محن جماعة الإخوان المسلمون في عهد الإمام حسن البنا الجزء الثاني

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
محن جماعة الإخوان المسلمون في عهد الإمام حسن البنا الجزء الثاني
إعداد موقع ويكيبيديا الإخوان المسلمين

بقلم:

  • أ/ علاء ممدوح
  • أ/ عبده مصطفى دسوقي

نماذج من مظالم الإخوان

لقد اعتقل بالأمر العسكري حتى صدور هذا البيان- ألف شخص في القاهرة والأقاليم، وزعوا على معتقل الهاكستب وسجون الأقسام والمديريات والمراكز وهم ليسوا متهمين في شيء كما أنهم ما بين أستاذ في الجامعة أو الأزهر أو المعاهد العليا أو دار العلوم أو معاهد التعليم على اختلاف درجاتها، ومنهم المحامون والتجار والعمال والطلاب وليس فيهم أبدا متهم ولا مجروح ... ينامون في الأقسام على الأسفلت ويعذبون وقد مرض بعضهم بالنزلات الشعبية ومختلف الأمراض دون علاج.

ولقد أوقف الموظفون عن أعمالهم وحجزت مرتباتهم وصودرت أموالهم الخاصة في المنازل بالتفتيش وفي المصارف بالحجز، وفصل العمال منهم ورفت الطلاب.. فمن أين تنفق ألف أسرة مصرية تودد إلى هذه الأسرة فعاد مريضها أو عال محتاجها، كان مصيره هو الآخر الاعتقال.

ولقد وقفت الحكومة من الموظفين الذين اتصلوا بالإخوان موقفا كله العداء والخصومة ففصلت 150 موظفا، وأبعد عن كليات الجامعة والمدارس الثانوية نحو ألف طالب.

مصادرة الأموال والشركات

وكان من أعجب الأمور أن تصدر الأوامر العسكرية بمصادرة مرتبات وأموال عدد كبير من المواطنين، لأنهم كانوا في يوم من الأيام أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين.

وهناك شركات: هي شركة الإخوان للتجارة بميت غمر، وشركة المناجم والحاجر، وشركة الإخوان للنسيج، وشركة مدارس الإخوان بالإسكندرية وشركة الإخاء الإسلامي بفرشوط وشركة دار الإخوان للطباعة وشركة دار الإخوان للصحافة... وهذه كلها لا صلة لها بهيئة الإخوان أو مشروعاتهم، ولكنها وضعت هذا الاسم من باب الدعاية التجارية وقد صدر الأمر بوضعها تحت الحراسة، وقد دأب البوليس على مضايقة كل من يظن أن له أقل صلة بالإخوان: بتفتيش منازلهم في غسق الظلام وترويع النساء والأطفال عدة مرات أو تفتيش متاجرهم، ثم فرض الرقابة على التليفونات والخطابات والأشخاص والمنازل والتنقلات حتى السيدات.

بطلان اتهام الحكومة

اتهمت الحكومة الإخوان المسلمين بثلاثة اتهامات كلها باطلة:

اتهمتم بأنهم عصابة إرهابية تشجع الجريمة.

وأنهم تحولوا من جماعة دينية إلى هيئة سياسية.

وأنهم يعملون على قلب نظام الحكم.

أراد وكيل الداخلية أن يثبت على الإخوان اتهامهم بالجريمة والإرهاب فكتب مذكرة طويلة اعتبرها الحاكم العسكري أساسا لصدور الأمر بحل الإخوان وعملت الحكومة على إذاعتها وقد أورد فيها وكيل الداخلية ثلاث عشرة حادثة أسماها جرائم نسبها إلى الإخوان وقد كتبنا ردا على هذه المذكرة فندنا كل ما جاء فيها ولكن هذا لم ينشر طبعا ولا يمكن أن يسمح بطبعه أو نشره، بل إن وجود صورة منه مع أحد كانت كافية لاعتقاله أو سجنه.

وخلاصة هذا الرد أن هذه الحوادث لا تخرج عن أربعة أقسام:

•بعضها مكذوب كحادثة ضبط إخوان بالإسماعيلية يتدربون على صنع القنابل.

•وبعضها حكم فيه ببراءة الإخوان براءة تامة كالجناية العسكرية التي اتهم فيها اثنان من الإخوان وحكم ببراءتهما.

•وبعضها كان العدوان فيه على الإخوان كقضية شبين الكوم التي استشهد فيها واحد من الإخوان وحكمت المحكمة على قاتله بألف جنيه وبالسجن 15 سنة.

•وبعضها فردي عن دوافع شخصية أو عائلية لا صلة مطلقا بينه وبين الإخوان المسلمين.

بطلان اتهام الانحراف عن الدين إلى السياسة

طبيعة الإسلام لم تفرق بين الدين والسياسة، وتعرض الإخوان للسياسة سواء أكانت من حيث المطالبة بحرية البلاد وحقوقها أم من حيث الأخذ بنظم الإسلام الحنيف في أوضاعها الاجتماعية تعرض مستمد من الإسلام نفسه، وهو جزء من أجزاء الدين لا انحراف عنه والإخوان لم يعلموا يوما على أساس المناورات الحزبية أو المغانم السياسية، ولكن عملوا بروح الوطنية المجردين الذين ينظرون إلى المسائل من حيث نفعها للوطن أو مساسها بمصلحته.

الأسلحة والذخائر والمفرقعات

الإخوان كانوا هم الهيئة العاملة النشيطة التي ساعدت الهيئة العربية العليا الفلسطينية في الحصول على السلاح من مختلف الأماكن وساعدت إخوان فلسطين عند حضورهم لمصر لمشتري السلاح، وساعدت الجامعة العربية رسميا في هذا السبيل وجهزت معسركا كاملا باسم الإخوان بالسويس ثم النصيرات ثم في البريج فهذه الأسلحة للمجاهدين من الإخوان المسلمين والفلسطينيين أو الهيئة العربية والحكومة نفسها تعرف ذلك.

وهكذا فهذا السلاح كان مدخرا لقضية فلسطين التي أفسدتها علينا سياسة الحكومة المترددة التي أسلمت نفسها للمطامع تارة، وللغاصبين تارة أخرى، حتى وصلت إلى هذه النتيجة المحزنة".

وقد أورد المهندس الصروي أسباب الحل في كتابه الإخوان في سجون مصر:

"ما حقيقة أسباب الحل؟


1- الضغط الأجنبي

فقد أقر وكيل الداخلية بنفسه للأستاذ المرشد العام أن مذكرة قدمت إلى النقراشي باشا من سفراء فرنسا وبريطانيا والقائم بأعمال أمريكا بعد أن اجتمعوا في فايد في 6ديسمبر سنة 1948 تقريبا يطلبون فيها المبادرة بحل جماعة الإخوان المسلمين وهذا مطلب كان يتكرر مع السفارة البريطانية من رفعة النحاس باشا سنة 1942- والحرب العالمية على أشدها- حل الإخوان وتعطيل نشاطهم فأبى واكتفى بإغلاق الشعب مع بقاء المركز العام (وقد نشرت جريدة الأساس تصريحا لمسئول قال فيه: إن السلطات الأجنبية هي التي ضغطت على الحكومة لحل الإخوان

2- التمهيد لإجراء مفاوضات مع الإنجليز

ولقد علم الخاص والعام أن الإخوان المسلمين هم أعظم العقبات لهذه المساومة على حقوق البلاد وقد أشارت إلى ذلك الصحف الأجنبية فكان طبيعيا أن يمهد للمفاوضات المنتظرة بحل جماعة الإخوان.

3- ستر الفشل في فلسطين والسودان

لقد فشلت الحكومة المصرية والحكومات العربية فشلا ذريعا في حل قضية فلسطين والسوان وتعلم الحكومة تمام العلم معرفة الإخوان ببواطن الأمور وبأسباب هذا الفشل وتعرف أنهم سيشددون عليها الحساب فأرادت أن تسبقهم إلى ذلك وأن تستر هذا الفشل بذلك الإجراء.

4- الرغبة في كسب الانتخابات

كما وقر في نفس القائمين بالحكم أنهم هم الذين سيجرون الانتخابات القادمة في أكتوبر 1949 وأنهم يستطيعون أن يكسبوا دورة نيابية جديدة بالأساليب المعروفة وهم يعلمون مدى تغلغل فكرة الإخوان في نفوس الشعب فكان طبيعيا أن يحسبوا حساب منافستهم وأن يحاولوا بمثل هذه الضربة أن يباعدوا بين الإخوان وبين الجمهور ويشوشوا جهادهم.

5- الأصابع الخفية

ولا ننس عمل الأصابع الخفية والدسائس من ذوي الغايات الذني خاصموا الدعوة من أول يوم وتربصوا بها كاليهود العالمية والشيوعية الدولية والاستعمار وأنصار الإلحاد والإباحية كل هؤلاء من أول يوم يرون الإخوان ودعوتهم السد المنيع الذي يحول بينهم وبين ما يريدون من تحلل وفوض وإفساد وهكذا أقرت الحكومة المصرية بهذا التصرف أعين الضالين والمضلين بالعدوان على المؤمنين العاملين، فإلى الله المشتكى.... والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون"..

ويلخص إسحق موسى الحسيني هذه الفترة قائلا :

" وتألفت وزارة النقراشي باشا في 10 ديسمبر سنة 1946 م، وفى يوم تأليفها نشر البنا مقالا دعا فيه الحكومة الجديدة إلى اختصار الطريق واحترام إرادة الأمة وإنهاء المفاوضات وسلوك سبيل الجهاد .

ثم تابع نشر مقالاته في الجريدة مسفها منهاج الحكومة ومشيرا إلى أنها حاربت الإخوان وأغلقت مدارسهم وسجنت أحرارهم ولاحقتهم بالتضييق والإرهاق وكانت هذه بداية " حرب داخلية" بين النقراشي و الإخوان , ذاتها قضية فلسطين التي ساهم فيها الإخوان مساهمة فعالة

- وكانت بالتالى محك قوتهم ونفوذهم من جهة ومصدر عزة لهم في مصر والعالم العربى

- حدة وعنف إذ قام البنا في 12 ديسمبر سنة 1947 على رأس مظاهر صاخبة خرجت من الأزهر وتولى هو قيادتها بواسطة مكبر للصوت في سيارة .

وفى 6 مايو 1948 , 27 جمادى الآخر 1367 اجتمعت الهيئة التأسيسية للإخوان برئاسة البنا واتخذت قرارات خطيرة منها مطالبة الحكومة - وسائر الحكومات العربية بإعلان الجهاد المقدس ضد اليهود واتخاذ إنهاء المشاورات والمحادثات , وإعلان " معركة الصحف" حتى يتحدد موقف الدولة التي ينص دستورها على أن دينها الرسمى الإسلام...

