شركة النيل للإعلان في أعقاب استقالتي منها . قال صديق وجيه : ما رأيك . . أعزمك على العشاء في مطعم التريومف في مصر الجديدة ؟ قلت : المكان بعيد . قال : معي سيارة .

نزلنا من الشركة نحن الثلاثة , وركبنا سيارة بيضاء مكشوفة ( كابريوليه ) علمت أنها سيارة أستوديو مصر التي كثيرا ما نراها في الأفلام القديمة . توجهنا إلى شارع الخليفة المأمون . وعند مبنى من مباني الجيش , تحول هذا الصديق بالسيارة ودخل المبنى قائلا : هنا صديق سنراه لخمس دقائق . قلت : انتظرك في السيارة . قال : لا . تعال معي للحظات .

ارتقينا درجا حديديا إلى الدور الأول , ودخلنا غرفة , كان بها شخص جالس إلى مكتب ويرتدي بيجامة . قدمني الصديق إليه : العقيد ع . ش .

جلست فنظر إلى ع . ش . قائلا : نعم ! قلت : ماذا ؟ قال : ألم تقل له يا ( ج ) : قال لا ! أنا أحضرته لك وحسب ! . . . كان الموقف عصبيا حيث كانت محاكمات الإخوان على عد وساق . وأحسست أني قد استدرجت إلى فخ .

قال الرجل : لقد استدعيتك بناء على تعليمات من ( عضو مجلس قيادة الثورة ) لتقول لنا ما تعرفه عن وجية أباظة ! ! ارتاحت نفسي , فالأمر لا يتعلق بسابق صلتي بالإخوان . . قلت : ماذا تريد أن تعرف عنه ؟ قال : علاقته بليلى مراد واختلاساته من شركة النيل . نحن نعرف أنك تركت شركة النيل وأنت على خلاف معه . قلت أجل . . ولكن ليس ذلك بمبرر لأدعي على وجية أباظة ما ليس فيه . . . إن موضوع علاقته بليلي مراد تلوكه ألسنة الناس وتكتب عنه المجلات الفنية كل أسبوع , والعلاقة بيني وبينه لم تصل بعد إلى أن يحكي لي أسراره الشخصية . أما عن تصرفاته في الشركة فكلها سليمة , وأنا الذي أدير الشركة , فإن كان بها اختلاسات فإني أكون المسئول عن ذلك .

أسقط في يده وقال : أفهم من ذلك أنك غير متعاون مع الثورة ! ( تهمة خطيرة في ذلك الوقت ) . . قلت : إن كان الذين يتعاونون مع الثورة هم ممن لا خلاق لهم , فأنا عندي أخلاق ومثل ( تعلمتها من حسن البنا ) . انصرفنا , ومن يومها انقطعت علاقاتي ب ( ج ) ولم أعد أراه , وعلمت أنه اشتغل بالأعمال الفنية ويملك مؤسسة كبيرة . والفضل في ذلك لوجية أباظة الذي عرفه بالوسط الفني .

كانت علاقتي به من قبل حميمة , ووالده كان يعمل معنا في شركة النيل , وكثيرا ما كان يدعوني للعشاء في بيت والده المتواضع في الدقي , لأن والدته أعدت عشاء خصيصا لي .

توجهت في اليوم التالي للشركة , وأبلغت محسن عبد الخالق بما حدث , فقال لي معبرا عن كريم خلقه وتمسكه بالمثل العليا : ولا يهمك . . . أنا معك على طول الخط .

بعد أيام من هذه الواقعة حضر إلى مكتبه ألبير مزر احي , الصحفي اليهودي , وأبلغني أنه مكلف من المباحث العامة بجمع معلومات عن وجية أباظة . . قلت له أكتب . . . فبدأ يكتب في كراسة معه . . قلت : وجية أباظة رجل شريف . . . ولم أكمل , لأنه توقف عن الكتابة وقال : ليس هذا الذي يريدونه . قلت له : الذي يريدونه ليس عندي .

وبعد يومين من ذلك حضر إلى مكتبي أيضا , مندوب إعلان كان يعمل في جريدة الأساس لسان حال الحزب السعدي والتي أغلقت بعد الثورة , وطلب مني نفس الطلب , وأجبته نفس الإجابة . معنى هذا أنه كان هناك إلحاح على تجريم وجيه أباظة – ولو بغير حق – من جانب زملاء السلاح وشركاء الثورة .

بعد أيام قليلة حضر إلى مكتبي الضابط ع . ش . ( الذي اقتادني " ج " إليه في مكتبه ) ومعه ملف ومعه ملف أزرق عليه شريط قماشي أخضر, وقال : هذه هي ميزانية شركة النيل للإعلان , وقد أظهروها رابحة , ونحن نعلم أنها خاسرة , والسيد ( وزير وعضو مجلس قيادة الثورة ) يطلب منك أن توضح مواطن التزوير فيها . قلت له : حقيقة هي خاسرة , ولكن تخصصي هو إدارة الأعمال وليس المحاسبة , ويمكنك أن تعرضها على خبير محاسب فيظهر لك ما فيها من تزويرات .

ومرت الأيام , ثم انتدبت للتدريس بقسم الصحافة الذي أنشأه المرحوم الدكتور عبد اللطيف حمزة بكلية الآداب بجامعة القاهرة . وفي أول محاضرة أخذت أتفرس في الطلاب الحاضرين , وفوجئت بأن ع . ش . من بينهم . هؤلاء الناس لا يعلمون حقيقة الذين تربوا في كنف حسن البنا . . . كنت قد تبرعت بمكافأة التدريس وهي هزيلة – لصالح الطلبة غير القادرين بالكلية – ونشر الطلاب ذلك في مجلة القسم , وإذ بباقي الأساتذة المنتدبين للتدريس من المحررين والعاملين بالصحف المصرية يهاجمونني لموقفي هذا . ثم إن قرب نهاية العام , جاءني ع . ش . في مكتبي طالبا أن أساعده بتبيان الأجزاء المهمة من المذكرات له . . . تصفحت معه المذكرات صفحة صفحة مبيننا أهميتها . . . فقال في النهاية : أيعني هذا أن جميع المذكرات مهمة ؟ قلت : أجل . وإلا فما كان ينبغي لي أن أكتبها ! !


عودة إلى موضوع وجية أباظة

في اليوم التالي لصدور قرار عبد الناصر بتعيين وجية أباظة عضوا منتدبا لدار التحرير للطبع والنشر وشركة الإعلانات المصرية , تقابل وجية أباظة صدفة مع صديقي محي الدين ترك , الذي فصله وجيه بعد استقالتي لمجرد أنه صديقي . وقال له معاتبا : كيف يصح أن يحضر إلى جميع المديرين بشركة الإعلانات ( قبل تمصيرها ) مهنئين ولا يحضر محمود عساف ؟ فقال له محيي : إنه ينتظر صدور قرارك بفصله مثلما قال سامي ندا وهو خارج من مكتبك , ثم بعد ذلك سوف يحضر لتهنئتك ! أنكر وجيه ذلك وطلب منه أن يدعوني باسمه إلى العشاء في بيته بمصر الجديدة . . . ذهبنا إلى العشاء وأصررت على اصطحاب محيي وصلاح عبد المجيد ( صحفي قديم وصديق عزيز ) ليكونا شاهدين على ما سوف يحدث .

تحدث وجية أباظة قائلا : لننس ما فات , ولنبدأ من جديد . قلت : لا إن الجرح المتقيح ينبغي تنظيفه لا تغطيته , لهذا لا بد أن نتحاسب والمخطئ يقر بخطئه وحينئذ ينتهي الأمر . قال : ابدأ أنت . قلت : هل صحيح أنك نبهت على موظفي شركة النيل أنه إذا قابلني أحدهم مصادفة وسلم علي فإنك ستفصله ؟ قال : نعم حدث هذا , قلت : لماذا ؟ قال : لأني كنت غاضبا عليك . قلت : وما أسباب غضبك ؟ قال :

أولا : أنك تركت شركة النيل لتعمل بشركة الإعلانات براتب أكبر .

ثانيا : أنك كتبت تقريرا ضدي في المخابرات ذكرت فيه أشياء عن ليلى مراد .

ثالثا : أنك صرف رشوة لأنطوان شوشة .

قلت : ألا يوجد رابعا ؟ قال : لا .

رددت عليه بالاتي : أولا : أنا لم أتركك طمعا في راتب أكثر , بل كنت أتقاضى عندك 140 جنيها شهريا ( تعادل اليوم 7 آلاف جنيه ) وأنا أتقاضى الآن مبلغ 100 جنيه تحت الحساب إلى أن يجتمع مجلس الإدارة المكون من عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وذكريا محي الدين وأنور السادات , ليقرروا ما ينبغي لي من راتب . وتستطيع أن تتعرف على راتبي بالتليفون باعتبارك عضوا لمجلس الإدارة المنتدب وفقا للقرار الصادر لك بالأمس .

أما عن التقرير , فقصصت عليه المحاولات التي جرت لكي أقول شيئا ضده . ولكن لم أذكر له الأسماء برغم إلحاحه على معرفتها . وقال إن الملف الأزرق المحتوي على الميزانية هو الذي قدمه بنفسه لعضو مجلس الثورة , وأما عن صرف الرشوة , فذكرته بأنه هو الذي اتفق عليها وهو الذي وقع على شيكها . ثم ذكرته بأن هناك واقعتان أعرفهما أنا وهو الأستاذ رشاد الميقاتي , وأني لو أردت أبلغ شيئا عنه , فكان لا بد من أن يتضمن تقريري تلك الواقعتين . . . وسألته : هل يتضمن إحداهما أو كليهما ؟ فقال : لا . قلت : إن ما تقوله عن تقرير عن علاقتك بالفنانة ( ل . م ) , يعد شيئا تافها بالمقارنة مع هاتين الواقعتين . وأنا بصفة عامة لم أشر إليهما لأنهما لم يوضعا موضع التنفيذ فرجعت عنهما بعد مناقشتي لك فيهما . قال في نهاية اللقاء : ما رأيك في أن أذهب غدا للدار وأتسلم عملي هناك ؟ قلت له : من رأيي أن تنتظر حتى يعود محسن عبد الخالق من الخارج . فأنت تعرف صلته بعبد الناصر , ويحتمل أن يقابله ومن ثم يلغي قرارك .

استمع إلى نصيحتي . وجاء محسن عبد الخالق بعد أسبوع , وفي اليوم التالي لعودته , ألغى قرار تعيين وجية أباظة .

شركة النيل للنشر والتوزيع

في أحد أيام عام 1954 – وأنا أعمل مديرا لشركة النيل للإعلان – حدثني السيد وجية أباظة رئيس مجلس إدارتها , قائلا إن الرئيس عبد الناصر قد أصدر تعليماته بتأسيس شركة لنشر وتوزيع الكتب والصحف بأنواعها , على أن تكون شركة توصية بسيطة , برأسمال قدره خمسة آلاف جنيه , يدفع منها وجية أباظة 300 جنيه وأدفع 200 جنيه باعتبارنا شريكين متضامنين , ويدفع الأستاذ شكري ديمتري المحامي مبلغ 4500 جنيه كشريك موصى . وكان شكري ديمتري وقتذاك نقيبا للمحامين بالشرقية ومستشارا قانونيا لشركة النيل للإعلان . أبلغته أني لا أملك مبلغ المائتي جنيه المطلوبة , فقال : لا يهم , فإن الذي سيدفع كل رأس المال هي إدارة الشئون العامة للقوات المسلحة .

حضر الموثق من الشهر العقاري ووقعنا أمامه , وبدأت الشركة في العمل . وباعتبارها مملوكة للشئون العامة فإنه لم يكن لي الحق في التدخل في إدارتها . علمت فيما بعد أنهم يستعدون لإصدار مجلة البعكوكة , وهي مجلة هزلية كانت تصدر في الماضي وتوقفت عن الصدور , ثم أصدروا دليل الجيزة .

اشترت الشركة مطابع مسامرات وروايات الجيب التي كانت يملكها الأستاذ عمر عبد العزيز أمين . ثم انقطعت أخبار الشركة عني إلى أن أشيع أن مجلس قيادة الثورة سيصدر قرارا بتصفية شركات النيل : للإعلان والسينما والنشر والتوزيع .

حينئذ حاول وجية أباظة أن يبيع المطابع بيعا صوريا لأحد أصدقائه , هو أحمد رفعت حسين , الذي كان شديد التملق لوجيه وهو في السلطة , لدرجة أن وجيه ساعده على تعيين شقيقه عضوا بمجلس الأمة . أعد وجية أباظة عقد البيع بواسطة أحد المحامين , وكذلك أعد ورقة ضد , تثبت أن المطبعة المباعة ملك لوجية أباظة وأن البيع لاغ , وكانت هذه الورقة مؤرخة بعد يوم واحد من تاريخ عقد البيع .

طلب وجية أباظة من أحمد رفعت حسين أن يوقع على العقد وعلى ورقة الضد . فاستأذنه رفعت في أن يعرض العقد والورقة على أحد المحامين , فسمح له بذلك . أخذ رفعت العقد والورقة , وعاد بهما بعد ساعة . موقعا عليهما منه . . . قال وجية أباظة مازحا : أهذا توقيعك يا رفعت ؟ قال : إذا كنت تشك . . أوقع مرة أخرى أمامك إذا لم تكن ل كبي ثقة ! قال وجيه : لا بأس أنا لا استطيع أن افترض فيك الخيانة ونحن أصدقاء . ثم طلب من صديقه محمد أبو الفضل الجيزاوي وكان جالسا إلى جواره , أن يوقع بصفته شاهدا على صحة التوقيع . ( كان أبو الفضل أحد الضباط الأحرار الذين تفرغوا للعمل الخاص كمحام واشتغل بالنشاط السياسي وكان عضوا بمجلس الأمة عن دائرة الجيزة ) .

مرت الأيام , وصفيت شركة النيل للنشر والتوزيع مع أخواتها من شركات النيل . ونمى إلى علم وجيه أن أحمد رفعت حسين يبيع الآلات الخاصة بالمطبعة . فاستدعاه وسأله : يا رفعت ! أنت تبيع ماكينات المطبعة ؟ قال : نعم . قال : كيف ؟ أليست المطبعة ملكا لي ؟ فقال رفعت : لا يا سيادة قائد الجناح , إن المطبعة ملكي أنا واشتريتها منك بعقد رسمي مسجل بالشهر العقاري . قال وجيه : ألم توقع ورقة ضد وسجلناها تسجيلا تاريخيا بالشهر العقاري ؟ فقال رفعت : أسف يا وجيه بك . . أنا لم أوقع على ورقة ضد ! !

أبلغ وجية أباظة النيابة عن هذه الواقعة , وأحالت النيابة ورقة الضد إلى مصلحة الطب الشرعي , التي قارنت التوقيع عليها مع توقيع أحمد رفعت حسين , فتبين لها أنه ليس بتوقيعه ! !

بناء على ذلك وجهت النيابة للأستاذ محمد أبو الفضل الجيزاوي تهمة شهادة الزور ! ! وكانت جلسات في النيابة . . . وانتهت إلى حفظ التحقيق بعد أن ثبت للنيابة حسن النية من جانب أبو الفضل .

عين وجية أباظة بعد ذلك عضوا منتدبا لشركة الإعلانات المصرية , ثم ألغى ذلك القرار مثلما أسلفنا ذكره , ثم أعيد إصداره مرة أخرى , وتسلم وجية أباظة عمله هناك . اتصل بي هاتفيا , فذهبت أزوره مهنئا , فعرض على أن أعود مديرا للشركة , فاعتذرت له شاكرا , حيث كنت أعمل مديرا عاما بشركة النصر للتصدير والاستيراد , وقلت له : أنا أفضل ألا نعمل معا حتى نظل أصدقاء .

ثم عين وجية أباظة محافظا ل البحيرة , ثم محافظا ل القاهرة , ثم قبض عليه أنور السادات ضمن المتهمين بإعداد انقلاب ضده .

قضية الضرائب

أثناء ما كان وجية أباظة محافظا ل البحيرة , جاءني إخطار من الضرائب بأني مدين للمصلحة بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه ( ما يعادل 150 ألفا حاليا ) كضرائب مستحقة على عن نشاط شركة النيل للنشر والتوزيع , وأن السيد وجية أباظة مدين بمبلغ 4500 جنيه . ونظرا لأننا شريكان متضامنان , فإن المصلحة سترجع على بمبلغ 7500 جنيه . . . وهذا مبلغ ما كنت أملك عشره .

أحلت الموضوع لشقيقي علوي المحامي , الذي طعن في هذا التقدير لأن الشركة خاسرة وصفاها مجلس قيادة الثورة لهذا السبب , ولأني شريك صوري ما كنت أقدر على الاعتراض على اشتراكي فيها .

استشرت بعض الأصدقاء من الديرين بالضرائب , فأشار على المرحوم الأستاذ إسماعيل عامر ( وكان يمثل زكريا محي الدين في مجلس إدارة شركة الإعلانات المصرية ) بأنه من الأفضل أن نطالب : أنا ووجية أباظة , التخارج من قضية الضرائب باعتبارنا كنا ممثلين لإدارة الشئون العامة للقوات المسلحة والتي حل محلها الاتحاد الاشتراكي في رأسمال الشركة .

كان المحضر كلما توجه لمكتب وجية أباظة بالمحافظة , ليسلمه إخطار الضرائب , يطرده السكرتير الخاص , فيكتب المحضر على الأخطار : غير معروف العنوان . أي أن المحافظ غير معروف العنوان ! !

وهكذا كدت أتورط وحدي في هذا الموضوع . . . لهذا ذهبت إلى وجية أباظة في دمنهور , وشرحت له أني لا أملك شيئا , وأنه في النهاية سيتحمل هو كل دين الضرائب , فهو متضامن معي . وطلبت منه حضور جلسة الطعن المقبلة مزودا بخطاب رسمي من الاتحاد الاشتراكي يقول بأننا ( أنا وهو ) اشتركنا في هذه الشركة باعتبارنا ممثلين للاتحاد الاشتراكي .

حضر وجية أباظة الجلسة التالية , و معه خطاب موقع من على صبري وممهور بخاتم الاتحاد الاشتراكي , ينص على أن وجية أباظة شريك في هذه الشركة ممثلا للاتحاد الاشتراكي , ولم يأت أي ذكر لي .

غضبت جدا , فقال وجيه للجنة : هل يمكن أن أقدم لكم إقرارا بأن محمود عساف كان معي ممثلا للاتحاد الاشتراكي ولم يكن يمثل نفسه ؟

وافقت اللجنة وقدم وجيه ذلك الإقرار . . . ثم أصدرت اللجنة قرارها الذي أبلغ لي رسميا بعد ذلك , وهو " عدم مسئولية وجية أباظة أو محمود عساف عن الضرائب المستحقة على الشركة , وعلى مأمورية الضرائب المختصة أن تطالب الجهة المسئولة عنها وهي الاتحاد الاشتراكي أو أحمد رفعت حسين مثلا .

وهكذا انتهت مشكلة ضرائب هذه الشركة التي تورطت في تأسيسها . . . وكان أحمد رفعت حسين مختفيا تماما , ولم تجد له الشرطة أثرا حتى تطالبه المصلحة بالضرائب المستحقة عن الشركة التي اشترى مطابعها .

غير أنه بعد أن عين وجية أباظة محافظا ل القاهرة , ثم محاكمته ووضعه بالسجن , حضر إلى منزلي شخص , سألته عما يريد , فقال : أنا مندوب الحجز , جئت أحجز على منزلك وفاء لمستحقات الضرائب عن شركة النيل للنشر والتوزيع . أريته القرار الرسمي الصادر من لجنة الطعن والذي تحصن بمرور 60 يوما على صدوره ولم تعترض عليه المصلحة , فطلب مني أن أشرح ذلك لمراقب الجيزة .

ذهبت إليه في اليوم التالي ومعي المستندات . . اطلع عليها واندهش لمطالبة المصلحة , وقال : اعتبر الموضوع منتهيا .

بعد شهور جاءني مندوب حجز آخر مطالبا بسداد الضرائب أو الحجز على منزلي . . كانت مصلحة الضرائب قد أعيد تنظيمها على أساس نوعي في عهد الدكتور عبد العزيز حجازي حينما كان وزيرا للمالية , وتحول اختصاص النشر والتوزيع إلى مأمورية في شبرا اختصت بمنشات الطباعة والنشر .

