الإخوان المسلمين بين إرهاب فاروق وعبد الناصر

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمون بين إرهاب فاروق وعبد الناصر

بقلم: علي صديق

دار الاعتصام

الإهداء

أهدى ذكرياتي هذه

  • إلى النفوس الآبية
  • إلى القلوب الفتية
  • إلى الأرواح الطاهرة
  • إلى شهداء الحركة الإسلامية تحية لهم وإيمانا بجهادهم تجديدا للعهد والميثاق

مقدمة

اليوم الأول من يناير عام 1976 راودني تفكير عميق شمل كل حسي ونفسي , وسيطر على عقلي ووجداني .. لم لا أسجل وأسطر ذكرياتي قبل أن يطويها النسيان لا سيما وهي ليست ملكا لى.. ولكنها ملك جيل بأسره ذكريات حقبة من الزمن تزيد عن ربع قرن مليئة بالأحداث الجسام .. أحداث كنت أنا مسرحها أو ذكريات أخري كان مسرحها إخوانا لى أعزهم وأجلهم .

فإلي التاريخ أسجل وهدفي من تسجيل هذه الذكريات أمور ثلاثة :

أولها : أن من الأمانة أن أسجل هذه الفترة من حياتي لأولادي من بعدي .. لأنهم لا يعلمون عن أبيهم إلا الصورة التي أمامهم وإلا التاريخ القريب لحياتهم .. حتى يكونوا على علم لما حدث لأبيهم وما كان له من ماض , وما احتواه فكره من مبادئ حتى يسيروا خلف رايته على بصيرة من الله كما اعتقد أبوهم وسار , عاملين بمبدئه الذي اعتنقه عبر هذه الحقبة الطويلة : ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ... ) متجنيين ما قد يكون قد وقع في حياته من أخطاء .. وكل إنسان معصوما من الخطأ والمعصومون هم الأنبياء .

ثانيها : أكتب للجيل المعاصر وللأجيال القادمة لأكمل ما كتب إخوان لى من قبل .. أكتب عن أحداث تعرض لها معي إخوان .. منهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر.. فللتاريخ أكتب لأن هذا حقهم على داعيا الله أن يكون رائدي في كتابتي هو الحق .. والحق وحده .

ثالثها : أكتب لقادة الفكرة التي اعتنقتها وبايعت عليها الإمام الشهيد " حسن البنا " على السمع والطاعة في المنشط والمكره , مبينا لمن تصدي من بعده لقيادة هذه الدعوة أمور لمستها من خلال تجربتي الطويلة لعل فيها النصيحة المخلصة الرائدة .. والدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ... إلى هؤلاء جميعا أكتب مبينا تجربتي وأرجوا أن أوفق قدر المستطاع في تسجيل هذه الأحداث ملتمسا المعذرة إن خانتني الذاكرة في تسجيل تاريخ حدث من الأحداث .. خاصة وأن المرحلة طويلة والعمر يتقدم ,والزمن يسير .

وفكرت طويلا كيف أبدأ أمن الأمس إلى اليوم أم من ذكريات اليوم إلى أحداث الماضي .. وفكرت كثيرا ودعوت الله أن يوفقني في البداية .

وشاءت الإرادة الإلهية بأن نبدأ من ذكريات في مرحلة من أهم مراحل حياتي كمسلم يؤمن بأن ذروة الأعمال هو الجهاد في سبيل الله خاصة وأنه فرض عين عندما ديست أرض فلسطين

المؤلف

علي صديق

لمحة تاريخية موجزة عن فلسطين في ظل الانتداب الانجليزي :

عندما سمح الانجليز لليهود ببناء مستعمرات كانت بمثابة منظمات عسكرية تتسلح وتتدرب تحت سمع الحكومة الانجليزية وبصرها وسمح لهم بالهجرة حتى زاد أعضاء هذه المنظمات وقدر عددهم عام 1946م بستين ألف مقاتل ,وكانت هذه المنظمات تهرب الأسلحة بمساعدة الوكالة اليهودية حتى جاء عام 1948 ولدي اليهود كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر .

بدء الشرارة

وفي 26 نوفمبر عام 1947 قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة تقسيم فلسطين متجاهلة أهلها ولم يكن أمام العرب بعد هذا الإنكار الواضح لحقوقهم إلا مقاومة تنفيذ هذا القرار الظالم .

ففي القاهرة وفي أواخر عام 1947 صحت البلاد على مظاهرات صاخبة وفورة وطنية واعية طافت الشوارع هاتفة ببطلان قرار التقسيم الغاشم ثم انتظمت المظاهرات وتحولت مسيرتها إلى الأزهر الشريف فمنه تنطلق الثائرة بصحن الأزهر الشريف لتستمع إلى كلمات وتوجيهات القيادات الشعبية التي هرعت إلى هذا المكان في هذا اليوم الأغر ووقف الأستاذ أحمد حسين رئيس [[حزب مصر الفتاة]] وبيده مسدسه ثائرا يخطب الجماهير معلنا ضرورة القتال لاسترداد هذا الحق السليب وكان ثائرا متحمسا .

وتلاه اللواء صالح حرب الرئيس العام لجمعيات الشبان المسلمين يلقي كلمته مستحثا المسلمين على الجهاد والتضحية بالنفس والنفيس ضد هؤلاء الصهاينة ودفع هذه الهجمة الصليبية عن هذه الديار المقدسة .

ثم تلاه فضيلة الأستاذ المرحوم حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين فكانت كلمته مسك الختام إذ تحدث طويلا حديثا مشوقا مخاطبا موضحا فضل الشهادة في سبيل الله وأجر المجاهدين شارحا لهم أن هذه القضية .. قضية حق وأن الجهاد أصبح فرض عين , لأن أرض المسلمين مداسة وأن الخطر يهدد مسجدهم الأقصي ,وأنه إذا ديست أرض المسلمين تخرج الزوجة للجهاد دون إذن زوجها ويخرج الابن دون إذن أبيه وأعلن من فوق منبر الزهر بأن الإخوان المسلمين يعتبرون دون هذه القضية قضيتهم وأنهم جميعا مجندون حتى يأذن الله بخروج آخر جندي إسرائيلي من هذه المباركة .. ثم أعلن فتح باب التطوع من أجل هذه القضية , وأن المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة سوف يتلقي طبلات المتطوعين .

كانت كلمات المرشد العام الإمام الشهيد بلسما للقلوب الثائرة المتطلعة للخلاص كلمات من القلب المؤمن إلى القلوب المتعطشة للجهاد كلمات صادقة معبرة نفذت إلى شغاف القلوب الصابرة الواثقة بنصر الله : ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ).

سارت المظاهرات من الأزهر الشريف وكان الإخوان قد نظموا مسيرتهم بعربات يعلوها مكبرات الصوت هاتفة الله أكبر وتحيا فلسطين عربة إلى أن وصلت مبني الكونتنتال بميدان الأوبرا جمع ثائرة : شباب وضعا أرواحهم على أكفهم جهادا في سبيل نصرة هذه القضية , هتافات تشق عنان السماء .. ووقف في شرفة الكونتنتال قادة معركة النضال ممن سبق أن ذكرتهم وغيرهم من الدول العربية الشقيقة يخطبون الجماهير ويطمئنونهم بنجاح المسيرة بإذن الله وبتضامن الدول العربية حكومات وشعوبا ببطلان هذا القرار الظالم معلنين بدء الجهاد وانتظام المسيرات وانتظام المتطوعين في مراكز التطوع التابعة لجامعة الدول العربية . وكان المركز العام للإخوان المسلمين أحد هذه المراكز التي أقرتها جامعة الدول العربية .

توافد على هذه الدار الجموع الكثيرة من الإخوان وغيرهم لانضمامهم إلى الصفوف المجاهدة وكان منهم المهندسون والأطباء وطلاب الجامعات التجار والعمال وغيرهم .. ممن كتب الله لهم أن يكون جنودا في هذه الدعوة .

كنت في ذلك الوقت طالبا بمعهد التربية للمعلمين بعد أن أنهيت الدراسة الثانوية بمدرسة الزقازيق وكنت تواقا للجهاد في سبيل الله وكانت نفسي تهفو دائما إلى خوض معركة من معارك الإسلام لما كنت أقرؤه عن فضل هذا الجهاد وعما يكتبه الله للشهداء الذين يكرمهم بنيل الشهادة وما كنت أسمعه من المرشد العام ودعاة الفكرة ممن كان لهم اثر في حياتي أمثال الدكتور عبد العزيز كمال والأساتذة فريد عبد الخالق ومحمد عبد الحميد والشيخ محمد الغزالي .

رحلة مع البنا إلى الجهاد

وفي يوم من أيام العمر المشرقة التي لا أنساها لأنه يوم له ما بعده خطوت خطوة إلى الجهاد كثيرا ما تمنيتها : دعوة إلى الحق دعوت الله أن يكتب لي أجرها تقدمت إلى القائد بنفس كلها يقين وأمل راجيا السماح لى بالسفر إلى فلسطين ليكون لي شرف الجهاد مع المجاهدين من الإخوان ,وانتظرت موافقة المرشد العام ولشد ما كان سروري عندما أخبرني بموافقته على أن أقوم بتسجيل أسماء الدفعة الأولي من متطوعي الإخوان الذين سيسافرون إلى معسكر قطنة بسوريا التابع لجامعة الدول العربية .

كنت بعد أن أنهي دراستي الصباحية أتوجه مساء يوميا إلى المركز العام بالحلمية لأسجل أسماء المتطوعين لتحويلهم للكشف الطبي كان الدكتور حسان حتحوت الذي يعمل الآن أستاذا بكلية الطب جامعة الكويت والدكتور عبد الرحيم عمران الطبيب بمستشفيات أمريكا الآن يوقعان الكشف الطبي على المتطوعين.

وفي أثناء تسجيل الأسماء إعداد الكتيبة زارني اليوزباشي احتياطي محمود عبده على الذي كان يعمل مدرسا للعلوم بمدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية .. رأيت فيه قوة وفتوة , قرأت في عينه الإيمان والعزم والتصميم عرفني الرجل بنفسه , وتعارفنا إنه قائد الكتيبة الذي اختاره الإمام الشهيد لإيمانه العميق بفكرة الجهاد في سبيل الله وخبرته العسكرية في العمليات الحربية لسابق مشاركته في الحرب العالمية الثانية .. وتعددت زياراته للمركز العام لتجهيز الكتيبة بالملابس والتموين وكل ما يتعلق بشئونها الإدارية الأخرى .. أما السلاح فستتولى الجامعة العربية تقديمه لكتائب المتطوعين بعد انتهاء تدريبهم بمعسكر قطنة بسوريا .

تجهيز الكتيبة وإعدادها للسفر :

وتحدد سفر الكتيبة الأولي في مارس 1948 وقبل السفر بعدة أيام استعرض الإمام الشهيد الكتيبة وقد ارتدت ملابسها العسكرية وجهزت أمتعتها وتمويلها وقام الإمام الشهيد بتقسيمها إلى ثلاث فصائل على رأس كل منها قائد يتولي أمرها وكلفني بقيادة أحد هذه الفصائل وتولي المرحوم الأخ مالك نار والأخ يحيى عبد الحليم قيادة الفصيلتين الأخريين , وتحركت الكتيبة من المركز العام بعد أن زودها المرشد العام بنصائحه العالية وتوجيهاته السديدة في مشروعية الجهاد والأسلوب الذي يتبعه المسلم في معاملة أعداء الله من اليهود ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشفي صدور قوم مؤمنين )

سارت الكتيبة في استعراض عسكري رائع من دار الإخوان يحيط بتا جمع الإخوان مهللين ومكبرين ومودعين إخوانهم الذين شرفوهم بالجهاد معاهدين الله اللحاق بهم .

وصلت الكتيبة ميدان الأوبرا إلى شارع إبراهيم إلى ميدان المحطة وعلى طول الطريق اصطفت الجموع تهتف وتكبر صحوة جديدة وبعث جديد . إيمان متدفق , هدير من الناس .

ركبنا القطار من محطة مصر بالدرجة الثالثة وركب معنا بنفس الدرجة إمامنا الشهيد واليوزباشي محمود عبده قائد الكتيبة وكانت فرحة حين نحيط بالمرشد فنستمع إلى توجيهاته ونصائحه .

تواضع كريم :

المرشد العام يجلس على كراسي الدرجة الثالثة الخشبية طيلة الرحلة من القاهرة إلى بور سعيد ويستمع إلى استفسارات الأفراد وأسئلتهم وما أن وصل القطار محطة الإسماعيلية حتى رأينا جموعا من الإخوان والأهالي يطلقون هتافاتهم .. الله أكبر ولله الحمد علموا بسفر المجاهدين ومعهم المرشد العام في طريقهم إلي بور سعيد ومنها إلى فلسطين صافحهم المرشد العام وتعانقنا وعاهدنا الله على العمل .

وكان قد سبقنا إلى القتال مجموعة كبيرة من إخواننا بالإسماعيلية وكان على رأسهم الشهيد الشيخ محمد فرغلي رئيس الإخوان بها والشهيد يوسف طلعت اللذين حكم عليهما بالإعدام شنقا في عهد الطاغية عبد الناصر.. وصلنا بور سعيد .. جموع غفيرة احتشدت بمحطة بور سعيد في انتظار وصول القطار وما إن وصلنا وانتظم المجاهدون فى مسيرتهم حتى ازدحمت الطرقات لتحيتهم وتعالت الهتافات نثر أهالي بور سعيد الزهور في طريقهم وكان دخول الكتيبة بور سعيد جديدا فتح الله بتا قلوب الكثيرين من أهالي بور سعيد للدعوة الإسلامية ويحضرني في هذا أن كان المرشد العام ذات مرة في زيارة لمنطقتها وإذا بتجمع وفدي كبير على رأسه حامد الألفي عضو مجلس النواب الأسبق يحاصر دار الإخوان وفيها المرشد العام محاولين اقتحام الدار والاعتداء على حياة المرشد العام ورفض المرشد العام محاولين اقتحام الدار والاعتداء على حياة المرشد العام ورفض المرشد العام أن يتدخل الإخوان لرفع الحصار بالقوة مرددا ما كان يردده رسولنا الكريم :" اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون " ولكن تحمس أحدهم وأنكر هذا العمل اعتبره إهانة للمرشد العام واعتداء على الدعوة وألقي قنبلة صوتية وأرهبت المعتدين وتمكن المرشد من الخروج والسفر إلى القاهرة وقال قولته المعروفة ( لك عودة يا بور سعيد ) ولم يدخلها المرشد منذ ذلك اليوم إلا مع هذه الكتيبة المجاهدة التي فتح الله بتا القلوب ورد الله كيد الحاقدين هذه هي العودة التي أرادها المرشد العام .

وداع مؤثر ومعركة في عرض البحر :

نزلنا في صباح اليوم التالي البحر على ظهر الباخرة الإغريقية " سيرتنا" ونزل معنا الإمام الشهيد والمرحوم الأخ أحمد المصري رئيس الإخوان ببور سعيد وغيره من إخوان بور سعيد وتجمعنا على سطح الباخرة وجاء جميع ركاب الباخرة لتحيتنا ولتحية المرشد العام عندما علموا بوجوده بيننا مشهد كريم !! عيون باكية لفراق قائد الدعوة قلوب فرحة لقرب معركة الجهاد مع الأعداء , أرواح مؤمنة تعانق شهداء الإسلام ممن سبقونا بالشهادة .

ووقف المرشد العام رحمه الله وسط هذا الجمع , يوجه المجاهدين ويرسم لهم طرق القتال وفقا لكتاب الله وفي هذه اللحظة أمطرت السماء فإذا بالمرشد العام يذكر قول الحق تبارك وتعالي: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ) .

تم تحركت الباخرة ولاحقها الإمام الشهيد وإخوان بور سعيد في قواربهم يلوحون بأيديهم مودعين – لحظة فراق رهيبة بين القائد والجنود – حتى غابت الباخرة عن الأنظار !!

معركة في عرض البحر :

تجمع المجاهدون فوق ظهر الباخرة تجمع إسلامي جديد كل فصيلة بينها قائدها ينظم أمورها الإدارية والمعيشية , ولاحظنا أن بعض الأجانب يحاولون أخذ صور لأفراد الكتيبة ولما حاول الإخوان منعهم دارت معركة بالأيد والخناجر سقط فيها الكثير من هؤلاء الأجانب جرحي واستولي الإخوان على آلات التصوير وتبين فيما بعد أن هؤلاء الأجانب كانوا من اليهود القاطنين بمصر وركبوا على نفس القطار الذي حمل الإخوان من محطة مصر ورغبوا في أخذ صورا لهم ليتعقبوهم في فلسطين ووصلت الباخرة إلى ميناء حيفا وبسبب المعركة أبحرت الباخرة بعد أن حملوا الجرحي من اليهود وأنزلوهم في الميناء وعلم إخوان حيفا بهذا النبأ السار , وجاءوا مهنئين بهذه المعركة حاملين معهم صناديق التفاح والبرتقال هدية منهم إلى إخوانهم المجاهدين وأبحرت الباخرة في طريقها إلى بيروت .

بيروت ترحب بالمجاهدين :

وصلت الباخرة بيروت وكان في استقبالها بالميناء المرحوم الدكتور مصطفي السباعي رئيس إخوان سوريا , والسيد / عمر بهاء الأميري الأستاذ حاليا بجامعة المغرب وكان عضوا بارزا للإخوان بسوريا والدكتور سعيد رمضان سكرتير المؤتمر الإسلامي بكراتشي ورئيس قوات النجادة والفتوة ببيروت والسيد / مجيد أرسلان وزير الدفاع اللبناني وعدد كبير من فرق النجادة والفتوة .

وسارت الكتيبة في عرض عسكري رائع يتقدمنا وزير الدفاع اللبناني والدكتور السباعي وقائد الكتيبة اليوزباشي محمود عبده .

بتنا ليلتنا في استضافة جماعة النجادة والفتوة وفي الصباح أخذنا طريقنا إلى دمشق في أتوبيسات سياحية وكانت رحلة ممتعة وسط جبال من الجليد .

وصولنا دمشق :

وعلى مشارف دمشق وجدنا إخواننا بسوريا في استقبالنا طوابير من جوالة الإخوان بالمتوسيكلات في انتظار وصول القافلة المجاهدة إن الإيمان هو الذي ربط بين هذه القلوب فالأخ في سوريا يهفو للقاء أخيه في مصر .. بتنا ليلتنا في دار الإخوان بسوريا وفي الصباح توجهنا في عرض عسكري رائع إلى ساحة القصر الجمهوري بدمشق مسجلين وصولنا .. في طريقنا إلى معسكر قطنة الذي أقامته الجامعة العربية بسوريا وكان ذلك في رئاسة الرئيس شكري القوتلي رحمه الله ومعسكر قطنة أعد لاستقبال المجاهدين المتطوعين من أنحاء العالم العربي والإسلامي وهو يتوسط سلسلة من جبال الشيخ التي يكسوها الجليد في فصل الشتاء وقسم المعسكر إلى عدة أماكن لاستقبال وفود هذه الدول ونزلنا في القسم المعد لنا – مهاجع كبيرة تسع لآلاف المجاهدين – وكان يرأس هذا المعسكر ضابط من ضباط الجيش السوري وكان المرحوم الدكتور السباعي يعتبر المسئول للمعسكر ووكيلا لقائده العسكري .

التدريب بالمعسكر ونزولنا المعركة

وما أن تم اختيار الأماكن المعدة لإقامتنا حتى بدأ التدريب في اليوم التالي على تواجدنا وكان يشرف على تدريب المتطوعين ضباط وصف ضباط من الجيش السوري , وكان التدريب يبدأ في الساعة السادسة صباحا حتى موعد الغذاء ومن بعد صلاة العصر حتى غروب الشمس وقسمت الكتيبة إلى عدة فرق مشاة ومدفعية ومغاوير – فرقة النسف والتدمير – وكنت في هذه الفرقة وكان يعطينا الدروس العملية ضابط كبير من ضباط الجيش اليوغسلافي الذين اشتركوا في الحرب العالمية الثانية وكان التدريب على أعمال النسف واستخدام الأرض واستعمال السلاح وكنا نقوم بعمل كمائن لنسف قوافل وهمية بأدوات نسف حقيقية وبالذخيرة الحية , وقد تمت عدة عمليات بنجاح تام , وكانت هذه الفرقة تتكون من عشرة أفراد من أفراد الكتيبة منهم الشهيد علي صبري والمرحوم خطاب السيد خطاب وغيرهم.. أما بقية الكتيبة فقد دربت على استعمال مختلف الأسلحة من أسلحة صغيرة ( بنادق – تومجن – برنات ) إلى أسلحة سريعة ( فيكارز) ومدافع الهاون والبويز المضادة للمصفحات والدبابات وقد أجاد الإخوان استعمال هذه الأسلحة بكفاءة تامة ومقدرة كاملة , وما أن انتهت مدة التدريب التي استمرت حوالي ثلاثين يوما حتى فوجئنا بنبأ طالما تمنيناه وهو زيارة الإمام الشهيد للمعسكر , وقد استقبل استقبالا رسميا من قبل حكومة سوريا في مطار المزة ثم غادره إلى معسكر قطنة في استقبال عسكري رائع وما أن وصل فضليته المعسكر حتى دوت الهتافات واصطف المتطوعون من جميع الدول العربية والإسلامية لتحية فضيلته وكان الإمام الشهيد يخطب هؤلاء بلغة عربية وكان الدكتور سعيد رمضان يترجم خطابه إلى الانجليزية أمام المتطوعين الذين لا يتكلمون العربية من دول الهند وباكستان وأفغانستان وإندونيسيا وتركيا ولشد ما كان إعجابهم من توجيهات وتمنيات المرشد العام .

وأذكر أن حدثني المرشد العام في هذا اللقاء بالمعسكر برغبة والدتي الملحة فى عودتي وأنها زارته ورجته في أمر عودتي وكان المرشد العام قد وعدها خيرا ولكنه عندما عرض علىّ هذا الأمر رفضته لأن الجهاد فرض عين وتركني المرشد وبقدر فرحتي لرؤيته بعد فراقه ببور سعيد بقدر ترقبي لعودته إلى القاهرة حتي يتركني وشأني لأنني كنت أخاف أن يأمر بعودتي وله السمع والطاعة في المنشط والمكره .

نزول فلسطين

وفي أوائل مايو 1948 وكان قد حان موعد نزول المعركة بعد هذا التدريب الهائل على استعمال السلاح والأرض والتعود الشاق على البرد والثلج ف يجو مختلف عن جو مصر المعتدل تدربنا على تحمله بقسوة وزمهريرة وصدرت الأوامر بالتحرك لدخول فلسطين الحبيبة لقلب كل مسلم .. حملنا أمتعتنا وغذاءنا وسلاحنا وذخيرتنا على عدة عربات من عربات النقل وركب الجنود أتوبيسات سياحية ووزع السلاح والذخيرة على جميع أفراد الكتيبة استعدادا لما قد يصادفنا أثناء تحركاتنا من قطنة حتى نصل إلى غزة في الجنوب كي ننضم إلى قوات الجيش المصري .

وركب معنا العقيد عاهد السجن أحد ضباط الجيش العراقي دليل للطرق الذي ما عرفناها من قبل .. بدأنا سيرنا من دمشق برا إلى عمان واتجهنا حذاء البحر الميت في طريق وادي عربة إلى العقبة ثم اجتزنا حدود الأردن إلى حدود جمهورية مصر العربية واتجهنا شمالا إلي الكونتلا بصحراء سيناء إلى العوجة ومنها إلى رفح ثم اجتزنا جمهورية مصر العربية إلى أن وصلنا حدود فلسطين جنوبا ووصلنا خان يونس فدير البلح فغزة .

رحلة شاقة وطويلة استغرقت ما يقرب من عشرة أيام وسط صحراء قاحلة في طرق غير معبدة الحذر رائدنا لأن عدونا كان بالقرب من تحركنا في مستعمراته بصحراء النقب وكانت أدنا على زناد بنادقنا حتى لا نفاجئ بضربة من عدونا المتربص , كنا نصل جماعات تحت الحراسة وكان طعامنا جافا نتناوله أثناء السير حياة كلها مشقة وجهاد والجميع مسرورن لأن أرواحهم المتعطشة للجهاد أكبر من هذه المشاكل التي تصغر أمام هذا الهدف الأسمي .

بدء القتال : ( معركة معسكر الطيران بغزة )

وما أن وصلنا غزة حتى نزلت قواتنا بمعسكر الطيران بغزة وكان بهذا المعسكر قوات غير نظامية صوفية للشيخ محمود أبو العزائم وكانت لا تشكل خطرا لمستعمرات اليهود المحيطة بالمعسكر فلم يحاول اليهود الإغارة على هؤلاء المجاهدين العزل الذين لا يملكون عتادا حربيا كاملا والذين لم يتدربوا تدريبا عسكريا كافيا .

وما ان استرحنا قليلا وتناولنا طعام العشاء وصلينا المغرب والعشاء جمع تأخير حتى وقف القائد يعلن بأننا الليلة في حالة طوارئ لأن في المفهوم العسكري مباغتة القوات التي تصل وهي فى حالة إرهاق وتعب ليلة وصولها وفعلا قمنا بتنظيف السلاح وتوزيع الذخيرة على أفراد الفصيلة وقمت بتوزيع فصليتي في الجهة المواجهة للمستعمرة في الناحية الشرقية وقام قواد الصائل في الجهة لمواجهة للمستعمر في الناحية الشرقية وقام قواد الفصائل الأخرى بتوزيع أفراد فصائلهم من الجهات الأخرى للمعسكر وما أن انتصف الليل وأظلم الكون وعم الهدوء حتى بدأت حفافيش الظلام ومصاصي الدماء من الغادرين الصهاينة يتحركون في دبابتهم ومصفحاتهم في طريقهم إلى المعسكر ظانين أننا نيام فيدخلون ويذبحوننا ذبح الشاة وبذلك يكونون قد تخلصوا من القوة النظامية التي دخلت أرض فلسطين ولكن القدر كان لهم بالمرصاد وهؤلاء المجاهدين لم تنم أعينهم لتوجيهات قائدهم بغدر هؤلاء واضعين نصب أعينهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عينان لا تسمهما النار : عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله ".

وما إن وصلوا إلى قرب أسلاك معسكرنا حتى فتحت جميع الجبهات أسلحتها المضادة والسريعة الطلقات نيران كثيفة من شباب متعطش للجهاد أولي معاركه – كانوا وكأنهم يريدون أن يصلوا بأجسادهم إلى هذه المصفحات فيدمرونها بأيديهم – إصرار عميق نيران بددت ظلام الليل وأحالته نهارا !!

وما إن انقشع الظلام وبدأت خيوط الفجر تسطع على بطاح فلسطين حتى رأينا العدو قد أنسحب إلى مستعمراته تاركا خلفه بعض الآليات التي أصيبت بعطب وكانت لنا مغنما وتذكرنا قول الإمام الشهيد بأننا نستطيع أن نأخذ السلاح من عدونا ونوجهه إلى صدره .