وحتى يظهر للناس كافة أن لا علاج لما استشرى من أدواء الفقر والجهل والمرض والتحلل الخلقى والوطنى إلا بالرجوع إلى أحكام الشرعية 71 .

وفى 15 أيار 1948 بدأت معركة الجيوش العربية لإنقاذ فلسطين واشترك فيها الإخوان تحت إشراف الجامعة العربية 72.

وأتاح لهم هذا الاشتراك التسلح والتمرن على القتال كما كشف عن مدى استعداهم الحربى ومدى نفوذهم وخشيت حكومة النقراشي سطوتهم فاغتنمت فرصة وقوع حوادث عنف في داخل القطر واتهمتهم بأن لهم ضلعا فيها وأنهم ينوون أحداث انقلاب فأصدرت أمرا عسكريا مؤرخا في 8 ديسمبر 1948 ( رقم 63) " بحل جماعة الإخوان المسلمين وشعبها أينما وجدت وبغلق الأمكنة لمخصصة لنشاطها وبضبط جميع الأوراق والوثائق والمجلات والمطبوعات والمبالغ والأموال وكافة الأشياء المملوكة للجمعية "

و تبع هذا الأمر صدور أوامر عسكرية أخرى بتصفية شركاتهم " والعمل على استخلاص أموال الجمعية لتخصيصها في الوجوه العامة التي يقررها وزير الشؤون الاجتماعية 73".

واعتقلت الحكومة عددا كبيرا منهم 74. وعلل البنا هذا الإجراء الصارم ب(1) تدخل بريطانيا التي اعتبرتهم قوة وطنية متطرفة وعزت إليهم تعطيل الاتفاق بينها وبين مصر و(2) التمهيد لإجراء انتخابات يفوز فيها السعديون - حزبالنقراشي - بتشويه القوة الشعبية التي يستند إليها الإخوان و(3) رغبة الحكومات العربية في إنهاء قضية فلسطين و(4) ضغط أجنبى دولى .

وحاول البنا أن يسد هذه الثغرة ويسوى الموقف ولكن مقتل النقراشي بتاريخ 28 ديسمبر 1948 قضى على هذه المحاولة إذ اتهم الإخوان به وزاد موقفهم حراجة".

سابعا : وزارة إبراهيم عبد الهادي ( 1948-1949م)

إنها أشرس وزارة في تعاملها الحقود ضد جماعة الإخوان المسلمون وبلغت حدا لم يبلغه قبلها وزارة من الوزارات ... يكفي أن أبشع جريمة في حق الجماعة ارتكبت في عهدها... ألا وهي جريمة اغتيال مرشدها الإمام حسن البنا

يقول أ.عمر التلمساني: " بعد اغتيال النقراشي فى 28 ديسمبر 1948 بعد عشرين يوما من صدور الأمر العسكرى بحل جماعة الإخوان المسلمين والقبض على عدد كبير من الإخوان فى ظل وزارة إبراهيم عبد الهادي الذى خلف النقراشي باشا وجاءت هذه الوزارة بإجراءات أكثر عنفا وشراسة تجاه الاخوان المسلمين وقد اتسمت صفحات هذا الرجل ومواقفة من الإخوان بالسواد وأتى بتصرفات يندى لها الجبين بحكم خضوعه للملك والانجليز وكان أداة طيعة حركونها كيفما شاءوا ولقد حاول الأستاذ تهدئة الجو وأجرى عدة اتصالات بالحكومة أملا فى أن يفيئوا الى رشدهم ويعودوا لجادة الصواب وقد كانت ردود الفعل قاسية ومريرة على أعضاء جماعة الاخوان إزاء الجريمة البشعة التى ارتكبت ضد مرشدهم ومعلمهم وإمامهم الشهيد حسن البنا لقد سادت موجة من الحزن الدفين لدى معظم أعضاء الجماعة لتكالب قوى ا لفساد ضد دعوتهم فلقد كان حب الاخوان للإمام الشهيد حسن البنا لا يقبل الشك ولا الجدل وكانت الصدمة قاسية بالنسبة لهم وكان لها تأثير فيما بعد ولم يكتف إبراهيم عبد الهادي بمؤامرته ضد الإخوان وآخرها مؤامرة اغتيال الإمام الشهيد والذى ثبت ادانة اطرافها بعد قيام انقلاب يوليو 1952 ـ وإنما مارس من خلال أجهزته ألوانا بشعة من التعذيب ضد الإخوان المسلمين الذين اعتقلهم وثبت هذا التعذيب أيضا بأحكام من محكمة الجنايات بمصر كما اعتقل الكثير بعد استشهاد الأمام حسن البنا وضاعف الحصار حول البلاد بقوات الأمن والبوليس السياسى حتى ترك إبراهيم عبد الهادي غير مأسوف عليه فى 25 يوليو 1949 وكان الوزر الأكبر على ابراهيم عبد الهادي ـ على حد قول الاستاذ عمر التلمسانى أنه حيث انتهى من التعذيب بدأ جمال عبد الناصر ومن بعده فى هذه الإجراءات " .

ويضيف الأستاذ التلمسانى " إن الجماعة مضت فى طريقها رغم المحنة التى واجهتها وكانت محظورة بعد قرار الحل ولكننا كنا نجتمع فى مكتب ا لاستاذ طاهر الخشاب وظلت أمور الإخوان كما هى دون وجود الشكل الرسمى والقانونى لها.

فقد حفلت ا لمحاكم بعدة قضايا أطلق عليها " قضايا الإخوان " ووقعت كل أحداثها فى عهد وزارة ابراهيم عبد الهادي عدا قضية سيارة الجيب فكانت فى عهد النقراشي وكانت خمس سنوات وهى قضية اغتيالالنقراشي ومحاولة نسف محكمةالاستئناف وسيارة الجيب ومحاولة اغتيال حامد جودة رئيس مجلس النواب وقضية الأوكار .

وقد استمرت وزارة عبد الهادى نحوا من سبعة شهور ، بلغت محنة الإخوان فى أثنائها الذروة حتى ظن بعض المراقبين أنهم لن تقوم لهم قائمة ، ولكن الواقع أنها كانت كالنار صهرتهم ، وصفت معدنهم ، فخرج منهم قلة ضئيلة ، وبقى على الدعوة غالبيتهم العظمى ممن زادتهم المحنة صلابة وتماسكا ، وقيل فى هذه الفترة إن الإخوان انتخبوا سرا مرشدا جديدأ ، وانتقلت حركتهم من الجهر إلى السر .

وفى5 2 يوليو 1949 استقالت وزارة عبد الهادى ، وجاءت وزارة حسين سري الائتلافية ، ثم المحايدة ، التى أشرفت على الانتخابات ، ونال حزب الوفد أغلبية ساحقة كان لتأييد الإخوان لهم فيها ، وتولى النحاس الحكم فى 12 يناير 1950 وأخذ الكابوس يرتفع عنهم رويدا رويدا وأخذت أقلامهم تتحرك وصحفهم تعود . وأعلنوا انتخاب الأستاذ حسن الهضيبي - وهو مستشار سابق مرشدا عاما )

يقول أ.مصطفى مشهور عن محنة الجماعة في عهد هذه الحكومة الظالمة العميلة :

"تآمرت عليهم القوى الدولية عام 1948 بعد أن سجلوا على صفحات التاريخ أنماطا من الجهاد ضد اليهود المستعمرين المعتدين على أرضه فلسطين، وروت دماؤهم ثراها ورباها ووديانها، وجرى اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا "

ويقول أ. عباس السيسي:

"وعلى أثر إشتراك الإخوان فى الحرب الفلسطينية عام 1947، ظهروا كأكبر حركة شعبية إلإسلامية فى مصر والعالم الإسلامى، ولكن مع ازدياد قوة الإخوان شعبيا وحركيا ازداد إهتمام الأعداء بهم وأخذوا ينظرون إليهم على أنهم العدو الوحيد الذى يتهدد مطامعهم، ولهذا قرروا القضاء عليهم مهما كلفهم ذلك من ثمن، ومنذ عام 1948 بدأت مرحلة جديدة فى مسيرة هذه الدعوة.. مرحلة الإبتلاء والمحنة، وبدأت تجرى عليهم سنة الله فى - تمحيص أصحاب الدعوات.

وتوالت المحن حتى الآن وكان مكر الأعداء عاتيا ولكن الله كان خير الماكرين، فإزدادت الدعوة حتى شمل نورها كل قارات الدنيا وإزدادت عمقا فى نفوس أصحابها.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

فى محنة الإخوان سنة 1948م .. كان كل شىء عند الإمام البنا هيناً فى سبيل إخراج المعتقلين، فكان يروى أنه يسمع صراخ أطفال المعتقلين يدوى فى أذنيه ليل نهار .....

... قالوا له : لقد أعتقلوهم جميعاً وتركوك! فما هى الحكمة؟! .. إنه من الخير أن نخرج إلى سوريا، أو الحجاز، أو باكستان، فرفض وقال : هذا هو الجبن، كيف أترك هؤلاء فى المعتقلات ولا أسعى لإخراجهم...

وكتبوا له فى المعتقل يقولون : دعك من أمرنا .. وخذ الطريق الذى تراه، ولكنه أصر على أن يخرج هؤلاء أو يموت". !

ويقول أ. محمد كمال خليفة :

"حدث كل ذلك فى وزارة إبراهيم عبد الهادى التى تولت الحكم بعد مقتل -النقراشي ، والذى عمل على أن يثأر لسلفه فى شخص الجماعة وأعضائها وشد أزره فى ذلك ما أشيع عن سوء علاقة الجماعة بالملك السابق .

وأن لها أغراضا إنقلابية . وكان أشنع ما حدث فى عهد تلك الحكومة هو مقتل الأستاذ ( البنا ) أمام دار الشبان المسلمين بعد أن جرد من سلاحه المرخص به ، ومنع من السفر إلى الخارج ، أو التنقل من مكان إلى اخر داخل القطر بغير إذن من الحكومة ، وحين أبلغ الحكومة أنه سوف ينتقل إلى عزبة أحد الإخوان ببنها ، اعتقلوا ذلك الأخ " !!!" وكان ذلك قبل مقتله بأيام معدودات ".

ويقول أ. جابر رزق :

"حقق ثأرا للسعديين الذين طالبوا بقتل الإمام الشهيد حسن البنا انتقاما لقتل النقراشي بأيدي الإخوان وليس أدل على ما ذهبنا إليه من أن إبراهيم عبد الهادي حقق مخطط أمريكا وفرنسا بقتل الإمام الشهيد حسن البنا من تدخل أمريكا رسميا عندما حوكم إبراهيم عبد الهادي أمام محكمة الثورة ووجهت له تهمة الخيانة العظمى وصدر الحكم عليه بالإعدام فطلب تخفيف الحكم . ونترك الأستاذ جلال الدين الحمامصي في كتابه " وراء الأسوار " حيث يقول في ص 147 من كتابه في الطبعة الرابعة :

"ومن المؤكد أن الحكومة الأمريكية كانت تعتبر الإخوان المسلمين من الهيئات غير المرغوب فيها بدليل أن محكمة الثورة حينما حكمت على رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم عبد الهادي آخر رئيس للحزب السعدي بالإعدام أبلغت الحكومة الأمريكية سفارتنا في واشنطن أنها ترى أنه لابد من تخفيف الحكم لأنه ليس من المعقول أن يحكم بالإعدام على الرجل الذي واجه الإخوان المسلمين بشجاعة .