توجهت إلى المأمورية , وقابلت المأمور المختص , الذي أذهلني قائلا : لا بد من وجود من نطالبه بالضرائب , سواء أنت أم وجية أباظة حيث لا تجد رفعت حسين , وليس من المعقول أن نطالب الاتحاد الاشتراكي .

توجهت إلى مدير المأمورية أشكو له تصرف المأمور , فاستدعاه وأنبه , وقال لي : اعتبر الموضوع منتهيا . في مساء ذلك اليوم توجهت لمقابلة الدكتور عبد العزيز حجازي في وزارة المالية وشرحت له الموضوع , وأوضحت له أني أخشى أن يطالبوا وجية أباظة وهو حاليا في السجن , ولا يستطيع أن يشكو أو يعترض , ولعلهم يحجزون على منزله دون أن يدري هو . تجاوب الدكتور حجازي معي , وطلب مني مذكرة بالموضوع , لكي يضع له حلا نهائيا . . . وقد كان . وبهذا أغلق موضوع شركة النيل للنشر والتوزيع .

في الشركة العربية للإعلان والنشر

أثناء علمي مديرا لشركة الإعلانات المصرية , حضر إلى مكتبي الضابط محمد أحمد غانم وبصحبته الضابط حسن بلبل ( وكيل وزارة الخارجية فيما بعد ) , وطلبا مني الموافقة على أن أعار مديرا عاما للشركة العربية للإعلان والنشر ببيروت , حيث أن هذه الشركة تملك المخابرات المصرية رأسمالها , وتعرضت إلى خسارة كبيرة , وأنه تقرر أن تدار على أساس اقتصادي فحسب .

وافقته , ثم رتب لي مقابلة مع السيد / شعراوي جمعة المسئول عن المخابرات العامة في ذلك الوقت . وأوضحت للسيد شعراوي شروطي . وهي أنه لا علاقة لي بنشاط المخابرات , لا بطريقة مباشرة ولا غير مباشرة , وأنه ينبغي أن أعرف الأشخاص الذين يعملون بالشركة من جهاز المخابرات , حتى أتيح لهم الفرصة لأداء عملهم الأصلي , ولا أحرج نفسي مع أحدهم إذا تغيب عن العمل لسبب لا أعرفه .

وافقني على ذلك , وسافرت . . وأدرت الشركة , واستطعت بفضل الله أن أوقف خسارتها , ثم أنشأت فرعا لها في دمشق وآخر في بغداد وثالثا في الكويت . . . وبعد ذلك نقلنا المركز الرئيسي إلى دمشق , ثم بعد الوحدة بين مصر و سوريا , نقلنا المركز إلى القاهرة .

في فترة إقامتي في بيروت , جاء شهر رمضان , وكان يسكن في الدار التي أمام مسكني زميلي عزيز جرجس سليمان الذي كان يعمل مديرا للمكتب الفني بالشركة . فكان لا يأكل ولا يشرب بالنهار , لكي يفطر معي في المغرب ولا يتركني وحيدا أثناء الإفطار .

هاجر عزيز سليمان إلى استراليا مع أسرته منذ عام 1969 . وعندما بلغت سن الستين في عام 1981 أرسل إلى برقية يهنئني فيها ببلوغ السن . ومنذ أيام قليلة – في أوائل فبراير 1993 – فوجئت بمكالمة منه من استراليا , يطمئن فيها علي . " ولتجدن أقربهم مودة للذين امنوا الذين قالوا إنا نصارى . . . "

بديعة مصابني

أذكر بهذه المناسبة أني كنت أستريح في الطريق بسيارتي بين بيروت ودمشق عند الحدود اللبنانية لتناول الإفطار . وقفت مرة عند مقصف صغير في الطريق يبيع شطائر الخبز باللبنة والخبز بالزعتر في الصباح . وجدت امرأة مسنة تفترش سجادة صغيرة خارج باب المقصف , وتستمتع بشمس الشتاء , وأمامها كوم من الملوخية تقطف أوراقها . شدت الملوخية انتباهي فاقتربت منه محييا , وتبادلت معها الحديث فعلمت أنها بديعة مصابني الراقصة المصرية الشهيرة في الثلاثينات والأربعينات . سألتها : لماذا هربت من مصر , فقالت إن كل ما كان في حوزتها من مال بلغ 30 ألف جنيه , ومصلحة الضرائب كانت تطالبها بثلاثين ألفا كذلك . ومعنى هذا أنها تعيش بعد ذلك تشحذ طعامها . فقررت الهرب بالمبلغ , واتفقت مع طيار انجليزي ليهربها بطائرته الحربية إلى لبنان ( بلدها الأصلي ) , وقد كان . وأسست بالمبلغ هذا المقصف الذي تعيش على دخله .

قالت : كان باشاوات مصر ورؤساء وزارتها يشربون الشمبانيا في كعب حذائي . واليوم أكاد لا أجد قوت يومي . ولكن أملي الكبير , هو أن يرضي عني رجال الثورة ويسمحوا لي بأن أزور القاهرة ليوم واحد , أتطلع إلى مبانيها واستعيد ذكرياتي فيها , وبعدها ليكن ما يكون ! !

شركة النصر للتصدير والاستيراد

أذكر أني كنت أصحب الأستاذ محمد غانم في سيارته في الطريق من بيروت إلى دمشق , أن ففاتحني في تأسيس شركة للتصدير والاستيراد . قلت له : ليست لدي أو لديك خبرة في ذلك . قال : نكتسب الخبرة . . هكذا تأسست شركة النصر للتصدير والاستيراد .

وإحقاقا للحقيقة أود أن أسجل أن السيد محمد غانم هو من الضباط النادرين الذين لم يتأثروا بالنظام العسكري الذي نشئوا فيه , عندما أداروا شركات الأعمال , فكانوا مثالا يحتذي .

كان محمد غانم في وقت من الأوقات : الممثل الشخصي للرئيس عبد الناصر في الشرق الأوسط , وكان يستقبل استقبالات رسمية من أمراء الخليج . ثم إنه بعد أن انكشف للسلطات اللبنانية أن الشركة العربية للإعلان والنشر مملوكة للمخابرات المصرية , بالرغم من وجود شركاء صوريين فيها من اللبنانيين , طلبت السلطات استبعاد محمد غانم من البلاد , فما كان من عبد الناصر إلا أن عينه مستشارا ثقافيا في سفارتنا ببيروت . وعينت أنا مكانه مديرا للشركة .

كانت شركة النصر للتصدير والاستيراد مدرسة , تعلم فيه الكثيرون بما فيهم أنا . وكانت تطبق المبادئ والقواعد العلمية في عملها , اعتبارا من اختيار وتعيين العاملين وتدريبهم لإجراء الصفقات تصديرا واستيرادا , الأمر الذي استفدت منه كثيرا عند تأليف كتبي في الإدارة والتسويق وبحوث التسويق وسياسات التصدير . وكذلك استفاد من الخبرة فيها كثير من العاملين بها , والذين استقالوا منها بعد ترك محمد غانم لها , وأسسوا مشروعات ناجحة حتى اليوم .

كنت أنا أعمل بالشركة , منتدبا للتدريس في كليات التجارة بجامعة القاهرة وجامعة الأزهر والمعهد العالي للتجارة الخارجية والمعهد العالي للسينما وكلية الفنون التطبيقية , وقبل ذلك كنت منتدبا للتدريس بقسم الصحافة بكلية الآداب منذ إنشائه . . . كانت اتجاهاتي نحو التدريس غالبة على إحساسي , لذلك رحبت بالعمل في الجامعة في وظيفة أستاذ كرسي .

حسن خليل

في عام 1965 , قامت حكومة عبد الناصر باعتقال الإخوان وكل من انتمى إليهم في يوم ما , غير آخذة في الاعتبار بما إذا كان المعتقل له نشاط في الإخوان أم لا . اعتقلوا الشيخ الغزالي والشيخ السيد سابق وعبدة قاسم وأحمد فراج . . . وكثيرين ممن ليس لهم دور مع الإخوان بعد عام 1950 .

اعتقلوا شقيقي علوي من منزله القريب من منزلي . قلت في نفس :

لا بد وأن يكون الدور علي . أبلغت الأخ الأستاذ سعد نصار المستشار القانوني للشركة بما حدث لعلوي وتوجسي مما أتوقعه . وفي اليوم التالي , كنت جالسا مع سعد نصار , فجاء سكرتيره يقول إن شخصا بالباب يريدني , خرجت فقال : أنا النقيب فلان من المباحث العامة . قلت : تفضل . فدخل . . . سألته أهو اعتقال ؟ قال : نعم . قلت لسعد : لقد حدث ما توقعته .

كان محمد غانم رئيس مجلس إدارة الشركة مسافرا في الإسكندرية . وتعذر الاتصال به .

طلب سعد نصار من الضابط أن يجلس قليلا , فجلس على مضض . فاتصل سعد بالعميد حسن خليل رئيس المباحث الجنائية العسكرية , شارحا له الأمر ومبلغا إياه بأني عضو مجلس إدارة الشركة وزميل محمد غانم ( الذي يعرفونه جيدا ويعلمون بصلته بعبد الناصر ) . فقال حسن خليل : دع الضابط ينتظر قليلا إلى أن يكلمه رئيس المباحث العامة اللواء حسن طلعت . وقد كان . فبعد دقائق تكلم اللواء حسن طلعت مع الضابط . . . ثم انصرف الضابط وهو متجهم الوجه .

الذي علمته بعد ذلك أن اللواء حسن طلعت اتصل بعلي صبري الذي قال له : يفرج عنه مؤقتا دون اعتقال . وظل هذا الإفراج المؤقت إلى يومنا هذا .

وفي يوم من الأيام جاءتني رسالة من شقيقي علوي من معتقل الواحات – وكان مريضا – يطلب فيها ملابس داخلية شتوية . . . أعددت الملابس , وذهبت بها بصحبة سعد نصار إلى حسن خليل في مكتبه . استقبلنا الرجل بحفاوة بالغة . وأخذ مني الملابس , وشرحت له مرض شقيقي . فما كان منه إلا أن أمر بنقله إلى المستشفى . جزاه الله خيرا .

قال لي حسن خليل في ذلك اليوم : إن المباحث العامة قبضت على أحد الإخوان , وعذبوه فاعترف بأنه اشترى مسدسا من شخص ما . وكان الغرض هو أن يعتقلوا ذلك الشخص . ولما ورد المقبوض عليه إلى المباحث الجنائية العسكرية , أعاد حسن خليل التحقيق معه بنفسه , فتبين له أن التهمة مدبرة ولا أساس لها من الصحة , وأنه اعترف حتى يتفادى مزيدا من التعذيب . فأفرج حسن خليل عنه في الحال , غير أن المباحث العامة أعادت اعتقاله مرة أخرى بغير تهمة .

علي الجارحي

في أواخر أيام عملي بشركة النصر للتصدير والاستيراد , جاء لزيارتي الأستاذ علي الجارحي الذي كان يعمل معي في شركة النيل للإعلان , وكان هو وضابط آخر السبب في ما حدث بيني وبين وجية أباظة من خلاف . فوجئت به فقد بصره . . . في مثل هذا الموقف ينسى الإنسان ما كان , ويصفو قلبه . ففقدان البصر من الله وكلنا معرضون إلى ذلك .

جاءني ليعترف لي بأنه أخطأ في حقي ويطلب مني أن أسامحه . ولقد سامحته ودعوت الله له . . . إن الله يحب التوابين . مات بعد ذلك بأيام قليلة , اسأل الله له المغفرة وأن يرضى عنه .

الفصل السابع

الجامعة وما صاحبها من أحداث عملت أستاذا لكرسي إدارة الأعمال بجامعة الزقازيق ثم أستاذا وعميدا لكلية التجارة بالمنصورة . وكانت هذه الفترة من 1969 حتى 1981 تجربة فريدة من نوعها . كانت كل تصرفاتي فيها مستوحاة مما تعلمته من الإمام الشهيد وما اقتديت به من خلقه وتصرفاته الرشيدة الساعية إلى الحق والمنزهة عن الهوى .


الشيخ الباقوري

أثناء زياراتي لفضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري وهو مدير لجامعة الأزهر , كنا نتسامر خلال زياراتي الأسبوعية له في منزله .

شرح لي مرة موقفه من الإخوان , فقال : إن عبد الناصر عند تشكيله لأول وزارة بعد الثورة , اتصل بالأستاذ الهضيبي وطلب منه ترشيه ثلاثة من الإخوان ليشاركوا في الوزارة , فرشح مكتب الإرشاد الشيخ الباقوري , ومنير دله , وحسن عشماوي . فاعترض مجلس قيادة الثورة على الاثنين الأخيرين باعتبارهما حديثي عهد بالإخوان , وطلبوا ترشيح غيرهما من قدامى الإخوان . رفض مكتب الإرشاد هذا الطلب . . . ثم اتصل عبد الناصر بالشيخ الباقوري في منزله قائلا له : إن البلد في حاجة أليه , وأن الوزارة التي يعرضها عليه تكليف لا تشريف , وأنه يعرض عليه وزارة الأوقاف وشئون الأزهر . لم يتردد الباقوري في القبول لصالح البلد أولا , ولأنه لم يكن مقتنعا بأسباب رفض مكتب الإرشاد طلب مجلس الثورة .

ما إن أعلن قبول الباقوري للوزارة , حتى أصدر مكتب الإرشاد قرارا بفصله من الإخوان . . . أصيب الباقوري على أثر ذلك بمرارة شديدة وأبدى استنكاره الشديد لقرار المكتب , ذلك لأنه لا يجوز أن يفصل أحد من الإخوان , ما دام الإخوان رجال دعوة , وليسوا حزبا أو جمعية أو تشكيلا اجتماعيا أو سياسيا .

وانشغل الباقوري بالوزارة , وأعاد تنظيم الأزهر وأدخل به الكليات التي تخرج العاملين لصالح المجتمع من مهندسين وأطباء ورجال أعمال ورجال قانون ورجال علم تطبيقي , فضلا عن كلية البنات فيها ذات التخصصات , فلا ينبغي أن يقتصر الأزهر , وهو أقدم جامعة في العالم لا زالت حية , على علوم الدين فحسب .

وكانت الفكرة الأساسية للكليات الجديدة , هي أن تخرج دعاة للإسلام يحترفون مهنة , ويستطيعون أن ينشروا الدعوة في المجتمعات الأفريقية والأسيوية , بل الأوروبية والأمريكية , عن طريق المهن التي تحترفونها , مثلما يفعل المنصرون ( ولا أقول : المبشرون ) في دول العالم الثالث .

قرب عبد الناصر الشيخ الباقوري إليه , فقد كانت الصلة بينهما وثيقة منذ كان عبد الناصر من الإخوان المسلمين. غير أن المخربين والعابثين وأتباع المذاهب الهدامة الذين كانوا يحيطون بعبد الناصر . أبوا إلا أن يفسدوا هذه الصلة . فانتهزوا فرصة أن الشيخ الباقوري يتردد على الأستاذ محمود شاكر في داره بمصر الجديدة ويلتقي معهم بعض أصدقاء الطرفين ويتبادلون الحديث في شتى المور , كما انتهزوا حادثا سجله أحد الحاضرين – وكان عينا عليهم – هاجم فيه أحد المتحدثين سياسة عبد الناصر , فادعوا لدى عبد الناصر أن الباقوري يتردد على بيت مشبوه ومراقب من الآداب في مصر الجديدة , وأنه يهاجم سياسة عبد الناصر , وأسمعوا عبد الناصر الشريط الذي لم يكن الصوت فيه واضحا تماما .

أصدر عبد الناصر قرارا بإعفاء الشيخ الباقوري من جميع مناصبه غير موضح أي سبب لذلك . . . ذهب الشيخ إلى بيته . واستيقظ من نومه على أصوات القطط وهي تموء بصوت منزعج خارج باب الفيلا التي يقيم فيها . خرج يتساءل عما حدث هذه الليلة , فوجد أن شرطة المرافق قد رفعت الكشك الخاص بجندي الحراسة , ووضعت مكانه صندوقا حديديا ضخما للقمامة , فاجتذبت القمامة قطط الحي كله . . . حضر إليه جمال سالم ( عضو مجلس قيادة الثورة ) في المساء مواسيا , فأبلغه الباكوري بالواقعة , فطلب رئيس شركة مصر الجديدة , وهو المسئول عن ذلك قبل تكوين مجلس للحي , وبعد أن نهره جمال سالم بشدة , بعثوا بسيارة نقل لترفع صندوق القمامة من مكانه .

وعند عودة عبد الناصر من روسيا , وجد الباقوري واجبا عليه أن يذهب لاستقباله . ووقف ضمن المستقبلين في الصف الأول , كما يقضي البروتوكول باعتباره وزيرا سابقا . فجاء ضابط شرطة صغير برتبة ملازم , ودفع الشيخ الباقوري بعصاه إلى الخلف قائلا : هذا ليس مكانك . فوع الشيخ الباقوري على الأرض , وأصيب بالشلل الكامل فورا . ونقلوه إلى مستشفى القوات المسلحة , وأمكن علاجه إلى أن صار الشلل نصفيا فقط . وظل كذلك حتى نهاية عمره .

في تلك الأثناء استطاع عبد الناصر أن يتبين الحقيقة حول الباقوري وعرف أنه دسيسة من المخابرات , فذهب لزيارته بالمستشفى وقال له : لقد ظلمناك يا شيخ احمد . . . ثم أصدر قرارا بتعيين الباقوري رئيس لجامعة الأزهر ومستشارا دينيا لرئاسة الجمهورية بدرجة وزير , وظل كذلك إلى أن مات .

في أحد الأيام – وأنا في مكتبه – عرض علي أن اعمل أستاذا بكلية المعاملات الإسلامية ( التجارة ) تمهيدا لتعييني عميدا للكلية , حيث أن الكلية في وضعها الحالي تعتبر نسخة ممسوخة من كليات التجارة الأخرى , وأنه يتمنى أن تكون كلية ذات اتجاهات إسلامية , أو بمعنى آخر أن تتم أسلمة المواد التي تدرس فيها على قدر الاستطاعة .

كان مرتبي في شركة النصر للاستيراد والتصدير 270 جنيها في حين أن أقصى مربوط لدرجة أستاذ بالجماعة هو 150 جنيها . وهذا يقتضى صدور قرار جمهوري بمنحى أقصى مربوط الدرجة , لأن أول المربوط هو 120 جنيها فقط . بعد أن استخرت الله قبلت بالتضحية , وذهبت معه لنقابل الدكتور عبد العزيز كامل وزير الأوقاف وشئون الأزهر , الذي رحب بالفكرة ووعد باستصدار القرار الجمهوري .

قدمت أبحاثي , واستشارني الشيخ الباقوري في تشكيل اللجنة التي تحكم على مدي رقي صاحب الأبحاث لشغل وظيفة أستاذ كرسي , فاخترت أقدم ثلاثة أساتذة لإدارة الأعمال : الدكتور علي عبد المجيد والمرحوم الدكتور مصطفى زهير والدكتور حسن توفيق .

وما إن شاع خبر انتقالي إلى جامعة الأزهر , حتى قامت قيامة عدد من الأساتذة بكلية المعاملات الإسلامية , وبدئوا يحاربونني حربا لا أخلاقية , وكانوا من قبل يتظاهرون بصداقتي , بل كانوا يخطبون ودي . ذهب بعضهم ومعه بعض المعيدين والمدرستين المساعدين ( بالماجستير ) وقابلوا عبد العزيز كامل وألغوه أن اخبر المنتشر في الكلية هو أنه أحضر عساف إليها لأنه صديقه ! ! كانت هذه تهمة في ذلك الوقت حيث أن اتجاهاتي الإسلامية معروفة, فخشي عبد العزيز كامل من مغبة ذلك , ولم يصادق على قرار مجلس جامعة الأزهر بتعييني , الأمر الذي أغضب الشيخ الباقوري وقرر أن يجمع مجلس الجامعة , ويصر على تعييني , وقراره هو الذي ينفذ في نهاية الأمر .

أتعرضت على ذلك , فإني لا أحب أن أبدأ عملا في جو مضطرب كله مؤامرات . . . وبقيت ثلاثة أيام أسفا على ما حدث وبخاصة وأني كنت قد أعددت برنامجا لأسلمة بعض المواد كالإدارة والتسويق والتمويل وشئون العاملين ,’وأعددت أفكار حول الاقتصاد الإسلامي والمحاسبة في المعاملات الإسلامية .