منذ تلك الليلة وبعد هذه المعركة الناجحة وبعد هذا الدرس القاسي الذي لقناه له , ولم يستطع العدو أن يقوم بأية محاولة أخري وانتشر الخير في أنحاء غزة فجاءوا مهنئين بهذا النصر المظفر .

المعركة الثانية الكتيبة

بقيت فصيلة بمعسكر الطيران بعد هذه المعركة بقيادة الأخ يحيي عبد الحكيم والفصيلتان الأخريان اتخذت أماكنها بمعسكر النصيرات على شاطئ البحر المتوسط بغزة وهذا المعسكر كان يقيم بت الجيش الانجليزي قبل مغادرته فلسطين قبيل 15 مايو 1948م.

ما إن علم إخواننا بمعسكر البريج بقدومنا حتى حضر مرحبا بقدومنا الشهيد الشيخ محمد فرغلي والشهيد يوسف طلعت والأخ كامل الشريف والأخ المرحوم حسن عبد الغني والأخ حسن دوح والأخ نجيب جويفل وكانت فرحة لقاء إخواننا غامرة فياضة .

معسكر البريج

وكان هذا المعسكر يضم عددا كبيرا من الإخوان الذين مولت الجماعة كتائبهم وأمدتهم بالسلاح والذخيرة والتموين فكانت كل منطقة تتكفل بإرسال متطوعيها إلى أرض المعركة تزودهم وتعدهم وكانوا من المجاهدين المدربين على حمل السلاح وأغلبهم من أعضاء الجهاز الخاص الذي كان قد أعده الإمام الشهيد ليكون شوكة في جنب أعداء الدين من الانجليز واليهود وقد ضم هذا المعسكر عددا كبيرا من الإخوان وكان يتولي قيادته الشهيد الشيخ فرغلي ويعاونه الشهيد يوسف طلعت ومجموعة كبيرة من الإخوان أمثال : الإخوة كامل الشريف والمرحوم حسن عبد الغني وحسن دوح ونجيب جويفل , محمد سليم وقد زود الجيش المصري هذا المعسكر بقوات آلية من مصفحات ودبابات ومدافع ميدان عندما علموا بمقدرتهم القتالية وما قاموا به من معارك في جنوب فلسطين أذهلت عدوهم , حتى قال أحد المسئولين الانجليز " أعطوني ثلاثة آلاف من الإخوان أفح بهم فلسطين ".

وهذا الجزء من الكفاح كان قد سجله الأخ كامل الشريف في كتابه " معارك الإخوان في فلسطين " وشكر الله الأخ كامل الشريف وزير الأوقاف السابق بالأردن على ما بذله من جهد حتى شمل كتابه كل معارك الإخوان في هذا الجزء من فلسطين .

معركة أخري بين مشاتنا ومدرعات العدو

وكان قد وصل إلى علمنا ونحن بمعسكر النصيرات تحرك قافلة من المصفحات والعربات المدرعة للعدو لتموين مستعمرة كفار ديروم الواقعة على طريق خان يونس – غزة فانطلقت بفصيلتي تجاه هذه القافلة ودارت بيننا وبينهم معركة خلف المستعمرة كنا نستعمل فيها طلقات مضادة للدبابات من مدافع البويز وأسفرت النتيجة عن انسحاب هذه المصفحات وهربها رغم أننا كنا نواجه هذه المدرعات بقوة مشاة فقط , وكانت ذخيرتنا الخارقة المصفحات تخترق جدرها , وتصل إلى جنودهم فتقتلهم وصدق قول الله تعالي ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي ..)

وبعد انسحابهم والحيلولة دون تحقيقهم غرضهم جمعت أفراد الفصيلة للعودة للمعسكر ولشد ما أذهلني تغيب الأخ الشهيد رفعت عثمان أحد أفراد الفصيلة وتحركت في طريق عودتي إلى معسكرنا ظانا بأنه ربما ذهب إلى المعسكر لا سيما وأن الظلام بدأ يخيم على المكان .

استشهاد رفعت عثمان غدرا

ولما لم نجده بمعسكر النصيرات بدأنا البحث عن رفعت في بقية معسكرات الإخوان بالقطاع فلم نجده ,وبدأنا في البحث الجاد في المنطقة الميحطة بأرض المعركة وفي أحد البيارات ( الحدائق) الموجودة بالمنطقة وجدنا جثة رفعت وبه طلق ناري في ظهره ومكبا على وجهه في التراب ,وبالسؤال علمنا أنه عندما نفذت ذخيرته أثناء المعركة وأراد أن يحضر ذخيرة من معسكرنا , طلب من أحد الأعراب مصاحبته كدليل للطريق فاختار له طريقا خلفيا من خلال هذه البيار غير المأهولة , ثم ضربه برصاصة في ظهره أردته قتيلا طمعا في الحصول على بندقيته وفر هاربا ولم نستطع معرفته رحم الله الأخ رفعت , فقد كان أول شهيد كتيبنا وهو من إخوان شبرا وكان يعمل موظفا بشركة المعاملات الإسلامية التابعة للجماعة ودفن بدير البلح بفلسطين وكان من خيرة شباب هذه الدعوة إيمانا وطاعة ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ).

دخول قوات الشهيد القائمقام أحمد عبد العزيز

وتضم هذه القوات عدة كتائب من المتطوعين من الإخوان وغيرهم بقيادة الشهيد أحمد عبد العزيز وكانت هذه القوات قد تدربت بمعسكر هاكستب بمصر وكان من قوادها الضابط كمال الدين حسين والمرحوم الضابط عبد المنعم عبد الرءوف وخالد فوزي والمرحوم عبد الجواد طبالة وحسن فهمي والشهيد محمد سالم وغيرهم من ضباط الجيش .. كما كان معهم قادة فصائل من الإخوان أمثال  : الأخ لبيب الترجمان والفرماوي وغيرهم .. وكانت هذه القوات قد اتخذت أماكنها بمناطق دير البلح والنصيرات

لقاء بين قادة الكتائب والقائمقام أحمد عبد العزيز

وكان قد تم لقاء لتنسيق العمل بين قادة قوات الإخوان بالمنطقة والشهيد أحمد عبد العزيز , حضره الشهيد محمد فرغلي واليوزباشي محمود عبده , والمرحوم الضاغ محمود لبيب وهو من كبار رجال الدعوة , وكان ضابطا في الاستيداع وكان يزور فلسطين بين الحين والحين لعمل تنسيق بين قوات الجماعة في جميع المعسكرات ..

معركة حول مستعمرة كفار ديروم

سبق أن دارت معارك طويلة بين قوات الجماعة وبين هذه المستعمرة استشهد فيها من استشهد وقد سجل هذا الأخ كامل الشريف , ولكن عندما دخلت قوات القائمقام أحمد عبد العزيز أرض فلسطين خطط لضرب هذه المستعمرة التي كانت تهدد طرق المواصلات وكاد أن ينجح الأخ لبيب الترجمان قائد إحدي هذه الفصائل في دخول المستعمرة ولكن لسوء الحظ كشفت خيوط الفجر أفراد الكتيبة في أرض مكشوفة تماما لعدم وجود سواتر , ولما بدأت في الانسحاب صب اليهود نيرانهم على القوة الرابضة حول أسلاك المستعمرة وقد تمكنت الكتيبة من الانسحاب تحت وابل من نيران مدفعيتها بعد أن سقط عدد كبير من شهدائها ... وأترك حصر أسماء هؤلاء الشهداء من الإخوان لمن كانوا في الكتيبة أمثال لبيب الترجمان وحسن الجمل .

المعركة الثالثة للكتيبة

اتصل بنا الشهيد أحمد عبد العزيز ونحن بمعسكر النصيرات على ساحل البحر الأبيض المتوسط بغزة في عصر أحد أيام الجمعة من عام 1948 , وطلب من اليوزباشي محمود عبده قائد كتيبتنا إرسال فصيلة مشاة للاستيلاء على المستعمرة " كفار ديروم " بعد أن رفعت العلم الأبيض دليلا على التسليم وبعد أن حاصرتها قواته هذه الفترة الطويلة .

استدعاني اليوزباشي محمود عبده وطلب مني سرعة إعداد الفصيلة بأسلحة سريعة الطلقات يساعدها فرق ألغام لنسف ما قد يكون بداخلها من أبراج .

فرحنا لمقابلة أعداء الله وقام أفراد الفصيلة يعدون أنفسهم وسلاحهم وكنت بما لى من خبرة في إعداد الألغام أشرف على فرقة النسف بدقة متناهية .

وما أن مالت الشمس للمغيب حتى ركبنا سيارة نقل الجنود وعبر خطوط خلفية أخذنا خط سيرنا مرورا بمقابر الشهداء بدير البلح ووقفنا أمام مقابر من سبقونا بالشهادة وطلب مني الأخ الشهيد أحمد محمود السيد من إخوان العباسية ويعمل بكلية العلوم أن يقف دقيقة أمام قبر صديقه الشهيد عبد الرحيم عبد الخالق , وتشاء الإرادة الإلهية أن يكون أحمد شهيد هذه العملية في هذه الليلة , ودفن بجوار أخيه وصديقه ,وكأنه قد دعا ربه مشاركة أخيه في هذه المنزلة , كأن السماء قد علمت بصدق نيته ودفن بجوار أخيه الشهيد : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) .

وما أن وصلت الطريق العام أمام المستعمرة المذكورة حتى وجدت القائد القائمقام أحمد عبد العزيز في انتظار وصول قوتنا وحييت القائد وسألته عن خطتنا فأشار إلى المستعمرة وقد رفعت علم التسليم وعرفني بأحد البدو الذي كان ملاصقا له وكثيرا ما أدي لهم الكثير من الخدمات وقال لى هذا البدوي سيكون دليل طريق اقتحام المستعمرة لعلمه بالمسالك والطرق المؤدية إلى بواباتها فقلت للقائد : على بركة الله .

وكانت الشمس تميل للمغيب وبدأ الظلام ساترا طبيعيا لقواتنا المتقدمة وسط مزارع القمح المحيطة بالمستعمرة وتقدمنا في اتجاه المستعمرة بحذر شديد ويتقدمنا هذا البدوي , وما إن قربنا منها حتى فر مختفيا عن الأنظار , استلم مدفعا من وراء دشمة كان قد أعدها وفوجئنا لهذا التصرف الشاذ , وعرفنا أنها خيانة مدبرة , وغدر , وانتظرنا فإذا به يطلق سيلا من الرصاص على قواتنا , وانبطحنا مسرعين في أماكننا تسترنا أعواد القمح وما أن بدأ الضرب حتى فتحت المستعمرة أتونا من النيران غطت بتا جميع الجهات .

وبسرعة أصدرت التعليمات لجميع أفراد الفصيلة بالسكون التام وعدم الحركة لأن قناصة العدو يضربون كل عود قمح يهتز حتى أن الأخ الشهيد أحمد محمود السيد قد استشهد بجواري عندما تحرك من مكانه .

كنت أسمع بعد أن كف العدو عن نيران أنات وتأوهات المجروحين برصاص هذا البدوي الخائن وهؤلاء الأوغاد من الصهاينة وما أن كف العدو عن نيرانه , وبدأ الليل يسدل أستاره حتى بدأنا في الانسحاب مخافة أن تباد فصيلتنا عند مطلع النهار , وبدأنا في سحب شهدائنا وجرحانا ثم انسحبنا دون أن يشعر العدو بتحركنا وسط المزارع وما أن وصلنا الطريق العام حتى كان في انتظارنا القائد ـأحمد عبد العزيز والغضب يتفجر من عينه والعرق يطمس وجهه بسبب مكيدة هذا البدوي الخائن وتمكنا من القبض عليه عند انسحابا وأخذناه معنا إلى المعسكر وكانت عربات نقل الجرحي في انتظارنا على الطريق ونقل إلى المستشفي العسكري بغزة للعلاج كلا من المجاهد محمد فؤاد إبراهيم من الإسكندرية والمرحوم مصطفي المبلط من القاهرة , كما استشهد في هذه الموقعة الأخ أحمد محمود السيد من العباسية والأخ محمود عبد الجواد من شبرا وفي المعسكر عندما بدأ قائد كتيبتنا اليوزباشي محمود عبده والشهيد محمد فرغلي في استجواب هذا البدوي أنكر في البداية صلته بهذا العمل , وعلل ذلك بأن اليهود هم الذين أطلقوا النار , وعندما ضيق عليه الخناق ووعد بألا يمس بسوء, اعترف بما أقدم عليه من عمل مبينا صلته بأفراد هذه المستعمرة من اليهود , تائبا ونادما عما فعله في حق العروبة والإسلام مجددا عزمه على المضي قدما في خدمة بلده ووطنه ودينه وفي لحظة من لحظات الندم صحا فيها ضميره , فإذا به ينفجر باكيا معترفا بأنه يعتبر أحد أفراد هذه المستعمرة تزوج فيها من صهيونية ,وله منها أولاد , وصلته بها ترجع إلى سنوات عشر وكان يجمع الأخبار .ز أخبار العسكريين عددا وعتادا وأماكن تجمعهم ويعود مساء كل يوم إلى المستعمرة بما يجمعه من أسرار, ثم عرض أنه بإمكانه أن يتصل بالمستعمر الأم التي تمون جميع مستعمرات الجنوب بالمؤن والذخائر حتي إذا علم بموعد تحركهم وخط سيرهم أبلغ ذلك لجماعتنا وكان يتكلم العبرية كأحد أبنائها اتصل بهم لا سلكيا ليبلغهم بأن الإخوان المسلمين يحاصرون المستعمرة وهي في حاجة ماسة إلى نجدة سريعة .

قافلة المصفحات الاستيلاء عليها

استجابت المستعمرة لنداء عميلها البدوي وحددوا له خط سيرها وتكوين طاقمها المكون من 15 مصفحة ولوري وعليها التموين والذخيرة والسلاح يتبعها ونش كبير لإنقاذ ما يحتمل تعطيله أثناء السير وتحدد خط سير القافلة ... وفي المكان والزمان المحددين وقفنا بفصيلتنا ومعنا مدفع مضاد كان يقود سيارته اليوزباشي المرحوم عبد المنعم عبد الرءوف وكانت المفاجأة سرب من اللوريات يحمل التموين والمعدات يتهادي وسط الصحراء وكأنه أسد كاسر يجري أمامه العرب تاركين بيوتهم هائمين على وجوههم.

فرحنا بمقدم هذا الصيد الثمين الذي فوجئ بجنود الحق يخرجون من الخنادق وكأنهم الموت المحقق وفي لحظة لم يتوقعها العدو ولم يحسب حسابها انهمرت النيران .. نيران المدفعية المضادة ونيران المشاة الصامدين خلف السواتر اختل سير القافلة وانفرط عقدها من هول المفاجأة وتركوا سياراتهم ومصحفاتهم هربا للوصول إلى المستعمرة حتى لا يقعوا أسري في أيدي المجاهدين ومن لم يصل المستعمرة كانت تصله نيران المجاهدين فيسقط مضرحا في دمائه وكان من عادة اليهود أن لا يتروا جرحاهم ولا جثث قتلاهم مهما كلفهم ذلك .

وبعد أن سنحت لنا الفرصة لاحتواء هذا الصيد الثمين تقدمنا مسرعين للسيطرة عليه , وأسرعنا في طلب سائقين لقيادة السيارات واللوريات المحملة والذخيرة إلى معسكرنا أذكر أن فصيلتنا المجاهدة والتي قامت بهذا العمل الجرئ كانت قد أصابها الجوع ولكن شاءت إرادة الله أن تأكل من غنائم اليهود .

وبهذا النصر المظفر ارتفعت المعنويات وقويت العزائم وتمني المجاهدون أن يدخلوا معارك في سبيل الله مع هذه الشرذمة الطاغية الباغية .

واقعة استشهاد برصاصة طائشة

وبينما كنا بمعسكر النصيرات بمنطقة الرمال بغزة لا يسمع فيها إلا صوت الريح الثائر وموج البحر الهادر وتصادف أنني كنت ضابطا نوبتجيا ليلة وقوع الحادث بهذا المعسكر فسمعت أثناء مروري ليلا طلقا ناريا بدد سكون الليل , وتوجهت لمصدر هذا الصوت فإذا بي أجد الأخ الشهيد عابدين وهو من إخوان الصعيد راقدا على الأرض أمام مخزن السلاح والدماء تنزف من بطنه وأناته تقطع القلوب , وعندما حاولت استجلاء الأمر علمت أن الأخ البشتاوي وكان حارسا لمخزن السلاح هو الذي أطلق الرصاص وأنه لم يسمع كلمة سر الليل من الأخ عابدين بسبب العواصف الشديدة مع أمواج البحر الصاخبة وفي جو من الظنون والهواجس أطلق النار لتصيب من أخيه مقتلا نقلنا الأخ الجريح إلى المستشفي بغزة ولكن كان جرحه غائرا وفاضت روحه الطاهرة ودفن بمقابر الشهداء بغزة.

أما الأخ البشتاوي الذي وقع في دم أخيه خطأ فقد ظل حزينا وانتابه نوع من الصمت وحرم على نفسه الطعام والشراب إلى أن جاء الرد من الإمام الشهيد في أمره .

وبدأ البشتاوي في الصيام حتي انقضي الشهران سائلا الله المغفرة والصبر والصيام هذا كفارة قتل المؤمن خطأ .

بدء تحرك قواتنا إلى الشمال بعد دخول الجيش المصري

وكانت قوات الجيش المصري قد دخلت أرض فلسطين وتقدمت في إتجاهين الأول يوازي الساحل الفلسطيني, والثاني إلى الجنوب حيث أقام اتصالا مع الجيش الأردني الذي اندفع إلى القدس واشتبك مع اليهود في معركة هناك , وق كانت الجيوش العربية على مقربة من عاصمة اليهود" تل أبيب" وكان بإمكانها إحراز نصر عسكري على اليهود,إلا أن قبول الهدنة أضاع عليهم هذه الفرصة ,وكان الغرض من تحرك قواتنا إلى صحراء النقب بعد دخول الجيش المصري استيلاء قواتنا على المدن الفلسطينية الواقعة من الجنوب إلى الشمال , حتي لا يسيطر عليها قوات اليهود .

ونظر لما رآه القائد الشهيد أحمد عبد العزيز قائد المتطوعين من مقدرة قوات كتيبتنا على التحرك والعمل الفدائي الجرئ بعد أن لمس هذا في معارك بالمنطقة فقد صدرت تعليمات قادة المنطقة العسكريين بتحرك كتيبتنا مع القوات الخفيفة الحركة إلى داخل النقب .

احتلال بلدة العوجة وعسلوج وبئر سبع

تحرك الفوج , وكان بت حوالي من مائة عربة ناقلة جنود وعربات مدرعة ومدفعية مضادة وعربات تموين وأسلحة وذخيرة وسيارات نقل مياه وعربات إسعاف , توغلنا بسرعة بداخل النقب , وكان في طريق هذا التحرك العديد من المستعمرات اليهودية , وكانت خطة القائد تعتمد على الكر والفر فكنا كلما نمر بمستعمرة نتقدم منها مطلقين عليها مدافع الدخان كي نغطي المستعمرة بدخان كثيف يتعذر معه الرؤية وأثناء ذلك تتحرك بقية القوات بالسرعة الممكنة وسط هذه التلال من الدخان وبهذه الطريقة استطاعت قواتنا اجتياز هذه المناطق وحراستها قبل أن يستولي عليها اليهود .

وصلت القوات إلى بلدة العوجة وبعد أن استرحنا وقمنا بتنظيف سلاحنا استعدادا لمواصلة السير تركنا كتيبة من القوات الخفيفة الحركة بقيادة اليوزباشي الشهيد محمد سالم ووصلنا سيرنا نحو بلدة عسلوج أبقينا بتا كتيبة أخري حتى لا يهاجمها قوات الغادرين الصهاينة .

واصلنا مسيرتنا في اتجاه بئر سبع عاصمة النقب مبانيها جميلة وشوارعها منظمة ويحيط بتا عدة مستعمرات للعدو وما إن وصلنا هذه البلدة حتى فتحنا نيران مدفعيتنا الثقيلة ومدافع لهاون على المستعمرة القريبة من البلدة وذلك لتحطيم روحهم المعنوية وإرهابهم حتى لا يفكروا في الهجوم علينا , وبعد أن استراحت القوات ليلة وصولها غادرت المدينة في مسيرتها في اتجاه الظاهرية وبيت لحم وحيث ينتهي بتا المطاف في القدس وبجوار مسجدها الأقصي .

وبقيت كتيبتنا بقيادة اليوزباشي محمود عبده ببئر سبع لأهمية هذه البلدة وعسكرنا بالمدرسة الثانوية , حيث كانت الدراسة معطلة ونظرا لأهمية موقع البلدة الاستراتيجي طلب منا القائد سرعة تحصينها بخنادق ودشم من جميع جهاتها وبمساعدة أهالي البلدة الذين رحبوا بمقدمنا بدأنا في حفر الخنادق وإشتراك معنا الكثير من شباب البلدة ثم تعاونوا معنا ف يحمل السلاح دفاعا عن عروبتهم ووطنهم وكانوا شجعانا أوفياء .

وحاول العدو مرات ومرات بمصفحاته ومدفعيته التقدم نحو البلدة ولكنه كان يرد في كل مرة تاركا خلفه الكثير من الجرحي والقتلي ولما يئس من مهاجمين لقوافله ولا نكف عن ضرب مواقعه بمدفعيتنا الثقيلة .

وعاش سكان البلدة في أمان تام بسبب وجود قوات الإخوان وفتحوا متاجرهم وعادت إليهم الطمأنينة والهدوء وناموا ملئ جفونهم واستمرت قواتنا فترة تبث الرعب والخوف في قلوب سكان هذه المستعمرات .

عملية اقتناص دبابة ببئر سبع نعاها راديو الهاجانا

وبينما كنا نتابع هجماتنا على مستعمرات العدو بهذه المنطقة وإذا بالشيخ سلامة بن سعيد وهو أحد أثرياء العرب بالمنطقة يسر إلى القائد بأخبار عن تحرك العدو في طرق مجهولة ويمكن لقواتنا من اقتناص مصفحاته ومدرعاته .

وفورا استدعاني القائد اليوزباشي محمود عبده وطلب مني تجهيز سبعة أفراد من أفراد قوات الكومندوز في فصيلت والمشهود لهم بالكفاءة العسكرية وتجهيز الألغام الكهربية لنسف الجسر الذي تمر فوقه هذه المصفحات وبعد أن قمت بالتجهيزات المطلوبة تحرك القائد ومعه الشيخ سلامة لمعاينة المكان قبل بدء العملية حتى يطمئن بنفسه من نجاحها , وسلامة أفراد المجموعة بمعاينة طرق التقدم والانسحاب ولما كانت هذه العملية من العمليات الانتحارية لأنها ستكون في أرض العدو , وبين مستعمراته رغب القائد أن يختصر العمل فيها على 7 أفراد فقط .

وفي المساء تحركت ومعي مجموعة الكمين وركبنا سيارة ومعنا احتياجاتنا من ذخيرة وسلاح وألغام مضادة للمصفحات وجهاز لاسلكي ومواد تموينية جافة عبارة عن معلبات تكفي لمدة ثلاثة أيام وكنا نرتدي الملابس البدوية , حتى إذا وقع علينا عين عدونا حسبنا من البدو الرحل الشاردين في الصحراء , وما إن انتهي بنا الطريق الأسفلتي ببئر سبع حتى وضعنا أمتعتنا فوق ظهر جمل كان معدا ويقوده دليل للطريق اختاره الحاج سلامة لمعرفته لمجاهل الصحراء سرنا خلف الراحلة ويتقدمنا الدليل وكان الليل ساترا طبيعيا لنا , وكانت أبراج المستعمرة تطل علينا بكشافاتها وأشباح اليهود تتحرك وسط مزارعهم وما إن دخلوا مستعمرتهم حتى حطت راحلتنا وسط واد عميق بالقرب من الطريق المسفلت الذي يربط المستعمرات بعضها ببعض والذي سيكون أرضا لمعركتنا معهم .

أنزلنا أمتعتنا وسلاحنا , ووجهنا جهاز اللاسلكي نحو قيادتنا في بئر سبع ثم تحركت متسلالا فى اتجاه الكوبري الذي فوق الوادي والذي ستمر فوقه المصفحات ,ووضعنا الألغام فوق قواعد الكوبري الرئيسية حتى يتم نسفه وفوقه الصيد الذي ننتظره وبسرعة حفرنا الخنادق لبقية المجموعة في مواجهة الكوبري , مع العمل على توفير الحماية لظهورنا , وما إن طلع علينا النهار حتى كنا وسط الجحور ننتظر وصول القافلة وكنت قد وزعت على كل فرد من أفراد المجموعة , وهو داخل خندقه ذخيرته وتموينه وزمزمية من الماء تكفيه ثلاثة أيام , وكنا نصلي متيممين داخل الخنادق حتى لا يظهر أحدنا, فننكشف لعدونا لأننا بأرضه وجلست ومعي بطارية التفجير. مكثنا يومين على هذه الحالة وسط الخنادق وكنت أدعو الله أن يأتينا صيدنا قبل نفاد الطعام والشراب, وفي يوم الجمعة وقبل صلاة الظهر وفي وضح النهار ظهرت القافلة في الطريق , فأمرت بعدم إطلاق الرصاص إلا بعد أن يتم النسف محافظة على ذخيرتنا , لأننا بعد العملية سنتعرض لمعركة قاسية ردا على عمليتنا , وستتوالي نجدات العدو من المستعمرات المجاورة وما هي إلا لحظت حتى ظهرت المصفحة التى تتسع لأكثر من سبعين من محاربي اليهود,جاءت مسرعة نحو مصيرها المحتوم وما أن اقترب الهدف حتى أدرت المفجر الكهربائي سمع صوت هائل دوّى في المنطقة بأسرها وكأنه زلزال ودخان وأتربة انبعثت منه وكأنها بركان ما إن انقشع التراب والدخان ألقي الإخوان رأيت الصيد وقد هوي وسط هذا الوادي السحيق وفي الحال ألقي الإخوان الكلفان بضرب القانل – قنابل شديدة الانفجار- على هذه المصفحة حتى لا ينجو أحد من ركابها , ثم تلى ذلك نيران مدافع سريعة الطلقات من الشهيد علي صبري وقد استشهد في هذه المعركة وهو من إخوان الإسكندرية ودفن ببئر سبع وكان رحمه الله مثالا للخلق الكريم .