وقد قام السفير المصري في أمريكا الدكتور أحمد حسين بإبلاغ جمال عبد الناصر نص هذا الاحتجاج تليفونيا وفي اليوم التالي خفف مجلس الثورة الحكم وأبدله بالأشغال الشاقة المؤبدة " انتهى .

ولم تطل محنة الإخوان التي بدأت على يد النقراشي واشتدت ضراوتها على يد إبراهيم عبد الهادي فبعد سقوط حكومة إبراهيم عبد الهادي لم يعد في السجن من الإخوان إلا الذين حكم عليهم في القضايا".

ويذكر هذه الفترة اسحق موسى الحسيني فيقول :" وولى الحكم بعد ذلك إبراهيم عبد الهادى باشا , وصديق النقراشى ورئيس حزبه بعده , فبطش بالجمعية وشرد أعضائها وزج عددا كبيرا منهم في المعتقلات وآذاهم في أموالهم وأنفسهم وأسرهم وشد أزره في هذا العمل ما أشيع من سوء علاقة الجمعية بالعرش وأن لها أغراضا انقلابية 76.

وأثرت هذه الإجراءات الصارمة في البنا الذي رأى البيت الذي بناه بيده في عشرين عاما قد انهار بين ليلة وضحاها ويبدو أنه ندم على اشتراك الجمعية في السياسة.

وبعد أن كانت الجمعية قد قررت أن ترشح الأكفاء أنفسهم للنيابة تمهيدا للاشتراك في سياسة الدولة , وبعد أن بسط أهداف الجمعية السياسة بصراحة ووضوح عاد بعد مقتل النقراشى فألغى هذين الاتجاهين - أن صح ما نقل على لسانه - وقال:"

رأيى الذي كونته أن تأخذ هيئتنا على عاتقها النهوض بحالة البلاد من الناحية الدينية والاجتماعية والاقتصادية - مهملا الناحية السياسية - وأن تتيح لأعضاء الجماعة البارزين أن يتقدموا للانتخابات بواسطة الأحزاب التي يرون أن ينضموا إليها , على أن لا يقتصر هذا الانضمام على حزب دون حزب وأن يتولوا نشر دعوة الجمعية داخل هذه الأحزاب ...

وأنى أعتقد أنه لن يمر وقت إلا ويكون هذه الأحزاب قد آمنت بما تنادى به .

ولكن هذا التراجع لم يغن شيئا . ففى مساء 12 شباط 1949 اغتيل البنا وهو في السيارة أمام دار جمعية الشبان المسلمين التي كان يتردد عليها بعد حل جمعيته .

وبمقتله الذي عزى إلى حزب السعديين انهار صاحب الدار بعد انهيار الدار نفسها من وجهة النظر الرسمية.

وتتبعت الحكومة الإخوان وجرت لهم محاكمات طويلة وأصبحوا " غير شرعيين" ولكن الفروع التي أسست في البلاد العربية ظلت توالى نشاطها ولا سيما في سوريا التي تبنى فرعها الحركة بزعامة مصطفى السباعي.

واستمرت وزارة عبد الهادى في الحكم نحوا من سبعة أشهر بلغت محنة الإخوان في أثنائها الذروة حتى ظن بعض المراقبين أنه لن تقوم لهم قائمة.

ولكن الواقع أنها كانت كالنار صهرتهم وصفت معدنهم , فخرج منهم عدد وبقى على الدعوة عدد زادته المحنة صلابة وتماسكا".

وفي عهد هذه الحكومة الظالمة لاقى الإخوان الشديد من صنوف العذاب و القهر يقول المهندس الصروي :

في كتاب الإخــوان المسلمــون في سجون مصر" في الفصل الثالث:ابتلاءات الإخوان في عهد إبراهيم عبد الهادي، بالمبحث الأول تحت عنوان تلفيق القضايا للإخوان قامت حكومة إبراهيم عبد الهادي بتلفيق ست قضايا لجماعة الإخوان المسلمين (عام 1949 م) .. هذا بخلاف التعذيب البشع الذي تعرض له الإخوان لأول مرة في تاريخهم في معتقل سجن الاستئناف الذي يقع في قلب القاهرة، وهو من أسوأ المعتقلات التي عاش فيها الإخوان المسلمين قبل الثورة، وهذه القضايا هي:

1- قضية القاضي أحمد الخازندار.

2- قضية اغتيال النقراشي باشا.

3- قضية محاولة نسف محكمة الاستئناف.

4- قضية السيارة الجيب.

5- قضية حامد جودة (رئيس مجلس النواب).

6- قضية الأوكار.

وهذه القضايا جميعاً تمت بخطة واحدة، وهيأتها ظروف مشتركة، حتى كأنها تمت في ساعة واحدة، وعلى رأس هذه الظروف.

- حكومة ضعيفة تمثل الأقلية وليس الأغلبية، مدعومة من الاستعمار، رئيسها فظ غليظ القلب، مثل النقراشي، على صلة وثيقة بالأمريكان، على صلة بالروتاري.. هذا ما فعلته حكومة السعديين، التي توالى على رئاستها محمود فهمي النقراشي، وبعده إبراهيم عبد الهادي.. ولهما باع طويل في قضية الأسلحة الفاسدة، وفي إعلان الأحكام العرفية، وفي اغتيال حسن البنا.

خلق مناخ في غاية الاستفزاز والتوتر، خصوصاً مع الاتجاهات الدينية.

اعتقال المجاهدين ضد اليهود، وإرسال جيش بلا تدريب وبلا عقيدة قتالية لمحاربة اليهود.

تعذيب المعتقلين في السجون تعذيباً رهيباً كما سنرى في السطور القادمة.

هذا المناخ الاستفزازي.. عادة لا يتحمله بعض الشباب المتحمس، فهناك شريحة من الشباب لا تستطيع تحمل الاستفزاز أو الجو المتوتر فتفقد أعصابها.. ويختل توازنها فتندفع في تهور وحماسة دون مشورة او إذن، فيرتكبون حماقات ضد هؤلاء الزعماء.. وبعدها تحدث الطامة الكبرى.. هذا ما حدث في عام 1948 م ثم تكرر بعد ذلك.

ولقد دفع النقراشي رأسه ثمناً لهذا الجو المتوتر.. وكان هذا هو المطلوب لمن يديرون مسرح العرائس.. النقراشي كان لاعباً في هذا المسرح أو عروساً من تلك العرائس وهو لا يدري.. ولم يكن يعلم أن رأسه لا ثمن لها في هذا المسرح حتى ولو كان رئيساً للوزارة.. فالمطلوب.. كل المطلوب هو سحق المجاهدين ضد اليهود وضد الاستعمار الإنجليزي، وليس لرأس النقراشي في هذا المخطط.. بل لعل أحد خطوات اللعبة أن يدفع النقراشي رأسه ثمناً لنجاح هذه اللعبة الشريرة.. وبعد هذا توالت الحوادث تترى.

حل جماعة الإخوان المسلمين - اغتيال الإمام حسن البنا.

وقبل هذا المسلسل الشيطاني كانت هناك مقدمة من نفس النوع.

قصة الخازندار

كان القاضي أحمد بك الخازندار قد صار حكماً قاسياً على اثنين(1) من طلبة الثانوي من الإخوان المسلمين وهما حسين محمد عبد السميع، ومحمود نفيس حمدي.. هذان الطالبان اتهما بإلقاء قنبلة على نادي الضباط الإنجليز بالقاهرة في ليلة عيد الميلاد عام 1947 م، ورغم عدم ثبوت التهمة عليهما إلا أنه حكم على كل منهما بثلاث سنوات سجناً وغرامة مائة جنيه، فاهتزت الأوساط الإخوانية لهذا النبأ.

وفي نفس الوقت حكم القاضي أحمد بك الخازندار في جريمة بشعة مروعة وقعت في الإسكندرية وهزت أرجاء البلاد وسميت بقضية (سفاح الإسكندرية) وهو السفاح (حسن قناوي).. كان يستدرج ضحاياه ويمارس معهم الشذوذ ثم يقتل الضحية.. وقد تكرر هذا منه عدة مرات.

وما دار في جلسات المحاكمة من شرح لهذه الجرائم يزكم الأنوف، ويؤذي المشاعر ورغم ثبوت الجرائم كان الحكم مخففاً جداً وصادماً لمشاعر المصريين، فلقد حكم عليه بسبع سنوات فقط لدرجة أن هذا السفاح تلقي هذا الحكم بالابتسام والسرور. وهنا اندفع صديقان من أصدقاء شباب [الإخوان] المسجونين ظلماً وعدواناً من محكمة أحمد بك الخازندار.. وأطلقا النار على هذا القاضي.. بدافع شخصي منهما وليس بتوجيه من أحد، وحكمت عليهما المحكمة بالأشغال الشاقة المؤبدة.

مقتل النقراشي

قام عبد المجيد أحمد حسن الطالب بكلية الطب البيطري، باغتيال النقراشي.. ورغم أن هذا السلوك فردي، إلا أنه تم اتهام أربعة آخرين بالتحريض وتسعة عشر بالاتفاق الجنائي.. والخمسة الأوائل هم:

1- عبد المجيد أحمد حسن – طالب طب بيطري – 22 سنة.

2- السيد فايز عبد المطلب – مهندس ومقاول مباني – 29 سنة.

3- محمد مالك يوسف – موظف بمطار القاهرة.

4- عاطف عطية حلمي – طالب بكلية الطب - 25 سنة.

5- سيد سابق – شيخ أزهري – 24 سنة.

أما التسعة عشرة الآخرون فهم:

6- أحمد عادل كمال – موظف بالبنك الأهلي – 23 سنة.

7- طاهر عماد الدين – مهندس – 30 سنة.

8- إبراهيم محمود علي – ترزي بسجن مصر – 30 سنة.

9- مصطفى كمال عبد المجيد أيوب – ميكانيكي – 26 سنة.

10- مصطفى مشهور مشهور – 27 سنة – المرشد الخامس للإخوان المسلمين.

11- محمود السيد الصباغ – مهندس الأرصاد الجوية – 28 سنة.

12- أحمد زكي حسين – مدرس ابتدائي – 25 سنة.

13- أحمد محمد حسنين – مراقب حسابات بشركة المعادن- (عضو مكتب الإرشاد فيما بعد).

14- محمد فرغلي النخيلي – تاجر معادن – 29 سنة.

15- عبد الرحمن السندي – موظف بوزارة الزراعة – 32 سنة.

16- محمد حسني أحمد عبد الباقي – (عضو مكتب الإرشاد لحوالي أربعين عاماً).

17- أحمد قدري البهي – مهندس طيران – 21 سنة.

18- محمد بكر سلمان – نساج بشركة النيل للمنسوجات – 26 سنة.

19- أسعد السيد أحمد – ميكانيكي – 26 سنة – (صاحب مكتبة فيما بعد).

20- محمد سعد الدين السنانيري – مقاول نقل – 28 سنة.

21- علي محمد حسين – قومسيونجي – 27 سنة.

22- سعد محمد جبر – مهندس لاسلكي.

23- الشيخ محمد محمد فرغلي – واعظ الإسماعيلية – 42 سنة (عضومكتب الإرشاد.. شنقة عبد الناصر عام 1954 م).

24- محمد إبراهيم سويلم – فلاح – 22 سنة.

وأُعدم المتهم أول عبد المجيد حسن وصدر ضد الباقين أحكام مختلفة.

قضية نسف محكمة الاستئناف

وقعت هذه المحاولة في إطار المناخ الاستفزازي، والمتهم فيها الأخ شفيق إبراهيم أنس (22سنة) الذي ضاق صدره، ونفد صبره لما كان يجري بين جدران هذه المحكمة من تزييف وتلفيق وإكراه.. ثم تعذيب بشع داخل جدران المحكمة على مرأى ومسمع من القضاة آنذاك.. ولكن أحداً لم يصب والحمد لله وفشلت المحاولة.. ورغم ذلك حُكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.

قضية السيارة الجيب

تم ضبط هذه السيارة في 21/11/1948 م في دائرة قسم الوايلي بالقاهرة وبها أوراق كثيرة ومضبوطات.. وقدم فيها 32 فرداً من جماعة الإخوان المسلمين إلى المحاكمة،معظمهم ذكر اسمه في قضية مقتل النقراشي والذين تحملوا جميع القضايا في تلك الفترة العصيبة في أول محنة جماعية للجماعة.

أما الآخرون الذين أدرجت أسماؤهم معهم في قضية السيارة الجيب فهم:

1- أحمد متولي حجازي – تاجر راديو – 29 سنة.

2- د. أحمد الملط – طبيب – 32 سنة (فيما بعد صار نائب المرشد العام الثالث ونائب المرشد الرابع).

3-جمال الدين فوزي – موظف بالبريد – 39 سنة – (شاعر الإخوان).

4- محمود حلمي فرغلي – موظف بالداخلية – 27 سنة.

5- محمد أحمد علي – موظف بالأشغال – 25 سنة.

6- عبد الرحمن عثمان – طالب حقوق – 22 سنة.

7- السيد إسماعيل شلبي – تاجر – 44 سنة.

8- صلاح الدين عبد المتعال – طالب ثانوي – 18 سنة (فيما بعد أصبح أستاذاً بمركز البحوث الجنائية).

9- جمال الدين الشامي – مهندس ري – 26 سنة

10- جلال الدين ياسين – موظف وطالب تجارة – 24 سنة.

11- محمد الطاهر حجازي – طالب بالزراعة – 24 سنة.

12- عبد العزيز البقلي – ترزي – 24 سنة.

13- كمال القزاز – نجار – 27 سنة.

14- علي حسنين الحريري – قومسيونجي – 27 سنة.

15- محمد إبراهيم سويلم – فلاح بالإسماعيلية – 22 سنة.

16- سليمان مصطفى عيسى – فلاح بالإسماعيلية – 22 سنة.

قضية حامد جودة

وقع الحادث في 6/5/1949 م بعد اغتيال المرشد العام حسن البنا بثلاثة شهور وتكهرب الجو في مصر كلها، وحلت الجماعة واعتقل الآلاف من القيادات والعاملين في الإخوان. .ولم يعد هناك خارج السجون سوى شباب ليس بينهم رابط قوي، ولا خبير مجرب في ظل مناخ استفزازي وشيوع قضية العسكري الأسود في عصر إبراهيم عبد الهادي خليفة النقراشي في رئاسة الوزارة ورئاسة حزب السعديين آنذاك.

ومرت سيارة حامد جودة رئيس مجلس النواب وظنوا أنها سيارة إبراهيم عبد الهادي، فألقى أحد الشباب قنبلة، ولكنها لم تصب أحداً بسوء، وأخطأت الهدف، ونجا حامد جودة الذي كان في السيارة، وتم اتهام عشرة من الإخوان هم:

1- مصطفى كمال عبد المجيد – ميكانيكي.

2- محمد نجيب جويفل – طالب.

3- عبد الفتاح ثروت – أرصاد جوية.

4- فتحي محمد علام – طالب.

5-سمير جلال شهبندر.

6- مصطفى محمد السيد.

7- عبد الكريم محمد السيد – عامل.

8- محمد شحاته عبد الجواد – مطبعجي.

9- سعيد جلال شهبندر – طالب.

10- علي صديق السيد فراج – محام.

تم ضم هذه القضية مع القضية التي بعدها وتسمى قضية الأوكار.

قضية الأوكار

تم اتهام خمسين فرداً من جماعة الإخوان المسلمين – الخطرين في نظر الحكومة – في هذه القضية باتهامات مختلفة.. وقبضوا عليهم في منازلهم في كل من روض الفرج – شارع شبرا – شارع السندوبي – روض الفرج – الجيزة.

وسموا هذه المنازل أوكار للإخوان المسلمين.. ومن هؤلاء الخمسين أفلت ثلاثة منهم وتمكنوا من الهرب إلى ليبيا وهم (يوسف علي يوسف، عز الدين إبراهيم، ومحمد جلال سعدة) أما محمود يونس الشربيني فقبضوا عليه في الإسكندرية بعد اختفائه شهراً بها ولم يتمكن من الذهاب إلى ليبيا.

وأثناء القبض عليه قتلت الحكومة الأخ الشهيد أحمد شرف الدين بمنزله بروض الفرج .. ولم يحاسبها أحد!! وهؤلاء الخمسون المتهمون منهم العشرة السابق ذركهم في قضية حامد جودة، أما الأربعون الباقون فقد ذكرهم الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ جـ2 ص 163."

المبحث الثاني:الإخــوان في معتقل الهايكستــب

في ديسمبر 1948م أصدر رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي قراراً بحل جماعة الإخوان المسلمين استجابة لرغبة الإنجليز، فأغلقت دور الإخوان المسلمين ، وصودرت ممتلكاتهم، واعتقل عدد كبير منهم – إلا فرداً واحداً هو الإمام حسن البنا...، وبعد عشرين يوماً من حل الجماعة اغتيل محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء، على يد الطالب عبد المجيد حسن الذي ارتدى زي ضابط شرطة ودخل مكتب رئيس الوزارة وقتله بمسدسه... وجاء إبراهيم عبد الهادي رئيساً للوزراء الذي انتقم باغتيال حسن البنا في 12 فبراير 1949 م، وكان الإخوان المعتقلون بالآلاف قد أودعوا في معسكر الهايكستب.

وهذه المنطقة كانت معسكراً للإنجليز، وهي بين القاهرة ومحافظة الشرقية تبعد حوالي 30 كيلو متراً شمال شرق القاهرة ، وبعد أن رحل عنها الإنجليز قامت الحكومة بتجهيزها كمعتقل للإخوان المسلمين.

وفي عام 1948 م تم اعتقال وترحيل الإخوان من جميع المحافظات إلى معتقل الهاكتسب كمركز تجميع، تمهيداً لترحيلهم إلى جبل الطور في سيناء.

ويحكى الأخ علي أبو شعيشع في كتابه " يوميات بين الصفوف المؤمنة " أن هذا المعتقل كان فيه أسرة (جمع سرير)، لكن بسبب كثرة عدد المعتقلين كان كل اثنين من الإخوان المعتقلين ينامان على سرير واحد.. وقد تم توزيع بطاطين (أغطية) عليهم... وكعادة الإخوان قاموا بترتيب المعتقل.. وأبرز ما حدث في هذا المعتقل هو السرعة الفائقة في تنظيم الإخوان لأمورهم داخله رغم أنه كان مجرد محطة للترحيل إلى جبل الطور.. ومن هذه الترتيبات:

- طابور رياضة الصباح لجميع الإخوان.

- تقديم الوجبات الغذائية وانتظامها.

- إيقاظ الإخوان قبل صلاة الفجر.

كان أحد الإخوان وابنه يطوفان المعتقل يرددان نداءً عذبًا:

يا نائمًا مستـغرقًا في النوم قمْ واعبدْ الحي الذي لا ينام

مـولاك يدعـوك إلى ذكـــره وأنت مشغـــول بطيب المنـام

وقد كنت أعتقد أن معتقل الهاكستب ليس به أحداث.. فالكلام عنه في المراجع نادر.. حتى عثرت على كتيب للدكتور حسان حتحوت أستاذ النساء والولادة والمفكر الإسلامي والإخواني القديم الذي صاحب الإمام حسن البنا عشر سنوات.. هذا الكتيب بعنوان " العقد الفريد – عشر سنوات مع الإمام حسن البنا ". وننقل هنا من كتاب د. حسان حتحوت بعض هذه الفترات (بتصرف):

" معسكر الهاكستب عنابر واسعة من البناء سابق التجهيز، كل منها محاط بالأسلاك الشائكة، فلا منفذ منه ولا إليه، كان المبنى الذي ذهبت إليه يسمى عنبر الإدارة لأن به مكتب قومندان المعسكر والضابط، وبعد إجراء التسجيل والتسليم دخلت دهليزاً طويلاً فوجدت الأخ إبراهيم الشربيني (رحمة الله.. كان رجلاً شهماً ووطنياً مخلصاً) يهش للقائي..

كانت هناك غرفة وحيدة صغيرة يشغلها مع عدد عبد المجيد وفتحي البرعي (وكان طالباً بكلية الزراعة ولا أدري أين هو الآن). كان كل منهم يشغل ركناً، فدعوني لأشغل الركن الرابع، وكان سائر الإخوان في العنبر المجاور.

كان في جناح الإدارة كذلك المعتقلون من اليهود والشيوعيين والوفديين، ولكن في طرف آخر غير منفصل إلا معنوياً، وكان الفناء واسعاً من دون السلك الشائك، فترك مجالاً للتمشية والرياضة.

وطالما تمشيت مع الزميل (ع. ح) ، وكانت الأحاديث بيننا ممتعة فكرياً، رغم تناقض العقائد والمنطلقات. وأحياناً نتمشى مع الشاب التقي يوسف القرضاوي الطالب بالأزهر، نذكر الله وندعوه ونأنس به، ولم يدر بخلدنا آنذاك أن هذا الشاب سيصبح واحداً من أكبر فقهاء العصر.

وكنا نأخذ (الجراية) جافة من المتعهد، إذ صنع المعتقلون مواقد كهربائية بحفر قالب طوب وإيداع سلك يوصف طرفاه بالكُبس الكهربائي.

لم يكن الطعام بالغ الرداءة ولا بالغ الحسن، ولكنه كان مملاً. واشتهينا ذات يوم (تورتة) من محل جروبي، لكنه كان اشتهاءً من قبيل الخيال..

حتى قال زميلنا وجيه الباجوري (الدكتور فيما بعد) إن الأمر ليس بهذا الإعجاز، وأخذ على عاتقه تنفيذه.. ونحن غير مصدقين.

وكان وجيه طالباً بالطب، ليس له صلة بالسياسة، لكنه كان ابن خالة عبد المجيد حسن الذي قتل النقراشي، فأتوا به ووالده الدكتور الباجوري – رحمه الله – الذي كان أستاذ الفسيولوجيا بكلية الطب، ومن أحب الأساتذة إلينا.

المهم بعد أيام وصلت (التورتة)، فكيف وصلت؟! جاءت في السيارة الوحيدة التي يسمح لها بدخول المعتقل بدون تفتيش.

جاءت في شنطة سيارة قائد المعتقل، بعد أن أقام وجيه علاقة إيجابية مع سائق السيارة وبعض عساكر الشرطة.. بما يعود بالنفع على الطرفين.

كانت هذه الفترة من أمرح فترات حياتي (ولا أقول أسعدها) .. كان لدي إدرار غزير من النكت والقوافي والقفشات، لدرجة أن الأخ (أ. ف) كان يتبعني باستمرار ومعه دفتر وقلم ليسجل عني ما أقول.. وكان بعد طالباً في الطب معتقلاً على ذمة الوفديين ولم يكن وفدياً ولا يحزنون.

وكانت للأخ الفنجري اهتمامات بالتنويم المغناطيسي لم نأخذها مأخذ الجد الذي يفضي إلى الرفض أو القبول، لكنه في إحدى هذه المرات نوم واحداً من المعتقلين (لا أذكر اسمه ولكنه كان فيما بعد إماماً لمسجد السيدة زينب)(1) ، وطلب منه أن يذهب إلى إبراهيم عبد الهادي (رئيس الوزراء) ليرى ماذا يفعل:

فأجاب بأنه اكتشف مؤامرة تمرد في الأورطة التاسعة بالجيش، وأن عبد الهادي نفسه يحقق الآن مع عدد من الضباط !! أخذناها آنذاك بفتور.. وكنا في أواسط 1949 م !!!.

وسارت الأمور على وتيرة واحدة في المعتقل (وكنت دائماً أسميه المعكسر).. وأعلنوا أنهم فتحوا باب التظلم للمعتقلين.. فمن أراد قدم طلباً جاءه الرد خلال شهر، لكن كل الردود كانت سلبية وتقضي برفض التظلم، وفي يوم من الأيام استدعى الضابط النوبتجي المعتقل محد الشحات (دكتوراه فيما بعد) ليوقع على علمه بالرد على التظلم.

قال له "امض هنا" قال "أمضي على أيه" قال له " مش مهم تعرف" فأجابه لا أوقع على شيء لا أعرفه. قال الضابط "امض يا حيوان" فأجاب الشحات " أنت اللي حيوان"! وقامت القيامة! وانهالت العصى من الجنود على الشحات والمسكين يصيح ويستغيث في علقة لا يعلم لها آخر.

وهنا أمسك معتقل يهودي اسمه إلياهو " كان طالباً بالطب " بحجر ورماه باتجاه غرفة الضابط!!. وساد هدوء بدأت معه الحلقة التالية:

إذ قام جنود الشرطة بإشراف الضابط بتكسير مكتب القومندان وتكسير زجاجات الكوكاكولا الفارغة في إخراج متقن لإقناع النيابة بأن المعتقلين قاموا بحركة تمرد كبيرة اعتدوا فيها على الضابط ومبنى الإدارة.

وفي خلال ساعة كانوا قد فصلوا المعتقلين الآخرين عن الإخوان وأخذوا التمام، ووصلت "فرقة الباشا" والباشا هو اللواء سليم زكي حكمدار العاصمة آنذاك.

أما الفرقة فكانت مدربة على أعمال الضرب والقمع والعقاب. ومن آخر الممر رأينا الفرقة تتقدم ومنظر الخوذات والعصى كمنظر القباب والمآذن.

وقفز أربعتنا إلى غرفتنا الصغيرة. وحاول أحدنا أن يقفز من فوق الحائط إلى غرفة بها معتقلون سودانيون لكنهم طردوه مهددين بالإبلاغ عنه.

وفي المستقبل عندما جاء دور العتاب قالوا عيب أن يفر وواجبه أن يثبت مع إخوانه!! وأغلقنا الباب مستحكمين، وراح إبراهيم الشربيني يدق مسماراً كبيراً فوق الباب بنية أن يثني المسمار فكأنه ترباس، لكنه كان يدقه بكنكة قهوة صغيرة لا تجدي، وفوق ذلك فقد كان الباب نفسه من ورق الكرتون السميك.. فلما شرع الجنود في تحطيمه وجدنا البلطة تخترقه وتدخل بين رءوسنا.

ورغم أن سماع صوت العصى تنهمر كالمطر على الإخوان في العنبر بين صياحهم واستغاثتهم كان يدفعنا إلى الاستماتة في دفع الباب لإغلاقه، إلا أننا خشينا من تحطيم أدمغتنا بالبلطة كانت أشد..

ولم نجد إلا ترك الباب، وقفزنا إلى الركنين البعيدين من الغرفة والكل يحاول أن يكون خلف صاحبه، ووجدتني خلف الزميل علي عبد المجيد، وانفتح الباب: وبدأ العسكر يتقدمون، وأخذت تهوي العصى عشوائية على كل مكان، أصابت واحدة عيني فانقدحت بمثل البرق وأذني ورأسي وجسمي كله.

وأدركت أن تترسى خلف علي لا يغني شيئاً، فقررت أن أقف منكمشاً وأخرج من ورائه تحت الضرب الهاطل، لكنني كنت أجابه الشرطي منهم وأمسك به قابضاً على كتفه واضعاً وجهي في وجهه وأسأله بهدوء وابتسامة خفيفة: "لماذا تضربني؟ هل بيننا عداء؟ ألم يخطر ببالك أن تسأل نفسك لماذا تضربني؟"..

فيشيح بوجهه عني ويجيء الضرب من كل مكان، فأمسك بشرطي آخر وأسأله نفس الأسئلة.. ورغم انكشافي وتعرضي للزيد إلا أن هذه العملية – محاولة وضع الإنسان أمام إنسانيته – قد أفادتني نفسياً كما شغلتني عن مجرد الجلوس في انتظار سلبي لما يجيء من ضربات.

وانتهى الأمر فجأة.. وصاح بهم أحد ضباطهم: " بس يا بن الكلب أنت وهوه " وكأن حنفية كانت مفتوحة فأقفلتها يد قوية، ورثيت لحال هؤلاء العسكر الذين ضاعت منهم إنسانيتهم فدربوا على أن يكونوا كلاباً مسعورة تنهش بأمر وتسكت بأمر.

وانسحب العسكر.. وخيم صمت رهيب.. ودخلت على العنبر المجاور أزوره فذكرني فوراً باللحمة المفرومة.

أكوام من الأثاث المبعثرة والأجساد المبعثرة الملطخة بالدماء وبالكدمات. قام إليَّ الأخ الأستاذ صالح أبو رقيق(1) معانقاً.. وقلنا بصوت واحد " تقبل الله ".

إن الأخ صالح لما دخل الجند وقف أمامهم ومد ذراعيه جانباً يتلقى الضربات عمن وراءه من الإخوان ، وذلك من ضراوة العسكر.

بل إن العسكري الذي كان ينهال عليه ضرباً إذا وقعت من يده العصا انحنى صالح والتقطها وردها إليه من جديد وعلى ثغره ابتسامة، فيأخذه الوحش وينهال عليه ضرباً من جديد!. وبينما كنا جلوساً لا تسعفنا الكلمات لا تسعفنا الكلمات إذا بالأخ عبد الودود شلبي ، الطالب بالأزهر (وكيل الأزهر فيما بعد) يدخل جرياً وهو يكرر في هلع كبير " عثمان بن عفان .. عثمان بن عفان " ولعل أحد العساكر لاحقه بالخارج.. ولا ندري كيف، لكنها كانت كافية ليضحك الجميع ويتبدد هذا الجو الكئيب.

وكنت في " المعسكر " ألبس بنطلوناً قصيراً تاركاً النصف الأعلى من جسمي عارياً تماماً؛ ولهذا فقد بدا أثر الضرب صارخاً، وبدوت مخططاً مثل النمر تماماً وجروحي تنشع بالمصل والدم.

وأخذني أحدهم إلى الجناح الآخر فضمد اليهود جراحي ووضعوا عليها مرهمًا. وجاءني هنري كورييل (يهودي – مؤسس الحزب الشيوعي المصري). وحدثني عن الشيوعية وعن انتصارها في الصين، واتوني بكتاب اسمه " النجمة الحمراء في الصين " . ودخل القومندان إليهم فألقوا عليّ ملاءة لإخفائي عنه.

جاء يسأل إن الكوكاكولا قد وصلت إليهم، مؤكداً أنه لن يسمح بعد اليوم بها لأولاد الكلب الآخرين. وعلمت أنهم يلعبون البوكر مع القومندان واسمه (عبد الحفيظ) ويخسرون له قصداً، فكانوا ينالون تسهيلات كبيرة، بل كان بعضهم يخرج لقضاء الليل في بيته ويعود في الصباح. وعدت للإخوان وقد عز علينا النوم في تلك الليلة، لأن إشاعة سرت بأنهم سيحضرون فرقة الباشا مرة ثانية ليفاجئنا مرة أخرى في أثناء نومنا بعلقة جديدة.

لكن لم يحدث. وفي الصباح أخرجونا فأوقفونا طابوراً وبدءوا في عد التمام. كنا في غاية الرهبة، فإذا سمع أحدنا اسمه أجاب صائحاً " أفندم " .. لكن حدث أن الضابط الذي ينادي على الأسماء وصل إلى اسم عبد الودود فقرأه هكذا: "عبد الوِدْودْ ". ولم يحتمل الأمر أن ننفجر بالضحك المتواصل، والضابط عاجز في خزيه فانصرف.

وعلمت فيما بعد أن يوم العلقة كان يوم زيارة للأسر.. فأعدت لي أمي كيكة فاخرة من صنع يديها، ولما ذهبوا إلى قسم الشرطة الذي تقوم منه قافلة الزوار عاملوهم بغلظة، وفاجئوهم بأن الزيارة ألغيت.. وعادت أمي وأبي كسيرين إلى البيت ووضعت الكيكة لم تمتد إليها يدوكأنها ميت مسجى حتى رموها في القمامة.. وبعد فترة جاءت أمي وأبي زائرين وحييتهما من خلال القضبان، وكنت ألبس قميصاً، سألتني أمي عن الجرح في جبهتي فأخبرتها أنها خبطة في الشباك.

وغداة العلقة أقاموا علقة خاصة لكبار الشخصيات الإخوانية ولحسن الحظ لم أكن منهم.

ومرت الأيام بعد ذلك ثقيلة تحت وطأة حر الصيف في الصحراء، الذي أوحى بأغنية كثر تردادها مطلعها " معتقل الأحرار بين لهيب النار – هاكستب.. هاكستب" كذلك تحت وطأة شوقنا إلى من بالخارج.

والظاهر أن عدة حالات مرضية ظهرت بين المعتقلين، سواء في الهاكستب أو في معتقل جبل الطور، ووجدت الحكومة نفسها تحت ضغط شديد من أقرباء المعتقلين، ومنهم كثير من نواب البرلمان حتى من حزب الحكومة، فرجعت عن قرار المنع الكامل للعلاج بالمستشفيات، ونظمت فرقاً من الأطباء تزور المعتقلات مع التنبيه بعدم التحويل للمستشفيات، إلا في حالة الضرورة القصوى.. وأبلغنا بموعد قدوم الفريق الطبي لتسجيل أسماء الراغبين في الفحص!.

كانت فرصة ثمينة ولكن لمن يحسن انتهازها. صديقي إبراهيم الشربيني (رحمه الله) استحصل على حقنة وإبرة وعبأ 2 سنتيمتر من الحليب المركز المحلي (الذي له قوام العسل) وحقن نفسه بها في العضل.

ومعروف أن حقنة الحليب ترفع الحرارة فكانت حقنة اللبن علاجاً معروفاً لحالات الرمد الصديدي في العينين قبل حقنة المضادات الكيمائية والحيوية، على اعتبار أن الحرارة العالية تقتل الميكروبات.

وارتفعت حرارة إبراهيم إلى 42 درجة مئوية وعاينه الأطباء ولم يصرحوا بتحويله للمستشفى.

كانت لي أنا خطة مختلفة، والحرب خدعة، طليت إصبعي بطبقة من هذا الحليب وتركته حتى يجف. وشبكت في ملابسي الداخلية دبوس مشبك. وذهبت للأطباء في حالة أليمة من المرض أشكو لهم من ألم الكلية وتقيح البول.. كان مظهري يستدر الشفقة، وكان طبيعياً أن يعطوني كأساً طالبين عينة من البول. ونظراً لأن الغرفة كان بها ناس.

وأن الحياء من الإيمان فقد ذهبت بالكأس إلى الحائط واستدرت مولياً ظهري.. وشككت إصبعي بالدبوس وغسلته بسيال البول وكان اللبن والدم والبول عينة ممتازة للبول ذي الصديد والدم.. فانزعجوا وقالوا: إلى المستشفى فوراً.

ويا النعيم!. وإلى مستشفاي مرة أخرى. مستشفى الدمرداش الجامعي. نفس الغرفة الخاصة التي خرجت منها مكبلاً بالحديد.

ويواصل د. حسان حتحوت قائلاً: وفي هذه الفترة استطاع الأخ نجيب جويفل الذي كان تحت الحراسة أن يغافل حراسه ويهرب من المعتقل ومنه إلى سوريا.

وكانت تأتينا أخبار قضايا الإخوان في المحاكم. ولأول مرة نعلم أن مصر قد دخلت عصر التعذيب في التحقيقات، وأن رئيس الوزراء كان يشرف على التعذيب بنفسه أحياناً، وأنه هدد أحد المتهمين بأن يأمر العسكري الأسود بأن يرتكب فيه الفاحشة، وكانت بدايات التفنن في التعذيب، وهي بدايات نمت وازدهرت وأنبتت من كل زوج قبيح.

وزارني الدكتور حسن حتحوت ، عضو مجلس الحزب الحاكم، الحزب السعدي الذي يرأسه رئيس الوزراء إبراهيم باشا عبد الهادي.

طلب مني أن أعطيه كلمة الشرف بأنني غير متورط في أي عمل إجرامي، حتى يبذل مساعيه الخاصة وهو مطمئن.

وطمأنته على ذلك. وهو إنسان نبيل – رحمه الله – وإن كانت الظروف في ذاك الآن لا تنفع فيها الوساطة.

وكانت أمي رحمها الله قد طرقت كل الأبواب وسلكت كل المسالك بلا هوادة، ولنا أقارب كبار في الأحزاب سواء الوفد أو أحزاب الأقليات (الحاكمة)، وأمي طاقة كبيرة لا تهمد ولا تخمد، بالقياس على أبي الذي كان ذا شخصية هادئة فلسفية تتقن الصبر وتتوكل على الله.

كانت مصر متوترة.. وسرت أخبار التعذيب بين شعب لم يعهدها من قبل.. وبرأت المحاكم المتهمين في بعض قضايا الإخوان الكبرى مشيدة بوطنيتهم وحسن بلائهم في فلسطين ، وأهملت قضية جلاء الإنجليز عن مصر تماماً، وكانت المرارة في فم الجيش بعد فلسطين وفي فم الشعب من كثرة المعتقلين.. وكان واضحاً أن الأمور لا تستقيم على هذا الحال.

لقد ذاق الإخوان صنوفا شتى من التعذيب ، ورأوا ألوانا من البطش و التنكيل ، وكانت التهمة الحقيقية و الوحيدة أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد .. و رفعوا راية الإسلام عاليا فوق كل راية ويتابع المهندس الصروي نقل بعض ما جاء في كتاب الدكتور حسان حتحوت " العقد الفريد – عشر سنوات مع الإمام حسن البنا وبتصرف

"وزارني ذات صباح – مبكراً – الدكتور فؤاد الرشيد يقول إنه سمع من مصادر في السراي أن الملك أرسل يستدعي حسين باشا سري من مصيفه بالخارج.. وأن أكتم الأمر، وزارتني أمي بعدها بقليل وأخبرتني أنها على موعد للذهاب لبعض أقاربنا من ذوي السلطات في سلسلة مساعيها للإفراج عني، وأوصيتها أن تؤجل الأمر أياماً، متوقعاً أن تسقط الوزارة، وظنت أمي أني عبقري سياسي عندما بعث الملك بعد أيام خطاب الإقالة لإبراهيم عبد الهادي بسبب ما يعانيه الشعب من القلق والتوتر من حكمه، وتكليف حسين باشا سري بتشكيل وزارة محايدة تحل مجلس النواب وتحضر لإجراء انتخابات حرة بإشرافها.

وحسين باشا سري من السياسيين المستقلين، أي ليس عضواً في حزب سياسي، وهو مهندس كفء، ومعه طاقم السياسيين الذين يحتاج إليهم لتولي وزارة محايدة بفترة مؤقتة تجري فيها الانتخابات ليتولى الحكم بعد ذلك حزب الأغلبية.. ولم يكن ذلك صحيحاً دائماً، فإذا كان الوفد في الحكم وأراد الملك التخلص منه فلن تكون الانتخابات نزيهة، وإذا كانت أحزاب الأقلية في الحكم وأراد الملك التخلص منها فيكفي أن تعقد انتخابات نزيهة ليعود الوفد للحكم.

وكان هذا النظام يتيح للملك أن يقلب كفه الميزان كلما ضاقت الحال بالناس من حكم أحد الفريقين، ديكتاتورية الأقليات أو محسوبيات الوفد؛ وذلك لامتصاص نقمة الأمة فلا تنفجر فيه، وإن كانت الحقيقة دائماً أنه لا يحب الوفد، ولا يرحب به نظراً لقاعدته الشعبية العريضة وتمسكه بالدستور في مواجهة الملك.

وبدأت وزارة حسين سري تفرج عن المعتقلين. وخرجتُ إلى الحياة – بحمد الله .

أما الشيخ يوسف القرضاوي فيحكي أيضاً نقولا مطولة عن الحياة في معتقل الهاكستب في مذكراته أبرزها العلقة الساخنة التي تلقاها الإخوان المعتقلون من الضابطفريد القاضي الذي أراد أن يعلِّم المعتقلين كيف يحترمون الضابط، فاستدعى أورطة (سرية أو عدة سرايا) من العساكر (مثل عساكر الأمن المركزي) ومعهم العصى الغليظة، وأذاقوا المعتقلين جميعاً علقة شديدة جداً.. ورغم ذلك قابلها شعراء الإخوان بابتسامة شعرية، فأنشد أحدهم يناجي محبوبته فقال ولقد ذكرتك والجنود تعجني وسط العنابر بالعصايا يا سوسو على غرار ما قال عنترة بن شداد لمحبوبته عبلة في إحدى المعلقات السبع:

ولقد ذكرتك والرياح نواهل فوددت تقبيل السيوف لأنها

مني، وبيض المهند تقطر من دمي لمعت كبارق ثغرك المبتسم

وكان بالعنبر الآخر – أثناء العلقة بعض كبار الإخوان مثل الشيخ عبد المعز عبد الستار ، والأستاذ عبد الحكيم عابدين.. وكان الشيخ عبد المعز يصرخ فيهم وهم يضربونه قائلاً: اضربوا يا أندال، اضربوا يا كلاب.

ونظم الشيخ يوسف القرضاوي قصيدة في هذا الشأن اقتطف منها هذه الأبيات القليلة:

ما للجنود ذوي العصا ومالي؟ ما بالهم هجموا علينا بغتة

قد كشروا عن نابهم، وتقدموا حملوا العصى غليظة كقلوبهم

لِمَ كل هذا الحشد من جند، ومن وإذا عجبت فإنَّ أعجب ما أرى

ضرب بلا هدف، ولا معنى، ولا كم بيننا من ذي سقام يشتكي

كم بيننا شيخ ينوء بعمره كم بيننا من يافع ومرفه

ما كنت بالباغي ولا المحتال؟! متوثبين كهجمة الأغوال؟!

ببسالة للثأر من أمثالي! ومضوا كالسيل من مكان عال

حرس، كأن اليوم يوم نزال؟! إضرام معركة بغير قتال!

عقل، سوى تنفيذ أوامر الوالي! لكن لمن يشكو أذى الجهال؟

يعدو الجهول عليه غير مبال لم ينج من ضرب وسوط

المبحث الثالث:الإخوان في معتقل الطور

وبعد أن تم تجميع الإخوان في معسكر الهاكستب تم نقل حوالي ألف منهم إلى السويس حيث ركبوا الباخرة " عايدة " إلى معتقل الطور (طور سيناء) في وسط شبه جزيرة سيناء... فهو اعتقال ونفي وتغريب وتشريد.

وكان معتقل الطور مكاناً يتوقف فيه حُجَّاج البواخر للكشف عليهم بعد عودتهم من الحج فيما يسمى " الحجر الصحي "، فتم تحويل هذا المكان إلى معتقل للإخوان.

كان الشيخ محمد الغزالي إمام الإخوان في معتقل الطور، وكذلك تم اختيار عضو مكتب الإرشاد الشيخ البهي الخولي صاحب كتاب " تذكرة الدعاة " أميراً للمعتقل.. ولكن الشيخ البهي استُدعي للتحقيق بالقاهرة فاختار الإخوان الشيخ محمد الغزالي خلفاً له، وكان عمره آنذاك 32 عاماً.

كان معتقل الطور أول محنة شاملة للإخوان على مستوى القطر المصري كله، فحوّله الإخوان إلى معسكر دائم لهم.

فكانت له برامج ثقافية يشرف عليها الشيخ محمد الغزالي، في محاضرات مستمرة، شرح فيها معنى الاستبداد السياسي، وأخرجه بعد ذلك في كتابه (الإسلام والاستبداد السياسي).

وكانت له برامج رياضية يشرف عليها الشاب الرياضي الرشيق محمد مهدي عاكف الذي صار بعد 56 عاماً مرشداً سابعاً للإخوان المسلمين.

ذلك النشاط الرياضي كان يشمل: التمرينات السويدية، والجري، والوثب، والزحف.. في برنامج دائم كل صباح تقريباً.

وكانت له برامج روحية، لمدارسة كتاب مدارج السالكين " للإمام ابن القيم ".. ويقوم بهذه المدارسة الشيخ محمد الغزالي، وكان يعاونه الأخ الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد، وهو أول طالب جامعي يلتحق بالإخوان المسلمين.. وكان رئيساً لقسم الطلبة في فترة من الفترات.

وكانت له برامج ترفيهية تشتمل على حفلات الشعر والأناشيد الإسلامية والحماسية، بل " والفكاهية " فمن الأناشيد الحماسية:

هو الحق يحشد أجناده فصفوا الكتائب آساده

نبي الهدى قد جفونا الكرى نهضنا إلى الله نجلو الثرى

ونشهد من دب فوق الثرى دعاة إلى الحق لسنا نرى

ويستعد للموقف الفاصل ودُكّوا به دولة الباطل

وعفنا الشهى من المطعم بروعة قرآنه المحكم

وتحت السما عزة المسلم له فدية دون بذل الدم

ومن السمر اللطيف:

أنا كنت قاعد جوا البيت وفتشوني وقالوا جنيت

قالوا لي: أنت من الإخوان ومأثورات وسبحه كمان

بتصلي من غير إذن بوليس وعلى صلاة الفجر حريص

دخل عليَّ كام عفريت يا متهم، قلت لهم: إيه؟

وضبطنا في بيتك قرآن ومربي ذقنك. جاوب: ليه؟

وتصوم الاثنين من غير ترخيص والمصطفى بتصلي عليه

ليه ... وليه... وليه

أما الأخ علي أبو شعيشع من قيادات الإخوان في كفر الشيخ فيحكي تفاصيل كثيرة عن معتقل الطور: والمعتقل يتكون من خمسة حزاءات.

كل حزاء ما يقرب من عشرين غرفة متسعة "6 × 10 أمتار تقريباً " يتوسطه مصلى بها حنفيات مياه عذبة وبجوارها دورة مياه ملحة، وطول الحزاء يقرب من مائتي متر، يتوسطه فناء واسع استعمل للرياضة ويحيط به سلك شائك يليه أبراج الحراسة، ونزلنا في حزاء رقم 3، ونزل الشيوعيون في حزاء رقم 4، وبين كل حزاء ما يقرب من 100 متر، وبتنا في حجرتنا بعد أن مررنا على الحجرات الأخرى مصافحين، وأخذنا فكرة عن نظام الإيواء، فكان مخصصاً لكل واحد لوحان من الخشب وبطانية، ورتبنا أماكن النوم، وكان عن يساري الأخ " محمد عبد الرحمن " الطالب بالصنايع، وعن يميني الأستاذ " محمد كرم " وخرجنا بعد العصر مع الإخوان إلى الميناء فكانت متعة عوضتنا عن متاعب السفر ومفارقة الأهل، ووصلنا إلى الساحل ونزل الإخوان إلى الماء يصطادون القواقع، وقبل المغرب عدنا جميعاً إلى المعتقل وقد فتحت أبواب المدخل دون قيود.

خطاب المرشد

دعينا إلى لقاء في المصلى قبل المغرب، وتلا علينا الشيخ الغزالي – حيث الشيخ البهي في التحقيق بالقاهرة خطاباً من المرشد العام موجهاً إلينا جميعاً لينبئنا أنه اختار الأستاذ " البهي الخولي " نائباً عنه مرشداً للإخوان بجبل الطور، وفي الخطاب يطلب منهم أن يختاروا اثنى عشر نقيباً تيمناً بما فعل سيدنا موسى عليه السلام ليعاونه في إدارة المعتقل.

نمنا ليلتنا وكنا مرهقين من سفر البحر، وقبل الفجر استيقظنا على صوت المنادي للصلاة، فصلينا الصبح في المصلى في الظلام، حيث تطفأ الأنوار الساعة 12 مساءً، وقادنا أحد الإخوان في طابور رياضي ومعنا الشيوخ، وبعده تناولنا الإفطار وخرجنا إلى شاطئ البحر لصيد القواقع والمحار، وكان منظراً خلابا..

قواقع في مختلف الأحجام يصل طول بعضها إلى 30سم وبألوان جذابة، ومحارات تتحرك على سطح الماء تزن الواحدة خمس (أوقيات) ، يحركها جنين لا يزيد عن عقلة الإصبع..

وهذا جسم شفاف في شكل المنديل تتوسطه نقطة سوداء هي الكائن الحي الذي يحرك هذا المنديل ذي النقوش المنتظمة، وما أن يخرجه من الماء حتى يذوب تدريجياً ويتلاشى، وهذا حيوان بحري ما أن يحس بوقع أقدامنا حتى يحول المنطقة إلى بقعة ماء سوداء مستديرة قطهرا ثلاثة أمتار تقريباً، وتحت هذا السواد يفر من المنطقة، وهذا (قنفد البحر) ذو الشوك الخطر الذي يهاجم السيقان البشرية ويترك أسنانه المدببة داخل اللحم وهو أخطر أنواع الحيوانات البحرية وقد حذرنا منه عرب الطور، وبعد ذلك سمك القرش عدو البشر الذي يقضي على فريسته في الحال حين يعثر عليها، وقد لاحظنا أن حركة الصيد لهذه الأشياء مرتبطة بالمد والجزر..

فحين المد يقذف بها البحر إلى الشاطئ، وعند الجز يتركها سهلة الصيد سهلة المنال. وكنت وزميل لي وهو الأخ "عزت خطاب" نخصص ما قبل الظهر للصيد وما بعد العصر نتسلق فوق قوارب خفر السواحل على الشواطئ نحفظ القرآن.

الطعام

قدمت إدارة المعتقل وجبات الغذاء الثلاث من العدس والفول المخلوط بالرمال، وفي أيام وجبات اللحوم يوزع اللحم نيئاً، والطهي غير مستساغ، فاتصل الإخوان بالحكمدار الذي وافق على تسليمنا وجباتنا بدون طهي، ليقوم الإخوان بتوزيعها على الحجرات لتتولى كل حجرة إعداد طعامها، وخصصنا نوبتجية للطعام يومياً، وجعلنا يوماً في الأسبوع نتناول فيه السمك، وكنا نشتريه من الصيادين بأحجام كبيرة لا تقل السمكة عن كيلو جرام وعليها غطاء ذو ألوان عجيبة حتى إننا عند تنظيفها كنا نتألم من إزالة هذا الغلاف الرباني الذي تكتسي به هذه الأسماك.

تأثيث المعتقل

ابتكر الإخوان وسائل لتأثيث حجراتهم، فقاموا بعمل أسرة من ألواح الخشب وضعوها على أربعة صفائح معبأة بالرمال، ويغرس عدد من الشجر في الصفيحتين المجاورتين للحائط ليوضع عليها ملاءة " كناموسية "، وصنعت دواليب حائط من أقفاص الجريد تغطي بقطعة قماش، كما صنع براد الشاي من علب السلامون، والأكواب من علب اللبن، وصنعنا عباءات من البطاطين للتدفئة في الشتاء، واستعملت المحارات الكبيرة لحفظ الطعام، وقمنا بتصنيع شنط كبيرة لنودع فيها القواقع والمحار من صفائح الجبنة.

إخوان الطور

اعتاد أهل الطور أن يروا الحزاءات في غالب شهور السنة مشغولة بالمجرمين الذين تنفيهم الدولة إلى معتقل الطور، وللأهالي قطيع من الماعز يدخل المعتقل من خلال الأسلاك الشائكة بحثاً عن الطعام، ويندر أن تعود الماعز إلى أصحابها، إذ يصطادها هؤلاء الخطرون ويذبحونها، ولكنهم لاحظوا أن المعتقلين في هذه المرة قوم أمناء.. يدخل الماعز معتقلهم ويعود دون أن ينقص، فلفت ذلك نظرهم، ولما سألوا علموا أن المعتقلين هم " الإخوان المسلمون "، وفوجئنا يوماً بقدوم وفد من أهالي مدينة الطور، وطلبوا مقابلة المسئول وقدموا له أنفسهم على أنهم إخوان شعبة مدينة الطور، وعلمنا أن الإمام الشهيد عند تأديته فريضة الحج وأثناء إقامته مدة الحجر الصحي اتصل بأهل المدينة وكون الشعبة ووضح لهم النظام الإداري، وأبدوا استعدادهم للقيام بأي خدمة، وقد كان لهم دور سيظهر فيما بعد.

رحلة إلى مدينة الطور

اتفقنا نحن سبعة من إخوان البحيرة على الخروج في رحلة إلى مدينة الطور ومعنا الحاج مبروك هنيدي ،خرجنا صباحاً ملازمين الساحل مسافة أربعة كيلو مترات حتى وصلنا مدنية الطور، وتجولنا داخلها وصلينا الظهر بالمسجد واشترينا طعام الغذاء وتناولناه خارجها، كان الجو منعشاً والحرارة معتدلة، فأغوانا ذلك بالصعود إلى جبل مجاور للمدينة يعلوها بحوالي مائة متر، وبعد جهد وصلنا إلى القمة، وصلينا العصر وأخذ الحاج مبروك يدعو على الظالمين ونحن نردد خلفه الدعاء، واسترحنا قليلاً ثم بدأنا في الهبوط، وعند المهبط وجدنا شقوقاً بالجبل تندفع منها المياه الدافئة العذبة كنافورات تتجمع في حوض واسع، فنزلنا وحسبناها هي، كما فسرنا هذا المظهر بقوله تعالى: ( وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ) [البقرة: 74].

كانت الشمس قد قاربت على المغيب، ودفعنا الفضول إلى متابعة مسار المياه التي وجدناها تصب في غابة ضخمة كثيفة الأشجار يتوسطها قصر أبيض، وتوجه أحدنا وهو الأخ "علي شرف" إلى داخل الغابة ونحن ننتظر خارجها، وبعد دقائق سمعناه يستغيث ويطلب النجدة لأنه ضل طريق العودة، فتشابكنا بالأيدي ودخلنا الغابة في شكل قاطرة وطلبنا منه أن يردد الصوت حتى اهتدينا إلى مكانه وعدنا به حيث أتينا، وعلمنا أن الغابة والقصر مخصصان لرهبان سانت كاترين الذين يأتون إلى هنا للاستجمام، وكان المغرب قد حان فأسرعنا الخطى إلى المعتقل ودخلناه بعد العشاء فوجدنا الإخوان قد شُغلوا من أجلنا.

حزاء العمدة

أقام الحاج محروس وهو عمدة لإحدى قرى مديرية سوهاج في آخر حزاء، ومعه إخوان كرام، فنصبوه عمدة عليهم وخصصوا له حجرة عند المدخل زينوا مدخلها بنقوش على شكل أزهار من القواقع المرصعة على قمة مرتفعة تسر الناظرين، واختار هو اثنى عشر شاباً كخفراء مع كل خفير " نبوت " والجميع طوع إشارته، وبدأ أوامر (العمودية) بأن كلفهم بمهاجمة حزاء رقم واحد وكان مغلقاً لأنه مخصص لكبار الحجاج من ذوي الرتب والألقاب وبه جميع الكماليات من أغطية ومفارش وفوط وصيني وملاعق وشوك وسكاكين وصواني وما إلى ذلك، ودهشنا حين قدم لنا الشاي في فناجين فاخرة على صينية فخمة واستعرضنا غرف الحزاء فبهرنا تأثيثها، فعزمنا على تقليدهم وخاصة أننا مجاورون لحزاء رقم (1)، وبعد العودة نظمنا الهجوم وجلبنا ما نحتاجه من (الصيني) وخلافه.

جنود الحراسة

لاحظنا أن جنود الحراسة يجوعون بسبب قلة الطعام وأن الغذاء يتناوله الضباط، فتكفلت كل حجرة بجندي الحراسة الذي يقابلها، تسلمه وجبة كاملة على ثلاث دفعات مما ألف قلوبهم وجعلهم معنا على وفاق.

راديو

استطاع أحد الإخوان إحضار (راديو) أوصلنا بالدنيا، وحفظه هذا الأخ في غرفته في مخبأ لا يعلمه سواه، وتعود أن يستعمله بعد نوم الإخوان ليستمع منه إلى نشرات الأخبار بالإذاعات الأجنبية العالمية.

النبأ المفجع

وفي صبيحة يوم 12 فبراير وبعد أن أدينا صلاة الصبح، طلب منا ذلك الأخ التجمع في إحدى الغرف، وتحسسنا الطريق إليها في الظلام، وما أن تكامل العدد حتى بدأ الأخ بتلاوة قوله تعالى: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) [آل عمران: 144] ثم فاجئنا بنبأ اغتيال الإمام الشهيد الذي استمع إليه من إذاعة أمريكية الساعة الواحدة صباحاً، ولم يزد على ذلك، وخرجنا من الحجرة هائمين على وجوهنا لا ندري ما يصنع القدر بدعوتنا وبنا، وظللنا طيلة اليوم نذرع حوش الحزاء جيئة وذهاباً صائمين لا نتناول طعاماً ولا نجد سوى المصلى نأوي إليها كما أذن للصلاة.

تشديد الحراسة

شددت الحراسة وأغلقت أبواب الحزاءات، ومنعنا نم الخروج إلى البحر، ولم يسمح إلا للمسئولين بالخروج إلى الحكمدار، كلما استدعى الأمر مقابلته، ووضع الحكمدار فوق رأسه يافطة كتب عليها ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ) [المائدة: 33] وأخذ يردد هذه الآية لكل من يحضر إليه من المسئولين قائلاً: لقد عاقبتكم بالنفي وهو أقول أنواع الجزاء.

التفرغ للعبادة والدراسة

حيل بيننا وبين البحر الذي كان يستغرق أكثر وقتنا، وبدأنا نهتم بالعبادة والدارسة والمحاضرات، وبدأت لجان متخصصة تدرس لما بعد الخروج، وتضع مناهج جديدة كانت من اختصاصات الإمام الشهيد الذي حُرمت الدعوة منه، وآن للإخوان أن يعملوا على منواله، وقام بعض الإخوان مثل: عبد العزيز كامل، والدكتور ضياء الدين الريس ، والبهي الخولي ، ومحمد الغزالي ، وسيد سابق ، بتنظيم دروس ومحاضرات يومية استفدنا منها الكثير.

بسبس

دست الحكومة علينا حين ترحيلنا من مصر بعض عيونها يتجسسون علينا ويقيمون معنا داخل المعتقل، وتعرفنا عليهم وأخذنا حذرنا منهم، وأطلقنا على الواحد منهم لقب (بسبس) فما أن يذكر الأخ لأخيه هذا اللقب إلا ويعلم أن جاسوساً بجواره، وخاب مكرهم وتوقفت مهمتهم.

الاتصال بالخارج

قام كتاب الإخوان بكتابة مقالات خطيرة تصف المعتقل ومعاملة قوات الحراسة لنا، وتهاجم الحكومة والمسئولين، وكلف إخوان شعبة الطور بتوصيل هذه المقالات بطريقتهم إلى وكالات الأنباء والصحافة الأجنبية بالقاهرة التي قامت بنشرها وإذاعتها، وكان لها أثر خطير شغل رجال الدولة فاتصلوا بالحكمدار وحاسبوه حساباً عسيراً على تفريطه في رقابة المعتقلين والسماح بخروج هذه المقالات للخارج.

الحكمدار عباس عسكر

ضاق الحكمدار ذرعاً بمحاسبة المسئولين له، فجرد حملات التفتيش على الحزاءات، وبدأ بأول حزاء، دخله ومعه قوة من (بلوكات) النظام والهجانة ومعهم يوماً لكل حزاء إلى أن جاء دورنا، وفي صبيحة هذا اليوم شغلت وزميلي " عزت "بكيفية إخفاء مذكراتي، فأحضرت علبة (بوية) ووضعت داخلها أوراق المذكرات، ووضعت بطاطين في مواجهة جندي الحراسة على الأسلاك الشائكة، وقمت بحفر الأرض بعمق متر تقريباً متجهاً بالحفر إلى خارج الأسلاك الشائكة ثم وضعت العلبة في قاع الحفرة خارج منطقة الحزاء، وأهلت عليه الرمال، وقدم الحكمدار في قوته يرغي ويزبد ويتوعد، وقام ضباطه وجنوده بالتفتيش حجرة حجرة إلى أن وصل إلى المصلى وحان وقت أذان الظهر وكانوا قد أحضروا كرسياً بجوار المصلى جلس عليه وفي محاذاته وعلى بعد أمتار متنه انطلق صوت الأخ المؤذن بالأذان، وكأنها صاعقة نزلت على أم رأسه، فأمر جنوده الهجانة بإسكات المؤذن، فاستمر يؤذن، فضربوه بالكرابيج، فظل يؤذن وهي يبكي من شدة الضرب، وهنا تأثر الضباط بالمنظر وامتنعوا عن ضربه حمية لدينهم، واتجهوا نحو الحكمدار بعيون عاتبة، فخشى من تطور الموقف ضده فأمر جنوده بإيقاف التفتيش والانسحاب من الحزاء ثم عاد إلى مكتبه.

وفي الصباح توجه بنا الشيخ محمد الغزالي إلى باب المعتقل وأخذ يردد هتافات عدائية ضد الحكومة والحكمدار، فإذا بالجنود في موقع مبنى الإدارة يتجمهرون ويرددون نفس الهتافات ويهجمون على الحكمدار فيحطمون مكتبه وينهالون عليه ضرباً لولا تدخل الضباط الذين أنقذوه من بين أيديهم، وأُبلغت القاهرة باللاسلكي، واعتصم الجنود بمبنى الإدارة، وعلمنا بعد ذلك أن سبب المظاهرة هو تأثر رجال الهجانة بالأخ المؤذن الباكي وتذمر جنود بلوكات النظام من سوء التغذية واستئثار الضباط بالطعام، وكلٌ يبكي على ليلاه.

فوجئنا في آخر النهار بوصول طائرة تحمل طاقماً جديداً من الضباط ومعهم حكمدار جديد للمعتقل، وعادت بالحكمدار عباس عسكر وضباطه، وجاءت بعدها الباخرة عايدة تحمل قوة من الجنود، وعادت بالجنود المتمردين حيث أحيلوا إلى مجلس تأديب.

خطبة الجمعة

تولاها الشيخ محمد الغزالي وبعض الإخوة العلماء، وكانت خطباً حارة لا يسمع مثلها في بلاد مصر، تناولت الأحداث والدعوة والدعاة.

شهر رمضان

أقبل شهر رمضان ووضع له الإخوان برنامجاً حافلاً نظامه كالآتي:

- تقوم كل مديرية بملازمة المصلي ليلة في الشهر بعد صلاة القيام تتعبد وتتهجد، وتدعو بالخير للإخوان وبالمصائب على رؤوس أعداء الإخوان، ثم توقظ الإخوان للسحور ثم صلاة التهجد ثم صلاة الصبح وبعدها يدخل الجميع الحجرات للنوم.

- تقوم كل مديرية بإعداد حفل مسائي مرة كل شهر بعد صلاة القيام يدعى إليه بقية إخوان المديريات تقدم فيه المرطبات في صفائح محاطة بالخيش، وتخصص نوبتجي لرش الماء على الخيش للتبريد، ثم يتلو الشيخ سرور " مقرئ الخاصة الملكية " القرآن حتى ساعة متأخرة من الليل وبعدها السحور.. وهكذا.

- وفي النهار تقوم نوبتجية بإعداد وجبة الإفطار في كل غرفة، وكانت صلاة القيام في كل حزاء جماعة يؤمها إمام، ولاحظت انشغال البعض بهموم الحياة أثناء الصلاة حيث كان الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي يؤم حزاء رقم (4)، والشيخ الغزالي يؤمنا، وسمعته مرة يختم الفاتحة مع الإخوان بكملة " آمين " وإذا أخ بجواري يردد معهم آمين، ظناً منه أنه يصلي خلف الشيخ الشعشاعي.

العيد

وجاء العيد، وكان يوماً مؤثراً، تذكر الجميع الأهل والأحباب، غير أن إدارة المعتقل نظمت برنامجاً روحياً وسمراً بريئاً حتى تخفف عن الإخوان ما هم فيه. وطفنا بأركان الحزاءات نردد التكبير ونتبادل التهاني.