كنت جالسا في مكتبي في الساعة العاشرة صباحا , وإذا بضيف يزورني , هو الدكتور علي عبد المتعال أستاذ المحاسبة بجامعة عين شمس , وهو صديق عزيز . قال لي أنه حاضر توا من لدى الدكتور عبد العزيز حجازي الذي طلب منه أن يأخذ الدكتور س . ع . من تجارة الأزهر إلى تجارة الزقازيق لكي يذهب عساف إلى تجارة الازهر , قال لي علي عبد المتعال : أنا أفضل أن يبقى س . ع . في أزهره , و نأخذ نحن عساف . . . قلت إلى أين ؟ قال : إلى تجارة الزقازيق وهي فرع من تجارة عين شمس , وقد صدر قرار بإنشائها , وآخر موعد لتقديم الطلبات لشغل وظائف الأساتذة هو غدا . ثم قال : سأنتظرك في الساعة الحادية عشرة صباحا أمام المجلس الأعلى للجامعات ومعك الأوراق والمستندات المطلوبة . . . وفي الصباح الباكر , ذهبت إلى إدارة جامعة الأزهر , وسحبت أوراقي من هناك , وذهبت إلى مقر المجلس الأعلى للجامعات , فوجدت علي عبد المتعال في انتظاري أمام الباب الخارجي .

وكان الله قد اختار الخير لي , فعينت أستاذا لكرسي إدارة الأعمال في كلية تجارة عين شمس – فرع الزقازيق .


في كلية التجارة بالزقازيق

إن خبرتي بالتدريس الجامعي ترجع إلى عام 1955 , وكانت لي كتب في الإعلان والتسويق وبحوث التسويق وأصول الإدارة . وكانت خبرتي في مجال الأعمال منذ عام 1943 حتى 1969 حين عملت بالجامعة , خير عون لي , حيث أن علوم إدارة الأعمال كلها مستقاة من التطبيق .

كانت علاقاتي مع الطلاب في الكلية علاقة أبوية , إذ كنت أومن بأن الأستاذ والد للطالب وليس معلما فحسب . وكنت أعمل على حل مشاكل طلابي , حتى العائلية منها , لذلك علاقاتي بأولياء أمورهم كانت حميمة . وهناك خمس وقائع لا تغيب عن ذكري حدثت بالزقازيق :

الواقعة الأولى :

أنه في أثناء محاضرتي لطلاب السنة الأولى , جاء طالب ووضع ورقة على مكتبي في المدرج . قرأتها في غرفتي بعد المحاضرة , فوجدتها شكوى من أحد الطلاب يقول : إنه من بلدة تسمى العصلوجي , وهي تبعد عن الزقازيق بحوالي 4 كيلو مترات , وأن والدته تعمل غسالة وخادمة ببيوت الأثرياء من أهل القرية , وأنها تتكسب ما يكفي الأسرة من طعام بالكاد , وأنه لفقره يحضر إلى الكلية ماشيا ويعود إلى بلدته ماشيا كذلك , وأنه لا يجد موردا يسدد منه رسوم الكلية , وتقدم بطلب للعميد لكي يسمح له بقرض من بنك ناصر , يسدد منه الرسوم . وكان بنك ناصر يمنح الطلاب قروضا حسنة يسددونها بعد تخرجهم على أقساط . فأفاده العميد أن القرض يمنح للطالب المقيد بالكلية فحسب , وهو غير مقيد إلا بعد سداد الرسوم . . . طلب مني الطالب أن أتوسط له عند العميد لكي يسمح له بالقرض حتى يسدد الرسوم منه وقت استلامه تماما .

بحثت في جيبي فوجدت خمسة عشر جنيها . وكانت حالتي المالية حرجة , حيث نقص مرتبي بمبلغ 120 جنيها أي 2400 جنيه بمقاييس هذه الأيام ( حيث كان كيلو اللحم البتلو بستين قرشا , وهو الآن بستة عشر جنيها ) .

طلبت الأستاذ مسلم فايد مسجل الكلية , وأعطيته عشرة جنيها , وقلت له : اطلب الطالب صاحب الورقة في الميكرفون , وسدد له الرسوم , ثم اصحبه معك إلى السكة الحديد واقطع له اشتراكا من الزقازيق إلى العصلوجي والعودة , وإن بقى معك شيء بعد ذلك فأعطه للطالب . وأرجوك ألا تسمح للطالب بأن يحضر لي لشكوى , حيث لا أحب أن اعرف شكله أو أشعره بأي حرج لو التقى معي في المحاضرة أو في فناء الكلية . عاد الأستاذ مسلم إلي بعد 3 ساعات . أراني إيصال سداد الرسوم , والاشتراك , وقال إنه بقى معه جنيه ونصف فأعطاه للطالب .

بعد ذلك بيومين على وجه التحديد , اتصل بي الأستاذ نجيب رسلان وكيل المعهد العالي التجاري – الذي كان مهجرا من بور سعيد – وقال لي : لك كتاب في إدارة المنشات المالية . وهذه المادة مقررة عندنا وكنا نعتمد على رجال البنوك في تدريسها , غير أنهم غير قادرين على تأصيلها علميا . ونحن نرجوك أن تقبل أن تدرسها عندنا لمدة ساعتين كل أسبوع , في الوقت الذي تحدده وفي اليوم المناسب لك .

كنت قد ألفت كتابي في " إدارة المنشات المالية " , وهي مادة مقررة على السنة التالية بالكلية , وطبعت منه ألفي نسخة . ومن المعروف أن تكلفة الطباعة والنشر , تستغرق نصف ثمن الكتاب . ومعنى هذا أنه إذا وزع من الكتاب ألف نسخة , فإنه لا يكون رابحا ولا خاسرا . فإذا تعدى ذلك بالزيادة , فإن إيراد هذه الزيادة يعتبر ربحا صافيا للمؤلف . . . وكان قد وزع من الكتاب 800 نسخة في الكلية , وهذا يعني أن هناك خسارة مؤقتة بقيمة 200 نسخة .

ولكن بعد أن بدأت أدرس المادة في المعهد , وزع من الكتاب على طلبته 600 نسخة . وبذلك صار الموزع من الكتاب 1400 نسخة , منها 400 نسخة تمثل ربحا صافيا . . . ولما كان ثمن الكتاب 80 قرشا فإن الإيراد الذي لم يكن متوقعا من قبل قد بلغ 320 جنيها .

حمدت الله تعالى , فإن العشرة جنيهات قد أتت بثلاثمائة وعشرة جنيهات , وليس مائة جنيه باعتبار أن الحسنة تقيم بعض أمثالها . . . وصدق الله العظيم : " والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم " .

أما الواقعة الثانية :

فهو أن أحد طلاب السنة الثانية جاءني في مكتبي , وأبلغني أن والده يعمل مديرا للإدارة الهندسية بالمحافظة , وأنه كان زميلي في مدرسة الزقازيق الثانوية ويريد زيارتي . قلت له : مرحبا به في أي وقت . وأعطيته نسخة من كتاب إدارة المنشات المالية , وكتبت عليها إهداء لوالده .

جاءني الرجل في اليوم التالي , وأخذنا نتذاكر أيام المدرسة . . .ثم قال لي : إني اعتب عليك ! قلت : لم ؟ . قال : لأنك تتصرف كباقي الأساتذة الذين يضعون المادة في أولى اهتماماتهم . قلت : لعلك فهمت خطأ ممن أبلغك ذلك , فإن المادة لا تدخل في حسابي قط . قال : لم إذا تبيع كتابك في إدارة المنشات المالية بمائة وعشرين قرشا ؟ قلت : من قال لك ذلك ؟ قال : ولدي . فقد أخذ مني 120 قرشا ثمنا للكتاب ! ! قلت له : إنك لم ترب ولدك التربية الصالحة . إن الكتاب الذي ادعى أنه اشتراه , ثمنه 80 قرشا فقط , ثم إني أهديته إليك . ولا بد أن ولدك قد فصل الصفحة الأولى التي عليها البسملة والتي كتبت لك عليه الإهداء , ثم سرق منك المائة وعشرين قرشا , عليك بتأديبه .

وأما الواقعة الثالثة :

فهي أنه في امتحانات آخر العام , كان طلاب السنة الثالثة يمتحنون في أحد المدرجات . وأثناء مرور الدكتور عبد الحميد القاضي ( مدرس الاقتصاد وقتئذ ) وجد ورقة على الرف الذي تحت القمطر , تبعد عن أحد الطلاب , وفيها إجابة لأحد الأسئلة في امتحان الاقتصاد المنعقد في ذلك اليوم . فأخرج الطالب وأبلغ العميد باعتبار أن الورقة كانت في متناول يده في حين أنها تبعد عنه بأربع خطوات . ألغى العميد امتحانه كله في ذلك العام وأحاله إلى مجلس التأديب . حاولت أن اثني العميد عن قراره حيث يوجد شك لأن الورقة ليست بخط الطالب وأنها تبعد عنه مسافة لا تجعلها في متناول يده , فأصر على قراره . . . قدم الطالب إلى مجلس تأديب برئاسة الدكتور أحمد عزام نائب رئيس جامعة عين شمس لفرع الزقازيق وعضويتي أنا والدكتور إسماعيل هاشم , ولما اطلع الدكتور إسماعيل هاشم على الورقة , تذكر شيئا فقال : في هذه الورقة إجابة عن مسألة أعطيتها للطلبة في آخر محاضرة , ويبدو أن هذه إجابة أحدهم تركها بالمدرج .

ثبت عندئذ أن الطالب بريء من تهمة الغش , وبخاصة وأن شخصيته تبعث على الاحترام , فهو ريفي أصيل . . . قال الدكتور أحمد عزام : إذا فما العمل ؟ قلت : نعلن أن الطالب بريء من تهمة الغش . قال : ولكن هذا سيوقع الجامعة في المسئولية وقد يطالب الطالب بتعويض عن هذه السنة التي ضاعت عليه . قلت : هذا من حقه , والجامعة ممثلة في عميد الكلية مخطئة , ومن حقه التعويض عما أصابه من ضرر ( هذا ما تعلمته من الإمام الشهيد , ألا تأخذني في الحق لومة لائم ) . قال الدكتور عزام : أرجو تأجيل قفل المحضر حتى اخذ رأي رئيس الجامعة . . . ذهب إلى رئيس الجامعة الدكتور إسماعيل غانم في القاهرة , وعرض عليه الموضوع . أبلغني بعد ذلك أن الدكتور إسماعيل سأله : وما هو رأي الدكتور عساف ؟ فقال له : رأيه أن يبرأ الطالب ويأخذ حقه . قال : إذا فليكن ذلك .

اجتمع مجلس التأديب مرة أخرى , فأبلغ الدكتور عزام الطالب قائلا إنه ثبتت براءته , وله أن يرفع قضية على الجامعة , وله أن يتغاضى عن ذلك , فتلك إرادة الله . . . قال الطالب الذي كان يفيض إيمانا : أنا شاب مؤمن , ولعلي أكون قد أخطأت في أمر ما , فأراد الله أن يقتص مني في الدنيا بدلا من الآخرة . وأنا أسلم بإرادته , وأتنازل عن كل شيء .

هذا الطالب تخرج في العام بعد التالي حاصلا على البكالوريوس بدرجة جيد جدا مع مرتبة الشرف , وكان ترتيبه الثالث على الخريجين .

أما الواقعة الرابعة :

فهي أن أحدى الطالبات , واسمها الشيماء حضرت إلى مكتبي تشكو أهلها . قالت إن والدها ووالدتها لا زالا يعاملانها كما لو كانت طفلة صغيرة . فهما يطلبان منها أن تشتري طبق الفول والخبز من الشارع في الصباح , ولا يعطيان بالا إلى سنها وأنها صارت طالبة بالجامعة , كما أنهما يضغطان عليها لكي تتزوج ابن عم لها في حين أنها لا تميل إليه . . . قلت لها إن معاملة الأبوين باعتبارها صغيرة , أمر طبيعي . فإن الابن مهما كبر فهو في نظر والديه صغير , وأنا شخصيا أعامل أولادي كما لو كانوا لا زالوا صغارا بالرغم من أني أعتبرهم كأصدقاء وليس أولادا فحسب . ولها أن تسر بذلك لا أن تحزن . وأما فيما يتصل بابن العم , فقد طلبت منها أن تجلس معه عدة مرات , لعلها تتفهمه أكثر , وألا تضع في بالها الرفض قبل الدراسة . وقلت لها إن الله تعالى قال في سورة النساء ( الآية 19 ) " . . . وعاشروهن بالمعروف , فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " , وإن ما ينطبق غلى النساء ينطبق على الرجال , فعسى أن يجعل الله في هذا ابن العم خيرا .

بعد شهر جاءتني وقالت إنها اكتشفت أنه شخص طيب , ووافقت على خطبته لها وبعد ذلك بعام – وأنا مشرف على كلية التجارة بالمنصورة قبل أن أعين عميدا لها , كانت تتردد على في المنصورة مرة كل شهرين تقريبا تطمئنني على حالها , وتحضر معها آيات قرءا نية موضوعة داخل أطر مذهبة , وتشرف على تعليقها على جدران غرفة مكتبي .

هذا يذكرني بموضوع آخر , وهو أن الشيخ محمد محرم , مؤذن مسجد السيد البدوي , كان رجلا صالحا . وكان من المعروف عنه أنه يتحدث مع زواره أو من يزورهم أحاديث تتصل بأسرار لا يعرفها إلا هم . تلك كانت هبة من الله إلى ذلك الرجل , ولم يكن يستغلها في أي مصلحة , حيث أن مستور , وله ولدان يدرسان في أمريكا , وكان كريما مع زواره الذين يترددون عليه بالمسجد . ز في يوم ما جاء إلى زيارتي في مكتبي في شركة النصر للتصدير والاستيراد . وأثناء الحديث قال : إني أرى على رأسك " إن ينصركم الله فلا غالب لكم " , وإن شاء الله نبارك لك في نوفمبر . . . وكان ذلك قبل التحاقي بكلية التجارة بالمنصورة بثلاثة أعوام . العجيب أن قرار تعييني عميدا صدر في نوفمبر 1973 , وجاءني المهنئون , فكنت استقبلتهم عند باب المكتب , وإذا بي وأنا أنظر نحو مكتبي , أجد اللوحة المعلقة فوق رأسي بها : " إن ينصركم الله فلا غالب لكم " , التي جاءتني هدية من الشيماء .

رحم الله الشيخ محمد محرم رحمة واسعة فقد كان رجلا عميق الإيمان كثير الإحسان لدرجة أن محافظي الغربية كانوا يتقربون إليه .

وأما الواقعة الخامسة :

فهي أن الدكتور سلطان أبو علي , وكان أستاذا مساعدا للاقتصاد في ذلك الوقت , لاحظ أثناء امتحان نهاية العام , أن أحد الطلاب يرتدي الحلة الرسمية لعميد في الشرطة . فتعجب لهذا الأمر وقال في نفسه : لا بد في المر من شيء . وبناء على ذلك وضع الضابط تحت المراقبة . وبعد أقل من نصف ساعة ضبط الضابط متلبسا بجريمة الغش وفي يده ورقة ينقل منها . فأخرجه من الامتحان وأخذه إلى مكتب العميد , وكنت هناك . . . جاء الضابط منتفخ الأوداج يحتج بشدة . . قلت له إنك ستحال إلى مجلس التأديب وسيلغي امتحانك كله هذا العام – وكان في السنة الأولى – وسوف نبعث بقرار المجلس إلى وزير الداخلية لكي يعلم حقيقة من يعملون تحت إمرته من الضباط . فإذا بالضابط يتضاءل ويبدأ في الرجاء بألا نفعل هذا . قلت له إنك لا زلت مبتدئا في السنة الأولى , والحل الوحيد هو أن تقدم طلبا لإلغاء قيدك بالكلية لأسباب خاصة , وحينئذ يقبل العميد ذلك الطلب , وتنتهي المسألة عند هذا الحد . وقد كان .


في عدن

في أحد الأيام اتصل بي الدكتور حسن توفيق – وكان وقتئذ يعمل مديرا عاما للمنظمة العربية للعلوم الإدارية النابعة للجامعة العربية , وطلبني لزيارته للتحدث في أمر هام . ذهبت إليه فوجدت عنده الدكتور عبد المنعم محمود أستاذ المحاسبة بتجارة القاهرة . شرح الدكتور حسن لنا المهمة , وهي أن حكومة اليمن الجنوبي ( عدن ) ترغب في معاونتها في إنشاء كلية للتجارة بعدن .

التقينا عنده مرة أخرى بحضور وكيل وزارة المعارف اليمينية الجنوبية , واتفقنا على موعد السفر . صرفت لنا المنظمة بدل السفر بواقع خمسة جنيهات إسترلينية ونصف عن الليلة , وسافرنا حيث استقبلنا مندوب من الوزارة يعمل مديرا للمعهد الفني هناك .

وجدت أن أجر الفندق وثمن الوجبات به يكاد يبلغ مقدار ثلاثة أمثال بدل السفر , ذهبت إلى سفارتنا هناك , وقابلت القائم بالأعمال وشرحت له الوضع , فاتصل بوزير المعارف وأفهمه أن ما حصلنا عليه من مصر ليس بدل سفر كما هو مفهوم ولكنه مقابل المصروفات النثرية فحسب , وأنه إذا لمن ننزل ضيوفا على الوزارة , فإننا سنرجع على الفور . . . قبلت الوزارة ضيافتنا . . . وعلمنا عندما عدنا للفندق أن كل رواده خبراء وهم ضيوف على الحكومة , من بلغاريا وبولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفيتي – أي من كافة أنحاء الكتلة الشرقية .

قابلنا في اليوم التالي على ناصر محمد رئيس الوزراء في ذلك الوقت . أبلغنا أن هناك محاولات بذلت من قبل لإقامة كلية التجارة , ولكنها فشلت بسبب التكاليف حيث أن الحكومة ليس لديها أموال تنفق منها على الكلية .

غادرني الدكتور عبد المنعم بعد 4 أيام وتركني أكمل الدراسة , وكنا قد وضعنا مناهج الكلية معا , بما يتناسب مع ظروف عدن , في مواد الإدارة والمحاسبة والاقتصاد .

بدأت أبحث عن مكان لا يكلف الدولة شيئا , فوجدت معهدا للمعلمات أنشأته حكومة الكويت وقدمته هدية لحكومة اليمن الجنوبي , كان ذلك المعهد يعمل من الصباح حتى الثانية بعد الظهر , ووجدت فيه غرفتان خاليتان . رأيت من المناسب أن يتخذ هذا المعهد مقرا للكلية , على أن نبدأ الدراسة بها من الرابعة عصرا إلى التاسعة مساء , وأن تخصص إحدى الغرفتين للعميد والأخرى لموظفين اثنين إداريين .

بحثت عن أعضاء لهيئة التدريس يعملون في المساء . فوجدت نائب محافظ البنك المركزي , وهو يحمل الماجستير في الاقتصاد من بريطانيا , ووجدت أحمد المصريين يعمل في برنامج الأمم المتحدة ويحمل درجة الدكتوراه في الاقتصاد . وكان هذا كافيا بالإضافة إلى من سيكلفون بالتدريس من المصريين الذين أحيلوا للمعاش , وكان في ذهني أستاذ إدارة وأستاذ محاسبة .

اتصلت من هناك بحسن بلبل وكيل وزارة الخارجية , سألته عما إذا كانت الوزارة مستعدة لإعارة هؤلاء الاثنين على أن تدفع رواتبهما في مصر , فوافق .

عرضت الأمر بعد ذلك على "علي ناصر " رئيس الوزراء , الذي سر كثيرا وأبدى تفاؤله بقيام الكلية , حيث أن المبنى لن يكلف شيئا , والمكافأة التي ستعطى للمدرسين اليمنيين ضئيلة , وأن الأستاذين المصريين لن تتحمل الدولة هناك أكثر من إقامتهما الكاملة بالفندق , شأنهما شأن الوفود الكثيرة المقيمة فيه .

لاحظت أن الجنود اليمنيين كلهم شباب دون الخامسة والعشرين , وأن كلا منهم يضع مصحفا أحمر اللون في جيب قميصه . . سألت الأخ محمد ( السائق المرافق لي ) عن هذه الظاهرة الجميلة , فقال : لا يا دكتور إن هذه ليست بمصاحف , إنها نسخ من الدستور الروسي ! ! أي والله من الدستور الروسي وليس الدستور اليمني ! ! وفي زيارة لمؤسسة الصحافة هناك – وهي تصدر مجلة من 8 صفحات في حجم التابلويد ( نصف الجريدة ) ذكرتني بالنشرات الشيوعية التي كانت تصدر في مصر قبل عام 1949 – وجدت خلف مكتب مديرها تمثالا للينين ! ! وكذلك الأمر في مكتب وزير المعارف , وهو متخرج من آداب القاهرة قبل ذلك بعامين فقط .