وصول النجدة من بئر سبع :وما إن بدأت المعركة حتى اتصل عامل اللاسلكي بقيادتنا ببئر سبع وما أن سمع القائد الخبر حتى سر لذلك وكبر الجنود وفرح الأهالي , وخرجت فرقة من قواتنا تضرب إحدي المستعمرات المجاورة , حتى لا تخرج منها نجدة لضرب قواتنا وجاءت نجدة من المستعمرة الثانية وبدأت في نقل القتلي والجرحي في عربات نقل وكنا نكيل لهم الضربات أثناء تحركها ونحن في جحورنا لا يرانا أحد وأوقعنا بهذه النجدة الكثير من الإصابات وتقدمت نحونا عربة جنود لتطويقنا وكشف ظهورنا , وفي الحال تم الانسحاب إلى الوادي وشاءت إرادة الله أن يصل إلينا إخواننا مسرعين ينهبون الصحراء , ويطلقون الرصاص على هذه القوة المتحركة , وما إن رأى الصهاينة هؤلاء الجنود يطلقون النار لا يهابون الموت حتى أسرعوا إلى مستعمراتهم خوفا وجبنا وتقدمنا نحو المصفحة ببطن الوادي ووجدنا آثار الدماء وقد غطت أرضيتها وبقع الدماء المنتشرة على رمال الصحراء والسلاح قد تبعثر هنا وهناك , وبعض ملابس اليهود وقد خضبت بالدماء .

جمعنا سلاحهم وبقينا فى حراسة هذه المصفحة التي لم تصب لمتانة تصفيحها بقية ليلة لم أذق طعم النوم , حتى لا نفاجأ من عدونا وفي الصباح حضر القائد ومعه جرار كبير استطاع أن يرفعها لتقف على عجلاتها ووصلنا بتا بئر سبع وسط فرح الأهالي وتكبيرهم وهذه المصفحة نعاها راديو الهاجانا , لأنها كانت أكبر وأقوي مصفحة عندهم في هذا الوقت .

كما خرجت البلدة بأسرها لتوديع الشهيد علي صبري وكان مشهدا رائعا جمع الكثير من العسكريين والأهالي .

الهدنة الأولي

وبعد هذه المعركة التى شهدتها أرض بئر سبع ضغطت الدول الكبري على الدول العربية المشتركة في القتال لتقبل الهدنة مع اليهود وفعلا فرفضت هذه الهدنة في 11 يونيو 1948 وقد استفاد اليهود من هذه الهدنة استفادة كبري – فعززوا قواتهم وزودوها بمختلف الأسلحة أما العرب فقد احترموا نصوص الهدنة ولم يسعوا إلى تقوية موقفهم العسكري !

عودتي إلى القاهرة

ولما قبل العرب الهدنة وكان قد اقترب موعد الامتحان صرح اليوزباشي محمود عبده للطلاب بالسفر إلى القاهرة لتأدية الامتحان والعودة عقب الامتحان وسافرت ومعي من الطلاب الإخوة أحمد عبد الغني ومحمد بنداري .

استئناف القتال

وما إن استأنف القتال في 9 يوليو 1948 حتى جابه العرب عدوا أكثر عددا وعدة وأصيب الموقف العسكري العربي بنكسة سقطت اللد والرملة والناصرة وأدي احتلالها إلى تدمير جيش الإنقاذ وبعثرته .

ولما رأى العرب هذا التفوق في الجانب اليهودي وافقوا على الهدنة الثانية في 18 يوليو 1948 .

عودة لفلسطين

أسرعت في طلب العودة إلى كتيبتنا التى تحركت إلى صور باهر وقطع الاتصال بين قوات الشمال والجنوب بعد أن أستولي اليهود على طريق الساحل فلا أمل التحاقي بفصلتي بصور باهر .

ولما كانت القوات المتحاربة في الجنوب تحتاج إلى عون عسكري سرع دخلنا معسكر هاكستب لتكوين كتيبة تشرف على تدريبها وإعدادها وقامت إدارة المعسكر بتزويدها بالسلاح والذخيرة .

وكان معنا بهذه الكتيبة الأخ حسن دوح والمرحوم عبد الغني وعبد الرحمن البنان , والشهيد علي الفيومي والشهيد سيد منصور , وكان عالم بالمفرقعات لأنه كان يعمل بسلاح المهندسين قبل ترك الجيش واستشهد في معركة التبة 86.

السفر إلى فلسطين ثانيا

ثم أذن لنا بالرحيل نقلتنا عربات الجيش من هاكستب إلى محطة مصر ثم ركبنا قطار فلسطين الحربي إلى غزة ونقلتنا سيارات الجيش إلى معسكر البريج حيث يقيم إخواننا المتطوعون بقيادة الشهيد الشيخ فرغلي والأخ كامل الشريف ,وما إن استقرت أحوالنا حتى بدأنا العمل في اتجاه مستعمرات العدو المجاورة لهذه المنطقة وقد قمنا بعمل عدة كمائن للعدو في الطرق المؤدية لهذه المستعمرات ومهاجمة طرق قوافلهم .

وفي 8 ديسمبر 1948 أصدرت الحكومة أوامرها بحل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال جمع أفرادها بجبل الطور وهاكستب وكما أصدرت أوامرها إلى قائد الجيش في فلسطين بالتحفظ على المجاهدين من رجال الجماعة وإيداعهم المعتقلات والاستيلاء على سلاحهم وذخيرتهم .

مفاجأة ما بعدها من مفاجأة .. وخيانة ليس لها مثيل .. جماعة بأسرها على رأسها قائدها وهبت نفسها لهذه القضية سقط منها الكثير من الشهداء على ثري فلسطين مؤكدة على لسان مرشدها العام بأنه سيقدم رجاله حتى آخر فرد من أفراد جماعته , حتى يتم تطهير الأرض من دنس اليهود , ما هذا المصير ؟ ما هذه الخيانة ؟ لابد أن يكون للاستعمار قدم راسخ في هذه المؤامرة وتبين أن سفراء الدول الثلاث أمريكا وانجلترا وفرنسا , قد اجتمعوا في فايد في 10 نوفمبر 1948 بعد أن لمسوا فدائية الإخوان في حرب فلسطين وطلبوا من النقراشي باشا رئيس الوزراء المصرية حل جماعة الإخوان واعتقال قادتهم في فلسطين :

موقف مشرف لقائد الجيش في فلسطين

صدرت التعليمات من حكومة مصر إلى اللواء فؤاد صادق ( الرجل الحديدي) قائد الجيش في فلسطين باعتقال جميع المجاهدين من الإخوان وسحبهم من مواقعهم والاستيلاء على كافة أسلحتهم وذخيرتهم , وفعلا أخطرت إدارة الجيش إدارة معسكر البريج بحضور اللواء وتجمع الإخوان بمسجد المعسكر في انتظار قدوم القائد , ومما إن قدم حتى وقف شارحا ما طلبته الحكومة المصرية من اعتقال للإخوان ومنعهم من النزول في أجازات واستلام أسلحتهم , وبين بأن هذه التعليمات ساسية وسوف لا ينفذها , ولن يقبل أن تتدخل السياسة في مصير القوات التي تحارب في مواجهة العدو المشترك طالما أن الإخوان يؤدون واجبهم الوطني دون تمرد أو عصيان كما بين أهمية جنود الإخوان لأنهم يحاربون على عقيدة وحرصا على الشهادة في سبيل الله فهم الفدائيون الذين يمثلون الخطوط الأمامية للجيش , ثم عقب الأخ حسن دوح على كلماته نيابة عن الإخوان وندد بسياسة حكومة مصر في قرارها الذي اتخذته بحل الجماعة وشكر اللواء فؤاد موقفه الجرئ الكريم وطالبه بأن يؤخذ رأى الإخوان في العمليات الحربية التى توكل لهم باعتبارهم قطاعا عسكريا هاما وطمأن قائد الجيش ببقاء الجميع في مواقعهم صفا واحدا يؤدون واجبهم في الجهاد حتى آخر جندي من جنودهم ثم انصرف اللواء شاكرا للجميع هذه الروح المعنوي العالية من الجهاد والوطنية الصادقة واستمر الإخوان يؤدون واجبهم المقدس حتى كانت معركة التبة 86 في القطاع الجنوبي التي اشترك فيها الإخوان وأبلوا فيها بلاء حسنا بشهادة كبار ضباط الجيش واستشهد فيها عدد من الإخوان أذكر منهم الأخ الشهيد السيد منصور والشهيد علي الفيومي ( وأترك لمن شهدوا هذه المعركة تسجيل وقائعها حيث أنني كنت قد تركت المعسكر قبل الحرب في طريقي إلى القطاع الشمالي ببيت لحم منفذا لتعليمات قيادة الجماعة).

رحلة شاقة عبر خطوط اليهود ومستعمراتهم إلى بيت لحم

ولما كان الطريق الساحلي قد قطعه اليهود بعد أن استولوا على اللد والرملة والناصرة وقطعوا الطريق بين قواتنا في الجنوب والشمال وكنا نود نقل تعليمات القيادة إلى قائد قواتنا في صور باهر اليوزباشي محمود عبده , فكلفت والمرحوم الأخ حسن عبد الغني ونجيب جويفل باجتياز الطريق عبر صحراء النقب , حتى نصل إلى بيت لحم وكان يلزمنا لاجتياز هذه الرحلة الطويلة دليلا للطريق وثلاث خيول , وقد دبرهم لنا الأخ الحاج حسن الإفرنج من أهالي غزة وخرجن ثلاثتنا والدليل على ظهر الخيول الأربعة في ساعة غروب الشمس واجتزنا حدود الجيش المصري بغزة بعد أن علمنا كلمة سر الليل,وواصلنا سيرنا حتى دخلنا أراضي العدو وكان الليل ساترا لنا , وكنا نتحرك في الخفاء حتى لا يرانا الحراس أمام أبوابها وكنا نسير فوق جبال الشيخ التي يكسوها الثلج وكان الطقس باردا جدا فوق هذه الجبال , حتى أننا كدنا نتجمد فوق جيادنا من قسوة البرد وشدته , وكنا نسرع الخطي حتى لا يطلع علينا النهار إلا ونحن في الظاهرية بداية الأمان حيث أن بئر سبع كانت قد احتلت بعد أن تركها الإخوان , ورأينا تحركات العدو من الشمال إلى الجنوب آليات مدرعة وعربات ومصفحات ورتل كبير من السيارات وعلمنا فيما بعد أن هذه التجمعات والتحركات كانت لمعركة التبة 86 التى حدثت في الجنوب بقطاع غزة وتصدى لها الجيش المصري وقوات الإخوان وشاءت الإرادة أن نخبر قائد القوات الخفيفة الحركة البكباشي المرحوم عبد الجواد طبالة ببيت لحم بهذه التحركات قبل قيام المعركة بساعات .. وقام بدوره بإخطار قيادة الجيش بغزة بهذا الأمر الذي أضاع على اليهود عنصر المفاجأة الذي هو عامل النصر في التكتيك العسكر الحديث وكان قائد الجيش بغزة قد حشد قواته واستنفرها لمواجهة الحشد الصهيوني المنتظر .

وما أن وصلنا الظاهرية مع خيوط الفجر الأولي وانطلقت الخيول على الطريق الأسفلتي بسرعة وفرحنا لاجتيازنا خطوط العدو بأمان حتى سمعنا أصوات طلقات نيران تصوب نحونا من فوق جبال الظاهرية التي تحتضن الطريق ولشد ما كانت دهشتنا لأننا نعلم أن هذه المناطق بتا قوات عربية وما أن عرفوا بأننا عرب حتى توقف إطلاق النار وذهبنا بعد ان ألقينا بأسلحتنا إلى حيث يقيمون فوق الجبل .

وعلمنا بأن الجنود المصريين الرابضين في هذه المواقع شكوا في تحركنا , لأننا قادمون من أرض العدو , عاملونا على أننا جواسيس للعدو وجردونا من سلاحنا وأودعونا الحجز في بلدة الظاهرية حتى يتم ترحيلنا إلى بيت لحم .

وفي الصباح حضرت عربة عسكرية وعليها حراسة مشددة من ضباط وجنود بسلاح الحدود وأمرونا بالركوب لترحلينا إلى بيت لحم وسارت السيارة تنهب الأرض والجنود مصوبون سلاحهم إلى صدورنا حتى وصلنا بيت لحم وما أن التقينا بقائد القوات المرحوم البكباشي عبد الجواد طبالة والصاغ كمال الدين حسين حتى عرفونا لأننا كنا نشاركهم معارك الجنوب ووبخ القائد الضابط الذي كان معنا لتسليمنا إلى القيادة معلنا تأسفه معتذرا عما نالنا , وأكرموا قدومنا وقدموا لنا طعاما وشرابا ولشدة ما عانيناه في هذه الرحلة القاسية التي لم تنم لنا فيها عن منذ أن غادرنا غزة استغرقنا في نوم عميق .

الوصول إلى صور باهر واللقاء بقائد الكتيبة الأولي

وما إن أخذنا قسطا من الراحة وأدينا صلاة العشاء حتى عرض علنا الصاغ كمال الدين حسين اصطحابنا في سيارته لتوصيلنا إلى قيادتنا في صور باهر , ولشد ما كانت فرحتنا بهذه العرض ... ركبنا ليلا مخترقين الخطوط العسكرية ومعنا كلمة –سر الليل – حتى وصلنا صور باهر , وما أن رآنا اليوزباشي محمود عبده قائد قوات صور باهر حتى أخذته الدهشة لأنه يعلم أننا بالجنوب والطريق مقطوع بين الشمال والجنوب وكانت فرحتي بلقاء أفراد فصيلتي لا توصف ... التقيت بالإخوة يحيي عبد الحليم ومحمود حسن والمرحوم أحمد شعبان وحسن الجمل وفتحي علام وعلي نعمان وعبد الملك الشافعي والمرحوم السيد خطاب وسعد سلامة وغيرهم .

وفي الصباح اصطحبنا اليوزباشي محمود عبده قائد القطاع ليطلعنا على الخطوط الأمامية في مواجهة العدو ولشد ما كانت دهشتنا عندما رأينا اليهود رؤي العين وسمعناهم يتحدثون ولا تفصلنا عن خطوطهم أكثر من مائتي متر .. وكان يحيط بخطوط الإخوان مستعمرات رامات رحيل والدجاج وتقعان فوق جبل المكير الذي يفصله عن صور باهر واد عميق .

وقد أقام الوزباشي محمود عبده بمساعدة أهالي صور باهر خطوط دفاع وخنادق ودشم مسلحة تحيط بالبلدة من جميع نواحيها وقد شهد لها قادة الجيش عندما زاروا البلدة ورأوا هذه الاستحكامات القوية إذ كانت قواتنا تتحرك بداخل خنادق حتى لا ير الهود تحركاتهم .

معركة مع اليهود أثناء الهدنة

وفي ليلة لا أنساها أثناء الهدنة وكنت في حراسة الموقع مجاهدا بدلا من الأخ محمود حسن الذي فضلت أن يستريح هذه الليلة وبينما أنا في هذا الموقع إذا بي أشاهد سيارة عسكرة يهودية وعليها مجموعة من الضباط متحركي من مستعمرة رامات رجيل في اتجاه مستعمرة الدجاج , وراودني خاطر سريع وكانت أصابعي على زناد مدفع فيكرز أأطلق مدفعي وأتقرب إلى الله بدماء هؤلاء المغتصبين الذين قال فيهم الله أنهم ( أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود... ) أم أحافظ على الهدنة وفي لحظة خاطفة وجدتني أطلق المدفع في اتجاه العربة وما أن وصلت نيراني إليها حتى اشتعلت بمن فيها وما إن سمعت مواقعنا بهذه الطلقات وهي المتحفزة دائما للقتال و حتى صبت أتونا من نيران مدافعها على جميع العدو ... وما أن سمع القائد بهذه النيران , حتى حضر إلى لموقع الذي انطلقت منه قذائف الموت وعندما أراد أن يستطلع الخبر أشرت إلى السيارة المحترقة التي أرادت أن تخترق خطوط الهدنة , وجاء مراقبوا الهدنة للتحقيق في هذا الأمر .

وللإخوان في هذه البلدة معركة مع اليهود قبل وصولي تسمي موقعة جيل المكبر , ولقد سمعت منهم أن عدد قتلي هذه المعركة زاد عن الألف قتيل وكانت قوات اليهود تريد التسلل عبر الوادي بلواء مشاة لاحتلال صور باهر وما أن علم الإخوان بهذا التحرك حتى تركوهم حتى إذا كانوا ببطن الوادي فتحوا عليهم مدافعهم فأبادوهم عن آخرهم وجاء مراقبوا الهدنة واستلموا جثثهم وكان ذلك درسا قاسيا لليهود لم يحاولوا بعده التحرك نحو هذه البلدة المحصنة لعلمهم أن بتا رجالا يحبون الموت دفاعا عن دينهم وأرضهم .

استشهاد الإمام حسن البنا في 12 فبراير 1949

وفي مساء هذا اليوم الذي لا ينسي وكيف طويه النسيان وأن أمل أمة بأسرها قد وقع شهيدا بيد الغدر والإثم ؟!!

اتصل الصاغ كمال الدين حسين من بيت لحم باليوزباشي محمود عبده ليبلغه نبأ اغتيال الإمام حسن البنا بعد أن أطفئت أنوار شارع الملكة نازلي ( شارع رمسيس حاليا) واستدعي إلى دار الشبان المسلمين للتفاوض معه في أمر إلغاء قرار الحل والإفراج عن الإخوان – خدعة خطيرة مدبرة – مجمعة من المخبرين بقيادة الأميرلاي محمود عبد المجيد مدر قنا في عربة تقف أمام الدار في انتظار وصول المرشد العام ومعه صهره الأستاذ عبد الكريم منصور المحامي .. وما إن يصل إلا وتنطلق عليه الرصاصات من كل صوب ويسقط الإمام مضرجا بدمه وينقل إلى المستشفي القصر العيني وتتصل السراي بمدير المستشفي لمنع إسعاف حسن البنا عدو السراي والملك وتفيض روحه الطاهرة هدية عيد جلوس الملك في 12 فبراير.

جلسنا ومعنا القائد والأخ يحيي عبد الحليم والمرحوم حسن عبد الغني ونجيب جويفل في حزن عميق نجهش بالبكاء قلقا على مصير أمتنا المنكوبة التي تحكم حكم الغاب بكينا كثيرا وعزي كل منا أخاه – إنها مصيبة كبري – رجل في ريعان الشباب أعطي لدينه ووطنه كل حياته كنا ننتظر عطاءه الذي لا ينضب يرحل عنا في وقت نحن في مسيس الحاجة إليه ... جنوده الذي خاضوا المعارك مع العدو وكانوا أبطالا شجعانا شهد بذلك لهم الأعداء قبل الأصدقاء ..

وما هي إلا لحظات حتى أذاع العدو هذه الحادثة المؤلمة وما إن سمع الإخوان في هذه البلدة – صور باهر – هذا الخبر حتى جن جنونهم , ومن هول الصدمة ومن شدة الغيظ سلط الإخوان مدفعيتهم على هذه المستعمرات المجاورة ويعلم الله أن اليهود تلقوا الضربة , ولم يحاولوا الرد عليها تقديرا لمشاعر الإخوان ولكن حكام مصر في ذلك لوقت الذين تربوا في أحضان المستعمر لم يقدروا الظروف التي كانت تحياها الأمة العربية في جهادها مع المستعمر الغاصب لأنهم يخدمون مصالحه .

جنازة عسكرية صامتة للإمام الشهيد في بيت لحم

وما إن علم ضباط الجيش المصري ببيت لحم نبأ استشهاد الإمام حتى قدموا إلى صور باهر لتقديم العزاء للإخوان , كما قدم كثيرا من العلماء ورجال الدين والكثير من قيادات المتطوعين وطلبوا من اليوزباش محمود عبده تنظم مظاهرة عسكرية يتقدمها علماء الدين وعلماء المسلمين ويشترك فيها قوات الجيش العسكريين والمتطوعين وتسير من بيت لحم حتى مقابر الشهداء .

وتحدد يوم الجنازة الصامتة مشهد رائع .. الضباط والجنود يسيرون منكسي السلاح يتقدمهم العلماء ورجال الدين حاملين لافتات الاستنكار وطلب الرحمة من الله لشهيد الإسلام " حسن البنا" والإخوان يحملون صور الإمام الشهيد علوها المصاحف وأسلحتهم منكسة , وما أن وصل الركب مقابر الشهداء حتى وقف أحد العلماء يخطب مشيدا بدور الإمام الشهيد في خدمة الإسلام وقضاياه مستنكرا ما ارتكبه الأوغاد في مصر كما وقف الأخ المرحوم حسن عبد الغني معزيا الإخوان في استشهاد القائد مشيدا بموقف القائد الشهيد نحو قضية فلسطين ووضعنا الورود على مقابر الشهداء وانصرفنا مترحمين على الإمام ومعاهدين الله على البذل والفداء .

العودة إلى القاهرة

وكانت قد أعلنت الهدنة الدائمة وفكرت أنا والأخوين المرحوم حسن عبد الغني ونجيب جويفل في النزول إلى القاهرة لمواصلة العمل من أجل الإسلام بعد أن حلت الجماعة وقتل قائدها واعتقل جميع قادتها وجنودها وأستاذنا القائد محمود عبده فأذن لنا وودعنا إخواننا " يصور باهر ".

وركبنا السيارات إلى شرق الأردن وكان معنا تصريحات أجازة كانت ق أعدت من قيادة القوات خفيفة الحركة ببيت لحم .

وفي عمان توجهنا إلى السفارة لحجز التذاكر ونزلنا بأحد الفنادق استعدادا للرحيل .. وفي الصباح لبسنا ملابسنا العسكرية وحزمنا أمتعتنا وحملتنا سيارة شركة الطيران إلى المطار, ولشد ما كانت دهشتنا عندما أخذنا أماكننا بالطائرة وانتظرنا أن ركب معنا أحد ولكن لم يكن سوانا وسارونا الشك والهواجس هل أعدت الطائرة لنقلنا للاعتقال بمصر ؟ أم أنه محض الصدفة وانطلقت الطائرة في طريقها إلى القاهرة وما أن وصلنا الأجواء المصرية واستعدت الطائرة للهبوط حتى رأينا كوكبة من الضباط والكنستبلات في انتظار الطائرة يشيرون إليها بالهبوط , وزاد تخوفنا وتوجسنا الشر وحدثنا أنفسنا بأننا وقعنا في الفخ لا محالة , الطائرة لم يركب فيها سوانا والبوليس على أرض المطار في انتظارنا نزلنا على سلم الطائرة في ثبات وجرأة لإشعارهم بأن الأمر عادي .

نزلنا أرض المطار وبدأ إخواننا الضباط يقدمون لنا التحية العسكرية وتبعنا الصولات وقد حملوا أمتعتنا حتى غادرنا صالة المطار بعد أن فحصوا أوراق الإجازات وأحضروا لنا تاكسي أجرة ليوصلنا إلى محافظة القاهرة .

هدأت النفوس واجتزنا المطار في أمان الله وفي الطريق إلى المحافظة سألت السائق عن سبب توصيلنا إلى المحافظة , وعلمت منه أن أجل الحصول على أجرة الطريق و لأن ضباط الجيش يصلون من المطار إلى القاهرة على نفقة الدولة وفي الحال طلبنا توصلينا إلى محطة مصر فقط لرغبتنا في السفر إلى بلادنا من هناك .

ونزلنا محطة مصر وتوجهنا غلى فندق بالمحطة حتى نغير ملابسنا العسكرية ونرتدب ملابسنا العادية وبعد أن تركنا أمتعتنا بالفندق نزلنا لا نألوا على شئ , الجو ملغم برجال البوليس السري والمعتقلات وقد غصت بالمعتقلين ... المركز العام الذي كان منارة للمسلمين في أنحاء العالم الإسلامي أصبح الآن قسما لبوليس الدرب الأحمر تصهل الخيول في مصلاة ويقف البوليس على أبوابه جو كله رعب وخوف , وشاءت الظروف الحسن بأن نلتقي بأخ لنا ه الدكتور عز الدين إبراهيم الذي قادنا إلى وكر يقيم فيه إخواننا خوفا من الاعتقال .

وفي بيت من العباسية يقيم الأخ الدكتور عز الدين والدكتور جمال عطية ومختار إبراهيم والدكتور وائل والشهيد عمر شاهين ,وغيرهم , انضممنا إليهم وشاركناهم جهادهم , في طباعة المنشورات التي تهاجم الحكومة المعتدية على الحريات والتي قتلت الإمام بغدر ونذالة , وكنا نقوم بتوزيعها في دور الحكومة وفي الجامعات ونلصقها على العربات كل ذلك بحذر شديد حتى لا نقع في أيدي البوليس وكنا نجمع الأموال من إخواننا الذين لم يعتقلوا لنقدمها إلى أسر المعتقلين الذين فقدوا كل شئ وباعوا أثاثهم لينفقوا على معيشتهم بعد اعتقال رب الأسرة .

اللقاء بالأخ الضابط الشهيد أحمد فؤاد

التقيت بالأخ الضابط أحمد فؤاد ومعي الأخوين المرحوم حسن ونجيب وتدارسنا العمل , وكان أحمد فؤاد من ضباط البوليس ومن الإخوان وقد قتله البوليس رميا بالرصاص بينها أثناء مطاردته بعد أن أعترف عبد المجيد حسن قاتل النقراشي عليه .

افتراقنا ونزول كل منا بوكر للعمل

نزل الأخ نجيب بمنزل في جنينة السادات , ونزل المرحوم حسن عبد الغني في منزل بشبرا , أما أنا فأقمت في شقة بالدقي ونزل معي فيها الأخ محمد مالك الذي كان هاربا بعد قضية اغتيال النقراشي واتهامه بأنه المحرض على قتله , وكانت حكومة إبراهيم عبد الهادي قد قدرت دفع مكافأة سخية لمن يقبض على محمد مالك حيا أو ميتا .. أقمت معه بهذا المنزل وكان معنا الأخ فتحي علام , وكنت حريصا على أن تبدو الشقة طبيعية مفتحو الشبابيك منعا من الشبهة , وكنت أنزل في مواعيد العمل صباحا وأعود زهرا , تاركا محمد مالك بالمنزل ,وكان يقوم بطهي الطعام وتجهيز المنزل , وعشنا كذلك فترة كنت أتردد فيها في قيادة الجماعة وتصادف أن خرج محمد مالك ذات ليلة متنكرا وعلى ما يبدو فقد شك في أمره أحد الناس وأخبر البوليس بأن محمد مالك يقطن منطقة الدقي ,وكنا نتناوب حراسته أنا وفتحي علام وكان مالك أكرمه الله لا يود أن يسلم نفسه إلا جثة هامدة وبدأ البوليس يمر على سكان شقق الدقي لمعرفة سكانيها وفي عصر يوم طرق علىّ أحد المخبرين سائلا عن سكان الشقة ومستأجريها فأمليته أسمائنا المستعارة , وشعر الرجل بأننا نعيش في منزل عادي وليس فيه ما يدعو إلى الشك , وما أن خرج المخبر بعد ثقته من صحة المعلومات حتى خرجت لإبلاغ مجموعتنا بما حدث وعلى الفور جاء الدكتور السيد الجيار وأخذ الأخ محمد مالك وذهب بت بعربته الخاصة إلى الإسكندرية ويبدو أن العربة كانت مراقبة لأن مالك قبض عليه من المنزل الذي نزل فيه بعد معركة نارية بينه وبين البوليس .

أما أنا قمت بتنظيف الشقة تماما من كل ما يربطني بتا وسكنت بشقة أخر بمصر القديمة بالقرب من مستشفي هرمل وكان يقيم معي فيها الأخ نجيب جويفل وفتحي علام ومصطفي كمال عبد المجيد وكان هاربا من قضية السيارة الجيب وغيرهم .