وفي يوم الأحد – وهو يوم عطلة بالدولة , سألت الأخ محمد السائق , أن يأخذني إلى مكان فيه نسمة من الهواء حيث الرطوبة هناك عالية ولا يكاد الإنسان يحس بالهواء , بل يحس بشيء من الاختناق عندما يستنشق . فأخذني إلى قمة جبل عالية , بها تبة محاطة بسور حجري , وبها كشك من الصفيح أمامه رجل نائم في ظله . قال الأخ محمد : إن هذا الرجل هو صاحب الكشك , وهو الذي بناه من مخلفات الصفيح . . وبعد أن أممت الحكومة المساكن , فرضت عليه 10 جنيهات يمنيه جنوبية ( تعادل 10 إسترليني ) إيجارا شهريا للكشك , في حين أن الكشك لا يدر هذا المبلغ لأنه يبيع المشروبات الغازية والسجائر فحسب . فأغلق الرجل الكشك ونام في ظله ! !

جلسنا على السور الحجري , فوجدته يطل على جرف ينتهي إلى شاطئ خليج عدن ,, ورأيت رجلا جالسا القرفصاء , وجهه إلى الجبل , وظهره إلى الماء . . بعد ساعة نظرت خلفي إلى أسفل فوجدت الرجل مكانه . فقلت : يا أخ محمد , أخشى أن يكون الرجل الذي بالأسفل قد مات على هذا الوضع لأنه لم يتحرك منذ ساعة . فقال : لا . إنه يقيت ( أي يمضغ القات ويخزنه في فمه ثم يستحلبه بعد ذلك ) . سألت : وهل من أصول مضغ القات أن ينظر الإنسان إلى الصخور الجرداء أم ينظر إلى البحر ؟ قال : بل إلى الصخور حتى لا ينشغل بشيء عن مضغ القات ! ! قابلت أحد اليمنيين من عدن في عام 1992 , بعد توحيد شطري اليمن , وسألته عن أخبار كلية التجارة بعدن , فقال إنها تسير سيرا طيبا وأنه متخرج منه , فحمدت الله أن جهودي لا زالت مثمرة .


في كلية تجارة المنصورة

بعد أن انتهيت من تأسيس قسم إدارة الأعمال بكلية التجارة بالزقازيق , وزودته بأحد المدرسين وبعدد من المعيدين , وشرعت في نقل أحد الأساتذة إليه من المعهد القومي للتنمية الإدارية , اتصل بي الدكتور عبد المنعم البدراوي الذي عين وقتذاك رئيسا لجامعة المنصورة , وقال لي أن الدكتور حسن توفيق رشحني له لأشرف على كلية التجارة .

قابلت الدكتور عبد المنعم البدراوي في منزله , واتفقنا على أن أشرف على الكلية إلى أن أنقل أستاذا بها ثم أعين عميدا لها , مع استمراري بكلية تجارة الزقازيق إلى أن يتم النقل .

قدمت طلبا بع ذلك إلى مجلس كلية التجارة بالزقازيق ليوافق على نقلي , تمهيدا لعرض الأمر على مجلس الجامعة . فاعترض الدكتور عبد العزيز حجازي – وكان عضوا بالمجلس – على هذا النقل قائلا : لا ينبغي أن نعمر تجارة المنصورة على حساب تخريب تجارة الزقازيق . . . وكانت مساجلات بيني وبينه , ثم ذهبت أشكو لرئيس جامعة عين شمس الدكتور إسماعيل غانم رحمه الله رحمة واسعة . وفي النهاية حلت العقدة ووافق مجلس الجامعة على النقل , وبخاصة وأني تركت قسم الإدارة بالزقازيق مكتملا .

قامت جامعة المنصورة على أشلاء المعاهد العالية : التجارية والصناعية والزراعية , بالإضافة إلى كلية الطب التي كانت فرعا تابعا لطب القاهرة . وكانت المعاهد العالية تضم مجموعة من أسوأ المدرسين , حيث أنه عند إنشائها , رشح لها مدرسون ممن يعملون في المدارس الثانوية التجارية والصناعية والزراعية , فكان إذا طلب من ناظر إحدى هذه المدارس ترشيح بعض مدرسيه , كان يختار أسوأهم ليتخلص منهم .

كنت كلما ذهبت إلى الكلية , أجد أعضاء هيئة التدريس بها منتظرين قدومي في الطريق إلى مكتبي . ثم يدخلون معي . ثم يريدون أن يضيفوني في مكتبي . . . سألتهم أليس عندكم محاضرات ؟ فقالوا : بلى , ولكننا أردنا أن نرحب بك . قلت الترحيب بي يكون في مدرج الدراسة بإلقاء الدروس ! !

سمعت عن المعهد التجاري العالي بالمنصورة الشيء الكثير : مدرسون غير أكفاء , يعطون الطلبة دروسا في منازلهم بأجر , ويبيعون الامتحانات , ويزورون في النتائج . . . الخ مما لا يشرف التعليم .

كان هناك أستاذ مساعد لإدارة الأعمال , يحمل مؤهل بكالوريوس محاسبة بتقدير مقبول . وآخر للمحاسبة يدعي أنه يحمل الماجستير وإلا يوجد بملفه ما يدل على مؤهله , وأستاذ مساعد اقتصاد يحمل البكالوريوس بدرجة مقبول . . . الخ فعندما تسلمت الكلية , اتفقت مع رئيس الجامعة على ضرورة تنظيفها أولا , ثم نبنيها من جديد على أسس جامعية سليمة . فجمعت أعضاء هيئة التدريس وأوضحت لهم أنهم يعتبرون معارين من وزارة التعليم العالي إلى الجامعة حتى نهاية العام الدراسي , حيث أنهم غير مستوفين لشروط التعيين في الجامعة , فليس منهم واحد يحمل الدكتوراه , كما أنه ليس من بينهم من هو مؤهل للحصول على الماجستير فالدكتوراه , حيث يشترط للحصول على الماجستير أن يكون الطالب حاصلا على البكالوريوس بتقدير جيد على الأقل . وخبرتهم بين ثلاثة بدائل :

أ – إما أن يعين المدرس منهم , مدرسا من خارج هيئة التدريس , وحينئذ يطبق عليه قانون العاملين المدنيين بالدولة ولا يطبق عليه قانون الجامعة , وفي هذه الحال يمكن أن يرقى مستقبلا إلى أن يصل إلى درجة وكيل وزارة , ولكنه لن يحصل على بدل الجامعة البالغ 30 % من الراتب الأساسي , ولا يتمتع بميزات أعضاء هيئة التدريس كعضوية مجلس القسم ومجلس الكلية ورئاسة اللجان والامتحانات ورئاسة ووكالة الأقسام .

ب – أو يختار أي معهد عال تجاري لينقل إليه , ووعدتهم بالمساعدة في ذلك لدى وزير التعليم العالي بناء على وعد من رئيس الجامعة .

ج – أو يتمسك بأنه عضو هيئة تدريس بالمعهد ومن حقه الاستمرار بالكلية ويرفع دعوى قضائية , وحينئذ سنطلب منه أن يقدم أبحاثه للتعيين بدرجة أستاذ مساعد . وأوضحت لهم أني عضو اللجنة العلمية الدائمة للترقية بالمجلس الأعلى للجامعات , ولن تمر أية أبحاث من اللجنة باعتبارها مقبولة .

سألني أحدهم : حتى ولو كانت الأبحاث على مستوى ؟ قلت له : يا أستاذ ( ع ) حتى ولو كانت الأبحاث على مستوى , فأنت تعرف تماما كيف أعدت هذه الأبحاث , بأمارة إل 25 قرشا ! ! فسكت مندهشا .

الأستاذ ( ع ) هذا أحضر إلى مكتبي صباح أحد الأيام ( مشنة ) وبها حوالي 15 فطيرة مشلتتة , وقدرا مليئا بعسل النحل , وطاجنا به جبن قديم ومش . أوضحت له أن هذا عيب ولا يجوز . قال : هذه هدية والنبي صلى الله عليه وسلم قبلها . قلت : هذه ليست هدية , فليس بيننا من الود وسابق المعرفة ما يجعلنا نتبادل الهدايا . ثم أعطيت المشنة والقدر والطاجن للفراش الخاص بمكتبي " عبد الحميد القزنجي " وقلت له : وزع هذه الأشياء على أعضاء هيئة التدريس والمعيدين . وقل لهم إنها هدية من الأستاذ ( ع ) فاغتاظ الأستاذ ( ع ) كثيرا . .


قصة إل 25 قرشا

كنت عضوا بلجنة ترقية المدرسين إلى أساتذة مساعدين بالمعاهد التجارية العالية . وكان العضوان الآخران يعتمدان على تقريري الخاص بفحص الأبحاث . وأثناء اطلاعي على بحث مقدم للترقية لدرجة أستاذ مساعد لإدارة الأعمال , ذكرت أن الكلام الذي اقرأه قد مر على من قبل . بحثت في الأبحاث الأخرى التي قدمت لي قبله , فوجدت أحدها , هو صورة طبق الأصل من البحث المقدم . فكتبت تقريري عن مقدم البحث , بأنه لا يرقى لشغل وظيفة أستاذ مساعد لعدم أمانته العلمية . . جاءني هذا الشخص في المنزل يبكي وقال : خربت بيتي ! قلت له : أنت الذي خربت بيت نفسك , فأنت قد سرقت بحثا آخر ونسبته إلى نفسك . قال : لا يمكن أن يحدث هذا . فأحضرت له البحث المنقول منه , وقلت له : اقرأ في بحثك وأنا أكمل من هذا البحث , ثم اقرأ أنا وأنت تكمل . وما قرأنا صفحة حتى تراخى في الكرسي الجالس عليه وقال : يا خبر أسود ! يظهر أننا نحن الاثنان نقلنا من مصدر واحد . قلت له احك لي القصة وأصدقني القول كيف تم ذلك , ولك علي أن أبدل تقريري من عدم الصلاحية لعدم الأمانة العلمية والتي تؤدي إلى فصك من العمل , إلى عدم الصلاحية لضعف الأبحاث , وعندئذ يصير من حقك أن تتقدم بأبحاث جديدة بعد سنة . . . وافق على ذلك وقال : إنه يوجد بالمعهد القومي للبحوث عدد من الباحثين لا هم لهم إلا البحث , ومجالات تخصصهم مختلفة وتغطى إدارة الأعمال . والأبحاث التي يعدونها تحفظ في مكتبة , مفتاحها مع احد الفراشين . فعرفنا طريق هذا الفراش , وكنا ندفع له 25 قرشا عن كل بحث نأخذه منه , وعلى ذلك يشتري كل منا 3 أبحاث 75 قرشا , ونقدمها للجنة , ونترقى بها ! ! !


الشكاوى الكيدية

بدأ أعضاء هيئة التدريس في المعهد بشن حرب شعواء ضدي . فكانوا يبعثون بشكاوى ضدي مليئة بالأكاذيب , مثل أني لم أعين في الكلية إلا لأني زوج أخت الدكتور عبد العزيز حجازي , أو أني أسيء معاملة الطلاب . . . إلى غير ذلك من الافتراءات . وكانت هذه الشكاوى ترسل إلى محافظ الدقهلية ووزير التعليم العالي ورئيس مجلس الأمة ومدير الرقابة الإدارية والنائب العام ومدير النيابة الإدارية ومدير المخابرات العامة ومدير المباحث العامة . . . الخ , وكانت كلها تعود في النهاية محالة إلى رئيس الجامعة بطلب الرد , فكان يحيلها لي , وكنت قد أعددت ردا عليها طبعت منه صورا , أبعث بالواحدة منها إلى كل جهة يشكونني إليها . وكنت في كل مرة أجمع هؤلاء المدرسين واقرأ عليهم شكاواهم معنفا وموضحا ما هم عليه من سوء أدب .


خطاب حقير

عندما عدت إلى منزلي من المنصورة في مساء أحد الأيام , جاء ساعي البريد يقول : خطاب إلى حرم الدكتور محمود عساف . أخذت منه الخطاب وأعطيته لزوجتي التي فتحته ثم تمتمت : ما هذا . . . ما هذا . . خذ . وأعطتني الخطاب . قرأته وحفظت صيغته لأهميتها . كان يقول : السيدة الفاضلة حرم الدكتور محمود عساف . إن ابنتي مديحه علام طالبة بكلية تجارة المنصورة ( لم تكن توجد طالبة بهذا الاسم ) وزوجك الدكتور عساف يعطف عليها كثيرا , ويساعدها بالدروس في الكلية وفي المنزل عندنا , وقدم تقدم لخطبتها , ونحن حيارى : إن وافقنا فسيكون هذا على حساب زوجة بريئة , إذا رفضنا فسترسب في الامتحان حتما . دلينا على ما يجب أن نفعله أو اجعليه يتعقل .

من حسن الحظ أن زوجتي سيدة عاقلة ومتزنة , وكانت تعلم بمشاكلي في الكلية . . . طلبت رئيس الجامعة هاتفيا وقرأت عليه الخطاب , فأخذ يضحك . . . ثم قال : هاته معك يوم السبت لكي أريه للدكتور حافظ غانم وزير التعليم العالي , لكي نتخلص من هؤلاء في أسرع وقت .


الامتحانات وضبطها

عندما تسلمت العمل بالكلية , ألغيت جميع المذكرات التي كانت تدرس بها , لأنها كلها عبارة عن أجزاء مسروقة من كتب الأساتذة . ثم انتدبت أساتذة كبارا من تجارة القاهرة وتجارة عين شمس متخصصين في مواد الإدارة والمحاسبة . وانتدبنا أساتذة من حقوق القاهرة لتدريس مواد القانون .

ونظرا لأن السنة الدراسية كانت قد بدأت منذ 3 شهور , ولا يتبقى فيها غير 4 شهور فقط , وكان الأساتذة قد ارتبطوا مع كلياتهم بجداول الدراسة المقررة , لذلك اتفقت معهم على أن يحضر الأستاذ إلينا مرة كل 4 أسابيع , ويدرس عضو هيئة التدريس بالمعهد الأسابيع الثلاثة الأخرى تحت إشراف الأستاذ ومن كتابه . فكان كلما جاء أحد الأساتذة , فإنه يجتمع بأعضاء المعهد ويطلع على ما درسوه , ثم يكمل هو الموضوعات مع الطلاب . . . وهكذا دواليك كل شهر .

اطمأننت تماما لمستوى التدريس , فهو لا يقل بحال عن مستواه في جامعتي القاهرة وعين شمس . الذي اعتمدت عليهم من أعضاء المعهد كانوا أربعة :

إبراهيم مهدي , الذي قبل أن يكون مدرسا من خارج الهيئة , وساعدته في التسجيل للماجستير فالدكتوراه مع الدكتور عادل عز بكلية تجارة القاهرة . وقد حصل على الدكتوراه وسار في الطريق الطبيعي , ورقى إلى أستاذ مساعد ثم إلى أستاذ . وهو الآن عميد الكلية ويديرها بكفاءة منقطعة النظير . أنور اسكندر , الذي قبل أن يتحول من أستاذ مساعد إدارة أعمال إلى مدرس من خارج الهيئة للغة الانجليزية , وكان عونا لي في الامتحانات واتسم بالخلق الكريم والأمانة . جورج فيغالي , المدرس من خارج الهيئة للغة الفرنسية .

صفوت البسيوني , الذي كان أستاذا مساعدا بالمعهد , ورشحته ليكون أمينا مساعدا للجامعة حين خلت تلك الوظيفة , فعينه رئيس الجامعة أمينا لها , ثم استقال مفضلا الأعمال الحرة .

جاء موسم الامتحانات . فشكلت لجان المراقبة من :

_ أعضاء الهيئة القضائية بالمنصورة

_ المديرين الماليين للشركات

_ أعضاء النيابة العامة

_ مديري البنوك

_ أعضاء النيابة الإدارية

_ وكلاء الوزراء بالمحافظة

_ أعضاء الرقابة الإدارية

_ موجهي التعليم بالمحافظة

وضممت إليهم المعيدين والمدرسين المساعدين الذين تم تعيينهم حديثا , واخترناهم من كلية التجارة بجامعة القاهرة . وبذلك منعت أعضاء هيئة التدريس بالمعهد والمعيدين المعينين به من مباشرة أي نشاط في الامتحانات , سواء في المراقبة أو الملاحظة .

وعهدت إلى قدامى المدرسين – الذين رشحتهم نقابة المعلمين بأعمال الملاحظة , ثم قررت أن يكون الامتحان في خيمة كبيرة مفتوحة لسهولة الملاحظة , بعد أن كانت تتم من قبل في غرف الدراسة المغلقة .

كلفت كل أستاذ بأن يضع امتحانه , ويسلمه لي في ظرف مغلق , ووضعت الأظرف في الخزانة الحديدية بمكتبي . وفي يوم الامتحان , أبيت في استراحة أعددتها بالكلية , وأقوم بعد صلاة الفجر , وأكتب الامتحان على الآلة الكاتبة على ورق الاستنسيل . وفي الساعة السابعة صباحا , أصحب لجنة طبع الأسئلة , وهي مكونة مني والأستاذ أنور اسكندر وكاتب آلة ( احتياطي ) ورئيس السعاة ( لإدارة آلة الطباعة ) . وخصصت غرفة للطباعة كانت مخصصة من قبل كاستراحة للبنات وملحق بها دورة مياه .

كنا ندخل الغرفة في الساعة السابعة صباحا , ونطبع الامتحان في المادة التي سيختبر فيها الطلاب في ذلك اليوم , ونوزع الأسئلة على الظروف بحسب عدد لجان الامتحان , ثم أصحب رئيس السعاة حاملا الأسئلة إلى الخيمة . وبعد نصف ساعة من بداية الامتحان أعود إلى الغرفة فافتحاها ليغادرها من فيها . . . كل ذلك حتى لا تتسرب الأسئلة . ثم أصدرت قرارا بأن يتم التصحيح بالكلية , وأنه غير مسموح بإخراج أية أوراق إجابة منها , فيما عدا ما يحمله أساتذة جامعتي القاهرة وعين شمس معهم ليصححوا بمنازلهم كما اعتادوا .

ونظرا لأن إيرادات التصحيح تعد رزقا هاما لأعضاء هيئة التدريس , فلم أشيء أن أحرم أعضاء المعهد من هذا الرزق , لذلك قررت ألا ينفرد المصحح بورقة , بل عليه أن يصحح سؤالا واحدا فيها , والذي يصحح السؤال الأخير هو أستاذ المادة والذي عليه أن يراجع تصحيح من سبقه من المصححين .


على أنغام الموسيقى

نظرا لأن الطلاب يكونون متوترين أثناء الامتحان , أعددت إذاعة داخلية في الخيمة , تذيع أغاني أم كلثوم قبل الامتحان بنصف ساعة والى أن يبدأ , ثم تتوقف , وفي أيام امتحانات المواد التي تحتاج إلى تفكير هادئ كمواد الرياضة والإحصاء وبحوث العمليات ورياضيات التأمين وما إليها , كنا نذيع موسيقى خفيفة تريح أعصاب الطلاب , لدرجة أن جريدة الأخبار نشرت خبرا يقول : طلاب كلية التجارة في جامعة المنصورة يؤدون الامتحان على أنغام الموسيقى ( صورة هذا الخبر منشورة فيما يلي ) .


ضبط الغش

بقدر ما كنا بأحوال الطلاب الجادين , كنا نحارب الانحراف بشدة وعنف . ففي اليوم الأول للامتحان ضبطنا 53 طالبا متلبسين بالغش . وكنت كلما ضبطنا أحدهم , أذيع في الميكرفون في أنحاء الخيمة , بأنه ضبط الآن الطالب فلان الفلاني متلبسا بجريمة الغش , وألغى امتحانه كله هذا العام , وأحيل إلى مجلس التأديب . في اليوم التالي ضبطنا 10 فقط , وفي اليوم الثالث ضبطنا أربعة ثم امتنع الغش بعد ذلك , إلا فيما ندر عندما يحضر طالب الامتحان في مادة تخلف فيها من العام السابق ولا يعرف شيئا عن أسلوبنا في إدارة الامتحان .

كان الفضل في ضبط الغشاشين يرجع إلى يقظة الدكتور إبراهيم مهدي والدكتور فتحي محرم والدكتور محمد سويلم والدكتور حاتم قابيل والدكتور طلعت أسعد والدكتور ناجي خشبة , وكلهم كانوا معيدين أو مدرسين مساعدين في ذلك الوقت .

ومما يذكر أنه في العام التالي , تقدم طالب بتقرير طبي من مستشفى الجامعة , بأنه مريض وملازم الفراش بالمستشفى , ويطلب تشكيل لجنة خاصة لامتحانه هناك . سألت عنه فعرفت أن والده كبير الممرضين بالمستشفى , فشكلت لجنة ملاحظة من اثنين من المعيدين الجادين المتمسكين بالمثل العليا , وذهبا يراقبانه أثناء تأدية الامتحان . لاحظا أنه يجلس بالقرب من النافذة ووجهه إلى الضوء , فطلبا منه تغيير اتجاه مقعده حتى لا يؤذي الضوء بصره أثناء الإجابة . فرفض . فأثار ذلك شكهما . ففحصا النافذة , وإذا بمذكرات كاملة مكتوبة على ضلفها الزجاجية وجوانبها بقلم دقيق . كان الطالب قوي البصر وأعد الإجابات ليغش منها . أثبت الملاحظان ذلك في محضر . وأتيا لي بالطالب الذي تبين أنه متمارض , وألغى امتحانه كله وأحيل إلى مجلس تأديب , كما تلقى الطبيب الذي كتب تقريرا بأنه مريض وملازم الفراش إنذارا من مدير المستشفى بعد شكوانا له.


وساطات

ومما يذكر أيضا بهذه المناسبة , أن أحد الطلاب في اختبارات 1976 , ضبط متلبسا بالغش هو وطالب آخر , بالرغم من أني في أول أيام الامتحان كنت أذيع على الطلاب نص مادة الغش في قانون الجامعات , وكنت قد علقت على باب خيمة الامتحان نص تلك المادة وتحذيرا للطلاب للامتناع عن الغش . هذا الطالب ضبط متلبسا , فأذعت في الميكرفون واقعة ضبطه وإلغاء امتحانه وتحويله إلى مجلس التأديب .

وفي عصر ذلك اليوم وأنا جالس في مكتبي بالكلية , وإذا بمكالمة من سكرتير عام المحافظة , يحييني فيها باشتياق ويطلب موعدا لكي يزورني فيه بسبب موضوع يؤرقه . سألته عن ذلك الموضوع فقال : إن الطالب فلان ( الذي ضبط مع آخر يغش في ذلك اليوم ) يتيم الأب , وأمه منزعجة لضياع مستقبل ولدها , وأنه من الرحمة التجاوز عن هذه الواقعة . قلت له : إن الموضوع قد انتهى وصدر قرار إلغاء الامتحان وبلغ للجامعة . قال : أكلم رئيس الجامعة. قلت له : حتى لو كلمته فهو أكثر تشددا مني .

وبعد ساعة جاءتني مكالمة أخرى من أمين الاتحاد الاشتراكي – ولم أكن قد تعرفت به من قبل - وبعد التحية سألني عن السبب في أني لا أزورهم ولا أشاركهم في العمل السياسي والاجتماعي , ثم تطرق من ذلك إلى ذات الطالب الذي ألغى امتحانه . قلت له : إن الموضوع قد انتهى أمره , ولا نستطيع أن نكيل بكيلين . وبعد ساعة أخرى حضرت والدة الطالب , فقابلتها بجفاء وأفهمتها أن الخطأ خطأها لأنها لم ترب ابنها التربية الصالحة , فانصرفت باكية .

وفي اليوم التالي , حكيت في بداية الامتحان ما حدث معي مساء اليوم السابق , وقلت للطلاب : إن مهمتنا هي تحقيق العدالة بين الطلاب , فإذا شددنا في الامتحانات فهذا لصالحهم . ونحن لا نفرق بين طالب وآخر , ولا ميزة عندنا لابن الوزير على ابن الغفير , فكلهم أمام القانون سواء .

في آخر الأسبوع توجهت إلى منزلي بالقاهرة , وإذا بمكالمة من الأستاذ جلال الدين الحمامصي الصحفي المشهور والذي كنت أعرفه منذ عام 1957 , وسألني عن مدى صحة واقعة هذا الطالب فأجبته بصحتها , وسألني عمن حاول التوسط له , ولما وعد بألا ينشر اسميهما أبلغته بهما . وفي اليوم التالي فوجئت بعموده " دخان في الهواء " وقد نشر فيه الواقعة تحت عنوان " قصة معبرة مهداة إلى المسئولين " . قال لي جلال الحمامصي إن طالبا من طلابي ذهب إليه وأبلغه قصة ذلك الطالب , وقال له : لقد كنا يائسين من إصلاح هذا البلد , إلى أن سمعنا حديث الدكتور عساف معنا , حينئذ استبشرنا خيرا بالمستقبل . . . . الخ ( صورة مقال جلال الحمامصي منشورة بالصفحة التالية ) .


قصة أبو . . .

أثناء التصحيح في عامي الأول بالمنصورة , حضر إلى مكتبي الأستاذ مكرم عبد المسيح , ومعه كراسة إجابة في مادة التكاليف وقال إنه يشك في تلك الكراسة . ( هو الآن أستاذ المحاسبة بجامعة قناة السويس ) .

كان مكرم عبد المسيح مدرسا مساعدا . وكان يبيت في الكلية مع باقي المعيدين والمدرسين المساعدين في الاستراحة التي أعددتها لهم كمعسكر أثناء الامتحانات . وكانوا يقومون فجر كل يوم للصلاة . ولم يكن الماء قد وصل إلى الدور الذي فيه الاستراحة , فكان الأستاذ مكرم يقوم معهم ويصب لهم الماء من الإبريق للوضوء . شكر الله له وجزاه خيرا .

أخذت منه الكراسة وتطلعت فيها . الطالب لم يجب شيء , واكتفى بكتابة الأسئلة دون إجابات . قال لي مكرم إن الفراغات الموجودة بعد الأسئلة ستملأ بالإجابات , وهذا أسلوب معهود من أيام المعهد .

حملت الكراسة وعرضتها على رئيس الجامعة وأبلغته بالشك فيها , وأني سأصورها كما هي ثم تسلم بعد ذلك للمصحح . أقرني على خطتي .

بعد يومين جاءني الأستاذ حامد شعبان ( هو الآن أستاذ المحاسبة بجامعة طنطا ) وفي يده كراسة في مادة المراجعة , وقال : إني أشك في هذه الكراسة . اطلعت عليها فوجدتها شبيهة بالكراسة الأخرى الخاصة بمادة التكاليف . قارنت الكراستين ببعضهما . وجدت أنهما لطالب واحد , وأن الطالب كتب في أول صفحة كلمة البسملة , وفيها الباء بغير نقطة تحتية , والهاء في لفظ الجلالة عليها نقطتان , وكأنه يقول باسم اللات . والعياذ بالله .

كشفنا عن اسم الطالب , وعرفت أنه ابن متعهد الأسمنت بالمحافظة , وعلمت أنه كان يأخذ دروسا على يد أحد أساتذة المعهد , وكانت وزارة التعليم العالي قد أجرت تحقيقا مع هذا الأستاذ في العام الفائت , ولكن لم يثبت التهمة عليه لعدم كفاية الأدلة . طلبت أسماء الطلاب الآخرين الذي أجرت الوزارة معهم التحقيق , فوافوني بأسماء خمسة طلاب . طلبت كراساتهم في المادتين المشكوك في أمرهما , فوجدت طالبا آخر هو ابن متعهد النقل بالمحافظة , قد حذا حذو أخيه في الإجابة , وترك فراغات بعد رؤوس الأسئلة .

كلفت الأستاذ إبراهيم مهدي بتصوير الكراسات الأربعة , وكان ذلك في الساعة الثانية عشرة مساء , ثم طلبت رئيس النيابة العامة باعتباره عضو لجنة المراقبة , فحضر إلى مكتبي وهو مرتد البيجامة . عرضت عليه الأمر , فأبلغني بكيفية معالجة الموضوع حتى لا يتعرض للطعن من الوجهة القانونية . وبناء على نصيحته شكلت لجنة مني ومن وكيل وزارة المالية ومدير بنك مصر وهما من خارج الكلية وعضوان بلجنة المراقبة , لمضاهات أصل الكراسات الأربع مع صورها والتوقيع على كل صفحات الصور بأنها صورة طبق الأصل . ثم سلمت الكراسات الأربع لأنور اسكندر الذي كان مختصا بتوزيع الكراسات على المصححين , لوضعها في أماكنها في ظروف إجابات الطلاب . طلبت من الأستاذ يحيي عبيد المدرس المساعد ( هو الآن أستاذ للمحاسبة في المنصورة ) بأن يغيب عن الكلية , حتى يبدأ الأستاذ ( أبو . . . ) في التصحيح وحده , ولا تتاح له الفرصة بأن يلقي التهمة فيما بعد على من صحح قبله .

أبلغت المشرف على قسم المحاسبة بالواقعة , حتى لا يتهمني بأني أهملته في مثل هذا الأمر الهام . وإذا ب " أبو . . . " الذي كان يدرس هاتين المادتين مع الأستاذين المنتدبين من القاهرة وعين شمس , يكلمني في الصباح الباكر , قائلا إنه تلقى مكالمة من القاهرة بالنداء الآلي من شخص لم يفصح عن اسمه , يحذره من أن هناك تلاعبا في ورقتين ! ! كاد الموضوع أن ينكشف ! !

رددت عليه بحدة وغضب : يا أستاذ ( أيو . . . ) أعلم أن الامتحانات أن الذي أديرها , وإذا كان هناك تلاعبا فأنا المسئول عنه , وأنا لا اسمح لك أو لغيرك بأن تسيئوا لسمعة امتحاناتنا التي تتسم بالدقة التامة واتخاذ كل حيطة ممكنة . . . اطمأن باله . . وأخذ يصحح . . وفي اليوم التالي أتاني الأستاذ أنور اسكندر بالكراستين , فإذا بهما مختلفتان عن الصورتين اللتين عندنا , والفراغات ملئت , كما أن صفحة كاملة كانت متغيرة تماما في كل كراسة . في حين أن الإجابات متطابقة في الكراستين وبخط الطالبين .

في اليوم التالي : جاءني الأستاذ ( أبو . . . ) يقول إنه لاحظ أن كراسات مادة التكاليف في غير مكانها من الترتيب في الأظرف . فقلت له إني أنا الذي أمر بذلك حتى لا تنكشف الأرقام السرية إذا كانت متتابعة . فاطمأن كذلك , وقام بالتصحيح , وجاءني الأستاذ أنور بالكراستين في مادة التكاليف وهما مختلفان تماما عن الصور الأصلية .

كان الأستاذ ( أبو . . . ) يخلع دبوسي الكراسة , ويأخذ الورقة أو الورقتين اللتين سيغيرهما معه داخل الجريدة التي يحملها في يده , ويسلم الظرف للأستاذ أنور , الذي يحصي عدد الكراسات فيجدها مضبوطة . وطبعا هو لا يحصى عدد أوراق كل كراسة . ثم يأتي الأستاذ ( أبو . . . ) في اليوم التالي ويطلب الظرف لإكمال التصحيح , ويجري ما يشاء من تعديلات في الكراسات بإضافة الإجابات الصحيحة للطالبين , والتي يكون قد أملاها عليهما في منزله في الليلة الفائتة .

كتبت تقريرا لرئيس الجامعة بجميع الوقائع , مرفقا به صور الكراسات الأصلية , والكراسات الأصلية , والكراسات التي حدث بها التزوير . وكان للأستاذ ( أبو . . . ) ابن نخاف على مستقبله إذا أحيل أبوه للنيابة العامة لأنه سوف يسجن ويفصل من العمل , ففصلنا إبلاغ الواقعة للنيابة الإدارية اكتفاء بفصله وحفاظا على مستقبل ولده .

حققت النيابة الإدارية في الموضوع , وأثبتت في تقريرها جميع الوقائع السابقة , وحققت مع الطالبين الذين أنكرا التزوير أو صلتهما ب ( أبو . . . ) ولما سئلا عن كيفية تطابق إجاباتهما , قالا إنهما غشا من بعضهما , وكان هذا سببا كافيا لفصلهما .

المجلس وقرر إحالته لمجلس تأديب وزارة التعليم العالي للاختصاص , بالرغم من أن الدكتور عبد المنعم البدراوي أستاذ أساتذة القانون , قال بأن مجلس تأديب الجامعة هو المختص لأن الجريمة وقعت عندنا . ذهبت مع الدكتور البدراوي إلى الدكتور حافظ غانم , ومعنا ملف القضية موقعا على كل صفحاته المرقمة والتي بلغت حوالي 700 صفحة , فتسلمه , ونادي مدير مكتبه وأعطاه الملف قائلا , يعرض هذا على مجلس تأديب الوزارة فورا .

مضى عام كامل . ثم علمت أن ( أبو . . . ) يعمل في معهد آخر – بالرغم من أن هناك قرار صدر بوقفه عن العمل من جامعة المنصورة , وهو ساري المفعول في أية جهة أخرى – وأنه يقوم بالتدريس وأعمال الرقابة على الامتحانات والتصحيح , وكأن شيئا لم يحدث قط .

وفي جلسة في مرسي مطروح جمعتني مع الأستاذ محسن محمد – رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير الجمهورية – كان يحكى عن انحرافات بعض كليات الجامعة . حكيت له القصة السابقة , فطلب تقرير النيابة الإدارية واطلع عليه , ثم كتب مقالا في جريدة الجمهورية بعنوان : " لماذا يتكلم الناس عن الانحراف ؟ " ذاكرا الوقائع السابقة ومستنكرا النتيجة التي انتهت إلى لا شيء .

وفي الصفحة التالية صورة لذلك المقال , الذي انتهى إلى طلب إجراء تحقيق بواسطة النيابة العامة أو المدعى العام الاشتراكي .

فوجئت بعد أيام بدعوى جنحة مباشرة مرفوعة علي وعلى الأستاذ محسن محمد بأننا طعنا في ( أبو . . . ) واتهمناه بتهم باطلة أساءت إلى سمعته . . . بعد 3 جلسات حكمت المحكمة برفض الدعوى . . . ثم فوجئت مرة أخرى بدعوى تعويض , رفعها ( أبو . .) ضدي وضد محسن محمد وضد الجامعة بالتضامن , قيمتها 100 ألف جنيه تعويضا عما أصابه من أضرار بسمعته . . . لم يكن أمامنا عندئذ إلا نبلغ النيابة العامة بالواقعة , وليسجن أو يضار ابنه , فهو الجاني على نفسه .

طلبنا الملف من وزارة التعليم العالي , فتبين أنه قد فقد ! ! ! علمت بعد ذلك أن ( أبو . . . ) قد اشتراه بمبلغ كبير وأعدمه .

استمرت دعوى التعويض 16 سنة ما بين حكم ابتدائي واستئنافي ونقض , كلفتني ما يزيد على 500 جنيه – بأسعار ذلك الوقت – كأتعاب للمحاماة .

صار أعضاء هيئة التدريس بالجامعة يتهاونون في الامتحانات , حتى لا يحدث لهم ما حدث لي , إلى أن تولى الدكتور إبراهيم مهدي عمادة الكلية فأعاد الأمور إلى نصابها , وطبق الأسس والمثل التي اعتاد عليها معي . وهكذا كنت أطبق مبادئ الإمام الشهيد في الأخلاق والتمسك بالحق والصبر عليه .

وفي عام 1989 , اتصل بي أحد أصدقائي السعوديين متسائلا عما إذا كنا قد منحنا درجة الدكتوراه في المحاسبة عام 1973 ؟ قلت له :

لا يمكن فالكلية أنشئت في منتصف ذلك العام . فقال : إن شخصا ما قد تقدم لشغل وظيفة مدير مالي لإحدى الشركات , وقدم شهادة فيها شيء من التشويه باعتبارها صورة من الشهادة الأصلية , ومصدقا عليها من وزارة الخارجية , تقول إنه حصل على درجة الدكتوراه في المحاسبة من كلية بتوقيع المراقب , الذي كان قد مات في ذلك العام .

أخبرته بأنه مزورة ( أنشر صورتها فيما يلي ) . وكان من سوء حظ ( أبو . . . ) أن يعرض علي بالذات هذا الموضوع . فسبحان الله الذي لا يضيع عنده الحق , وصدق المثل العامي : " يموت الزمار وصابعه يلعب " ! ! ! هكذا كانت كلية تجارة المنصورة نقطة تحول في حياتي وحياة العشرات من أعضاء هيئة التدريس ومئات الطلاب , الذين أعتز بهم , وأقابل الكثيرين منهم مصادفة فيلاقوني بشوق وتقدير , وأحس أني قد أنجبت المئات من الأبناء البررة .


الشراقوة عزموا الوابور

اختارني صاحب برنامج " لقاء الثلاثاء " في التليفزيون , حين كنت عضوا باتحاد الإذاعة والتليفزيون عام 1972 وأنا أستاذ بكلية التجارة , فقدمني للمشاهدين لأقدم برنامجا عن الإدارة . . قدمت البرنامج وكان شيقا : فيه إدارة الناس , والمديرين الشاذين ( قدمه أحد علماء النفس ) وإدارة الحيوانات ( قدمها مدير السيرك القومي ) وإدارة الفيلم السينمائي ( قدمتها الفنانة ماجدة ) . ثم سألتني السيدة سلوى حجازي مقدمة البرنامج عن بلدي الأصلي . قلت : الشرقية . فقالت : هل صحيح أن الشراقوة عزموا الوابور ؟ قلت نعم , وذلك قصة :

كان ذلك في افتتاح الخط الحديدي بين الإسماعيلية و القاهرة , وكان أول قطار يمر على بلدة القصاصين وقت أذان المغرب , وهو يحمل العشرات من رجال الدولة والسفراء والأعيان . . فكر أهل البلدة بكرمهم الشرقاوي العتيد , وقالوا ليس معقولا أن يمر هؤلاء أمامنا وقت المغرب ولا يفطرون . . فأخرجت أسر البلدة عشرات الصواني وعليها الطعام , القلل المليئة بالماء البارد , ووضعوا الصواني على قضيب القطار, ثم نبهوا السائق فوقف . ونزل الناس وافطروا . . . فقيل : الشراقوة عزموا الوابور – أي ركاب الوابور . فإذا قال الله تعالى : " بلدة طيبة ورب غفور " فإنما يقصد سكان البلدة وليس مبانيها . كانت سلوى حجازي سيدة وعلى خلق عال , ولذلك اختطفها الموت وهو في عز شبابها . سبحان الخلاق العظيم ! !

في عام 1976 سافر وفد من جامعة المنصورة إلى أمريكا على حساب هيئة التنمية الدولية الأمريكية ( A . I . D ) , لزيارة ست جامعات أمريكية . وكان الهدف من الزيارة هو تقييم مناهجهم الدراسية في مرحلتي البكالوريوس والدراسات العليا , ومقارنة تلك المناهج بمناهجنا للعمل على تطويرها .

أنزلونا في فندق امبريالي في نيويورك بالشارع السابع , وهو شارع الملاهي بالمدينة . وكان إلى جوار الفندق ملهى تنبعث منهن أصوات موسيقى صاخبة , وكنا نمر على ذلك الملهي في الذهاب والإياب ولا نلقى له بالا . وفي مساء أحد الأيام كنت أنا والدكتور حسين غالب عثمان عميد كلية علوم المنصورة وقتئذ , خارجين من الفندق لشراء بعض اللوازم , فوجدنا باب الملهى نصف مفتوح , ولمحنا امرأة عارية تماما ترقص على ما يشبه المنصة , وبالباب رجل في أواخر الخمسينات من عمره , يغري المارة على الدخول . . . لاحظ الرجل أننا نتكلم باللغة العربية باللهجة المصرية الدارجة , وإذا به يزعق بصوت عال بلهجة مغربية " خلق فصور . . . سبحان الخلاق العظيم ! ! " وهكذا طوع هذا الرجل القرءان لأغراضه , واستخدمه في الدعاية لسلوك آثم .

لم يكن العاملون بجامعة المنصورة أسوياء في تصرفاتهم , فيما عدا الفترة التي تولى رئاستها فيها الدكتور عبد المنعم البدراوي , حيث أضفى على الجامعة سلوكا عاما نابعا من خلقه واستقامته ودينه , وهكذا مدير أي عمل , يجعل عمله متخلفا بأخلاقه هو .