حادثة الاعتداء على موكب حامد جودة رئيس مجلس النواب الأسبق

في الحقيقة أن الشقة أجرت في هذا المكان لمراقبة تحرك موكب إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء الذى دبر مقتل الإمام الشهيد حسن البنا هو وعبد الرحمن عمار وكيل الداخلية ومحمود عبد المجيد مدير قنا وكان موكب إبراهيم عبد الهادي يمر ذهابا وعودة من المعادي إلى القاهرة وكانت شقتنا التي نقيم بتا تشرف تماما على هذا الطريق وكنا نفكر في اغتياله ردا على اغتيال الإمام وكنا نود أن يكون اغتياله بمفرده دون أن تمس موكبه .

ولذا فكرت واستقر التفكير على أن يصدمه الأخ مصطفى كمال باعتباره سائقا ماهرا بعربة تخرج مندفعة من شارع بجوار منزلنا , وتكون العربة مجهزة بعبوات ناسفة فينسف إبراهيم عبد الهادي والأخ مصطفي من جراء الانفجار ولكن يبدو أن الأخ مصطفي خشي أن يكون منتحرا بهذه الطريقة ورغب في أن يشترك في معركة مع موكبه أفضل من هذه الطريقة واتفق على التعرض للموكب في صوره مهاجمة له وضربه بالقنابل من الشقة وبأسلحة نارية من أعلي الشقة وفي مهاجمة الموكب بمجموعة مسلحة من الشارع الذي يسير فيه وحاولت ان أناقش هذه الخطة الجديدة مع المسئول عن هذا في هذا الوقت ولكنه أصر على التنفيذ .

وبينما نحن في أخذ ورد وقع الحادث وضرب الموكب بالقنابل من الشقة وبالأسلحة السريعة ورد الضرب حرس الموكب وتبين أن إبراهيم عبد الهادي لم يعد بموكبه ولكن عاد بالموكب حامد جودة رئيس مجلس النواب الأسبق ولم يصب بسوء لأنه نام في دواسة العربة وجرح الكثير من المارة وهرب الإخوة الذين اشتركوا في الحادث بعد أن ألقوا بأسلحتهم وقبض على الأخ مصطفى كمال وأودع قسم مصر القديمة وتصادف أن مر إبراهيم عبد الهادي عائدا في سيارته إلى المعادي وقد استوقفه البوليس وأخبروه بما حدث وتوجه إلى قسم مصر القديمة لمقابلة مصطفي كمال وعندما سأله عن سبب محاولة اغتيال حامد جودة أجابه بأن المقصود بالاغتيال أنت وليس حامد جودة .

ودهش إبراهيم عبد الهادي من رده , وأمر بتعذيبه حتى يعترف بزملائه الذين اشتركوا معه في هذه المؤامرة وعذب مصطفى كمال حتى لطخت دماءه جدران قسم مصر القديمة في حضور إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء .. واشتد تعذيبه لدرجة أن فقد الوعي .

وبدأ البوليس في تحرياته لمعرفة من اشتركوا في الحادث واتهم في هذه القضية كل من مصطفى كمال عبد المجيد ونجيب جويفل وسعد وسمير شهبندر ومصطفى الجابري وعبد الكريم السيد ومحمد شحاتة وفتحي علام وعبد الفتاح ثروت وكنت فيها المتهم العاشر باعتباري محرضا .

اعتقالي بمنزلي بههيا 1949

توجهت إلى ههيا بالشرقية كي أحصل على نقود تكفي لميعشتي بالقاهرة لمواصلة الجهاد ضد هؤلاء الخونة من صنائع الاستعمار وفي يوم وصولى بالمنزل وأثناء طعام العشاء مع المرحوم والدى ووالدتي الذين لم أرهما منذ عودتي من فلسطين ,وإذا بالباب يطرق بعنف وقوة وعندما فتح الوالد فوجئ برجال البوليس يندفعون للبحث عني وأسرعت إلى سطح المنزل محاولا الهرب وإذا بي أجد المنزل وكأنه قلعة عسكرية محاطة بسيارات البوليس ولم يحاصر منزلي فقط ولكنهم حاصروا مداخل البلدة ومخارجها حتى لا أفلت هاربا .. ما هذا كله ؟ سرح خاطري فكأن منزلي مستعمرة يهودية من التي كنا نحاصرها بفلسطين وما هذا الرعب الذي سيطر على قلوب هؤلاء الناس ؟!

وفي لحظات اندفع رجال الشرطة بقيادة الحكمدار الشرقية ومعه ضباط البوليس السياسي جاءوا من القاهرة للمشاركة في اعتقال زعيم المؤامرة كما كانوا يسمونني .

وأذكر منهم البكباشي محمد على صالح وتوفيق السعيد مدججين بالسلاح ومتوجهين إلى سطح المنزل لاعتقالي ولشد ما كانت دهشتهم عندما رأوني أجلس على كرسي بسطح المنزل وغير خائف وبعدما تم اعتقالي بدأوا في تفتيش المنزل محطمين الأثاث باحثين عن سلاح وقنابل لدرجة أنهم أفزعوا شقيقتي وصحت فجأة على منظر هؤلاء وهم مصوبين سلاحهم إلى صدرها مما سبب لها حالة عصبية لازمتها طيلة مدة سجني حتى توفاها الله .

وكان اعتقالي قاسيا على والدي وإخوتي ابن في ريعان شبابه ولم يكمل دراسته بعد إذ كنت ما زلت طالبا بمعهد التربية للمعلمين وغائب عن أهله مجاهدا في فلسطين يعتقل بهذه الصورة الهمجية يوم وصوله لمنزله .

ولم يمهلني قائد الحملة حتى ارتدي ملابسي وحذائي ووضع الحديد في يدي وخرجت من المنزل حافي القدمين عاري الثياب إلا من بيجامة خفيفة لا تمنع بردا ولا حرا , وركبت معهم السيارة اللوري وسط مجموع من الضباط المسلحين وشاهدت العربة تأخذ طريقها إلى ناحية كفر صقر بالشرقية إنهم يقصدون جزيرة الفرس بحثا عن نجيب جويفل ودعوت الله أن لا يجدوه حتى لا يكون مصيره مثلي وحتى يؤدي دوره في مجابهة هؤلاء الإرهابيين من حكام مصر وفعلا لم يجدوه وعادوا بخفي حنين وليس معهم غيري وكأنهم عثروا على كنز ثمين وتوجهوا إلى حجرة محافظ القاهرة اللواء أحمد طلعت وبمجرد أن رآني عض على نابه وكشر عن ضيق وخبث وأمر بإيداعي قسم عابدين حتى يفرغ من التحقيق مع المقبوض عليهم من القاهرة ثم يأمر باستدعائي .

أودعت قسم عابدين وأنا على حالتي دون غطاء ولا كساء وبدون نقود لشراء طعامي أسوة بالمتحفظ عليهم من اللصوص والمجرمين وبعد يومين استدعيت للتحقيق معي في المحافظة وكنت أسير من القسم للمحافظ ماشيا وتحت الحراسة المشددة وكنت أشد انتباه الناس وكانوا يلقون على نظرات حزينة .

قابلني اللواء طلعت وسألني عن اسمي فأجبته وبمجرد أن عرفني أمر بالتعذيب وانهالي على ضربا كل من الضباط أحمد صالح وتوفيق السيد وبعض المخبرين , ضربا بالعصي الغليظة حتى أدميت قدماى , وطلب مني الاعتراف باشتراكي في محاولة قتل حامد جودة فلما رفضت الاعتراف لعدم اشتراكي فعلا , استمر في التعذيب وبعدها أمر بإرجاعي للقسم حتى الصباح وفي صباح يوم التالي استدعيت للتحقيق أمام المحامي العام السيد / إسماعيل عوض الذي كان يشرف على تحقيق هذه القضية وبمجرد أن جلست أمامه انتابني شئ من الاطمئنان , لأنني أصبحت أمام المحقق ورجل العدالة وسوف أسرد له ما وقع علىّ من تعذيب , وبادرني سائلا عن اسمي وعملي وبلدي, فأجبته طالبا منه تسجيل ما حدث لى من تعذيب بأمر السيد المحافظ , ووعدني خيرا فزادني اطمئنانا , ثم سألني عن حادث حامد جودة وصلتي به فأنكرت صلتي بهذا الحادث , ثم أنني كنت ببلدتي اعتقلت من ههيا وأنني كنت أثناء هذا العمل ببلدتي وبعد أن انتهيت من ردي دق سيادة المحقق حارس العدالة جرسا بجواره أمر أن يسلمني إلى اللواء أحمد طلعت بتوصية خاصة وفي الحال استلمني الزبانية وأدخلوني بداخل كرسي خيرزان لا قاعدة له , أدخلوني بوجهي داخل الكرسي ورجلاي إلى أعلا وظلوا يضربونني حتى ضاق نفسي لعدم استطاعتي التنفس وعم جسدي عرق غزير وانهارت قواي, فلم أحس بالضرب , وعندما رأوا عدم تحركي أخرجوني من الكرسي, وعادوا بي محمولا أمام المحقق بين يدي العدالة, وأنتم الذين تدافعون عن الحق ولكنه عاد يسألني عن الحادث وعلاقتي بت وظنا منه أنني وأنا على هذه الحالة من الإرهاق والتعذيب يمكنه التأثير على ولكنه وجد نفسه أمام إنسان عنيد في الحق لا يثنيه عن إصراره تهديد أو وعيد فكرر ما حدث وبعدها أعادوني للقسم محمولا وفي الصباح فوجئت بعودتي لا إلى التحقيق ولكن إلى سجن الاستئناف بالمحافظة , حتى أكون قريبا من التحقيق قريبا من التعذيب .

المعاملة داخل سجن الاستئناف

فرحت بتحولي إلى سجن الاستئناف وانتهاء التحقيق بالصورة التي أرضاها ويرضاها الله لى , وأنني خرجت من قبضة البوليس السياسي وأنني سوف لا أخرج من السجن إلا بأمر م النيابة العامة , ووضعت في زنزانة انفرادي بالسجن بالطابق الأرضي , ولشد ما كانت حيرتي وحزني عندما رأيت أن السجانين ليسوا هم سجانوا مصلحة السجون ولكنهم كنستبلات البوليس السياسي وأن الدور الأول من السجن وضع تحت تصرف البوليس السياسي بأمر الوزراء , وأن للبوليس السياسي الحق في إخراج وعودة المتهمين ووضع كل منا في زنزانة انفرادية, وكان الاتهام يشمل قضايا سيارة الجيب وحامد جودة والأوكار , ووضعت لائحة خاصة لمعاملتنا , لأننا لا تنطبق علينا لائحة مصلحة السجون – لا زيارات ولا ملابس مدنية ولا طعام خاص ولا تهوية – وخصص لكل فرد منا خمس دقائق فقط للوضوء وقضاء الحاجة وغير مسموح لحد من المعتقلين أن يتعرف على من يجاوره , وكنا وكأننا وسط واحة مقفرة المفروض أن تكفل لنا لائحة السجون كل حقوق المسجون العادي تحت التحقيق ولكن لائحة القلم السياسي كانت أقوي وكان مفتاح السجن بأيديهم وليس بيد مأمور مصلحة السجون مخالفات خطيرة يرتكبها القلم السياسي ضد نظام الدولة وضد قانون السجون ولكن في صالح السراي والحكومة , وكان من نتيجة هذه المعاملة الشاذة والتعذيب المستمر أن استطعنا الاتصال ببعضنا ونظمنا حركة إضراب عن طعام السجن ورفضنا " اليمك" وهو طعام تعافه النفس كريه الرائحة وكان يقدم إلينا على أنه خضار مطبوخ ولكنه خليط من عدس وفول وزلط وطين وكانت نفوسنا تعافه وكان إفطارنا وسحورنا منه في رمضان ومكثنا على هذه الحالة مدة تقارب الخمسة شهور حتى ضعف الأبدان وهاجمتنا الأمراض ولشد ما كانت دهشة الكنستبلات عندما رأوا أن الجميع رفضوا اليمك والخبز الأسود ودهشوا كيف نظمت هذه الحركة الجماعية ؟ وكيف اتصلنا ببعضنا رغم القيود المفروضة؟ وحاولوا إقناعنا بالعدول عن الإضراب فرفضنا واستمر الإضراب لفترة تقرب من ثلاثة أيام حاولوا التلويح باستعمال القوة , ولكن فلتفعل القوة ما تشاء وسيواصل المضربون إضرابهم ولم تفلح قوتهم عندما رأوا هذا الإصرار العنيف , حاولوا تغيير معاملتهم لنا واقفوا على التصريح لنا بالملابس المدنية والطعام المدني على حسابنا الخاص كما وافقوا على خروجنا للتهوية ربع ساعة يوميا وكان لهذا التغيير أثر كبير في نفوسنا إذ التقينا ببعضنا وفرحنا كثيرا بهذا اللقاء ,تحسنت صحتنا وكانت حركة مباركة باركها الله فآتت ثمارها .

الترحيل إلى سجن مصر العمومي

وعندما انتهي التحقيق رحلنا إلى سجن مصر.... وفي هذه الثناء كان قد حكم في قضية النقراشي وصدر حكم بإعدام الأخ عبد المجيد حسن وبالأشغال الشاقة المؤبدة للأخ الدكتور عاطف عطية ومحمد مالك وشفيق أنس ومحمود كامل المحامي .. ونفذ حكم الإعدام شنقا في الأخ عبد المجيد الطالب بكلية الطب أثناء وجودنا بسجن الاستئناف رحمه الله أما الإخوة الذين حكم عليهم بالأشغال الشاقة فقد رحلوا إلى ليمان أبي زعبل وطره.

وفي أثناء وجودي بسجن الاستئناف حصلت بطريقة خاصة على اللائحة الصادرة من القلم السياسي إلى مأمور سجن الاستئناف العقيد عبد الغفار حلمي بنوع معاملتنا وقد أخفيت هذه الوثيقة الهامة حتي سلمتها إلى الموكلين للدفاع عني وهما المرحوم الأستاذ أحمد حسين وحسن الجداوي المحامي وكانت هذه الوثيقة بمثابة قنبلة ألقيت بالجلسة أمام محكمة الجنايات فهدمت أركان الادعاء القائم على التعذيب والقسوة .

وبقيت في سجن مصر حتى أفرج عني عقب إلغاء المعاهدة المصرية الانجليزية في عهد حكومة الوفد عام 1951 إذ طالب الدفاع في قضيتنا بالإفراج عنا بسبب الظروف الوطنية الراهنة التي تمر بتا البلاد في هذه الفترة حتى نستطيع أن نأخذ دورنا في صفوف المجاهدين الوطنيين.

وتغيرت معاملتنا بالسجن وخضعنا للائحة السجون وطبقت علينا حرف (أ) وهي حق للمسجون السياسي وكنا نصلي في جماعة وكان يؤمنا في صلاتنا الشهيد المرحوم الأستاذ محمد فرغلي وكان يلقي علينا الدروس الدينية الأستاذ سيد سابق وكان متهما في قضية النقراشي ثم صدر له الحكم بالبراءة وكانت حياتنا تسودها الروح الإسلامية الكاملة مما كان له تأثير كبير فيمن حولنا من السجانة والمساجين بل والضباط ونظرت قضيتنا أمام المحكمة برئاسة حسين طنطاوي وكنت فيها المتهم العاشر متهما بالتحريض – زورا وبهتانا – وكان المتهم الأول فيها مصطفى كمال عبد المجيد .

كان معنا بالسجن من الإخوة المتهمين في قضية السيارة الجيب ممن حكم عليهم وهم الإخوة أحمد حسين وأحمد قدري وأحمد زكي وصلاح عبد المتعال ومحمود الصباغ وعبد الرحمن السندي وسعد كمال والمرحوم كمال القزاز ومن قضايا ألأوكار الإخوة يوسف عبد المعطي والدكتور عضا الشربيني والمرحوم حسن عبد الغني والدكتور عبد الفتاح شوقي والدكتور جمال عطية والمرحوم الدكتور أحمد البساطي وحسين عودة وعبد المنعم البساطي وفتحي البوز ويوسف على يوسف ووائل شاهين وحلمي الكاشف وهنداوي دوير ( في قضية إضرابات الجامعة ) والسيد بدر والمرحوم لطفي فتح الله في قضية الخديوي.

وقد نظم الدفاع عن هذه القضايا المرحوم الأستاذ حسن عشماوي وغيره من محامي الإخوان كالأستاذ سعيد رمضان والمرحوم الأستاذ محمد المسماري والمرحوم الأستاذ مختار عبد العليم والمرحوم طاهر الخشاب كما اشترك في الدفاع عني أيضا الأستاذ سيد باشا مصطفي الذي كان رئيسا لمحكمة النقض وكما شارك في الدفاع نخبة كبيرة من المحامين منهم علي بدوي وعبد المجيد نافع وعلي منصور وعبد الفتاح حسن وغيرهم من كبار محامي البلد .

وقد شهد لنا قادة الجيش في معركة فلسطين أمثال اللواء فؤاد صادق واللواء المواوي, وأشادوا أمام القضاء بالدور البطولي الذي قمنا بت في فلسطين وما أديناه من واجب وطني نحو عروبتنا وإسلامنا , وبين الأخ سعيد رمضان المحامي دور الإخوان في تربية الشباب ورسالة الدعوة في خلق جيل مسلم يؤمن بالقيم الخلقية والرسالات السماوية وكان دفاعه مؤثرا روحيا جذب إليه القلوب , وحبب النفوس للدعوة حتى أن أحد القضاة انضم إلى الدعوة قائلا : كنت أحاكمهم فأصبحت منهم وهو الأستاذ القاضي أحمد كامل . وكان قد صدر قرار الحكومة بالإفراج عن الإخوان المعتقلين في حكومة سري باشا .. ولما كان الشعور الوطني عارما والنفوس متعطشة للجهاد في معركة ضد الانجليز طالب الدفاع كما سبق أن ذكرت بضرورة الإفراج عنا كي يكون لنا شرف الانتظام في محاربة الاستعمار في مصر وصدر قرار المحكمة بالإفراج عني وكنت أثناء دراستي بالمعهد أواصل دارستي أيضا بكلية الحقوق جامعة القاهرة واستطعت أن أنهي دراستي في عام 1952 بعد الانتهاء من معركة القنال .

الخروج من السجن وزيارة قبر الإمام الشهيد ومبايعة المرشد العام

وعقب صدور قرار الإفراج ذهبنا إلى قبر الإمام الشهيد مستلهمين عليه الرحمة , ونعاهد الله على العمل لدعوته التي بايعنا الله عليها , ثم ذهبنا إلى دار الإخوان بالظاهر لأن الحكومة كانت لم تسلم المركز العام للإخوان حتى ذلك الوقت وقابلنا المرشد العام الجديد الأستاذ المرحوم 1952 الذى كان يشغل منصب مستشارا بمحكمة النقض ثم استقال من منصبه وجددنا معه البيعة على السمع والطاعة وقابلنا أيضا الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة وكيل الجماعة الذي كان قاضيا ثم استقال من منصبه ليتفرغ للعمل للجماعة .

الاستعداد لخوض معركة القنال مع الانجليز عام 1951

وكان الإخوان بجامعات القاهرة وعين شمس والأزهر قد أنشئوا معسكرات لتدريب الشبان بموافقة الحكومة الوفدية , وانضم إليها عدد من طلاب الجامعات ممن اقتنعوا بفكرة الجهاد في سبيل الله .

وعمل الإخوان على مد هذه المعسكرات بعدد من رجال الجيش ومن رجال النظام الخاص , وكان الأخ حسن دوح مسئولا عن معسكر جامعة القاهرة وكنت والأخ الدكتور عز الدين وعلى رياض والشهيد عمر شاهين والمهندس حسن الشافعي ونفيس حمدي ومحمود الشاوي نساعد في تنظيم المعسكر وتدريب أفراده ... وكان الضباط سعد الدين خليل من ضباط الجيش يشرف على التدريب .. كان مدعيا عاما في قضيتي أمام محكمة الشعب دائرة اللواء حتاتة.

أما معسكر جامعة الأزهر فكان يشرف عليه الأخ أحمد العسال والدكتور يوسف القرضاوي والأستاذ عبد الله العقيل , أما معسكر عين شمس فكان يشرف عليه المرحوم الأخ الدكتور سعيد النجار والدكتور وائل شاهين المرحوم الأخ حسن عبد الغني المحامي , والأخ محمد مهدي عاكف ونشط مدربو الجامعات في التدريب نشاطا فاق كل وصف حتى أنهم دربوا على استعمال جميع الأسلحة والمفرقعات .. وحرب العصابات , وتكونت الكتائب القتالية وتحدد لها مواعيد التحرك ودخول المعركة .

كتيبة جامعة القاهرة

وكانت كتيبة جامعة القاهرة تتقدم الكتائب إلى معركة النضال وتقابلت والأستاذ حسن دوح مع مدير الجامعة المرحوم الدكتور عبد الوهاب مورو باشا وكان اللقاء بمكتبة بعيدا عن الجامعة وقدمني له الأخ حسن دوح كقائد للكتيبة , وكان الرجل هادئا تلمح في عنه صدق الوطنية أسدي إلى نصائحه كأب وقائد للجامعة من الحرص على تأدية الواجب الوطني المنوط بطالب الجامعة – مع الحرص على سلامة الأفراد حتى يؤدوا واجبهم الوطني – وتبرع الرجل بمبلغ كبر من ماله الخاص ووعدنا بأن يخصص مجلس الجامعة مبلغا يكفي لشراء السلاح والتموين والملابس وشكرناه ثم انصرفنا بعد أن ودعنا الرجل بنظرات كلها أمل وتصميم ورجاء .

إعداد الكتيبة والإشراف على إنهاء التدريب

وقمنا بجمع السلاح والذخيرة لأفراد الكتيبة وما تحتاجه لنجاح عملياتها وكذلك إعداد الألغام والمتفجرات من الديناميت وقطن البارود الجلجنايت وقمنا بملأ زجاجات المولوتوف وجميع ما تحتاجه الكتبة من أدوات حرب العصابات وكذلك جهزنا الكتيبة بالملابس والأحذية الخفيفة والبطاطين وجهزنا كذلك تمويننا الجاف من المعلبات لاستمرار حركة النضال وكان من أفراد الكتيبة الإخوة يوسف علي يوسف والشهيد عمر شاهين ومحمود الشاوي و[[علي إبراهيم و[[سعد فريد وإسماعيل عبد الله وياسر عرفات وحسن الشافعي والشهيد أحمد نصير .

وحددنا موعدا سريا لتحك الكتيبة , وكان في فجر يوم 9 نوفمبر من عام 1951 ركبنا باصا كبيرا متوجهين به إلى منطقة القنال وكنا استأجرنا ثلاثة منازل لإيواء المجاهين بالقرن والتل الكبير وأبي حماد وبقيت أنا مع مجموعة التل الكبير , وكان لا يعلم بوجودنا إلا المخلصون من سكان هذه البلاد وإخواننا المجاهدون .

الشعب يواجه الموقف بكل بطولة وجرأة

وكان الشعور الوطني على أشده , وكانت المظاهرات تطوف الشوارع هاتفة بسقوط الانجليز وكانت حكومة الوفد تغذ هذا الشعور وتنمية وكانت ترسل لمتطوعين إلى منطقة القنال بقيادة بعض ممن ضباط الشرطة المتطوعين أمثال مصطفي أبو دومة وغيره من الضباط .

وكان الإخوان بمنطقة الإسماعيلية تقوم بعملياتها الواسعة ضد جنود الاحتلال من خطف لقادتهم ونسف لطرق قوافلهم ومهاجمة لمعسكراتهم وكان يقود هذا التنظيم الشهدان الشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت , حتى أن الانجليز كانوا قد عملوا مكافأة سخية لمن يرشد عن الشيخ فرغلي , وقد شارك في هذه العمليات في بعض مدن القنال الإخوة كامل الشريف والمرحوم محمد سليم حيث كانا يساعدان المرحوم الشيخ فرغل في قيادته .

وفي منطقة القنطرة كانت هناك مجموعة أخري من الفدائيين من متطوعي الإخوان أذكر منهم الدكتور عصام الشربيني وفتحي البوز وإسماعيل محمد إسماعيل ويحي عبد الحليم وعبد الرحمن البنان وعبد المحسن الهواري وفوزي فارس وعلي نعمان وسعيد سلامة وعميرة محسن ومحمود جاويش وأغلبهم من المجاهدين في حرب فلسطين .

وكانت الجماعة تشرف على تسلحيهم وإمدادهم بالذخيرة والتموين وقد قام هؤلاء الإخوة بالكثير من العمليات الحربية أمثال : نسف كوبري أبو خليفة ونسف معسكر أبو سلطان ونسف القطار الحربي , وكلها علميات ناجحة طابعها الفداء والجهاد في سبيل الله .

معارك كتيبة الجامعة بمنطقة القرين

قمنا بمعاينة تجمعات العدو وتحركاته حل المستعمرات صباحا أثناء تغيير نوبات الحراسة ووضعنا خطة لضرب المصفحة التي تقوم بتغيير الحراسة وما أن اقتربت من الهدف حتى ركزنا عليها نيران مدافع البرن وطلقات البنادق الأمر الذي أحرق المصفحة بمن فيها وأصاب الذعر كل الجنود الفاطنين بهذا المعسكر لا يذوقون طعم الراحة والنوم بمنطقة .

استشهاد عمر شاهين وأحمد المنيسي في 11 يناير 1952

خرجت ليلة 11 يناير 1952 ومعي الأخ عمر شاهين وؤ في دورية استكشافية لمعاينة موقع معين لعمل كمين نوقع فيه هؤلاء الجنود المحتلين لبلادنا وجدت أمام المعسكر الانجليز الواقع أمام قرية الحماد شريطا لسكة حديد توصل إلى داخل المعسكر وقد نسفت من قبل بواسطة نفر من أعضاء مصر الفتاة وجاءت فرقة من سلاح المهندسين الانجليز وقامت بإصلاح الخط الحديدي تحت الحراسة المشددة حتى يتمكن القطار الحربي من دخول المعسكر .. ومن هذه الفكرة بنيت خطتي وتتلخص في إعادة نسف هذا الخط في طريق المعسكر وعمل كمين بتوصيله كهربية لاصطياد جنود الاحتلال وسلاح المهندسين وقمنا في المساء متسللين ومعنا الألغام المضادة للأشخاص وقطن البارود لكسر الخط الحديدي الداخل لمعسكر الانجليز ثم وضع الألغام وتوصيلها بتوصيلة كهربية إلى كمين يفجر منه الألغام, وكنت المجموعة التي قامت بهذه العملية لا تزيد عن عشرة أفراد منهم من قام بوضع الألغام الناسفة للخط الحديدي التي تفجر بالاشتعال وفريق ثالث قام بحراسة الطريق أثناء هذه العمليات, وفتح الكوبري الذي يوصل البلدة بعد نجاح العملية لمنع محاولة الانجليز اللحاق بنا .

وبعد أن قمنا بنسف الخط الحديدى ضرب الانجليز نطاق المنطقة بأنوارهم الكاشفة حتى يكتشفوا أماكن هذه الانفجارات, وكان الإخوان سعد فريد وعلى إبراهيم قد حفرا خندقا لهما في ظهر المعسكر ومعهما بطارية التفجير في انتظار الصيد الثمين الذي سيأتي إصلاح الخط الحديدي حسب الخطة الموضوعة .

وفي الصباح انتظرنا خروج الانجليز لإصلاح الخط ووضعت الحراسة على الكوبري لفتحه بعد أن يعود الإخوان المكلفين بعملية التفجير وكانت خطتنا التى أعلنتها على مسمع من الجميع بعد أن تتم عملية النسف أن تغادر قواتنا بلدة الحماد من الخلف متجهين إلى خط آخر خلفي في أبي حماد ... وقد اتفقت مع الضابط مصطفى دومة على سرعة نقل أفرادنا على لوري من قوته كي تكون في مأمن من غارة الانجليز عندما تدمر قواتهم لأنهم سيدخلون البلدة يبحثون عن الفدائيين لضربهم .

ولما لم يحضر الانجليز في صباح اليوم التالي لإصلاح الطريق أردت أن أستفزهم مرة أخري بنسف جزء آخر من الخط الحديدي بعيدا عن منطقة الألغام الكهربية حتى يضطروا للخروج ويلاقوا حتفهم على أيدي إخواننا المتربصين ... وقمت بأداء ذلك تحت الحراسة المشددة .

وفي صباح اليوم التالي غادرت التل الكبير إلى بلدة للاشتراك في عملة هناك وعند وصولي أبو حماد عائدا للتل الكبير علمت أن عملية التل الكبير قد نجحت وقتل كل سلاح المهندسين الذين خرجوا لإصلاح الخط وانسحب الإخوان اللذان قاما بتفجير عن كريق الكوبري وفتح الكوبري حتى لا يتسلل الانجليز ويدخلوا البلدة وبذلك تكون الخطة قد نجحت تماما .

أما ما حدث من مفاجآت بعد ذلك فكانت بسبب حماسة الإخوة الذين كانوا بالتل الكبير ورغبتهم ي مواجهة قوات الاحتلال وكان معهم الأخ المرحوم حسن عبد الغني وقد طلب منهم الانسحاب فلم ينسحبوا وأخذتهم شهوة النصر وأخذوا أسلحتهم وانبطحوا في البر الخلفي للترعة ( ترعة الإسماعيلية) وأخذوا يطلقون عياراتهم النارية على تجمعات الانجليز الذين جاءوا بعد عملية نجاح الكمين وعلى القطار الانجليزي . وحاول الانجليز دخول البلدة عن طريق الكوبري فلم يفلحوا فارتدوا وأقاموا كوبري من المطاط على الترعة لكي يدخلوا البلدة .. . وفي هذه اللحظات كانت ظهور المجاهدين قد انكشفت لهم وأطلقوا عليهم عيارات نارية أصابت من عمر شاهين والمنيسي مقتلا وانسحب الباقون بعد أن فرغت ذخيرتهم ولجأوا إلى محلات خربة للاختباء بها, وما أن دخل الانجليز البلدة حتى قاموا بتفتيش هذه المحلات وأسروا كل من كان بتا وقبض على الإخوة علي إبراهيم وإسماعيل عبد الله ووحيد ومحمد عبد الوهاب وسمير الشيخ وغيرهم من طلاب الجامعة وأخذوا أسري إلى معسكرات الجيش الانجليزي كما أخذوا جثتي الشهيدين عمر شاهين وأحمد المنيسي فإلي جنة الخلد شابات وقفا يدافعان عن شرف أمتهم وعقيدتهم بإيمان فكتب الله لهم الشهادة .

كان عمر وأحمد من الشباب التقي الطاهر ,كانا يلحان في الخروج للجهاد, علم الله صدق نيتهم فتقبل جهادهم .. وأنزلهم منزلة الشهداء .

أما الأسري فقد سيقوا إلى معسكرات التل الكبير وحاولوا أخذ معلومات منهم عن كتيبتهم قيادتها سلاحها وعدد أفرادها وأماكن تجمعها ولكنهم كانوا صامدين متمسكين أوفياء , ولم يبيحوا بأسرار كتيبتهم رغم ما تعرضوا له من صنوف العذاب ,وكانت قوات الاحتلال تسلط عليهم كلابهم البوليسية تنهشهم وترهبهم وكانوا يسكبون عليهم الماء المثلج في الشتاء القارص ومكثا على هذه الحالة حتى سلمتهم قوات الاحتلال إلى السلطات المصرية .

دخول التل الكبير ومعي الأخ حسن دوح

وعندما بلغنا الأمر ونحن في أبي حماد توجهنا مسرعين إلى بلدة الحماد من ناحية المزارع واتجهنا مسرعين وفوجئنا بما حدث ولشد ما كان تعجبنا عندما رأينا قوات الأمن الذين تكدسوا في مبني قسم البوليس بقيادة البكباشي يحيى أبو شهبة وكان يعمل رئيسا لمباحث الشرقية ...وعندما طلبنا منه التدخل بقواته المسلحة حتى نستطيع سحب قواتنا المتقدمة وحتى لا يقعوا أسري في أيدي الانجليز عرفنا بأنه ليس لديه تعليمات بذلك وانصرفت ومعي الأخ حسن الشافعي وكلانا يحمل مدفعا سريع الطلقات لإيقاف تقدم القوات الانجليزية التي تدخل البلدة وبسرعة اختفي الانجليز من الطريق في حديقة الملك الواقعة بالقرب من الشارع ولم يواصلوا عملياتهم لأن الظلام كان قد خيم على المكان , أما نحن فواصلنا تقدمنا حتى وصلنا إلى الأماكن التى كان المجاهدون قد تمركزوا فيها في مواجهة الانجليز من الشاطئ الثاني لترعة الإسماعيلية .. ولاحظنا بقع غزيرة من الدماء دماء الشهيدين عمر واحمد ,عرفنا بأنهما هما الشهيدان اللذان سقطا في هذه الليلة وانسحبنا إلى أبي حماد ومعنا بقية المجاهدين .

وعلمنا بأنه في اليوم التالي للحادث دخل الانجليز البلدة واعتقلوا يحي أبو شهبة ومن معه من القوات النظامية واستولوا على سلاحهم بعد أن فتشوا البلدة بحثا عن الفدائيين :

وهكذا يكون مصير الخونة والجبناء الذين ينتظرون تعليماتهم من صنائع الانجليز .

أما الشرفاء الشجعان الذين يكتبون بدمائهم صفحات المجد والخلود فتظل صحائفهم بيضاء ناصعة يفاخر بتا الله الملائكة .

وكان لهذا الحادث وقع كبير في النفوس وطاف مشهد عمر وأحمد الرائع شوارع العاصمة ينثر الشعب عليه وروده ورياحينه الجميع يودعون ابني الجامعة عمر شاهين وأحمد المنيسي إلى مثواهما الأخير.

بعث جديد ويقظة طلاب الجامعة ينتظمون في صفوف المجاهدين لإلقاء الانجليز في عض القناة .

ثم نقلت جثة أحمد إلى فاقوس في مشهد رهيب حيث ووري التراب ففي ذمة الله شهداء الإسلام .

تغيير القيادة

وبعد هذه المعركة أسندت الجماعة جميع الفدائيين إلى الأخ محمود عبده الذي كان قائد عسكريا للفدائيين في فلسطين وعرف بالحزم والشدة والإيمان العميق في ملاقات أعداء الله .

جمع القائد الجديد قيادات الإخوان في معسكر للتدريب بالزقازيق وبحث معهم الخطة ( خطة العمل المقبلة ) مع استمرار التدريب بالمعسكر وكان يشرف على التدريب الشهيد السيد شراقي من إخوان بلدة حوض نجيع مركز ههيا شرقية وقد استشهد أثاء قيامه بتدريب الفدائيين بالمعسكر فإلي جنة الخلد.

السفر إلى بور سعيد مع الكتيبة

عهد إلى الأستاذ محمود عبده قيادة مجموعات من كتبة الجامعة في قطاع بور سعيد لاعتباره قطاعا هاما , وكان مي من أفراد الكتيبة الإخوة يوسف علي يوسف وفتحي العجمي وإسماعيل عارف والمرحوم أحمد نصر وفؤاد هويدي وغيرهم .

أخذنا طريقنا إلى بور سعيد عبر مدينة المنصورة ومعنا سلاحنا ومتاعنا في عربة خاصة والتقينا بالمرحوم الدكتور خميس رئيس الإخوان بالدقهلية وقدم لنا كل التسهيلات الممكنة وأخذنا طريقنا إلى المنزلة حيث هيأ لنا إخواننا هناك طريقا خلفيا لدخول بور سعيد أخذنا هذا الطريق البحري في مركب شراعي ومعنا سلاحنا وذخيرتنا ونزلنا بت سرا في جنح الظلام لأن التحرك الفدائي كان مراقبا في هذا الوقت وتحركنا بعد أن ودعنا إخواننا بالنزلة .

وصلنا بور سعيد مع خيوط الفجر كان في استقبالنا إخوان بور سعيد وسرعان ما حملوا السلاح والذخيرة إلى منزل كانوا قد استأجروه لنا وجهزوه ببعض الأمتعة البسيطة وتقابلت في اليوم التالي مع المرحوم أحمد المصري رئيس الإخوان ببور سعيد والأخ فتحي عبد الله وأحمد خضير وحامد المصري وقد أكرموا حضورنا ووضعوا كل إمكانياتهم تحت تصرفنا وقسمت العمل بين ثلاث مجموعات ولكل مجموعة مكان خاص بها وكنا ننتقل في البلدة بحذر شديد لأن البوليس كان يراقب تحرك الفدائيين ووضعت خطة عمل لبعض عمليات في بور سعيد بدوريات استكشافية جابت مناطق تجمع الانجليز ومعسكراتهم وطرق مواصلاتهم .

محاولة نسف قافلة تحمل جنود الاحتلال بالقرب من كوبري الرسوة

لاحظنا هناك دورية إنجليزية تقوم صباحا من كوبري الرسوة إلى المعسكر الانجليزي لتغيير الحراسة على الكوبري فقررت أن ينسف هذا التجمع الانجليزي أثناء تحركه .

استأجرت قاربا صغيرا حملنا فيه الألغام ومتطلبات العملية وعبرنا بهذه المعدات القنال الداخلي في اتجاه بلدة الأبوطي وما أن وصلنا الطريق الأسفلتي الذي يسير فوقه الانجليز حتى قمنا بالحفر السريع تحت الحراسة ووضعنا الألغام لتفجيرها عند مرور الدورية قوها .

وأذكر أن العمل كان دقيقا جدا لسبب تحركنا داخل خطوط الانجليز فكانت اليقظة رائدنا وأيدينا على زناد أسلحتنا, حتى تم الحفر ووضعنا الألغام وقمنا بمد الأسلاك عبر القنال الداخلي إلى أماكن انسحابنا بالبر الثاني من القنال الداخلي استعدادا للتفجير في الصباح وما أن علم رئيس الإخوان ببور سعيد بعمليتنا حتى طلب منى عدم إتمام العملية , لأن ذلك سيعرض البلدة بأسرها للضرب ن العدو كما حدث قبل ذلك في التل الكبير وامتثلت لطلب المسئول ورفعت أسلاك التوصيل وأبطلت مفعول الألغام واطمأن الأستاذ المرحوم أحمد المصري ورجاني أن تكون عملياتنا خارج حدود البلدة .

وكانت مفاوضات الجلاء بين الانجليز وحكومة على ماهر والبلاد تريد التخلص من هذا الكابوس الجاسم على صدرها , وأخبرني الأستاذ محمود عبده بضرورة ضرب الإنجليز بعملية مذهلة حتى نستطيعه تقوية ظهر المفاوض المصري.

نسف القطار الحرب الانجليزي بمنطقة الكاب

وبدأت أفكر في هذه الضربة بعمل كمين فدائي لضرب قطارهم الحربي الذي يغادر بور سعيد إلى الإسماعيلية ويمكن توجيه الضربة من خارج بور سعيد تفاديا لرد الفعل الذي يحدث عقب نجاح العملية .

وبدأت أرصد موعد القطار ورسمت الخطة بمجموعة فدائية من خمسة أفراد وهم : يوسف على يوسف وإسماعيل عارف وفتحي العجمي وسليمان من إخوان بور سعيد ومن المجاهدين السابقين في فلسطين وارتدينا ملابس خاصة بعمال السكة الحديد وبمساعدة أحد الإخوان العاملين بتا ركبنا قطار بضاعة مصري من بور سعيد ومعنا سلال من الخوص وضعنا بتا جميع أدوات النسف والمتفجرات والأسلاك الكهربائية اللازمة ... وما استطعنا حمله من سلاح وغطينا هذه الأشياء بالخبز والبرتقال كما يفعل عمال السكة الحديد في أسفارهم وتوقف القطار بالكاب فنزلنا في محطة الكاب وكان في انتظارنا الأخ الحاج حسن إمام المسجد ورئيس الإخوان ... نزلنا بداره وفي استضافته دون أن يلفت الأنظار إلينا لأنه في ذلك الوقت كان الانجليز لا يسمحون لحد بالمرور في هذه المنطقة المعزولة .

وبمجرد أن وصلنا منزل الحاج حسن حتى صلينا صلاة شكر لوصولنا الكاب دون أن ينكشف أمرنا وبدأنا فورا في تعبئة الألغام وتجهيزها اختبار الأسلاك الكهربية والمتفجرات وما أن انتهينا من الإعداد للعملية حتى انتصف الليل وقام الحاج حسين بتجميع رجال حرس الحدود بعيدا عن مكان العملة الذي سوف نقوم بتا بالسمر معهم والتحدث إليهم لما له من محبة في قلوبهم .

وفي لحظة تركهم للمكان أسرعنا فيوضع عبواتنا تحت فلنكات السكة الحديد وممدنا الأسلاك مستغلين الظلام كساتر طبيعي لتحركاتنا ووضعت ترتيبات العملية على النحو التالي :

1- حفرنا حفرا عميقة تحت الفلنكات بين الحفرة والتي تليها حوالي 30 مترا .

2- بعد وضع المتفجرات داخل الألغام وتثبيتها بإحكام وضعنا العبوات داخل الحفر وطمسناها بالرمال .

3- وصلنا أسلاك المتفجرات مع بعضها بتوصيلات كهربائية على التوالي حتى تشمل لتوصيلة جميع العبوات .

4- وصلنا طرفا السلك بأسلاك حتى تنتهي بالموجب والسالب .

5- ردمنا الأسلاك ومددناها من جانب السكة الحديد حتى نجتاز منطقة الأحراش .

6- قطعنا الطريق الأسفلتي لدفن السلك ليأخذ السلك طريقة باتجاه بحيرة المنزلة .

7- جهزنا قاربا يوضع به المفجر الذي يقوم على تفجير الألغام وذلك على مسافة 330 متر بداخل البحيرة من مكان العملية .

وبعد الانتهاء من هذا الإعداد بنجاح وفي هذه الظروف القاسية بسبب تحركات العدو وقسوة البرد, جلس الأخ يوسف ومعه الأخ سليمان في القارب في انتظار وصول القطار الذي سيقدم من بور سعيد والذي ستكون عليه المفاجئة التى سوف تسكر العدو .

تحرك القطار الحربي الانجليزي وعليه صناديق الذخيرة والسلاح وتحت حراسة فصيلة من عساكر الإنجليز المدججين بالسلاح وانفجرت الألغام فأصابت القطار وقتل كل حراسه ووقعت كل عرباته على الأرض وانسحب الإخوان اللذان قاما بالتفجير عبر بحيرة المنزلة وكانت فرحتنا بهذا النصر لا يعادلها فرحة فرحة النصر على أعداء الله : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) .

وظل القطار الحربي الانجليزي رابضا بعد نسفه وتعطلت طرق مواصلاتهم وتموينهم .

واستطاع المفاوض المصري كسب موقف أقوي بعد هذه العملية لأن الوعي القومي في مصر كان قد قوي وزادت النار اشتعالا ولا يمكن إطفاؤها إلا بالجلاء عن البلاد .

أما الأخ الحاج حسين فقد قبض عليه لسؤاله عنا ولكنه أنكر معرفته بنا .. فاعتقله الانجليز فترة وجيزة , ثم أفرج عنه وعاد إلينا الإخوان يوسف وسليمان سالمين .

وبقينا في بور سعيد فترة بعد هذه العملية ثم صدرت لنا الأوامر بالتحرك إلى الزقازيق.

وتوالت الأحداث السياسية بسرعة مذهلة .. ففي 25 يناير وقع حادث البوليس بالإسماعيلية إذ ضرب الانجليز عساكر بلوكات النظام , واستولوا على المحافظة وسقط شهداء كثيرون بلغوا الثمانين ووصل الغضب مداه وتفجر الموقف.

وفي 26 يناير عام 1952 خرج عساكر بلوكات النظام في مظاهرة عسكرية وكانت الجامعة معهم ووصلوا إلى مبني مجلس الوزراء وقابلهم عبد الفتاح حسن وزير الشئون الاجتماعية وخطب فيهم مهدئا لثورتهم العارمة.. وظل الحال كذلك والأحداث السياسية لم تتوقف – وقع حريق القاهرة – وزارات تسقط ومظاهرات تقوم حتى أنه قد تناوب على كرسي الحكم خلال شهور ثلاث أربعة رؤساء وزارات كان آخرهم نجيب الهلالي باشا .. وصدرت الأحكام العرفية وعطل البرلمان .. والانجليز يتربصون بالبلاد والصراع بين القصر والجيش والثورة الوطنية على أشدها لاستخلاص البلاد من المستعمر وأذنابه بعد أن قدم شهدائه على طريق الحرية الغالي والنفيس .

وفي خضم هذا الموج الهادر وهذه الأحداث الجسام قامت ثورة الجيش في صباح يوم 23 يوليو عام 1952 .

مقدمات الثورة والمشاورات التي دارت قبل قيامها مع الإخوان

توالت مشاورات مجموعة من الضباط الأحرار الذين كان يربطهم بالإخوان علاقات وكانت هذه المشاورات تدور بينهم وبين الصاغ صلاح شادي رئيس تنظيم البوليس في الإخوان والأستاذ عبد الرحمن السندي رئيس التنظيم الخاص والمرحوم الأستاذ منير الدلة المستشار بمجلس الدولة والمرحوم الأستاذ حسن العشماوي المحامي .. وقد علم الأستاذ الهضيبي المرشد العام بما دار في هذه الاتصالات.

وفي خلال فجر يوم 23 يوليو أذيع نبأ قيام الثورة بعد أن بارك قيامها الإخوان .

وأذاع البيان الأول بقيامها الضابط أنور السادات وأعلن قيام الثورة لتعقب الذين قتلوا الإمام حسن البنا المرشد العام للإخوان وللكشف عن جرائم تعذيب الوطنيين وللقضاء على الإقطاع وعودة الحريات شعارات أعلنت لكسب موافقة الشعب ولكسب رضا قاعدة الإخوان العريضة التي كانت تمثل غالبية مطلقة .

وألغيت الملكية بخروج الملك فاروق وأعلن قيام الجمهوية برئاسة اللواء محمد نجيب في عام 1954 .

وقام الإخوان بدورهم في المحافظة على الثورة الناشئة فقاموا بحراسة السفارات الأجنبية بالقاهرة وجندوا في مواجهة قوات الاحتلال بمنطقة القنال حتى يضمنوا سلامة الثورة .

وكان هدف رجال الثورة من وراء ذلك إشعار الشعب بأن الإخوان يقفون من ورائهم وبذلك كسبوا التأييد الكامل لما للإخوان من مواقف في حرب فلسطين وفي حرب الانجليز على ضفاف القناة وأيد الإخوان الثورة في الجامعات والمدارس وزار محمد نجيب وجمال عبد الناصر المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة وخطبوا في جموع الإخوان في المركز العام وفي الجامعات .

كما أنهم قاموا بتأبين الإمام الشهيد في ذكري استشهاده بزيارتهم لقبره بالإمام الشافعي وجلس عبد الناصر القرفصاء بجوار قبره يجدد العزم على مواصلة الجهاد ... بذكاء وخبث وظل تعاون الإخوان مع الثورة قائما في جميع المجالات .. في الجيش والبوليس والتعليم وفي الجامعات والمدارس .

وأصدر مجلس قيادة الثورة أمره بحفظ التحقيق في بعض القضايا التي لم يفصل فيها القضاء كقضية الأوكار , كما أخرج بعض المتهمين السياسيين الذين كان قد حكم عليهم في قضايا إخوانية في عهد فاروق كقضية مقتل النقراشي التي حكم فيها بالأشغال الشاقة المؤبدة على كل من محمد مالك وعاطف عطية ومحمود كامل وشفيق أنس وأعدم فيها محمود عبد المجيد وقضية مقتل الخازندار رئيس المحكمة والتي حكم فيها بالأشغال الشاقة على كل من الأخوين المرحوم حسن عبد الحافظ والمرحوم محمود زينهم كما أفرج عن المتهمين في قضية قنابل الخديوية التي حكم فيها لمدة عشر سنوات على كل من الأخوين سيد بدر والمرحوم لطفي فتح الله كما صدر عفوا عن أحكام قضية السيارة الجيب . وأصدر مجلس قيادة الثورة تعليمات بإعادة التحقيق في مقتل المرحوم الإمام الشهيد حسن البنا وترافع الشهيد عبد القادر عودة في القضية وأدان القضاء القتلة وهم الأميرالاى محمود عبد المجيد مدير قنا , والصول أحمد حسين والصول محفوظ والبكباشي محمد الجزار وحكم على محمود عبد المجيد بالأشغال الشاقة 15 عاما ثم أفرج عنه صحيا والمخبرين بالأشغال الشاقة المؤبدة ومحمد الجزار بسنة مع الحبس كما حوكم إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء الأسبق عن الجرائم التي وقعت في عهده, وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة ثم أفرج عنه إفراجا صحيا .

كما فتحت ملفات قضايا التعذيب واستدعيت النيابة المتهمين لسؤالهم عما نسب إليهم من تعذيب المواطنين واتهم الإخوان القلم السياسي الجزار والعشري وتوفيق السعيد ومحمد إمام إبراهيم ومحمد علي صالح والقفاص وغيرهم .

ولكن أراد الله أن يحفظ هذا التحقيق عندما ساءت العلاقات بين الإخوان والثورة ونجا المتهمون من العقاب .

وأذكر أنني اتهمت كل من قاموا بتعذيبي وتستروا عليه أمثال توفيق السعيد ومحمد علي صالح والمحامي العام إسماعيل عوض ومحافظ العاصمة اللواء أحمد طلعت وشقيقه محمود طلعت .

ولكن لم تتحرك هذه القضايا بسبب الفتور الذي ساد العلاقات والسحب الكثيفة التى خيمت على الأجواء .

وكان من أسباب هذا الفتور أن طلب مجلس قيادة الثورة من الإخوان مشاركتهم في الحكم ولكن الإخوان رفضوا ويرفضون دائما الحكم إلا وفق كتاب الله .. ولما قبل الشيخ الباقوري الوزارة وكان عضوا بمكتب الإرشاد طلب المكتب منه الاستقالة , واعتبرت الثورة هذا تحديا لهم . كما أنشأت الثورة هيئة التحرير لمحاولة جمع فلول الأحزاب ووضعت لهم منهجا وطلبت من الإخوان الإشراف على تطبيق المنهج .

والحقيقة أن الثورة لجأت لإنشاء هذه الهيئة على نمط الإخوان لمناهضة حركة الإخوان وقد ظهر ذلك جليا فيما بعد .

وأثناء زيارة جمال عبد الناصر للحوامدية وف يحفل عام في هيئة التحرير ذكر أن الإخوان كالببغاوات لأنهم يقولون مالا يفعلون مما أثار حفيظة الإخوان لأنهم ما كانوا يتوقعون ذلك من رجل ساعده الإخوان ووقفوا بجواره في أحلك الأوقات .

اللقاء بيني وبين عبد الناصر في أوائل 1953

أرادت الجماعة أن تتكشف رأي عبد الناصر شخصيا فيما يثار من خلافات بينه وبينها فوافقت على عرض عرضه الأخ جمال النهري من أن شقيقه حازم النهري وهو صديق شخصي لعبد الناصر وعبد الحكيم عامر يستطيع أخذ موعد لقاء بين مجموعة من شباب الدعوة ومن قيادة الحركة وتحدد يوم اللقاء , وكنت أنا والأخ المرحوم حسن عبد الغني وجمال النهري وعز الدين مالك هم الجماعة كقطاع طلاب الجامعة والمدارس الثانوية والعمال .. وكان اللقاء بمنزل جمال عبد الناصر بمنشية البكري وبحضور كل من المشير عبد الحكيم عامر وصلاح سالم وحازم النهري .. وبدأ الاجتماع في الساعة الخامسة مساء , وقبيل صلاة المغرب وانتهي في حوالي الساعة 12 مساء .. وقمنا للصلاة مع صلاح سالم في جماعة وبقي عبد الناصر وعامر دون أن يشاركانا الصلاة .

أما ما دار في هذا الاجتماع الهام فيمكن تلخيصه فيما يلي :

أولا : عرض عبد الناصر موضوع الإخوان والثورة وبين مواقف الالتقاء والتفاهم والخلاف والعداء وبين بأن الإخوان يريدون القيام بانقلاب عسكري مسلح يقوم بت الضابط المرحوم عبد المنعم عبد الرؤوف رجل الإخوان بالجيش مستخدما الكتيبة الفلسطينية التى كان يتولي قيادتها برفح ويساعدها بقية قيادات الإخوان في الجيش من أمثال الضابط المرحوم معروف الحضري وأبو المكارم عبد الحي والمرحوم فؤاد جاسر وحسين حمودة وجمال ربيع وغيرهم وبين أنه يستطيع إعدام هؤلاء الضباط ولكنه اكتفي بإبعادهم عن الجيش واعتقلهم .

ولما حاولنا إبراز الحقيقة من أن الإخوان لا يضمرون شرا ولا يرغبون في القيام بعمل انقلاب , وأن هذه الحركة قد ساندها الإخوان منذ قيامها وقاموا على حراستها حتى وكأنها حركتهم .. ولكن كن عبد الناصر دائما مدافعا عن رأيه مقتنعا بما يرويه ويردده .

ثم أثار نقطة أخري على جانب كبير من الأهمية والخطورة كشف عن نيته وما ينوي الإقدام عليه نحو الجماعة وكان الواجب سرعة المبادأة .

ويقول عبد الناصر أثناء الاجتماع : إنني أصدرت قرارا بحل الأحزاب وقانونا للجمعيات الدينية وأبقيت جماعة الإخوان داخل نطاق قانون الجمعيات بصفة استثنائية ولكن وجدت أن الإخوان يقفون في طريقي .. وإنني أريد البلد كلها في قبضة يدي , حتى إذا ضغطت على أحد الأزرار صحت الدولة وإذا ضغطت على الثاني نامت الدولة فلا أريد أن أضغط على الزر الثاني وأجد أناسا يقظين وهم الإخوان وإنني سأدعو الشعب إلى التربية بالحسني فإن لن يستجب الشعب فلا أجد إلا طريق السيف والقوة .. وإنني سوف أتغدي بالإخوان قبل أن يتعشوا بي .

هذه فقرات من حديث عبد الناصر تدل على ما وصل إليه من فكر ديكتاتوري وتسلط يريد أن ينفرد بحكم مصر لا رأى لأحد ولا صوت إلا صوته تعلق المشانق لمن يعارض رأيه ويزج في السجون من يهمس بكلمة حق عارضت هذا القول وقلت له إن استعمال السيف والقوة لا يجران إلا إلى الدمار والخراب والأفضل أن تستمر في التربية والدعوة بالحسنى كما تقول .

وإن الإخوان إن صحوا عندما تضغط على جرس النوم فإن هذا صلاح للأمة وأمان للحاكم فلا فائدة في شعب مستكين مستسلم, ثم أردنا أن نضع أمامه نقاط الاتهام مثل فضل الضباط جمال إسماعيل أحد ضباط الإخوان من البوليس بلا اتهام وكان رد عبد الحكيم عامر على هذا الإجراء بأن هذه وجهات نظر وأنه لو كان في مكان عبد الناصر لأعدمه , ثم ما ذكره في احتفال التحرير بالحوا مدية من أن الإخوان ببغاوات لا يعرفون ما يقولون وكانت إجابته كان لا يستطيع الاستمرار في حديثه من كثرة هتافات وتكبيرات الإخوان مما اضطره إلى قول هذه الكلمة التى أغضبت الإخوان لأنه يعلم قبل غيره بأن الإخوان ليسوا ببغاوات وأنه عمل معهم بفلسطين وفي مقاومة الاحتلال بمصر وأنه اعترف بأن القصد من هيئة التحرير هو جمع فلول الأحزاب بداخل لهيئة ووضع منهاج لها يشرف على تطبيقه الإخوان وبذلك يكون الشعب كله داخل نطاق هيئة التحرير وهيئة الإخوان برسالتها السامية .

وبذلك يضمن حسن التربية والتوجيه للشعب وقد تناقشنا كثيرا في هذه الأمور وانتهي اللقاء وطلب من سائق إحدي سياراته توصيلنا إلى بيوتنا ولكننا نزلنا في ميدان التحرير حتى لا يعرف وجهتنا .

وما أن وصلنا إلى ميدان التحرير حتى توجهنا إلى قيادتنا وقصصنا عليهم ما دار بيننا وبين عبد الناصر في هذا اللقاء وحذرناهم من هذا الدكتاتور المتربص بهم الدوائر والذي قلب لهم ظهر المجن واعتقل ضباط الإخوان وفصلهم من الجيش وفصل جمال إسماعيل ضابط البوليس بلا ذنب وأهان الإخوان في مؤتمراته واتهمهم بأنهم ببغاوات وسلط أجهزة المباحث والمخابرات بتتبعهم في بيوتهم وأعمالهم ورصد حركاتهم وسكناتهم وحاول استقطاب بعض من العناصر الإخوانية لكي يبذر الفرقة والبغضاء بين صفوفهم إلى غير ذلك من التفكير الماكر .

محادثات إيفنز واعتقالات يناير 1954

وأثناء محادثات ومفاوضات الجلاء مع الانجليز طلب عبد الناصر من الإخوان مقابلة إيفنز الانجليزي الذي كان يقوم بدور المفاوضات وطلب من الإخوان التشدد في المطالب المصرية لإشعاره بأن الشعب الذي يمثله الإخوان في ذلك الوقت لا يرضي بغير الجلاء بديلا .. وذلك لتدعيم موقف المفاوض المصرية وتقويته ولكن سرعان ما دب الخلاف بين الإخوان والثورة بسبب المعاهدة المصرية الانجليزية والتي وقعت في 19 أكتوبر 1954 , وكان للإخوان عليه تحفظ كتبوه ورفعوه للمسئولين بينوا أنه يمتنع عن الإنجليز العودة بسبب الحرب حتى أذاعت الحكومة بيانا على الشعب تتهم الإخوان فيه بالخيانة واتصالهم بالانجليز زورا وبهتانا وكان اتصالهم بايفنز على سمعهم وتحت بصرهم كما سبق أن ذكرت .

وفجأة كشف عن عدائهم واعتقل قادة الجماعة ومعهم مرشدهم العام وعدد من قيادات الجماعة واعتقلت وأودعت السجن الحربي في يناير 1954 .

وأصدر قرار حل الجماعة في 12 يناير 1954 باعتبارهم حزبا سياسيا ولم يصدق الشعب هذا الادعاء الكاذب واستهجنوه لعلمهم بجهاد الإخوان ضد الانجليز ولهم معهم شهداء أمثال عمر شاهين وأحمد المنيسي .

المعاملة في السجن الحربي في الاعتقال الأول

أودعنا الزنزانات حبسا انفراديا وصدرت التعليمات إلى الحراس بعدم السماح بالخروج من الزنزانة إلا تحت الحراسة ومنع تحدث الإخوان مع بعضهم البعض ولما اعترضت على هذه المعاملة حولت للتحقيق وأحاطوني بقوة مدججة بالسلاح بأمر من الضابط إكرام ومنعت من الخروج من الزنزانة نهائيا امتنعت عن الطعام وأعلنت إضرابي حتى الموت ولما فشلوا في إقناعي عن العدول عن الإضراب أحضروا لى المرشد العام وكان قد أعلن كذلك احتجاجه على هذه المعاملة الغير إنسانية .

وطلبت أن يسمح لنا بالخروج للتريض ساعة كل يوم نتنفس الهواء ونتحدث مع بعضنا البعض .

الإفراج

بقينا على هذه الحالة ما يقرب من ثلاثة شهور وفجأة تغير الجو وتكهرب وكأن السماء قد سمعت دعاء المظلومين وكنا نستعدي عليهم دعاء السحر وسهام القدر وأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب .

لقد دب الخلاف بينهم منذ 28 فبراير 1954 وقامت قوات سلاح الفرسان بقيادة حسين الشافعي تحاول الانتفاضة على الثورة .. وعاد نجيب إلى رئاسة الجمهورية في 28 / 2 / 1954 وسارت المظاهرات معلنة الاحتجاج وتهتف ضد عبد الناصر . وقتل عدد من الطلبة برصاص البوليس منهم شهيد الإخوان أبو عجوة وسارت المظاهرات حتى وصلت قصر عابدين وكانت المناديل ملطخة بالدماء الشهداء وكان يتقدم هذه المظاهرات الشهيد عبد القادر عودة وكيل الإخوان وكاد المتظاهرون أن يقتحموا قصر عابدين لولا أن أطل عليهم اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية وان على خلاف مع عبد الناصر وكانت الهتافات بسقوط عبد الناصر تشق عنان السماء وعندما طلب نجيب من المتظاهرين الانصراف وتحقيق مطالبهم رفضوا واستمروا في هتافاتهم ووقع نظر محمد نجيب على الشهيد عبد القادر عودة وهو يلوح بمنديله الملطخ بالدماء , وطلب منه الحضور إلى الشرفة ولبي الشهيد دعوته إيمانه منه بالمساهمة في تهدئة الخواطر وكاد الزمام أن يفلت وينقلب الوضع إلى كارثة لا يعلم نتائجها إلا الله .

وخطب الشهيد عبد القادرة عودة في المتظاهرين وطلب منهم الانصراف فانصرفوا في الحال وبرزت الطاعة في تنفيذ أمره أمام الثعلب عبد الناصر فبدلا من أن يوفيه حقه في الشكر على المحافظة على حياته وصرف المتظاهرين قلب له ظهر المجن حتى إذا سنحت له الفرصة اعتقله وأودعه البوليس الحربي ومعه الأستاذ المرحوم أحمد حسين رئيس مصر الفتاة بعد أن سلط عليهما ضباط المخابرات الذين قاموا بتعذيبهما ثم أودعا السجن الحربي وقص علينا الأستاذ المرحوم عبد القادر عودة ما حدث في هذا اليوم المشهود وكانت مصر في حالة من الغليان تنذر بتفجر الوضع بها .

وفي 25 مارس 1954 أرسل عبد الناصر الوزير محمد فؤاد جلال للتفاوض مع المرشد العام بالسجن الحربي .. وجس النبض تمهيدا للإفراج عن المعتقلين وفعلا تم الإفراج عنا .

وفي 26 مارس 1954 أرسل عبد الناصر الوزير محمد فؤاد جلال للتفاوض مع المرشد العام بالسجن الحربي.. وجس النبض تمهيدا للإفراج عن المعتقلين وفعلا تم الإفراج عنا .

وفي 26 مارس 1954 زار عبد الناصر وبرفقته صلاح سالم المرشد العام بمنزله في الروضة بالقاهرة حوالي الساعة الواحدة مساء معتذرا عما حدث مؤكدا التزامه بعودة الحياة النيابية وإلغاء الظروف الاستثنائية وعودة الجيش إلى الثكنات .. ورجي الإخوان عدم إصدار بيانات تثير النفوس وتزعزع الثقة وكان يرمي من وراء ذلك كسب الوقت ومحاولة إعادة الأمن .

وفي 29 مارس افتعل مظاهرات تهتف بحياته وقطعت المواصلات عن القاهرة جميعها وشلت الحركة تماما واستطاع السيطرة تماما على السلطة .

وفي 30 مارس 1954 ألقي المرشد العام بيانا بدار المركز العام للإخوان مصارحا بالأوضاع القائمة وهذا لم يعجب عبد الناصر لأنه طالب بحياة نيابية نظيفة مكفولة في ظل حرية الصحافة وحرية الاجتماع .

بداية حلقة جديدة من الصراع مع الإخوان

لم يف عبد الناصر بما وعد به المرشد العام , ونقض ما وعد بت من عمل انتخابات حرة ومن عودة الجيش للثكنات , وذلك بعد أن قبض على الحكم بيد من حديد وكمم الأفواه وعطل الحريات وحاول استمالة نفر من الإخوان لإيجاد ثغرات في صفوف الجماعة .

وكان الإخوان في ذلك الحين يفكرون بعقلية المعتقل الذي تحرر من سجنه ويريد أن يوازن بين أموره دون تورط وقد حاول اجتذاب الإخوان إلى مزيد من التعاون مع الثورة وتقابل مع عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان في منزل الدكتور أحمد زكي على أن هذا السعي توقف بعد الاعتداء على السنهوري في أعقاب ذلك بثلاثة أيام وبقي موقف الإخوان سلبيا من الأحداث وشراء عبد الناصر لصمت الإخوان المسلمين في تلك اللحظات الحرجة من تاريخ مصر ويعتبر ذلك من أبدع الضربات التي وجهها في حياته السياسية .

موقف نقابة الصحفيين والمحامين

وفي 26 مارس اجتمع مجلس نقابة الصحفيين واتخذ قرارات تاريخية طالب فيها بإلغاء الأحكام العرفية فورا وزوال الآثار المترتبة عليها من تقييد للحريات وإلغاء الأحكام الاستثنائية والإفراج عن المعتقلين وتأليف وزارة قومية لإجراء انتخابات جديدة كما عقد المحامون جمعيتهم العمومية ونددت بالاعتداء الذي وقع على المحامي الأستاذ أحمد حسين وعبد القادر عودة وعمر التلمساني وقرر المحامون الإضراب العام يوم 28 مارس استنكارا لحوادث الاعتداء على المعتقلين والمسجونين وتسجيل ذلك في محاضر جلسات المحاكم واتهم عمر عمر نقيب المحامين البكباشي أحمد أنور عميل عبد الناصر بالتعذيب .

وأيضا في الجامعات عقدت المؤتمرات تطالب بإلغاء الأحكام العرفية وحل مجلس قيادة الثورة وعودة الحياة الدستورية وتأليف جبهة الاتحاد الوطني في جامعة القاهرة ضمت الوفديين والإخوان و[[الإشتراكية|الشيوعيين]] والشيوعيين تطالب بنفس المطالب الوطنية .

ولكن كما سبق أن ذكرت جرت محاولات لتحريك عمال النقل المشترك في اعتصامات ومظاهرات لصالح بقاء الثورة .

سفر المرشد العام إلى السعودية وسوريا

توسط المرشد العام بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر لإنهاء الخلافات بينهما وانتهز فرصة زيارة الملك سعود لمصر ليقوم أيضا بدور الوساطة بينهما وسافر الملك سعود وكان المرشد في توديعه بالمطار ومعه الأستاذ صالح أبو رقيق وكذا الأخ يوسف على يوسف وفتحي البوز وكاتب هذه السطور . سافر الملك سعود وودعه محمد نجيب وعبد الناصر والخلاف ما زال على أشده بينهما .. انتحي عبد الناصر جانبا بالمرشد العام وطلب منه صالح أبو رقيق للإفطار معه .

وغادرنا نحن المطار ومعنا المرشد العام .... وتركنا عبد الناصر وهو يفكر فينا ز.. يفكر في هؤلاء المسلحين الذين يرافقون المرشد العام حتى في هذه الاحتفالات الرسمية وزارة المرشد العام السعودية بدعوة من الملك سعود ... وسافر معه الشهيد الشيخ محمد فرغلي والأستاذ صالح أبو رقيق وغيرهم ثم عرج على سوريا وألقي بيانا من محطة الإذاعة بدمشق يهاجم فيها اتفاقية الجلاء ويندد بتا ويعتبرها صك استسلام لعودة الانجليز إلى مصر عند العدوان على تركيا .

وهجر الإخوان المركز العام ليلتقوا بالمنازل لأن الحكومة كانت ترصد تحركاتهم ووضعت العيون حول المركز العام لمراقبة أى نشاط وتوتر الجو وعندما عاد المرشد العام إلى مصر وضع تحت المراقبة ووضعت العيون حول منزله بالروضة لمراقبة الداخلية والخارجين وكثيرا ما كان المرشد يغير مكان مبيتة ووضعت الحراسة عليه من قبل الإخوان للمحافظة على حياته .

فاتني أن اذكر لأن المرحوم المهندس سيد فايز قتل نتيجة انفجار عبوة ناسفة بمنزله راح على أثرها وشقيقه وقبض على الأخ أحمد عادل كمال للتحقيق معه فيها , وأفرجت عنه النيابة وكانت النتيجة حفظ التحقيق لعدم معرفة الجاني ... وهذه القضية ألقت ظلالا من الاتهام على المخابرات الحربية التي كانت تحاول تشكيك الإخوان في بعضهم .. ولما كانوا يعلمون عن خلافات النظام الخاص , وكان المرحوم سيد فايز له رأى واضح في التنظيم بعد اكتشافه في حوادث 1948 .

وفي اليوم التالي لهذه الجريمة البشعة أصدر المرشد العام للإخوان الأستاذ 1952 أمرا بفصل كل من الإخوة أحمد عادل كمال وعبد الرحمن السندي وأحمد زكي حسن ومحمود الصباغ وهم من قادة النظام الخاص القديم وكان لهذا القرار أثره في بلبلة مشاعر الإخوان وحدث لقاء بين جماعة من الإخوان والمرشد العام بمنزله بالروضة للاستفسار عن سبب ذلك في تلك الظروف .

ولما رفض المرشد الإدلاء بأسباب فصل الإخوة من الجماعة تأزم الموقف غضب المرشد وانصرف الإخوان غاضبين إلى المركز العام ليستبينوا من أعضاء الهيئة التأسيسية هذا الإجراء الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الجماعة خاصة في ظروف اغتيال المهندس سيد فايز وما يصاحب ذلك من اتهام لهؤلاء الإخوة وتدخل الدكتور عبد العزيز كامل عضو مكتب الإرشاد والشيخ محمد فرغلي لتهدئة النفوس وجمع صف الجماعة . خاصة وأن النظام الحاكم كان يترصد حركاتهم ويحاول إيجاد الثغرات في صفوفهم ولست مع الأستاذ صلاح شادي فيما كتبه حول هذا الموضوع في كتابه ( حصاد العمر ) .

اعتقالي في أكتوبر 1954

وعندما ساءت العلاقة وتوتر الجو بدأ عبد الناصر في إعادة أسلوب الاعتقال مرة أخري فاعتقل رؤساء مناطق القاهرة ورئيس مكتب إداري القاهرة وقادة التنظيم وقررت حكومة الثورة تقديم قضية حامد جودة التي كنت متهما فيها .. وهي القضية التي لم يفصل فيها بعد أمام القضاء رغم أنها كانت قد طواها النسيان منذ عام 1951 بعد أن أفرج عنا بسبب إلغاء معاهدة 1936 في حكومة الوفد.

وبدأ البوليس في البحث عن المتهمين في هذه القضية لاعتقالهم وأودعهم معتق القلعة تمهيدا لمحاكمتهم .

كنت في ذلك الوقت مدرسا للمواد الاجتماعية بمدرسة سنتريس الإعدادية بالمنوفية واعتقلت أثناء وجودي بالمدرسة أثناء وجودي بالمدرسة بكمين نصب لى حولها وصلت إلى مديرية الأمن بشبين الكوم وكانت ليلة قاسية قضيتها أمام دورة المياه ويجاورني مسجون قد فقد عقله ويود أن يكسر الباب الذي يفصل بيني وبينه لإلحاق الأذي بي وكنت أخشي أن يكسر الباب فأواجه إنسانا فاقد العقل وليس على المريض حرج , سهرت ليلتي واقفا أحاول تهدئة هذا المجنون – لا نوم ولا راحة – وكيف أنام وأنا بلا فراش ووسط هذه القاذورات ؟ كنت أراقب ضوء النهار حتى يتم ترحيلي إلى القاهرة حيث التحقيق فكنت كالمستجير من الرمضاء بالنار .

وفرحت بترحيلي من هذا المكان الذي تنبعث منه هذه الرائحة الكريهة رحلت تحت الحراسة المشددة وأودعت معتقل القلعة والتقيت هناك بمن سبقوني بالاعتقال كان هناك الأخ حسن دوح وبقية إخوانه في قضية مسجد شريف الذي هاجمته الثورة بالعساكر والخيول , وكان منهم الأخ المرحوم كمال ترك وعبد الفضيل والأستاذ محمد ماضي من إخوان الروضة كما التقيت ببقية المتهمين في قضية حامد جودة أمثال سيد وسمير شهبندر ومحمد شحاته وعبد الكريم السيد وفتحي علام وثروت كما قبض على الأخ عبد الرحمن البنان في قضية إحراز منشورات .

كما تحفظت الثورة بالمعتقل على بعض المسئولين من الجماعة أمثال الأخ محمود عبده رئيس مكتب إداري القاهرة , ورؤساء مناطق الإخوان بالقاهرة أذكر منهم الأخ محمد شديد رضوان والسيد أبو سالم وعبد العزيز أحمد والمرحوم كمال السنانيري وكانت خطة الحكومة من اعتقال هؤلاء وضاحة حتى يعترفوا على كل إخوان القاهرة عندما يحين الوقت ويبدأ التعذيب .

حادث المنشية 26 أكتوبر 1954

وقع حادث المنشية بالإسكندرية بإطلاق الرصاص على عبد الناصر أثناء إلقاء خطابه وأذيع نبأ اعتقال محمود عبد اللطيف أحد أفراد الإخوان باعتباره الفاعل ولم يصب عبد الناصر .. ووقف يكمل خطابه مهددا ومتوعدا وكان رد فعل هذه الحادثة عنيفا للغاية وفتحت المعتقلات أبوابها تستقبل الألوف من الإخوان وامتلأت بكل من له صلة من قريب أو بعيد بجماعة الإخوان عشرات الألوف زجوا في السجون بغير حق .

حرق المركز العام

وقام أحد الضباط الأحرار ومعه رجال الأمن بإلقاء قنابل حارقة على المركز العام بالحلمية الجديدة فالتهمته النيران وأتت على كل شئ واحترقت المصاحف والمكتبة وداستها الخيول وتحول المكان الذي كان يشع الهداية على ربوع العالم إلى خرائب واتخذته الحكومة مقرا لبوليس الخليفة واعتقل المرشد العام بالإسكندرية واعتقل كل من كان بحراسته كما اعتقل أعضاء مكتب الإرشاد أمثال الشهيد عبد القادر عودة وكيل الجماعة والمرحوم الدكتورمحمد خميس حميدة والشهيد محمد فرغلي والمرحوم الدكتور كمال خليفة والدكتور عبد العزيز كامل والدكتور حسين كمال الدين والمرحوم الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ صالح أبو رقيق والمرحوم الأستاذ منير دلة والأستاذ محمد حامد أبو النصر والأستاذ المرحوم عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للجماعة والمرحوم الأستاذ أحمد شريت واعظ أسيوط كما اعتقل كذلك الكثير من أعضاء الهيئة التأسيسية وقادة التنظيم السري .

واشتركت أجهزة الدولة كلها في تعقب الإخوان والقبض عليهم فاشتركت المخابرات الحربية مع المباحث العامة والمباحث الجنائية العسكرية مع البوليس الحربي في عمليات القبض والاعتقال وعاشت البلاد في جو من الخوف والإرهاب .

وعقب هذا الحادث المشئوم نقلنا إلى سجن مصر ليصبح معتقل القلعة مكانا للتعذيب وبقي بهذا المعتقل رؤساء مناطق القاهرة ليجري عليهم التعذيب حتى يستطعيوا أن ينتزعوا الاعترافات .

تحويلنا إلى السجن الحربي

وبعد أن مكثنا فترة بسجن مصر ووسط هذا الحشد من الإخوان وكان مجلس قيادة الثورة يبعث في طلب من يريده ليجري عليه عمليات التعذيب الجسدي من نفخ من الخلف إلى وضع الطوق الحديدي حول جمجمته إلى الضرب السياط وكانوا يعيدونهم إلى السجن كي يحطموا أعصاب الآخرين .

وأذكر ممن تعرضوا لحادث النفخ الأخ علي الفيومي وغيره وكانت حالته سيئة لدرجة أن طبيب سجن مصر أرسل مذكرة إلى المدير العام لمصلحة السجون لمنع نفخ المعتقلين بمجلس قيادة الثورة وكان مصير هذا الطبيب الإبعاد عن السجن .

الترحيل إلى السجن الحربي وبداية التعذيب

وكنت أود أن لا أتعرض لما حدث من تعذيب طيلة وجودي بالسجن الحربي لأن الإنسان الحر يأبي أن يسطر ما حدث له وما وقع عليه من إهانا وتعذيب .. ولكني أردت من تسطير هذه الأحداث المؤلمة أن أعري هذا النظام الناصري الذي أذاع في اليوم الأول من قيامه بأن ثورته قامت من أجل العدالة ومحاكمة هؤلاء الذين قاموا بتعذيب المواطنين في العهد السابق .

هذا النظام الذي فعل بالمواطنين ما لم يفعله هتلر مع اليهود ... هذا النظام الذي أعاد إلينا أفراد التعذيب وثلاجات الماء ومحاكم التفتيش في عصر ازدهرت فيه الحريات في الكثير من بلدان العالم .

نودي على مجموعة منا بسجن مصر لترحليها إلى السجن الحربي وكنت معهم في طريقنا إلى السجن الحربي , كنا الطليعة الأولى إلى سجن الباستيل ما أن وصلنا باب السجن الحربي حاملين أمتعتنا في أيدينا حتى فوجئنا وكأن جهنم قد فتحت أبوابها وظهر زبانيتها يلوحون بأيديهم بالسياط والعصي الغليظة وفي لاحظات بدأ التعذيب الضرب على كل أجزاء الجسم على الوجه والرأي وعلى الأضلع والظهر أمرنا بالجري السريع وفي أيدينا أمتعتنا والضرب يشتد ضراوة ومنا كبار السن لا يتحملون هذا الإيذاء ولا يقدرون على مواصلة الجري فمنهم من سقط على الأرض مغشيا عليه تحت أقدامنا وكان عساكر الجيش يركلون من يقع بأحذيتهم الغليظة وبعد أن سقط الجميع مغشيا عليهم من هل هذه المفاجأة أمرنا بالوقوف والدم ينزف من وجوهنا وضلوعنا وقد نال منها هذا الضرب الموجه وكان يشرف على هذا الفصل اللانساني الضابط صلاح دسوقي الششتاوي الذي استدعي من ليمان طره إلى السجن الحربي لقسوته وشدته .. والضباط أحمد أنور ومحمد عبد الرحمن نصير ضباط المخابرات ومدير السجن حمزة البسيوني والصول ياسين الشاويش محمود عبد الجواد والعسكري دياب ومحمد عطيه وغيرهم .. ثم أمروا بإدخال كل ثلاثة منا بزنزانة بسجن 4, ودخل معي المرحوم فوزي المنشي والمرحوم الأستاذ هارون المجددي نجل الأستاذ محمد صادق المجددي سفير أفغانستان بمصر سابقا أدخلنا الزنزانة دون طعام ولا ماء نفترش أسفلت الزنزانة ونلتحف السماء .

جلسنا نستريح بعد هذا العناء .. ومن خلال نظارة باب الزنزانة شاهدت حمزة البسيوني وصلاح دسوقي يشرفان على عمل تعليقة بأحد زنازين السجن الكبير يتدلي منها حب غليظ وكأنها مقصلة أعدت لنا حتى يقتلوا رجالا يقولون ربنا الله , فيستريحون من هذه الفئة المؤمنة التي تقف في وجه الظلم والطغيان .ز أيقنت أننا سنتعرض لفتنة قاسية , ودعوت الله بالصبر والثبات, وقبل أن أسترجع قواي من هل ما أصابني عند دخولي فوجئت بفتح باب الزنزانة وأمرنا بالوقوف ورأيت حمزة البسيوني وصلاح ومحمد نصير أمامي وبيد كل منهم سياك , ولما رأوني انهالوا على ضربا بالسياط وأمروني ثلاثتهم بالخروج من الغرفة وأخذوني باتجاه المقصلة وأمروني بخلع ملابسي إلا ما يستر عورتي .. وضعت فوق مرسي وتدلي الحبل حتى مر بعنقي وأيقنت بأنني سأكون أول شهيد هذا اليوم .

مرت بي لحظات خاطفة كلها دعاء ورجاء وتوبة واستغفار وشهادة وفرحت لأن ذلك كان يوم مولد الرسول الأعظم , وسمعت قرآنا يتلي عبر مكبرات الصوت من خارج جدران السجن وتدلي الحبل ونطقت بالشهادتين بأعلي صوتي حتى سمعني كل من بالسجن , وفي ثوان أخري ترك الحبل منطقة العنق ليستقر حول البطن , وأبعد الكرسي وتركت معلقا في الهواء وتوالت لفحات السياط من هنا وهناك على الوجه والرجلين واليدين وكنت في حالة من الهياج بسبب هذه القسوة التي لا تمت للإنسانية بصلة – قلوب كالحجارة أو أشد قسوة – كنت أسبهم وألعنهم حتى سكت صوتي وانتابتني حالة من الإغماء لولا أنهم كانوا يرغبون أن يبقوا على حيا لانتزاع الاعترافات للفظت النفس الأخير .

أنزلت إلى الأرض بلا حركة والدماء تنزف من كل أجزاء جسدي العرق يبلل وجهي عيناى قد غابت تحت أورام السياط حملت بين أيدي العساكر إلى زنزانتي خائر القوي لا أستطيع الحركة أو الكلام بكاني زملائي هارون وفوزي لأنهم لا يستطيعون تقديم شئ كنت أريد ولو قطرة ماء هارون يعصر عيدان من الفجل كانوا يرمونها لنا في الزنزانة ونزلت قطرات من ماء هذا الفجل على فمي وشعرت بأن روحي قد عادت لى وجري ريقي واطمأن الأخوين على حياتي لخوفهما على من صدمة عصبية تودي بحياتي , وقمت وتيممت وصليت جالسا لعدم استطاعتي الوقوف وسجدت لله شاكرا وداعيا .

التعذيب بالضرب في كل أجزاء الجسم

وبعد يومين من هذا الحادث وهذا التعذيب المضني وقبل أن يندمل جراحي استدعيت لمكاتب التحقيق وكنت لا أستطيع السير على قدمي الوارمتين والممزقتين ماذا يريدون مني ؟ أنني معتقل قبل حادث المنشية ولم يكن لى صلة بمحمود عبد اللطيف أو بغيره ولم أعلم شيئا عن تنظيمات معادية .

ذهبت إلى المكاتب أنقل قدما لأضع الأخرى وكأنني أسير على شوك وما أقسي قلب الشاويش محمود عبد الجواد من ورائي وسياطه تلهب ظهري ولسانه يقطر بذاءة وسخفا !!.

وصلت مكاتب التحقيق لأجد صلاح الدسوقي وحمزة البسيوني وعلي صبري .. طلبوا منى الاعتراف عن التنظيم السري فلما أجبتهم عن عدم صلتي بهذا التنظيم المسلح أشاروا إلى محمود عبد الجواد ,وما هي إلا لحظات حتى وجدتني منبطحا على الأرض وأقدم العساكر بأحذيتهم الغليظة تركلني في كل موضع من جسمي حتى إن عساكر الحراسة وقد تركوا أماكنهم كي ينالوا من هذا الصيد , وضربات موجعة من دباشك البنادق تهوي على رأسي ووجهي وضلوعي وسقطت مغشيا على إثر ضربة في رأسي ولما أفقت وجدت الدماء تنزف من رأسي ووجهي , ثم أمروا بإرجاعي إلى الزنزانة لجولة أخري أشد هولا .

التعذيب بداخل غرفة المياه بسجن 3

وفي اليوم التالي استدعيت للتحقيق للاعتراف بكوني قائد فصيلة بالتنظيم السري المسلح كما أنني استلمت سلاح الفصيلة من الأخوين سعد كمال والسيد الريس .. كما أخبرني المحقق بأسماء الفصيلة ولما أجبتهم بعدم معرفتي بالسلاح وأن هؤلاء الأفراد ليسوا تنظيما سريا ولكنهم أسر عادية وكنت أجتمع بهم لنتدارس سويا كتاب الله وسنة رسوله بما يدل على براءتي من تهمة السلاح إنهم ذهبوا إلى الأماكن التي قيل إن بتا السلاح ولم يجدوا شيئا كما إنني كنت معتقلا قبل حادث المنشية .

وما إن فرغت من حديثي حتى طار صواب علي صبري وصلاح الدسوقي وامتدت يد صلاح إلى كرباج فوق مكتبه وانهال بت علىّ ضربا وما هي إلا لحظات حتى شاركه زبانية مكتبه .. ثم أمر علي صبري بوضعي في زنزانة الماء وأخذت فورا إلى السجن 3 وخلعت ملابسي إلا ما يستر عورتي وأدخلت غرفة الماء وكان الوقت ليلا والج شتاء ووقفت بداخل الغرفة التي بني سد منيع على بابها من الداخل بارتفاع مترا تقريبا بالطوب والأسمنت وكان يتولي ملأها بالماء الإخوان الدكتور حسين كمال الدين والمرحوم الدكتور كمال خليفة فكانا يملآن جرادل المياه ثم يلقيانها بداخل الغرفة واستمروا على هذه العملية ليلة طويلة حتى وصلت المياه إلى ارتفاع السد وكان في غاية من الألم ولكن ماذا يصنعان والسياط تهددهم وكنت أرثي لحالهم وهما يدعوان لي بالثبات والصبر .

وأغلقت الغرفة المظلمة وبقيت وحيدا أتحرك وسط بركة من الماء لا أستطيع الجلوس أو النوم حتى لا أموت غرقا .

كنت أسجد على وجه الماء وأقف على رجل وأرفع الأخرى حتى إذا تعبت استبدلتها بالأخرى وكنت أنام لحظات مستندا إلى حائط الحجرة مكث في هذه الزنزانة ثلاثة أيام – جو بارد رجلان متعبتان بهما إصابات غائرة عينان أسهدهما السهر , جسم أرهقه طيلة السهاد وعدم الراحة بلا طعام ولا ماء .

كانوا يلقون برغيف من الخبز على وجه الماء مرة كل يوم ثم يغلقون الزنزانة كنت أتبول في ركن من الحجرة وأشرب من ركنها الآخر – دعوت الله أن يساعدني في محنتي حتى لا تخور قواي وأموت غرقا وفي لحظة من لحظات الدعاء عند السجن ناديت في الظلمات إن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .

وفي هذه اللحظة فتح باب الزنزانة فكأن السماء قد استجابت دعائي أمرت بالخروج ولكن إلى أين ؟ إلى مكاتب التحقيق .

خرجت وأنا لا أستطيع المشي قدماى متورمتان وكأنهما أقدام غريق وأمام علي صبري وقفت وابتدرني سائلا عن السلاح فأجبته بعدم معرفة مكانه ولو كنت أعلم شيئا لاعترفت بعد أن مررت بهذه المراحل المريرة من التعذيب وآخرها ما أنا فيه الآن من إعياء كامل بسبب هذه الزنزانة اللعينة فرق قلبه القاسي وأمر بإعادتي إلى زنزانتي بالسجن الكبير وفرحت بذلك وكأ، الحياة قد عادت لى من جديد .

الترحيل إلى معتقل القلعة لاستكمال التحقيق

كنت أعتقد أن هذه المرحلة من التعذيب قد انتهت ولم يبق إلا تقديمنا للمحاكمة على غير ما تهمة .

ثم تصدر الأحكام ونغادر هذا السجن اللعين إلى السجون المدنية حيث الأمان في ظل لائحة السجون ولكن أين مصير اللوائح والنظم في ظل حاكم ظالم ؟ ونستطيع الآن فهم أحد الحكماء حينما يقول :" أعطني قاضيا قبل أن تعطيني قانونا " ولأن القاضي العادل يصل إلى العدالة حتى من خلال قانون ظالم .

وأخذني سجاني إلى مكاتب التحقيق ,ووجدت قيدا حديديا ينتظرني سرعان ما وضع بيدي , ومجموعة من جنود بلوكات النظام مدججين بالسلاح وأمرني الضابط بركوب السيارة في حراسة هؤلاء الجنود بعد أن عصبوا عيني وانطلقت السيارة من باب السجن الحربي إلى أين ؟ إلى مجهول ينتظرني هل إلى رمي بالرصاص في مكان بعيد عن الأنظار ثم يخيروا أهلي بهروبي من السجن كما فعلوا مع عائلة بدر القصبي والسيد المشتولي اللذين قتلا بالتعذيب ثم أخبروا ذويهم بهروبهم .. مصير يعلمه الله .. ولكني كنت واثقا بعدالة السماء وكان الاطمئنان يسيطر على كل جوارحي .

ووقفت السيارة بعد فترة ليست بالطويلة ونزلت منها وقادني الحراس والعصابة لا تزال على عيني حتى دخلت الزنزانة ووجدت نفسي بمعتقل القلعة الرهيب حيث الهدوء والقتل بالتعذيب .. وبعد ليلة حالكة الظلام لم أذق فيها طعم النوم لأنهم اغرقوا الزنزانة بالماء واخذوا ما أرتديه من ملابس بلا طعام وشراب .. هاجمتني حشرات الزنزانة تلسع جسدي في كل مكان ولا أكاد أتبينها بسبب الظلام الدامس وفي الصباح دخل على أحد رجال المباحث وضع الغطاء على عيني وقادني إلى التحقيق ما إن وصلت أمام المحقق حتى سمعت ضحكات ساخرة يضحكون لكوني عاريا إلا ما يستر عورتي مكبل اليدين معصوب العينين – انهالت الضربات بعصي غليظة وكرابيج دون أن أسمع إلا صوت الضربات .. أنفاس مكتومة جبانة تخشي التحدث معي حتى لا أميز أصواتهم وسألني صوت عن السلاح صوت عرفته وميزته صوت أحمد صالح داود رجل المباحث أجبت بعدم معرفتي مكانه .

وصدرت تعليمات بعودتي للزنزانة وحرماني من الطعام لثلاثة أيام متتالية .. لم ينفع معي حرب التسلط والتعذيب فجربوا حرب التجويع حتى اعترف تحت وطأة الجوع والعطش وكان يشفق على حالتي الحارس وكان من عساكر البوليس وفي بعض الأحيان يخرجني خلسة إلى دورة المياه وعندما أعود أجد كسرا من خبز ملقاة في ركن الزنزانة قلبه رق لحالي وأراد أن يقدم لى طعاما .. دون أن تقع أعين رجال المباحث عليه .

وبعد انقضاء أيام التجويع عدت للتحقيق معصب العينين ووضع بيدي قلما وطلب مني التوقيع على أى شئ أوقع ؟.

على تزوير وبهتان وأقوال نسبوها إلى ّ.. لم أتلفظ بكلمة منها ويا للعجب متهما يوقع على أقوال لم يدل بتا , ليقدم للمحاكمة بغير ما اقترف وبغير ما اعترف !!

وفي اليوم التالي رحلت إلى السجن الحربي انتظارا للمحاكمة أمام محكمة الشعب دائرة اللواء حتاتة .

العودة إلى محكمة الجنايات لاستكمال محاكمتي في قضية حامد جودة

وصدر تعليمات الحكومة إلى رئيس محكمة الاستئناف لإعادة محاكمتنا في قضية حامد جودة التي كان قد أسدل عليها ستار النسيان قضية دفنت وترحمنا عليها منذ عام 1951 تبعث من جديد ( يحيي العظام وهي رميم)!!

تكونت دائرة جنايات لإعادة نظر القضية وتحدد يوم لنظر القضية وأخطرت المحكمة الدفاع لحضور القضية وعرف شقيقي الأكبر الحاج محمد , ووالدتي بموعد خروجنا من السجن الحربي إلى محكمة الاستئناف وجاءوا لحضور الجلسة ولرؤيتي بعد غياب طال مداه .

وخرجنا للمحكمة حليقي الرؤوس حفاة الأقدام مهلهلي الثياب آثار التعذيب لا زالت تترك بصماتها على وجهي وعيناى متورتان لما أصابهما من كدمات وما إن رآني أخي ووالدتي حتى أصابهم الذهول من هول هذا المنظر الذي ما كانوا يتوقعونه ووقف الأستاذ حسن الجداوي الموكل عني يبدي أسفه لتقديم القضية وبعثها من مرقدها بعد أن واراها التراب .

ووقفت بكل جرأة أطلب من المحكمة إعادة اعتقالنا على ذمة هذه القضية بعد أن كان قد أفرج عنا منذ عام 1951 منذ ثلاث سنوات وذلك حتى تتحول إلى سجن مصر بعيدا عن هذا الباستيل ولكن تدخل رئيس قوة الحراسة وطلب من المحكمة إعادتنا للسجن الحربي حسب التعليمات .

وصدر قرار المحكمة باستمرار الإفراج .. وعدنا إلى السجن الحربي انتظارا لتحديد موعد المحاكمة .

محاكمتي أمام محكمة الشعب .. دائرة اللواء صلاح حتاتة

أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا بتكوين دوائر عسكرية تحاكم أمامها وكانت الدوائر التي سأحاكم أمامها برئاسة اللواء صلاح الدين حتاتة, ومثل الادعاء فيها الضابط سعد الدين خليل .

وكانت قرارات الاتهام التى وجهت لنا لا تزيد عن نصف صفحة بأننا سنقلب الحكم بالقوة .

وفي يوم المحاكمة ديسمبر 1954, نقلنا في سيارات لوري كبيرة تحت الحراسة إلى مبني الكلية الحربية وجلسنا وكأننا في لجنة امتحان في مطعم الكلية انتظارا للمحاكمة ,,ووكل والدي رحمه الله الأستاذ فتحي المسلمي المحامي للدفاع عني في هذه القضية رغم أن الدفاع كان لا يجدي لأن الأحكام كانت موضوعة من القيادة السياسية .

وكان الأستاذ فتحي جريئا شجاعا قبل الدفاع في الوقت الذي عز فيه الدفاع عن الحق ولكنه دفع ثمن قوله الحق بمصادرة أمواله ووضعه تحت الحراسة إلى أن توفي رحمه الله .

طلب الأستاذ فتحي من المحكمة تأجيل نظر القضية للاطلاع على ملفها وسرعان ما فوجئ بأنه لا توجد أوراق للقضية سوي قرار الاتهام .

وتعجبت الأستاذ من تلك المسرحية , وترافع مبينا بطلان هذا الادعاء لعدم توفر أركان الاتفاق الجنائي وطلب لى البراءة , وترافع الادعاء طالبا إبعادي نهائيا عن تعليم النشئ حتى لا أعلمهم الشغب والإرهاب وعندما سألني رئيس المحكمة عن درايتي بالأسلحة فأجبته بأنني أجيد استعمال جميع الأسلحة كما أنني لى دراية تامة باستعمال جميع أنواع المفرقعات وأنني حاربت اليهود في فلسطين والانجليز في القنال وعندما سألني عن من قام بتدريبي على هذه الأسلحة والمفرقعات أجبت بأنني دربت بمعسكر قطنة بسوريا عام 1948 .. وكان هذا المعسكر تابعا للجامعة العربية لتدريب المتطوعين في حرب الانجليز .. فكان يشرف على التدريب في هذا المعسكر حضرة المدعي العام سعد الدين خليل الذي يطالب الآن بإعدامي شنقا .. ونظر رئيس المحكمة إلى المدعي العام مبتسما قائلا له : على حيدخلك السجن يا سعد ... وانصرفت من المحكمة إلى المطعم ,وبسرعة مذهلة سمعت المحكمة جميع المتهمين , وكنا حوالي تسعين متهما يهتفون مسرحية هزلية وليست محاكمة – وتأجلت القضية إلى سماع الحكم , وكان الحكم قد وضع مسبقا في مجلس قيادة الثورة .

وفي اليوم المحدد لسماع الأحكام انتقلنا إلى الكلية الحربية ووقفنا طوابير وكان كل من يدخل لسماع الحكم يخرج مبتسما وكأن الحكم بالبراءة وعندما كنت أسأل من يخرج عن حكمه كان يقول لى الإعدام شنقا والابتسامة لا تغادر شفته ما الذي كان يضحك هؤلاء ؟ إنهم يهتفون في أعماقهم وعجلت إليك ربي لترضي ... واستمعت إلى الحكم على الأشغال الشاقة 15 سنة وكانت أحكام هذه المجموعة ما بين الإعدام شنقا والأشغال الشاقة المؤبدة والأشغال الشاقة 15 سنة .

ورجعنا إلى السجن الحربي لنجد الصول ياسين في استقبالنا وبدء في تصنيفنا , الإعدام في زنازين خاصة بهم والأشغال الشاقة المؤبدة في مكان آخر والأشغال الشاقة لمدة 15 سنة في سجن آخر ... وكنا في عزلة تامة عن بقية المحبوسين تمهيدا لترحيلنا إلى ليمان طره .

الترحيل إلى يلمان طرة

رحلنا إلى ليمان طره وكان معنا نخبة كبيرة من ضباط الجيش والبوليس وأعضاء مكتب الإرشاد العام وجميع قيادات الجماعة والتنظيم وبمجرد أن وصلنا الليمان حتى أمرنا باستبدال ملابسنا المدنية بملابس المسجونين المهلهلة الممزقة ثم وضعت القيود الحديدية في أرجلنا سلاسل حديدية طويلة تصل من البطن إلى أسفل الساقين تزن كل منها 4 كيلو جرامات ولم يصرح لنا بارتداء أحذيتنا وسرنا في طابور حزين حفاة عراة ولا نسمع سوي صوت أجراس الحديد إلى أين ؟ إلى عنبر الجبل .

العمل بالجبل

وكان العمل بالجبل يبدأ في الصباح الباكر ونعود مع غروب الشمس وكنا نتناول طعام الليمان في الغداء وهو الفول المسوس في الجبل وسط الأتربة ولهيب الشمس .. طعام بسيط ومشقة كبيرة نقضي بياض نهارنا في تكسير الحجارة بالديناميت ثم حملها على ظهورنا إلى قطارات البضاعة وكان معنا إخوة لا يتحملون هذا العمل المضني أمثال المرحوم الدكتور خميس حميدة والمرحوم كمال خليفة والدكتور حسين كمال الدين, والأستاذ صالح أبو رقيق, والأستاذ صلاح شادي وغيرهم .. وكنت أستعين بالنزلاء الأقوياء من غير الإخوان بدلا من هؤلاء الإخوة مقابل اتفاق مالي .. وكان ضوء الشمس يستطع على هذه الحجارة البيض1اء مما يسبب وهجا يسبب ضعفا في قوة الإبصار .. وقد أصيب الدكتور صلاح الدين وزير الخارجية في حكومة الوفد بهذا النوع من المرض , فكان فاقد الرؤية مما جعل طبيب الليمان يمنعه من الخروج للجبل .

حياة الجبل حياة كلها مشقة ومتاعب حياة كلها سخرة ومظالم حتى الطبيب بمنته الإنسانية كثيرا ما كان يقسو قلبه ليصبح كهذه الحجارة التي نقطعها فكان إذا عرض عليه مريض من الجبل يتمارض حبسه ويوضع في التأديب ثم يلبس بدلة حمراء عن باقي نزلاء الجبل وتضاعف عليه مقطوعية الصخرية .

هذه الحالة اللاإنسانية جعلت النزلاء من غير الإخوان يضعون سيقانهم تحت عجلات القطار لبترها , لأنه في هذه الحالة يوضع في درجة تؤهله بعدم الخروج للجبل .

الترحيل إلى الواحات الخارجة

وبعد أن مكثنا في هذه الحالة القاسية ما يقرب من عام بين الأغلال والحجارة وفي هذا العمل المضني الشاق , وكنا أثناء هذه الفترة نحاول الاتصال بخارج الليمان نرفع شكوانا إلى جمعية حقوق الإنسان كي ترفع عنا هذه المظالم لأن جريمتنا ليست جريمة قتل , ولكنها جريمة سياسية وللمسجون السياسي معاملة خاصة بخلاف المسجون العادي وكنا نرسل هذه الشكاوي عن طريق زوارنا ومصادفة اكتشفت إدارة الليمان ذلك وفورا صدرت التعليمات بالترحيل للنفي بالواحات – ورب ضارة نافعة – وكان الله سبحانه وتعالي قد اختار لنا حياة أهدأ من هذه الحياة القاسية بعيدا عن حياة الجبل .

رحلنا وكان معي قادة الجماعة والضباط ومجموعات من النظام الخاص ممن يخشون تواجدهم بداخل مصر وركبنا قطارا خاصا مغلقا يستعمل في نقل الحيوانات أبوابه ونوافذه عليها قضبان حديدية وكنا نهتف من وراء هذه القضبان ضد الظلم , وقيادة الثورة وعبد الناصر وما إن وصلنا إلى محطة الواسطي بالصعيد حتى ركبنا قطارا آخر ليسير وسط الصحراء إلى الواحات وكان الوقت في رمضان والجو حارا ولفحات القيظ تضيق بها صدورنا والماء شحيح في الصحراء لدرجة أنه صعب على كبار السن الصيام فأفطرا ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) واستمر القطار في سيره ما يقرب من العشر ساعات وذلك لعدم استواء الطريق وما ان وصلنا الواحات الخارجة بعد رحلة شاقة طويلة وسط الصحراء الغربية وكنا نتوقع أن يكون الطغاة في انتظارنا في المحطة بعد هتافات الطريق الصاخبة ولشدة ما كانت فرحتي عندما رأيت مأمور السجن الذي سنقيم به في معتقل جناح هو صديق طفولتي .. ويربطني به روابط المحبة والمودة وما أن رآني حتى تعانقنا طويلا وفرح الإخوان بهذا اللقاء وتبدل حالهم وقلقهم وطمأنهم الضابط بأنه سيوفر لهم جميع إمكانيات المعيشة والراحة , وركبنا السيارات التي أقلتنا إلى قلب الصحراء في سجن جناح وفي سجن جناح أقمنا خيامنا وهو سجن مفتوح تحيط به الأسلاك الشائكة ويقوم على حراستنا عساكر من الجيش وقمنا بعد أن نصبنا الخيام بفرشها بالبطاطين في هذا الظلام الدامس وكنا ضيوفا على الحيات والعقارب التى تسرح في أرض لمعسكر .

وفي الصباح بدأنا العمل الجاد لتنظيم حياتنا وطعامنا وتوصيل المياه للوضوء والشرب وأقمنا فرنا لنخبز العيش ومطعما لنتناول الطعام فيه وحولنا معيشتنا بهذا المعسكر إلى معيشة هادئة وزرعنا الأرض فأنبتت ما نحتاجه من خضروات وحاول إخواننا المهندسون الزراعيون عمل أجهزة لتفريخ البيض ونجحت التجربة في تفريخ الدواجن فصارت ثروة حيوانية تكفي ما نحتاجه من لحوم وبيض .

كما أقمنا مسجدا كبيرا نتجمع فيه للصلاة ونتجمع فيه لبحث أمورنا ونستمع فيه إلى دروس دينية وعظات روحية تربطنا بدعوتنا وتذكرنا دائما بابتلاء أصحاب الدعوات في سبيل رسالتهم مما يعطينا زادا وصبرا على تحمل متاعب هذا المنفي وهجر الأهل والأولاد – وديعة عند خير من يصون الوديعة .

وكان يلقي هذه الدروس فضيلة المرحوم الشيخ أحمد شريت عضو مكتب الإرشاد وغيره من إخواننا الدعاة .. وأذكر الأستاذ فارس فريح والمرحوم الأستاذ شوقي كحلة , وكانت علاقتنا بالمسئولين عن المعتقل حسنة فكانوا يحضرون لنا ما نحتاجه من فاكهة وأطعمة على حسابنا وكنت أنا مندوبا عن إخواننا بالمعسكر في الاتصال بإدارة المعتقل وتوفير كل احتياجاتنا وتنظيم زيارة الأهالي لنا بعد أن سمحت الدولة بالزيارة في هذه المناطق النائية وكان زائرونا يتكبدون مشقة الطريق في الوصول إلينا فضلا عن حرارة الجو ولكن كانت فرحتهم بلقائنا تمسح عن نفوسهم هذا العناء وكنا نقيم حفلات ترفيهية كي ندفع عن أنفسنا الملل والسأم وكان يشاركنا احتفالاتنا المسئولون عن المعسكر .

واستطعنا إحضار معدات رياضية من ملابس وأجهزة رياضية وتكونت عدة فرق رياضية من كرة قدم وكرة سلة والكرة الطائرة والبنج بونج والراكت وكانت الملاعب الرياضية تشهد لهؤلاء الذين خططوها وأعدوها حتى وكأنها في أحسن نادي رغم ضيق الإمكانيات المتاحة لهم .

وانتظمت حياتنا وهدأت أمورنا إلا من بعض المضايقات الجو من الحرارة والأتربة والرياح الشديدة التي كانت تقتلع الخيام , وحشرات الصحراء من عقارب وأفاعي التي كانت تلسع كل من تصادفه , ولم تصرح الدولة لنا بطبيب يشرف على هذا المعسكر ويعالج مثل هذه الحالات الطارئة ولكن استطاع إخواننا ألأطباء من إقامة مستشفي بداخل احدي الخيام وأحضروا له بعض الأدوية والأجهزة الطبية من أموالهم الخاصة وكان يشرف على العيادة بهذا المستشفي المتواضع من الإخوة المعتقلين: الدكتور سيد عواد والدكتور منير أبو حسين والدكتور علي الغريب والدكتور علي شهوان .

تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي 1956 وموقفنا منه

وفي 26 يوليو 1956 أصدر جمال عبد الناصر قرارا بتأميم قناة السويس واعتبار القناة شريانا مصريا لأنها تسير في أرض مصرية وأن مصر ستعوض أصحاب الأسهم وزحفت القوات المصرية لاحتلال مبني قناة السويس وكسر الاحتلال .

واعتبر الإخوان هذا العمل عملا وطنيا وأن خصومتنا لعبد الناصر لا تمنعنا من أن نقول له أصبت كما قلنا له أسأت عندما وقع اتفاقيته مع الانجليز وأن هذه الخطوة خطوة وطنية وتذكرنا رأى الإمام الشهيد في هذه القناة باعتبارها وكرا للاستعمار وود لو تطمس ولو بجثث الإخوان لأنها وكر الاستعمار .

وما إن تحركت جيوش العدوان من اليهود الانجليز والفرنسيين حتى ندد الإخوان وهم بسجنهم بهذا العدوان وودوا لو تفتح لهم السجون ليذهبوا إلى صفوف القتال ليؤدوا واجبهم الوطني نحو وطنهم ودينهم وهذا ما أمرهم به إسلامهم : ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) .

وأعلنوا استعدادهم لعودة عقب معركة النصر إلى سجنهم لأنهم لا يساومون على حريتهم ولكنهم يقررون ذلك بدافع من إسلامهم ووطنيتهم وتبلور هذا الرأى لى برقية ترسل لعبد الناصر وتحمله فيها مسئولية حرماننا من خوض معركة الجهاد , ولكن البعض اختلف عن الرأى والتزم الصمت انتظارا لما ستسفر عنه الأحداث .

أما الإخوان الذين جاهدوا اليهود في فلسطين والانجليز في القنال فقد رغبوا وأصروا وألحوا وأرسلوا برقيتهم إعزازا إلى الله " نحن الذين شاركناكم الجهاد المقدس في فلسطين والقنال نمد إليكم الآن يدا مخلصة في رد المعتدين ونحملكم أمام الله والتاريخ مسئولية حرماننا من تأدية هذا الواجب المقدس ونحن على أتم الاستعداد للعودة إلى السجن عقب معركة النصر " ووقعوا عليها وتحملوا مسئوليتها وتسلمها مأمور السجن كي يبلغها إلى عبد الناصر وسارت الأحداث سريعة وانسحب المعتدون .. ورد عبد الناصر ببرقية شاكرا لهؤلاء أنه مدخرهم لمعركة أخري , ولكن لم يعجب هذا الموقف بعض الإخوان ممن جمعهم سجن جناح وانقسموا إلى رأيين كنت ممن حمل هذا الرأى وكذا الأستاذ محمود عبده والدكتور خميس وكيل الجماعة والأستاذ فتحي البوز وفارس فريح وضباط الإخوان أمثال المرحوم الصاغ فؤاد جاسر وحسين حمودة وجمال ربيع وضباط البحرية واليوزباشي جمال إسماعيل .

الترحيل إلى سجن القناطر

وصدرت تعليمات مصلحة السجون بترحيلي مع مجموعة من الإخوان إلى سجن القناطر الخيرية ولا ندري لذلك سببا ... ويبدو أنهم أرادوا أن ينقلوا من بالسجن إلى سجن المحاريق .. وفعلا نقل من بقي بسجن جناح إلى سجن المحاريق , ورحنا نحن إلى القناطر الخيرية وكان يشرف علينا الضباط عبد العال سلومة , وكان بالسجن مجموعة من الإخوان الذين رحلوا من ليمان طرة بعد حادث الليمان الذي راح ضحيته ثلاثة وعشرين قتيلا , وذلك بسبب تصرفات الضابط عبد العال سلومة , وكان من بين هؤلاء الإخوة محيي عطية الذي أصيب بعيار ناري في الليمان ومحمد علي حسن وسليمان حجر .

الترحيل إلى سجن الزقازيق

ولما لم يعجبني هذا الأسلوب الذي لجأ إليه هذا الضابط بسجن القناطر طلبت ترحيلي إلى سجن الزقازيق كي أكون قريبا من أهلي وحتى لا أشق عليهم أثناء زيارتهم لى , وكان قد رحل إلى هذا السجن الإخوة المرحوم الحاج غريب عبد العال وفارس فريح ومحمد النصيري والمرحوم محمد فؤاد مكاوي ومحمود عبد الله والمرحوم شوقي كحلة وكلهم من محافظة الشرقية .. وكان به أيضا مجموعة من الإخوان ممن حكم عليهم بالسجن 5 سنوات وأذكر منهم المرحوم الدكتور حسن عبد الحميد وإبراهيم منير وحسين حافظ وكانوا من الشباب الجامعي .

وكان يربطني بالمقدم صلاح وهبة مأمور السجن وبالدكتور إمام طبيب هذا السجن علاقات طيبة فأصدر المأمور أوامره بحسن استقبالنا ومعاملتنا معاملة طيبة وكان لنا حرية التنقل بداخل السجن كما أن الدكتور أعطانا بطاطين وصرف لنا السكر واللبن والفاكهة وصرح لنا بزيارات خاصة وعشنا فترة طيبة في هذا السجن .

وتم الإفراج عن الزملاء تباعا من هذا السجن بعد ترحيلهم إلى سجن مصر .. وبقيت أنا وحيدا بالسجن بعد أن أفرج عن بقية الزملاء بالعفو الصحي .

وعرفت أن سبب عدم الإفراج عني هو شك المباحث في أنني أعرف مخازن للأسلحة لعدم اعترافي بإحراز أسلحة .

وزارني الضابط رؤوف حمدي مفتش مباحث الشرقية ليسألني عن السلاح وأقنعته بأن من قال عني بذلك فهو واش يريد أن يخرج من السجن على أشلائي ومن يرض بذلك فهو إنسان معدوم الضمير .

وبعد أيام من هذا اللقاء طلبت للترحيل إلى مصر تمهيدا للإفراج عني وخرجت من السجن في ديسمبر 1959 إلى المباحث العامة مكبلا بالأغلال . وفي المباحث العامة فك العميد زهدي أغلالى من يدي بعد أن ألقي على درسا كله تهديد ووعيد, وفي خارج المباحث كان ينتظرني أخي الحاج محمد ولأول مرة منذ عام 1954 أخرج لأسير حرا في شوارع القاهرة بعد خمس سنوات من العذاب والسجن .

وتم الإفراج عن الزملاء تباعا من هذا السجن بعد ترحليهم إلى سجن مصر .. وبقيت أنا وحيدا بالسجن بعد أن أفرج عن بقية الزملاء بالعفو الصحي .

وعرفت أن سبب عدم الإفراج عني هو شك المباحث في أنني أعرف مخازن للأسلحة لعدم اعترافي بإحراز أسلحة .

وزارني الضابط رءوف حمدي مفتش مباحث الشرقية ليسألني عن السلاح وأقنعته بأن من قال عني بذلك فهو واش يريد أن يخرج من السجن على أشلائي ومن يرض بذلك فهو إنسان معدوم الضمير.

وبعد أيام من هذا اللقاء طلبت للترحيل إلى مصر تمهيدا للإفراج عني وخرجت من السجن في ديسمبر 1959 إلى المباحث العامة مكبلا بالأغلال وفي المباحث العام فك العميد زهدي أغلالي من يدي بعد أن ألقي على درسا كله تهديد ووعيد وفي خارج المباحث كان ينتظرني أخي الحاج محمد ولأول مرة منذ عام 1954 أخرج لأسير حرا في شوارع القاهرة بعد خمس سنوات من العذاب والسجن .

وسافرت في نفس الليلة إلى ههيا وكان عناقا حارا بيني وبين والدي ووالدتي وما حز في نفسي أننى علمت بأن والدي قد أصيب بذبحة بسبب اعتقالي .

وانتهت مرحلة قاسية من مراحل الحرمان والآلام في سجون مصر .. لتبدأ مرحلة الكفاح من أجل الحياة رائدي مخافة الله والعمل بدينه متحملا في سبيل عقيدتي ما يصادفني من مشاكل ومحن .

الاعتقال الأخير 6 سبتمبر 1965

وهذا الاعتقال الذي أرجو أن يكون الأخير ويعقبه النصر إن شاء الله .

هذا الاعتقال له جذور سياسية في هذا الوقت كان عبد الناصر محتاجا إلى أسلحة من روسيا وأفضل ما يقدمه للروس ثمن للسلاح هو ضرب الإخوان والتنكيل بالمسلمين أعداء روسيا الملحدة .. فأعلن وهو في زيارة للاتحاد السوفيتي ومن فوق منصة الكرملين في 6/9/ 1965 تهديده للإخوان وأنه سيضربهم بيد من حديد وسوف لا تأخذه بهم رحمة ولا رأفة وفورا كان زبانيته ورجال أمنه ينفذون تعليماته واعتقل في هذا اليوم ما يقرب من عشرين ألفا من الإخوان وقابله الشيوعيون بالمطار بالترحيب والهتاف حاملين لافتات كتب عليها إضراب ... إضراب الإخوان ... قتل ... قتل ... يا جمال .

تحريض على الدم والثورة الحمراء ... الاعتقال على أشده ,كل أجهزة الدولة بوليسية كانت أم حربية البوليس الحرب والمباحث الجنائية والعامة تشترك في اعتقال الإخوان .

وتعلن المباحث الجنائية العسكرية عن تنظيم جديد للإخوان وطبيعي أن يتجمع شباب الجامعات ممن تجمعهم عقيدة الإسلام لكي يحافظوا على دينهم في دنيا مليئة بالشرور والآثام ... انتظموا متمسكين بحبل الله عاملين على نصرة دينه .

اعتقالي

وفي 4/9 وكنت بمنزلي بههيا وسط زوجتى وطفلاي سحر وأيمن وكانت سحر في العام الثالث في العمر وأيمن في عامه الأول .. وكنت أعالج من نزلة دوسنتاريا حادة راقدا في فراشي .. إذا بطرق على منزلي .... مجموعة من الضباط , وفي لحظات كانوا منتشرين بداخل الشقة يبحثون على السلاح والمنشورات رغم أنني بعد أن خرجت من محنتي في عام 1959 بدأت في تنظيم حياتي فتزوجت وأنشأت مدرسة خاصة لأنني خرجت من المحنة مفصولا من عملي .. وبدأت في تضميد جراحي ولم يكن لى اتصال بأى تنظيم لا سري ولا علني .

ولكن يد الغدر امتدت وأخذتني من بين أولادي وأسرتي وأودعت سجن الزقازيق وبت ليلتي أشكو من التهاب في الأمعاء أنزف دما بلا علاج ولا طعام والمغص يقطع أمعائي , طلبت شراء دواء لتسكين حالتي فرفض طلبي ولم يسألن أحد , ولم أر أحدا .. بت ليلتي في حجز المحافظة وفي مساء اليوم التالي رحلت إلى القاهرة وحيدا ومكبلا بالأغلال وكأني متهم في قضية ولكنها قضية الكفر يحارب الإسلام روسيا السوفتية وعميلها عبد الناصر أرادت ضرب كل تكتل إسلامي للإخوان وغيرهم من شباب محمد والجمعية الشرعية والتبليغ وكل من له صلة بالعمل الإسلامي .

وصلت القاهرة واتجهت بنا السيارة إلى المباحث العامة .. ذكرني المكان بذكريات قديمة لها عمق في نفسي ودارت بعقلي أفكار كثيرة لأن هذا المكان الداخل فيه مفقود.

وفي صالة كبيرة وجدت عددا كبيرا من المعتقلين يفترشون الأرض بلا غطاء ولفت نظري أن رأيت عددا آخر من الفتيان المسلمات المتحجبات ينمن بلا غطاء وسرعان ما ألقيت عليهم بطانيتي وجلست أرضا أنتظر مصيرا ينتظرني .

الترحيل إلى معتقل القلعة

وقبل طلوع النهار وفي سكون الليل رحلت ومعي مجموعة من هؤلاء المعتقلين إلى القلعة ودار الزمن دورته لأعود للقلعة وما لى فيها من ذكريات مؤلمة وقفنا أمام الزنازين وكانت مفتحة الأبواب لنري من فيها وقد تلطخت منها الدماء ولم يظهر من هذه الضمادات إلا عيونهم الشاخصة يرفعون بأيديهم إلى السماء وكأنهم يشكون إلى الله جور هذا الطاغية وكنا لا نسمع إلا أنينا خافتا يصدر من هؤلاء المعذبين .

إننا الآن في سجن الباستيل وليس معتقل القلعة أن تعذيبا عنيفا ينتظرني تري من هؤلاء الذين كانوا يشيرون لى وقد شحبت وجوههم من هول ما لاقوه حتى أنني لم أعرفهم .. إنهم لقوا ربهم شهداء .. إنهم بدر القصبي الطالب بكلية الآداب والسيد المشتولي وزكريا المشتولي : (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر ) .. قتلهم الضابط أحمد صالح دواد وزبانيته وذهب رجال المباحث بعد أن أخفوا جثثهم ليسألوا أهليهم عنهم مبلغين بفرارهم من السجن حيلة قذرة وكذب مفضوح .. والله من ورائهم محيط . ( وقد خاب من افتري ) .. ( وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون ) وبت ليلتي في هذا المكان الموحش وكان معي في زنزانتي الأخ أحمد زكي حسن والأخ محمد علي حسن , وفي الفجر رحلنا بعد أن وضعوا أغطية على عيوننا وركبنا السيارات ولا نعلم إلى أين تسير وفي أى مكان وقفت بنا السيارات .. اختاروا سكون الليل وف يطرق غير معبدة كي نكون بعيدين عن أعين الأهالي , حتى لا يرانا أحد ونحن معصوبوا العيون ومكبلوا بالأغلال وكأن لصوصا خطفوا ضالتهم وفروا بها .

توقفت السيارات وأمرنا بالنزول منها ودخلنا مكانا موحشا وما زلت الأقنعة على عيوننا وحاولت إزاحة عطاء العينين قليلا في غفلة حارسي ورأيت أهوالا لم تصدقها عيني أناسا مصلوبين عراة على جدران فناء السجن الحديدية وآخرون قد مزقت أجسادهم من هول ما لاقوه ... ساحة السجن وكأنها بركة من الدماء وبها بقايا ملابس ممزقة .

السجن يخضع لسيطرة المباحث العامة , ورجال المباحث العامة في أيديهم العصي الغليظة والكرابيج – هول ليس بعده هول – أصوات وأنات تنبعث من زنازين مغلقة .

أيقنت بأننا سنمر عبر هذه التجربة القاسية .. طلب منا تسليم ما معنا من نقود أو ساعات أو نظارات , ودخلنا السجن ورفعت الأقنعة لنري الهول الذي ينتظرنا وكانت أبواب الزنازين مفتحة عليها قضبان حديدية نرى منها الخارج نري المحمصة التي أعدت لنا بالطابق الأرضي للسجن وكان يشرف على حراستنا ضباطا من مديرية الأمن وعساكر من بلوكات النظام فكان هذا المعتقل بسجن أبي زعبل لا يخضع لنظام مصلحة السجون كما سبق أن وضع سجن الاستئناف تحت سيطرة البوليس السياسي عام 1948 وكأن التاريخ يعيد نفسه .

وفي ليلة الوصول بدأ التحقيق معي جاءني صول من رجال المباحث العامة وطلب مني أن أضع عصابة على عيني والتحق بقطار التحقيق كما كان يسميه التحقت بقطار العميان كل منا يضع يده على كتف أخيه ويقود قطار العميان الصول . وصبت مكاتب التحقيق ووقفت حافي القدمين في مكان كله شوك وأحراش وأمرت أن أعمل محلك سر , واستمر وقوفي في محلك سر من المساء حتى قرب الفجر و وكدت أن يغمي علىّ من الإرهاق لمرضي , وكلما توقفت على الحركة أشعر بضربة عصي غليظة تهبط على عنقي فأسرع في التحرك وكنت أسمع خلفي في مكاتب التحقيق صراخا وعويلا ينخلع له قلبي , فكنت أشفق عليهم وأدعو الله لى ولهم , وما أقسي الانتظار !! ليتهم يطلبوني للتحقيق !! وفجأة طلبت وأراد الله أن ينجيني من القوم الظالمين ولا سيما وأن المرض قد اشتد وأن الدوسنتاريا أفقدتني قدرتي على التحمل , وعلم الله ما بي من ضعف فنجاني ويبدو أنهم قد أرهقوا من كثرة تعذيب من سبقوني وأمر الحارس بإعادتي إلى الزنزانة وحمدت الله ونمت ليلتى بسلام وكانت رحمة من الله قذفها في هذه القلوب التحجرة عندما طلبت منهم بطانية لمرضي فصرحوا لى بها .

المعاملة داخل معتقل أبي زعبل

كان قائد هذا المعسكر ضابط يسمي فوزي.. وكان يعاونه ضباط من البوليس منهم الشرس الذي كثيرا ما يعتدي على المعتقلين ويتفوه بألفاظ بذيئة تنم على أصله ومنهم من على خلق وقد جمع الله المتناقضات في مكان واحد .

ولما وصلت حالتنا إلى أسوء ما يتوقعون .. وقد تدهورت صحتنا أمام أعين المسئولين لأننا كنا ممنوعين من الخروج من الزنازين حتى أصابنا الكساح ومرض الأنيميا, وكان طعامنا رديئا .. طعام المسجون العادي وأقل , وكان العنبر الذي لا يتسع إلا لعشرين فردا ينام فيه مائة لكل فرد مساحة بلاطة فقط مما يتعذر معه النوم والراحة ,,و فضاقت النفوس , وبلغت القلوب الحناجر ضيق ليس بعده ضيق وحرمان ليس بعده حران وكان يجاورني في نومي الأخ عمر أمين وكان مريضا بالنقرس ويتألم إن لمسه أحد أثناء نومه فكنت أؤثره بالعشرين سنتمتر المخصيين لى وأقف في مكان بلا نوم .

وكان الجو حارا والعرق يتصبب من الجبين بسبب ازدحام المكان وانتشرت الحشرات كالقمل بيننا بسبب هذا الازدحام وكنت أري من خلف القضبان الحديدية إخوانا مصابين والدماء تنزف من رؤوسهم وكانوا لا يستطعيون الوقوف , ينامون في العراء بلا غطاء أو فراش ولا طعام ... ينهال عليهم الضرب بين لحظة وأخري وآخرين معلقين على القضبان الحديدية وكثيرا ما كان يغمي عليهم . وكانوا يلقون من أعلي مغشيا عليهم وغيرهم قد نصبت لهم التعليقة وكانت مؤلمة قاسية يعلق الإنسان من قدميه ثم يتدلي برأسه ضاغطا على ساقيه فوق قضيب من الحديد وكان الدم يتفجر في رأسه والعرق يتصبب من فوق جبينه موت محقق وعذاب ليس بعده عذاب وكان يشرف على ذلك اللواء عصمت الرخاوي قائد المعتقل وغيره .

وفي ليلة صادفت ليلة حادث المنشية أرادوا أن يقدموا إلى عبد الناصر هدية هذا اليوم في شكل صور لنا بتسجيل أصوات تألمنا كي تنزل على قلبه بردا وسلاما , ولكن هذه الآهات وتلك الأنات والصرخات ستكون له عذابا وآلاما .

وطلب قائد المعتقل نزول كل عنابر المعتقل زاحفين على ركبهم بعد أن وضعوا عصابات على أعينهم حتى لا نراهم وفي المحمصة ينبطح الجميع على وجوههم رافعين أرجلهم إلى أعلي وكان يتوسط هذه المجموعة عدد من العساكر والصولات الكلفين بالضرب وبأيدي كل منهم عصا غليظة وانهالت العصي على أرجل جميع أفراد العنبر مرة واحدة وتعال صيحات الألم من هول ما تم في هذه الليلة , وكسرت بعض الكعوب وأصيبت ركب الإخوان وكشطت جلودهم من جراء الزحف على الأسمنت والحصي حتى كنا لا نستطيع السجود في الصلاة .

ولما ساءت حالتنا الصحية كما سبق أن ذكرت صدرت التعليمات بتحسن المعاملة فسمح لنا بالكانتين والنقود لشراء ما يلزمنا من الكانتين .

كما سمح لنا بإرسال خطابات وذلك بعد مضي عام كامل لا يعرف ذونا عنا شيئا ... هل نحن أموات أم أحياء ؟!.

كما سمح لنا بالخروج لمدة نصف ساعة للسير في الهواء وذلك لسبب ظهور حالات الكساح . وقد أصبت بنزلة برد حادة في المثانة بسبب قسوة الجو وعدم العلاج والوقاية

وبعد أن انتهي دور قائد المعتقل عصمت الرخاوى , جاء دور الضابط سلومة وهو معروف بمكره ودهائه وقسوته , فجمع بين ككل المتناقضات وقد اشترك في معركة طره التي ذهب ضحيتها 23 قتيلا من شهداء الإخوان وهو الذي قاد معركة الحرب النفسية ضد الإخوان بسجن القناطر الخيرية .

الترحيل إلى معتقل القلعة

وفجأة والحال يسير بنا إلى أحسن والتحقيقات تكاد تنتهي والقضايا ستقدم إلى المحاكم العسكرية إذا يبلغني الضابط أسعد بأنني مرحل من أبي زعبل إلى أين وإلى معتقل القلعة دهشت لذلك لأنني مكثت ما يقرب من عام ونصف بدون تحقيق.

ومعتقل القلعة رهيب .. أزهقت فيه أرواح وعذبت أبدان, وذهبت إلى هذا المعتقل حتى عصبت عيوننا وأدخلنا زنازين انفرادية ورأيت معنا في الزنازين الأخ صلاح العطار والمرحوم محمد فؤاد مكاوي والسيد الريس ومحمد عجوز وطه السعدني من حلوان , وعندما رأيت هذه المجموعة أيقنت بأن لعنة موضوع سلاح 1954 تطاردني بعدما يزيد عن عشر سنوات وبعد أن حكم على في هذه القضية بالأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عاما ثم أفرج عني بالعفو الصحي بعد أربع سنوات .

وبدأ التعذيب بكل شدة وضراوة وعلقت في عود حديدي في وضع معكوس أى الرأس إلى أسفل واليدين مكبلين مع الساقين بحبل روبي بقيت على ذلك الوضع ساعات طويلة وكادت روحي تزهق يقينا لولا حضور أحمد صالح داود في هذه اللحظات هذا الضابط الظالم القاتل أحمد صالح يسوقه الله لى في هذه اللحظات ليقول كلمة حق تنجيني مما يفعل هؤلاء الطغاة ولما أيقنوا بعد شهادة أحمد صالح بأنني لا أعرف مكانا للسلاح لأن السلاح رمي بالنيل .. صرحوا لى بالملابس والطعام .

واستمرت هذه الحياة المضطربة في ذلك المكان الموحش ما يقرب من شهرين ثم أمروا بعودتنا إلى معتقل أبي زعبل قد أفرج عنا .

الترحيل إلى مزرعة طرة

وصدرت تعليمات الحكومة بترحيل أعداد كبيرة إلى مزرعة ليمان طره تمهيدا للإفراج عنا .

وفي هذا الوقت قامت معركة الجيش المصري مع العدو الإسرائيلي في 1967 وخطب عبد الناصر خطابه الشهير الذي توعد فيه إسرائيل وأمريكا وانجلترا .. وانه سيلقن إسرائيل درسا قاسيا لن تنساه إذا حاولت العدوان على سوريا وبدأت الحرب وسمعنا أزيز الطائرات قصفت المواقع من حولنا .. ونحن أسري بداخل الزنازين لا حول ولا قوة .. سنموت حتما تحت الأنقاض ونحن الذين خضناها حروبا ضد هؤلاء الصهاينة ... وتطور الموقف سريعا ونحن لا نعلم شيئا عن أخبار المعركة لأنهم عطلوا الإذاعة ولم يسمحوا لنا بالخروج من باب العنبر .. وسمعنا فجر يوم من إذاعة بعيدة بانتحار المشير عامر وعلمنا بأن قواتنا المسلحة أبيدت عن آخرها في صحراء سيناء نتيجة لتهور عبد الناصر .

السماء تتخلي دائما عن الظالمين السفاحين والنصر لا يتحقق إلا بالطاعة والعدالة .. صلاح الدين لم ينتصر في حطين على الصليبيين إلا ودموعه تبلل لحيته طالبا النصر من الله .

المسلمون الأوائل الذين دوخوا جيوش الفرس والروم ما انتصروا إلا بمخافة الله وطاعته .

أما عبد الناصر الذي قال لنا أحد جلاديه وهو حمزة البسيوني لو جاء الله هنا بالسجن الحربي لحبسته .

عبد الناصر الذي جر على بلده عار ليس بعده عار .. عار الهزيمة والذل وازدادت الحالة من سوء إلى أسوأ .. وأراد الله أن يرينا مصرع هؤلاء الطغاة جلادينا بالأمس .. سجناء اليوم .

يدخل حمزة البسيوني وشمس بدران جلادا السجن الحربي السجن وفي نفس الزنازين التي حبسنا فيها.

ودارت الدائرة على الظالمين والعاقبة للمتقين .

مرض .. ثم الإفراج

وفي هذه ألثناء أصيبت رجلي اليسري بجلطة نتيجة التعذيب بالتعليقة ونقلت على إثرها مستشفي السجن بمزرعة طره وفقدت القدرة على المشي فترة طويلة وعولجت أثناء مرضي بالهبرين وأدوية السيولة حتى استطعت السير بصعوبة ومازلت على حالتي حتى الآن .

وكان يشرف على علاجي من هذه الجلطة أطباء الإخوان وهم الدكاترة ماهر حتحوت وسيد عواد وعبد العزيز إسماعيل ومنير أبو حسين .

وبعد أن تماثلت للشفاء من هذه الجلطة أصبت بحمي الصفراء والتهاب الكبد الوبائي وعزلت في خرجت خاصة وأحسست بتعب شديد , انتفاخ في الكبد وارتفاع في درجة الحرارة ومنع الأطباء الإخوان عن زيارتي لإعطائي فرصة للراحة لأنني كنت في حالة إعياء تام .

وشاءت الإرادة الإلهية أن تتحسن حالتي وتنقلب حالة اليأس التي عمت المكان إلى اطمئنان , ويسمح لى بالسير وبشرب السوائل . ثم حولت إلى مستشفي ليمان طرة لعمل أشعة على المرارة وطبعا لا يسمح الدكتور خليل المشرف على مستشفي المزرعة بذلك إلا بعد اتصالات مكثفة ورجاءات متعددة لأنه كان عين المباحث بداخل المزرعة .

ذهبت إلى مستشفي الليمان وعمل لى أشعة على المرارة وجاءت النتيجة بوجود حصي والتهاب بالمرارة وعدت إلى المزرعة متحيرا ماذا أفعل ؟ ومغص المرارة يفتك بي وامتنعت عن أكل كل ما فيه دسم حتى بدأ جسمي في الهزال ونقص وزني لدرجة غير معقولة السجن لا يوافق على إجراء جراحة تضع نهاية لهذه المتاعب ولتلك الآلام .

ليس لهذا الداء دواء إلا الجراحة وبقيت فترة أتجرع غصص هذا المرض .

وأنا على هذه الحالة والمغص المراري يعاودني في كل لحظات حياتي أراد الله لى حياة بعد أن أرادوها موتا محققا .. كتب لى نجاة بعد أن كانت هلاكا .. وفي منتصف ليلة في شهر نوفمبر 1967 وفجأة يعلن الميكروفون أسماء مجموعة من المفرج عنهم وكنت ضمنهم وكانت مفاجأة .

سأعود إلى زوجتي وأولادي وسأري نور الحرية حجبها عني طغيان عبد الناصر وأجهزته .. جهزت نفسي واستلمت ملابسي المدنية من أمانات السجن وخلعت ملابس السجن وارتديت بدلتي لم أصدق ولأول وهلة ظننها ليست بدلتي , ولكني هي بدلتي بعينها ولونها – ما هذا الاتساع الطارئ عليها- لم أكن أدري بأنني أصبحت بهذه النحافة المذهلة – وحمدت الله على ذلك ودعوته بالقبول .

غادرنا المعتقل في الساعة الرابعة صباحا .. مكثنا طيلة الوقت في إجراءات إدارية عميقة تتخذها الإدارة في مثل هذه الحالات وجهزت إدارة المباحث العامة اللوريات لنقلنا إلى خارج المعتقل , واندفعت بنا نحو كورنيش النيل وعند كوبري الملك الصالح نزلت وسرت من هناك إلى الروضة ولأول مرة منذ أكثر من عامين أسير بلا قيود حديدية في يدى .. أسير حرا في طريقي إلى منزلي بالروضة حيث تقيم زوجتي وأولادي سحر وأيمن ... طرقت الباب في فجر ذلك اليوم .. فتح لى الباب خالهم المرحوم الأستاذ محمد الشيخ مدير عام شركة مصر للتامين وكانت مفاجأة له أن يرآنى فرح ودهش عند رآني وقد نقص وزني واعتلت صحتي .

أيقظ زوجتي وأولادي فكانت فرحتي تعادل فرحتهم بعودتي احتضنت الأولاد وقبلتهم وانحدرت دموعي تبلل جبينهم ما ذنبهم ؟ يخطف أبوهم من بينهم بلا ذنب ولا جريرة ويبقي بعيدا عنهم عدة سنوات في غياهب السجن لا يعلمون له مكانا وغبت في تفكير عميق لم لا أترك هذا البلد مهاجر إلى الله ؟... إلى بلد أكثر أمانا .. وتذكرت قول الحق ( إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ..)