في أول الفترة التي توليت فيها شئون كلية التجارة , كان أيمن ابني قد قبل في كلية الهندسة بجامعة القاهرة , وكانت ميوله كلها نحو الطب . وعلمت بعد أن قضى عاما بالهندسة أن هناك مكانا قد خلا لأحد الطلاب من دفعته من أبناء هيئة التدريس في طب المنصورة . كنت قد كلفت بعض الأصدقاء بمتابعة إدارة كلية الطب للتعرف على خلو مكان بها متى حدث . غير أن هؤلاء الأصدقاء لم يهتموا بالأمر , وعلمت مصادفة أن هناك مكانا قد خلا , وأن الكلية رشحت أحد خريجي الثانوية العامة , وهو ابن لأستاذ التخدير بطب القاهرة , لكي يشغل ذلك المكان , بيد أن مكتب التنسيق رفض الموافقة على ذلك , وأمر بأن يعلن عن ذلك المكان بين المستحقين له من أبناء أعضاء هيئة التدريس , وكان أيمن ابني الثالث وابنتي في المحل الرابع . وابن أستاذ التخدير الخامس في الترتيب .

ذهبت إلى الكلية أسأل , ففوجئت من المسجل أنه قال لي : لقد أبلغناك عن المكان وطلبنا منك ردا خلال 15 يوما , فإذا لم يصل منك رد فيكون معنى هذا تنازلا منك , واليوم هو أخر الموعد . قلت له أنا . متمسك بهذا المكان لأحد ولدي , وكتبت له مؤيدا ذلك وجعلته يوقع على صورة الطلب بأنه تسلم الأصل .

كانت مؤامرة صغيرة , حيث قال لهم أحد الأساتذة , وهو صديق لأستاذ التخدير : أعطوني الخطاب الموجه للدكتور عساف , وأنا أعطيه له . . . طبعا لم يعطه لي إلى أن تفوت الفرصة , بالرغم من أني كنت أراه كل يوم تقريبا .

كان هناك اثنان يسبقان ابني أيمن . الأول : ابن الدكتور علي إبراهيم الأستاذ بطب القاهرة , وقد التحق بكلية الطب في ليبيا حيث كان والده الطبيب الخاص للعقيد القذافي في أوائل أيام الثورة الليبية . ذهبت إليه أطلب منه التنازل عن المكان فوافق ووعدني بإعطائي خطابا منه بذلك مختوما بخاتم طب القاهرة . ذهبت إليه في الموعد المحدد فوجدته قد غير رأيه حيث أن الدكتور . . . رضوان أستاذ التخدير هدده بألا يتعاون معه أبدا إذا أعطاني التنازل . سألت الدكتور علي إبراهيم : أهذه أخلاق أساتذة ؟ قال : لا . ثم أعطاني التنازل .موقعا عليه ومختوما بخاتم كلية الطب بجامعة القاهرة . صورت التنازل وسلمت الأصل لمسجل كلية الطب بالمنصورة .

أما الشخص الثاني فكان ابن عميد حقوق عين شمس , وكان قد التحق بالكلية الفنية العسكرية , وهو سعيد بذلك , ذهب أيمن ابني إليه في كليته , وحصل منه على التنازل عن المكان موقعا عليه من مدير الكلية ومختوما بخاتمها . قدمت هذا التنازل كذلك لمسجل كلية الطب , وقلت له : أظن أنه لا يوجد الآن ما تعترضون به على قبول ابني طالبا بالكلية . . . ذهبت معه إلى العميد , وعرض المسجل عليه الموضوع قائلا : ماذا نعمل الآن ؟ فقال العميد : لا مفر من قبول ابن الدكتور عساف . انتهزت الفرصة , فدفعت الرسوم واستخرجت بطاقة لأيمن حيث كنت أحتفظ معي بصورة فوتوغرافية له .

بعد حوالي الشهر , فاجأنا عميد كلية الطب في اجتماع لمجلس الجامعة , بأنه ورد له خطاب من الدكتور علي إبراهيم يقول فيه إنه لم يتنازل عن مكان ابنه , وأنه متمسك به . طلبت الاطلاع على الخطاب فوجدته مرسل من القاهرة , وليس بخط الدكتور علي إبراهيم , في حين أني كنت أعلم يقينا بأن الدكتور علي إبراهيم في طرابلس الغرب . قلت أمام المجلس : إني أطعن في هذا الخطاب بالتزوير , وأرجو إحالته للنيابة العامة للتحقيق . . . أسقط في يد عميد الطب , وأنقذ الدكتور محمد عبد المقصود نائب رئيس الجامعة – والذي كان يرأس تلك الجلسة – الموقف وقال : هل دفع ابنك الرسوم ؟ قلت : نعم . قال : وهل استخرجت له بطاقة ؟ قلت : نعم . قال : الموضوع انتهى , وطلب من عميد الطب سحب الخطاب المزور .

تلك واقعة حدثت في أوائل التحاقي بهذه الجامعة . أما الواقعة الثانية , فحدثت بعد إحالتي للمعاش , وكان الدكتور البدراوي والدكتور النادي قد أحيلا إلى المعاش كذلك . ذلك أنه تأسست جمعية إسكان بالجامعة , وكنت من أوائل المنضمين لها . وطلبوا مني أن أسدد 1500 جنيه كمقدم لجزء من قطعة أرض اشترتها الجمعية لتوزيعها على الأعضاء . ثم طلبت 1500 جنيه أخرى – وكان ذلك منذ أكثر من 10 سنوات , وكان مبلغ إل 3000 جنيه يعادل 60 ألفا بسعر اليوم . أبرموا معي عقدا ومنحوني قطعة أرض برقم معين وذلك ضمن 48 عضوا . وكان ذلك حينما كنت ما زلت بالخدمة .

بعد الإحالة للمعاش بأربع سنوات , أفاجأ بأن الجمعية قد فقدت قطعة أرض أخرى اشترتها ووزعتها من قبل على 24 عضوا . ولكي تجامل الأعضاء الذين وزعت عليهم تلك القطعة , قررت توزيع القطعة الأولى على الجميع أي على 72 عضوا . ولما كانت تلك القطعة لا تكفي الأعضاء المسددين لثمن الأرض فقد قرروا أن : تمنح الأرض للأعضاء وفقا لأسبقية دفع الثمن . كنت قد دفعت الثمن من زمن بعيد , وسمعت أن هناك تلاعبا حدث في دفاتر الجمعية . والأمر الآن معروض على القضاء , والله يعلم متى سيفصل القضاة فيه .

هكذا نحن ! ! نتملق بعضنا ما دامت هناك مصالح تربطنا , فإذا انفكت عقدة تلك المصالح وانفرطت تنكر بعضنا للبعض الآخر.

أعود إلى كلية التجارة بالمنصورة فأقول : لقد وجدت في أخوتي الصغار من أعضاء هيئة التدريس بتجارة المنصورة , الوفاء كله :

_ كتب الدكتور ناجي خشبة والدكتور أحمد غنيم إهداء على كتابهما في " إدارة الإنتاج " , هذا نصه :

تحية وتقدير

الوالد الكريم والمعلم الفاضل الأستاذ الدكتور محمود عساف مؤسس ملية التجارة بجامعة المنصورة وأول عميد لها نهلنا منك علما , فكنت نعم المعلم , وأشبعتنا حنانا وعطفا,فكنت نعم الأب فإذا قبلت تحيتنا وتقديرنا لك ,بإهدائنا هذا العمل لسيادتك , فسوف يزيد فضلك علينا فضلا جديدا

نتمنى لك موفور الصحة وعظيم التوفيق ..

تلميذاك

_ وكتب الدكتور إبراهيم مهدي لافته تستقبلني عند دخولي الكلية لمناقشة رسالتي ماجستير :

بكل الحب والوفاء الأستاذ الدكتور إبراهيم مهدي عميد الكلية يرحب بالأستاذ الدكتور محمود عساف مؤسس الكلية وأول عميد لها وسمي مجلس الكلية أول مدرج استخدم فيها , بأسمى ثم عينوني أستاذا غير متفرغ لإدارة الأعمال بالكلية التي أمل أن أظل مرتبطا بها إلى نهاية عمري . . . . بل إن دليل الكلية صدر يحمل صورتي , ومهدي إلى مثلما هو وارد في الصفحة التالية .

لقد خرجت حتى كتابة هذه السطور : 31 من حملة الماجستير و 28 من حملة الدكتوراه منتشرون في العالم العربي : في مصر و سوريا و الأردن و العراق منهم الآن 6 أساتذة كاملي الأستاذية , أحمل لهم كل الحب وأتابع أخبارهم ويتابعون أخباري وأتمنى أن ألقاهم دائما على خير .

بعد أن أحلت عل المعاش وأنا عميد لكلية التجارة بالمنصورة , عملت أستاذا لإدارة الأعمال بجامعة الملك عبد العزيز ثم مستشارا للشيخ صالح كامل أحد كبار رجال الأعمال السعوديين , وانشغلت في الأعمال الخيرية التي لها ثواب الآخرة وهو أفضل من ثواب الدنيا بكثير . وسوف اكتب عن تلك الفترة في طبعة أخرى من هذا الكتاب إذا شاء الله وامتد بي العمر .

الباب الثالث

الفصل الثامن : فراغ فكري وروحي

كان الشباب فيما قبل يعاني من الفراغ . وكان تفكير معظم الناس سطحيا وكان الفقر والجهل والمرض في ذروة الانتشار . وكانت القيم منتقده بين غالبية الناس .

كان عصر ما قبل تعرفي بالإمام الشهيد , عصرا عجيبا لا يمت للإسلام بصلة . وكان الشباب من أمثالي منغمسا في دوامة الحياة , ينظر إليها نظرة سطحية , يسيطر عليه شعور باللامبالاة , يرى العيوب ولا يحس بها أو يعني بأمرها . كانت الوطنية مجرد شعارات وهتافات لا معنى لها .

في ذلك الوقت كان في مصر مئات الخمارات منتشرة في أرجاء المدن والمراكز ومحطات السكة الحديد . فبالقرب من كل محطة كان يوجد بار يملكه يوناني , وملحق به فرن أفرنكي , يبيع الخمر بأنواعها والخبز الفينو ويتجمع فيه السكارى إلى آخر الليل . . . اعتدنا على رؤية هذه البارات , فكنت أمر على إحدى خمارتين في أبو حماد ( محطة بلدي ) وأنظر إليها ولا أحس بأن هناك شيئا شاذا , فقد اعتدنا على هذا الفساد وتأقلمنا مع وجوده .


المدارس التنصيرية

كانت في المدن الصغيرة مدارس تنصيرية , اختار البعثات التنصيرية أماكنها بدقة , فأنشئوها حيث لا توجد مدارس حكومية . كانت مدرسة " الأمريكان " في أبو حماد هي المدرسة الوحيدة قبل إنشاء المدرسة الحكومية . وكان بها مستويان : التحضيري ( الروضة ) والابتدائي . وكان بها مجموعة من المدرسين كلهم مسيحيون من أقباط الصعيد , إلى جانب بعض المدرسات الانجليزيات .

التحقت بهذه المدرسة في أجازة الصيف وعمري 6 سنوات , حين كان والدي في أجازة , حيث كان عمله بالإسكندرية ونقضي معه العطلة في البلدة . . .في الصباح كان الناظر " فريد أفندي " يصلي بنا صلاة المسيحيين – ونحن لا نفقه شيئا مما يقول – ثم يوزع علينا صورا ملونة للقديسين أو للعذراء تحمل المسيح , وكنا نلعب بهذه الصور . . . كانوا يهتمون تعليم اللغة الانجليزية , وكان هذا هو السبب في إلحاقي بالمدرسة .

كانت البعثة التنصيرية التي تدير المدرسة وتمولها , في أسيوط . وكان المدرسون يردون للمدرسة من هناك ويتميزون باللهجة الصعيدية التي كانت تجعلنا نتندر عليهم .


بيوت الدعارة

امتلأت مصر في ذلك العصر ببيوت الدعارة الرسمية . فكان لها حي كامل في كل عاصمة من عواصم المديريات الست عشرة , بالإضافة إلى المحافظات . كانت تلك الأحياء في أماكن هامة على أطراف المدن , وكان الحي الموجود بالزقازيق يرى من القطار . كان منظرا مقززا أن ترى النساء شبه عرايا جالسات أمام بيوتهن , ورواد المتعة المحرمة يمرون عليهن يختارون البضاعة التي توافق أمزجتهم , ويساوموهن ثم يصطحب الواحد منهم المرأة إلى داخل البيت . كنا نرى ذلك بوضوح لأن القطار كان ببطيء جدا من سرعته أمام ذلك الحي بسبب انحناء القضبان .

حدث مرة في أول عام أذهب فيه إلى القاهرة , أن كنت جالسا في الترام المتجه من ميدان العتبة إلى ميدان باب الحديد , ووقف الترام بمحطته في أول شارع كلوت بك حيث حي الدعارة , وإذا بامرأة منهن تتقدم مسرعة إلى الترام حين بدأ سيره , وتخطف طربوشي . . . استعوضت الله فيه , واضطررت إلى شراء طربوش آخر بعشرين قرشا ( مبلغ كبير في ذلك الوقت ) لأنه لم يكن مسموحا لأحد بأن يدخل مدرسته أو كليته بغير طربوش .

كانت بيوت الدعارة الرسمية هذه تراقب صحيا من الدولة . . . ثم ألغاها إبراهيم عبد الهادي وقت الاعتقالات عام 1949 ليتظاهر بأنه مع الإسلام , ولم يضع لها أية ترتيبات . فخرج النسوة من بيوتهن , وانتشرن في داخل المدن , وتحولت بيوت الدعارة من رسمية إلى سرية ليست لها أية رقابة . فانتشر الفساد أكثر , وتفشت الأمراض السرية بين الشباب !

وفي تلك الأيام كانت تنعقد الأسواق الريفية مرة كل أسبوع في القرى , ولا بد في كل سوق من مقهى به راقصة ( غزيه ) ترقص وتغني لشباب الريف . وكانت تنعقد الموالد في القرى احتفالا بذكرى الأولياء – والله أعلم بهم – وفي المولد تقام الزينات وتمد الموائد للفقراء , إلى جانب انتشار الملاهي كالسيرك والغناء والرقص . . . وغير ذلك من المساخر التي كنا نجدها أمرا طبيعيا .

وعلى غرار ما كان يحدث في الموالد , كان يحدث في المقابر أيضا في المواسم والأعياد ! ! !


في مولد أبو مسلم

ذهبت مرة إلى مولد " أبو مسلم " والذي يبعد عن أبو حماد بحوالي خمسة كيلو مترات . ذهبت إلى هناك بسيارة ودفعت خمسة مليمات أجرا للنفر فيها . وقضيت النهار أتفرج على ما بالمولد . وفي المساء ذهبت إلى موقف السيارات فوجدت أن آخر سيارة قد غادرت المكان , ولا بد لي من المبيت حتى الصباح . . . لم يكن بأرض المولد أي مكان للمبيت , فصرت أبحث عن أي حد أعرفه لأقضى الليل معه وأتسامر وإياه . . فجأة وجدت أحد أهل بلدتي , وكان اسمه " السيد شغته " وكان مشوه الوجه , جالسا في خيمة صنعها من الخيش متخذا إياها كمقهى بلدي . جلست معه نتسامر , حتى حل بي التعب فنمت حيث جلست . أحسست به يضع مخدة تحت رأسي . . . وفي الليل سمعت هرجا ومرجا أيقظني لفترة , ثم نمت ثانية . وفي الصباح سألت " سيد " عما حدث بالأمس , فقال :

" إنها كبسة مباحث يبحثون عن الحشيش , ولكني كنت قد خبأته في علبة صفيح مدفونة تحت رأسك وأنت نائم . . . " لقد سلمني الله من هذه المصيبة التي لا يد لي فيها .

كان تقليد الأوروبيين على أشده , وكان عدد الجانب المنتشرين في أرجاء مصر هائلا . وكان منهم اليونانيون الذين احتكروا المقاهي والبارات , والأرمن الذين احتكروا البقالة وصناعة الجبن والبسطرمة , والايطاليون الذين أقاموا طواحين الغلال ومضارب الأرز في القرى . . . وكان تربية الخنازير أمرا مألوفا في أطراف المدن الكبرى .

وانتشر الإلحاد تقليدا للفكر الأجنبي والشيوعي , كما انتشرت الإباحية بين النساء فكن يظهرن شبه عرايا . . . وكانت الأفلام تظهر مدى الرقي بأن يكون قصر بطل الفيلم مزودا ببار , وإذا جاءه ضيف يقول له : " أعمل لك كاس ؟ " .

هكذا كانت مصر . . . ضباعا في ضياع , وحياة بغير هدف , ولا أي توجيه للشباب . وكان خطباء المساجد لا إخلاص عندهم , بل يؤدون وظيفة يؤجرون عليها , وكثير منهم كان يلجأ إلى الكتب المطبوعة والتي فيها نماذج من خطب الجمعة . . . خطب خطيبا مسجد بلدتنا يقرأ من ورقة , ثم لما حان وقت الدعاء قال : اللهم أحفظ سلطاننا قلاوون ! ! ( يرجى الرجوع إلى موضوع خطيب المسجد الذي ورد ضمن " أدب الرافعي " في الفصل الأول ) .

لم يكن رجال الأزهر يهتمون بنشر الفضائل إلا ما ندر منهم , المر الذي حدا بالإمام الشهيد لأن يكتب مقالا تحت عنوان : الدين غير رجال الدين .

وفي هذا الجو نشأ حسن البنا في أسرة مسلمة , أبوه الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا عالم الحديث ومؤلف الموسوعة الشهيرة في فقه ابن حنبل .

مما أذكره في هذه الفترة – أي قبل أن أعرف الإمام الشهيد – أحداثا وطرائف تدل على مدى التخلف الذي كان يعانيه الشعب , وما كان يفكر فيه الشباب – وأنا منهم – لكي يشغل وقته فيما يفيد وما لا يفيد .


قصة أم سيد

أم سيد هذه سيدة عجوز من قرية قريبة من فاقوس التي تقيم بها خالتي . وكنت أمضى بعض أيام الأجازة الصيفية هناك , وكانت أم سيد تتردد على الخالة التماسا للمساعدة . . . في يوم جلست إليها , وكانت عائدة على التو من القاهرة . قالت لي إنها في حياتها ما ركبت سيارة أو قطارا إلا في هذه المرة فقط , حيث اشتاقت لرؤية ابنها " سي " الذي ترك القرية إلى القاهرة منذ سنين . ركبت القطار ونزلت في محطة مصر , وهي لا تعرف عنوان ابنها . . . التقت بأحد الحمالين وسألته عما إن كان يعرف أين تجد سيد بن أم سيد ؟ فقال لها : تعالي معي إليه . قادها إلى الميدان خارج المحطة لتجد ابنها سيد جالسا على مقهى هناك ! ! لم يكن الأمر مصادفة كما يبدو في الظاهر , لأن " سيد " كان معروفا جيدا لكل العاملين في محطة مصر . سألتها : وكيف كان معروفا لهم ؟ , قالت : إنه مشهور جدا , لأنه يعمل , عقبال أملتك , شراط جيوب ! ! لم تكن أم سيد تعرف أن شراط الجيوب هو النشال , ولكنها ظنتها حرفة مثل الحائك أو صانع الأحذية ! ولم تكن أم سيد وحدها التي لم تركب القطار أو السيارة , بل كان معظم أهل الريف كذلك .


البيع والشراء حلال

كنت عائدا إلى بلدتي من الزقازيق . وبين المحطة والبلدة كيلو متران , كنت في العادة أقطعهما ماشيا . وكان الوقت عصر والجو يشجع على السير , وبخاصة وأن المزارع كانت تغطي جانبي الطريق ( تحولت كلها الآن إلى مساكن والتحمت القرية بالمحطة ) . . . وجدت أمامي " حلبي " وهو من الغجر الرحل , الذين كانوا يأتون إلى بلدتنا كل صيف من غرب العراق , ثم استقروا عندنا بعد ذلك يعملون في صناعة برادع الحمير والمفاتيح وبعض المصنوعات الجلدية . . . كان يسبقني ببضع خطوات , فلحقته لعلي أتسلى معه طوال الطريق . . وجدته يبكي ! ! سألته عما يبكيه فقال : قل يا بيه , هو الشراء والبيع حرام ؟ قلت : لا إنه حلال . قال : إذا لماذا ضربوني في المركز لأني اشتريت وبعت ؟ سألته أن يروي علي القصة , فقال : وأنا جالس في خيمتي الخيش مساء أمس , جاءتني امرأة مبرقعة , وقالت : أيمكن أن أبيت عندك الليلة ؟ قلت : لا مانع . ثم كشفت عن وجهها فإذا بها جميلة المحيا . سألتها عن حكايتها , فقالت : لا شيء , إنما أبيت عندك ثم أغادرك في الصباح . قلت لها : ألا تتزوجيني ؟ قالت بلا . دفعت لها المهر 15 مليما . وجلسنا نتعشى بالموجود . وإذا بأحد زملائي يرفع حجاب الخيشة , ويدخل علينا . قال : أتبيعها ؟ قلت بكم ؟ قال : ثلاثين مليما . قلت :

لا بأس . وبعتها وذهبت مع ذلك الزميل وباتت عنده . . . ثم في هذا الصباح الباكر حضر رجل من خارج البلدة يسعى , ويسأل عن امرأة وصفها للناس , فقالوا إنها كانت عند " حلبي " . جاءني الرجل وسألني عن المرأة فقلت : لقد بعتها مساء أمس . غضب الرجل وكاد يفتك بي لولا أن منعه الناس عني . ثم ذهب إلى مركز الشرطة في أبو حماد , وقدم بلاغا ضدي بأني اختطفت امرأته . بعثت الشرطة تستدعيني فذهبت لهم , وحكيت لهم القصة , فضربوني ضربا مبرحا طالبين أن أعترف بما فعلته بالمرأة ! قلت : بعتها ! قالوا  : بل قتلتها ! قلت : لا والله بل بعتها . فأخذوا يضربوني لكي أعترف بقتلها وإخفاء جثتها , ولا يصدقون أني بعتها , فأخذوا يضربوني لكي اعترف بقتلها وإخفاء جثتها , ولا يصدقون أني بعتها . ثم قال : " يا بيه , هو البيع والشراء حرام ؟ " .


الأزهريون

كنا ثلاثة أصدقاء : أنا في كلية التجارة , والثاني في الزراعة , والثالث في الآداب . وكلنا في السنة الأولى وكانت ثاني مرة نجيء فيها إلى القاهرة . وفي المرة الأولى حضرنا من الزقازيق لشهود احتفالات زواج الأميرة فوزية بولي عهد إيران . وعزمنا صديقنا الذي في الآداب لكي نتناول الغذاء على مائدة خاله الذي يسكن في شارع خيرت . استقبلنا الرجل بترحاب . . وهو رجل معمم يعمل قاضيا بالمحكمة الشرعية العليا , ومد السماط , وجاءت صينية البطاطس باللحم الضاني والسلطات , وإذا بزجاجة نبيذ توضع أمامه على طاولة الطعام . عزم علينا وقال : ألا تشربون ؟ قلنا : لا , لم نعتد على ذلك . قال : جربوا . قلنا : لا شكرا . . . . لم تطاوعني نفسي أن اسكت . سألته : يا مولانا أليس الخمر حرام ؟ قال : يا بني النبيذ ليس بحرام . . وهناك فتاوى لا نستطيع قولها للعامة من الناس ولكن يعرفها العلماء ! . . . تذكرت أنه كان مقررا علينا في مادة الدين في المرحلة الثانوية أن ما أسكر كثيرة فقليله حرام . . . ونعرف جيدا أن النبيذ خمر , وهو حرام .

كنا أثناء أيام الخميس من كل أسبوع , نتوجه نحن الثلاثة إلى وسط البلد للترويح عن أنفسنا وكان أحد أصدقائنا من الطلبة القاهريين قد أبلغنا أن الطلبة الأزهريين يترددون على أماكن الدعارة على جانبي شارع كلوت بك وهم بملابسهم الأزهرية . ذهبنا مرة إلى هذا المكان , وانتظرنا عند مدخل أحد شوارعه , وبعد فترة جاء ثلاثة من الطلبة الأزهريين بكاكولاتهم وعمائمهم . سرنا خلفهم لنرى ما يكون . . . تقدم أحدهم من امرأة تجلس على باب دكان مفتوح وعليه ستارة , والضوء في داخله باللون البمبي , ويظهر من الباب جزء من السرير . . بعد أن ساوم ذلك الطالب امرأة واتفق معها على الأجر ( علمنا فيما بعد أن هناك تسعيرة تتراوح بين خمسة وعشرة قروش ) . . ثم نادي زميليه , وقال للمرأة : أتقبلينني زوجا ؟ قولي قبلت . قالت:

قبلت . فسأل زميليه : أتشهدان ؟ قالا : نعم . قال : وهذا مهرك . وأعطاها قطعة نقود معدنية . . . انتظر زميلاه بالقرب من المكان , وانتظرنا نحن في الجانب المقابل , وبعد فترة وجيزة خرج الطالب وقال للمرأة : أنت طالق ! ! ثم انصرف الثلاثة لكي يتناوب كل من الاثنين الآخرين دوره .

انصرفنا . وسرنا في الشارع الذي خلف حديقة الأزبكية واسمه شارع وجه البركة " . وجدنا حارة تتفرع من هذا الشارع , وفي نهايتها سلم حجري يقود إلى مصطبة , هي جزء من شارع علوي متعامد على تلك الحارة . وعلى هذه المصطبة وقفت امرأة ( معلمة ) ذات صوت أجش , إلى جانب فتاة جالسة على كرسي , ترتدي ملابس العرائس , برداء أبيض وطرحة بيضاء وتاج أبيض . . . والمعلمة تنادي : الذي يرغب في إزالة بكارة هذه الفتاة يدفع فقط خمسة جنيهات ! ! فيتقدم أحد الريفيين ويدفع الجنيهات الخمسة ليجرب نفسه ! ! العجيب أن هذا المنظر كان يتكرر كل خميس والفتاة هي نفس الفتاة ! ! ذلك حال مصر وحال شبابها .


الشيخ عبد الباقي

كان الشيخ عبد الباقي ناظر المدرسة الإلزامية في قريتنا . جاءه أحد القرويين يشكو له ابنه فقال : يا سيدنا الشيخ أنت رجل طيب وشرز الأخلاق ( ظانا أن شرز – أي شرس – صيغة مدح تعني عظيم الأخلاق ) وابني يعذبني لأنه لا يحضر للمدرسة ولا يذهب إلى الحق لمساعدتي . أرجوك تستدعيه وتكلمه كلمتين من كلامك البايخ فهو يخاف منك .

كان الشيخ عبد الباقي هذا على خلاف مع أحد مدرسي المدرسة . وكان المدرس صفيقا ويسب الناظر في كل مناسبة خلاف وفي غير مناسبة . شكاه الناظر إلى مدير المنطقة التعليمية , فبعث المدير مفتشا ليجري ما يلزم من تحقيقات .

كانت المدرسة على ربوة تبعد عن مباني البلدة بحوالي 200 متر , وكان يصلها طريق يشق أرضا صحراوية تفصل المدرسة عن البلدة . . نظر المدرس من نافذة الفصل فرأى المفتش قادما , إذ به يقلب الحصة من لغة عربية إلى دين , وكتب على السبورة تحت عنوان " حديث شريف " : " لعن الله الناظر والمنظور " . وبمجرد أن وصل المفتش إلى المدرسة , قال المدرس للتلاميذ : قولوا معي : لعن الله الناظر ( بصوت جهوري عال ) . . . والمنظور ( بصوت خفيض ) .

قال الناظر للمفتش : ها أنت تسمع بأذنيك سبي وهو يعلم أنك جئت للتحقيق ! ! دخل المفتش الفصل غاضبا , وسأل المدرس : ماذا قلت ؟ لقد سمعتك تسب الناظر : قال المدرس : إن هذا حديث شريف أحفظه للتلاميذ , والناظر هنا هو الرائي وليس ناظر المدرسة . كان شغل الناس الشاغل أن يتسلوا ويتخالفوا ويتضاربوا , حيث لا يوجد هدف واحد يجمعهم .


الثبات يا أفندية

في عام 1936 , قامت مظاهرات عارمة قادها تلاميذ المدارس ضد وزارة توفيق نسيم باشا , مطالبة بعودة دستور عام 1923 الملغي .

وكنت كباقي الشباب في ذلك الوقت وفديا . ولست أعرف لماذا كنت كذلك ,. وربما كان لثورة 1919 وقيادة سعد زغلول أثر كبير لا زال حيا في نفوس جيلنا . كان قلة فقط أعضاء في مصر الفتاة . وكنا لا نحبهم لميلهم للعنف . ولم يكن للحركة الشيوعية وجود محسوس .

أسس الوفد فرق القمصان تشبها بذوي القمصان السوداء التابعين للحزب النازي في ألمانيا , وذوي القمصان الخضراء التابعين لجمعية مصر الفتاة . وانضم لفرق القمصان الزرقاء أراذل الناس , لذلك لم ينضم إليها أحد من الطلاب أو الرجال المحترمين . . . لذلك لم تلبث هذه الفرق أن حلت نفسها , لأنه لم يكن لها هدف تسعى إليه , وكان أعضاؤها يفرضون الإتاوات على أصحاب المتاجر .

خرجنا في هذا العام في مظاهرة ضخمة , تهتف : الاستقلال التام أو الموت الزؤام . " لم أكن أعرف أو يعرف غيري معنى كلمة الزؤام , التي عرفتها بعد ذلك بعشر سنوات حين عدت إلى مختار الصحاح , فأدركت أنها تعني " العاجل " . . . وكذا كانت هتافاتنا عالية الصوت خالية المعنى . وأؤكد أن 99 % من جيل تلك الأيام , لا يعرفون معنى " الزؤام " .

خرجنا من مدرسة الزقازيق الثانوية إلى المعهد الديني , وأخرجنا طلبته , وانضم إلينا طلاب مدرسة الصنائع . وتوجهنا بأعداد ضخمة لنخرج باقي المدارس . وكان طول المظاهرة لا يقل عن كيلو متر , لأن الطلاب أقبلوا على الاشتراك فيها , ليس بدافع وطني – فقد كنا لا نعرف الفرق بين دستور 1923 والدستور القائم – ولكنها كانت فرصة للتزويغ من المدارس .

هتف أحد العمال المنضمين للمظاهرة : يحيي الدستور باشا . وهتفنا وراءه . . . لقد صدق أحمد شوقي حينما وصف الشعب المصري بأن عقله في أذنيه . هتف طالب آخر كان مندسا في المظاهرة ينتمي إلى مصر الفتاة : يحيا النحاس باشا . فهتفنا مثله . ثم هتف : يعيش النحاس باشا ( عدة مرات ) وإذا به يهتف : " يعيش النحاس باشا ليكون عبرة لمن يعتبر " , فهتفنا مرددين ذلك . ولم نفطن إلى أن هذا هجوم على الوفد إلا بعد فترة . . .

سارت المظاهرة , وانحنى الطريق فانحنت معه . فإذا بالطلاب الذين في مؤخرة المظاهرة يرون مئات من جنود الشرطة يجرون ليلحقوا بالمظاهرة ليفرقوا الطلاب . وكانوا يحملون هراوات غليظة . فجرى الطلاب اللذين في الخلف نحو الأمام دافعين غيرهم . وبدأ الطلاب كلهم يفرون . . . طالب من الأزهر قفز إلى شرفة منخفضة لأحد المنازل تعلو عن الشارع بمتر واحد , وأخذ ينادي بصوته العالي : " الثبات يا أفندية الثبات " . . . ورددها مر تين , وإذا به يلمح الجنود يجرون خلف المظاهرة بعصيهم , فقفز من الشرفة جاريا وهو لا زال يردد : " الثبات يا أفندية الثبات " ! !

تذكرني هذه الواقعة بما حدث عند ما جاء عبد الله أباظة بك إلى بلدتنا مرشحا لمجلس النواب , واستقبله الناس بالترحاب الواجب , وكان محبوبا من أهل الدائرة ولا يتواني عن خدمة أي منهم . وعند مغادرته البلدة , وقف رجل يدعى " أحمد الصعيدي " يهتف : " يعيش عبد الله بك أباظة " بحماس شديد , فما كان من عبد الله أباظة إلا أن ناوله جنيها ( وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت ) . . كان أحمد الصعيدي رجلا بسيطا يرتزق من الخدمة في الدواوير ويقدم القهوة في المعازي والشربات في الأفراح . . ذهل أحمد الصعيدي حينما تناول الجنيه , فهتف : " فلتحيى مصر " مرتين ثم أخذه الحماس أكثر وهتف : " فلتحيى سعد زغلول باشا ! ! " . . كان سعد زغلول قد مات منذ 9 سنوات ! !


فنجان شاي

كان بار ناشيونال بشارع سليمان باشا , ملتقى الباشاوات العظماء . . يلتقون هناك صباح كل يوم من الساعة العاشرة حتى الثانية عشرة , يتبادلون الحديث ويحتسون قهوة الصباح .

كان الشيخ سيد ( ب ) شيخ مشايخ الطرق الصوفية من المعتادين الجلوس هناك كل يوم . وكان العامل الذي يخدمه معتادا على خدمته منذ مدة , ويتقاضى منه جعلا ( بقشيشا ) طيبا , ويحضر له الويسكي في فنجان الشاي . كان هذا الشيخ أشقرا بعينين زرقاوين ولحية قصيرة شقراء وأودج حمراء ويضع عمامة عالية . وكان من سوء حظه في ذلك اليوم أن عامل المقهى تغيب عن العمل لمرض مفاجئ أصابه , وحل محله عامل جديد لا يعرف أسلوب الشيخ في تناول الويسكي . . ناداه الشيخ , وهمس في أذانه : أحضر واحد وسكي في فنجان شاي . ذهب الخادم عنه إلى آخر الشرفة التي يجلس فيها الشيخ وزملاؤه , ونادي على عامل النصبة ( الذي يعد المشروبات ) والتي تقع على بعد خمسة أمتار بصوت جهوري : " واحد ويسكي في فنجان شاي للشيخ " ! ! أخذ الجميع يضحكون . . . كيف استغفلهم الشيخ هذا الزمن الطويل ! !

هكذا كان التدين عند قمة التوجيه الديني في مصر , وهكذا كان الاستهتار بالحلال والحرام يرد على ذهني وأنا احكي هذه الواقعة . واقعة أخرى حدثت وأنا طالب في المرحلة الثانوية , إذ كان هناك رجل يدعي الولاية , وله مريدون , ثم لما مات صنعت له قبة عظيمة على مسجد سمي باسمه . كان هذا الرجل إذا اجتمع مريدوه , يطوف عليهم يا بريق نحاسي , ثم يسأل المريد : ماذا تشرب ؟ شاي أم قهوة ؟ فيقول المريد مثلا : شاي . فيقول الرجل للإبريق : كن شاي . وإذا سأل آخر وقال : قهوة , فإنه يقول : كوني قهوة ! ! ثم يصب فتخرج من الإبريق قهوة ! . . سألت ابنه وكان زميلا لي في المدرسة فقال : إن هذا الإبريق مقسم قسمين من داخله , بأحدهما قهوة وبالآخر شاي , وفوق مقبضه لولب يضغط عليه إلى اليمين فيفتح الشاي والى اليسار فيفتح القهوة . . . ذلك سر كرامة هذا الولي .


شقيق صاحب الجمهور المصري

كنت أتسلى في الأجازة الصيفية بقراءة الروايات , فوقعت تحت يدي مذكرات . . . نجيب , التي قال في مقدمتها أنها أحداث حقيقية وقعت في مصر وهو بطلها , وقد حكم عليه في بعضها , ولذلك كتبها بعد خروجه من السجن . حكي مجموعة موضوعات اختار منها الموضوعين الآتيين :

( أ ) أراد أن يسرق نجيب الجواهرجي بك , والذي كان يورد المجوهرات للقصور الملكية , فذهب إليه منتحلا شخصية ابن طبيب كبير معروف . وطلب منه اختيار بعض المجوهرات الثمينة ليقدمها شبكة إلى عروسه . بعد انتقاء ما غلا ثمنه من المجوهرات , طلب عرض هذه المجوهرات على والده المزعوم , وقال لنجيب باشا , يمكنك أن تحضر معي للوالد لكي تشير عليه بما نختاره للشبكة .

كان قد ذهب من قبل إلى الطبيب الكبير , وأبلغه أن قريبا له لم يطاهره أهله وهو صغير , وأنهم يريدون طهوره الآن دون أن يشعر . وقال له : سأحضر لك قريبي , فرحب به , ثم اقتده إلى غرفة العمليات , وأعطه حقنة مخدرة , ثم أجر له العملية .

ذهب مع نجيب باشا إلى عيادة الطبيب , ومعه حقيبة المجوهرات , ورحب بهما الطبيب وأدخل نجيب باشا غرفة العمليات , وأجرى له العملية , وانصرف صاحب المذكرات بالشنطة .

أفاق نجيب باشا من المخدر , وفوجي بما حدث له , واختفت الشنطة كما اختفى سارقها . ( لقد أشار الأستاذ مصطفى أمين لهذه الحادثة عموده اليومي في الأخبار منذ أكثر من 10 سنوات )

ب ) كان يتردد على المحاكم لكي يتعرف على مجريات الأمور بها , ونقاط الضعف في القضايا ليستغلها , ونقاط القوة ليتفاداها . وأثناء جلوسه في إحدى المحاكم الابتدائية , وضع القاضي يده في جيبه ليخرج ساعته ليتعرف على الوقت , فلم يجدها , فقال بطريقة عفوية غير مقصودة : لقد نسيت الساعة تحت المخدة , سأل صاحب المذكرات حاجب المحكمة عن عنوان القاضي فأعطاه إياه , توجه إلى منزل القاضي ومعه دجاجة سمينة , ودق جرس الباب ففتحت له زوجة القاضي . قال لها : سعادة القاضي سيتأخر قليلا وأرسل إليكم هذه الدجاجة , وهو يطلب أن أذهب له بساعته , بأمارة أنها تحت المخدة , أعطته السيدة الساعة وأخذت الفرخة . . . وجاء القاضي في موعده . قالت له الزوجة : لم تتأخر ! قال : ولم السؤال وأنا أحضر في هذا الميعاد ؟ قالت : أبلغني بتأخرك الشخص الذي بعثت به ليأخذ الساعة ! أسقط في يد القاضي وذهب إلى قسم البوليس ليبلغ عن الواقعة .

عاد صاحب المذكرات إلى منزل القاضي فور خروجه , وكان قد غير من ملامحه بوضع شارب كبير وارتداء بالطوكاكي اللون , ودق الباب . . قال للسيدة حين فتحته إنه مخبر من قسم البوليس , وهم يطلبون الدجاجة لتحريزها ضمن إحراز القضية . أعطتها له وانصرف .

في اليوم التالي ذهب إلى القاضي – وكان قد حكم عليه في قضية أخرى من قبل – ورد إليه الساعة , وقال له : إني كنت أداعبك ! !

هذا المحتال المعترف بقيامه بالنصب هو شقيق صاحب جريدة الجمهور المصري التي كانت وفدية وتصدر أسبوعية , والتي حملت حملة شعواء ضد الإخوان عندما اشتد الخلاف بينهم وبين الوفد , وكانت مقالاتها تتسم بالبذاءة وانحطاط الأخلاق .

هذا أمر ليس بالغريب من أسرة هذا شأنها ! !


كالذي يتخبطه الشيطان من المس

كنا كلما اقترب موعد الامتحانات , نجتمع أنا وأصدقائي ونذاكر سويا . وكان بيتنا في الزقازيق مطلا على شارع ثابت , وهو شارع واسع مواز لشريط السكة الحديدية .

كنا نسهر بالليل وننام بالنهار , حيث كان الجو في النهار حارا وخانقا , وبعد منتصف الليل نروح عن أنفسنا قليلا بالسير في شوارع الزقازيق . وكان معنا صديق اسمه عطية أبو النصر , لم يكن طالبا بالمدرسة , ولكن كان والده صاحب مخبز بلدي , وصديقنا هذا اعتاد على السهر معنا , نحن نذاكر وهو يقرأ في رواية يحضرها معها . فإذا قمنا نتمشى بعد منتصف الليل , كان يقودنا إلى مخبز والده لكي يطمئن على سير الأحوال فيه , حيث كان ذلك المخبز يعمل طول الليل إلى طلوع الشمس , ثم يتوجه عمالة لتوزيع الخبز على البيوت . في إحدى الليالي , اقتربنا من المخبز , فوجدنا حشدا من الناس متجمعين حول شخص ممد في وسط الشارع . قال عطية : هذا فران عندنا ألحقناه بالعمل بالأمس فقط . اقتربنا من الرجل فوجدناه قد أمسك برقبة نفسه بكلتى يديه , يشد عليها , وفي ذات الوقت يخرج من فمه صوتان : أحدهما لرجل والآخر لامرأة , وهما يتشاجران باللغة اليونانية . وحاول الناس المتجمعون حوله فك يديه عن رقبته ففشلوا , وكأن قبضتيه قد صنعتا من حديد .

أقبل رجل ملتح قصير القامة يرتدي ملابس بيضاء وعمامة بعدبة , وقال أفسحوا , فأفسح الناس له مكانا , فجلس إلى جوار الرجل الممدد في الطريق , وأخذ يؤذن بصوت خافت في أذنه . وما انتهى الرجل من الآذان حتى تراخت قبضتا الرجل . ثم قام جالسا يتساءل : ماذا حدث ؟ قلنا له : لا شيء . ثم ذهب الرجل إلى عمله في الفرن .

ذهبت له ظهر اليوم التالي , فوجدته جالسا أمام المخبز, سألته عن بلده فقال إنه من سوهاج , ثم سألته أين تعلمت اللغة اليونانية , فقال : " يونانية إيه يا بيه ! ! هو أنا بأعرف اكتب عربي لما أتعلم جريجي ؟ " . . تبين أنه لم يتعلم اللغة اليونانية قط .

تلك حادثة كان لها أثر كبير في نفسي , وجعلتني أتجه نحو دراسة ما وراء الطبيعة , وصرت أبحث عن آيات القرءان الكريم التي تتعلق بالجن وتلك التي تتعلق بالسحر , وكيف أن الجن يمس البشر , وان السحر ما هو إلا نوع من التنويم المغناطيسي الذي مارسه سحرة فرعون فيتخيل الناس من سحرهم أن العصي التي ألقوها أرضا تسعى كالأفاعي .


مع التنويم المغناطيسي

كانت مدرسة الزقازيق الثانوية قد أصدرت مجلتها السنوية في عام 1936 , وكان بالمجلة مقال عن التنويم المغناطيسي , يوضح كيف يفعل المنوم بالوسيط حتى ينام . أخذت المجلة معي وذهبت إلى منزل صديقي أمين حري رحمه الله , وكان أخوه سعد يناهز الثانية عشرة من عمره . أقنعت سعدا أن أجرب معه التنويم المغناطيسي , فوافق بشرط أن أعطيه قرشا . أعطيته القرش , ثم بدأت أجرب ما ورد في المجلة بحذافيره . أجلسته جلسة مريحة , وجلست قبالته , وأمسكت بإبهاميه بسبابتي وإبهامي . وجعلت أنظر إليه دون أن أرمش , وطلبت منه أن يركز بصره على عيني . . استغرق مني حوالي الساعة , إلى أن بدأت عيناه ترمشان , ثم بدأ يغلقهما , وأنا أوحى إليه بصوت خفيض أنه سينام , وأمره بالنوم . وأقول له : ستنام نوما مريحا , وإذا سألتك عن شيء فرد علي . . . وصرت كلما تحدثت معه أحرك يدي من صدره حتى رجليه ثم على هيئة نصف دائرة طلوعا إلى رأسه ثم أنزلها على صدره فرجليه . . . وهكذا عدة مرات , علمت فيما بعد أن هذه الحركة ترتب ذرات الجسد مغناطيسيا مثلما يحدث مع برادة الحديد إذا وضعنا عليها لوحا زجاجيا ثم مررنا فوقه بحديده ممغنطة .

بعد أن نام وجدته يقول كلاما عن غارة لايطاليا على الحبشة . فتحت الراديو وإذا به يذيع ذلك الخبر ما كنا نسمعه والجهاز مغلق . ثم طلبت منه أن يحضر القرش الذي أعطيته إياه , فقام يمشي أحضر القرش من تحت المخدة فوق السرير , علمت بعد ذلك أنه لا ينبغي إجبار النائم على فعل لا يقبله .

ذهبت إلى القاهرة لمدة يوم زرت فيه دار الكتب في ميدان باب الخلق , وطلبت كتبا في التنويم المغناطيسي , فوجدت كتابين باللغة الانجليزية تحت عنوان Henpostism , قرأتها بشغف . . . وتعلمت أنه يمكن تنويم الوسيط على نور ساطع , أو على شيء يلمع ويتحرك حركة رتيبة كبندول الساعة , كما علمت أن التنويم من سبع درجات , وفي الدرجة السابعة , يفقد جسم النائم وزنه , ويمكن رفعه بتحريك يدي المنوم فوقه بعد أن يرقد , ورفع اليدين إلى أعلى .

جربت التنويم مرة أخرى مع شخص على ضوء مصباح ( كلوب ) فنام ثم إذا به يقول بصوت واضح أنه يرى المقابر أمامه والظلام دامس , والمنظر مخيف , والأشباح هنا وهناك . . . خفت عليه وأيقظته .

ثم عندما ذهبت أزور خالتي في الأجازة الصيفية في بلدة فاقوس , انتهزت الفرصة ونومت خادمتها " أم محمد " التي نامت بعد جهد جهيد حيث كانت بعين واحدة . وأخذت أجري عليها التجارب . أعطيتها ذات مرة بعضا من السكر وقلت لها كل هذا الملح , فتذوقته ولفظته . ثم أعطيتها قليلا من الشطة , وقلت لها : هذه براغيث الست ( هي نوع من الحلوى للأطفال ) فأكلتها ومصمصت شفتيها تلذذا . ولما أيقظتها أخذت تصرخ من احتراق لسانها من الشطة . . . سألتها مرة : كيف تعرفين الشيء الذي أسألك عنه ؟ قالت : الوسيط يريني إياه , قلت ما شكل الوسيط ؟ قالت  : رجل يرتدي ملابس بيضاء . . . أرسلتها مرة إلى البلدة , فانتقلت إليها في لحظة بعد أن تنهدت . سألتها أن تصف لي ما أمام بيتنا هناك , فقالت : إنها ترى والدتي واثنتين من خالاتي جالسين بمدخل الباب . . . سألت والدتي بعد أن عدت إلى البلدة , فأجابت بأن خالتي قدمتا لزيارتها في ذات اليوم الذي ذكرته .

وأنا في فاقوس , وجدت إعلانات عن البروفيسور الدكتور " زغلول " المنوم المغناطيسي . . كان زغلول هذا صديقي , وكان طالبا بمدرسة الصنائع بالزقازيق . وحضر مرة وأنا أنيم سعد حري , وسألني عن كيفية التنويم , فشرحتها له وأريته كيف أنيم سعدا وكيف أوقظه . . . ذهبت إليه في دار أبيه ضمن مساكن السكة الحديد في فاقوس . . وعلمت منه أنه قد احترف التنويم المغناطيسي , وأراني بعض الخدع التي يستخدمها إلى جانب التنويم , مثل وضع شخص داخل صندوق , ورأسه بارزة من جانب الصندوق نصفين إلى صندوقين , ثم يضم الصندوقين إلى بعضهما فيخرج الشخص سالما . . . الخدعة بسيطة , وهي أن الصندوق الأصلي مقسوم إلى قسمين ؟ وعندنا يدخل فيه الشخص , فإنه يجلس في قسم منه ويخرج رأسه من ذلك الجانب , ثم يدفع خشبة مركبا فيها حذاءين كحذاءيه تماما , فيظن الناس أن رأسه خارجه من جانب وحذاءيه من جانب آخر . . . وهناك خدع أخرى كثيرة أراني إياها .

كان وسيطه الذي يستخدمه شاب ضعيف الشخصية جدا , لم يأخذ معي دقيقة واحدة لتنويمه . وأجريت عليه بعض التجارب , إذ كان يخطئ في ذكر أشياء أسأله عنها , وكنت أحيانا أسأله عن أشياء لا أعرفها أنا . . سألته كيف يعرف الأشياء التي أسأله عنها , فقال : إن الوسيط , وهو امرأة ترتدي ملابس بيضاء , إما أن تريه الأشياء بذاتها , أو تقول له , أو تكتبها على السبورة باللغة العبرية التي لا يعرفها . ترى هل كان رجل وسيطه امرأة , وكل امرأة وسيطها رجل ؟ لست متيقنا من ذلك , حيث كان يجب تكرار هذه التجربة 3 مرات على الأقل مع ثلاث رجال وثلاث نساء .

كدت أن أنجرف نحو التنويم المغناطيسي . . . فقررت التوقف عنه فورا . . . وحدث ذلك بعد مقاومة للنفس التي راودتني أن استمر , فالتجربة مثيرة للغاية .


الشطرنج

انشغلت بعد ذلك في لعب الشطرنج – وكنت قد تعلمته من قبل - . فكنا نجتمع في كلية التجارة نتدارس المواقف وكيفية معالجتها , وكان الدكتور عز الدين فريد أستاذ الجغرافيا الاقتصادية – وعميد كلية الآداب بعد ذلك – يحضر إلينا الكتب التي تعلمنا الافتتاحيات المختلفة والردود عليها , والأدوار العالمية التي لعبت من قبل . كان فريق كلية التجارة من أقوى الفرق , وفزنا ببطولة الجامعة 4 مرات متتالية إلى أن استقر الكأس عندنا .

الشطرنج لعبة عقلية مفيدة جدا , فلا مكان للحظ فيها , وتعلم اللاعب كيف يضع الخطط البعيدة المدى والقريبة الأمد , كما تعلمه أن لكل فعل رد فعل على اللاعب أن يتوقعه . لهذا فإن الأكاديميات العسكرية تقرره كمادة علمية يدرسها الطلاب العسكريون المؤهلون لوظائف الضباط .

غير أن الاستغراق في الشطرنج له خطره , حيث أن اللاعب لا يشعر بالوقت , ويمكن أن يضيع مصالح إذا انساق إلى اللعب . . . فقد حدث مرة أن كنت ذاهبا لصديق لي يقطن حي السيدة زينب كي أراجع معه مادة المحاسبة ليلة الامتحان . وفي شارع السد البراني في طريقي إلى حي السيدة , وجدت مقهى على ناصية شارع الخليج , ويجلس عليه عدد من لاعبي الشطرنج . قلت في نفسي : لا بأس من الترويح عن النفس لمدة نصف ساعة . . جلست أشاهد لاعبين , ثم لاعبت كلا منهما عدة أدوار , وإذا بالساعة قد بلغت منتصف الليل , ولا بد أن أعود لمنزلي حتى أنام إلى الفجر .

دعاني هذا الموقف إلى أن أهجر الشطرنج . . . فقد كاد يؤدي إلى رسوبي في الامتحان .


تفسير الزلزال

كنت وأنا طالب في المرحلة الثانوية أواظب على الصلاة . ولم تكن الصلاة إلا حركات تؤدى , فقد كانت عادة تعودنا عليها , ولكنها خالية من مضمون الإيمان العميق والخشوع والخضوع إلى الله .

يذكرني هذا بما رأيته في معسكر اليهود في معتقل هايكستب حيث كانوا يتجمعون في الفناء يصلون ويركعون , ويؤدون الصلاة بصوت عال لا خشوع فيه .

أرجو ألا يؤاخذني القارئ في هذا الاستطراد . . . فقد كان والدي متدينا , وكذلك معظم أفراد عائلتنا . وكان والدي يملك مجموعة من الكتب القديمة , كنت أتسلى بالاطلاع عليها . . . ووقع تحت يدي كتاب تفسير الجلالين , وإذ به يقول في تفسير : " إذا زلزلت الأرض زلزالها " , أن الزلزال ينشأ عن أن الثور الذي يحمل الأرض على أحد قرنيه , يحب أن يستريح فينقل الأرض إلى القرن الثاني , فيقع الزلزال . . . كان هذا الكتاب عتيقا , ورقه قد اصفر من القدم . . هذا التفسير أصابني بصدمة شديدة , جعلتني أتوقف على الصلاة ما دام الدين مليئا بهذه الخزعبلات . ولم أنتظم في الصلاة بعد ذلك إلا عندما قرأت في مجلة الرسالة – ووالدي كان مداوما على قراءتها – أن كثيرا من التفاسير القديمة قد اعتمدت على الإسرائيليات . ذلك هو الجو الذي كنا نعيش فيه . . . ضياع في ضياع في ضياع ! !


أول اتصال مع الإخوان المسلمين

كنا قد أنشأنا ناديا رياضيا في بلدتنا : القطاوية , انضم إليه معظم شباب البلدة المتعلم , وكنا ندفع كل شهر اشتراكا قدره ثلاثة قروش , وكلما تجمع مبلغ من هذه الاشتراكات , كنا نشتري كرة قدم أو عرق خشب لتنصب به ( جونا ) , أو شبكة نركبها خلف ( الجون ) , أو مضارب لكرة التنس . . . وهكذا وكان نشاطنا قاصرا على الأجازة الصيفية . . . ولم يكن لنا مقر نمارس فيه نشاطنا إلا دواوير العائلات التي ينتمي إليها أعضاء النادي .

توجهت للشيخ محمد سليم البركي رئيس الإخوان في بلدتنا , وكان قد خصص غرفة من داره وشرفة وجزءا من حديقته لشعبة الإخوان المسلمين . طلبت منه أن يسمح لنا بممارسة نشاطنا الرياضي من مقر الإخوان , فوافق بشرط أن نسمى النادي بنادي الإخوان المسلمين , وافقنا على ذلك وبدأنا نمارس النشاط الرياضي من ذلك المكان , وبطبيعة الحال كنا نستمع لأحاديث ودروس الشيخ البركي .

في أحد الأيام أهداني ابن عمي المرحوم سعيد الملط بعض رسائل الإخوان المسلمين . . قرأتها بدلا من مجموعة الروايات التي كنت أحضرها معي في أول كل عطلة صيفية . . . لست أدري ما حدث , ولا أجد له تفسيرا إلا قول الله تعالى : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " . ففتح الله قلبي وقرأت تلك الرسائل بالإمعان الواجب .

وبعد انتهاء العطلة والعودة إلى كلية التجارة , قابلت محمد يونس الأنصاري رئيس الإخوان بالكلية , الذي صحبني إلى دار المركز العام للإخوان المسلمين , حيث استمعت إلى حديث الثلاثاء الذي كان يلقيه الإمام الشهيد كل ثلاثاء . وبعد الحديث انتظرنا حتى انصرف معظم المستمعين , ثم ذهبنا لنسلم على فضيلة الأستاذ . سلمت عليه , وما أشعر إلا وكأن طاقة من نور قد شملت كياني كله , مصداقا للحديث الشريف : " الأرواح جنود مجندة , ما توافق منها ائتلف , وما تنافر منها اختلف " .

صرت أداوم على زيارة المركز العام , وكلما قابلت الإمام الشهيد كان يحييني : " أهلا يا أستاذ عساف " . كان قوى الذاكرة بشكل مذهل , حيث لم أكن قد قدمت إليه إلا مرة واحدة فقط .

قررت أن أشغل وقتي مع الإخوان المسلمين في القيام بما يفيد الوطن وما يعود خيره على المسلمين . . . ولم تمض أشهر قليلة , إلا وقد قربني الإمام الشهيد إليه , ثم صرت أمينا للمعلومات لديه مثلما سلف ذكره .

خاتمة

كل ما أوردته في هذا الكتاب الذي كنت أتطلع إلى كتابته منذ وقت طويل , إن هي إلا ذكريات . . وليست مذكرات . . . هي ذكريات ولي زمانها , ولكنها لا زالت عالقة بالذهن وحية مهما مضى الوقت .

وهي لا تسجل تاريخا للإخوان المسلمين , ولكنها مجرد وقائع , للقارئ أن يستنتج منها ما يشاء . . أكتبها لتعرفها أجيال شبابنا المحدثين , وأذكر بها أصحاب جيلي , ولتكون فيه القدوة للأجيال المستقبلة . " وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين " .

أما أولئك الذين شوهوا فكر حسن البنا , وأولئك الذين فسروا الدين تفسيرا خاطئا , وأولئك الذين ساروا على درب الخوارج فخرجوا عن الإسلام وهؤلاء الذين اتخذوا العنف سبيلا مآربهم الشخصية . . فإنهم لم ينهلوا من نبع الدعوة النقي الصافي , الذي كان الشغل الشاغل لحسن البنا , والذي نذر له حياته كلها , فمات شهيدا في سبيل إقامة دعائم أمة إسلامية تتبوأ مكانها الصحيح بين الأمم المتقدمة .

اسأل الله أن يقتفي جيل اليوم خطوات حسن البنا , فالظروف متاحة لانتشار الدعوة الإسلامية , والصحوة الإسلامية التي بعثها الله وحده وليس للبشر في قيامها من أثر , لأكبر دليل على إشرافه المستقبل .

والله ولي التوفيق , , ,

المؤلف

من تلامذة حسن البنا

ما من مرة لقيت رجل أعمال ناجح , أو وكيل وزارة يشار إليه بالبنان , وسألته عما إن كان في صدر شبابه من الإخوان المسلمين , إلا ووجدت المئات من هؤلاء الذين طبقوا مبادئ حسن البنا في حياتهم فنالوا بها النجاح في الدنيا , وجزاؤهم عند الله إن شاء الله .

وأذكر من بين تلامذة الإمام الشهيد , من ظل مقيما على العهد , حتى عندما اختلف مع الجماعة في الرأي أو أسلوب العمل . . فأبدع كل منهم في مجال تخصصه , وكان لهم جميعا الأثر الواضح على الحركة الإسلامية المعاصرة . والذين اعرفهم ممن ظلوا أوفياء للإمام وفكره كثيرون , بيد أن ذاكرتي لا تسعفني إلا بالقليل , منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا , ومنهم بالإضافة إلى مؤلف الكتاب , الأخوة الفضلاء :

الشيخ أحمد حسن الباقوري : وزير الأوقاف وشئون الأزهر ورئيس جامعة الأزهر الأسبق , الذي ظل مقيما على عهده – بالرغم من اختلافه مع الجماعة – إلى آخر يوم من حياته .

الدكتور عبد العزيز كامل : نائب رئيس الوزراء ووزير الأوقاف وشئون الأزهر , الذي جاهد وابتلى كثيرا في سبيل الدعوة ومات عليها , بالرغم من بعده عن مصر ردحا طويلا من الزمن .

الدكتور عبد المنعم النمر : وزير الأوقاف الأسبق , والذي اتصف بالشجاعة في الرأي والاجتهاد في الدين بما يتمشى مع ظروف العصر , والذي قدم للمكتبة الإسلامية مراجع يعتد بها في شئون الدين والدنيا .

الدكتور أحمد كمال أبو المجد : وزير الأعلام الأسبق , والمفكر الإسلامي المعروف , والذي يشارك في إذكاء الصحوة الإسلامية بمؤلفاته وكتاباته .

الدكتور محمد الغزالي : المفكر الإسلامي المعروف , والعالم الجليل , الذي قدم للفكر الإسلامي ما يصحح عقيدة المسلمين ويثبت إيمانهم , وما يضعهم على النهج القويم نحو تحقيق أهداف الدعوة الإسلامية . أطال الله عمره وبارك فيه .

الدكتور يوسف القرضاوي  : المفكر الإسلامي العالمي , الذي ملأ الدنيا بكتاباته , وتميزت أفكاره بالوسطية والعمق .

الأستاذ أنور الجندي : الكاتب والمفكر الإسلامي الذي نهل علمه ومعرفته من قرية من الإمام الشهيد في الأربعينات , ثم لم يزل سائرا على الدرب إلى أن صار كاتبا إسلاميا عالميا .

الدكتور توفيق الشاوي : المفكر والكاتب الإسلامي الذي تعمق في فهم الشريعة وبث علمه بين الشباب واسهم في إشعال جذوة الصحوة الإسلامية .

الدكتور فتحي عثمان : أحد زعماء الحركة الإسلامية في أمريكا حاليا , ويعمل هو وزملاؤه على وضع قواعد فقه الأقلية .

الدكتور مصطفى السباعي : رئيس الإخوان الأسبق بسوريا , الذي سار على نهج حسن البنا إلى نهاية حياته .

الشيخ أحمد محمود الصواف : عضو مجمع الفقه الإسلامي ورئيس الإخوان الأسبق بالعراق , والذي توفى في مكة المكرمة وهو يعد كتابا عن ذكرياته مع الإمام الشهيد .

الأستاذ كامل الشريف : الوزير والصحفي الأردني , والذي قاد الحركة الإسلامية مع زملائه إلى أن صارت فعالة في توجيه السياسة العربية .

كل هؤلاء وغيرهم المئات ممن لا زالوا على العهد أو ماتوا وهم عليه , كانوا أعضاء بالهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين .