الإخوان وعبد الناصر القصة الكاملة لتنظيم 1965م

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان وعبد الناصر القصة الكاملة لتنظيم 1965م


للأستاذ / أحمد عبد المجيد

الإهداء

إلي الأحبة الذين أحببتهم قبل وبعد استشهادهم

سيد قطب

محمد هواش

عبد الفتاح إسماعيل

الذين ساروا في درب الجهاد الطويل الشاق باذلين كل جهد من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض .

حتى قدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الله ، راغبين درجات الشهادة السامقة .
أحمد عبدالمجيد

مقدمة الطبعة الأولي

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) [الأحزاب 23].

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام علي نبينا الأمين ، عليه وعلي آله وصحبه أجمعين ، والتابعين له بإحسان إلي يوم الدين .

وبعد ...

فلعل من الملاحظ لمن عايش الأحداث في مصر يعلم أنه لم يتعرض تشكيل أو تنظيم لمثل ما تعرض له تنظيم الإخوان المسلمين عام 1965م ، من الضجة الإعلامية التي نسجت حوله بواسطة أجهزة الإعلام المصرية المختلفة سواء الإذاعات المسموعة أو المرئية أو الكتب والنشرات الموجهة أو الخطب الكلامية علي مختلف منابر الخطابة ، ولم يستثن من ذلك أحدًا إلا نادرًا ، وحتى بعض المشايخ وعلي رأسهم شيخ الأزهر وقتها .

ولقد استثيرت الجماهير بشتى أنواع الاستثارة بدءًا من مرحلة التعليم الابتدائي وانتهاء بالتعليم الجامعي ، وإلي جانب القطاعات المهنية والصناعية والحرفية المختلفة ، مع تشويه صورة أعضاء التنظيم وأهدافهم ومقاصدهم بأنهم كانوا سينسفون ويقتلون ويدمرون ، ويعبثون في الأرض فسادًا ، إلي غير ذلك مما حوته أجهزة الإعلام الناصرية . والذي زاد من تأثير هذه الضجة ، أن المتهم لم تتح له فرصة ولو يسيرة لتوضيح الأمر وإجلاء الحقيقة ، كما فعل فرعون مصر الذي يضرب به المثل في الجبروت والطغيان ، إذ أتاح الفرصة لسيدنا موسي – عليه السلام – لتقديم بينته يوم الزينة في جمع من الناس ، ولم يكن المتهم كذلك يجد أي فرصة للدفاع عن نفسه إزاء الافتراءات الموجهة إليه . بل إنك لا تجد ولو واحدًا من ذوي العقول الراجحة أو من أصحاب العزيمة والشجاعة ليقول قولة حق في هؤلاء الناس ، الذين تكلم ضدهم كل الأجهزة .

ولم نسمع صوتا واحدا من الكتاب والأدباء والصحفيين ولا شيخ الأزهر نفسه – حسن مأمون – بدلا من أن يحترم نفسه , والمنصب الذي يتقلده ويلتزم الصمت علي الأقل , أصدر بيانا نشرته الصحف بتاريخ 11 سبتمبر 1965 باسمه بعنوان ( رأى الإسلام في مؤامرة الإجرام ) . لم يستطع هؤلاء جميعا أن يقولوا ولو كلمة واحدة لوجه الله تعالي , فالكل مرتعد , مرتجف من أن تصيبه هذه العاصفة التي لا تبقي ولا تذر في عهد عبد الناصر , ذلك الطاغية الجبار المتكبر , بل حتى أقرباء المعتقلين لم يستطيعوا الكلام أو اللجوء لأي جهة , فالكل مغمض العينين أصم الأذنين , مكبل اليدين , مطبق الفم , ومقيد اللسان , لا تجد واحدا يقول قولة الحق أو الدفاع عن هؤلاء , فالكل يخشي المصير المظلم المجهول . إنه العذاب الرهيب الذي قد يصل بأصحابه إلي الموت , بل لو كان الموت وحده لتقدم شخص راغبا في الشهادة , كما فعل مؤمن آل فرعون: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر 28]

ولقد صاحب هذه الضجة , ضجة أخرى , ولكنها كانت وقتها أخفت صوتا , وأضعف صدى , تلك هي القضايا الفكرية التي أثيرت عن التنظيم , هؤلاء يكفرون الحكام , إنهم يكفرون الناس , ويرمون المجتمع بالجاهلية , إلي غير ذلك من الأمور التي كان دافعها الأساسي هو غرس الحقد والكراهية في نفوس الناس من الإسلاميين بل ومن الإسلام نفسه . حتى هذه لم تتح فرصة لهؤلاء المتهمين أن يوضحوا الحقيقة الغائبة , ويجلوا الأمر , وحينما أراد الشهيد سيد قطب – رحمه الله – توضيح جاهلية المجتمع لما يسمي " المحكمة " التي يرأسها الفريق أول محمد فؤاد الدجوى قاطعه ومنعه من الكلام . أما الأمر الثالث الذي تعرض له أفراد التنظيم فهو ذلك العذاب الرهيب الذي وقع علي الجميع بلا استثناء , البري منهم قبل المتهم , الشيخ منهم والشاب السليم والمريض , حتى النساء لم يسلمن من الاعتقال والتعذيب , وبأساليب وحشية وقذرة , حتى خرج الكثير منهم وهم مصابون بالعاهات , أو الأمراض , ناهيك عن الشهداء الذي سقطوا في ساحات التعذيب . كل ذلك بأيدي ضباط وجنود , أنفقت عليهم الدولة ودربتهم ليكونوا حماة بلادهم ويذودوا عن أهلها وأرضها , أو هكذا يكون , ولكن الدولة سخرتهم ليستنفذوا طاقتهم وجهدهم للتنكيل بخيرة الرجال والشباب ، حتى أدخلوا السعادة علي أعداء الإسلام ، وتحملوا عنهم الجهد والعناء بدلاً منهم .

ويعجز القلم ، ويعقل اللسان عن وصف ما حدث مهما أوتي الإنسان من فصاحة القول ، وطلاقة اللسان ، ونحمد الله تعالي أن أزاح هذا الكابوس الرهيب الذي كان جاثمًا علي أنفاس مصر والمصريين ، ذلكم الطاغية الجبار المسمي " جمال عبد الناصر والذي أراح الله من شره البلاد والعباد . (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الانعام 45]ولعل هذه الصفحات المطوية الحالكة السواد من تاريخ مصر في عهد عبد الناصر وزبانيته ، تكون عبرة لغيرهم ، مما حدث لهم في دنياهم ، ناهيك عن آخرتهم .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

المؤلف

مقدمة الطبعة الثالثة

الحمد لله رب العالمين ، خالق السموات والأرض ، والصلاة والسلام علي الرسول الأمين وصحابته أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين . وبعد .. لقد مضت سنوات عديدة علي صدور الطبعة الأولي من هذا الكتاب ، وقد لاقي الكتاب في طبعتيه السابقتين رضي وقبولاً ، بفضل الله تعالي ، ومع ازدياد الطلب لمعرفة الحقيقة التي كانت غائبة ، والأحداث التي كانت خافية علي كثير من الناس ، وذلك لأخذ العبرة ، وتجنب الظلم والظالمين ، والوقوف سدًا منيعًا أمامهم ، وكشف أساليبهم وخططهم وفضح الأدوار التي يؤدونها لضرب فصائل الحركة الإسلامية

وصل اللهم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم .

القاهرة في 15 جمادي الأولي 1427هـ

الموافق 11 يـونـيــه 2006م

المؤلف

قصة هذه الأوراق

بعد الإفراج عني عام 1975م ضمن آخر دفعة من قضية 1965م أشار علي أحد الأصدقاء ، وهو صاحب مكتبة دار نشر بالقاهرة ، أن أكتب عن أحداث التنظيم وقصته مع السلطة ، ولكنني رفضت وقتها بإصرار رغم إلحاحه المتكرر وأشار علي البعض بعدها كذلك ، ولكني كنت أخشي أن يكون عملي هذا رياء أو زهواً – والعياذ بالله – فيضيع ما قدمت ابتغاء وجه الله هباء ، وهو يسير جدًا في سير الدعاة والمجاهدين ، وقليل جدًا مع ضخامة الرسالة ، وثقل التبعة . ومرت السنون والأيام ، وأنا عند رأيي لا أحيد عنه حتى قرأت مذكرات الأخ – الضابط المتقاعد حسين حمودة ووجدت فيها أحداث ما كنت أعلمها عن انقلاب 1952م ، وجوانب أخري في شخصية عبد الناصر يندي لها الجبين . وقلت لنفسي لو لم يكتب كاتب هذه المذكرات ما كنت قرأتها ولا علمتها ولعل الأمر كذلك عن قضية 1965م ، كثير من الدعاة والناس يجهلون الكثير عن هذه الأحداث ، أو يعرفونها مبتورة مشوهة ، وبخاصة من هم خارج مصر مما يحتاج إلي إلقاء الضوء عليها .

فلماذا إذن لا تسجل تلك الأحداث ، عسي أن تكون فيها فائدة إن شاء الله ، أو يستفاد منها في التجارب المقبلة للعاملين في الحركة الإسلامية ، لتجنب بعض الأخطاء ، ولعل الشعوب – خاصة إذا رجعت إلي طريق الله – أن تأخذ درسًا مما لاقاه الناس علي أيدي الطواغيت من الحكام لكي لا يعطوا الفرصة لغيرهم .

ومرت الأيام وأنا في هذا التفكير ، وكيف السبيل وأين البدء ، وهل تستطيع الذاكرة أن تعيد شريط الأحداث بعد مرور أكثر من عشرين عامًا عليها ، حتى زارني أخ عزيز عليَّ هو الدكتور عبد الرحمن بارود ممن عايش جانبًا من هذه الأحداث وقضي سبع سنوات وراء الأسوار مارًا بالسجن الحربي – أبو زعبل – الحربي مرة ثانية – القناطر – قنا – وأخيراً مزرعة طره حتى الإفراج عنه ، ولم يعفه من ذلك لا جنسيته غير المصرية ولا شهادته الجامعية ولا الماجستير الذي يحمله ، أشار عليَّ هذا الأخ الكريم الكتابة في ذلك وعرضت عليه ما ورد بخاطري ، وبعدها بدأت في الكتابة ، وأسأل الله أن ينفع بها ، ويجعلها في ميزان حسناتنا ، وأن تكون خالصة لوجهه الكريم .

وقد عمدت في بعض المواقف ، إلي جانب سرد الأحداث كما وقعت تمامًا ، إلي سلوك طريق الشرح أو التعليق ، لتجلية الأمر ونقل الصورة ما أمكن للقارئ ، خاصة من كان بعيدًا عن موقع هذه الأحداث ، ولم يعلمها من قبل ، أو علمها بصورة مشوهة علي غير حقيقتها ، أو بصورة ناقصة ، وتجنبت في بعض المواقف ذكر الأسماء التي قد تؤثر علي مكانة صاحبها وحفاظًا علي سمعته ، وقد يكون موقفه قد تغير بعد ذلك مع مرور الأحداث والسنين .

وسواء أكان ذكر المواقف الفردية أو الجماعية يثير البعض أو يأخذ بحساسية معينة أو لعدم تطويع نفسه علي النقد ، فإني لم أقصد في هذا كله إلا نقل صورة السرد التاريخي الحقيقي بما له وما عليه ، ونتعود النصح بل والنقد أحيانًا ، ولعل ذلك يكون عونًا ورائدًا في إصلاح الدعوة ، والتي يرضي عنها المولي تبارك وتعالي . وأخيراً عن هذه القاعدة ، إلا بذكر واحد من أصحاب الفضل علي هذه القضية ، والدعاة في هذا العصر ، هو الإمام حسن البنا – رضوان الله عليه – باعث النهضة الإسلامية في القرن العشرين ، والذي بلغت دعوته وشهرته شتى أرجاء الأرض .

والله من وراء القصد وهو الهادي إلي سواء السبيل ،

حقيقة الصراع بين الحق والباطل

منذ اللحظة الأولي لخلق الإنسان الأول أبينا آدم عليه وعلي نبينا أفضل الصلاة والسلام وفي ذلك اليوم المشهود الذي كرم الله فيه أبانا آدم وأمر ملائكته بالسجود له دب الحقد والحسد عند إبليس اللعين وأعلن رفضه للسجود لآدم وأعلن عداءه الأبدي لآدم وذريته إلي يوم الدين وقال لربه عز وجل : فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)) ، وقال له أيضا : فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)) أقسم الشيطان الرجيم أنه سيقف بالمرصاد لبني آدم حتى يصرفهم عن دينهم الحق وصراط ربهم المستقيم وأنه سوف يشككهم في آخرتهم ويزين لهم دنياهم ويقف لهم بكل سبيل يحثهم علي الشر ويزينه لهم ويثبطهم عن الخير ويصدهم عنه .

وقد جعل الله تبارك وتعالي للشيطان ذرية وجنودًا من الجن والإنس وكذلك منَّ علي آدم وجعل له زوجًا وذرية . ومنذ البداية حين خلق الله تبارك وتعالي آدم وزوجه وأسكنهما الجنة حذرهما من الشيطان الله : (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22 ) وكذلك عند إهباط آدم وحواء إلي الأرض وكذلك عند طرد إبليس من الجنة قال الله لهما : (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) ، وقال :( يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ) ولقد بين الله تبارك وتعالي لبني آدم عمومًا الشيطان لهم وقال : (يأيها النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) ، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) وحذرنا الله تعالي من عبادة الشيطان وإغوائه لنا فقال : أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) .

والصراع بين آدم وذريته من وجهة وبين الشيطان وجنوده من جهة أخري ما هو في الحقيقة إلا صراع بين الحق متمثلاً في منهج الله عز وجل ودينه الذي ارتضاه للناس وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) وبين الباطل متمثلاً في الشيطان وجنوده وأحزابه وضلالاته التي تأخذ صور الديانات المخالفة لدين الله والمناهج المنابذة لمنهج الله ، ومن أجل ذلك أرسل الله عز وجل رسلاً وأنبياء من بني آدم يهدونهم بإذن الله إلي دينه القويم وصراطه المستقيم ويقومون ما أعوج من دينهم ، ويصححون ما فسد من مفاهيمهم ، وتلك هي مهمة الإنسان حين خلقه الله عز وجل : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) وخلافة هذا الإنسان لله في الأرض تتمثل في إقامة منهج الله الذي ارتضاه للناس وأن يقيموا الدين الذي أنزله للناس عن طريق رسل منهم وأنبياء اختارهم الله سبحانه وتعالي ومن أجل ذلك مكن الله سبحانه للإنسان في الأرض وسخر له كل ما فيها وما في السموات : وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ) ، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) .

فالله سبحانه وتعالي سخر لنا هذا الكون وما في الأرض وجعل الإنسان خليفة في الأرض وسخر له ما فيها من قوة وطاقة وأرزاق ونبات وحيوان وعلمه كيف يستغل هذه الكنوز ليعيش بها علي مقتضي منهج الله ودينه وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) ومن أجل ذلك هبط آدم وزوجه وهبط إبليس وقبيله إلي الأرض ليعادي بعضهم بعضًا ويصارع بعضهم بعضًا ، ولتدور المعركة الأبدية طويلة المدى بين هذين الفريقين ، فريق الحق ممثلاً في آدم والصالحين من بنيه وذريته وخاصة الأنبياء والمرسلين والدعاة إلي الهدي والصلاح منهم إلي يوم الدين ، وفريق الباطل المتمثل في الشيطان وجنوده وأوليائه من الجن وأوليائه من الإنس الذين ضلوا عن دينهم وتركوا منهج الله ودينه الذي ارتضاه لهم واستعاضوا بالباطل عن الحق ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وغفلوا عن الآخرة وما أعد فيها من العذاب والنعيم .

نزل آدم وحواء ونزل إبليس لتدور رحى هذه المعارك الشرسة بين فريقي الحق والباطل وليتم الابتلاء ويجري قدر الله عز وجل بما شاء وكتب علي بني آدم أن يستقروا في الأرض ويمكثوا فيها ويموتوا ثم يخرجوا منها فيبعثوا ليعودوا إلي ربهم فيحاسبوا علي الخير خيرًا وعلي الشر ما يستحقونه . تلك هي البداية ، بداية الصراع بين الحق والباطل ، بين الأيمان والكفر بين عباد الرحمن وعباد الشيطان ، ثم إنه بعد استقرار الإنسان في الأرض ومجيء الأجيال المتتابعة والأمم المتتالية كل جيل يخلف ما قبله وكل أمة ترث التي قبلها نسي الناس عهد ربهم وأضلهم الشيطان عن دينهم وزين لهم الشرك والضلال وأغواهم حتى عبدوه ، فأرسل الله لهم وحده فأبوا عليه إلا القليل من المؤمنين وكان الصراع المرير والجهاد المستميت من أنصار الحق حتى نصرهم الله وأهلك الكافرين أنصار الباطل ثم أنشأ الله قرنًا آخرين وأمة تالية تكررت منها نفس الصورة بعد حين من الزمان وبنفس معالم الصراع . الرسول يدعوهم إلي عبادة الله وحده وهم يتهمونه بالجنون والسحر والدجل والكذب ويستعظمون أن يأتيهم رسول منهم من البشر يدعوهم لعبادة الله وحده وهكذا مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44).

هذا مدار الصراع حول حقيقة واحدة هي حقيقة العبودية لله عز وجل وتوحيده والإقرار له بالإلوهية والهيمنة علي خلقه والإذعان له بالطاعة وإفراده سبحانه بالعبادة . ومن أجل هذه الحقيقة حقيقة العبودية لله يدور الصراع بين أنصار الحق من بني آدم وأتباع الرسل والنبيين وبين الباطل وأهله إبليس وجنوده والضالين من بين آدم : وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) ) . وحقيقة العبودية لله وإفراده بالإلوهية تتجلي واضحة المعالم في الصراع المرير الطويل بين الحق والباطل ، بين الأمة المسلمة في أي زمان وفي أي مكان وبين أعداء الإسلام والإيمان أنصار الباطل جند إبليس ، تدور رحى هذه المعركة دائمًا وأبدًا في كل زمان وفي كل مكان حول حقيقة العبودية لله ، فأنصار الحق دائمًا يعبدون الناس لربهم الحق ومولاهم الحق وأنصار الباطل يدعون الناس ليعبدوا غير الله . أنصار الحق يدعون الناس إلي ما فيه عزهم وكرامتهم وفوزهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة ، وأنصار الباطل يزينون للناس متع الحياة الدنيا وزينتها وباطلها من أجل أن يتركوا دعوة الحق ودين الحق ويرتكسوا معهم في حمأة الطين والغواية والضلالة .

وفي ضوء ذلك الفهم لحقيقة الصراع يمكن أن نفهم قصة الإنسانية منذ خلق آدم عليه وعلي نبينا الصلاة والسلام إلي يومنا هذا . فالحياة صراع بين المؤمنين والكافرين والمعركة مفروضة علي المؤمنين قرضًا لا يملكون منها فكاكًا ولا فرارًا حتى لو أن المؤمنين اختاروا طريق الموادعة واللين واختاروا أن يتركوا الناس ليؤمن من يؤمن ويكفر فإن الكافرين أنفسهم يأبون هذا العرض ، ويبادئوا المؤمنين بالقتال والاضطهاد والتعذيب والإيذاء ، فهذا نبي الله شعيب عليه السلام يقول لقومه : ) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)) إن أهل الباطل من الطواغيت وأعوانهم يرفضوا ترك الحق وأهله يتحركون بحرية بين الناس ويرفضون أن يستجيب الناس لدعاة الحق والتوحيد ولا يطيقون رؤية الحق حتى لو كان مكبلاً بالأغلال والقيود فهم يصيحون : أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)) (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ (26)) (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)) .

هذا ديدن الباطل دائمًا لا يريد أن يدع الحق ودعاته يتحركون بين الناس ، ولا يريدون للناس هداية وخيرًا يريدون من الناس أن يكونوا لهم عبيدًا خاضعين متذللين لهم من دون الله ، يريدون من الناس ألا يروا لأنفسهم إلا ما يراه لهم الطاغوت ولا يفكرون لأنفسهم إلا أن يفكر لهم الطاغوت . ( جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) ) وها هو يقول – أي فرعون – للسحرة حين آمنوا بالله رب العالمين واتبعوا رسول الله موسي عليه وعلي نبينا الصلاة والسلام (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) حتى الإيمان القلبي الذي لا سلطان لأحد عليه يقول لهم كيف تؤمنون قبل أن آذن لكم أن تؤمنوا . هل أخذتم مني تصريحًا يبيح لكم الإيمان والتفكير والاختيار لأنفسكم . ودعاة الباطل وجنوده آلوا علي أنفسهم ألا يقر لهم قرار ولا يهدأ لهم بال حتى يقضوا علي الحق وأهله وما رسالة نبينا محمد صلي الله عليه وسلم ببدع من الرسالات السماوية وما نبينا صلي الله عليه وسلم ببدع من الرسل فلقد واجه دعاة الباطل وأنصاره وواجهوا منذ اليوم الأول الذي صدع فيه بما أمر صلي الله عليه وسلم ، لجئوا لحرب الإشعاعات وترويج الاتهامات الظالمة ، قالوا إنه مجنون وقالوا كاهن وقالوا ساحر وقالوا شاعر ولم يفت ذلك في عضد نبينا صلي الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين .

لجئوا لسلاح الإغراء واللين والمهادنة فعرضوا عليه المال والملك والجاه ، لجئوا للتعجيز وطلب المعجزات وخوارق الأعمال فازداد ثباتًا وقوة علي الحق : (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا (93)) ثم لجأ الكافرون أنصار الباطل إلي تعذيب المؤمنين والتضييق عليهم وحبس بعضهم حتى هموا بحبس النبي صلي الله عليه وسلم أو قتله أو إخراجه من بلده حتى هاجر صلي الله عليه وسلم وأصحابه معه إلي المدينة المنورة ، عله يجد أنصارًا علي الحق ، وكان ذلك . وانتقل الصراع بين الإيمان والكفر إلي مرحلة أخري مرحلة القتال والمواجهة والدعوة حتى نصر الله نبيه وعباده المؤمنين وتم الدين واكتمل ورضي الله لنا الإسلام دينًا قويمًا ، وفي خلال ذلك لم تفتر نار الحرب بين الحق والباطل ولم يخب أوارها ، وحدثت المواجهة بين رسول صلي الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين من جهة وبين كل أنواع الكفر والباطل من المشركين الوثنيين ، ومع اليهود ومع النصارى ومع المجوس ومع المنافقين وهم الطابور الخامس الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ويوالون أهله ويناصرونه . واجتمع كل هؤلاء ورموا الإسلام عن قوس واحدة (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) )، (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) .

وانتقل النبي صلي الله عليه وسلم راضيًا مطمئنًا إلي جوار ربه بعد أن أتم الله عليه النعمة وأنزل عليه نصره ودانت له جزيرة العرب وبعض ما حولها بالإسلام فجزاه الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير ما جزي به نبيًا عن قومه ورسولاً عن أمته . ثم استمر جهاد أصحابه وخلفائه من بعده ومن بعدهم التابعين ومن بعدهم حتى انتفضت دولة بني أمية ثم دولة بني العباس ثم ظهرت للباطل سطوة وقوة في بعض فترات ضعف أهل الحق والإيمان كالدولة العبيدية الباطنية في المغرب و مصر والشام والدولة الصفوية في خرسان وبلاد إيران ، وتعاون أهل الباطل كلهم علي الإسلام حتى حدث في القرن الخامس والسادس هجمة الصليبيين علي بلاد الإسلام وقضوا علي الخلافة العباسية ، ثم حدثت هجمات المغول علي بلاد الإسلام حتى قيض الله للحق جنوداً مخلصين مثل قطز وبيبرس اللذين قضيا علي التتار وأخضعوهم للإسلام ، وصلاح الدين الأيوبي الذي قضي علي الحملات الصليبية وحرر القدس .

ويستمر الصراع بين مد وجزر يأخذ أحيانًا أشكالاً وأحيانًا يأتي الباطل في صور مستخفية ودائمًا الباطل لا ينام عن عداء الحق وأهله حتى كانت الحملة الصليبية الأخيرة علي بلاد المسلمين إبان عهد ضعف المسلمين وتخلفهم عن التمسك بدين الحق وبعد أن استبدل المسلمون البدعة بالسنة والتصوف والقعود في الزوايا والأربطة . ثم انتشرت موجات جديدة من الإلحاد والكفر والمبادئ الهدامة التي يلبس أنصار الباطل علي الناس ويلبسونها ثوب الحق كالوطنية والقومية والعلمانية والدين لله والوطن للجميع ، وأقام الصليبيون الحركات الوطنية اللا دينية في بلاد المسلمين وافتعلوا بينهم وبينها بعض المعارك التي يكون من نتيجتها إضفاء ثوب البطولة والزعامة علي فريق من الوطنيين في كل بلد يبرز من بينهم أشقاهم وأفجرهم وأشدهم علي المسلمين عتيًا ليكون هذا الزعيم الأوحد والباطل المغوار ، وحينئذ ينسحب الصليبيون من البلد بعد أن ضمنوا البقاء إذ إن الزعيم وأعوانه ممثلوهم والقائمون علي مصالحهم في البلاد بعد رحيلهم وهم الذين يتكلفون بحرب الإسلام والمسلمين وإخماد كل صوت يدعو للحق أو ينادي بالتوحيد أو يريد أن يعبّد الناس لربهم الحق وإلهم الذي لا إله غيره .

وكما هي سنة الله دائمًا في عباده فإن للحق أنصارًا وأعوانًا يجهرون به ويتمسكون به ويدعون الناس إليه دائمًا كما بين ذلك نبينًا صلي الله عليه وسلم " لا تزال طائفة من أمتي علي الحق منصورين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم علي ذلك " . ومن ثم فقد قبض الله للحق والدين دعاة ينافحون عن دينهم ويعادون الباطل ويدعون الناس للتمسك بأهداب الدين وإظهار الشريعة الغراء . وتمثل هؤلاء الدعاة أحيانًا في أفراد يقومون بجهود فردية لجهاد أعداء الإسلام بالسلاح والمقال ، وأحيانا تتمثل دعوة الحق في حركات إسلامية محدودة الغايات والمقاصد وتنقصها القدرة والإمكانيات وتارة تتمثل في حركات قوية تأخذ في الدعوة إلي الإسلام دعوة شاملة وتفهم الإسلام فهمًا شموليًا وتجاهد في سبيل الله بكل ما وسعها من أنواع الجهاد .

وهكذا ظهرت حركات إسلامية ودعوات فردية أو جماعية محدودة وتنافح عن الإسلام وتدعو الناس للتمسك بالحق المنزل من ربهم وتحيي الدين في قلوب الناس بعد أن أماته أعداء الإسلام في قلوبهم . وتصدرت هذه الحركات الإسلامية لأعداء الإسلام من الصليبيين واليهود وغيرهم وجاهدت في سبيل الدعوة إلي دين الله وتصحيح مفاهيم الناس عن الإسلام ، فلاقت وما زالت كثيراً من المطاردة والتشويه والاعتقال والسجن والتعذيب ، وتتوالي عليهم الحكومات تلو بعضها ببعض وتسير علي نفس الخط في مطاردة الدعاة في كل مكان . وهي حلقة من حلقات الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل حتى يحق الله الحق ، ويبطل الباطل ويقطع دابره . وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)) ومما يثلج الصدر أن الكثير من الدعاة قد اتجهوا الاتجاه البناء لنشر المفاهيم الصحيحة والدعوة إلي الإسلام كما دعا إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو ما أشار إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم بقوله " والله ليتمن الله هذا الأمر ولكنكم قوم تستعجلون " . وذلك أن هناك اليوم كثير من المؤمنين المتعطشين للعيش في ظلال القرآن والسنة وحكم الإسلام ويلتزمون بأحكام دينهم يحلون ما أحل الله ويحرمون ما حرم ويطيعون الله ورسوله وأولئك هم الذين يتحقق وعد الله : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) ) .

مصر قبل انقلاب 23 يوليو 1952

في أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات ، بدأت الأحزاب القديمة مثل الوفد ، الوطني ، الأحرار الدستوريين ، والكتلة تفقد تأثيرها علي الجماهير المصرية وبدأت الأحزاب الجديدة متمثلة في الإخوان والوفد الجديد " عزيز فهمي جمعة ، والدكتور مندور " ، والوطني الجديد " فتحي رضوان " و مصر الفتاة " أحمد حسين " ، والشيوعيين يكتسبون قدرات متزايدة في التأثير علي الجماهير المصرية ، وكان أكثر هذه الاتجاهات امتلاكاً لهذه القدرات هم " الإخوان المسلمون " وكان تعدادهم يصل إلي ثلاثة ملايين .

وقد أزعج الغرب هذا التحول فبدأ دراسة هذه الظاهرية لتقييمها ومواجهتها خوفًا من أن يكون الشعب المصري قد تحول إلي العقائدية بدلاً من التجمع علي محاور المصالح الوطنية ، وتبين لهم من الدراسة أن التجمعات المصرية مازالت علي المحاور الوطنية ، وأن الأحزاب القديمة قد فقدت قدرتها علي توجيه النداء – حسب ما يقولون – لعدم قدرتها علي تبني المصالح القومية للجماهير وجمودها علي شعاراتها القديمة التي تجاوزها الزمن ، وأن الأحزاب الجديدة قد تبنت هذه المطالب بشكل قوي ومؤثر أعطاها قدرة كبيرة علي اكتساب شعبيات ضخمة ، وخصوصًا حركة الإخوان المسلمين . وكانت هذه المطالب التي دفعت هذه الاتجاهات الخمسة إلي تبنيها هي :-

1 – الجلاء .

2 – العدالة الاجتماعية .

3 – تمصير البنوك والشركات والسيطرة الوطنية علي الاقتصاد .

4 – التنمية الصناعية .

وكان الأمر خطير في هذا الانتشار أن الجماهير العريضة التي تبعت حركة الإخوان لم تتبعها من أجل التوجه الإسلامي العقائدي ( أيدلوجية إسلامية ) وإنما من أجل ثقتها في قدرة الإخوان ونظافتها كاتجاه سياسي علي تحقيق مطالب الجماهير ، أي كما قال سعيد رمضان بعد ذلك ( من باب تحيا مصر وليس من باب لا إله إلا الله ) وصاحب هذا التبني للمطالب القومية دعوة خطيرة كان لها تأثير كبير في مصر علي الاتجاه الإسلامي وغير الإسلامي ، وهي الدعوة للتخلص من التفكك الحزبي والتعددية الحزبية ، والدعوة إلي الحزب الواحد وإلي الحكم الفردي بحثًا عن البطل أو المنقذ ، أو المستبد المستنير كما شاع التعبير عنه في إعلام ذلك العصر . وقد تكون هذه الدعوة من آثار الإعجاب بالنازية الذي كان شائعًا في الثلاثينات والأربعينات .

وفي نهاية الأربعينات كانت السياسة الأمريكية قد انتهت إلي أمرين كان لهما بعد ذلك أخطر الأثر علي مجريات الأمور وهما :-

(1) ضرورة الوراثة الأمريكية للنفوذ الإنجليزي والفرنسي ، وأن يقوم الأمريكان بأنفسهم بحماية مصالحهم الحيوية في العالم وبأسلوبهم الخاص بدلاً من الاعتماد علي قوات احتلال عسكرية لهم أو لغيرهم .

(2) ضرورة التحول من الاستعمار التقليدي القديم إلي الاستعمار الجديد ، وهذا الاستعمار الجديد يتمثل في عدة نقاط هي :-

1 – ضرورة التخلي عن قوات الأجنبي في ممارسة النفوذ السياسي تلافيًا لجرح الكبرياء القومي للشعوب .

2 – الاعتماد علي العملاء في شتى مراكز التأثير ، سياسيًا ، وأمنيًا ، وإعلاميًا ، وثقافيًا ... إلخ .

3 – الاعتماد علي ممارسة النفوذ السياسي علي حاجة شعوب العالم الثالث إلي العون المادي والتقني ، وهي الحلقة المفرغة من التبعية والاحتياج ( احتياج يقضي إلي تبعية ، وتبعية تفرض مزيدًا من الاحتياج وهكذا دواليك ) .

4 – تحقيق ارتباطات ثقافية من خلال الإعلام والفن والرياضة وحركات الشباب والحركات النسائية وغيرها مع الشعب الأمريكي والشعوب الأخرى في العالم الثالث .

ولم يقف الأمر لدي الفكر الاستعمار الغربي عند هذا الحد بل تجاوزه إلي ما هو أبعد من ذلك ، وهو المخطط ذي المراحل الثلاث في التعايش السلمي مع الإسلام والشيوعية ودول العالم الثالث ، كما عبر عنه أرنولد توينبي المؤرخ البريطاني الشهير ، وهذه المراحل هي : -

1 – مرحلة إرضاء القوميات : وذلك لانتزاع حقدها الدفين الموروث علي الغرب لشعورها العميق بالإذلال من خلال الممارسات الاستعمارية القديمة ، وهذا الإرضاء يتحقق عن طريق البطولة الأسطورية التي تحقق الحكم الفردي من ناحية لفرض التغيير الاجتماعي المطلوب من أعلي عن طريق النخبات العسكرية وتركيز السلطة .

ويتحقق من ناحية أخري الإشباع الزائف للكبرياء القومي امتصاصًا للشعور العميق يجرح هذا الكبرياء ، والرغبة في تحقيق الذات ، ومن ناحية ثالثة احتواء التوجهات الثورية لدي الشعوب لتحقيق ما يصبو إليه الناس علي أيدي عملائهم وبالطريقة التي لا تتعارض مع مصالحهم ، ولقطع الطريق علي الحلول الجذرية المعادية لهم لتحقيق مصالح الشعوب ( بيدي لا بيد عمرو ) سواء كانت إصلاحات زراعية أو اقتصادية أو تعليمية أو غيرها ، وما أمر البلاد التي تفيض ترابها وسطحها بالخيرات ، ومع ذلك تعيش فقيرة علي الكفاف وتمد يدها للمعونات من الدول بصورة رهيبة ببعيد . وتتم الإصلاحات اليسيرة وبالطريقة التي يرونها ، ليس استسلامًا للمصير ولكن ضمانًا للنتائج ، وهو ما يسمي بالصفقة المعتدلة .

2 – مرحلة الأمر الواقع : وذلك حينما تفيق الشعوب من نشوتها الغامرة بالانتصارات الكاذبة علي صورة الهزائم والنكسات في شتى المجالات ، عسكرية ، اقتصادية ، سياسية ، لتؤمن بسياسة الأمر الواقع ، ويتحول ما يطال إلي مالا يطال .

3 – مرحلة التعايش : هي التي تصل فيها الشعوب لطلب النفوذ الغربي بنفسها بدلاً من مقاومته ، وذلك للتخلص من مشاكلها الملحة .

كل هذه الظروف مهدت الطريق وساعدت مايلز كوبلاند ورئيسه كيرميت روزفلت علي القيام بالمهمة الكبرى Big Mission بعد ذلك وهي تحقيق المطالب القومية الأربع علي يد رجل قد أعدوه لهذا الأمر ، لتتحول الجماهير عن الأحزاب الخمسة خاصة الإخوان ، وليتخلوا عن المد الإسلامي الذي توجه إليه ضربات قاصمة ، ثم يظهروه للناس علي أنه البطل الذي يستطيع أن يحقق التقدم من خلال تركيز السلطة في يديه ، بعيدًا عن تعدد الأحزاب ، ثم يفتعلوا له انتصارات كاذبة ليصبح معبود الجماهير ، تمارس معه عبادة الفرد ليتحقق من خلال ذلك فرض التغيير الاجتماعي أو التغريب من أعلي كما يقول " موروبرجر " في كتاب " العالم العربي اليوم " .

وهذه المطالب القومية من الجلاء ن العدالة الاجتماعية ، التمصير ، التنمية والتعمير .. إلخ ؛ تحقق في نفس الوقت مطالب الاستعمار الأمريكي الجديد بدون قوات عسكرية لتحقيق النفوذ السياسية لاعتمادهم في ذلك علي وسائل أخري ، والعدالة الاجتماعية لقطع الطريق علي الشيوعية وغيرها وسحب البساط من تحت أقدامها . والتنمية والتمصير لتحقيق خطط تنمية فاشلة تربك البلاد بحجم ضخم من الديون ترزح تحت أعبائه وتفقد من خلال ذلك سيادتها . هذا هو المخطط الأمريكي بصورة عامة ، والذي شمل مصر ، بلا لا نغالي إذا قلنا إن مصر كانت من أهم الدول وفي مقدمتها ، التي أريد لها أن يتم فيها التغيير لاعتبارات كثيرة تتعلق بوضع مصر بين دول المنطقة . وكان ما أثير في مصر من دعاوى – كما ذكرنا – ربما كان تمهيداً للوضع المنتظر الجديد ، وساعد علي ذلك الأحوال السياسية والاجتماعية في مصر ، عدا أنها كانت قبل قيام انقلاب 1952 تحكم حكمًا ملكيًا علي رأسه الملك فاروق ، الذي غدت مباذله ذائعة ، وإسرافه مشهورًا ، وفساد حاشيته معروفًا ، حيث كان الشعب المصري يكن له البغض والكراهية ، وكذا حاشيته وأسرته إلي جانب كثير كمن رجالات الأحزاب والإقطاع .

وتميزت بمصر في هذه الفترة طبقتان واضحتا الملامح والسمات :

الأولي : طبقة كبار الملاك من الباشوات وأصحاب الأراضي الواسعة ، وأفراد الأسرة المالكة . الثانية : طبقة المزارعين والعمال الذين يعملون في أراضي الطبقة السابقة ، وكانت هذه الطبقة محرومة من أبسط معاني الحياة اللائقة بالإنسان .

وكانت الطبقة الأولي مترفة ، تسكن القاهرة وقد نال أولادها حظًا وافرًا من المعرفة والثقافة عن طريق الدراسة في الداخل والخارج وعادوا يتسلمون المراكز الكبيرة في أجهزة الدولة ، أما الطبقة الثانية فكانت تسكن القرى والأرياف ، وكانت نسبة الأمية عالية فيها ، ولم تكن تملك الأموال لتعليم أولادها الدراسة العالية إلا ما ندر . وفي عهد الملك فاروق علا نجم جماعة الإخوان المسلمين ومؤسسها حسن البنا وذاع صيتها ، وشهرتها ، وانضمام الناس إليها والتفافهم حولها ، خاصة بعد دخولهم حرب فلسطين عام 1947 ، 1948 و حرب القنال ضد الإنجليز عام 1951 ، 1952 ولم تعد شهرتها قاصرة علي مصر وحدها ، بل علي مستوي العالم ، مما آثار انتباه أعداء الإسلام لها والتخطيط لمحاربتها بدءًا من عام 1948 .

وبعد انتهاء حرب فلسطين وعودة الجيوش المصرية ، أثير كثير من سوءات النظام منها قضية الأسلحة الفاسدة التي استخدمت في الحرب ، ونتيجة الحرب لصالح اليهود ومفاسد الملك وحاشيته ، واستغلال ونفوذ كثير من رجال الأحزاب والإقطاع علي حساب الغالبية من الطبقات الكادحة المتوسطة الفقيرة . وازدادت الحملة مع بداية الخمسينات وفي الصحف كذلك مثل جريدة الاشتراكية ، ومظاهرات الطلبة من حين لآخر وفي كل مكان ، ولم تقف داخل مصر ، بل تجاوزتها إلي خارج البلاد وبخاصة في أوروبا وأمريكا ، مع مباذل ومخازي فاروق في كابري وغيرها ، حتى نشرت ( النيويورك تايمز ) عام 1950 صورة لفاروق علي الغلاف وكتبت تحتها : ( 20 مليون يطعمون هذا الخنزير ) . وكان ذلك كله سواء في مصر أو خارجها واشتراك أجهزة الإعلام العالمية بمثابة التمهيد للثورة القادمة والتهوين من شأن النظام الحاكم وجرأة الناس علي نقده والهجوم عليه ، والتذمر والضيق منه ، حتى إذا قام الانقلاب يكون الجو مهيأ والطريق ممهدًا أمامه ، وهذا ما حدث بالفعل حيث لم تحدث مقاومة تذكر ولا معارضة لأن الغالبية العظمي كانت تترقب زوال النظام البغيض الفاشل .

انقلاب عام 1952

في وسط هذا الجو المشحون ، والسخط العام من استشراء الفساد والظلم والقهر ، مع القمع البوليسي بواسطة أجهزة السلطة ، الشرطة ، البوليس السياسي ، الحرس الحديدي . كانت الأرضة خصبة ، والجو مهيأ لقيام ثورة ، فقام ضباط الجيش في 23 يوليو عام 1952 بانقلاب عسكري ، أعلن أن اللواء محمد نجيب رئيس له ، وأذاع أنور السادات صباح اليوم التالي البيان الأول للثورة وتجاوبت معه /div>فئات الشعب المختلفة تجاوبًا كبيرًا ، وبدأت الثورة في عمل بعض الإجراءات التي تعبر عن رغبة الشعب ، وقد ساهم الإخوان المسلمون بدور فعال في الثورة بدءًا من التخطيط لها والمشورة ، خاصة من يوم 18 يوليو 1952 ، في اجتماعات شبه يومية بين عبد الناصر وبعض زملائه وكل من الأخوة : منير الدله ، صالح أبو رقيق ، عبد القادر حلمي ، صلاح شادي ، حسن عشماوي ، و فريد عبد الخالق ، ومشاركة ضباط الإخوان مثل : عبد المنعم عبد الرءوف ، معروف الحضري ، أبو المكارم عبد الحي ، و حسين حمودة ، وكذا شباب الإخوان الذين قاموا بحراسة المنشآت داخل القاهرة ومداخلها ثم التأييد المعنوي قبل وبعد نجاح الانقلاب .

إلا أن هذا الوقت لم يدم طويلاً ، وبدأت ملامح شخصية عبد الناصر، وميله وطغمة معه من الضباط للانفراد بالحكم ، والاستبداد بالسلطة ، فأصدرت الحكومة قرار حل الأحزاب السياسية في 17 يناير 1953 ، ثم أعقب ذلك قرار آخر بحل جماعة الإخوان المسلمين ، باعتبارها حزبًا سياسيًا ، صدر في 14 يناير 1954 واعتقال فريق من قادة الإخوان بالقاهرة والأقاليم بما فيهم المرشد العام فيما عدا الشهيد عبد القادر عودة والأستاذ عمر التلمساني ظنًا منه تقربهما إليه رحمهما الله ، وألصقت بالإخوان التهم الزائفة ومنها الاتصال بالانجليز وتهم أخري كثيرة .

وفي 23 فبراير 1954 قدم اللواء محمد نجيب استقالته لمجلس الثورة ، وذلك من أثر سلب سلطاته من قبل جمال عبد الناصر ومضايقاته المستمرة له ، والتي وصلت إلي السباب الذي يخرج عن حدود الأدب والأخلاق القويمة منه ومن جمال سالم خاصة لدرجة أن الأخير اعتدي عليه بالضرب في المطار ، هذا إلي جانب أن نجيبًا كان يعتزم إجراء انتخابات حرة وإعادة الحكم النيابي وإطلاق الحريات وعودة الجيش إلي الثكنات . وانقسم الجيش إلي فريقين : فريق يؤيد اللواء محمد نجيب ويتزعمه سلاح المدرعات ، وفريق آخر يؤيد جمال عبد الناصر من سلاحي المدفعية والمشاة . وقامت المظاهرات في شتى أنحاء البلاد تطالب بعودة محمد نجيب وبدأت تتجمع في ميدان عابدين بالقاهرة ، وظهر محمد نجيب من شرفة قصر عابدين وبجواره الشهيد عبد القادر عودة ، الذي أمر الجموع بالهدوء والانصراف وكانت غالبيتها من الإخوان المسلمين ، وتم انصراف الجماهير .

وفي يوم 27/2/1954 أعاد جمال عبد الناصر اللواء محمد نجيب إلي رئاسة الجمهورية ، حتى يهدأ الجو ويخطط بهدوء للتخلص منه ومن أعوانه ، وخرجت المظاهرات المؤيدة لعودة نجيب في اليوم التالي تعم الشوارع وتسير كالسيل الجارف . وفي يوم 25/3/1954 قرر الإفراج عن الأستاذ حسن الهضيبي في منزله مهنئاً في نفس اليوم الإفراج عنه . وفي يوم 26/10/1954 وقعت تمثيلية حادث المنشية الذي نسب تدبيره الإخوان المسلمين زوراً ومدبرًا كما سيأتي ولقد حدثت معي في السجن الحربي عام 1965 إجراءات تؤكد ذلك ، وتم اعتقال آلاف الإخوان وإيداعهم السجن الحربي ومباشرة التعذيب معهم بوسائل إجرامية خسيسة لم تشهدها مصر من قبل ، بل ربما لم تقع في أي من بلدان العالم إلا في محاكم التفتيش بالأندلس ، من تلفيق التهم ، والتقديم لمحاكمات عسكرية هزلية ، وصدور أحكام في غاية القسوة علي المتهمين ، وسوف أذكرها في إن شاء الله .

وبعد أن تخلص جمال عبد الناصر من الإقطاع والرأسمالية والأحزاب السياسية والإخوان ، أطلق يده الدكتاتورية في حكم مصر ، فأشاع بين الناس الرعب والفزع ، وانتشر بين الناس التجسس والنظام البوليسي القمعي ، فأخرست الألسن وحطت الأقلام ، وكممت الأفواه ، إلا من المنافقين والمنتفعين ، فتواري الناس وشاع الهلع والصمت الرهيب خشية أن يصيبهم ما أصاب الإخوان ، واستعان عبد الناصر بمجموعة من الضباط والعسكر معدومي الضمير ، فاقدي الإحساس والشعور . " فلقد استطاعت الثورة القضاء علي كل معارضيها ، حتى هؤلاء الذين شاركوا في صنع الثورة ، ولا اعتراض علي أي قرار تتخذه الحكومة ، فالكل يصفق للقرار ويصفق لإلغائه طالما أنه من السلطة .

فلم يعد في مصر صحافة ولا برلمان له رأي أو صوت ، ولا مجلس وزاري له حق النقاش " . وعاش الناس في رعب قاتل ، لا يأمن أجد علي نفسه أو رزقه أو أهله ، " فقد ألغيت الأحزاب السياسية عام 1954 وأعيد تنظيم النقابات العمالية وتمت السيطرة عليها بالكامل للنظام .. .. أما الصحافة فقد أممت وأصبح إصدار صحف جديدة يكاد يكون مستحيلاً ، ولعل مما زاد من تدهور وضع حقوق الإنسان في هذه الحقبة العنف ؛ فمن المعروف أنه عقب حادث المنشية حلت جماعة الإخوان المسلمين ، واعتقل آلاف من أعضائها في السجون والمعتقلات ، ومورست ضدهم أبشع أنواع التعذيب ، في مخالفة صارخة لحقوق الإنسان " . يقول وجيه أبو ذكري " أمر آخر اهتمت به المخابرات العامة وهو الأمن السياسي للنظام .... وفي سبيل ذلك أكثرت من العملاء ، ودمرت الأسر ، واعتقلت المئات ، وعذبت الآلاف ، وحولت مصر إلي سجن كبير وهناك آلاف الروايات عن هذه القضية التي ستظل عارًا علي جبين النظام " وشاعت في هذه الفترة لغة النفاق والتملق وأصبح كل شيء مسخرًا لتمجيد وإعلان الزعيم الأوحد ، فالصحافة كلها ليل نهار تسبح بحمده ، وكذا الإذاعات خاصة صوت العرب ، والتلفاز وكل وسائل الإعلام ، كلها تضرب علي وتر واحد ، هو تمجيد جمال عبد الناصر ، وإظهاره بمظهر منقذ مصر ، بل العرب جميعًا .

وانساق الناس وراء هذا الظلال ، في كل مكان ، ضلال المهرجانات ، والحفلات والاستعراضات العسكرية ، والمؤتمرات ، وملايين الجنيهات تنفق بلا حسيب أو رقيب لتلميع أو أغنية تشيد بمنجزات وبطولات عبد الناصر ، بحيث لا يفيق أحد ولا يفكر فيما يدور حوله ، حتى كاد الناس أن يصدقوا الكذب ويؤكدوا الانتصارات . وانشغل الناس وراء همومهم ومشاكلهم ولقمة العيش ، هذا مع الفساد الخلقي الذي ساد البلاد ، وتم تثبيت دعائم التغيير الاجتماعي في مصر من عادات وتقاليد وقيم ، وشغل الناس بأتفه الاهتمامات . وأصبح الناس يتهامسون ويتراحمون علي أيام فاروق والتي مع فسادها لا تساوي شيئًا مع ما يجري في هذا العهد ، عهد عبد الناصر ، هذا بالإضافة إلي نشاط أجهزة الأمن المختلفة لترويع الناس وتحويل أمنهم دائمًا خوفًا ورعبًا ، وزاد الطين بلة علاوة علي ما تقدم ظهور نجم المباحث الجنائية العسكرية علي مسرح الحياة في مصر عام 1964 ، وإطلاق يدها في القبض والاعتقال والتعذيب وتلفيق القضايا والتهم .

ولا نعرف علي وجه اليقين ما وراء ذلك ، هل هو منافسة أجهزة المشير عبد الحكيم عامر يأخذ الأجهزة التابعة له للأجهزة الأخرى ، أم هل ليضرب بها عبد الناصر الأجهزة الأخرى ويظهر فشلها وعجزها ؟ ، مثل جهاز المباحث العامة وقتها أو الرقابة الإدارية أو غيرها من الأجهزة الكثيرة في ذلك الوقت ؛ أم ليظهر شمس بدران ( مدير مكتب المشير ) أمام سيده بمظهر الحريص عليه ، والعين الساهرة لحراسته ، أم غير ذلك من الاحتمالات . ولقد أدي ظهور الجهاز علي المسرح وممارسته سلطاته المطلقة من عام 1964 حتى عام 1967 إلي زيادة درجة الرعب والذعر بين الناس ، وسطوة قانون الغاب ، وتنحية كل القوانين والأعراف الإنسانية عن الساحة ، وظهور قوانين السياط وإباحة كل ما هو مصون في الشرائع السماوية ، بل حتى القوانين الأرضية .

" لقد انطلق جنوده ( القائد للقوات المسلحة ) إلي منازل المصريين الآمنين من الطبقات المتوسطة والفقيرة في أقسي حملة تشهير تشهدها مصر ، تقتحم حرمات البيوت ، تنهب ما فيها ، تعتدي علي شرف الأسر ، تصادر كل ما تملك ، وكل ذلك بقوة السلاح ... " في هذا الجو المشحون القاتم الذي عاشت فيه مصر ، والذي لا يمكن وصفه أو تصويره مهما أوتي قلم من براعة التعبير ، وسلامة الكلمة ولا يدرك ذلك إلا من عاش هذه الفترة الكئيبة من حياته في ذلك العهد ، حتى أصبح الشعب غير آمن علي أي شيء في حياته ، حتى تواري الجميع علي اختلاف ثقافتهم ومهنهم ، ووصل الخوف وعدم الثقة إلي قلوب الكثير من الإخوان المسلمين ، يخشي الكلام حتى مع أخيه خشية أن يسمعه أحد ، أو ظنًا من أن يكون هذا الأخ عينًا علي الإخوان مع طول الأمد .

وبدأت الأصوات خافتة مترددة تتهامس ، وماذا بعد هذا الصمت الرهيب ؟ .

هل من خلاص ؟ هل من سبيل ؟ هل من منقذ ؟ هل من دليل ؟

ولما لم يجد هؤلاء النفر المتناثرون هنا وهناك دليلاً ولا رائدًا يأخذ بأيديهم ، بدءوا يفكرون ، ويتهامسون ثم يتكلمون ويتدارسون ثم كانت نواة العمل من جديد .

وكانت نواة التنظيم حتى بدأت خطواته ، واكتملت صورته التي انتهي إليها فكيف كان ذلك ؟ ومتى ؟

وهذا ما سنبينه في السطور التالية بإذن الله .

والله من وراء القصد وهو الهادي إلي سواء السبيل .

فكرة إنشاء التنظيم

في هذا الجو الغائم المشحون ، وفي هذا الظلام الحالك ، والذي ذكرت طرفًا منه آنفًا ، بدأ التفكير في عمل شيء لإنقاذ أنفسنا واستنقاذ إخواننا معنا من السقوط إلي الهاوية ما استطعنا إلي ذلك سبيلاً ، وإنقاذ البلاد ما أمكن مما يعج فيها من الضياع والفساد الذي ساد كل شيء ، وشاع في كل شبر من الأرض ، حتى بعُد الناس كثيرًا عن دينهم الذي ينتسبون إليه ، وأصبح الإنسان المحافظ علي دينه مطاردًا في كل مكان ، ومثارًا للسخرية والاستهزاء ، ناهيك عما إذا كانت أختًا محجبة فتلاقي من الضغوط والمضايقات يفوق ما يلاقيه عشرات الرجال الأشداء ، وتجدر الإشارة إلي أن التنظيم منذ بدايته حتى تاريخ اكتشافه كان في دور الإعداد والإنشاء سواء من ناحية العدد ، أو التصور العقدي الواضح الرؤية أو الدراسة الكافية بالمنهج الحركي ، وكيفية التحرك الحركة الواعية المنتظمة ، وكذلك من الناحية التربوية العميقة ، وذلك حتى نكون واقعيين وغير مبالغين في حالتنا وفي حجمنا وخبرتنا والمدة التي قضاها التنظيم مع الاعتبارات التي أحاطت به من كل جانب ، وحتى لا نحكم حكمًا قاسيًا علي التجربة وأفرادها إذا ما وضعنا أعمالها أو بعضها في ميزان التقويم والدراسة .

وسوف أشرح بإيجاز كيفية نشأة التنظيم ومراحل إعداده بصورتها التاريخية وتتابع أحداثها ومهمة أو دور بعض أفراده وذلك حتى نهاية عام 1965 . ويمكن القول بأن ذلك قد مر بثلاث مراحل :

1 – الفترة من عام 1957 إلي 1962 .

2 – الفترة من عام 1963 إلي 1964 .

3 – الفترة من عام 1964 إلي 1965 .


1 – الفترة من 1957 إلي 1962

تتميز هذه الفترة بأنها نقطة البدء وتختلف عن غيرها بأنها مرتبطة بمنطقة معينة ، وأشخاص محددين ، ولا يمنع أن يكون في هذه الفترة إخوان آخرون يتحركون في أماكن أخري من محافظات مصر ولم نكن نعلم وقتها ، وهم الذين ارتبطوا معنا بعد ذلك في مرحلة دمج المناطق المختلفة وتوحيد العمل . وسأحاول جاهدًا اختصار التفاصيل والاكتفاء بذكر العموميات أو الأمور الهامة أو المراحل التي تستحق الذكر :

في خلال عام 1957 ولا أذكر التاريخ بالضبط كنت في شقة بعض الإخوة بالزيتون بالقاهرة معظمهم من الطلبة الجامعيين ، ومعهد الزيتون الفرنسي ، وكانت هذه الشقة أشبه بمنتدى يرتاده الناس ، إلا أن الذي يرتاد هذه الشقة طائفة ذات صبغة معينة وهم الإخوان الشبان ، أو من هم قريب الصلة بهم . وكان ضمن سكان هذه الشقة طالب بكلية الطب هو الدكتور أمجد محمد صديق من سوهاج ، واثنان بكلية الحقوق ، هما الأخ إبراهيم عبد الفتاح ، والأخ كمال الفرماوي وبلدهما كرداسة محافظة الجيزة ، وموظف بشركة شل هو الأستاذ عثمان إبراهيم من سوهاج وعضو مجلس الشورى بعد ذلك . وكانت الشقة تزخر باللقاءات والمناقشات والإقامة والضيافة ، وفي إحدى أمسيات تلك الأيام قدم الشقة شخص لا أعرفه ، عرفني به الأخ إبراهيم عبد الفتاح وكان هذا الشخص هو علي عشماوي من ميت غمر محافظة الدقهلية ، وتكررت مقابلاتنا وتوثقت معرفتنا ، وزادت ارتباطاتنا حتى كان لا يمر أسبوع دون أن نري بعضنا مرة علي الأقل ، وتعرفت علي بعض الإخوة ممن يعرفهم ، وتعرف هو كذلك علي بعض من أعرف من الإخوة ، ومن الذين تعرفت عليهم بواسطته المرحوم المهندس أمين شاهين ، وكان وقتها طالبًا بكلية الهندسة ، وتوثقت صلتنا نحن الثلاثة في اللقاءات والمناقشات والرحلات ، وزادت بروابط المحبة والأخوة .

وفي أحد الأيام حدثني علي عشماوي عن وجوب سعينا سويًا لتجميع الإخوان بدلاً من التشرذم الذي يعيشونه ، وعدم الثقة الذي يخيم عليهم ، والخوف من الضياع والانصهار في دوامة المجتمع إذا استمر هذا الحال . ورفضت الفكرة لصغر عمرنا ، وقلة خبرتنا وصعوبة استجابة الإخوان لنا والشك في نوايانا وأن يحتاج إلي شخصيات قيادية معروفة يستجيب لها الإخوان ، وقال علينا أن نبدأ ونسعى ، ونبحث في نفس الوقت عن القيادة التي تسلمها الزمام وتعمل معها كجنود ، وانتهينا علي ذلك وأبلغني بعد ذلك أنه تفاهم مع المرحوم أمين شاهين علي ذلك ووافق ، واتفقنا علي عقد لقاء بحديقة الدمرداش بالعباسية بالقاهرة حتى لا نلفت الأنظار ، وتناقشنا طويلاً حتى انتهينا إلي الآتي : -

1 – علي عشماوي – الأمير .

2 – أمين شاهين – مسئول عن النواحي المالية .

3 – أحمد عبد المجيد – المعلومات .

4 – وضع برنامج دراسي تربوي .

5 – السرية التامة مع الحذر الشديد في التحرك والاتصالات .

6 – عدم التقيد بالتقسيم الجغرافي لحركة كل منا ، والاتصال بمن يعرف في أي مكان بمصر .

7 – الاتصال بقيادات الإخوان ، بالذي يعرفه كل منا في محاولة جس النبض في العمل وعدم المصارحة إلا بعد التيقن من رغبته في العمل .

8 – استبعاد أي أخ سبق له التأييد مهما كان استعداده ، كذلك استبعاد انضمام أي شخص فيه شك ولو 1% .

وسارت الأمور كما ذكرت بخطي وئيدة محسوبة ، وكان هناك – بتوفيق الله – بعض النجاح في وسط كثير من الإخوان الشبان في مناطق مختلفة كان معظمها في محافظة القاهرة والجيزة والدقهلية . إلا أنه حدث أمران في هذه المرحلة :

1 – لم يستجب أو يتحمس أحد من المسئولين القدامى للعمل بل عد ذلك جنونًا أو تهورًا لمن يفكر فيه ، بل أخذوا في مطاردتنا ومحاربتنا وتحذير الإخوان منا في كل مكان .

2 – الأمر الثاني : أنه حدث اختلاف مع الأخ أمين شاهين في خط سير العمل وتركنا وحدنا علي أثرها وبدأ يجمع بعض الإخوان بعيداً عنا وأصبح عنده القدرة علي الحركة أكثر بعد تخرجه من الكلية " كلية الهندسة " وبعد دخوله الكلية الحربية وتخرجه منها برتبة ملازم أول مهندس ، أصبحت صلته بنا ضعيفة ، ولكنه كان يتحرك ويتصل بمن يعرفهم ، وكان يسير علي سياسة بعض الإخوان ( تنظيم ولا تنظيم ) أي يعرفون بعضهم ويتزاورون دون أن يكون هناك تجمع حركي يجمعهم ، سواء في صورة مجموعات صغيرة أو كبيرة ، كل ذلك علي أساس منع الاعتقال أو المحاكمة بتهمة تجميع الإخوان ، حيث كانت وقتها في قوانين عبد الناصر تهمة يعاقب عليها تحت اسم " إحياء الجماعة " ، وأن من يعلم ولم يبلغ يحاكم بتهمة : " علم ولم يبلغ "

وإن كان ذلك لم يمنع من اعتقالهم ومحاكمتهم وصدور أحكام متفاوتة عليهم . وكان معظم تحركه في محافظة الدقهلية و محافظة القاهرة ، خاصة شبرا والشرابية ، وتحرك محدود في مدينة الإسكندرية ، ومعظم من كانوا معه من الإخوان والنادر جدًا لم يكن له سابق صلة بالإخوان . هذا ولقد انقطعت الصلة بيننا وبينه ، وتجمد الوضع علي هذا الحال حتى ضمنا السجن الحربي مع الآلاف غيرنا .


2 – الفترة من عام 1962 إلي 1964

لما كان البحث جاريًا منا علي شخص أو أشخاص ليتولوا المسئولية غيرنا ، يكون لهم بريق وثقل لدي الإخوان ليناط بهم أمر القيادة ، وكنا نلجأ بمن نعرف مباشرة ، أو عن طريق وسيط آخر لجس النبض ولمس الموضوعات من بعيد دون التصريح أو حتى التلميح بشيء وكنا نرجع دائمًا بخفي حنين ، وكنا نأمل دائمًا أننا سنجد مبتغانا ، ولعلنا مع تكرار الزيارات وفتح الموضوعات المختلفة نصل لشيء ، وكنا نحاول كما يقول الشاعر : " حرك لعلك توقظ النواما " ، وأخيرًا وصلنا إلي طريق مسدود مع الإخوان الكبار والمشاهير .

وأثناء تحركنا في المحافظات شعرنا بأن هناك حركة أخري قائمة من إخوان آخرين ، ثم تأكد لنا ذلك ، وقمنا بالتحري عنهم فتأكد لنا أنهم ثقات ويتحركون بدافع الإخلاص ، وعلمنا بعد ذلك أنهم فعلوا نفس الشيء بالنسبة لنا . وبدأ التماس بيننا وبينهم عندما اتصلنا بإخوة في الدقهلية علي صلة بهم في نفس الوقت ، وبعد فترة تم ترتيب لقاء بين علي عشماوي ومن الطرف الآخر الأخ عوض عبد العال المدرس وهو من الإخوة الذين عرفتهم بعد ذلك ويمتاز بطيب القلب وحسن الخلق والإخلاص في العمل ، وحب الآخرين – نحسبه كذلك ولا نزكي علي الله أحدًا - . وكان الأخ عوض ينقل ما يدور بينه وبين علي عشماوي لإخوانه ، ولقد تم ترتيب لقاء آخر مع الأستاذ محمد عبد الفتاح شريف – مهندس بالبحيرة – ولم يتفقا علي شيء ، حيث كانت وجهتا النظر مختلفتين ، وخاصة فيما يتعلق بموضوع اغتيال جمال عبد الناصر ، فقد كان من رأي الأستاذ شريف لها حسابًا ، ولم تكن في تخطيطنا البتة .

والتقي علي عشماوي بالأخ عوض عبد العال بعدها ، ونقل لعلي رغبة إخوان مجموعته في لقاء بين اثنين منهم اثنين من طرفنا ، وتم الاجتماع بمنزل علي عشماوي بشبرا بالقاهرة ، وحضر عنهم :

- الشيخ عبد الفتاح إسماعيل – رحمه الله .

- الشيخ محمد فتحي رفاعي .

- ومن طرفنا : أحمد عبد المجيد ، وعلي عشماوي .

واتفقنا علي أنه إذا كانت هناك ثقة مبدئية بيننا فيجب المصارحة لكي نبدأ بخطوات واضحة ، وقد تم ذلك ، وعلمنا منهم بالإضافة إلي معرفة القصد والغاية مما هم عليه . وعُرض مرة أخري فكرة اغتيال عبد الناصر من عشرين إلي ثلاثين مستعدون للشهادة وعارضت أنا وعلي الفكرة ، وقلنا إن كل ما يهمنا هو إعادة تنظيم الجماعة وتربية الأفراد ، فوقفوا أخيرًا علي وجهة نظرنا ، وقد عرفنا منهم ما يأتي :

1- أنهم علي صلة بالأستاذ المرشد حسن الهضيبي – رحمه الله – واستأذنوه في العمل فوافق ، وبالتالي يعتبرون عملهم شرعيًا لأنه موثق من القيادة الشرعية للجماعة .

2- أنهم مثلنا علي صلة ببعض الإخوان في الخارج ، ونحن كذلك مع اختلاف الأشخاص .

3- يوجد لديهم بعض المال من الإخوان بالخارج مرصود للعمل الإخواني في مصر ، ومقدم بواسطة الشيخ عشماوي سليمان – رحمه الله - .

4- يوجد تحرك مماثل بالإسكندرية والبحيرة وهم علي اتصال به والتفاهم معهم للدمج وتوحيد العمل .

5- أنهم علي صلة بالإخوان بالسجون ن خاصة الأستاذ سيد قطب – رحمه الله - .

إلي غير ذلك من التفاصيل الأخرى ، ثم ضربنا موعدًا نتقابل فيه بمنزل الشيخ عبد الفتاح إسماعيل بكفر البطيخ بدمياط ، وتقابلنا هناك نحن الأربعة وتدارسنا الأمر وناقشنا الأمور لمدة ثلاثة أيام متتالية وتم توزيع الاختصاصات التالية :

1 – الشيخ عبد الفتاح إسماعيل – تاجر - .

- مسئول عن دمياط وكفر الشيخ وشرق الدلتا .

- الاتصال بالأستاذ المرشد .

- الاتصال بالأستاذ سيد قطب بالسجن .

- التفاهم مع إخوان الإسكندرية والبحيرة ومعه الشيخ فتحي رفاعي .

- مسئول عن النواحي المالية : من حيث مصادرها ومصارفها .

2 – الشيخ محمد فتحي رفاعي – مدرس بالمعاهد الأزهرية - .

- مسئول عن وسط الدلتا ( الدقهلية ، الغربية ، المنوفية )

- مسئول عن وضع البرامج الدراسية والتربوية .

3 – علي عشماوي – موظف بشركة الأساسات ( سمبلكس ) .

- مسئول عن القاهرة والجيزة .

- مسئول عن التدريبات الرياضية .

- الاتصال بالإخوان بالخارج .

4 – أحمد عبد المجيد – موظف بإدارة كاتم أسرار حربية .

- مسئول عن الوجه القبلي ( الصعيد ) .

- مسئول عن المعلومات .

وبعد عدة شهور سافر الشيخ فتحي رفاعي في إعارة للجزائر ، وتسلم اختصاصاته الأخ صبري عرفة الكومي الذي كان يعمل مدرسًا لمادة الأحياء وقتها ، وكان يمتاز بالدقة والهدوء والصمت والصرامة ، ولعل القصة الأخيرة اكتسبها من عمله كضابط احتياط بالجيش ، هذا طبعًا إلي جانب خلقه الإسلامي . وانتظم العمل بالصورة المذكورة ، كل مسئول في دائرة اختصاصه ، ويقدم تقريرًا للمجموعة ، دون ذكر أي أسماء ، وبدأ كل منا يتسلم الإخوان الذين يقعون في دائرته من المسئول السابق عليه حتى لا يكون هناك شخص يقع في الاختصاص الجغرافي للآخر .

لقطات من هذه الفترة :

في هذه الفترة وصلت إلينا مخطوطات من الشهيد سيد قطب من السجن أذكر أن بها فكرة عن تكوين الكيان المسلم وتربيته ، وفكرة عامة عن المخططات الصهيونية العالمية ، والصليبية الدولية ، ومحاربتها للإسلام ووسائلها وعملائها في المنطقة وبعض الأسماء كذلك . وكان الكلام بها في غاية الخطورة وقتها ، حيث لم يكن الكثير من هذه المخططات قد انكشف بعد ، واتضحت بالصورة التي ظهرت عليها بعد ذلك ، وكان عنوان هذه المخطوطات ( خيوط خطة ) . وأحضر لنا كذلك مذكرات من الشهيد محمد يوسف هواش بواسطة الشهيد سيد قطب كانت بعنوان ( جولة في العقيدة والحركة ) وكانت مكتوبة بروحانية عالية وموضوعها في غاية الدقة والأهمية للعاملين في حقل الدعوة الإسلامية ، حيث يصف فيها حزب الله ومواصفاته ، وحزب الشيطان وحدوده كذلك وكيفية التعامل معه ، وكان هناك باب بعنوان ( من نحن ؟) وآخر ( من الناس ؟) وكانت هذه المذكرات تذهب للمرحوم الأستاذ المرشد حسن الهضيبي أولاً لقراءتها ومراجعتها ، ثم تصلنا بعد ذلك منه .

وهذا ما أذكره حاليًا من المذكورين اللتين اختفتا في هوجة الاعتقالات عام 1965 ولم يعثر لهما علي أثر حتى الآن . وفي فترة لاحقة أخبرنا الشيخ عبد الفتاح إسماعيل أن الأستاذ المرشد رشح لنا شخصًا وزكاه للعمل معنا والاستفادة من تجاربه ، واتفقنا علي أن يقابله الشيخ عبد الفتاح وينقل لنا ما يدور معه ، وتم ذلك ، وبعدها قابلناه عدة لقاءات ، حوالي سبع أو ثماني مرات ، وكان هذا الرجل هو الأستاذ عبد العزيز علي ، وزير الشئون الاجتماعية السابق في أوائل عهد الثورة . كنا نلتقي به في شقة في مصر الجديدة بها جمعية خيرية تطل علي ميدان فسيح ، يسهل كشف المراقبة والمتابعة فيه بسهولة ويسر ، وحتى من داخل الشقة نفسها ، وكانت العمارة هادئة ، والدخول للشقة طبيعيًا كأننا أعضاء في الجمعية ، وكنا ندخل إليها فرادي ونخرج منها فرادي ، مع عمل احتياطات الأمن من كل منا عند الدخول أو الخروج والتأكد من عدم المراقبة أو المتابعة .

إلا أننا لم نتوائم مع الأستاذ عبد العزيز علي لعدة أمور ، أهمها عدم درايته الكافية بأمور ومشاكل الجماعة أو الخط التربوي الإسلامي ، وتكاد تنحصر خبرته الحركية فيما كان يحدث في ثورة 1919 حيث كان مشتركًا فيها ، وكان هناك جانب آخر دفعنا للتعامل معه بحذر ، وهو أنه كان وزيرًا مع الثورة ، ومعلوم أن الثورة قامت بترتيب ورعاية من الولايات المتحدة الأمريكية ، رغم التغطية لها بعد ذلك بأنها تابعة لروسيا ، والأحداث المفتعلة لترسيخ ذلك وإضفاء دور البطولة علي عبد الناصر ، فخشينا أن يكون له صلة مشبوهة بأمريكا وأن يكون دخيلاً علينا ، وقد يكشفنا ، إلا أننا بعد ذلك اكتشفنا أن تقديرنا وتخوفنا لم يكن في محله ، وأن الرجل كان مخلصًا وصادقًا ، وكان موقفه صلبًا في السجن الحربي جزاه الله خيرًا ، وذلك بعد اعترافات علي عشماوي التفصيلية عليه .

وبناء علي ما تقدم بدأنا نخطط للانسحاب عنه وبحكمة بدون أن يدرك ذلك ، مع إبلاغ الأستاذ المرشد بذلك ، فترك لنا حرية الاختيار في الاستفادة منه أو تركه . وتم التخطيط للانسحاب التدريجي ، مع إظهار أنفسنا بمظهر التكاسل ، وعدم الجدية ، حتى الانسحاب نهائيًا بصورة تبدو طبيعية له تمامًا . ولا يفوتني أن أذكر كذلك محاولة استئناف الاتصال بالإخوان القدامى المسئولين ، في هذه المرحلة ، وبدأ كل منا الاتصال بمن يعرفه والتفاهم معه بعد مناقشة الأمر مع المجموعة ، وتم الاتصال بكثير من قيادات الجماعة التي علي الساحة ، خارج السجون وعلي كافة مستوياتها القيادية ، بدءًا من نواب الشُّعب فأعضاء الهيئة التأسيسية فالنظام الخاص السابق ، وفدائيي فلسطين ، حتى مكتب الإرشاد ، ولن أتعرض هنا للأسماء أو الصفات حفاظًا علي سمعتهم داخل الجماعة وخارجها ، وخاصة أن بعضهم انتقل إلي مولاه .

وكنا نسعى جهدنا لذلك ليتولوا قيادتنا وتوجيهنا بعد تسليم الزمام لهم ، باعتبارهم أقدم منا وأقدر بذلك وكذا لسرعة استجابة الإخوان لهم بحكم وضعهم ومسئوليتهم السابقة وكذلك أعمارهم ، حيث كان أكبرنا سنًا يومها أو وقتها الشيخ عبد الفتاح وعمره ذلك الوقت لا يتجاوز 37 سنة . إلا أنه للأسف باءت كل هذه المحاولات بالفشل ، ولم يكن موقفهم الرفض فقط ، بل بدءوا يحاربوننا ويطاردوننا ويحذرون منا الإخوان في كل مكان ، ويضعون أمامنا العراقيل ، ونحمد الله أن ذلك لم يتعد دائرة الإخوان ، وقد أبلغوا الأستاذ المرشد وشكونا إليه ، وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله . وكانوا يبررون تصرفاتهم بدافع حرصهم علي الجماعة ، ولا يعلم حقيقة هذه الدوافع إلا الله ، فهل هو الخوف من الاعتقال وما سيترتب عليه ، أم أن الوقت غير مناسب ؟ ، أم أنهم أدوا دورهم وكفي ؟ ، ولا داعي لمواصلة الدعوة في هذه المرحلة التي تعيشها مصر ، كل ذلك جائز أو بعضه ، ولكننا نورد الحادثة هنا سردًا للوقائع مع عدم التعرض أو التعريض بأحد منهم .

سار العمل وانتظم بالصورة التي ذكرتها وبدأ كلّ يمارس نشاطه في منطقته ، وتخصصه ، وكنا نلتقي في لقاءات دورية غير منتظمة وفي مواعيد وأماكن مختلفة ، وبصورة يغلب عليها الحذر والسرية ، مراعاة لمقتضي حال البلاد وظروفها وقتها ، حيث كانت مصر تعج بالرعب والإرهاب ونشاط أجهزة القمع المختلفة علي مستويات الشعب والاتجاهات الإسلامية كافة وخاصة الإخوان . وكان رؤساء هذه الأجهزة ، أو من دون الرؤساء علي صلة مباشرة بعبد الناصر حتى يكون علي علم بما يدور أو بما يخفيه عنه رئيسه ، ويستخدم كذلك الأجهزة في المنافسة فيما بينها أو ضربها ببعضها ، وداخل الجهاز نفسه يتجسسون علي بعضهم . هذا ويمكن الكلام هنا عن نشاط كل منطقة واختصاص كل من المجموعات المتخصصة بصورة موجزة حتى تكون الفترة التي سبقت اللقاء بالشهيد سيد قطب واضحة المعالم ، وأننا قد انتقلنا إليه بهذه الحالة التي سأذكرها :

المناطق :

مارس كل مسئول عمله في دائرة اختصاصه ، وتم تسليم كل شخص الذين يتبعونه وتقع إقامتهم تحت إمرة منطقة أخري ، وتم ذلك بالتدريج وعلي مراحل ، وبصورة حذرة مع الحرص الشديد . هذا مع توزيع الإخوان في أسر من ثلاثة إلي خمسة أشخاص لهم أمير يتصل بمسئول البلدة والذي بدوره يتصل بالمسئول الذي يليه وهكذا حتى مسئول القيادة .

الاتصال بالخارج :

تم توحيد الاتصال بالخارج مع الدول العربية عن طريق علي عشماوي في مصر وعن طريق محيي الدين هلال بالخارج حيث يقوم هو بالاتصال بالإخوان المصريين وغيرهم خارج مصر . وكان الاتصال بينهم بثلاث وسائل منها سفر علي عشماوي للخارج ، ومنها إرسال مندوب من الخارج من غير المصريين كموفد مع تغطية حالته من حيث الاتصال ، والوصول ومظهره العام وكلمة السر وما إلي ذلك من احتياطات الأمن اللازمة ، وأذكر في هذه الحالة أنه حضر إلينا من بلد عربي رسول معه بعض الأوراق والخطابات كسائح عربي ، ومظهر يتفق مع حقيقته الظاهرة ، وعند سفره من مصر ارتدي بنطلون جينز الخنافس وقميصًا مشجرًا ونظارة معينة ، حاملاً بيده عود موسيقي ، ولوحة زيتية ، علي أن يكون في وداعه بمطار القاهرة شخص – تعرف علي شكله – دون أن يكلمه كلمة واحدة في المطار ، وإعطائه إشارة معينة من شرفة التوديع أنه مر بسلام من التفتيش . أما الطرقة الثالثة للاتصال بالإخوان في الخارج فكانت تتم بالرسائل البريدية ، التي توضع في صناديق البريد بإحدى الدول الأوروبية عن طريق الإخوان الطيارين بمصر للطيران والمنتظمين معنا ، مع التحفظ في كتابتها ، بحيث تكتب بصيغ متفق عليها معهم مسبقًا ولا يفهمها غيرهم .

النظام المالي :

كان يتم تجميع الأموال من الإخوان بواقع 5% علي الأقل من الداخل شهريًا كحد أدنى بالإضافة إلي التبرعات ، وتسلم هذه المبالغ للمسئول المالي للإنفاق منها علي احتياجات اللازمة ، وتسلم الأموال السابقة التي كانت لدي أي منا له .

الاتصال بالأستاذ المرشد :

كان يتم عن طريق الشيخ عبد الفتاح إسماعيل بواسطة الأخت زينب الغزالي يرحمها الله التي كانت تقوم بالذهاب للأستاذ المرشد في بيته أو في أي مكان آخر ، وكان يتم ذلك في أضيق الحدود وعند الضرورة فقط ، حيث كان منزله مراقبًا مراقبة مستمرة ليلاً ونهارًا . ومما كان يسهل مهمتها هو وجود صلة نسائية بينها وبين بيت الأستاذ المرشد مما يبدو علي أنه أمر طبيعي لا يلفت النظر ولا يثير الشكوك .

الاتصال بالسجن :

كان يتم بواسطة الشيخ عبد الفتاح كذلك والحاجة زينب ، ثم الأخت حميدة قطب شقيقة سيد قطب ، وكان هذا الطريق مأمونًا كذلك بتوفيق الله ، ويبدو عاديًا بحكم صلة الأخوات ببعضهم أسوة ببيت فضيلة المرشد .

الاتصال بالإسكندرية والبحيرة

كان يتم بواسطة الشيخ عبد الفتاح ، وتم الاتفاق علي الدمج معنا ، ورشح الأخ مجدي عبد العزيز منهم للاتصال بنا ، وكان وقتها ضابطًا احتياطيًا بالقوات المسلحة ، انتظم بعد انتهاء مدته بالجيش معنا وأصبح مسئولاً عن الإسكندرية و البحيرة ، والأبحاث العلمية والكيماوية باعتباره خريج كلية العلوم ومدير الإنتاج بمصنع النصر للأفلام وقتها .

مجموعة الأبحاث العلمية :

كان أعضاء هذه المجموعة من خريجي كليات العلوم – قسم الكيمياء – وخريجي كليات الهندسة – قسم كيمياء – وباحثين بالمركز القومي للبحوث والطاقة الذرية . وكانت هذه المجموعة تقوم بعمل أبحاث مختلفة بحكم خبرة أعضائها وذلك لتمرينهم وشغل أوقاتها وإعداد ما نحتاج إليه من أبحاث ، وقاموا بالفعل بعمل الأبحاث والتجارب ، وكان يشرف علي هذا القسم الأخ مجدي عبد العزيز كما سبق القول .

ضباط الجيش والشرطة :

بدأ التفكير في هذه الفترة في إدخال بعض الإخوان كضباط في القوات المسلحة ، وقد تم فعلاً إدخال عدد للكلية الحربية ، وتم تخريجهم وتوزيعهم علي بعض أسلحة الجيش ، فيما عدا واحدًا كان لا يزال طالبًا بالكلية الحربية عند الاعتقالات واسمه فتحي عبد الحق ، وتم الاتصال ببعض الإخوان ، بالجيش والشرطة والذين كانوا شبابًا عام 1954.

الرياضة والتدريب :

لم يكن واردًا في تفكيرنا خلال هذه الفترة القيام بأعمال عسكرية أو استخدام القوة وكان ذلك مستبعدًا تمامًا . ولكن من باب استكمال اللياقة البدنية وتفريغ جزء من طاقات الإخوان ، بدأنا التدريب علي بعض أنواع الرياضة البدنية ، كالمشي وتمرينات السويدي والمصارحة اليابانية ، والقيام بالرحلات ، وكان يشرف علي هذا الجانب الأخ مجدي عبد العزيز و علي عشماوي . ووضعنا في الاعتبار عند الحاجة التدريب علي استخدام الأسلحة والتي كان يشرف عليها الأخوان صبري عرفه و مجدي عبد العزيز حيث كانا ضابطين سابقين بالجيش ، وكان يعاونهما علي عشماوي . وفي هذه الفترة تم عمل معسكرين للتدريب والترويج للأخوة علي ساحل جمصة بمحافظة الدقهلية ، وآخر بمنطقة نائية في بلطيم بمحافظة كفر الشيخ – علي البحر كذلك - .

وكانت هذه الترتيبات معينة للذهاب والعودة والإقامة ، واستعمال كلمة سر وأسماء مستعارة ، وغير ذلك من احتياطات الأمن اللازمة . وكان نظام المعسكر روحيًا من ناحية العبادات بالليل والنهار ، وإلقاء المحاضرات التثقيفية ، والتدريب علي الحراسة مع ممارسة أنواع مختلفة من الرياضة البدنية ، مثل السويدي والجري والقفز والسباحة والمصارعة اليابانية ، وغيرها . وكذا التدريب علي الاعتماد علي النفس مثل الغسيل والطبخ وما إلي ذلك .

قسم المعلومات :

كان هذا القسم من الأقسام التي تحتاج إلي عناية خاصة لأننا كنا أكثر احتياجًا إليه في حركتنا لمعرفة عدونا ، وما يدور حولنا سواء علي النطاق المحلي أو العالمي . وكانت هناك صعوبات في البداية لندرة المعلومات المتاحة لدينا ، وكذا لصعوبة الحصول عليها ، بالإضافة إلي وسائل التدريب والممارسة .

وبدأن نستعين بالكتب المتداولة في السوق والتي قام بها قصص وحوادث عن الجاسوسية والاستخبارات وكذا الكتب البوليسية . وتم تحديد ما نحتاج إليه ونراه ضروريًا مثل عمليات المراقبة وكشفها ، والإخفاء والتخفي (التمويه) ، واستعمال الشفرة البسيطة اللازمة عند الحاجة واستعمال الأسماء الحركية للأشخاص والأشياء ، وغير ذلك مما يقتضيه سير الحركة لتجمع إسلامي ناشئ ، لا يسمح به الأعداء ولا أذنابهم ، ويشكل هذا العمل جريمة في نظرهم ، وكان أمامنا دائمًا الضربات التي كيلت وتكال للإخوان في مصر ، ولأمثالها من الحركات الإسلامية وروادها علي مستوي الساحة العالمية . وتم علي أثر ذلك تدريب بعض الإخوان في بعض المناطق علي طرق جمع المعلومات ، مع التنبيه عامة علي جميع المنتظمين ينقل ما تصل إليه آذانهم وأعينهم من أخبار أو حوادث وحتى الإشاعات وإبلاغها إلي مسئوليهم لتصل عن طريق السلم التصاعدي إلي المختص .

ومن مصادر المعلومات ما يلي :-

1 – مجموعة الصحف العربية :

سواء المصرية أو العربية التي تصدر في الدول العربية ويتم الحصول عليها من الداخل أو الخارج .

2 – مجموعة قراءة الصحف الإنجليزية :

وتقوم هذه المجموعة بترجمة الأخبار التي نحتاج إليها سواء علي المستوي المحلي (مصر) أو العربي والإسلامي أو العالمي . وكان يتم الحصول عليها إما بشرائها من السوق المحلية ، أو بشرائها من الخارج عن طرق الإخوة الطيارين وغالبًا ما كانت تصلنا في يوم صدورها .

3 – الصحف الفرنسية :

وكان يقوم بقراءتها وترجمة ما نحتاجه منها الأخ جابر رزق الصحفي – يرحمه الله – باعتباره يجيد الفرنسية ، هذا إلي جانب إمدادنا بأخبار الصحف وأجهزة الإعلام التي يعلمها بحكم تخصصه .

4 – مجموعة الاستماع :

وهذه تقوم بالاستماع إلي نشرات الأخبار من الإذاعات المحلية والإذاعات العالمية المختلفة وتستمع إلي التحليلات والتعليقات السياسية ونقل ما يلزم للمختص .

5 – أخبار المباحث العامة والمباحث الجنائية العسكرية والرقابة الإدارية :

وهذه كان يتولاها الأخ الدكتور علي جريشة وكان يتم حصوله عليها بحكم صداقاته الواسعة في هذه الأجهزة وطبيعة عمله أثناء عمله كوكيل نيابة سابق ، أو كمستشار في مجلس الدولة وقتها ، ويسهل مهمته هذا أنه محدث لبق ، يستطيع استدراج الغير والحصول منه علي ما يريد دون الشك أو الحذر منه حتى من رجال المباحث وقتها ، كذلك عن طريق الأخ إبراهيم منير الذي كان علي صلة بضابط مباحث ويعرف منه بعض الأخبار من الدردشة والمناقشة .

6 – أخبار القوات المسلحة :

وهذه كانت تأتينا عن طريقي الخاص بحكم عملي بإدارة كاتم أسرار وينقل لمجموعة القيادة فقط ما يتعلق باللعبة السياسية والتي كان يزاولها عبد الناصر وأعوانه ، والمشير وحاشيته ، و شمس بدران يلعب علي الحبل بين الاثنين . وتقوم اللعبة أساسًا علي تقديم أهل الثقة وإبعاد أهل الخبرة بالنقل ، أو الإحالة إلي المعاش أو الاستيداع أو ..... غيره ، كذا بواسطة الإخوان الضباط .

7 – أخبار رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء :

وكانت تأتي عن طريق الأخ الشهيد إسماعيل الفيومي يرحمه الله ، بحكم عمله وتحركاته مع عبد الناصر أينما ذهب .

8 – الرسم والمكياج :

كان الأخ محمد عبد الرحيم رحمي ، رسامًا وخطاطًا بارعًا ، وكان منتظمًا في مجموعة الجيزة مع الأخ الفاضل مبارك عبد العظيم عباد ، وتم تكليفه بالدراسة والتدريب علي عمل المكياج ، وخطا فيه بعض الخطوات ، ولكن لم تستكمل الصورة حيث دارت عجلة الأحداث بعد ذلك وحالت دون إتمام ذلك .

وبعد فترة من مباشرة قسم المعلومات لمهامه قام بعمل نشرة غير دورية ، تحتوي علي الأخبار التي يتم الحصول عليها من الصحف المحلية والأجنبية والعربية والإذاعات ، وغيرها مما يصل إلينا من معلومات تهمنا في خط سير الحركة ، مع مقالات تربوية ، وكذا كشف بعض المخططات العالمية التي تقوم بضرب الإسلام ، وتعرية الأنظمة وكشفها وإلقاء الضوء عليها وعلي البطولات والزعامات الزائفة أو تأتي الأخبار والإشاعات مما ينقل لنا من المستويات المختلفة من الإخوة المنتظمين بالتنظيم التي كانت علي الساحة وقتها مثل عبد الناصر .

عرض الإخوان بالخارج :

أثناء سفر علي عشماوي الأخير للخارج ، أبلغنا عند عودته بعرض الإخوان المصرية بالخارج مساعداتهم المختلفة خاصة الأسلحة ولقد كتب لهم كشفًا مطولاً بذلك ، أبلغنا بمحتوياته ، فاعترضنا عليه بشدة لهذا التصرف الفردي ، حيث إنه غير وارد في خط سيرنا ، ولم يسبق لنا طلب ذلك منه ، فادعي أنه اتفق معهم علي أن تكون الأسلحة جاهزة تحت الطلب في أي وقت نشاء . وتجمد الوضع علي ذلك حتى أثير مرة أخري عند تصاعد الأحداث فيما سيأتي بيانه إن شاء الله .

علاقة مجموعة القيادة ببعضها :

كان يغلب علي هذه المجموعة صلة الأخوة ، وحسن التفاهم بالحسنى ، وعدم إثارة الخلافات ، بل وتخطيها بسرعة عند اعتراضا ، ويرجع ذلك كله إلي فضل الله أولاً ثم إلي صدق وإخلاص أحدهم أو بعضهم ، وقد يكون في مقدمة الجميع الشهيد عبد الفتاح إسماعيل رحمة الله عليه .


3– الفترة من عام 1964 إلي 1965

اللقاء بالشهيد سيد قطب :

في عام 1964 خرج الشهيد سيد قطب من السجن بإفراج صحي ، وذهب إليه الشيخ عبد الفتاح مهنئًا ، وتكلما سويًا في بعض أمور الدعوة وطبيعة العمل الحالي ، وأفهمه باختصار أنه علي صلة ببعض الشباب الذين عندهم رغبة للعمل الإسلامي ويبحثون عمن يرشدهم ويوجههم ، ثم طلب من الشيخ عبد الفتاح إسماعيل مقابلتنا ، وتقابلنا معه في صيف 1964 في رأس البر ، واستقبلنا استقبالاً طيبًا كأنه يعرفنا منذ سنوات طوال ، وتحدث معنا حديثًا شيقًا بأسلوب جذاب يشد الانتباه وسمعنا منه مفاهيم جديدة لأول مرة ، وعرضنا عليه ترشيح شقيقه الأستاذ محمد قطب للجلوس معنا والاستفادة منه ، ولكنه اعتذر لنا اعتذارًا رقيقًا وقال إن محمدًا له مجال آخر ، وأي شيء تطلبونه أنا تحت آمركم ، وفي أي وقت ترغبونه ، وألا يكون لصحته أو وقته أي اعتبار .

ولقد تركت هذه المقابلة في نفوسنا أثرًا كبيرًا فعلي الرغم من أنه لم يخرج من السجن إلا لأيام معدودة مضت ، إلا أن كل انشغاله واهتمامه هو أمر هذا الدين ، وضرب لنا موعدًا نلتقي به في منزله بحلوان بعد ذلك وتم اللقاء وتكررت اللقاءات بعد ذلك ، وهو يوجه فكرنا منحي آخر وبطريقة ذكية . وكانت هذه اللقاءات قاصرة علي ما نسمعه منه من توجيهات عامة أو ما تعرضه عليه من استفسارات أو قضايا ، وكنا نتلاقى خارج هذه الجلسة لمناقشة شئون التنظيم المختلفة . وبعد عدة لقاءات اتفقنا علي أن نفاتحه في أن يشاركنا في الأمر كله ، ويوجهنا توجيهًا كاملاً ، وبعد أن استمع إلي وجهة نظرنا هذه ، قال " ليس لدي مانع ن ولكن قبلها لي مطلبان :

الأول : أريد معرفة كيف التقييم مع بعضكم البعض ، خاصة أني أري أن كل واحد منكم من بلدة بعيدة عن الأخرى ، ولا يوجد اثنان منكم من بلدة واحدة .

الثاني : لابد من أخذ إذن بذلك من الأستاذ المرشد .

فشرحنا له الظروف التي مررنا بها والمشاكل التي واجهتنا ، ولازالت تواجهنا خاصة عدم موافقة المسئولين علي ذلك ، وذكرنا له الأسماء ، ومضايقاتهم لنا . وبناء علي ذلك تطلب أن يتقدم إخوان العشرات الذين يخرجون من السجن ويعرفهم بدلاً منا ونتأخر نحن ونعمل تحت إمرتهم . وأجبناه عن المطلب الثاني بأن لدينا إذنًا سابقًا من فضيلة المرشد . ولقد عقب علي كلامنا بالآتي : بالنسبة للنقطة الأولي : ظهر عليه عدم الارتياح من اتصالنا بإحدى المجموعة القيادية للإخوان ، والتي تعتبر دائرة مغلقة علي نفسها بحكم التقارب الفكري والعائلي والاجتماعي بينها ، وقال " سيحاربونكم حربًا لا هوادة فيها " وقدر الله وما شاء فعل ، فإنهم لا يوافقون علي شيء خارج عنهم وعن دائرتهم . ولقد تحقق كلامه فعلاً بعد ذلك من كثرة المحاربة والمطاردة في كل مكان وتحذير الإخوان منا ، حتى قال أحدهم أبلغوا عنهم المباحث حتى لا يعرضوا الجماعة وتحذير الإخوان منا ، حتى قال أحدهم أبلغوا عنهم المباحث حتى لا يعرضوا الجماعة للخطر . وكنا نخشى أن نكتشف من كثرة الكلام بين صفوف الإخوان منهم ولكن الله سلم .

وبالنسبة للنقطة الثانية : أجاب : أن هذا الإذن الخاص بي شخصيًا لا بكم ، وأنا لا أفعل شيئًا بدون مشورته ، ولابد من استئذانه أولاً قبل البدء معكم ، وسوف أكتب له مذكرة بما سمعت منكم ، وأرسلها له أولاً حيث إن وقته وصحته لا يسمحان بالشرح والجلوس معه لفترة طويلة . ولعد ذلك أرسل للأستاذ المرشد المذكرة مع الشرح والتعليق في عدة صفحات كما أبلغنا ، وبعدها تم ترتيب لقاء في بيته بالمنيل وتناقش معه في أمر التنظيم ، وسأله الأستاذ المرشد عن العدد فأجابه بأنهم ما بين 300 إلي 350 ، شخصًا ، فقال أنا لا أتصور أنه في مصر 300 رجل فما بالك بثلاثمائة رجل مسلم عليك بتربيتهم والاهتمام بهم ، ولا داعي لإضافة أحد جديد حاليًا

ولما أثار معه موضوع الإخوان المخالفين لنا والسابق ذكرهم ، قال فضيلته : إن فلانًا حضر إليَّ عدة مرات يشكو من ذلك وقال : إن هؤلاء حيودوا الجماعة في داهية ، ويشكون من خطورة كتاب المعالم فأجبته : " إنتو خايفين من إيه ، وجماعة إيه اللي انتو خايفين عليها ، ما انتو موتوها طول العشر سنين ، هوه انتو فاكرين اللي قدمتموه هو ده كل شيء ، دا المسيحيين علي خلاف بينهم مات منهم بيجي ستين ألف ، دا الفلاحين بيموت منهم عشرين ولا ثلاثين في أكله ... " وأضاف " إذا كنتو خايفين علي أنفسّكم ، طيب ما تسيبو الشباب اللي عايز يعمل ويستشهد في سبيل الله ، ناس عايزين يستشهدوا ما تسيبوهم يستشهدوا " وعن المعالم قلت له " أنا قريت المعالم ، وإنت خايف من إيه ، هوه مكتوب عليه اسم المؤلف ، ولا منشورات الإخوان المسلمين "

وأخيرًا طلب الشهيد من فضيلة المرشد أن يكفوا عن الكلام عن الإخوان ( يقصد التنظيم ) فقال سأفعل إن شاء الله . ولا نريد أن نجري مقارنة هنا بين موقف هؤلاء الإخوان من التنظيم وموقف الأستاذ سيد الذي اتصل به من داخل السجن رغم خطورة ذلك عليه كسجين ، أو بعد خروجه مباشرة ، وتوليه القيادة بعدها بشهور واستمراره حتى قدم حياته راضيًا بذلك . ونفترض حسن النية فيهم ونترك نياتهم لله سبحانه وتعالي وحسابهم علي الله .

هكذا نقل لنا الشهيد سيد قطب ما دار في الجلسة مع فضيلة المرشد ويكاد يكون الكلام بالنص أو الحرف الواحد كما ذكرت . ولقد أثلج هذا الكلام صدورنا ، وأراح قلوبنا مع التأكيد علي موافقته لعملنا ، حيث كان يشاع أننا مخالفون وخارجون عن الشرعية ، ونتصرف من تلقاء أنفسنا ، وحرصًا علي صلتنا بالأستاذ المرشد وعلي الحركة نفسها لم نكن نستطيع الرد علي هؤلاء الإخوان بأن لدينا موافقة من الأستاذ المرشد . وبهذا اعتبرنا من يخالفنا هو الذي لا شرعية لموقفه ضدنا . ولقد التقي الرجلان – يرحمهما الله – معًا مرة ثانية للتفاهم والتشاور في بعض الأمور علي الرغم من المراقبة المستمرة لبيت الأستاذ المرشد ليلاً ونهارًا ، ولكنها عناية الله سبحانه

انتظام العمل مع الشهيد سيد قطب :

انتظم العمل بعد ذلك ، وحسن سيره بصورة أفضل من ذي قبل ، وساعد علي ذلك ما استجد في الأمر ، والذي كان حافزًا ، ويمكن إيجاز ذلك فيما يأتي :

1 – وجود الأمير الجديد :

كان وجود الشهيد سيد قطب معنا حافزًا قويًا ، ومؤثرًا لنا وعلينا ، حيث أصبح لنا شخص أكبر منا سنًا وخبرة وعلمًا نرجع إليه ونستشيره في أمورنا ويشاركنا متاعبنا ، ونستفيد من خبرته وعلمه وخلقه ومعاملته الطيبة وحكمته في معالجة الأمور .


المنهج الدراسي والتربوي :

وضع لنا الأستاذ سيد قطب منهجًا دراسيًا وتربويًا للسير عليه مع إخواننا يركز أساسًا علي العقيدة ، ثم الحركة بهذه العقيدة في تجمع حركي ، ثم الدراية والمعرفة بالمخططات الصهيونية والصليبية وأعوانهم لضرب الإسلام ووسائلهم في ذلك . ويمكن كتابة الكتب والمراجع التي احتواها هذا المنهج مما تعيه الذاكرة حاليًا كالآتي :

- رسالة العبودية

- ابن تيمية

- الإيمان

- العقائد

- الإمام الشهيد حسن البنا

- المصطلحات الأربعة

- أبو الأعلى المودودي

الأنعام – الأعراف – يونس – هود – يوسف – المائدة – النساء – البقرة – آل عمران . ( وبنفس الترتيب المذكور ، حيث إن السور الخمس الأولي مكية : وتتناول العقيدة ومحاربة أهل الباطل لها ولأتباعها مع الرسل الكرام ، والسور الباقية مدينة : تتناول الجوانب التشريعية والتطبيقية في وجود الدولة المسلمة ) .

- مبادئ الإسلام ... أبو الأعلى المودودي

- الإسلام والجاهلية ... أبو الأعلى المودودي

- شهادة الحق ... أبو الأعلى المودودي

- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ... أبو الحسن الندوى

- خصائص التصور الإٍلامى ... سيد قطب

- هذا الدين ... سيد قطب

- المستقبل لهذا الدين ... سيد قطب

- معالي في الطريق ... سيد قطب

- منهج التربية الإسلامية 1/2 ... محمد قطب

- جاهلية القرن العشرين ... محمد قطب

- هل نحن مسلمون ؟ ... محمد قطب

-- معركة التقليد ... محمد قطب

- الإسلام ومشكلات الحضارة ... سيد قطب

- العدالة الاجتماعية ... سيد قطب

- السيرة النبوية... ابن هشام

- زاد المعاد... ابن القيم

- رياض الصالحين... النووي

- سبل السلام... الصنعاني

- فقه السنة...الشيخ سيد سابق

- الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ... د . محمد محمد حسين

- الروحية الحديثة ... د . محمد محمد حسين

- برتوكولات حكماء صهيون ... مترجم

- خطر الصهيونية العالمية علي الإسلام والمسيحية ... عبد الله التل

- العالم العربي اليوم - مترجم – موروبرجر

- الغارة علي العالم الإسلامي ... مترجم – ترجمة محب الدين الخطيب

- الإسلام في العصر الحديث ... مترجم

- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ( الكتاب لا الكاتب ) ... د . محمد البهي

- زعماء الإصلاح ... أحمد أمين

هذا ما ذكره من البرنامج ويكاد يكون معظمه وبالترتيب المذكور .

مما دار مع الشهيد

العقيدة :

شرح الشهيد – رحمه الله – كيف أنه بدأ ينتبه إلي ذلك عندما طلب من منزله كتب الإمام الشهيد حسن البنا والأستاذ أبو الأعلى المودودي. ثم عكف بعدها علي دراسة الإسلام خاصة في كتب ابن تيمية وابن القيم والتفاسير وأضاف أن أية حركة لابد أن تبدأ من العقيدة ، حتى مع المسلمين وأصحاب الدعوة أنفسهم لأن العقيدة هي الأساس والركيزة لأية دعوة .

وأنه إذا بدأت حركة إسلامية باستثارة العواطف بالإسلام وأخلاقياته والمطالبة بتطبيق شريعته دون البدء والتركيز علي العقيدة ، فكأنها بنت بيتًا جميلاً مستوفيًا المرافق واكتملت مظاهره الخارجية من نوافذ وطلاء دون أساس متين .. إلخ ثم مع هبوب أول عاصفة أطاحت به وخر البيت علي من فيه لماذا ؟ لأن البيت بني بصورته المتكاملة الظاهرية ، ولم يقم بناؤه ببناء الأساس ، والأساس هنا والذي أقصده هو العقيدة ، تمامًا كما فعل رسول الله صلي الله عليه وسلم والقرآن يتنزل عليه في مكة ، كذلك مع الصحابة رضوان الله عليهم ، فخرج هذا الجيل الفريد .

ولن أنقل هنا ما تناوله بشأن العقيدة مع المجموعة لأني مهما حاولت لن أستطيع النقل الكافي في ذلك وسيكون كلامًا مكررًا مني ولا يصل أبدًا إلي درجة الشهيد في العرض . ولقد ورد بالتفصيل في كتبه لمن أراد الرجوع إليها مثل :

- تفسير سورة الأنعام في الظلال – خاصة العقيدة .

- تفسير السور المكية – خلاف الأنعام – من الظلال .

- خصائص التصور الإسلامي – خاصة باب التوحيد .

- لا إله إلا الله منهج حياة – من المعالم .

- وأخيرًا آخر ما كتبه :

" مقومات التصور الإسلامي " خاصة باب إلوهية وعبودية .

وهو يعتمد في عرضه للعقيدة في هذه الأماكن من الكتب المذكورة علي القرآن الكريم المكي ، وعلي السيرة النبوية في المرحلة المكية ، مدللاً علي أن القرآن المكي مقتصر علي العقيدة ومقتضياتها من عبادة وسلوك وأخلاق علي مدي ثلاثة عشر عامًا لا يتجاوزها إلي غيرها من تفصيلات النظام والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم : " لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة ، هي القضية التي تتصدي لها الدعوة من اليوم الأول للرسالة ، وأن يبدأ رسول الله صلي الله عليه وسلم أولي خطواته في الدعوة بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق ويعبدوهم له دون سواه " .

المخططات العالمية

إلي جانب الكتب التي تساعد علي إلقاء الضوء لمعرفة حقيقة المعركة والسهام والسموم الموجهة للإسلام ، والتي ذكرت جانبًا منها في المنهج المقرر ، كان للشهيد الفضل في وضع أيدينا وأبصارنا علي دور المخططات العالمية ، وأثرها في ضرب الإسلام وتحويل الناس عنه . وكانت بداية الحديث في هذا الموضوع عندما كان يتحدث معنا عن دور أمريكا في إعداد الثورة المصرية ورعايتها قبل وبعد قيامها ، وكيف أن الإخوان بكل بساطة ساهموا في نجاحها ؟ ، وكيف أن سيد قطب يكتب لهم – بكل سذاجة – مذكرة مطولة ( كلامه نصًا ) ويقدمها لهم عن موقف المخابرات الإنجليزية والأمريكية معه أثناء رحلته لأمريكا سنة 1948 ، ظنًا منه وقتها أنهم أناس مخلصون ووطنيون .

فاستوضحنا الأمر ، كيف تكون أمريكا كذلك وروسيا حاليًا هي التي تقوم بتقديم كافة التسهيلات والمساعدات لعبد الناصر ، كالسلاح وتمويل السد العالي وغيره من أوجه المساعدات المختلفة ، بل وتطبيق النظام الاشتراكي . فأجاب رحمه الله : لقد اتضحت له هذه الحقيقة بعد حرب 1956 ، والدعاية المحلية والعالمية التي نسجت لها ، وظهور عبد الناصر بدور البطل الذي هزم الدول الثلاث انجلترا وفرنسا وإسرائيل .

وبدأ الأمر ملاحظة ثم دراسة ومتابعة حتى وصلت لنتيجة وهو أن الدور الذي يقوم به عبد الناصر هو نفس دور كمال أتاتورك مع التعديل حسب الوضع الحاضر ، وتجنب أخطاء التطبيق في حالة أتاتورك ، وأن أتاتورك نفسه تم إعداد وتنفيذ دور مماثل له وهو هزيمة القوات اليونانية أمامه وإظهاره بمظهر البطل المنقذ لتركيا ومشاركة الدعاية العالمية في إظهاره في دور البطل المنقذ وضخموا انتصاراته ، فظهر بمظهر البطل محرر تركيا ، وبعدها وبناء علي هذه الدعاية المرسوم والمخطط لها قام بإسقاط الخلافة وتحويل تركيا إلي دولة علمانية ، ومسخ الإسلام في كثير جدًا من المجالات فيها .

وهكذا تم إعداد عبد الناصر لدور البطل وزعيم المقاومة العربية ، واستطاع البطل الذي أسقط الملكية وحدد الملكية ، وأنهي الإقطاع ، وأمم البنوك وقناة السويس والصناعات الكبيرة وأقام السد العالي وغير ذلك من الإصلاحات الظاهرة ، استطاع ضرب الإخوان – ببساطة – وعمل التغييرات المختلفة في مصر والتي لا يقدر عليها غيره ، كبطل قومي . فعبد الناصر صناعة أمريكية ، برعاية روسية ظاهرة ، بمساعدة وتدعيم الصهيونية العالمية . ثم انتقل بعد ذلك لشرح دور التغيير في مصر بدءًا من الحملة الفرنسية فمحمد علي ومن بعده وانتقال العدوى إلي المنطقة بعد ذلك . فتم استقدام النصارى الشوام لمصر لوضع الأسس واللبنات للتغيير وتخريج جيل من المصريين يقومون باستكمال الدور بعد ذلك . سواء كان في دور الصحافة والنشر . والتمثيل في المسرح والغناء والرقص ، قام به في الغالب النصارى الشوام والمصريون واليهود من مصر والشام .

فأعداء الإسلام يحيطون حاليًا بالمسلمين من كل مكان كما يحيط السوار بالمعصم ولكن لا ننسي أنهم بشر ، والبشر فيه العجز والجهل والقصور والضلال ومن خلال هذا تنفذ إرادة الله . وأضاف : ما كنت أريد التحدث معكم في هذا الموضوع إلا بعد استيفاء موضوع العقيدة ولكنني اضطررت إيضاحه بعد فتحه منكم ، ويراعي عدم الحديث في هذا الموضوع مع المبتدئ إلا بعد تركيز العقيدة في نفسه ، خشية عمل رد فعل عنده وهزيمته نفسيًا عندما يري العالم كله يحاربه ، وبشاعة وخبث ودهاء المخططات العالمية ، أما عند وجود الركيزة الإيمانية فينظر إلي ذلك – مع ضعفه – نظرة استعلاء ، لأنه مع الله سبحانه وتعالي ، ويستعين بالله عليهم ويتوكل عليه ويستنصره لهزيمتهم ، ولا يكون ذلك عقبة في طريقه ، بل لمعرفة الأرض تحت أقدامه ومن حوله ، ويستبين سبيل المجرمين ، حتى يكون علي بينة من الأمر ، وحتى يسير وهو يحسب خطواته ومترقب ما حوله وأمامه.

نظرة بعض الإخوان إلي مؤلفاته :

أثرنا معه ما يتناقله البعض من الإخوان في السجون عما ورد في كتبه فقال :

عندما كنا في السجن ، وصل إلي علم الإخوان بسجن الواحات بعض آرائي فنقل أعضاء مكتب الإرشاد بالواحات للأستاذ المرشد شكواهم وشكوى الإخوان من ذلك فأجابهم : " ما قاله صاحب الظلال هو الحق الذي لا شك فيه " وانتهي إلي هذا الحد وبدأ الإخوان بعدها يتدارسون الظلال في الواحات في صورة مجموعات بإشراف أعضاء مكتب الإرشاد وكذلك تم نفس الشيء في سجن القناطر باستثناء البعض . وتم ذلك علي اعتبار كلام فضيلة المرشد موافقة علي ما ورد في الظلال .

وبعدها حضر إلي سجن طره كلّ من الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ عبد العزيز عطية عضو مكتب الإرشاد وقتها في أوقات مختلفة وتفاهمت مع كل منهما أثناء حضوره واتفقنا تمامًا ولم يبديا أي خلاف أو اعتراض علي ما قلت . ولما سئل الأستاذ المرشد عن كتاب المعالم قال : (إنه كتاب عظيم) وأوصي الإخوان بقراءته كما أرسل الأستاذ عمر التلمساني رسالة الأستاذ سيد بعد صدور المعالم ، قرأها علينا تفيض رقة وعذوبة وأسلوبًا أدبيًا رفيعًا مفعمًا بالحب والعاطفة والثناء علي الأستاذ سيد وعلي كتاب المعالم وما ورد به لدرجة أني بكيت وقتها من شدة التأثر مما ورد بها .

المفاصلة

كثر الكلام في موضوع المفاصلة ، منهم من اتخذه ذريعة لمقاطعة الناس والمعيشة في الجبال والكهوف ، ومنهم من تناوله بصورة مبتورة أو مشوهة في كتبه والبعض لم يدرك حقيقة ما قصده الشهيد سيد قطب ، وتبني الأمر بصورة مجافية تمامًا للحقيقة ونقول – بعون الله – نقلاً عنه :

المفاصلة أمران :

1 – مفاصلة شعورية ( معنوية )

2 – مفاصلة مادية

والمفاصلة الشعورية (المعنوية) في القلب ، ولا يطلع عليها أحد ولا يعلمها إلا الله ، وهذه يجب أن تكون يقينية فلا ولاء ولا محبة ولا مناصرة مع أهل الباطل ، حتى لو تعاملت معهم بعض المعاملات المادية ، فالمفاصلة الشعورية أو المعنوية في القلب تمامًا كموقف سيدنا إبراهيم عليه السلام في سورة الممتحنة ، وهذه المفاصلة تكون مع الإيمان ، سواء في دار الإسلام أو في دار الحرب ومع أهل الباطل في حالة القوة والمنعة ، أو في حالة الاستضعاف يكون المؤمن ملازمًا لهذه الفاصلة وبينه وبين المجتمع الجاهلي من حوله وكل الروابط سواء كان في عقيدته أو تصوره وعرفه وعاداته وتقاليده ، ينخلع من كل ما هو جاهلي إلي كل ما هو إسلامي في الاعتقاد والتصور والأخلاق والسلوك والتشريع ، ويكون هو ومن معه في حزب الله ، ويقفون تحت راية الإسلام ، تجمعهم الأخوة في الله ، ومن عاداهم يشكلون حزب الشيطان ويقفون تحت راية الباطل ، وتكون المفاصلة بين حزب الله وحزب الشيطان حاسمة بلا لبي ولا غموض . ولا تمنع المفاصلة من إحسان الصلة والمعاملة الطيبة مع الأهل والأقارب والناس وتقديم القدوة الطيبة لهم في حسن المعاشرة ماداموا لهم يظهروا العداء ، ولمن لم يظهر منه المقاتلة لأصحاب الدعوة .

فقد " دعا سيد قطب إلي العزلة الشعورية المتعلقة بإحساس المسلم ومشاعره ، لا العزلة المادية الحسية المتعلقة بالأعضاء والجوارح في حدود ما أحل الله من حلال وما حرم من حرام ، وكان يري أن أهل العزلة الشعورية تنشأ تلقائيًا في حس المسلم الملتزم تجاه من لا يلتزمون بأوامر الله " .

أما المفاصلة المادية :

فهي المفاصلة في المعاملات المادية الظاهرة ، وقد تكون في موقف أو أكثر أو معاملة أو غيرها ، علي حسب ما يقابل الشخص وهو يعيش في المجتمع الجاهلي ، وحسب قدرته واختياره – إن كان له خيار – وليس معني المفاصلة المادية في المجتمع الجاهلي اعتزال الناس والمجتمع ، والمعيشة بعيدًا عنهم ، بل يعيش في وسطهم يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة ويصبر علي آذاهم ، ويكون القدوة الطيبة لهم في أخلاقياته ومعاملاته حتى يفتح الله بينه وبينهم ولنا في رسول الله صلي الله عليه وسلم القدوة الحسنة في حياته ومعاملاته والصبر علي الأذى في مكة المكرمة ، وكذا الصحابة الأبرار رضوان الله عليهم ، ولا تكون المفاصلة المادية كاملة إلا حين يعيش المسلم في مجتمع إسلامي منضبط ومحكوم بالإسلام ، فتكون مفاصلته المادية مع دور الكفر والباطل في إطار الدولة الإسلامية .

وبناء علي ذلك :

فالأخ المسلم في المجتمع الجاهلي يتعامل مع المجتمع رضي أم كره ، فله الخيار مثلاً في اختيار الزوجة أو الالتحاق بعمل ، وحتى في العمل ليس خياره حرًا تمامًا ، فإذا ما عمل في التجارة وهو حر في هذا الاختيار ، فإن الدولة ستجبره لنظمها وقوانينها الجاهلية ، وستضطره لدفع الضرائب كارهًا ، فيقوم بتدعيم النظام الجاهلي بماله بطريقة غير مباشرة ، وهكذا . وإذا ما عمل في إحدى وظائف الحكومة ، أصبح عضوًا مدعمًا للجاهلية بجهده وفكره ، وقد يؤدي بعض الأعمال المخالفة لعقيدته ، وأقل الوظائف تأثيرًا عليه هي مهنة التدريس .

وكذلك الحال في الشاب المجند بالجيش سيضطر للدخول فيه رغمًا عنه ، ولا يستطيع الفكاك من ذلك حيث إن كل أمر في الدولة متوقف علي أدائه هذه الخدمة ، ومع ذلك لا يجوز له أبدًا إذا ما تم أن يقتل مسلمًا في حرب أو غيرها مهما كانت الظروف والأوامر الصادرة إليه . وهناك من الوظائف التي لا يجوز للأخ أن يلتحق بها أبدًا مهما كانت الأسباب ، كأن يكون ضابط مباحث ، أو في أجهزة الإعلام ، لأنه يكون عونًا للطاغوت بطريقة مباشرة ، مساهمًا في تقويته والحفاظ عليه ، أو بوقًا له ولسياسته مهما حاول تجنب ذلك ، وسيكون ترسًا صغيرًا في آلته الكبيرة ، لا حول ولا قوة ، وقد سبق أن أرسلنا مجموعة من الإخوان كصحفيين – عند صدور جريدة الإخوان – للتمرين في جريدة أخبار اليوم فلم يرجع لنا منهم سوي واحد ، والباقي ابتلعته الدوامة هناك .

ولكن يجوز للجماعة اختيار أفراد معينين لزرعهم في هذه الأماكن للخبرة والمعرفة من ناحية ، وليكونوا عينًا لها في هذه الأجهزة ، ونقل أخبارها للجماعة علي أن يتم اختيارهم بدقة وعناية وأن يكون الأخ علي درجة كبيرة من الوعي العقيدي والإدراك الحركي ، ومقتنعًا بالمهمة التي يؤديها . يقول رحمه الله " إن العظمة الحقيقية أن نخالط هؤلاء الناس متشعبين بروح السماحة والعطف علي ضعفهم ونقصهم ، وخطئهم ، وروح الرغبة الحقيقة في تطهيرهم وتنقيتهم ورفعهم إلي مستوانا بقدر ما نستطيع " .

التعامل مع الناس :

نريد ونحن نعرض الإسلام علي الناس أن نكون قدوة طيبة في أخلاقنا وفي عرض دعوتنا عليهم ونتعامل معهم بلين ورفق ، فهم مجال دعوتنا . فنعرض عليهم هذا الدين بصورته الواضحة الناصعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالي علي رسوله صلي الله عليه وسلم وكما دعا الناس في مكة إلي هذا الدين . ومع عرضنا لهذا الدين ، لا نعرض عليهم النتائج ، بل ولا تصل بهم إليها حتى لا تجعل رد فعل بيننا وبينهم ، ونحن عند عرضنا للحق كاملاً واضحًا غير منقوص سيري الشخص – عند العرض – في أي مرحلة من هذا الكلام ، في أوله أم في أوسطه أم في آخره أم خارجه تمامًا ، فنتركه يضع نفسه في النقطة التي يقف عليها ، وسيسعي هو – إن كان خير – إلي استكمال النقص عنده وتخطي المرحلة التي يقف عليها إلي ما بعدها .

والحذر كل الحذر من تكرار ما فعل بعض الإخوان مع غيرهم حيث بدءوا معهم من النتائج والحكم علي مواقف وأحداث سابقة بالخطأ ، فأدت إلي أزمة وخلاف معهم ومع إخوانهم . ونحن لا نستطيع الآن أن نحكم علي تصرف سابق بأنه كان خاطئًا دون تقدير الظروف والملابسات والدوافع التي أدت إليه في وقتها ، أو التي اضطرته إلي ذلك ، وسنري أن الوضع سيختلف إذا ما راعينا هذه الاعتبارات ، ونفترض في أصحاب هذه المواقف حسن النية ، والغيرة علي الإسلام ، وندعو الله لهم أن يجزيهم علي نياتهم ، ويرحم موتاهم ، ويتقبل شهداءهم وأن يبعثهم علي نياتهم .

المساومات

بعد الإفراج عن الأستاذ سيد عام 1964 ، أرسل الرئيس العراقي عبد السلام عارف سفيره بالقاهرة إلي الأستاذ سيد مهنئًا ، وعرض عليه الانتقال إلي العراق والعمل كمستشار للرئيس عبد السلام عارف ، فاعتذر للسفير ، وقال بلغ الرئيس عبد السلام شكري ، وأن صحتي لا تناسب جو العراق وأنا أريد جوًا جافًا مثل جو حلوان . ولا نجزم القول بأن ذلك يدخل في باب المساومات ، نحسب أن الرجل كان مخلصًا في ذلك مع الشهيد سيد. ولكننا ندخل ما نقوله بعد ذلك في باب المساومات مثل :

1 – بعد خروج الأستاذ سيد من السجن ، طالبته الضرائب بمبلغ 40.000جم كضرائب مستحقة عليه ، وبعدها بفترة ذهب إليه أحد كبار رجال المباحث وعرض عليه العمل كوكيل وزارة مع إعفائه من الضرائب المستحقة عليه فاعتذر له عن قبول ذلك ، مع اعتبار أن هذا المبلغ وقتها كبير جدًا .

2 – بعد فترة أخري حضر إليه ثلاثة من رجال المباحث ، أذكر منهم أحمد رشدي وبعد دردشة من هنا وهناك ، وسؤاله هل الفيلا التي يسكنها ملك أم إيجار ؟ ، فلما أجاب بأنها إيجار ، أبدوا دهشتهم قائلين : كيف يكون شخص مثلك لا يملك مثل هذه الفيلا وغيرها ؟ ، ثم بدءوا يعرضون عليه أمر الكتابة في الصحف قائلين :

" هل يعجبك سيطرة الشيوعيين علي الصحف ؟ ، لماذا لا تخترق هذا المجال لتقليل سيطرة الشيوعيين ؟ " فقال لهم : " ومن الذي يعينهم في هذه الأماكن أنا أم أنتم ؟ " ثم قال لهم ساخرًا : " ومَنْ مِنْ رؤساء تحرير الصحف يجرؤ علي نشر مقال لي ؟ " فقالوا : " اكتب أي مقال وأعطه لنا ونحن نتولى نشره ، بل ولك أن تحدد الجريدة التي تريدها " فقال لهم بإصرار : " أنا لا أقبل أن أنشر شيئًا باسمي في هذه الصحف وأنا لا أرضي أن ينشر لي بإذن المباحث ، وأنا لا أعتذر فقط بل أرفض كذلك " وانتهت المقابلة .

3 – بعد فترة أخري زاره ثلاثة آخرون ، أحدهم عالم لبناني كبير وآخر مصري يعمل في المؤتمر الذي كان يرأسه أنور السادات في ذلك الوقت ، والثالث عراقي . ولقد عرضوا فكرة إنشاء مجلة إسلامية يتولي رئاسة تحريرها ، وقد اعتذر لهم كذلك وقال لنا بعدها : إن اللبناني طيب وحسن النية ، والمصري مكلف يؤدي مهمة ، أما العراقي فهو رجل مخابرات مدرب ، يعرف متى يتكلم ومتى يصمت ، وعقب علي ذلك بأنهم يريدون تلويث اسمه بالعمل معهم ، وهم حريصون دائمًا علي تلويث الراية ، راية الإخوان ، بمحاولة استدراجهم للعمل معهم والمشاركة في نشاطاتهم وأنظمتهم حتى يلوثوهم وبالتالي يفقدونهم أي بريق أو تأثير لهم عند الناس .

فكرة اغتيال جمال عبد الناصر

عرضنا عليه فكرة اغتيال جمال عبد الناصر وأن لدينا أخًا في حرسه يستطيع أداء ذلك بسهولة ، ويلح بإصرار في ذلك ، فأجاب :

لا أريد أن تشغلوا أنفسكم بهذه القضايا ، ولو حتى كان الاستيلاء علي الحكم وتطبيق الشريعة الإسلامية ، ولا القضايا السياسية والوطنية والإصلاحات الجزئية . نحن نريد الإسلام في نفوس وقلوب الناس قبل أي إجراء آخر ، نريد تربية إسلامية قائمة أصلاً علي أساس العقيدة ، والأخلاق الإسلامية ، ويجب عدم إضاعة الوقت في فرض التشريع الإسلامي بالقوة ، قبل أن تكون القاعدة المسلمة في المجتمعات والتي تسعي لإقامة النظام الذي عاشت به وتعرفه . وهكذا فعل رسول الله صلي الله عليه وسلم مع أصحابه حتى تربت وتكونت القاعدة الصلبة القوية التي قام علي أكتافها النظام بعد ذلك في المدينة . وكان في استطاعة رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يكلف أحد أصحابه بقتل أبي جهل أو غيره ، الذين يقفون في طريق الدعوة والتخلص منهم ، ولكنه صلي الله عليه وسلم لم يفعل ذلك رغم سهولة تنفيذه وسرعة استجابة الصحابة – رضوان الله عليهم – لذلك لو أمرهم الرسول صلي الله عليه وسلم بذلك ولكنه لم يفعل لأن هذا ليس هو الطريق .

.

بوادر الخطر

مع سير العمل واستقراره وتتابعه ، إلا أن ذلك لم يغفلنا عن متابعة الأحداث وتجميع المعلومات من هنا وهناك ، وعرضها للمناقشة ووضع قرار أو علاج لها ، ومع شهر إبريل عام 1965 بدأت دلائل تنذر بالخطر ، وتنبئ بأن الحكومة تدبر أمرًا ما للإخوان ، وبدأ هذا الأمر مع توالي المعلومات ، ويتأكد يومًا بعد يوم ونذكر من الدلائل ما يلي:

1 – بعد ظهور كتاب المعالم بدأت أجهزة المباحث تنشط خوفًا من وجود تجمع علي هذه الأفكار التي وردت فيه ، أو الخوف من أن يحدث تجمع علي ذلك خاصة مع ورود فقرات منه تدعو لذلك صراحة . وبدأ فعلاً رجال المباحث يستدعون بعض الإخوان في مناطق مختلفة ، يناقشونهم ويستفسرون منهم ، وكثيرًا ما كان محور المناقشة هو كتاب المعالم وما به من أفكار ... إلخ .

2 – كانت توجد في هذه الفترة قضية جواسيس فرنسيين ، ونشرت الصحف علي لسان أحدهم : " يوجد نشاط للإخوان في مصر ولكن لا يمكن فهمه أو تحديده " .

3 – وزعت في بعض دور الصحف والتلفزيون منشورات تهاجم الحكومة تحمل طابع ولهجة الإخوان ومع علمنا بأن الإخوان براء من ذلك ، إلا أننا أرجعنا الأمر لاحتمالين :

أ – أن يكون الشيوعيون هم أصحاب هذه المنشورات ، ويريدون بها الوقيعة بين الحكومة والإخوان .

ب- أن تكون المباحث وراء ذلك لتكون مبررًا لاعتقال الإخوان بافتعال هذا السبب ، وإن كانوا لا يعدمون تلفيق هذا السبب أو غيره أو بدون سبب إطلاقًا كحادث المنشية الذي يتأكد يومًا بعد يوم تدبيره ، وما أعقبه من أحداث عام 1954 .

4 – زار شواين لاي وزراء الصين مصر في ذلك العام ، وأشبع أن الإخوان وضعوا عبوة ناسفة في طريق القاهرةالإسكندرية الصحراوي لنسف موكبه مع عبد الناصر وكان هذا الاتهام باطلاً ولا أساس له من الصحة ، ليكون الدافع ما ظهر في البند السابق .

5 – نشرت صحيفة روزا ليوسف وقتها أن الإخوان يستعدون لانتخاب مرشد جديد لهم ومرشد لهذا المنصب ثلاثة أشخاص هم :

- منير الدلة .

- صالح عشماوي .

- مصطفي الملا .

وكنا علي يقين من كذب هذا الخبر ، أولاً لوجود المرشد والإخوان لا يرضون بغيره بديلاً ، وثانيًا : كيف يتم الانتخاب في مثل هذه الظروف ، وثالثًا : أن الاسم الثالث وهمي لا حقيقة له . وأخيرًا : من غير المعقول أن تنشر مجلة مصرية خبرًا كهذا دون إيحاء من السلطة .

6 – أنه تم بناء دورين جديدين في سجن أبي زعبل وتم ذلك في تلك الشهور التجهيزات لاستقبال (ضيوف) جدد من إعداد بطاطين وملابس وغيرها ، قيل أن عددها ستة آلاف بدلة سجن .

وقد تأكد لها هذا الخبر بعد اعتقال الإخوان في هذا السجن ورؤيتهم للمباني الجديدة وإخبار المساجين لهم بالاستعدادات قبل حضورهم .

7 – نشرت إحدى المجلات الأمريكية عن كتاب "جاهلية القرن العشرين" للأستاذ محمد قطب ، وكتاب "معالم في الطريق" للأستاذ سيد قطب ، وكتبت المجلة تحذر من الكاتبين والكتابين وتصفهما بالتعصب .

8 – نشرت إحدى المجلات اللبنانية أنه اجتمع سفراء الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط الأربعة عشر سفيرًا لبحث موضوع "عبد الناصر" وطلب أربعة منهم الإطاحة بعبد الناصر واستبداله لهبوط شعبيته ، وممكن عمل بعض الإصلاحات مع مجيء الوضع الجديد للسلطة .

أما الثمانية الآخرون فقد طالبوا الإبقاء عليه لأنه لازال الشخصية المرموقة علي مستوي العالم العربي ويتفهم دوره جيدًا في اللعبة ، ورفعت الدراسة من السفراء للإدارة الأمريكية ، فأخذت بالرأي الثاني وهو الإبقاء عليه في السلطة وطالبت الإدارة الأمريكية عبد الناصر سرعة اتخاذ خطوات نحو الصلح مع إسرائيل فأجابهم بأن أجهزة الاستخبارات عنده تقول إن الظروف النفسية للناس لا تتقبل هذا الأمر الآن ، والسبب الثاني والعقبة في ذلك الإخوان المسلمون – انتهي كلام المجلة .

وبعدها بدأت أجهزة المباحث تنشط تجاه الإخوان لإيجاد المبرر لتوجيه ضربة لهم ، هذه وغيرها من الأخبار والإشاعات ، بدأت تثير عندنا الهواجس ، حتى وصلت لاعتقال بعض الإخوان بالقلعة في شهر يوليو 1965 وبعدهم كان اعتقال الأستاذ محمد قطب . وعند شعورنا بالقلق والخشية من تكرار ضربة مثل ضربة 1954 وتذكر الأهوال التي تصيب الإخوان من التعذيب والتشريد وغيره ، ثم الخوف علي هذا التنظيم الوليد من وأده في مهده ، كل هذه الاعتبارات وغيرها جعلتنا نفكر وما السبيل ؟ . هل نصبر ونسلم أنفسنا كما يحدث في كل مرة ، أم أن هناك وسيلة أخري لرد هذا الاعتداء ودفعه أو سحقه إن أمكن ، أو علي الأقل للدفاع عن أنفسنا .

وتم بناء علي ذلك عرض الموضوع ومناقشته مع الأستاذ سيد ، وكان ملخص ما ورد في عدة جلسات ما يلي :

كانت هناك موافقة مبدئية من الجميع علي رد الاعتداء والدفاع عن النفس ، وذلك لحماسة الدعوة ، وقال الشهيد في ذلك كسيوف بني هاشم في مكة ، وبدأ السؤال عن الإمكانية والأفراد الذين يكونون علي استعداد وذوي كفاءة معينة وكان أكثر المتحمسين لذلك علي عشماوي والذي عرض إمكانية الأفراد بالقاهرة والجيزة وعددهم وإمكانياتهم واستعدادهم ، واتضح بعد ذلك عقب الاعتقال أن كلامه كان مبالغًا فيه ، مما يزيد من علامات الاستفهام حوله .

وبدأن معاودة الاتصال بالإخوان بالخارج لتسلم السلاح السابق الاتفاق عليه مع علي عشماوي وبعد التحري والتأكد أن تجهيزه تم بعيدًا عن أي أحد ، وتم بأيدي الإخوان وحدهم ، وأنه موجود في أفريقيا ، وممكن الوصول عن طريق السودان إلي أسوان وعمل ترتيب كل ذلك لاستلامه بدقة متناهية . ومن ناحية أخري بدأ حصر العمليات التي ستتم داخل مصر ، وتحديد كل مجموعة لها وتمرينهم عليها ، وبدأت عمليات التدريب علي السلاح ، والمتفجرات وغير ذلك علي أن يكون ذلك للدفاع الشرعي فقط ورد العدوان ولا يكون البدء من جهتنا أبدًا .

وأثناء التجهيز والاستعداد لذلك تم اكتشاف التنظيم بصورة متسلسلة عجيبة أشبه بالروايات البوليسية ، دون خطأ أو تقصير أحد ، ودون مهارة أو قدرة أجهزة الاستخبارات المختلفة ، وهم غالبًا لا يعرفون قضاياهم إلا عن طريق السياط والتعذيب ولكن كيف حدث ذلك ؟ ، وفي هذا التوقيت بالذات ، لقد تم ذلك بقدر الله لحكمة لا يعلمها إلا المولي سبحانه ، ربما لم تتضح نتائجها إلا بعد ذلك ، ولنبدأ في عرض كيفية اكتشاف التنظيم وما ترتب علي ذلك من اعتقالات ، وتعذيب ومحاكمات صورية وأحكام في غاية القسوة .

اكتشاف التنظيم

بدأت الاعتقالات في شهر يوليو 1965 بالأستاذ محمد قطب ومجموعات من الإخوان الذين سبق الحكم عليهم سنة 1954 وأفرج عنهم وعن غيرهم ، وأودعوا سجن القلعة الرهيب بإشراف المباحث العامة من الاعتقالات والتعذيب بالقلعة وبطريقة عشوائية للبحث عن شيء وشمل الاعتقال كذلك الشهيد سيد قطب بعد ذلك الذي اعتقل يوم 9 أغسطس 1965 باعتباره أحد المفرج عنهم في قضايا 1954 و 1955 وأودع معهم بسجن القلعة .

ثم شمل الاعتقال كذلك غيرهم وأودعوا بسجن أبي زعبل ، ومعتقل الفيوم دون أي سبب كذلك . ولم يودع أي أحد من الإخوان بالسجن الحربي بل أودعوا سجن القلعة ، ولكن كانت هناك قضية حسين توفيق وقضية مصطفي أمين وغيرها من القضايا التابعة للمباحث الجنائية العسكرية . وكان ضمن المقبوض عليهم في قضية حسين توفيق شخص يدعي سامي عبد القادر ويعرف الأخ يوسف القرش من الإخوان ، وأثناء تعذيبه اعترف علي يوسف القرش وقال إن عنده قنبلتين يدويتين ، وعند ذهابهم للقبض علي يوسف القرش في قريته سنفا بمحافظة الدقهلية لم يجدوه وقيل لهم إنه عند صديقه بالقاهرة حبيب عثمان ، وتم القبض علي حبيب عثمان و يوسف القرش في القاهرة .

وتحت التعذيب الشديد لحبيب عثمان ولمدة 15 يومًا اعترف علي أعضاء أسرته ، واختفي النقيب ولم يتم القبض عليه ، وانقطع الخيط ، وكان هذا النقيب هو الأخ مصطفى الخضيرى ، يرحمه الله . وكان الشهيد عبد الفتاح إسماعيل مطلوب اعتقاله ضمن من اعتقلوا عام 1954 ، فلم يجدوه في قريته ، فذهبوا إلي أخيه الشيخ علي إسماعيل – رحمه الله – ليسألوا عليه فلم يجدوه فاعتقلوا الشيخ علي كرهينة وسألوه مع التعذيب عن معارفه فدلهم علي المهندس فاروق الصاوي ، وأفرجوا عنه . وعلموا بصلة الشيخ عبد الفتاح إسماعيل بالشيخ محمد عبد المقصود العزب واعتقلوا صهره الشيخ عبد الفتاح فايد المقيم بالمطرية بالقاهرة فعذبوه عذابًا شديدًا اعترف بعدها علي بعض الشباب الذين يعرفهم الشيخ عبد الفتاح منهم ثلاثة بكلية الطب وواحد بكلية التجارة وهو محمود فخري فاعترف علي بعض الإخوان منهم محمد عواد أول شهيد عام 1965 في السجن الحربي ، وكان عنده مصطفي الخضيرى (المحامي) الذي استطاع الهرب وكان هو نقيب أسرة حبيب عثمان الهارب .

وتحت التعذيب لمحمود فخري دلهم علي شقة مرسي مصطفي مرسي ( باحث بالمركز القومي للبحوث) ، وعملوا فيها كمينًا علي القادمين للشقة التي كانت في إمبابة بمحافظة الجيزة . ومن القادمين للشقة والذين اعتقلوا عند طرق الباب الشهيد عبد الفتاح إسماعيل و مبارك عبد العظيم عياد و علي عشماوي وحملوهم إلي السجن الحربي وكان ذلك يوم 20 أغسطس 1965 . وحتى ذلك الوقت لم تتضح صورة التنظيم لهم ، وكانت الصورة أمامهم مجرد معارف ولقاءات ، ولكن علي عشماوي اعترف لهم اعترافات مذهلة بعد التعذيب المبدئي تمت علي أثرها حملة الاعتقالات الواسعة لأعضاء التنظيم وبعض معارفهم ، وأصدقائهم وأي إنسان له صلة بأي شخص بالتنظيم ، وشملت الاعتقالات جميع الإخوان علي مستوي الجمهورية من واقع ملفات المباحث العامة من عام 1948 حتى عام 1965 .

وتعدي الأمر غير الإخوان من الأنشطة والاتجاهات الإسلامية الأخرى مثل حزب التحرير الإسلامي ، جماعة التبليغ ، أنصار السنة المحمدية ، الجمعية الشرعية ، وغيرهم ، بل أي إنسان له اتجاه إسلامي ولا هوية له في أي مكان ، بل وصل الأمر لاعتقال أي ملتح أو أي شخص عليه أمارات الإسلام . وشملت الاعتقالات الرجال ، الشباب ، النساء ، وعائلات بأسرها مثل عائلة الهضيبي وعائلة سيد قطب وغيرهم . بل شملت بعض أهالي القرى حتى لم تترك إخوانًا أو غيرهم وشملت أهل القرية جميعًا مثل قرية كرداسة بالجيزة التي حوصرت بالمدافع والمدرعات والجنود وأقيمت بها المتاريس .

ويلاحظ أن اكتشاف التنظيم يتم بمهارتهم ، ولكن قدر الله ، ولعل في ذلك حكمة لا يعلمها إلا الله سبحانه ، ويلاحظ أن الاعتقالات بدأت قبل اكتشاف التنظيم بما لا يزيد علي شهر ، وكانت تقوم بعملية الاعتقال المباحث العامة ، ويتم إيداع المعتقلين في السجون والمعتقلات المدنية ، أما الذي يقوم باعتقال أعضاء التنظيم بعد اكتشافه فهم المباحث الجنائية العسكرية ويتم التعذيب والإيداع بالسجن الحربي . ولكي نعطي فكرة مبسطة عن الإجراءات العجيبة والوسائل الشيطانية التي قام بها رجال المباحث العسكرية بإشراف شمس بدران بقيادة أسياده ممن ظهر منهم علي المسرح أو من كان وراء الستار يحرك خيوط الدمى ، سوف نعطي فكرة سريعة عما تم بواسطة المباحث العسكرية بدءًا من شهر أغسطس 1965 وحتى حرب 1967 .

الاعتقال :

من المعلوم في العصر الحديث أن الدول التي تحترم نفسها وتحافظ علي كرامة شعبها وتحترم إنسانيته تقوم بوضع النظم والقواعد المنظمة لإجراءات الضبط والاعتقال والتحقيق والمحاكمات ثم ضمانات الحكم وتنفيذه . فلا يؤخذ الناس بالظن ولا يعتقلون أو يحتجزون إلا بموجب تهمة نص عليها القانون وأن المتهم برئ حتى تثبت إدانته ، ولابد من استصدار أمر سابق من النيابة بالقبض علي المتهم وحقه في طلب محام لحضور التحقيق ، وحقه في الامتناع عن الإجابة وعدم ممارسة أي ضغوط عليه ولو معنوية .

أما إذا كانت دولة كمصر يحكمها طاغية مثل جمال عبد الناصر ولا تحترم نفسها ولا تحافظ علي كرامة شعبها وتهدر إنسانيته فلا قيمة لهذه النظم والقوانين حتى مع وجودها علي الورق ، مادام يحكمها قانون الغاب ودكتاتورية الحاكم وتنفيذ سياسة العبيد إرضاء لنزوات الحاكم وشهوته المتسلطة . ولا يظن أحد أن الاعتقال بمعناه التقليدي هو أن يكون بأمر مسبق من النيابة العامة من احترام حقوق المتهم والضمانات اللازمة لشخصه وسلامته والتي أصبحت من المسلمات في الدول المعاصرة . فالاعتقال في عرف عبد الناصر وزبانيته هو دخول منزل المطلوب اعتقاله في ساعة متأخرة بعد منتصف الليل والانتشار في أرجاء البيت شاهرين مسدساتهم وبنادقهم ورشاشاتهم ودخول الحجرات علي النساء والأطفال ، ثم التفتيش وقلب المنزل رأسًا علي عقب ، وحمل ما يحلوا لهم خاصة المواد الخطرة والتي في مقدمتها الكتب الإسلامية وأي مخطوطات خاصة مثل الخطابات وغيرها ، ولا بأس عندهم من حمل نقود أو ذهب أو أي أشياء ثمينة وغاليًا ما تذهب في جيوب زبانية الليل ولا تدون في الأمانات ، وقد حدث ذلك كثيرًا .

وإذا كان المطلوب القبض عليه غير موجود بالمنزل فلابد من أخذ رهينة بدلاً منه لحين القبض عليه أو تسليم نفسه ، وغالبًا ما تكون زوجته ، أو أمه ، أو أخته ، أو أسرته جميعًا وأقاربه ، والويل ثم الويل إذا رفض الأهل ذلك . وبعد ذلك تؤخذ الضحية (المعتقل) إلي مصيره المجهول دون السماح لها بحمل أي شيء معها كالملبوسات أو غيرها ، ويصطحبونه إلي ذلك العالم المجهول ، إلي السجن الحربي وما أدراك ما السجن الحربي ، أو إلي أي سجن آخر وما أكثر السجون والمعتقلات في مصر بدءًا من يوليو 1952 ونذكر مثالاً صارخًا لطريقة الاعتقال ، وما يمكن أن يحدث فيها من وسائل لعلها تعطلا جانبًا من الصورة وهي : حادثة كرداسة .

حادثة كرداسة

تروي لنا كتب التاريخ وتدرس في المدارس حادثة دنشواي التي وقعت عام 1906 وتصور لنا هذه الكتب فظاعة ووحشية الاستعمار الإنجليزي وما فعله مع هذه القرية التي تقع في محافظة المنوفية . وبمقارنة ما فعله الاستعمار الغاشم في هذه القرية مع أهلها بما حدث في قرية كرداسة ، فلا وجه إطلاقًا للمقارنة بين ذلك المستعمر الانجليزي وبين الحكم الناصري الغاشم ، بل لا وجه للمقارنة إطلاقًا لما حدث طوال فترة الاستعمار الانجليزي الذي استمر سبعين عامًا وما وقع منه مع المصريين ، مع أي حادثة من حوادث السلطة الغاشمة التي تحكم مصر في عهد [[[جمال عبد الناصر|عبد الناصر]] ، سواء ما حدث منه مع الإخوان عامي 1954 و 1965 أو ما حدث في قرية كمشيش بالمنوفية أو قرية كرداسة موضوع حديثنا ، أو مع غيرها فرادي وجماعات مع شتى شرائح المجتمع .

وإذا كان كثير من المصريين استغلوا حادث دنشواي للتنديد بالاستعمار وما ارتكبه في هذه القرية ، سواء كان ذلك بالخطابة أو بالكتابة في الصحف وغيرها وفي مقدمة هؤلاء المصريين مصطفي كامل ، مما كان له أثر في رحيل كرومر المعتمد البريطاني عن مصر . وهو ما لم يستطيع أحد أن يفعله إطلاقًا علي إثر حادثة كرداسة وفي أي صورة من صور التعبير سواء بالنقد أو بالاحتجاج ، ولا حتى ذكر الواقعة علي حقيقتها كما وقعت مما يلطخ سمعة النظام ويكشف سوءته وما أكثر سوءاته . وقرية كرداسة هذه من أعمال محافظة الجيزة ، تقع علي بعد ستة كيلو مترات من الأهرامات الثلاثة ، كان عدد سكانها عام 1965 حوالي 100.000 (مائة ألاف نسمة) ، معظمهم يمارس الزراعة وصناعة النسيج اليدوي ، ويمتاز أهلها ببساطة أهل الريف ، ورباط العائلات والجوار ، ومن سماتهم المميزة أنهم لا يقبلون الضيم خاصة إذا كان من السلطة .

ولقد بدأ مسلسل الأحداث في هذه البلدة الآمن أهلها في مساء يوم 21 أغسطس عام 1965 في حوالي الساعة التاسعة مساء ، حيث يكون معظم الناس قد أووا إلي منازلهم ويغلب علي القرية الهدوء والسكون حيث لم يكن قد دخلها التليفزيون أو الفيديو بعد ، حضر في هذا الوقت من الليل خمسة من رجال المباحث الجنائية العسكرية والتي ليس لها أي صفة قانونية من صفات الضبط القضائية ، كما هو متعارف عليه عند رجال القانون ، ولم يكون في تلك الأيام أي صفة للقانون أو اعتبار لرجاله من السلطة الغاشمة . ترك هؤلاء الخمسة سياراتهم في الجهة الغربية من البلدة وهو طريق ترعة المنصورية بالقرب من طريق القاهرةالإسكندرية الصحراوي سائرين علي أقدامهم من الجهة الغربية مارين بوسط البلدة حتى شرقها حيث يقع منزل المطلوب القبض عليه ، وهو الأخ السيد نزيلي الأخصائي الاجتماعي . ولما وصلوا إلي منزله لم يجدوه عاثوا في المنزل تفتيشًا وجمعوا الكتب الموجودة بالمنزل ، وأرادوا أخذ زوجته رهينة عندهم لحين القبض علي زوجها أو تسليم نفسه ، كما هو المعتاد عندهم وقتها من أخذ أي عنصر نسائي رهينة بدلاً من المعتقل في حالة عدم وجوده ، فمنعهم شقيقه عبد الحميد ، وتجمهر الأهالي لمنعهم من ذلك بالحسنى ولما لم تجد معهم الحسنى ، منعوهم بالقوة فأطلقوا الأعيرة النارية حتى تمكن الأهالي من الاستيلاء علي الأسلحة لمنعهم من استعمالها ، وحدثت معركة بين الفريقين أو شجار قيل إن الضابط توفي من أثر ذلك ، وقيل ، إنه حدثت له "تربنه" في رأسه ، ولاذ بعضهم بالفرار يلاحقهم الأهالي أثناء فرارهم من البلدة من شرقها إلي غربها .

والإجراء المتبع في مثل هذه الحالة عند الاعتقال هو الاستعانة بعمدة القرية أو ضابط نقطة الشرطة بالقرية ، أو شيخ البلد ، مع إثبات الشخصية وأوراق طلب القبض ، ولما كان كل ذلك لم يحدث ثار الأهالي وظنوا في بادئ الأمر أنهم مختطفون للعروس التي لم يمض علي زواجها سوي أسبوع واحد . فماذا حدث بعد ذلك لهذه القرية المسكينة !؟ والتي حاولت المحافظة علي عرض إحدى نسائها من اختطافها بواسطة خمسة رجال شداد من بين أيديهم وأمام أعينهم ، وبدافع من رجولتهم وكرامتهم حاولوا منع ذلك ، ولكن أني لهذه الرجولة والكرامة في ذلك العهد الذي ديست فيه الكرامة بالأقدام . وما مهمة عبد الناصر إذن حتى يبقي عند الناس الكرامة أو بعض منها ، إنه جاء لاقتلاعها ضمن ما اقتلع من القيم والطباع الكريمة .

لما عاد من عاد من هؤلاء الخمسة فارين بجلدهم مما حدث لهم ولزملائهم أخطروا رؤساءهم بالسجن الحربي ، وقيل إن العقيد شمس بدران استدعي الفريق أول محمد فوزي الذي كان رئيسًا لهيئة أركان حرب القوات المسلحة وأعطاه التعليمات بأن تأخذ هذه البلدة درسًا لا تنساه ، لمدة مائة عام قادمة . وبعد منتصف هذه الليلة اقتحمت القرية وحاصرتها القوات (الغازية) بالمدرعات والمدافع والرشاشات وسيارات الجيب ، وتم نصب مدافع الهاون في مدخل البلدة مصوبة لها والضباط وصف الضباط من مختلف الرتب والجنود ، وأشيع أن الذي قاد هذه الحملة هو الفريق أول محمد فؤاد الدجوى الذي تقلد منصب القاضي في المحاكمة بعد ذلك . وسار الضباط والجنود بأسلحتهم وخوذاتهم ، وكافة استعدادات الحرب والطوارئ يغلقون المنازل والمحلات ويدخلون جميع بيوتهم ، ولا يسمحون لأحد بفتح باب أو نافذة . وفي صباح اليوم التالي اتخذت هذه القوات نقطًا ثابتة في المدارس ومداخل البلدة المختلفة وعند موقف سيارات الأجرة أول البلدة من الجهة الشرقية في مواجهة القاهرة .

وبدأ الناس في الصباح يخرجون كالعادة إلي أمالهم بالقرية أو حولها أو بالقاهرة ، فبدأت قوات الشرطة العسكرية والمباحث العسكرية وقوات الجيش ، تلقي القبض علي أي شخص يخرج من بيته ، أو يسير في الطريق أو عند موقف السيارات سواء كان موظفًا ، أو مزارعًا ، أو حتى من جنود القوات المسلحة المجندين من أهل البلدة المتوجهين في الصباح إلي وحداتهم العسكرية . وتم إيداع كل من يقبض عليه في مدارس البلدة ، حيث يقومون بجلدهم وتعذيبهم بالمدرسة ، واختير لذلك وحش السجن الحربي المفترس الرائد حسن كفافي الذي تولي الإشراف علي إهانة وتعذيب خلق الله من الأبرياء من الرجال وحتى النساء . وتم القبض كذلك علي عمدة البلدة ومعظم رجال عائلته رجالاً ونساء ، ومنهم من كان مدير مكتب حسين الشافعي ، وكذا مشايخ البلدة والأعيان والوجهاء وجميع الإخوان المسجل أسماؤهم من عام 1948 : 1954 وحتى غير المسجلين ، وكذا أصحاب السلاح المرخص وتم سحب السلاح منهم ومن أصحاب السوابق السابقة والمشوهين ، وجميع أقارب وجيران وأصدقاء الأخ سيد نزيلي – سبب الحادث – من الرجال والنساء وعلي السواء ، وفي مقدمتهم زوجته ، وأصدقاء وزملاء الدراسة للإخوان مثل زملاء الدراسة للأخ أحمد ياوه وزملاء الدراسة بالمعهد الفرنسي للأخ جابر رزق (الصحفي) الذي كان رئيسًا لمجلة اللواء الإسلامي بعد ذلك وتوفي عام 1988 – رحمه الله – وأغلقت البيوت والمحلات لمدة 72 ساعة لا يخرج أحد من بيته ، ولا يسير في الطريق ، ولا يذهب لعمله أحد ، وتم الحبس للجميع في منازلهم حتى الحيوانات لم تسلم من ذلك ونالها جانب من بطش عبد الناصر فلم تخرج للمرعي ولا للسقيا ، حتى الموتى امتهنوا في هذه البلدة في تلك الأيام ، حيث لم يتم إخراج الموتى إلا بعد جهد جهيد وموافقة قوات " الاحتلال " الناصري وتم إخراج الجثث التي توفيت في تلك الأيام تحت الحراسة ويحملها الأقارب فقط .

عاشت البلدة في رعب وذعر رهيبين طوال الاثنين وسبعين ساعة ، محبوسين في منازلهم ، واستمر هذا الإرهاب لفترة طويلة ، تعززه إلي جانب القوات المسلحة قوات الشرطة بإشراف وزير الداخلية وقتها شعراوي جمعة الذي ذهب بنفسه للبلدة في هذه الأيام العصيبة . وتم نقل من قبض عليهم من أهل البلدة علي دفعات متتالية إلي السجن الحربي ، رجالاً ونساء ، شبابًا وشيبانًا ومن مختلف المهن والأعمار . وهناك في السجن الحربي حيث المهانة ، والكرامة تداس بأقدام الطواغيت الصغار والكبار ، وحيث يتم التعذيب بلا هوادة ولا رحمة مع البريء والمتهم مع الكبير والصغير مع الشيخ والعالم والمثقف والأمي ، والخلاصة : مع أي شخص يدخل من بابه حتى يقدر الله له الخروج من هذه الغابة التي يحكمها الذئاب بمكرها وخستها ونذالتها .

وزاد علي ذلك أساليب أخري ، وقسوة لا متناهية مع أهل هذه البلدة والجميع بلا استثناء ، لأنهم تجرءوا علي نفر من زبانية السلطة ، وقاموا يذودون عن جزء من كرامتهم الممتهنة ، وأني لأحد أن تكون له الجرأة في المطالبة أو الدفاع عن أي حق مغتصب أو مهان وعلي أي مستوي ، وفي أي موقع وفي أي مكان ، في عهد عبد الناصر. ومن الأساليب التي استخدمت مع أهل كرداسة خلاف التعذيب بالسياط والتعليق كالذبائح ، والجري السريع الذي هو الصورة الغالبة مع الجميع ، أضيف لأهل هذه البلدة بإشراف اللواء حمزة البسيوني وتنفيذ صفوت الروبي وأعوانه ، أن يسير الرجال علي الأيدي والأرجل وفوق ظهورهم النساء ، وإن وجدت زوجة فتمتطي ظهر زوجها ، وكذا حلق أحد الحواجب وترك الآخر ، أو حلق جانب من اللحية لمن كان ملتحيًا وترك الآخر ، أو شق الجلبات من أعلي إلي أسفل من الأمام أو من الخلف ، أو خلع الملابس وترك الشخص بالملابس الداخلية فقط ، وغير ذلك من الأساليب الحقيرة الكثير والكثير .

وتم بعد ذلك محاكمة بعض الجنود المجندين بالجيش والذين تم اعتقالهم في صباح 22 أغسطس 1965 ، وتم ذلك أمام محاكم عسكرية ، وقضوا أحكامهم بسجن القناطر بعد فصلهم من القوات المسلحة دون سبب إلا أنهم من القرية . هذا موجز قصير وسريع لما حدث في بلدة كرداسة ، فهل ما تم في دنشواي بل في عهد الاحتلال الانجليزي كله لمصر مثل ما حدث لهذه البلدة ؟ وهل إذا سمع الآن أحد من هذه البلدة الذين عاصروا تلك المأساة لا يتغير وجهه ويضيق صدره ، ويكيل الدعوات واللعنات علي عبد الناصر وكل من اشترك معه في فترة حكمه وشاركه هذا الجو الرهيب ، هل هو محق أم مبالغ في ذلك ؟ بل كثير من الأهالي إذا حاولت استعادة تلك الأحداث معهم ، صرفك عن ذلك ولا يريد التحدث فيها أو سماعها أو تذكرها أبدًا .

من هذه الحادثة ، بل من هذا العهد كله وما حدث فيه من انتزاع القيم والأخلاق واقتلاع الإسلام من الجذور ، وبذل روح الذل والمهانة والخوف واللامبالاة عند الكثيرة من أفراد الشعب ، حتى يستطيع تقبل ما يصنعه الحاكم الطاغية ، ويدير كل شيء وفق شهوته وهواه . ولعل ما حدث مع هذه البلدة لو أنه حدث في عهد الاستعمار لثار الناس وثار الشعب بأكمله ضد الاستعمار الغاشم ، وهو ما كان يحدث في مصر في حرب القناة مع الانجليز وما حدث في الجزائر مع الفرنسيين . أما مع الاستعمار الجديد الخفي ، حيث تقوم الأنظمة المدعومة والمحروسة والمؤيدة بالدور مع شعوبها خير قيام بعد أن تتخذ ألوانًا وشعارات براقة عقب قيام النظام العسكري يتقلد زمام السلطة ، فتذيق الشعب الذل ، والهوان وتقوم بكل ما لم يستطع الاستعمار العسكري فعله ، وتقطع خط الرجعة علي كل صوت حر نزيه ، أو كل مصلح ، لأن من يتولي السلطة هو من الأحرار الثوار ، زعيم القومية العربية ، ويكون كل من يقف أمامه هو صاحب مطمع أو انتهازي أو غير ذلك .

وبهذا استطاع عبد الناصر بذر الرعب والخوف في قلوب الجميع ، وامتهان كرامتهم وآدميتهم وشغلهم بالاهتمامات التافهة ، والجري وراء لقمة العيش والسكوت والرضي بكل ما تفعله السلطة ، بل والتصفيق والهتاف والأغاني لكل ما يقوم به وعدم شغل أنفسهم بما يجري – إلا ما رحم ربي – حتى أصبحت الخامة المصرية طرية رخوة يقوم بتشكيلها وتسييرها وفق ما يريد . ولعل ما حدث من الهزيمة المنكرة عام 1967 ، وتقبل الناس لذلك والسكوت عليه خير شاهد علي النتيجة التي وصل إليها الناس ، وأصبح من ديدن الناس اللامبالاة والسلبية وتقبل ما يفعله الحاكم برضي وخنوع . ولولا ما حدث في عهد عبد الناصر من صرف للناس عن كل ما هو جاد ومسخ الهوية الإسلامية ، بل حتى الوطنية عند الناس حتى صارت يسهل قيادها وتسييرها ، لولا التغيير الجذري الذي حدث في مصر ، ما كان يجرؤ السادات فيما بعد علي فعلته وذهابه للقدس ، وما استتبع ذلك من توقيع اتفاقية مع اليهود .

السجن الحربي

إذا كان "خوفو" قد بني الهرم الأكبر في مصر ، والذي لا يزال باقيًا علي مر السنين واقترن اسمه بهذا الهرم القابع في صحراء الجيزة ، فإن عبد الناصر ظل اسمه في عهده وبعده مقترنًا باسم السجن الحربي ، ذلك المكان الرهيب أذلي ارتاده آلاف الناس طوال عهده من فئات الشعب علي اختلاف ثقافتهم وأمارهم واتجاهاتهم .

ومن العجيب أن هذا المكان يقع في أحد أحياء القاهرة وهو مدينة نصر ، بجوار إستاد القاهرة ، ورغم أنهم أزالوا جميع معسكرات الجيش التي حوله من جميع الجهات إلا أنهم أبقوا علي هذا المكان ، باعتباره ضرورة من ضرورات السلطة ، وركنًا ركينًا من أركانها ، فحافظوا علي مساحته التي تبلغ حوالي عشرة أفدنة ، واحتفظوا ببناياته مع التعمير والتحسين ، وأقاموا حوله المتاريس والخراسانات والأسوار والأسلاك والخنادق . ولسنا نغالي أن مصر في عهد الثورة كانت تحكم من هذا المكان أو بعقلية هذا المكان ، حيث السلطة والجبروت لمن يديرونه جميعًا ، وحيث تسليم النزيل فيه بكل ما يفعل به ويراد له ، دون رد الاعتداء أو الدفاع الشرعي أو حتى مجرد الاعتراض أو إبداء عدم الرضا . كذلك كان حال السلطة والناس خارج هذا المكان حيث السجن الكبير الذي يسع الشعب كله بنفس الأسلوب وبهذه الطريقة تمامًا . وقد بناه الانجليز عام 1930م ليكون سجنًا للمذنبين العسكريين من رجال الجيش البريطاني ، وعندما انتقل الجيش الانجليزي إلي منطقة القناة ، تسلمه الجيش المصري وخصصه لذات الغرض ، وظل كذلك محتفظًا بغرضه حتى قامت الثورة فاستقبل المعتقلين المدنيين لأول مرة في سبتمبر عام 1952 أي بعد قيام الانقلاب بشهرين .

وفي أكتوبر عام 1952 اعتقل عدد كبير من ضباط سلاح المدفعية والمدرعات والمشاة ، وسيقوا إلي السجن الحربي ومورس معهم التعذيب وإهدار الكرامة مع بداية ذلك العهد . وبعد أزمة مارس 1953 زج بالكثير من أصحاب الرأي والقلم فيه كذلك . أما الهجمة الشرسة ودخول الآلاف لهذا السجن فكانت عقب تمثيلية المنشية بالإسكندرية عام 1954 ، حيث مورست مع الإخوان شتى أنواع التعذيب ، وبعدها طوال عهد عبد الناصر لم ينقطع عن هذا السجن النزلاء من المدنيين والعسكريين مع صنوف التعذيب اللاإنسانية .

والسجن الحربي هذا ترتفع حوله أسوار عالية ، يعلوها علي مسافات حراسة تستطيع رؤية الداخل والخارج ، وفوق الأسوار من أعلي أسلاك شائكة وكشافات مبهرة للإضاءة ليلاً . وله بوابة كبيرة واحدة بأبواب حديدية ، وبمجرد الدخول وغلق الباب يشعر الإنسان أنه في مكان معزول عن العالم تمامًا ، حيث المباني والشوارع ، والحركة الدائمة من الجنود ليلاً ونهارًا ، وكلاب الحراسة الحيوانية المنتشرة في أرجائه من الداخل ، وينقسم السجن إلي عدة سجون داخلية تبدأ من رقم واحد وتنتهي برقم خمسة ، أكبرها جميعًا السجن الكبير رقم (1) وكل سجن به عدد من الزنازين في الدور الأول والثاني ، ماعدا السجن الكبير فذو ثلاثة طوابق ، ويكون كل منهم أربعة أضلاع مغلقة من جميع الجهات فيما عدا الباب الحديدي حيث الحراسة ومكتب الرقيب الذي يشرف عليه ، وداخله دورات المياه بدون سقف والباب مفتوح حوالي 30سم من أسفل ، أما الزنزانة فمساحتها حوالي مترين في 160سم بارتفاع حوالي أربعة أمتار ونصف ، وبها فتحة بقضبان حديدية قرب السقف ، والأرض مبلطة بالأسمنت وبابها حديدي يغلق بمتراس من الخارج بأسفله ارتفاع عن الأرض حوالي 20سم .

جو الزنزانة عمومًا شديد الحرارة صيفًا ، شديد البرودة شتاء خاصة في الليل ، والزنزانة رقم 9 في السجن الكبير لها استثناء خاص حيث بني لها سور صغير أمام الباب وبها مياه راكدة تزداد عند الحاجة ، والحاجة تكون عند مبيت شخص بها ليل نهار ، قد تكون صحته لا تسمح باستعمال السياط معه فينام ويقف ويجلس ويقضي حاجته في هذا المكان . هذا خلاف مكاتب الإدارة ، والتي تستخدم للتعذيب داخلها وأمامها أيام الطوارئ بعيدًا عن السجون الخمسة ، وكذلك مستشفي داخلي لعلاج المصابين من التعذيب لاسترداد صحتهم لمواصلة التعذيب معهم مرة أو مرات أخري ، أو الحجز للمرضي ذوى الأمراض المزمنة الخطيرة فقط . ومما لا شك فيه أن هناك مستودعًا للسياط للصرف منها باستمرار لمواجهة الضغط المتزايد من القادمين وشدة الطلب عليها . والأصل أن هذا السجن للمسجونين العسكريين التابعين للقوات المسلحة والمحكوم عليهم في القضايا العسكرية ، كما سبق القول .

ومدير السجن الحربي عام 1965 هو اللواء حمزة البسيوني ، حيث ظل مديرًا له عام 1954 وما بعدها ، وشاهد واشترك في المذبحتين ، وهو ذو شهرة واسعة في غلظته وجبروته وقسوة قلبه ، سواء من دخل هذا السجن أم كان خارجه وسمع خبره . ورتبة لواء هذه في الجيوش ذات قدر رفيع ، حيث يقود صاحب هذه الرتبة لواء ، واللواء مكون من ثلاث كتائب هذا خلاف الوحدات المعاونة ، بل ربما يقود جيشًا لدولة ما في حرب من الحروب ، ولكن في مصر وفي عبد الناصر يتولي قيادة السجون للإشراف علي التعذيب وإهدار آدمية البشر بحكم هذه الرتبة ولا عجب فكل شيء في هذا العهد البغيض ذو غرابة ومن العجب العجاب ، وكل ما هو شاذ ومخالف للعقل والمنطق كان سمة من سمات عهد " الثورة " التي رفعت شعار الحرية والكرامة لتدوس أبسط مبادئ الحرية والكرامة .

فما الذي يحدث لمن يدخله : هل مجرد حبس أو اعتقال وعزل عن العالم الخارجي أم أنه أمر آخر ؟ . فعلاً .. إنه أمر آخر لا يخطر علي البال ، ولا يتصوره عقل .. بل حتى من كان له النصيب في معايشة هذه المأساة وربما لا يستطيع وصفها أبدًا ، ولكنه قد يستطيع تقريب الصورة إلي الذهن ما استطاع إلي ذلك سبيلاً . ولكي نعطي الصورة تقريبية لابد من الكلام عن حفل الاستقبال ، ثم التعذيب أو ما يسمي تجاوزًا " التحقيق " ، وأخيرًا النيابة باعتبارها مارست عملها " القانوني " داخل هذا المكان علي مرأى ومسمع من التعذيب .

حفل الاستقبال :

تسمي إجراءات حضور المعتقل من منزله ودخوله السجن الحربي حفل استقبال ، فيذهب به إلي المكاتب حيث " حضرات " الضباط و " الجنرالات " يديرون المعركة ، وهي فعلاً معركة ولكنها معركة بين أهل الحق وأهل الباطل ، والحق أهله عزل ولا حول ولا قوة إلا بالله سبحانه ، والباطل متمكن بالسلطة والبطش . وهناك في هذه المكاتب ينال الضحية قدرًا من التعذيب البسيط مقارنًا لما بعده ، كالصفع والركل والسباب وما إلي ذلك ، حتى يتعود ما بعده ، مثل " التسخين " في حالة الألعاب الرياضية ، وطبعًا يتم ذلك دون سؤال عن حالته أو تهمته ، بل قد يكون بريئًا ولا دخل له بأي شيء ويفرج عنه بعد ذلك . ثم يساق إلي العنبر الذي حدد له حيث يتم استقبال آخر من زبانية السجن الداخلي ، ويتم المرحلتان في عدة ساعات ، واقفًا وجهه للحائط أو يتسلي عليه الزبانية بشتى أنواع الضرب والسباب ، وحتى يتعود علي ما بعد ذلك الذي يستمر أيامًا وشهورًا .

ولقد رأيت في إحدى الليالي إحدى النساء أنزلوها من السيارة وأوقفوها وجهها للحائط وسط ساحة التعذيب .

ويتم إسكانه في زنزانة بعد أن ينال قسطًا من الإرهاق النفسي والبدني مع الإرهاب الشديد ، ويدخل بعد ذلك الزنزانة المظلمة الموحشة ببابها الحديدي ، وأرضها الأسمنتية ، وسقفها المرتفع ، بحيث تكون في الصيف شديدة الحرارة ، وفي الشتاء قارسة البرودة ، وتصرف له بطانية واحدة قديمة رائحتها كريهة ، يتصرف فيها كما يحلو له كوسادة أو كغطاء أو كفراش ، وكذا يكون له فيها " قصرية " من المطاط يستعملها للشرب ولقضاء الحاجة . ويظل الباب مغلقًا عليه ليل نهار لا يفتح إلا للذهاب للتعذيب أو لدقائق سريعة لدورة المياة صباحًا ومساء ينال فيها أيضًا قسطًا من السباب واللكمات والصفعات وغالبًا ما يعود دون قضاء حاجته ، وقد يستطيع استبدال ما فيها من آثار قضاء الحاجة ببعض الماء لكي يشربه ، ثم يقضي فيها حاجته بعد نفاذ الماء ، أي أنها تستعمل للبول و ...... ولمياه الشرب .

التعذيب " التحقيق " :

ذكرت أنه الدول " المتحضرة " توجد ضمانات للاعتقال والحبس وكذلك ضمانات للتحقيق ، فلا يوجد أي ضغط يحمل أي شخص علي الاعتراف بأي شيء ، ولا تستعمل أي وسيلة من وسائل الإكراه البدني أو المعنوي ، أو الإغراء ، هذا بالإضافة إلي كفالة حقوق أخري للمتهم مثل حضور محام معه أثناء التحقيق ، وكذا كفالة حق الامتناع عن الإجابة . ومن العجيب أن تسمي مراحل التعذيب المختلفة في عرف عبد الناصر وزبانيته ( تحقيقًا ) ، حتى يخففوا من وقع ما يحدث أو يخففوا من روع المتهم إن كان (خامًا) أنه مأخوذ للتعذيب . والأمر يدعو للغرابة والدهشة إذا ما قرأت أو سمعت ، ناهيك عما كنت قد رأيت بعينيك أو سمعت بأذنيك ، ويبدأ التحقيق بعد أن يترك الشخص عدة أيام لجمع معلومات عنه من ناحية ومن ناحية أخري كنوع من الحرب النفسية .

" يترك الأسير طويلة دون أن توجه إليه أية اتهامات ودون السماح بتسرب أية أخبار إليه عن أسرته أو عن العالم الخارجي ، فيشعر الفرد أنه أصبح وحيدًا في هذا العالم ، ولا يوجد بجواره من يستطيع أن يعاونه في محنته ... وبعد فترة من القلق المستمر ، وبتطبيق بعض الأساليب الأخرى يبدأ الاستجواب ، ومن المحتمل أن يتحطم الإنسان تلقائيًا وبدرجة ملموسة نتيجة القلق والتفكير الطويل فيما يعترف به ويصبح في حالة يأس وتعاسة " . ويبدأ الضابط الجالس أمامه علي المكتب وأمامه بعض الجنود وفي أيديهم السياط بسؤاله أسئلة عابرة فإذا رفض أو امتنع عن الإجابة أو أجاب إجابة لا تعجبهم ولا ترضيهم ولا تدينه ، ينال صنوفًا من العذاب ، ثم يحاول الضابط إيهامه بأنه يعرف عنه كل شيء ، وذلك بطرح معلومة أو أكثر مما عرفها عنه ، فإما أن يستمر علي الإنكار ، وينتهي الأمر تحت وطأة التعذيب إما بالاعتراف بجريمة لم يرتكبها أو الاستشهاد في سبيل الله ولا ثالث لهما ، وربما تكون ثالثة الأثافي أن يغمي عليه فيحضر الطبيب لإفاقته لاستمرار الأمر أو حمله علي نقالة للمستشفي للعودة مرة أخرى أو مرات حتى ينتهي الأمر بأحد الأمرين كما سبق القول .

وقد يضطر الشخص إنقاذًا لنفسه تحت وطأة التعذيب ووحشية المعاملة المستمرة ، والتي قد تستمر أيامًا إلي الاعتراف بأمور لم يرتكبها أو الإقرار لهم بما يرغبون ، أو ينسب لنفسه أعمالاً لم يؤدها . " وفي هذا العصر الذي نعيش فيه نجد أنه حتى في تلك الدول التي تتشدق بالديمقراطية ، وتفخر بسلامة التحقيق وعدالته ، كثيرًا ما يدان أبرياء ويساقون إلي الإعدام نتيجة استنطاق المتهمين اعترافات خاطئة ترجع أساسًا إلي الأساليب النفسية التي استخدمت في الاستجواب " . والتعذيب يبدأ عادة بعد العصر حتى صباح اليوم التالي ، والكل مفترش الأرض حافي القدمين ، يتناول ما يقدم له من طعام – إذا استطاع الأكل – مع هذا الحال وحتى الصلاة وهو جالس وفي أي اتجاه حيث الحركة ممنوعة بأي صورة ، ينال عقابها السريع ممن حوله من حاملي السياط .

ويحدث كثيرًا أن يستدعي الأخ في أي وقت من ساعات الليل للتحقيق ويفتح الباب ويوقظه العسكري بطريقة مزعجة ويسحبه من الزنزانة بعد استيقاظه مباشرة إلي خارج الزنزانة ولا يمنع أن ينال بعضًا من الصفعات واللكمات والسوق بالسياط ، ويستتبعها السير بالخطوة السريعة للمكاتب حافي القدمين وقد يكون هناك طلب له للتحقيق أو لأمر تافه أو بدون أي سبب سوي الجلوس هناك ليري ويسمع الصراخ والعويل حوله من كل اتجاه . " ويستغل المستجوبون في السجون السياسية هذا كله مهيئين بيئة يصبح فيها النوم شبه مستحيل إذ يوقظون الفرد في ساعة غير عادية أو يجبرونه علي الاستيقاظ كلما نام ، أو يوقظ في غلظة وخشونة ثم يستجوب لفترة قصيرة ويعاد ثانية للزنزانة والهدف من هذا كله هو إجهاد المتهم أو الأسير حتى يصل في النهاية إلي درجة من الانهيار تمكن المستجوب من الإيحاء بما يريد " ولعل سؤالاً يطرح نفسه : ما الذي يدفع الإنسان لأن يكون وحشًا مفترسًا إلي هذه الدرجة حتى يكون عديم الشفقة والرحمة ، ولا يحرك قلبه الصراخ والعويل والدماء أو الموت والمرضي والعجزة ؟ .

هل كان هذا من أجل السلطة أو المال ؟ نبًا لها من غاية ، وما أحطها من وسيلة أم من أجل إرضاء الأسياد والتقرب إليهم ؟ إذا كان ذلك كذلك فبئست هذه الغاية . وهل هذه الشهوات (السلطة – المال) تدفعهم إلي ارتكاب ما يقترفون وبذل ما ينفقون من جهد . وإذا كان هؤلاء قد انسلخوا عن دينهم الذي ينتمون إليه بالاسم ، ويتسمون بأسمائه وأصبح كل همهم هو مرضاة الطاغوت وموالاته وبذل كل ما يمكن للحفاظ عليه . كَألا تحركهم آدميتهم إن كانوا ينتمون إلي بني الإنسان ، أم أن هؤلاء وأمثالهم الذين يصفهم ربهم بأنهم من بني الإنسان – ظاهرًا ولكن لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون : (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179))

وبعد إتمام عملية التعذيب واعتراف الشخص بما يريدون منه يدون ذلك ثم يستدعي لكتابة الإقرار بخط يده ويوقعه بنفسه ، ويراجع علي اعترافه السابق بواسطة ضباط نواب أحكام خريجي كليات الحقوق ، وإذا ترك شيئًا سهوًا أو عمدًا تعاد معه الكرة مرة أخري حتى يتم استيفاؤه بالطريقة اللازمة . وهذا الإقرار هو الذي يقدم صاحبه علي أساسه للنيابة لتفنن التهم منه ليقدم بها إلي المحكمة . وكان يقوم بإدارة التحقيقات (التعذيب) كل من الرتب الآتية:

- العقيد شمس بدران – مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر ، ووزير الحربية بعد ذلك .

- العميد سعد زغلول عبد الكريم – مدير الشرطة والمباحث العسكرية .

- المقدم نور عفيفي – نائب قائد المباحث الجنائية العسكرية .

- الرائد رياض إبراهيم – المباحث الجنائية العسكرية .

- النقباء : عاصم العتر ، إحسان العجاتي ، وهاني إبراهيم وغيرهم من المباحث الجنائية العسكرية .

- ومن السجن الحربي : اللواء (السفاح) حمزة البسيوني ، الملازم صفوت الروبي ، والرقيب نجم الدين مشهور .

- الجنود : محمد المراكبي ، فتحي نملة ، محمد خاطر ، زغلول مجاهد ، وتقي الدين سليمان ، وشهرته سمبو .

مشاهد من التعذيب

إن ذكر كلمة التعذيب لمن كان له قلب أو يتمتع بروح الإنسان أو بعض منها تشمئز منها النفس ، وينفر منه الحس ، فإذا ما ذكرت طرق التعذيب زاد الإحساس والشعور ، حتى إذا رآه بعينه وسمعه بأذنيه تضاعف عنده هذا الإحساس والشعور ، ويزداد أكثر فأكثر إذا ما وقع علي جسمه وتألم به بدنه ، ويصل هذا الشعور ذروته إذا كان يسمع ويري ويقع عليه التعذيب في الوقت نفسه . والتعذيب في حد ذاته أداة إجرامية لا إنسانية ، يستعملها من انتزعت الرحمة من قلبه ، يري إنسانًا مهما كانت عقيدته أو هويته مسلوب الإرادة ، مغلوبًا علي أمره يقع عليه من الآلام والأوضاع ويصدر منه الصراخ ، وكل ذلك لا يحرك ساكنًا في قلب المعذب الغشوم .

لذا حرم الإسلام المُثلة حتى في الحرب مع الأعداء ، لأنه دين الرحمة ، ويعامل الناس من واقع بشريتهم ، إلي جانب أن الذي له حق التعذيب للعباد جزاء ما اقترفوه هو الله سبحانه وتعالي ، فكيف يجوز لعبد من عباده أن يتولي تعذيب الناس لانتزاع الاعتراف بطريقة وحشية قذرة وقد يكون الشخص بريئًا بعد كل ما لاقاه . ومهما استطعنا من دقة الوصف ، فلن نستطيع أبدًا التعبير أو وصف ما وقع لأنه فوق قدرة الوصف والشرح ، إلي جانب أنه مضت سنون طويلة علي وقوع تلك الأحداث ، وتكتب بعيدًا عن مسرح وقوعها وحرارتها ، فتكون غالبًا بصورة باردة بعيدة عن الواقع .

بداية التحقيق :

يستدعي الضحية – كما سبق القول – أمام الضابط ويحيط به عدد من جنود المباحث العسكرية ، أو جنود السجن الحربي ، أو الاثنين معًا ، ويسأل الضابط بعض الأسئلة ، التي غالبًا ما ينكرها أو ينكر بعضها ، فتنهال عليه من الخلف الصفعات علي قفاه ، أو الضرب المبدئي بالسياط ، ويتكرر ذلك مرارًا من حوله ، فيقف الشخص مذعورًا ينتظر سقوط أي يد كالطارق عليه ، وقد يسقط علي الأرض من قوتها أو كثرتها .

وبعد فترة يأمر الضابط بتعليقه في "الفلكة " فيتم خلع ثيابه رغمًا عنه أو تمزيقها ، وتربط يداه ورجلاه سويًا في الفلكة ، ويرفع جسمه بواسطة ماسورة أسفل اليدين والقدمين ، ظهره إلي أسفل وبطنه إلي أعلي ، ويداه ورجلاه مشدودتان أعلي الجسم داخل الماسورة التي يرفعها الجنديان . ويقف في الوضع العكسي من الجنديين ، اثنان آخران أو واحد ، ومعهما السياط ويحدد الضابط العدد بأي رقم أو لا يحدد ، وتنهال علي قدميه السياط كالأسياخ الملتهبة وأحيانًا يحكمون عليه إذا ما تكلم أو صرخ من شدة الألم يبدءون العد من الأول فإذا وصلوا إلي رقم خمسة عشر ، ورفع صوته مرة أخري ، أعادوا العد من رقم واحد فإذا وصل لرقم 20 مثلاً ورفع صوته مرة أخري أعادوا العد من رقم واحد ، وهكذا يفعلون ذلك من باب التسلية .

وقد رأيت الأخ السيد نزيلي – سبب حادثة كرداسة – معلقًا أمام حمزة البسيوني وآخرين وبالطريقة السابق شرحها ، ويضربونه فوق رباط الشاش المربوط بقدميه من أثر تعذيب سابق فسالت الدماء من الجروح والشاش كالنافورة . وذكر لي الأخ النقيب إبراهيم شرف يرحمه الله كيف أنه عند بداية التحقيق معه أمام شمس بدران انهال عليه الجنود بالطريقة السابق شرحها ، ونزعوا النجوم من علي أكتافه وألقوها علي الأرض ، حيث كان مرتديًا الزى العسكري ، فلما بادر شمس باندهاشه واستغرابه كيف يهان ضابط جيش هكذا أمامه من العساكر ، فرد عليه شمس " أقل واحد فيهم أحسن منك يا ابن الـ ........." وصورة بداية التحقيق الذي ذكرتها تجري مع الجميع بلا استثناء وهي الصورة المبدئية التي قد تستتبعها وسائل أخري ، أو قد تستمر نفس الطريقة حتى يفقد الوعي فيحضر الطبيب (الضابط) لإفاقته ، أو ذهابه للمستشفي الداخلي ، ومعاودة الكرة مرة أخري ، أو يقوم الطبيب وقتها بعمل بعض الإسعافات لإفاقته ، وقد يقدم له محلول سكر ، أو شراب الليمون ليسترد أنفاسه ويتم مواصلة التعذيب مرة أو مرات أخري .

ولقد رأيت الأخ عثمان أحمد إبراهيم بعد انتهاء الشوط الأول معه سقوطه علي الأرض ، والضابط يركله بالحذاء في صدره ، وكاد أن يفقد حياته وقتها لولا نقله إلي المستشفي في ساعة متأخرة من الليل . وقد تحدث هذه الإسعافات إطلاقًا ، ويواصلون التعذيب مع الضحية حتى يلقي ربه شهيدًا بدمائه وجروحه ، وهذا ما حدث مع الشهيد إسماعيل الفيومي و رفعت بكر – ابن شقيقة الأستاذ سيد – و محمد منيب ، و محمد عواد ، وغيرهم كثير تم دفنهم ليلاً بصحراء مدينة نصر .

الجري في حلقة مغلقة :

ويتم هنا جري المعتقل في دائرة تحيط بها كل الاتجاهات جنود بالسياط أو الأسلاك كهرباء ، بإشراف الضابط المختص ، ويدور ويجري وكلما وصل إلي أحد الجنود انهال عليه بالسوط ، ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه وهكذا ، ويكون عاري الجسم إلا من بقايا ملابس تستر عورته ، والسياط تقع علي جسمه في أي مكان : صدره ، بطنه ، يديه ، رجليه ، حتى يبدأ الدم في السيلان من جسمه ، أو تظهر أثار السياط أو يقع مغشيًا عليه ، ويعاد إفاقته وضربه أو ينقل للمستشفي ، ولقد رأيت بنفسي هذه الطريقة الإجرامية تتبع من الشهيد محمد منيب (أمين مكتبة كلية العلوم – جامعة أسيوط) وكان رحمه الله نحيل الجسم ، ضعيف البنية حتى سقط ونقل علي نقالة المستشفي ، وعلمت بعدها أنه استشهد في نفس الليلة ، وكان ذلك في شهر سبتمبر 1965 ، ورأيت في ليلة متقاربة من هذا الشهر الدكتور علي جريشة – المستشار بمجلس الدولة وقتها – رأيته محمولاً علي نقالة بعد أن تمت الإجراءات الأولية لتعذيبه وكان يشرف علي ذلك الرائد حسن كفافي ، وهو من عتاة السجن الحربي الجبارين – قاتله الله - .

وسمعت من أكثر من أخ أن الطريقة السابقة اتبعت مع الشهيد محمد عواد ، وكان يدور حول النافورة ، وحوله الجنود كما ذكرت ، وأخيرًا هشم صفوت الروبي رأسه في جدار النافورة حتى استشهد في ليلتها من جراء ذلك ، وكان الأخ محمد عواد هو أول شهيد في السجن الحربي عام 1965 .

استخدام الكلاب الحربية :

والكلب الحربي المدرب ، يتلقي الأوامر من مدربيه وينفذها في الحال كما تعلم ، فإذا قيل له ازحف يزحف علي الأرض ، أو أرقد يرقد ، أو انتباه يقف وهكذا . ورأيت في السجن الحربي يمسكه المدرب من مقود مربوط في عنقه ويوجهه للأخ فيهجم عليه بالقدر الذي يشده به المدرب ، أو يقول له : "هات القميص" فيهجم علي الأخ بمخالبه وينتزع القميص ، أو "هات البنطلون" فيهجم ويمزق البنطلون ، ولا يسلم الأمر أن تصل المخالب إلي جسم الشخص وتسيل بالتالي الدماء من جسده . وقد رأيت هذه الطريقة تتبع مع أخ ، علمت من استجوابهم له أنه معيد بكلية زراعة أسيوط ، ولا أعرفه ، وكان لا يرتدي سوي السروال الداخلي بعد أن تمزقت ملابسه ، وحوله الضابط والجنود يتسلون بهذا المنظر الأليم تمامًا كما كان يفعل الرومان ويتركون أحد العبيد مع الأسد في الساحة وهم يتسلون بهذا المنظر الإجرامي وهم السادة المتربعون علي السلطة .

ومن قدر الله العجيب مع هذا الأخ المعيد أن هجم كلب من الكلاب غير المدربة المطلوقة في السجن – وما أكثرها – علي الكلب المدرب بسرعة وخفة ووحشية عجيبة حتى منع الكلب المدرب حتى منع الكلب من إتمام الدور الذي يقوم به ، وانتهي المشهد مع الكلب المدرب والكلب "الآدمية" عند هذا الحد في ليلتها .

الزنزانة "9" :

سبق القول عن الزنزانة رقم "9" والتي تقع في السجن الكبير ، وأمام الباب سور ، ويتم وضع المياه فيها لارتفاع حوالي خمسين سنتيمتر ، ويبيت فيها الشخص واقفًا أو جالسًا في المياه ، ويتبول ويتبرز فيها ، ولا يستطيع النوم طبعًا وتستخدم هذه الطريقة مع من لا تتحمل صحته ضرب السياط وألوان التعذيب الأخرى .

مشهد مثير :

في إحدى ليالي سبتمبر 1965 . رأيت أحد الإخوان الذي يقومون بتعذيبه وفهمت منهم أنه من العسكريين ، وعلي صلة بالأخ الأستاذ أحمد عادل كمال ، ويشرف علي تعذيب هذا الأخ مدير السجن الحربي حمزة البسيوني مساعدًا في ذلك العميد سعد زغلول ، ولما لم تفلح معه وسائل التعذيب التقليدية أمر اللواء حمزة الجنود بإنزاله في حفرة خندق كانت قريبة ودفنه حيًا وبدأ الجنود في ردم الحفرة عليه وهو في داخلها ، ولا أعلم ما الذي تم بعدها ، حيث أخذت إلي الزنزانة قبل أن أري باقي المشهد الحزين . وكان التعذيب قائمًا علي قدم وساق مع الأستاذ أحمد عادل كمال وكل من كان علي صلة به ، ويريدون تلفيق تنظيم منهم بأي صورة من الصور . وقد رأيته بعد تعذيبه بحالة يرثي لها ، أقرب ما تكون إلي الموت محمولاً علي نقالة وكان يشرف علي تعذيبه هذه المجموعة العميد سعد زغلول عبد الكريم مدير الشرطة والمباحث العسكرية .

وانتهي التعذيب الرهيب معهم إلي لا شيء ، حيث لم يستطيعوا حبك وجود تنظيم بقيادة أحمد عادل كمال ، أو لعلهم اكتفوا بما لديهم من خمس قضايا في تنظيم 1965 . هذه بعض مشاهد من التعذيب الذي قام به زبانية السجن الحربي ، عبيد عبد الناصر وتوجه وسائل أخري كالحرق بالنار ، أو استعمال التيار الكهربائي ، ولا يعتبر في عرفهم من التعذيب : الصفع ، الركل ، اللكم ، والسباب بالأب والأم وغيره مما لا تخرج ألفاظه إلا من أحط الناس أخلاقًا وأسفلهم سلوكًا . وهذه الوسائل تقوم في وقت واحد أو معظمها في المكاتب وأمامها حيث كان العمل موزعًا بينهم علي خمس مناطق ، حسب تقسيم التنظيم وكل ضابط أو مجموعة ضباط معهم عدد من ضباط الصف والجنود من أفراد المباحث الجنائية العسكرية والسجن الحربي ، ينفذون تعليمات الضباط وأمام أعينهم وبإشرافهم .

وما زاد علي هذا التقسيم يقوم به العقيد شمس بدران مع الإخوان من ضباط الجيش والشرطة ، وكذا العميد سعد زغلول مثل دوره مع الأستاذ أحمد عادل كمال ومن علي صلة به ، أو مع غيرهم . واستمرت هذه المشاهد عدة شهور ، ووقعت علي الآلاف في السجن الحربي ، ناهيك عن السجون المدنية الأخرى مثل القلعة ، أبو زعبل وغيرها ولا يمكن حصر جميع الخالات وسردها ، أو حتى غالبيتها ، لأن ذلك يفوق تصور العقل البشري ، وهو مسجل عند الملك العادل الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، وعنده سبحانه سينال كل مجرم آثم جزاء ما اقترف وارتكب وقدمت يداه ، وهناك لن ينفعهم مال ولا جاه ولا سلطان ، وصدق الله العظيم إذ يقول : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)) .

وهذه قائمة من أسماء الذين قاموا بالتعذيب بالسجن الحربي عام 1965 ، حسب أقدمية رتبهم العسكرية ، لا حسب دورهم وجهدهم الإجرامي :-

- اللواء حمزة البسيوني ... مدير السجن الحربي

- العميد سعد زغلول عبد الكريم ... مدير الشرطة العسكرية والمباحث الجنائية

- العقيد محمد شمس الدين بدران .... مدير مكتب القائد العام للقوات المسلحة

                                                                     (المشير عبد الحكيم عامر)

- العقيد حسن خليل ... قائد المباحث الجنائية العسكرية

- المقدم نور العفيفي ... نائب قائد المباحث الجنائية العسكرية

- الرائد (نائب أحكام) جلال الديب ...إدارة القضاء العسكري

- الرائد حسن كفافي ...المباحث الجنائية العسكرية

- النقيب (نائب أحكام) محمد عبد المقصود الجنزوري ... إدارة القضاء العسكري

- النقيب عاصم العتر ...المباحث الجنائية العسكرية

- النقيب إحسان العجاتى ...أركان حرب المباحث الجنائية العسكرية

- الملازم محمد صفوت الروبي ...السجن الحربي

- الرقيب نجم الدين علي مشهور ...السجن الحربي

- عريف محمد علي المراكبي ...السجن الحربي

- عريف محمد السيد متولي خاطر ...السجن الحربي

- جندي تقي الدين سليمان شرف الدين (سامبو) ... السجن الحربي

- جندي زغلول مجاهد عبد الحليم ...السجن الحربي

هذا وغيرهم كثير من الرتب المختلفة كضباط ، وعدد كبير من ضباط الصف والجنود ولعل ما ذكرت أسماؤهم هم في مقدمة معدومي الشفقة والرحمة والضمير وكثير من الجنود يزيدون في إجرامهم عن هؤلاء الضباط (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)) .

النيابة

النيابة العامة في الدول المعاصرة هي الجهة المنوط بها مهمتان :

أولاً : التحقيق :

وفي هذه تملك قاضي التحقيق الذي له مهمة التحقيق ، ومن ثم ينبغي أن تتسم بالحيدة التامة أثناء التحقيق وذلك لتبين وجه الحق في القضية المعروضة ، ولا ينبغي أن تتأثر بوجهة نظر سلطة الضبط القضائي (وهي الشرطة أو المباحث بأنواعها وفروعها) وتملك مع التحقيق سلطة القبض والحبس الاحتياطي لمدة محدودة يعرض بعضها الأمر علي القضاء .

ثانيًا : سلطة الاتهام :

وتكون بعض التصرف في التحقيق ، إذ قد تتصرف فيه ، إما بالحفظ لأسباب عديدة وإما بتقديم القضية للمحكمة ، وفي هذه المرحلة تمثل النيابة سلطة لكنها في هذا ينبغي أن تكون (خصمًا شريفًا) بحيث إذا تبينت الحقيقة في هذه المرحلة عدلت عن رأيها الأول (وذلك غير الواقع) .

لكن هل النيابة لها هذه السلطة ، وهذا الوضع القانوني ؟ وهل هي لا تتبع الجهة الإدارية وتتلقي الأوامر والتعليمات منها ، أو من المباحث العسكرية بصورة أوضح ؟ ومعلوم أن الاتصال بينهما وأمام أعيننا مستمر ، والتنسيق بينهما قائم ، ورجال النيابة علي بعد خطوات من المباحث يسمعون ويرون ما يدور حولهم ، ومع هذا يخدع نفسه ، ويحاول أن يلبس علي الجريمة التي تقع أمام عينيه ثوب الشرعية والتستر علي وقوعها ، وبصورة تتفق مع مقتضيات السيناريو والمحافظة علي الشكل . ويتم تحقيق النيابة في خيام عسكرية تقع بين منطقة السجن الكبير رقم (1) ، وبين مكاتب التعذيب في كلية الحقوق ، أو مما تقتضيه طبيعة المهنة ، كحرية المتهم وحقه الكامل في التحقيق دون ضغط أو إرهاب مثلاً ، أو إحضار محام ، أو غير ذلك مما تكفلت به وقد بدأ التحقيق في هذه الأيام الخيام اعتبارًا من شهر مارس 1966 ، بعد انتهاء تعذيب كل شخص من المباحث العسكرية وإحالته إلي النيابة .

ويناقش وكيل النيابة المتهم من واقع الإقرار الذي وقعه ، والذي يعرف وكيل النيابة ظروف كتابته ، بل ربما يكون علي الأوراق أثار الدماء ، أو أن الشخص الذي أمامه مضمدة جراحه يعيده وكيل النيابة للمباحث لاتخاذ اللازم معه وعدم إنكار أي شيء ، ويؤتي به للمرة الثانية وهو جاهز ومستعد للاعتراف بأي شيء . ثم تصاغ التهمة بعد ذلك علي ضوء ما تم التحقيق والتعذيب ، والتي هي حتى مع ذلك لا تشكل جريمة بمنطق القانون ، لأنها غالبًا لا تخرج عن أقوال ومقابلات وقراءات . وقرار الاتهام المفصل علي الجميع : قلب نظام الحكم بالقوة .

وكان يقتضي علي ما يسمونهم حماة القانون الذين قاموا بهذا الدور الخسيس أن ينأوا بأنفسهم عن السقوط في هذا الدرك المشين ، وألا يكونوا أداة للجناة الحقيقيين عونًا لجرائمهم ، بل وإضفاء الشرعية علي ما يرتكبون .

ولكن الجاهلية هي الجاهلية علي مر العصور مهما أضفت علي نفسها من ثياب براقة ، فالجاهلية هي عبودية الناس للناس ، أما الإسلام فهو عبودية البشر لله الواحد القهار . وكان أعضاء النيابة الذين يقومون بالتحقيق في السجن الحربي علي مرأى ومسمع من التعذيب الذي يدور علي بعد خطوات منهم :

صلاح نصار – رئيس نيابة أمن الدولة العليا .

يعاونه كل من :

حسن جمعة ، إسماعيل زعزوع ، سمير ناجي ، مصطفي طاهر ، حسين لبيب ، يتكلم ولا يسمع ولا يقرأ ولا يجد ما يقوله ، ويري أثر ذلك علي نفسه ، ثم يتذكر لو أنه استمر أيامًا علي هذه الحال مع الاعتبار أنه في الحجرة آمن من الفزع ومن أي أمر يروعه يقول صلاح نصر ، تحت عنوان عزل الشخص عن الحياة العامة :

" وذلك بأن يزج بالفرد في زنزانة ذات أبواب حديدية وفي داخل أسوار حديدية بعيدًا عن معارفه القدامى وعن كل مصادر المعلومات وصور الحياة العامة " ومع هذه المعيشة سواءً كان منفردًا أو مع آخرين ، فهو يتوقع فتح الزنزانة عليه أو أي وقت من الليل أو النهار فيقوم فزعًا هلعًا ، ولابد أن يكون جاهزًَا واقفًا بمجرد سماع اسمه أو سماع فتح الزنزانة عليه ، وإلا سينال جزاءه من هذا العسكري الذي يصحبه حافي القدمين وبالخطوة السريعة حيث المكاتب المشاهدة وسماع صنوف التعذيب ، فهذا معلقًا كالذبيحة ، جسمه أسفل وأرجله أعلي السياط تنهال علي قدميه ، وثان يجري في دائرة يحيطه الجنود بالسياط يلهبه كل منهم علي أي موضع من جسمه العاري إلا من القليل الذي يستر عورته ، عند وصوله إليه وهكذا حتى يسقط فاقد الوعي ، وثالث تستخدم معه الكلاب الحربية المدربة في الهجوم عليه ونهشه من أي مكان ، وآخر وجهه إلي الحائط والصفعات علي قفاه وهو لا يتحرك ولا يلتفت ، وإلا مصيره السياط ، أو الهجوم عليه من مجموعة أشبه بالحيوانات التي تهجم علي الفريسة في الغابة ، بل ربما أقسي من حيوانات الغابة.

ثم يذهب الآخر ويلو الآخر إلي مكان التحقيق ويعود إلي زنزانته إما محمولاً علي نقالة ، أو علي رجليه متعثر الخطى من أثار الجروح والدماء التي تسيل من جسمه وخاصة قدميه ، أو لا يعود ويذهب إلي المستشفي لعلاجه واسترداد أنفاسه إلي حين ، أو قد لا يعود إطلاقًا إلي الزنزانة ، بل ولا للدنيا ، حيث يكون قد فارق الحياة واستشهد من جراء ذلك ، ويدفن ليلتها في صحراء مدينة نصر ، وباقي القصة معروفة ، حيث يعلن بأنه هرب من السجن الحربي ، ويبلغ أهله والشرطة بالبحث عنه زيادة في الإيهام والخداع . وإذا كان الشخص يعيش مع آخرين ، وغالبًا لا يكون له سابق معرفة بهم وهم يتعمدون ذلك في الإسكان حتى لا ينفقوا علي كلام التحقيق ، وإذا كان لا يعرفهم فإن يتعامل معهم بحذر شديد خشية أن يكون أحدهم عينًا للمباحث مدسوسًا عليه ، وعمومًا فهو لا يجد أنيسًا يتكلم معه ويستمع إليه ويشاركه ما يعاني .

والمعيشة في سجن 3 أكثر ضيقًا ، وموحشة حيث إن السجن صغير فطول الضلع المستطيل حوالي خمسين مترًا ، والحركة فيه قليلة ، ولكن الذي يؤنس الوحدة ليلاً هو دخول وخروج وحركة الفئران التي تدخل من الفتحة السفلي للباب ، وتمتاز هذه الفئران بحجمها الكبير العجيب إذا رأيتها أو شعرت بحجمها عند مرور علي الجسم ليلاً أثناء النوم كأنها قطط صغيرة . وبعد فترة التحقيقات نسبيًا في المباحث ، وبداية تحقيقات النيابة ، بدأ نوع آخر من البلاء وهو الهجوم الزاحف من القمل في الملابس والجسم من قذارة الملابس لعدم غسلها مع تلوثها بالدماء ، ولعدم الاستحمام أو غسل الوجه والرأس بالصابون وعدم حلاقة الشعر ، وكان نصيب الفرد في قتل القمل من ملابسه كل صباح ما بين الثلاثين والخمسين ، وبعدها بفترة أراح الله الجميع منها .

وقد يحدث وسط هذا الجو المشحون بعض الطرافة تقوم بتسلية النفس وقتًا مثل : أثناء الوقوف للبعض أمام الدورات في انتظار خروج من بالداخل ، قال الجندي لهم لماذا الانتظار وتضييع الوقت ؟ ، الواقفون يتوضئون لحين خروج من بالداخل ثم يدخلون الدورة بدلاً منهم ، والذين يخرجون يتوضئون بعد ذلك . وحدث أن قال جندي للإخوة لا داعي للوضوء توضئوا في الزنزانة علي الحائط أو الأرض كما تتوضئون وأنا سبق وأن رأيتكم (يقصد التيمم) .

الطعام :

في فترة تخزين هذه تميزت بندرة الطعام ورداءته وسوء طهوه حتى إن الشخص لا يستطيع أن تمييز نوع الطعام المقدم له خاصة في وجبة العشاء ، ويتم توزيع الشاي "الساخن" أو المثلج في الصباح الباكر ونصيب الفرد حوالي ربع كوب ، ممزوجًا في غالب الأحيان بالدهون ، ومن أثار الطبخ في الوعاء المسمي "قزان" وحوالي الساعة الثامنة بعد انتهاء دورة المياه ، يتم توزيع وجبة الإفطار ، وهي تتكون من العدس أو "السوس المفول" أو الطعمية ذات الخاصية المصمتة المطاطية ، وفي يوم من الأسبوع يكون توزيع عسل أسود يظهر في الوعاء من ندرته وكأنه تم دهانه في الوعاء بفرشاة ، ويوزع في يوم آخر من الأسبوع حلاوة طحينية ، وثالث جبن "نستو" من المعونة الأمريكية ، وكل هذه مسميات لأنواع ، حيث يتم سرقة أصنافها جميعًا خاصة ما يمكن الاحتفاظ به كالجبن والحلاوة والعسل ، يتم ذلك ابتداء من الرتب الأعلى حتى العسكري ، ولا تصل إلي مستحقيها إلا عينات فقط إثباتًا لتسلم الوجبة المقررة ، وعلي سبيل المثال كان يتم توزيع سمك في بعض الأيام في وجبة العشاء ، تصل فقط هياكل الأسماك وعظامها بدون لحم ، أو بقايا اللحوم المنزوعة ، ناهيك عن اللحوم حيث يهجم عليها الجنود كالوحوش الكاسرة . وكانت توزع فاصوليا جافة من المعونة الأمريكية ومع جودتها ، إلا أن جودتها كانت تذهب هباء ، حيث أنها موضوعة في مادة حافظة فتطبخ بهذه المادة فتسبب إسهالاً شديدًا .

مياه الشرب :

كانت مشكلة أكبر من مشكلة الطعام والنظافة وغيرها ، أثناء فترة التخزين حيث لا يوجد وعاء آخر بالزنزانة إلا ما ذكرت ، فإذا رغب أفرادها في استعمال قصرية البول لمياه الشرب فترة الصباح ، يعيشون بعدها طوال اليوم بلا مياه ، ويتم توزيع المياه المقررة مرة واحدة عقب كل وجبة يشرب الشخص أمام العسكري وبسرعة ينصرف إلي الزنزانة التي يليها ، وإذا تأخر العسكري أو لم يحضر أصلاً للمياه فلا رقيب عليه ، وليس هناك وسيلة لطلبه أو للشكوى إلا في الحالات النادرة التي كان يستغيث فيها مرضي السكر استغاثة تصل إلى عنان السماء و يسمعها الجميع طلباً للماء فيحضره له وحده العسكري بالماء ونصيبه الآخر من العلقة الساخنة .

وكان في فناء السجن الكبير حوض كبير أشبة بحوض النافورة تتدفق فيه المياه باستمرار ، يسمح لنا بملء القصرية المطاط منه خاصة عند الزحام ، ويستعمل كذلك لغسيل أواني الجنود و ملابسهم ، ورش الحوض والطرقات وللنظافة عموماً .

و كنا نري من ثقب باب الزنزانة فترة التخزين الكلاب تشرب من هذا الحوض و تسبح فيه أحياناً ، وتتردد عليه كيفما تشاء ، ومع ذلك كنا نحسدها علي ما هي فيه من الحرية و قدرتها علي الشرب متى تشاء ، وأي كمية ترغب ، وبدون سياط تلاحقها ، وركلات تدفعها .

غيار الجروح :

واتسمت فترة التخزين علاوة علي ما ذكرت بميل الأجسام إلي الآلام و الضيق و الروماتزم من قلة الحركة ، وعدم التعرض للشمس ، علاوة علي رطوبة الزنزانة من البلاط الأسمنتي ووجود بطانية واحدة وفي الشتاء ، مع وجود فتحة كبيرة في أعلي الزنزانة تسمح بدخول الهواء البارد علاوة علي فتحات الباب أعلاه وأسفله .

وكان تحقيق المباحث مستمراً ويستتبع هذا التحقيق التعذيب اللازم ، بل وغير اللازم أحياناً ، كما كان يتم مع الإخوة الضباط ، حيث كان التعذيب أمام شمس بدران قبل البدء في الأسئلة وهذا يكون لمجرد أنه ضابط ، أو غيره ممن كان يشغل منصباً هاماً ، ٍكمعيدي الطاقة الذرية ، وينتج عن هذا التعذيب الجروح الشديدة في أماكن التعذيب من الجسم ، خاصة القدمين والظهر ، وكان في الفترة الأولي ينزل الشخص بدون أية إسعافات أو غيار للجروح مما كان ينتج عنه آلام ومضاعفات مكان الجروح ، ولقد رأيت منظرين لا أنساهما أبداً ، أو لهما عند غيار الأخ يوسف سالم يرحمه الله و هو من إخوان طهطا بالصعيد ، عند غيار العريف الممرض له كان كلما لمس نقطة في رجله أو عند إزالة القشرة الخارجية للجرح انبثق منها القيح بغزارة .

أما ثانيهما فكان لأخ لا أعرفه ، وكان مستلقياً علي النقالة يغير له الممرض الجروح ، والديدان تسير فوق الجروح وبكثرة ، أشبه بالديدان التي تكثر علي جثث الموتي .

وكان يتم غيار الجروح للإخوة بعد الثامنة صباحاً ، حيث يمر العساكر علي الزنازين لإخراج من في حاجة إلي غيار ، والذهاب به إلي مكان في فناء السجن الكبير حيث يتم الغيار والضمان للجروح ، فكنت تري من ثقب الزنزانة من كان خارج الزنزانة للغيار ، من يزحف علي يديه و قدميه و لا يستطيع السير علي رجليه ، و قد رأيت من هؤلاء الأخ كمال الفرماوي المحامي ، يمشي علي رجل واحدة ، أو من يمشي مستنداً علي حائط أو من لا يستطيع الزحف أو المشي إطلاقاً ، فيحمله العسكري ، وكان يستمر ضماد الجروح من الصباح حتى قبيل الغروب يومياً .

و في فترة التخزين هذه تم توزيع الادعاء للأشخاص المقدمين للمحاكمة بدءاً من القضية الأولي ، وبه أسماء المتهمين ووظائفهم و التهم الموجهة إليهم صياغتها من نيابة أمن الدولة .

ومع الشعور بالملل و الضيق و الآلام و الأمراض التي انتابت الجميع من التخزين أتي الله بالفرج من عنده ، وبدأت مرحلة جديدة هي مرحلة الطوابير.

الطوابير :

في صباح أحد الأيام من شتاء شهر ديسمبر عام 1965 بدأت الصفافير للجميع في حوش فناء السجن الكبير بعد فتح جميع الزنازين ، وعند نزولنا وجدنا اللواء حمزة البسيوني مدير السجن ، وأركان حرب السجن ، وبعض الرتب و صفوت الروبي إلي جانب الجنود بالأسلحة و السياط ، وتعرف الإخوة الضباط علي أحد الرتب وقالوا لنا إنه مدير المخابرات الحربية .

و بدأ توزيعنا في سرايا ، هذه للشباب دون الأربعين ، و هذه لمتوسطي الأعمار بعد الأربعين وغيرها ، حتى اكتملت خمس سرايا علي ما أذكرك .

وتم وضع الإخوة الضباط كأدلة للسرايا مثل الرائد سيد البرنس ، النقيب إبراهيم شرف ، الملازم أول مهندس كمال سلام ، الملازم أول مهندس فؤاد حسن علي ، والضباط الاحتياط مجدي عبد العزيز متولي ، صبري عرفة الكومي و صلاح خليفة و غيرهم .

وبدأت الطوابير في هذا اليوم ولعدة أيام كلها بالخطوة السريعة طوال اليوم حتى كان يتساقط المرضي وكبار السن وأصحاب العاهات ، وكانوا ينهالون عليهم بالسياط عند وقوع أحدهم أو الإغماء عليه أو ينقلونه للمستشفي .

و بعد عدة أيام كونوا سرية سموها (طابور العواجيز) تم تجميع كبار السن والمرضي وأصحاب العاهات فيها بالإضافة إلي أي شخص لا يستطيع الاستمرار في الطوابير الأخرى إذا سمح له الطبيب بذلك ، وكان ضمن هذا الطابور الشهيد محمد يوسف هواش ، والأستاذ محمد قطب ، والدكتور عبد الله رشوان ، والمرحوم إن شاء الله الشيخ محمود أبو عبية والأستاذ محمد عبد الفتاح شريف يرحمه الله ، وغيرهم كثير .

وقد بدأت الطوابير بعد انتهاء تحقيقات النيابة وبالصورة التي ذكرتها بصورة شبه روتينية ، حيث يبدأ الجمع للطوابير الساعة السابعة ، نظل وقوفاً حتى الثامنة فيبدأ الطابور حتى التاسعة ثم يتوقف للإفطار ومواصلة السير حتى وقت الظهر للغداء حوالي ساعة ، ويستمر كذلك إلي باقي النهار قبيل الغروب ، وكان يتم الاستدعاء للطوابير أو غيره ، عند وجودنا بالزنازين بأن يطلق أحدهم الصفارة الأولي فنخرج بسرعة إلي خارج الزنزانة كل مجموعة أمام زنزانتها ووجهها للحائط ، وظهرها للخارج دون حراك أو التفات ، والويل والثبور لمن يتحرك أو يلتفت خلفه ، وبعدها بفترة تطول أو تقصر حسب مزاج المستدعي ، يصفر الصفارة الثانية للجميع للطابور ويجري كل إلي سريته ، أو إذا لم يكن للطابور فينادي بأنه يريد عشرين "ولد" طلبة مثلاً ، أو "الأولاد" المهندسين الدكاترة يجمعوا تحت ، وأذكر أن صفوت الروبي جمع جميع الأطباء ليختار منهم واحدًا يعطيه حفنة .

وفي الطابور الأول في الصباح كان يحرص علي حضوره اللواء حمزة البسيوني ممتطيًا صهوة الحصان ، وكذلك صفوت الروبي ، ثم قل حضورها بعد ذلك . ومع هذه المشاق والإرهاق البدني إلا أنها كانت بها كثير من المزايا التي قدرها الله سبحانه وتعالي ويمكن تلخيصها في الآتي :

1 – الحركة والتعرض للشمس والهواء بعد طول مدة التخزين وعدم الحركة في ظل مع الرطوبة والقمل والبق .

2 – الكلام : وقد كان ممنوعًا حتى في الطوابير كذلك إلا أنه كان يتم همسًا أو أثناء السير بحيث لا يمكن تمييزه من الجند مع صوت السير ووقع الأقدام ، وكان الكلام يتم إما بقراءة أو حفظ القرآن أو بطرح الأسئلة والمناقشات العلمية المختلفة ، أو مناقشة أي موضوع ، وبعد فترة من المران واستغفال الجنود ، كان يتم انتقال الإخوة من سرية إلي أخري للقاء بعضنا البعض والاستفادة من أخ في سرية أخرى وهكذا .

3 – بدأ الذهاب في الصباح لدورة المياه دون مصاحبة الجنود ، فيتم الذهاب للدورة بحرية والدخول والمكوث فيها بحرية كذلك ، وغسل الوجه والوضوء ، وكانت هذه أمنية غالية تم تحقيقها بفضل الله تعالي .

4 – الاستحمام : تقرر في هذه الفترة لنا الاستحمام يوم الجمعة وغسل الملابس والحركة داخل السجن الكبير بحرية ، وإن كان من الناحية الرسمية ممنوع دخول شخص غير زنزانته وإذا اكتشف ينال جزاءه ، وكانت الحمامات بدون سقف من أعلي والباب به فتحة حوالي 30سم من أسفل ، وكان الاستحمام بماء بارد ، بل يمكن القول بأنه ماء مثلج خاصة في فصل الشتاء وبالذات شهري ديسمبر و يناير ومع جو الحربي الصحراوي .

5 – استرداد بعض الأطعمة المسروقة ساعدت الحركة لنا داخل السجن الكبير إلي اكتشاف أماكن إخفاء الجنود لمسروقات الأطعمة المستحقة لنا الجبن والحلاوة الطحينية والعسل والخبز وغيرها ، وكان هناك إخوة يمتازون بخفة الحركة و "خفة اليد" فيأخذون من هذه الأطعمة يوميًا وبالتدريج حتى لا يكتشف الأمر ويتم توزيعها علي الجميع ، وكان يتم كذلك في صفائح القمامة علي الأطعمة المتبقية من الجنود خاصة الخبز وتنظيفها وتوزيعها للأكل علي الإخوة ، أو مما تأخذه من ضباط مكتب المشير أو أعراب سيناء المعتقلين معنا .

6 – الأخبار : كان من فضل الله علينا كذلك خلال هذه الفترة معرفة قدر من الأخبار لا بأس به ، وكان ذلك يتم عن طريق الأعراب المتهمين بتجارة المخدرات والموجودين معنا ، وكذا عن طريق ضباط مكتب المشير المتهمين بالانقلاب ، وكان هؤلاء يعاملون معاملة خاصة فتأتيهم الصحف ولديهم مذياع ولهم زيارات ويتم معرفة الأخبار بالاستماع لهم خلسة من قبل بعض الإخوة وإحضار قصاصات الصحف من صناديق القمامة ويتم تجميع هذه وتلك وإبلاغها أو تسليمها لأحد الإخوة الذي يقوم بدوره بتلخيصها وإبلاغها للإخوان وقطع القصاصات المهمة من الصحف وتوزيعها وتبادلها مع الإخوان للقراءة .

7 – ارتفاع الروح المعنوية : أدي الاختلاط في الطوابير إلي رفع الروح المعنوية بلا شك بين الجميع من فضل الله وكرمه ، وكان الجميع ينظر لمن يدور حوله أو تصرفات الجنود كأن شيئًا لم يحدث إطلاقًا ، والكل منشغل بالاستفادة بالوقت والتفكير في أمر هذا الدين ، وينظر إلي تصرفات زبانية الباطل نظرة استعلاء بإيمانه .

8 – قلة التعذيب والسباب : تميزت هذه الفترة بقلة التعذيب والسباب ، ولعل التعليمات كانت تقضي بذلك ، وربما انتاب الجنود الإعياء الشديد من كثرة العمل من الاستيقاظ في الصباح الباكر قبلنا ومباشرتنا والإشراف علينا ، ثم الوقوف أمامنا وحولنا في الشمس أثناء الطوابير ، حتى إنهم من شدة الإرهاق كانوا يتركوننا نقف في الظل بعيدًا عن الشمس ، وأحيانًا نجلس أمام دورة المياه للشرب وقضاء الحاجة ، أو هكذا سخرهم الله لنا كما يسخر الدواب .

9 – حلاقة الشعر : كان من سياسة التخزين ترك شعر الرأس واللحية والعانة دون حلاقة حتى بدا الجميع كسكان الغابات أو كأهل الكهف ، وهو تصرف مقصود كنوع من الإيلام النفسي ولزيادة القاذورات مع عدم النظافة وتوفيرها ، ولكن في فترة الطوابير سمح لنا بحلاقة الشعر أو الذقن بواسطة حلاقين من الجنود ، وكانت الماكينة والحلاق يسببان آلامًا وكأن الإنسان يجري عملية جراحية بدون "بنج" .

10- وجود الصابون : توفرت لنا كميات هائلة من الصابون وهو غالبًا من مستحقاتنا خلال الفترة السابقة ، فاستخدمناها بفض الله في نظافة الأجسام والملابس .

ومع جو الطوابير السابق ذكره ، كان يظلله بفضل الله جو الأخوة والمحبة والإيثار الذي يسود الجميع ، والذي نشعر به بروح الإيمان المنبثق من القلوب ، وبرحمة الله التي تغشي هذا الجو والتي تهون معها الصعاب .

مشهد مثير :

في صباح أحد أيام الطوابير ، كنا وقوفًا كالعادة في طابور الصباح ، وكان أول يوم في شهر رمضان المبارك ، حدث منظر لن أنساه في حياتي أبدًا من فظاعته وإثارته وإجزام فاعله . نادي المجرم السفاح صفوت الروبي علي الأخ الأستاذ محمد عبد الفتاح شريف في طابور الصباح في ذلك اليوم ، وكان عمره وقتها قد تجاوز الستين وهو قصير القامة ، نحيف الجسم ، ضعيف البنية ، وبمجرد أن وصل ووقف أمام صفوت الروبي قال له : " اليوم يوم مفترج ... أبشر " ثم صفعه علي وجهه صفعة واحدة سقط علي أثرها مغشيًا عليه ، فنقله الجنود علي أثرها محمولاً إلي المستشفي وانتهي المشهد بعد ذلك ، حيث عاد بعدها بعد أن أجريت له الإسعافات وأفاق بعد ذلك . وكان الأستاذ شريف معروفًا بيننا رغم سنه بخفة دمه وظله ، كثير المداعبة لإخوانه ، والمشجع لهم ، وكانت له كلمة مشهورة " أبشروا " أي أبشروا بالنصر القادم لكم . فيظهر والله أعلم أنه قد وصل لمسامع هذا " الصفوت " هذه الكلمة فكان ما كان ، ولا أعرف خسة ولا نذالة ولا إجرامًا يصل إلي هذا الحد مع إنسان أعزل ، ضعيف ، مسن ، وفي يوم مبارك .

ومع الاختلاف الزمني بين ما حدث عام 1954 وعام 1965 إلا أن الوسائل تكاد تكون واحدة وبنفس الأساليب مع اختلاف غالبية القائمين بالأدوار في المحنتين فالاعتقال والتعذيب والمحاكمات وقضاء العقوبة بعد ذلك ، كل ذلك متشابه لا تغيير فيه ، مما يدل علي أن الذي يقوم برسم الخطط وطرق التنفيذ ومتابعتها واحد ، وما علي العبيد والسفاحين الكبار والصغار إلا التطبيق وفق ما يريده الأسياد وفوق ما يريدون بكثير ، وحسبنا الله ونعم الوكيل " .

هذا وقد استمرت الطوابير حتى 16/6/1967 وهو آخر يوم لنا بالسجن الحربي اللعين .


الإدعاء

تم تسليم إدعاء الاتهام – أثناء الطوابير – للمتهمين في القضية الأولي وكانت دبياجة الأوراق كالآتي :

نيابة أمن الدولة العليا

" أمر إحالة " إلي محكمة أمن الدولة العليا في الجناية رقم 12/1965 أمن دولة العليا

نحن صلاح نصار .. رئيس نيابة أمن الدولة العليا

بعد الإطلاع علي القضية ، وما تم فيها من تحقيقات

نتهم :

1 – سيد قطب إبراهيم 60 سنة – كانت (مقيم برقم 44 حيدر بحلوان)

2 – محمد يوسف هواش 43 سنة – مراجع صرف الجمعيات التعاونية للبترول (ومقيم برقم 3 شارع مختار حجازي بالروضة قسم مصر القديمة بالقاهرة )

3 – علي أحمد عبده عشماوي 28 سنة – كاتب حسابات بالشركة المصرية العامة للأساسات (ومقيم برقم 30 شارع عمر السكندري بروض الفرج بالقاهرة)

4 – عبد الفتاح عبده إسماعيل 41 سنة – قباني . ومقيم / كفر البطيخ مركز كفر سعد محافظة دمياط )

5 – أحمد عبد المجيد عبد السميع 32 سنة- موظف بوزارة الحربية (إدارة كاتم أسرار) ومقيم برقم 16 شارع عفيفي بالعباسية قسم الوايلي)

6 – صبري عرفة الكومي 35 سنة – مدرس علوم بدار المعلمين بالمنصورة . (ومقيم بشارع محمد فريد خلف الصحة المدرسية بالمنصورة )

7 – مجدي عبد العزيز متولي 28 سنة – مدير إنتاج بشركة النصر لصناعة الأفلام ومنتجات الجرافيت (ومقيم برقم 6 شارع سالم سالم بالعجوزة )

8 – عبد المجيد يوسف عبد المجيد الشاذلي 28 سنة – كيماوي بشركة مصر للحرير الصناعة بكفر الدوار (ومقيم برقم 191 شارع بورسعيد بالإسكندرية)

9 – عباس حسن سعيد السيسي 47 سنة – صاحب معمل ألبان بشارع النيل برشيد . (ومقيم بشارع الشيخ قنديل رشيد)

10 – مبارك عبد العظيم محمود عياد 30 سنة- مدرس ثانوي . (ومقيم برقم 7 شارع بديع المتفرع بديع من شارع أحمد ماهر بالجيزة)

11 – فاروق أحمد علي المنشاوي 23 سنة – مهندس كيماوي (ومقيم برقم 9 شارع محمد أيمن بمدينة الأندلس بالهرم)

12 – فايز محمد إسماعيل يوسف 21 سنة- خريج كلية الهندسة . (ومقيم برقم 4 شارع الزهور بجزيرة بدران بشبرا)

13 – ممدوح درويش مصطفي الديرى 25 سنة – طالب ببكالوريوس العلوم – عين شمس . ومقيم برقم 660 شارع بورسعيد شقة 7 قسم الظاهر)

14 – محمد أحمد محمد عبد الرحمن 24 سنة – مهندس مناجم بالهيئة العامة لتصنيع "مشروع الفحم " (ومقيم بسيناء منطقة المغارة شمال سيناء)

15 – جلال الدين بكري ديساوي 25 سنة – مهندس بشركة النصر للأسمدة والصناعات الكيماوية (ومقيم بمسكن الشركة بالسويس ، وبالقاهرة 33 ش المحطة بالجيزة )

16 – محمد عبد المعطي إبراهيم الجزار 29 سنة – معيد بمؤسسة الطاقة الذرية (ومقيم برقم 3 شارع معوض بالمطرية)

17 – محمد مأمون يحيي زكريا 25 سنة – موظف بمؤسسة الطاقة الذرية (ومقيم بخلوة السكارنة مركز شبين القناطر – قليوبية)

18 – أحمد عبد الحليم السروجي 27 سنة – معيد بقسم الطبيعة النووية بمؤسسة الطاقة النووية (ومقيم 30 شارع الجيزاوي بالجيزة)

19 – صلاح محمد محمد خليفة 26 سنة – معيد بقسم الكيمياء النووية بمؤسسة الطاقة النووية (ومقيم 18 حارة الشنواني بالمطرية)

20 – السيد سعد الدين السيد شريف 25 سنة – مهندس ومقيم 13 شارع خمسة المنتزه خلف الساحل شبرا )

21 – محمد عبد المعطي عبد الرحيم 24 سنة – رئيس قسم الزخرفة بشركة صناعة الخزف (الشهير محمد رحمي أحمد كمال) (ومقيم برقم 11 حارة المهندس الشيخ البغال السيدة زينب)

22 – إمام عبد اللطيف عبد الفتاح غيث 23 سنة – مهندس بشركة حلوان لصناعة الديزل (ومقيم برقم 10ب ش السوفية بالحلمية الجديدة)

23 – كمال عبد العزيز العرفي سلام 26 سنة – ملازم أول مهندس بالقوات المسلحة الوحدة 3049 (ومقيم برقم 38 ش سكة سوق مسكة السيدة زينب )

24 – فؤاد حسن علي متولي 24 سنة – ملازم أول مهندس بالقوات الجوية المعمل الكيماوي بالمركز القومي للبحوث ومقيم برقم 25 ش مهدلي السيدة زينب )

25 – محمد أحمد البحيرى 22 سنة – مهندس كيميائي بشركة النصر لصناعة الكوك والكيماويات بحلوان (ومقيم برقم 17 ش محطة القبة بكوبري القبة )

26 – حمدي حسن صالح 28 سنة – معاون مجلس قروي أبو زعبل

27 – مصطفي عبد العزيز الخضيرى 33 سنة – محقق بالمصنع 27 الحربي . (ومقيم برقم 16 ش طاهر بحدائق شبرا )

28 – السيد نزيلي محمد عوضيه 27 سنة – أخصائي اجتماعي بالوحدة الاجتماعية . (ومقيم بكرداسة )

29 – مرسي مصطفي مرسي 23 سنة – باحث مساعد بالمركز القومي للبحوث . (ومقيم بالمساكن الشعبية بإمبابة بلوك 15أ شارع 14)

30 – محمد بديع عبد المجيد محمد سامي 21 سنة – معيد بكلية الطب البيطري . (ومقيم بسامول مركز المحلة الكبرى )

31 – محمد عبد المنعم شاهين 23 سنة – باحث اقتصادي بوزارة التخطيط . و "وشهرته عاطف " (مقيم 32 شارع الدكتور السبكي شقة 4 بالدقي )

32 – محمود أحمد فخري 21 سنة – بكالوريوس تجارة عين شمس . (ومقيم برقم 10 شارع شريف مصر الجديدة )

33 – محمود عزت إبراهيم 21 سنة – طالب بجامعة عين شمس . (ومقيم 1 شارع عاطف بركات مصر الجديدة )

34 – صلاح عبد الحق 20 سنة – طالب بجامعة عين شمس . (ومقيم برقم 39 شارع الخليفة المأمون مصر الجديدة )

35 – حلمي محمد صالح حتحوت 23 سنة – معيد بكلية هندسة الإسكندرية . (ومقيم برقم 69 شارع الأمير إبراهيم بالإبراهيمية )

36 – إلهام يحيي عبد المجيد بدوي 25 سنة – مهندس تفتيش المساحة بالإسكندرية . (ومقيم برقم 141 شارع تانيس بالإبراهيمية )

37 – عبد المنعم عبد الرءوف يوسف عرفات 31 سنة – مدرس بالمرقسية الثانوية بالإسكندرية (ومقيم برقم 9 ش بهجت باشا بالأزريطة رمل الإسكندرية )

38 – محمد عبد الفتاح رزق 56 سنة – وكيل تفتيش نزع الملكية بطنطا . (ومقيم بعمارة علي جمعة ش الجمهورية بدمنهور )

39 – زينب الغزالي الجبيلي 48 سنة – رئيسة جمعية السيدات المسلمات (سابقًا) (ومقيمة برقم 17 ش 6 بألماظة )

40 – حميدة قطب إبراهيم 29 سنة – آنسة . (ومقيمة برقم 44 شارع حيدر حلوان )

41 – محيي الدين هلال ( مقيم بالخارج وغير معلوم محل إقامته )

42 – عشماوي سليمان( مقيم بالخارج وغير معلوم محل إقامته )

43 – مصطفي العالم ( مقيم بالخارج وغير معلوم محل إقامته )

لأنهم في الفترة من سنة 1959 حتى آخر سبتمبر 1965 بالجمهورية العربية المتحدة وبالخارج : حاولوا تغيير دستور الدولة وشكل الحكومة فيها بالقوة ، بأن ألفوا من بينهم وآخرين تجمعًا حركيًا وتنظيمًا سريًا مسلحًا لحزب الإخوان المسلمين المنحل بهدف إلي تغيير نظام الحكم القائم بالقوة باغتيال السيد / رئيس الجمهورية – والقائمين علي الحكم في البلاد وتخريب المنشآت العامة وإثارة الفتنة في البلاد ، وتزودوا في سبيل ذلك بالمال اللازم وأحرزوا مفرقعات وأسلحة وذخائر ، وقاموا بتدريب أعضاء التنظيم علي استعمال هذه الأسلحة والمفرقعات ، وحددوا أشخاص المسئولين الذين سيجري اغتيالهم ، وعاينوا محطات توليد الكهرباء ، والمنشآت العامة التي سيخربونها ، ورسموا طريقة تنفيذ ذلك ، وتهيئوا للتنفيذ الفعلي ، وعينوا الأفراد الذين سيقومون به ، وحال ضبطهم دون تمام مؤامراتهم . وكان المتهمون السبعة الأول هم المتولين زعامة التنظيم .

بناء عليه :

يكون المتهمين قد ارتكبوا الجناية المنصوص عليها بالمواد 2 ، 30 ، 87 فقرة 1 ، 2 ، 96 ، وفقرة 1، 2، 102 من قانون العقوبات .

لذلك :

وبعد الإطلاع علي المادة الثانية من قرار السيد / رئيس الجمهورية العربية المتحدة بالقانون رقم 119 لسنة 1964 .

نأمر :

أولاً : بإحالة القضية إلي محكمة أمن الدولة العليا لمحاكمة المتهمين طبقًا للمواد سالفة الذكر .

ثانيًا : ندب المحامين أصحاب الدور للدفاع عن المتهمين ومرفق بهذا الأمر قائمة بملاحظات النيابة في الضيقة .

رئيس ووكلاء نيابة أمن الدولة العليا / صلاح نصار

حسن جمعةإسماعيل زعزوعسمير ناجيمصطفي طاهرحسين لبيبممدوح البلتاجيمحمد وجيه قناويسليمان عبد المجيد .

تحريرًا في 3/2/1966 .

وبعد ذلك كانت الملاحظات العامة عن التنظيم وتتكون من سبع نقاط ، وبعد هذه الملاحظات اسم كل متهم حسب ترتيبه في القضية والأعمال التي باشرها في التنظيم والتهم الموجهة إليه . وبعد فترة سلمت الادعاءات للمتهمين في القضايا الأربع التالية والموزعة علي دوائر المحاكم الثلاث . ويلاحظ مؤهلات ووظائف المتهمين ، وتخصصاتهم العلمية ، حيث اتهمتهم أجهزة الإعلام وقتها ، بأنهم من المختلفين أصحاب العقد النفسية ، ولهم ظروف اجتماعية كل هذه العوامل وغيرها دفعتهم للتغرير بهم وخداعهم وقوعهم في هذا الشراك . ولم يجرأ أحد أن يقول وقتها حتى من المشايخ : إنها الفطرة ، فطرة الإسلام التي دفعتهم للرجوع إلي الحق والالتزام بمنهج الإسلام ، والسير في طريق الله لإعلاء كلمته سبحانه وتعالي رغم وعورة الطريق ، وعقبات السير ، ومع ما حدث لهم من أهوال التعذيب ، إلا أنهم عادوا بعد الإفراج عنهم لمزاولة الدراسة والحصول علي أعلي الدرجات العلمية والمراكز المرموقة بجهدهم وذكائهم وتوفيق الله لهم إلي جانب خلقهم الإسلامي المشهود عنهم من الجميع .

فرقم 13 في الإدعاء يعمل مدرسًا بالجامعة ( ممدوح درويش الديري ) بعد الإفراج عليه ، وتوفي يرحمه الله .

ورقم 16 – محمد عبد المعطي الجزار حصل علي دكتوراة في الرياضة البحتة ويعمل أستاذًا بالطاقة الذرية .

ورقم 17 – محمد المأمون يحيي زكريا حصل علي دكتوراة في الكيمياء ويعمل أستاذًا بالطاقة الذرية حاليًا .

ورقم 18 – أحمد عبد الحليم السروجي حصل علي دكتوراة في الطبيعة ويعمل أستاذًا بالطاقة الذرية حاليًا .

ورقم 19 – صلاح محمد خليفة حصل علي دكتوراة في الطبيعة ويعمل أستاذًا بالطاقة الذرية حاليًا .

ورقم 20 – المهندس السيد سعد الدين شريف من رجال الأعمال .

ورقم 33 – الدكتور محمود عزت إبراهيم يعمل أستاذًا بكلية الطب – جامعة الزقازيق

ورقم 35 – حلمي صادق حتحوت حصل علي الدكتوراه ويعمل أستاذًا بكلية هندسة الإسكندرية ، وتوفاه الله .

وتم تنفيذ حكم الإعدام صباح 29/8/1966م في كل من :

1 – سيد قطب إبراهيم .

2 – محمد سيد هواش .

3 – عبد الفتاح إسماعيل .

وخفف حكم الإعدام إلي المؤبد لكل من :

1 – علي عبده عشماوي .

2 – أحمد عبد المجيد عبد السميع .

3 – صبري عرفة الكومي .

4 – مجدي عبد العزيز متولي .

وهذه قائمة أسماء باقي القضايا والأحكام الصادرة ضدهم :

1 – كمال محمد الفرماوي .. 27 سنة .. محام ( 15 سنة )

2 – محمد عبد الله الخطيب .. 36 سنة .. إمام وخطيب .. ( 10 سنوات )

3 – جابر رزق الفولي .. 29 سنة .. صحفي .. ( 15 سنة )

4 – عبد المنعم مصطفي دحروج .. 30 سنة .. ترزي .. ( 5 سنوات )

5 – منصور عبد الظاهر منصور .. 27 سنة .. كيميائي .. ( 15 سنة )

6 – عبد العزيز طلبة عبد المطلب .. 35 سنة .. كهربائي بمصنع 18 الحربي .. (5 سنوات)

7 – محمد ضياء الدين الطوبجي .. 28 سنة .. طيار .. ( 15 سنة )

8 – محمد عبد الرسول الخروبي .. 42 سنة .. مبيض معماري .. ( 10 سنوات )

9 – عبد الحميد عفيفي .. 43 سنة .. سائق .. ( 8 سنوات )

10- يحيي أحمد حسين .. طيار .. ( هارب )

11- فاروق عباس سيد أحمد.. 25 سنة .. طبيب امتياز .. ( براءة )

12- إسماعيل الفيومي .. حارس الرئيس عبد الناصر .. ( هارب )

13- وهبة عبد الحميد سالم الفيشاوي .. 40 سنة .. موظف بالطباعة والنشر .. ( 10 سنوات )

14- أحمد توفيق أحمد كنزي .. 34 سنة .. عامل خردوات .. ( 10 سنوات )

15- عبد الكريم حسن الطويل .. 42 سنة .. كاتب بالسكة الحديد .. ( 10 سنوات )

16- أحمد محمد الشيخ .. 41 سنة .. ساع بمصلحة الضرائب .. ( براءة )

17- أنور أمين نور الدين .. 29 سنة .. عامل تليفونات .. ( براءة )

18- علي محمد جريشة .. 30 سنة .. نائب بمجلس الدولة .. ( 12 سنة )

19- عبد المنعم خليفة الحنفي .. 41 سنة .. مساعد مهندس .. ( 10 سنوات )


20- رشدي مصطفي حبلص .. 28 سنة .. سكرتير .. ( 10 سنوات )

21-عبد العزيز عبد الغني العدس .. 47 سنة .. مزارع .. ( براءة )

22- محمد إبراهيم حسنين بكير .. 35 سنة .. عريف بسلاح الحدود .. ( 7 سنوات )

23- محمد عبد العزيز الصروي .. 22 سنة .. مهندس كيماوي .. ( 12 سنة )

24- محمد عبد الحميد خفاجي .. 24 سنة .. طالب هندسة .. ( براءة )

25- عز الدين عبد المنعم علي .. 23 سنة .. طالب هندسة .. ( براءة )

26- علي بكري بدوي .. 24 سنة .. مهندس كيماوي .. ( براءة )

27- أحمد عبد الستار كيوان .. 29 سنة .. مهندس كيماوي .. ( 10 سنة )

28- عبد الفتاح علي حسن .. 29 سنة .. كاتب .. ( براءة )

29- إمام سمير ثابت .. 29 سنة .. مدرس زراعي ومدرس .. ( 10 سنوات )

30- إبراهيم منير مصطفي .. 28 سنة .. موظف بالمؤسسة الزراعية .. ( 10 سنوات )

31- حبيب محمد عثمان .. 34 سنة .. صاحب ورشة سباكة .. ( 10 سنوات )

32- محمدي محمود فرج .. 34 سنة .. ساع بوزارة الحربية .. ( 5 سنوات )

33- محمد محمود إبراهيم .. 35 سنة .. حلواني .. ( براءة )

34- محمود مصطفي عامر .. 30 سنة .. نساج .. ( براءة )

35- جمال شوقي النشوقي .. 24 سنة .. موظف بالإسكان .. ( 3 سنوات )

36- أسعد محمد كمالي .. 26 سنة محاسب .. ( 3 سنوات )

37- جودة أحمد نمرة .. 24 سنة .. باحث بالجهاز المركزي للتنظيم والإدارة .. ( 3 سنوات )

38- عبد الفتاح محمد فريد .. 29 سنة .. مدرس أزهري .. ( براءة )

39- حسن عامر أبو طالب .. 37 سنة .. عريف بسلاح الحدود .. ( 3 سنوات )

40- مصطفي عيسي غزال .. 45 سنة .. فراش بالمصنع الحربي (45) .. (3 سنوات )

41- عبد العزيز علي أحمد 70 سنة .. وزير سابق .. ( 15 سنة )

42- معروف أحمد الحضري .. 47 سنة .. من رجال الثورة .. ( 7 سنوات )

43- عوض عبد العال عوض .. 30 سنة .. مدرس .. ( 15 سنة )

44- نصر عبد الفتاح نصر .. 33 سنة .. مدرس أزهري .. ( 10 سنوات )

45- توفيق عبد الباري .. 50 سنة .. مقاول .. ( 10 سنوات


القضية الثالثة :

1 – محمد هلال علي سالم

2 –عز العرب محمد عبد الواحد

3 – محمد إبراهيم سالم

4 –عبد الله محمد رمضان أبو سن

5 – السيد إسماعيل أبو شلوع

6 – محمد حلمي منصور

7 – محمد بدير زينة

8 – عبد الغني سيد أحمد

9 – حافظ مصطفي خليل أيوب

10 –فاروق عبد الغني الصاوي

11- يحيي أنور بياض

12 – طاهر عبد العزيز سالم

13- محمد عواد سليمان

14– عبد الحميد راجح الساوموني

15- السباعي السباعي الروكي

16 – محمد طه هداية

17- علي محمد صادق حتحوت

18 – عادل مطاوع سعد

19- عبد الفتاح رضوان الجندي

20 – أحمد محمد الزفتاوى

21- محمد صدقي عبد العزيز

22 – عبد المجيد محمد عبد المجيد

23- عبد الرحمن محمد عبد الصمد

24 – محمود إبراهيم سلامة

25- مجدي محمد عبد الحق

26 –جمال عثمان هاشم

27- محمد علي العريشي

28 – محمد أبو النصر الفار

29-أحمد عبد الغني الجندي

30 – أمين أحمد سعد

31- عبد العزيز عبد الفتاح

32- عبد العظيم سلطان

33- سيد محمد عوض

34- محمد محمد المدني

35- حسن عليوة محمد

36-محمد حسين سليمان

37- عبد العزيز إبراهيم عبد القادر

38- عبد القادر الشرقاوي

39- السيد عبد المجيد فرج

40- أحمد حامد السيد إدريس

41- محمد محمد إبراهيم بدر

42- محمد صالح خليل

43- عبده محمد عبده

44- يوسف ندا

45- عبد الجواد علي غربية

46- عبد الخالق يوسف الغرباوي

47- محمد عبده الحلوجي

48- إبراهيم أحمد

49- أحمد محمد المراسي

50- محمد السيد خليفة ( سنة واحدة )


القضية الرابعة ( تنظيم الدقهلية و الغربية ) :

1- شعبان الشناوي

2- عبد الستار فتح الله سعيد

3- ماهر خليل البدراوي

4- عبد الستار محمد نوير

5- حامد بدر الزقم

6- عبد الرحيم محمد الزيادي

7- عبد الستار محمد قبيع

8- إسماعيل علي عبد العال

9- محمد فتحي رفاعي

10- حسين عبد العزيز قرقش

11- عبد العزيز علي الخطيب

12- عبد المجيد محمد هيكل

13- زكي يوسف الخطيب

14- محمود حامد البطل

15- عبد العزيز السيد رفاعي

16- يوسف فرج متولي

17- أحمد علي عثمان الصعيدي ( سامي الصعيدي ) عامل بمركز إرسال الإذاعة (10 سنوات )

18- السيد يوسف محمود

19- عبد العظيم أبو المعاطي الشربيني

20- عبد الرءوف محمد شبانة

21- السيد أحمد محمد حسن

22- عثمان عرفة أبو مهدي

23- محمد جمعة حامد

24- طه مسعد البدحيٍ

25- أبو الفتوح محمد عويضة

26- عوض الشحات عوض

27- صديق علي زقزوق

28- محمد طه المريح

29- عبد الوهاب الحسيني الشاعر

30- محمد عبد السلام الشرقاوي

31- محمد فهيم الشناوي

32- مصطفي أحمد عبد النبي

33- زكريا أحمد التوابتي

34- أحمد عطية النجار

35- محمود شفيق الجميعي

36- محمد عبد المقصود العزب

37- محمد عبد المجيد المرسي

38- محمد السعيد سعد

39- محمود محمد جاب الله

40- سعيد أحمد حسن

41- بسيوني إبراهيم بخيت

42- سيد عبد الوهاب شاهين

43- حسب النبي خيري سليمان

44- كامل عبد السلام عطية

45- عبد القوي عطية بدر

46- عبد الغفار الششتاوي

47- طه عبد الهادي بهيج

48- عبد القادر حجازي بدوي

49- أبو اليزيد محمد عسقول

50- حسن علي حسن مهرة

51- جلال عبد السلام الشرقاوي

52- محمد المتولي جمعة

53- السيد إبراهيم عبد الرحمن

54- إبراهيم أحمد إسماعيل

55- عبد الله عبد المجيد عبد الله

56- أحمد محمد سلام

57- إبراهيم العزب شرف

58- السيد المرسي فساكة

59- بدر الدين شلبي

60- مسعود السيد السبحي 30 سنة محاسب (8 سنوات )

و كانت الأحكام طبقا للجدول التالي :

الحكم القضية الأولي الثانية الثالثة الرابعة
إعدام 7 - - -
مؤبد 26 - - -
15 سنة 7 5 9 21
12سنة - 2 - 18
10سنوات 4 15 5 8
8 سنوات - 1 11 2
7 سنوات - 2 - -
براءة - 10 1 3


الاستعداد للمحاكمة

قبل بدء المحاكمة بدأت الاستعدادات لذلك ، وكان قد تم توزيع الإدعاء في شهر فبراير 1966 ثم عرض علي الجميع من كان يريد توكيل محام ، ومن لم يوكل ثم انتدب محام له عن طريق المحكمة ونقابة المحامين . وقد قُرّر ترك شعورنا بعد تهذيبها وحلق اللحى ، إلا أنهم تراجعوا عن ذلك قبل المحاكمة بيوم واحد وحلقوا للجميع رقم 1 أشبه بالمجند عند دخوله الجندية ، ولم يترك مرسل الشعر سوي علي عشماوي لموقفه .

وقد طلب من أهالي المتهمين إحضار الملابس المدنية للذهاب بها المحاكمة وعمل تصريحات للأقارب من الدرجة الأولي لحضور المحاكمة ، وقد تم منع شقيقات وأقارب الشهيد سيد قطب من حضور المحاكمة ، وتم إخراجهم من قاعة المحكمة بأمر الدجوى علي مرأى ومسمع من الجميع . وشملت الاستعدادات كذلك استدعاء بعض المتهمين أمام صفوت الروبي والتهديد لهم بأن يلتزم الكلام في المحكمة حدودًا معينة ، ولا يخرج عنها وإلا سينال جزاءه الأليم عند عودته من المحكمة . وصباح كل يوم قبل الخروج للمحكمة تعزز الحراسة داخل السجن في الطريق من السجن رقم 1 المقيم فيه المتهمون إلي المكاتب حيث الحراسة المشددة من كل جانب بكافة أنواع الأسلحة الخفيفة ، وعدد كبير من ضباط السجن والمباحث العسكرية وفي مقدمتهم اللواء حمزة البسيوني ، وكأنهم يتهيئون لمعركة حربية .

وبعد الانتظار وقوفًا أمام المكاتب يتم استدعاء الشهيد سيد من العيادة للانضمام إلينا والوقوف بجانبنا في الطابور . وبعد ذلك تدخل سيارات الشرطة ويتم وضع القيد الحديدي " الكلبشات " كل اثنين مع بعض في كلبش واحد ن فالشهيد سيد في كلبش مع الشهيد هواش ، وكل اثنين آخرين مع بعضهما وهكذا . ويركب الجميع سيارات نقل الشرطة ، مغلقة من الخارج ولها باب خلفي ، وفي كل سيارة عدد من الشرطة المسلحين ، وفي مقدمة هذه السيارات وخلفها علي طول الطريق سيارات شرطة ، ونجدة وجنود وضباط من مختلف الرتب . وتسير السيارات في طريق صلاح سالم متجهة إلي الجزيرة ، حيث مجلس قيادة الثورة التي تنعقد فيه المحكمة ، والمسافة حوالي عشرة كيلومترات .

وتزداد الحراسة قوة في مدخل وحول مجلس قيادة الثورة وداخله جنود وضباط من عدة جهات : الشرطة المدنية ، الشرطة العسكرية ، الأمن المركزي ، المباحث العامة ، حتى داخل القاعة توجد حراسة علاوة علي رجال المباحث المنتشرين في القاعة ، وعدد قليل من أقارب المتهمين وصحفيين ومحامين إلي جانب أعضاء المحكمة وممثل نيابة أمن الدولة الذي يمثل القانون . وعند وصول السيارات إلي داخل المبني يتم إنزال المتهمين وفك القيود الحديدية وإدخالهم فرادي إلي القاعة التي تسمي المحكمة ، ويبدأ الفصل بعد رفع الستار وظهور بطل هذه المسرحية الفريق أول محمد فؤاد الدجوى .

وتتم نفس المشاهد يوميًا طوال فترة المحاكمة .

هذه هي استعداداتهم ، ومظهر قوتهم ، فأين كانت هذه الاستعدادات والقوات بعدها في حرب 1967 . أما نحن فكانت استعداداتنا بالألسنة والقلوب ، الألسنة بالذكر والتضرع إلي الله والدعاء ، والقلوب بالإيمان والثقة واليقين في وعد الله والنظر إلي ضآلة وتفاهة الباطل وأهله ، ولا أستطيع وصف ثقة واطمئنان هؤلاء الرجال الأحبة حتى الشباب منهم والذين كانوا وقتها دون الخامسة والعشرين ، ونظرتهم لما حولهم من الهالات بسخرية واستهزاء ، وعدم الوجل أو تحرك شيء من الوهن أو الخوف في نفوسهم ، وكأنهم يكررون مشهد ربعي بن عامر مع رستم قبل موقعة القادسية ، والمغيرة بن شعبة في معسكر رستم حيث قال : " ...... اليوم علمت أن أمركم مضمحل ، وأنكم مغلوبون ، وأن ملكًا لا يقوم علي هذه السيرة ولا هذه العقول " .

ورحم الله الشهيد سيد قطب ، حيث قال تصويرًا لهذا المشهد وأمثاله :

" ويضج الباطل ويصخب ، ويرفع صوته وينفش ريشه ، وتحيط به الهالات المصطنعة التي تغشي علي الأبصار والبصائر فلا تري وراء الهالات من قبح شأنه ذميم وفجر كالح لئيم .... وينظر المؤمن من عل إلي الباطل المنتفش ، وإلي الجموع المخدوعة ، فلا يهن ولا يحزن ، ولا ينقص إصراره علي الحق الذي معه ، وثباته علي النهج الذي يتبعه ولا تضعف رغبته كذلك في هداية الضالين والمخدوعين " .



المحاكمة

هذا فصل آخر من فصول المسرحية المأسوية التي كان المخرج المنفذ لها جمال عبد الناصر ، أما الأدوار فكانت موزعة حسب إمكانية واستعداد كل فرد في كل فصل . ولقد قام كل منهم بدوره المرسوم له ببراعة تفوق براعة المؤلف والمخرج الحقيقي الذي يحرك الخيوط من وراء الستار . والفصل الجديد هنا والمشهد الذي نراه ، ليس للسياط ولا للكلاب الآدمية والحيوانية ، فليس لها هنا دور يذكر مثل الفصول السابقة ، وإلا للضرورة وعند الحاجة إليها .

والدور هنا للغة الكلام فقط حيث يقوم بدور " المايسترو" فيها شخص منتفش الريش كالطاووس وعلي أكتافه الرتبة العسكرية ، وعلي صدره النياشين مختلفة الألوان والمقاسات دلالة علي الأدوار البطولية التي قام بها في ساحات الحرب والقتال ومنها طبعًا هزيمته وتسليمه لقطاع غزة عام 1956 وأسرة ذليلاً بواسطة اليهود وذلك عندما كان حاكمًا لقطاع غزة . وخلفه زيادة في الإيهام والتضليل الآية الكريمة التي هم منها براء : (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) يظهر في هذا الفصل الفريق أول محمد فؤاد الدجوى القائم بدور القاضي وعن يمينه ويساره مساعدوه من أعضاء "المحكمة " يقوم هذه بعملية توجيه الأسئلة وإدارة دقة الكلام والمقاطعة للمتهم وإيقافه عن الكلام.

وفي الجهة اليمني منصة صغيرة يقوم من يقف خلفها بدور النيابة التي تكيل الاتهامات والشتائم بل والبذاءات للمتهمين ، وعلي يسار بطل هذا الفصل (القاضي) والمتهمون خلف القضبان الحديدية ، وفي وسط القاعة جمهور المتفرجين من أقارب المتهمين والمحامين ورجال المباحث والحراسة من كل جانب ، ورجال الصحافة . ولقد قام المحامون هنا – إلا القليل منهم – بدور النيابة السابق من الهجوم علي المتهم الموكل عنه أو المنتدب له وإثبات التهمة مع المطالبة بتخفيف عقوبتها لا إثبات نفيها وطلب البراءة . وحدث الكثير من مهازل هذه المحكمة نذكر منها :

- في أحد الأيام المحاكمة حاكم الدجوى أربعة عشر متهمًا في يوم واحد ، بعد النداء عليهم واستيفاء الإجراءات الشكلية .

- لم يكن الدجوى مهذبًا في مناقشته للمتهم ، ولا حتى من باب " التمثيل " إنه يؤدي دور " القاضي " فيغير من أسلوبه أو طريقته ، ويتظاهر حتى بالمظهر اللائق برتبته كفريق أول بالجيش علي الأقل فمثلاً :

أنت قلت إن المجتمع جاهلي يا سيد ( أي سيد قطب ) ، فرد عليه بهدوء وأدب هذه مسألة شرعية تحتاج لشرح ، ولما هم بالحديث منعه من الكلام وقاطعه ، وانتقل إلي سؤال آخر . ومرة قال له " عد علي صوابعك (أصابعك) يا سيد " وأخذ يعد هو علي أصابعه بطريقة مسرحية .

- كان الدجوى يناقش أحد الإخوة ، فقال له : " إنت ليه بتبني الفعل للمجهول " فرد عليه الأخ : طيب نبنيه للمعلوم ، وبطريقة تهكمية فثار الدجوى، وخلع غطاء رأسه وقال له : " هو ده الأدب اللي علموه لك الإخوان ... يا خائن .." فقام محامي الأخ للاحتجاج علي كلمة " خائن " باعتباره أنه لازال متهمًا ، ولم يصدر حكم بعد بإدانته ، وأن ذلك يعتبر إصدار حكم قبل نهاية المحاكمة ، وقامت مشادة بينه وبين المحامي وتدخل شوكت التوني المحامي لتهدئة الموقف ، ورفعت الجلسة وفي غرفة المداواة تم تصفية الموقف بين الدجوى والمحامي .

- سأل الدجوى الأخ المهندس محمد البحيرى : " إنت ذهبت لحلوان راكب إيه ؟ " فرد عليه باستهتار وتهكم : " راكب رجليَّ " .

- في مشادة بين الأخ الشهيد عبد الفتاح إسماعيل و الدجوى له : " أقف كويس ، إيدك في جنبك ، أحسن أضع الكلبشات في إيديك "

وكان الجميع في القفص ينظرون للدجوىنظرة احتقار وأحيانًا بالابتسام أو الضحك من طريقته المسرحية أو غفواته ونومه أثناء الجلسة ، فكان ينظر لنا بغيظ وحنق شديدين أثناء الجلسة

هذا الذي ذكرت بعض ما حدث في القضية الأولي ، ومثلها مع باقي القضايا وكانت تقع هذه المحكمة في مجلس قيادة الثورة بالجزيرة بالقاهرة ، التي يشاء الله سبحانه وتعالي أن يحاكم شمس بدران و صلاح نصر وغيرهم فيها عام 1967 وكان المتهمون في هذا التنظيم خمس قضايا بأسماء أفرادها موزعين علي دوائر ثلاثة ، والدائرة عبارة عن محكمة مستقلة بهيئتها ومكانها عن الدوائر ورئيسها ويعود المتهمون في المحكمة التهمة أو بعضها ، أو قال كلامًا لم يعجبهم يقومون بتعذيب كل أفراد القضية فردًا فردًا ، وهذا ما حدث مع القضية الثالثة حيث تكلم بعض أفرادها بصراحة عن التعذيب وعن المحكمة وتم إبلاغ ذلك السجن الحربي ، وبمجرد وصولهم انهالوا علي جميع أفراد القضية بالضرب بالسياط والجري السريع والزحف علي الأرض بالملابس المدنية ، واستمر ذلك عدة ساعات تحت أشعة الشمس الحارقة ، وهم جياع منهكون ، وفي اليوم التالي سأل " القاضي " الأخ زيادة في الوقاحة مع علمه بأنها من التعذيب .

وكذلك حدث مع المهندس الزراعي محمد بدير زينة نفس الشيء ، حيث استدعي من زنزانته ليلاً بعد غلق الأبواب وانهالوا عليه كالكلاب المسعورة بالسياط واللكم والركل ؛ ينال من يتكلم أي كلام لا يعجبهم ما ينال عند عودته ، تمامًا كما كان يحدث في النيابة ، والكل متعاون علي الشر والإجرام ، لا يختلف إلا المظهر ، هذا في زي الجندي ، وذاك في زي الضباط ، وثالث في ثوب النيابة ، وآخر في كرسي القضاء . ولقد استمرت الطوابير قبل وبعد المحاكمات وبعد صدور الأحكام في أغسطس 1966 وظلت حتى الرحيل النهائي من السجن الحربي للسجون المدنية في يونيو 1967 .


صدور الأحكام

في صباح يوم 21/9/1966 توجه المتهمون في القضية الأولي لسماع النطق بالأحكام في نفس مبني المحكمة ، بمبني قيادة الثورة بالجزيرة ، وبعد عمل الترتيبات اللازمة في مبني القاعة تم استدعاء المتهمين واحدًا واحد إلي حجرة أخري لسماع الحكم ، ثم التوجه به إلي السيارة ، وكانت الأحكام للمتهمين السبعة الأول حسب ترتيب ادعاء الاتهام كما يلي :

1 – سيد قطب إبراهيم .. الإعدام شنقًا

2 – محمد يوسف هواش .. الإعدام شنقا

3 – عبد الفتاح عبده إسماعيل .. الإعدام شنقا

4 – علي عبده عشماوي .. الإعدام شنقا

5 – أحمد عبد المجيد عبد السميع .. الإعدام شنقا

6 – صبري عرفة الكومي .. الإعدام شنقا

7 – مجدي عبد العزيز متولي .. الإعدام شنقا

وباقي القضية أحكام متفاوتة 25 أشغال شاقة مؤبدة وعلي 11 شخصًا أشغال شاقة بين 10 و 15 سنة . وعند ركوب السبعة السيارة كان باديًا علي الجميع الشكر والرضا خاصة الأستاذ سيد الذي كانت السعادة بادية علي كل تقاسيم وجهه ، باستثناء علي عشماوي الذي كان ملحوظًا عليه الانهيار والاضطراب الشديدان . و لما جلس الجميع في السيارة ، سأل أحد الضباط أحدنا عن الحكم ، فأجابه بأنه الإعدام ، فقال له الشهيد سيد : لا تقل لهم إعدام بل قل شهادة في سبيل الله ، دعهم يسمعون ما يكرهون .

وأخذ الضباط بمختلف الرتب في ساحة المكان يتحركون ويرتبون الجنود ، ويلقون التعليمات تلو التعليمات ، وكأنهم يستعدون لمعركة حربية ، حتى سمع صوت أحدهم بجوار السيارة يعطي التعليمات لضابط أقل منه رتبة يصف له خط السير ، عن طريق صلاح سالم ، فقال الشهيد سيد : صلاح سالم أين هو صلاح سالم الآن ؟ وأين فاروق ؟ إن هؤلاء الناس لا يعتبرون .....

ثم سكت برهة وقال : الحمد لله – قالها بملء فيه – الحمد لله ...شهادة في سبيل الله .... إن الله سبحانه وتعالي أراد أن يعطينا الجزاء ، ولكن الجزاء أكبر بكثير مما نستحق .... شهادة في سبيل الله – ثم سكت برهة وقال – غداً نلقي الأحبة محمداً وصحبه ، وأضاف ذكر حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم :

"أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلي تلك القناديل"

وتكلم الشهيد عبد الفتاح إسماعيل ..... راجياً من الجميع أن يشفع كل منهم للآخر عملاً بحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم أن للشهيد أن يشفع لأربعين من أهله ، أما علي عشماوي فكان بادياً عليه الانهيار التام .

ثم أعيد الجميع للسجن الحربي ، السبعة المذكورون في السجن 3 انفرادي ، أي كل واحد منهم يعيش منفرداً عن الآخرين , وبعد حوالي ساعة أخذوا الأستاذ سيد للعيادة الطبية كما كان نظراً لظروفه الصحية .

أما باقي أفراد القضية فقد انضموا إلي باقي الإخوان في السجن الكبير رقم واحد واستمر الحال علي هذا المنوال حتى صباح يوم27/9/1966 ، حيث حضر أهالي المحكوم عليهم السبعة لزيارتهم بعد إخطارهم بالموعد بواسطة المباحث . وفهم الأقارب و المحكوم عليهم أنها الزيارة الأخيرة التي تسبق تنفيذ الحكم أي زيارة الوداع للأهل أو بتعبير أدق وداع الدنيا للقاء وجه الله تعالي . ولقد نشرت الصحف في اليوم التالي الموافق 22/أغسطس/ 1966 الأحكام الصادرة من المحكمة بعناوين مثيرة ، وبعد عرض أسماء السبعة المحكوم عليهم بالإعدام ومسئوليتهم في القيادة – السابق ذكرهم – قالت : " ..... وأعلنت المحكمة قرارها بعد التصديق عليه استنادًا إلي ما ثبت خلال المحاكمة من أن :

1 – كل المتهمين في القضية حاولوا تغيير دستور وشكل الحكومة فيها بالقوة ، بأن ألفوا بينهم – وآخرون – معهم – تجمعًا حركيًا وتنظيمًا مسلحًا لحزب الإخوان المسلمين المنحل بهدف تغيير نظام الحكم القائم باغتيال رئيس الجمهورية والقائمين علي الحكم وتخريب المنشآت العامة وإثارة الفتنة ، وتزودوا في سبيل ذلك بالمال اللازم وأحرزوا مفرقعات وأسلحة وذخائر ، وقاموا بتدريب أعضاء التنظيم علي استعمال تلك الأسلحة والمفرقعات ، وحددوا أشخاص المسئولين الذين كانوا سيجري اغتيالهم ، وعاينوا محطات توليد الكهرباء والمنشآت العامة التي سيتم تخريبها ورسموا طريقة التنفيذ ، وتهيئوا للتنفيذ فعلاً ، وعينوا الأفراد الذين كانوا سيقومون به ، وأن عملية الضبط هي فقط التي حاولت دون إتمام المؤامرة .

2 – السبعة المتهمون الأول هم الذين كانوا يتزعمون التنظيم كله ، ويقودون حركته ولهذا فقد حكمت المحكمة عليهم ، طبقًا لنص المادة 87 عقوبات التي تقضي الإعدام علي كل من ألف عصابة مسلحة لقلب نظام الحكم بالقوة أو تزعمها ، أو تولي فيها القيادة .

وحكمت – علي 25 – منهم ثلاثة هاربون صدرت الأحكام عليهم غيابًا بالأشغال الشاقة المؤبدة طبقًا لأدوارهم الفرعية في قيادة التنظيم التي تلي دور مجلس القيادة مجتمعًا ، وهم عبد المجيد الشاذلي ، مبارك عبد العظيم ، فاروق المنشاوي ، فايز إسماعيل ، ممدوح الديرى ، محمد أحمد عبد الرحمن ، محمد عبد المعطي إبراهيم ، محمد المأمون زكريا ، أحمد عبد الحليم السروجي ، السيد سعد الدين شريف ، إمام عبد اللطيف غيث ، كمال عبد العزيز سلام ، فؤاد حسن علي ، محمد أحمد البحيري ، حمدي حسن صالح ، مصطفى الخضيري ، السيد نزيلي عوضية ، مرسي مصطفي مرسي ، حلمي صادق حتحوت ، عبد المنعم عرفات ، محمد عبد الفتاح شريف ، السيدة زينب الغزالي الجبيلي : التي دعت للتنظيم وعملت علي تجميعه وأمنت له اجتماعاته حتى تم تشكيله .

الهاربون : محيي الدين هلالي ، عشماوي سليمان ، مصطفى العالم . وحكمت علي الباقين كل طبقًا لدوره في قيادة التنظيم الذي يجيء في الترتيب بعد دور مجلس القيادة ودور القواد الفرعيين :

والأشغال الشاقة لمدة 10 سنوات علي حميدة قطب شقيقة سيد قطب ورسوله إلي التنظيم ورسول التنظيم إليه طوال فترة الاتصال التي تمت به وهو في السجن وحاملي الأوامر بتعيين نائبة وبدء الضربة الشاملة عندما أعطي إشارة تنفيذ المؤامرة ثم سافر إلي رأس البر . كذلك قامت المحكمة بمصادرة كل المضبوطات المتعلقة بالجريمة وكانت المحكمة المشكلة من اللواء / أحمد وحيد الدين حلمي عضو اليسار في الدائرة الأولي نائبًا عن رئيسها ، الرائد / عز الدين رياض نائب الأحكام والأستاذ حسن جمعة رئيس النيابة المنتدب قد دخلت غرفة الاجتماعات بجناح نيابة أمن الدولة العليا في مبني مجلس قيادة الثورة القديم في الساعة العاشرة والربع صباحًا حيث أعلن اللواء أحمد وحيد " فتح الجلسة لإعلان الأحكام " وبعد ذلك نودي علي المتهمين اذلين كانوا في القفص داخل قاعة الجلسات – ماعدا زينب الغزالي و حميدة قطب فكانت في غرفة المتهمين – فجاء المتهم الأول وتلا عليه الرائد عز الدين رياض الحكم وانصرف .

وهكذا تم إعلان جميع المتهمين كل علي حدة وكان نائب الأحكام يقرأ من دوسيه في يده يضم الأحكام والتوقيع عليها بالتصديق وفي الساعة العاشرة وخمس وأربعين دقيقة انتهي إعلان الأحكام فأعلن اللواء أحمد حلمي " قفل الجلسة " وفي نفس الوقت الذي كانت تعلن فيه الأحكام كان أمناء سر النيابة يحررون الخطابات الخاصة لكل منهم والتي تتضمن الحكم عليه ، ثم يسلمونها لرجال الأمن المرافقين له فيصحبونه إلي السيارة الخاصة .

وفي 22 أغسطس 1966 أصدرت المحكمة حكمها علي الأستاذ المرشد بثلاث سنوات ، و48 آخرين بين ثلاثة سنوات وعشر سنوات ، وفي يوم 5 سبتمبر 1966 صدرت الأحكام علي 83 بأحكام متفاوتة ، منها الشهيد إسماعيل الفيومي و الشهيد محمد عواد بالسجن المؤبد .. رغم استشهادهما تحت التعذيب ، وادعائهم هروبهما من السجن الحربي ، وبرأت المحكمة 13 شخصًا . وفي يوم 6 سبتمبر صدرت الأحكام بسجن 112 وتبرئة ثلاثة فقط ، دليلاً علي العدالة !!؟ وفي يوم 7 سبتمبر صدرت أحكام بالسجن المؤبد علي ستة أشخاص وبراءة اثنين .

تنفيذ الأحكام

ذكر بعض الإخوة أنه حوالي الساعة الثالثة صباحًا ، حدث هرج ومرج في السجن الكبير ونظروا من ثقب الزنزانة فوجدوا الشهيد محمد هواش والشهيد عبد الفتاح إسماعيل يحملان ملابسهما ويخرجان بها إلي خارج هذا السجن وذلك يوم 29/8/1966 . وفي الصباح أخبرهم الأعراب المعتقلون والمتهمون بالمخدرات والذين يقيمون معهم في نفس السجن أنهم سمعوا في نشرة الساعة السابعة صباحًا في الراديو الخاص بهم حيث كان مصرحًا لهم به وبالصحف سمعوا تنفيذ حكم الإعدام في الإخوة الثلاثة مع بيان قصير لذلك .

وقيل بعد ذلك أنه من المتبع قبل تنفيذ الإعدام أن يكون موجودًا أحد مشايخ الأزهر ليلقن المحكوم عليه الشهادتين ، وقبيل السير بخطاه الأخيرة إلي حبل المشنقة قال له الشيخ : " قل لا إله إلا الله " فرد عليه الشهيد سيد : " حتى أنت جئت تكمل المسرحية ، نحن يا أخي نعدم بسبب لا إله إلا الله ، وأنت تأكل الخبز بلا إله إلا الله " . وفي حوالي التاسعة في نفس ذلك اليوم 29/8/1966 – حضر أركان حرب السجن الحربي وهو برتبة نقيب ومعه المدعو صفوت الروبي وأمر بفتح الزنازين علي المحكوم عليهم بالإعدام ، واصطفوا في طابور واحد ثم تفرس الجميع وجوه بعض ، وبدأ الاستفسار عن الثلاثة الباقين : سيد قطبمحمد هواشعبد الفتاح إسماعيل ، فقالوا " خليكم في أنفسكم " .

وبدأ هذا الأركان حرب . والذي لا حول ولا قوة ، ولا يملك من أمر نفسه شيئًا . يتكلم إن الريس خفف عنكم الحكم ، والريس كذا وكذا .. يتكلم عن عبد الناصر كما لو كان إلهًا بالضبط .. أو هو فعلاً إلهه ومعبوده . ثم تم نقل ثلاثة منهم إلي السجن الكبير مع باقي الإخوان والانضمام معهم في الطابور وهم ( صبري عرفة الكومي ، مجدي عبد العزيز متولي ، أحمد عبد المجيد عبد السميع) والرابع : علي عشماوي ذهب إلي سجن (5) حيث الراحة والاسترخاء والمعاملة الخاصة .

وكان موقفًا مؤثرًا ولا يمكن وصفه حيث كان الإخوان في غاية السرور بعودة إخوانهم ، وفي نفس الوقت في غاية الحزن علي فراق الثلاثة ، وعلمنا منهم أنه تم تنفيذ صباح هذا اليوم ، وكان يومًا ممزوجًا بالآلام والأحزان من الجميع فلم يلحق الثلاثة بإخوانهم والفوز بالشهادة ، ولم يرجع الثلاثة مع إخوانهم ، والسعادة بهم في الدنيا ، ولكن هذه إرادة الله وقدره ، فهنيئًا لهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، ولعنة الله علي الظالمين . ولعل أعداء الإسلام يفركون أيديهم فرحًا وسعادة بهذا الحكم وتنفيذه ، والذين قاموا به ليسوا خواجات ممن يلبسون " البرانيط " فتثير حفيظة المسلمين ، ولكن الذين باشروا ونفذوا من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، وسوف يدفعهم الحقد للقول " ... بأننا أصحاب التشريع وأننا المتسلطون في الحكم ، والمقررون للعقوبات وأننا نقضي بإعدام من نشاء ، ونعفو عمن نشاء ، ونحن – كما هو واقع – أولو الأمر الأعلون في كل الجيوش ، الراكبون رءوسها ، ونحن نحكم بالقوة القاهرة ، لأنه لا تزال في أيدينا الغلول التي كانت الحزب القوى من قبل ، وهي الآن خاضعة لسلطاتنا ، إن لنا طموحًا لا يحد ، وشرهًا لا يشبع ، ونقمة لا ترحم ، وبغضاء لا تحس ، إننا مصدر إرهاب بعيد المدى ، وإننا نسخر في خدمتنا أناسًا من جميع المذاهب والأحزاب .... "

ترحيل المعتقلين :

استمرت الطوابير قبل وأثناء المحاكمات كما سبق القول ، بل وبعدها كذلك بالصورة الرتيبة اليومية ، يتخللها بين الحين والحين والشد والجذب وقسطًا من الراحة ، حتى حضر في أحد الأيام صفوت الروبي ، وكان عندما يدخل السجن يقف كل شيء ، ويتفقد أمامه كما لو كان الفيلد مارشال مونتجمرى يتفقد جبهة القتال ، أو يتضاءل مومنتجمرى بجواره في كبريائه وخيلائه .

وكانت معه قوائم ينادي منها الأسماء ، وكانت هذه الأسماء التي تقدم للمحاكمة أو للذين حكم عليهم بأحكام انتهت مدتها ، وتم ترحيلهم إلي سجن أبي زعبل ليبدءوا في مرحلة جديدة هناك مع المباحث العامة ، حيث رجالها ذوو الخبرة الطويلة والتمرس مع الإخوان من عام 1954 ، وفي مقدمتهم عبد العال سلومة وهو شخصية بغيضة شريرة ، يفيض قلبه قسوة ومكرًا وخداعًا ، والعبودية اللا متناهية لأسياده ، ذلكم وهو عبد العال سلومة الذي أخذه الله مع من أخذ من الطواغيت لينالوا الجزاء الأوفى بعد ذلك بسنوات قليلة بعد صراع مرير مع المرض لمدة عامين .

حرب يونيو مفرق طريق

من السنن الكونية في هذا الوجود أن له أجلاً ونهاية لا يعلمها إلا المولي سبحانه ، خالق هذا الكون ومليكه ومدبره سواء كان ذلك بشرًا أم جمادًا أم حيوانًا ، كذلك من السنن أن كل من يرتفع باسمه أو شهرته لابد أن يرجع عليه بعد ذلك العد التنازلي ماعدا الرسل والأنبياء وأصحاب السيرة المحمدية ، وكذلك الطير مهما ارتفع لابد أن يعود وينخفض ، والشمس مهما بزغت وسطعت لابد أن تغرب : وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) والمؤمن الرقراق القلب ، الذي ينظر دائمًا بأغوار الإيمان يدرك ذلك كله فلا تهزه النكبات ، ولا تصدمه الحوادث ، ويعتقد دائمًا أن معية الله معه في أموره كلها . ولقد قص لنا القرآن الكريم كثيرًا من قصص الرسل وأتباعهم ، ومواقفهم ونظرتهم لأهل الباطل : (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63))( قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) ولقد كان الإخوة الأحبة من إخوان 1965 ، الذين تربطني بهم آصرة الأخوة والحب والود ، ويتبادلون ذلك مع بعضهم بالأفعال والأقوال ، بل بالنظرات ، فينظر الأخ إلي أخيه يبادله التحية بالأعين ، حين كان الكلام ممنوعًا وتري في أعينهما المحبة والألفة ، فتسعد بذلك وتقر عينك ، وتدعو لهم .

تري ذلك ممن هم دون الثلاثين وهم كثير ، وما فوق الثلاثين والأربعين وهم قليل وتحب فيهم غير ذلك حبهم لدينهم وإقبالهم علي الله ، والعمل في سبيله ، في الوقت الذي تخلي عن ذلك الكثيرون من المشايخ ، بل حتى من بعض الدعاة . وتحب فيهم كذلك استهانتهم للباطل وأهله ، وعدم الخوف والوجل منه ، وهم واثقون طامعون في نصر الله ، وفى فرج الله .

ومفرق طريق .... في الجانب المقابل ، دخول ضباط التعذيب الزنازين ، ومحاكمتهم وما استتبع ذلك ، وكثير ممن كانوا في قمة السلطة ، أمثال شمس بدران والأقزام حسن كفافي ، رياض إبراهيم ، وغيرهم حدث لهم ما حدث . وبدأت شمس عبد الناصر تغرب رويدًا رويدًا بعد هذه الحرب وشعبيته تتهاوي ، وسمعته تتردى حتى كانت نهايته . وبدأ مفرق طريق آخر ، كل من كانوا حول عبد الناصر وفي قمة السلطة في الجيش والمخابرات ، الداخلية والمباحث ، كل هؤلاء الذين كانوا سندًا له وعونًا في طغيانه وحفاظًا لسلطانه .. كل هؤلاء ودفعة واحدة يتآمرون .... ويريدون الانقضاض عليه كالفريسة . أليس ذلك كذلك مفرق طريق ؟ بل ومفرق طريق غريب وعجيب ... ولعل الله أوقعهم ليسيروا إلي حتفه بأيديهم . وبدأ مفترق طريق كذلك مع الناس ، وبدأ بمظاهرات الطلبة ، والجرأة فيها ، ولأول مرة بعد مظاهرات مارس 1954 تخرج مظاهرات عفوية ، دون تخطيط وتوجيه من السلطة .

وسار بعد مفرق الطريق هذا الشباب الجامعي والفتيات كذلك ، يقبلون علي الإسلام ويرتوون من منهله ، وبدأ الخط التصاعدي للحركة الإسلامية بفضل الله في صعود وخط عبد الناصر وأتباعه في الانزلاق.

الرحيل

في مساء يوم 17 يونيو 1967م تم استدعاء الجميع بمهماتهم وحاجياتهم ، وتسلم أماناتهم وغير ذلك من الإجراءات الروتينية ، حتى فتحت أبواب باستيل مصر حوالي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ، لنخرج منه إلي ليمان طره – جنوب القاهرة – أي إلي حد السجون المدنية . ومن العبر في هذا الخروج أمران :

1 – أنهم كانوا في تخطيطهم ودائمًا يهدوننا بأننا سنمضي العقوبة كلها في السجن الحربي ، ولكن الله سبحانه وتعالي خيب رجاءهم وآمالهم .

2 – قبل الخروج وبعد الحرب مباشرة ، بدأت تتوافد أعداد كبيرة من مختلف الرتب علي السجن الحربي كمعتقلين . ومنهم بعض ضباط المباحث العسكرية الذين كانوا يقومون بالتعذيب في هذا المكان ، وإنها حقًا عبرة لمن يعتبر ، وسمعنا بالإذاعة إحالة ضباط للتقاعد ، منهم اللواء حمزة البسيوني ، وعلمنا بعد ذلك أنه تم اعتقاله وإيداعه سجن القلعة ، والذي يتم دائمًا اعتقال الإسلاميين فيه .


ليمان طره

تحرك الركب ، الساعة الثالثة صباح اليوم التالي : (17 يونيو عام 1967) ، تحت حراسة مشددة من مدينة نصر ، حيث السجن الحربي ، فطريق صلاح سالم بالعباسية متجهًا جنوب القاهرة ، طريق الكورنيش ، وهو الطريق المؤدي إلي المعادي فحلوان والمسافة حوالي 20 كيلومترًا من موقع السجن الحربي حتى ليمان طره ، بحي طره الواقع علي طريق المعادي سالف الذكر .

وكان أمامنا وخلقنا علي امتداد الطريق سيارات الشرطة والنجدة والأمن المركزي حتى وصلنا إلي سجن ليمان طره العتيد . وبعد إنزالنا من السيارات ، وفك القيود الحديدية (الكلبشات) وبعد الإجراءات الأمنية والروتينية ، دخلنا العنبر المخصص لنا للإقامة فيه حوالي الساعة السابعة صباحًا ، وكان اسم هذا العنبر الكئيب عنبر الإيراد .

ومع إدراكنا بأن تعذيب المباحث العامة لنا قد انتهي وأن الوضع من السجون المدنية مخالف تمامًا للسجن الحربي إلا أنه كان في الاعتبار غيظ المباحث العامة من تنظيم 1965 وإظهار رجالها بمظهر المقصرين في واجبهم أمام عبد الناصر مما كان يدفعهم إلي التعذيب في سجن القلعة وأبي زعبل بطرق غاية في الوحشية والشراسة بل والخسة والنذالة كذلك ، حيث إنه كان من صنوف التعذيب استعمال الهروات – الشوم – مما كان يؤدي إلي كسر العظام ، وقد وقع التعذيب والأجسام في عري تام كما ولدتهم أمهاتهم ، ووضع علي أعين المعذبين عصابات حتى يروا ما حولهم ، ولا من أين يأتي الضرب ، وكذا التعليق في الهواء من الأيدي أو الأرجل والشخص عاري الجسم .

هذا إلي جانب أن جهاز المباحث جهاز مدرب علي وسائل الحرب والتخطيط المدروس ، وغير طريقة الثيران الهائجة التي كانت تمارسها المباحث الجنائية العسكرية في السجن الحربي . كل هذه الاعتبارات وغيرها كانت ماثلة في الأذهان ولكن المؤمن مع معرفته بما يدور حوله ، ودراسة الاستعداد بقدر الطاقة والجهد إلا أنه قبل هذا ومعه يسلم قياده الله ويتوكل عليه ويستمد العون والممد منه ، فهو نعم المولي ونعم النصير . كانت أول آية يقرؤها القارئ : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)) .


عنبر الإيراد

هو عنبر صغير وأحد بنايات ليمان طره الواسع الفسيح المترامي الأطراف ، ويقع بالقرب من المستشفي الداخلي ، وكان معزولاً عن بنايات السجن الأخرى تمامًا ويتكون من حوالي عشرين زنزانة متقابلة ، وفي وسطه ثلاث دورات مياه ، وهو مظلم ليلاً ونهارًا ، لا تدخله الشمس ولا يدخله الهواء ، نسبة الرطوبة فيه عالية جدًا وفي كل مكان منه . وكان يستخدم عادة لتأديب المسجون الذي يرتكب مخالفة في السجن ، وهو مغلق من جميع الجهات ، لا تدري ما يدور حولك ولا أين مكانك .

وكان بالعنبر جنود غلاظ شداد يرأسهم نقيب نصراني اسمه موسي ، يستخدم كل الوسائل في مضايقتنا بأسلوب ماكر خبيث . وتم الإسكان في هذا العنبر كل سبعة أشخاص في زنزانة واحدة مساحتها حوالي مترين ونصف متر طولاً ، ومائة وستين سنتيمتر عرضًا ، علاوة علي المستلزمات الضرورية مثل ملابس كل شخص ، البطاطين ، جردل المياه للشرب وآخر لقضاء الحاجة . وليس بها أي نوع من الإضاءة الكهربائية ، ونعيش في ظلام دامس ليلاً وبصيص من النور من خلال فتحة في السقف نهارًا والتي تدخل منها مياه الأمطار شتاء ، والتهوية سيئة جدًا في الزنازين ، والهواء الموجود فيها لا يكفي لتنفس سبعة أشخاص علاوة علي أن الهواء غير متجدد ، وخاصة في القسم الشرقي من هذا العنبر حيث المواجهة للشمس وعدم وجود فتحة بالسقف مما يسبب اختناقًا أو إغماء من ضيق التنفس وقد حدث فعلاً للبعض جدًا في الزنازين ، والهواء الموجود فيها لا يكفي لتنفس سبعة أشخاص علاوة علي أن الهواء غير متجدد ، وخاصة في القسم الشرقي من هذا العنبر حيث المواجهة للشمس وعدم وجود فتحة بالسقف مما يسبب اختناقًا أو إغماء من ضيق التنفس وقد حدث فعلاً للبعض إغماء نتيجة لذلك .

ومن نوادر هذا المكان : أنه في إحدى الليالي المظلمة ، وهي كلها مظلمة ، أن أحد الإخوة كان يستعمل نظارة طبية نهارًا ويعلقها علي الجدار ليلاً ، فرأي أحد الأخوة الذين معه في الزنزانة بعض الضوء انعكاس بعض الضوء علي النظارة أو حركة بسيطة لها ، وكان ضعيف البصر كذلك ، فخيل إليه أن ذلك صرصور أو حشرة ، فما كان منه إلا أن أمسك بأحد الشباشب وانهال علي النظارة ويحولها إلي حطام من الزجاج الصغير ، وانفجر صاحبها من الضحك والغيظ معًا . وذات مرة كنت أقيم مع ستة من الإخوة في هذا المكان وفي إحدى الليالي وضع أحدنا إصبعه في إحدى عيني الأخ عبد الرحيم الزيادي وهو من تجار الدقهلية الظرفاء فصاح صيحة مدوية بلهجة ريفية ظننا علي أثرها أنه فقعت عينه .

وبعد التصريح لنا بالزيارات ، أصبح عندنا بعض الكتب ، تكونت مكتبة صغيرة يستعار منها بإشراف الأخ مأمون زكريا ، وأثناء مرور حرب الفُجّار طبعًا نحن الفُجّار . واستمر الحال في هذا المكان اثنين وعشرين شهرًا ، لمن بقي في الليمان ، بعد سفر مجموعة للقناطر في أغسطس 1967 وعددهم حوالي 60 شخصًا وتبعها بحوالي ستة أشهر مجموعة أخري إلي سجن قنا ، وكان ذلك في أوائل عام 1968 وكان عددهم 36 شخصًا . بعد وصول المحكوم عليهم في قضية 1965 عنبر الإيراد ، كان قد تم نقل الإخوان وغيرهم من الاتجاهات الإسلامية من المعتقلين عام 1965 في سجن أبي زعبل ، أو المحكوم عليهم بأحكام دون ثلاث سنوات ، تم ترحيل هؤلاء جميعًا إلي مزرعة طره بالقرب من ليمان طره ، لينضموا إلي باقي المعتقلين هناك ، وأصبح جميع المحكوم عليهم في قضية 1965 في سجن ليمان طره وجميع المعتقلين في مزرعة طره وكلهم يتبع مصلحة السجون التابعة لوزارة الداخلية ، بإشراف المباحث العامة . ومع ضيق هذا المكان (عنبر الإيراد) بليمان طره ، وسوء اختياره عن عمد ، علاوة علي المضايقات المستمرة كالتفتيش اليومي بصورة مثيرة والبحث عن أي ملازم ومصاحف ، ومصادرتها عند وجودها والتي كنا نستطيع الحصول عليها خلسة ، ونقوم بتهريبها وإخفائها منهم ، مع العلم أن السجون فيها كل ما هو ممنوع حتى المخدرات ، إلا أن الجو كان هادئًا نسبيًا .

وبعد حوالي ستة أشهر من وصولنا هذا المكان تم التصريح لنا بالزيارات ، وبدأنا نري الأهل فيها ، وكانت الزيارات ممنوعة تمامًا في السجن الحربي ، وتم ذلك بعد مرور أكثر من عامين من تاريخ الاعتقال ، حيث كنا معزولين تمامًا عن العالم الخارجي ،ـ والداخلي كذلك ، حتى الرسائل والصحف والإذاعة وغيرها كما سبق القول عن السجن الحربي كانت محرمة علينا . وفي عنبر الإيراد هذا تم قتل المهندس فاروق أحمد المنشاوي – رحمه الله – بعد ذلك (23 سنة عام 1965) والذي صدر ضده حكم بالأشغال الشاقة المؤبدة في القضية الأولي من هذه القضايا .

فبعد الحكم عليه وأثناء إيداعه بسجن ليمان طره مع باقي الإخوان ، بعنبر رقم /1 تم عزله بعنبر الإيراد بدون أسباب ظاهرة ، ولا يتم العزل في هذا العنبر إلا تنفيذًا لعقوبة توقع علي السجين داخل السجن ، وفي أثناء إقامته في عنبر الإيراد طعنه السجين بمطواه في ظهره نقل علي أثرها للمستشفي بعد تركه مدة طويلة ينزف وفاضت روحه نتيجة لذلك ، ومن تسلسل الأحداث أن الأمر كان مدبرًا مسبقًا للأسباب الآتية :

1 – أنه تم عزله بدون تحقيق أسباب ظاهرة .

2 – أنه ممنوع إطلاقًا أن يكون في حوزة السجين ممنوعات ، فكيف وصلت هذه المدية لهذا السجين مع وجود حراس .

3 – لا يوجد خلاف بينه وبين السجين يستدعي الاعتداء عليه ، ولا توجد أية علاقة سابقة .

4 – أنه لم يتم تحقيق جدي في هذا الأمر للوصول للحقيقة .

5 – قيل أن السجين الجاني انتحر ، فهل انتحر حقيقة أم قُتل لإخفاء معالم الجريمة ؟ وإذا كان قد انتحر فكيف وصلت إليه وسائل الانتحار ، ولماذا لم تشدد عليه المراقبة والحراسة بعد الحادث كما هو متبع حسب نظام السجن ؟

6 – هناك تقصير من إدارة السجن ومخالفة لائحة السجون في هذه الواقعة ، ولكن لم يتم محاسبة أحد علي ذلك .

7 – بذل المستشار الدكتور عباس حسنى ، وكان محكومًا عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة وموجودًا في نفس عنبر السياسيين ، جهدًا مضنيًا لمحاولة كشف غموض الحادث والوصول للحقيقة فأساءت إدارة السجن معاملته ، وعملت علي الاضطهاد والتضييق عليه ولم تمكنه من ذلك ووضعت أمامه العراقيل ، وانتهي الأمر أخيرًا إلي لا شيء ، ورحم الله الأخ فاروق رحمة واسعة ، ولعنة الله علي الظالمين .

معركة المصحف

يلاحظ من دخل السحن تحت مظلة هذا التنظيم ، سواء كان متهمًا وحكم عليه بالسجن ، أو كان معتقلاً بحكم انتمائه السابق للإخوان بناء علي قرار جمال عبد الناصر عام 1965 باعتقال جميع الإخوان السابق اعتقالهم عام 1948 حتى عام 1965 ، أو من اعتقل لأي شبه أو شك أو صلة بأحد أدرك ولا حظ هؤلاء جميعًا ضراوة الحرب ، وشراسة المعاملة من كل من كان له أدنى سلطة إلي غيره وإن علا في الرتبة أو السلطة .


ابتداء من الجندي الأمي الجاهل بالسجن الحربي ، فما الذي بيننا وبينه حتى يعاملنا بهذه القسوة والوحشية وكثير من الأمور لا يدركها بعقله المتخلف من قريب أو بعيد ، كان مثلاً عدم الضرب والسباب في غياب رئيسه أو التخفيف منه علي الأقل . وإذا كان من يليه من الرتب حريصًا علي سلطته ومركزه والأموال المغدقة عليه كحرص أسياده الذين في قمة السلطة لضمان الحفاظ علي كرسي الجاه والمال والسلطة أن يقوم بتقديم " الخدمات " اللازمة التي هي من مقتضيات هذا المنصب والتي يعلمها جيدًا قبل وبعد الوصول للسلطة ، وإلا سيكون مصيره إما " مقتولاً " أو " مسمومًا " أو " مخلوعًا " . ولم يقتصر الحرب في تلك الفترة علي هؤلاء ، بل اشترك فيها " المثقفون " من رجال النيابة ورجال الإعلام وحتى المحامون ، ومشايخ السلطة من أصحاب العمائم بفتاويهم وبياناتهم وخطبهم .


ومن الفصام العجيب عندهم ، أن منهم من كان يؤدي الصلاة ، أو ليس رب هذا المصحف الذي يصادرونه ، ويطاردون حفاظه وقراءه ، هو رب تلك الصلاة ؟ إن هؤلاء جميعًا يعملون وينصرون ويوالون الطاغوت وإن اختلفت مواقعهم ومراكزهم ، ويقفون حزبًا واحدًا في وجه الدعاة إلي الله ن لذا قال لهم الشهيد سيد أثناء التحقيقات : " إني أبغضكم جميعًا من رئيس الجمهورية إلي أقل عسكري " .


سجن قنا

بعد فترة من المعيشة في الإيراد ، تم نقل مجموعة أخري غير مجموعة القناطر وعددها ستة وثلاثون شخصًا تتراوح أحكامهم بين عشر سنوات أشغال شاقة والمؤبد إلي سجن قنا، ولحق بنا إلي هناك مجموعة من سجن القناطر في ديسمبر 1968م . وبعد انتهاء الإجراءات اللازمة تم وضع القيود الحديدية بالأيدي كالعادة ، وتم نقل هذه المجموعة في سيارات شرطة مغلقة متجهة إلي محطة مصر (باب الحديد) لتستقل قطار الصعيد ، وكان محجوزًا لها عربة خاصة مكيفة في القطار المجري ، وعليها حراسة من الجهتين علاوة علي الحراسة الداخلية ، وانتظار بعض مندوبي المباحث في كل محطة يقف فيها القطار .

وبعد حوالي تسع ساعات صفر ، كان الضيق والفرح في آن واحد ، والضيق من مغادرة القاهرة وترك إخواننا بليمان طره ، علاوة علي ما سبق ونقل إلي سجن القناطر . والفرح يغمرنا ، وشعورنا الفياض في اللقاء بإخواننا المحكوم عليهم عام 1954 ، وكان هذا يخفف من آثر فراقنا لإخواننا بالقاهرة . ومن العجيب أن رحمة الله كانت بادية علي الجميع طوال المسافة التي قطعها القطار من محافظة القاهرة و بني سويف ، المنيا أسيوط ، سوهاج حتى وصل إلي قنا . وبعد وصولنا ودخولنا باب السجن ، والتوجه للعنبر حيث يقيم إخوان عام 1954 ، وباقي نزلاء السجن مختلفة الجرائم والأحكام ، نشهد أننا استقبلنا من إخوان قنا استقبالاً حارًا ، وفي غاية الترحيب والحفاوة مما يفوق الوصف ، ويفوق قدرنا وكنا نلمس ذلك من نظراتهم السريعة ، وتحياتهم العابرة حيث كان ممنوعًا علينا الاتصال بهم في بادئ الأمر . وقد أغدقوا علينا من الطعام (الملكي) ، والذي حرمنا منه فترة الحربي ، وفترة أخري بعنبر الإيراد بليمان طره ، فلم نكن نذوق ، بل نري الأطعمة الطازجة كالطماطم والخيار والفاكهة ، أو غيرها وكل الأكل كان (ميري في ميري) مع ندرته ورداءته وسوف طهيه .

والمعيشة في هذا السجن ، مع أنه سجن إلا أنها كانت بفضل الله بالقياس إلي السجن الحربي أو طره لا تقاس ، فهنا نري الشمس ، بل نخرج ونستمتع بأشعتها في الفناء ونمارس جميع الألعاب الرياضية مثل : كرة القدم – كرة اليد – كرة السلة – الكرة الطائرة – والتمارين السويدي علاوة علي المشي والجري وغيرها ، وكان يشرف علي الألعاب الرياضية الأستاذ محمد مهدي عاكف – المرشد العام الحالي – وأتيح لنا مطالعة الصحف لأول مرة وقراءة الكتب والأهم من ذلك كله تم التصريح لنا بالمصحف لأول مرة منذ بدء الاعتقال عام 1965 أي منذ مرور أكثر من ثلاث سنوات . والمعاملة عمومًا كانت هادئة – هكذا أريد لها – إلا من المضايقات التي تبدو رسمية مثل التفتيش المستمر أو التشديد في المعاملة ، بعد فترة الاسترخاء ، وهكذا كنوع من شد الأعصاب ، وهي من سياسة السجون عمومًا ، خاصة مع السياسيين حتى لا يتركوهم علي وتيرة واحدة ، وقد يكون الجذب بعد تعود الجسم علي الاسترخاء فتكون العودة إلي الاسترخاء والراحة بمقابل أي ثمن ، وقد يدفع الثمن من لا يريد العودة للجذب مرة أخري .

إلا أن هذا وغيرها إجراءات عقيمة لا تؤتي ثمارها مع صاحب العقيدة الذي يوطن نفسه دائمًا علي الخير والشر ، ويرجع الأمر دائمًا لله : الأمر يحتاج إلي بسط وشرح حتى تكون الحقيقة كاملة غير منقوصة ، وحتى تعرف الصواب والخطأ ونستفيد وغيرنا من الصواب ، ونتجنب الخطأ ، ويعرف من لم يشهد التجربة فلا يكرر خطأ غيره .

فما الذي حدث في هذه الفترة وما بعدها ؟

الأمر يحتاج إلي شيء من البيان :

هبوب العاصفة :

العاصفة التي نقصدها هنا ليست عاصفة هوائية أو ترابية فتثيرها وتثير ما حولها ، وقد تقلبه رأسًا علي عقب ، وينتهي الأمر . ولكن العاصفة التي نقصدها هاهنا هي الخلافات ، وهي وإن انتهي وقتها ، إلا أنها تركت أثرها في النفوس ، وإذا لم تنته فستستمر النفوس مشحونة بها تتصرف علي ضوئها مع مخالفيها .

والخلاف في الرأي من طبيعة البشر ، وفي أي أمر من أمور الحياة ، وقد يترك رواسيه إذا كان أصحابه علي غير درجة من الوعي أو التقوى ، بل وقد يحدث حتى مع وجود ذلك . والعاملون في الحقل الإسلامي كان خليقًا بهم الترفع عن تيار الخلافات الذميم والنظر إلي ما يشغلهم وإلي قضاياهم في المرحلة الحرجة التي يعيشونها وسوف أسرد المشكلة هنا كما حدثت وقائعها ، كيف بدأت وإلي أي طريق انتهت حتى تكون علي بينة منها للاستفادة من الصواب وتجنب الخطأ ولتكون عبرة للآخرين . وسأحاول بإذن الله أن أكون محايدًا دون انتصار لرأي علي آخر حتى تكون النظرة علمية في معالجة هذه الأمور الحساسة . فعندما وصل إخوان 1965 إلي قنا ، طلب منهم الإخوان القدامى المحكوم عليهم في عام 1954 بعد فترة من استقرارهم كتابة بعض الأوراق الخاصة بآرائهم ، وقالوا إننا نريد أن نسمع منكم بعد الزوبعة التي أثيرت حولكم ، والكلام الذي قيل عنكم بأنكم تكفرون الناس ، وتصدرون الأحكام السريعة ، وترمون الحاكم بالكفر ، وقد ساهمت أجهزة الإعلام المختلفة في ذلك ، وقد أوضح لهم إخوان 1965 الأمر وأنهم لا يقولون بذلك ، ولا نكفر أحدًا دون ضوابط شرعية ، ثم إنه ليست قضيتنا هي إصدار الأحكام علي الناس والانشغال بذلك ، بل نحن ندعو الناس إلي الإسلام بصورته الواضحة الناصعة التي نزل بها علي رسول الله صلي الله عليه وسلم مع تبيان ما هم فيه الانحراف عن منهج الله حتى يفيقوا ويرجعوا إلي الله .

وبعدها تم كتابة مذكرة تقع في أربع وثلاثين صفحة (فولسكاب) تشرح جوانب العقيدة ، وما عليه أعضاء تنظيم 1965 ، اشترك في كتابتها البعض أذكر منهم الشيخ فتحي رفاعي ، مبارك عبد العظيم ، و عبد المجيد الشاذلي . وبعد فترة من تسلمهم هذه المذكرة ، قالوا إنه سيحضر مذكرات في هذا الشأن تعالج القضايا والاستفسارات المثارة وستكون من الأستاذ المرشد وعلينا جميعًا أن ننتظر ذلك . وبعد فترة وصل خطاب من فضيلة الأستاذ حسن الهضيبي – المرشد العام – كان مما جاء فيه : " ... وما كنت أعلم أن صاحب الظلال قد غير في مفهوم الجماعة " . وكانت صدمة شديدة لأفراد قضية 1965 بالذات ، فهل سيد قطب بعد ما بذل وجاهد حتى قتله الطغاة ، تكون هذه نظرة الجماعة إليه ؟ . وكان بعضهم يقول إننا نعلم أن سيدًا اقتفي أثر أهل السنة والجماعة فيما قال وكتب ولم يأت ببدع جديد ثم قال إنه غير في مفهوم الجماعة، وهل مفهوم الجماعة يخالف ما عليه السلف ؟ وحدثت تساؤلات واستفسارات كثيرة ، مع حيرة واضطراب ودوامة عاش فيها هؤلاء الشباب في تلك الأيام واستمر تأثيرها فيما بعد . وكان بالإمكان التريث والتأكد قبل الوصول لإثارة النفوس ولكن لم يحدث ذلك ، ولم تمض فترة طويلة حتى وصلت تلك المذكرات والتي عارضها إخوان 1965 جميعًا بلا استثناء وكذلك بعض إخوان 1954 ، والبعض أبدي عليها بعض الملاحظات أما بقية إخوان 1954 فقد وافقوا عليها بلا تحفظ باعتبارها تتفق مع آرائهم ، إلي جانب أنها صادرة من الأستاذ المرشد – رحمه الله – باستثناء البعض منهم كما ذكرت .

وأعيدت للأستاذ المرشد – في مزرعة طره – مع الملاحظات ، والاعتراضات ، وعلمنا أن كثيرًا من إخوان طره والمزرعة والقناطر أيضًا لهم اعتراضات واستفسارات كثيرة علي ما ورد فيها . فجزاهم الله خيرًا علي صبرهم الطويل وما لاقوه ، بعد أن سجلوا صفحة ناصعة لموكب الدعاة ، وما يلقونه في سبيل الله ، وفي المقابل صفحة بل صفحات سوداء كالحة من صفحات جمال عبد الناصر التي كانت أجهزة الإعلام تمجده ليل نهار ، وهؤلاء الشباب والشيوخ يقضون السنوات وراء القضبان ، ولا أحد يدافع عنهم أو يذكرهم ، ولا أعرف بماذا يدافع المدافعون عن عبد الناصر – والذين لا يزال منهم فلول تدافع عن هذه الوقائع والأحداث التي وقعت لأناس كل جريمتهم انهم قالوا ربنا الله – ألا لعنة الله علي الظالمين .

مزرعة طره

تقع مزرعة طره بالقرب من سجن ليمان طره ، علي مساحة 25 فدانًا تقريبًا وتم تجميع إخوان 1954 وبقايا قضية 1965 فيها وذلك بعد الإفراج عن المعتقلين الذين اعتقلوا عام 1965 وكذلك الأحكام دون السنوات الخمس ، وقد بدأ ترحيل إخوان 1954 في أوائل عام 1971م علي دفعات ، وتبعتها من إخوان 1965 من قنا والقناطر وليمان طره حتى تجمع الجميع بهذه المزرعة . وأصبحت سجون القناطر ، وليمان طره ، و قنا خالية من الإخوان ، ويمتاز هذا المعتقل عن غيره بمساحته الواسعة وعنابره الكبيرة ، والتغيير الملموس في المعاملة عن أي مكان آخر ، حيث كان يتم فتح العنابر صباحًا ، ولا تغلق إلا عند المساء ، وتتحرك بكامل حريتنا في أرجائه دون حراسة ، سوي بعض المخبرين المنتشرين لرصد التحركات أو الأقوال لأي حد ، وكذلك ليلاً في طرقات العنابر للتنصت علي من بداخلها .

وكان يشاركنا في هذا المكان بعض الجواسيس معظمهم بالمستشفي وكذا بعض السياسيين ، وقضايا أخرى صغيرة من سجن مصر بعد هدمه وفي مكان بعيد عنا داخل المعتقل . وفي سجن مجاور لنا كان يقيم فيه المحكوم عليهم في قضية مراكز القوى في عهد عبد الناصر مثل سامي شرف ، عبد المجيد فريد ، علي صبري وغيرهم ، مع خلاف كبير جدًا في معاملة الإدارة لهم من حيث توفير كل طلباتهم ومستلزماتهم ونظام مدد الزيارة ، وهكذا كان التمييز دائمًا في المعاملة مع أية قضايا أخري مهما كانت حتى ولو كانوا جواسيس لإسرائيل . ولم يكن هذا المكان مكانًا أو مجالاً للمناقشات ، أو الخلافات ، بل الكل منهمك في عمله الذي يؤديه لإخوانه وفي خدمتهم ، أو الاستفادة من الوقت في الإطلاع والقراءة بعد توافر الكتب والصحف ، أو الاشتراك في المباريات الرياضية التي تقام صباحًا ومساءً مثل كرة القدم ، السلة ، اليد ، والطائرة ، وكرة المضرب بإشراف الأخ الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام حاليًا ، فإذا ما فتحت الأبواب في الصباح ، انهمك كل شخص في عمله ، والباقي إلي ما ذكرت ، فهذا نوبتجي العنبر يقوم بنظافته وترتيبه وتوفير ما يلزمه ، وبعدها يقوم بمساعدة المشرف علي الطعام بالحجرة وهو من الذين يجيدون الطهي وإعداد الطعام ويتولي ذلك لمدة شهر بالتناوب مع غيره بالحجرة وهذا آخر يتولي حياكة أو إصلاح الملابس لمن يريد ، وهذا تكون مهنته الأصلية الخياطة أو ممن تلقي تدريبًا علي أحد المهرة ، وكان هناك أخ يتولي الإشراف علي زيارة الإخوان لذويهم والذهاب لمقر الزيارة والاتصال بالإدارة وكان يتولي هذا العمل الأخ علي نويتو (من قضية 1954) ويعاونه الأخ عبد العزيز عبد القادر (من قضية 1965) وهناك أخ يتولي توزيع أطعمة الزيارات علي الحجرات الخمس بنظام بديع ودقيق ، أما الأخ الطبيب فيتولي العلاج والإشراف علي المرضي وتوفير الأدوية اللازمة ، وهناك مهن أخري يتولاها آخرون مثل السباكة لدورات المياه ، وإصلاح الأحذية والشباشب ، والمكتبة يشرف عليها أخ ينظم الاستعارة ، وإخوة يقومون بالتدريس للإخوان الطلبة لمراحل التعليم المختلفة ، وكان البعض يستعد للحصول علي الدكتوراه مثل الأخ الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد ، والأخ المستشار علي جريشة ، والأخ عبد الرحمن بارود ، والأخ المستشار عباس حسنى والأخ المهندس حلمي حتحوت (هندسة الإسكندرية) وقد نالوها جميعًا بعد الإفراج عنهم.

أما الإخوة المزارعون بإشراف الأخ عثمان عرفة فيتولون المزرعة والحديقة ، وهذه أمثلة للأنشطة والمهام التي يقوم بها كل شخص بدقة وأمانة طيبة راضية ، يسعد بخدمة إخوانه ويبذل جهده لتلبية طلباتهم والسعي لراحتهم . وما أجمل أيام وليالي رمضان في هذا المكان حيث تظل الحجرات الخمس مفتوحة ليلاً ونهارًا ليصلي الجميع صلاة الجمعة وصلاة التراويح ، هذا خلاف المجهود الشخصي لكل شخص منفردًا في التهجد والذكر والدعاء .

وما أروع وأحلي أيام العيد كذلك في هذا المكان ، حيث البهجة والسرور فيها بصورة لا يمكن أن تتوافر في غير هذا المكان . والنظام في العيد يبدأ بعد صلاة الفجر بالتكبير ولبس الجديد حتى صلاة العيد حيث تقام في ملعب كرة السلة ، يحضرها خلاف الإخوان ضابط وجنود الإدارة ومخبرو المباحث ، وغيرهم من المساجين . وبعد الصلاة وتبادل التهاني ، ينصرف الجميع إلي حيث يشاءون ، ويقوم كل عنبر بتأدية " نمرة " في أرجاء سجن المزرعة ، مثل تقديم فرح علي الطريقة السكندرية يقدمه الإخوة السكندريون ، أو التحطيب الصعيدي أو غيره .

وحوالي العاشرة تبدأ الزيارات من الأهالي حيث تنزل علينا خيرات الله من مختلف الأطعمة والحلويات والفاكهة والهدايا ، بحيث تزيد كثيرًا عن حاجتنا ، وطوال أيام العيد يكون تناول الطعام جماعيًا لجميع الحجرات الخمس بإشراف إخوة متخصصين في إعداد الطعام وترتيبه وتنسيقه ، مقدمتهم الأخ الأستاذ محمد مهدي عاكف – المرشد العام حاليًا . وبعد عصر اليوم الأول أو الثاني يبدأ مهرجان رياضي حافل بالمسابقات والألعاب يستمر إلي ما قبل الغروب ، ويحضره جميع من بالسجن وتكون الحركة فيه بمثابة نادي رياضي بإشراف الأخ عاكف كذلك . وفي صباح اليوم التالي يفتتح مسرح في إحدى الحجرات حافلاً بالتمثيليات الترفيهية والهادفة مع الأناشيد والفكاهات ، وينتهي الحفل مع حلول صلاة الظهر . وهكذا ينتهي العيد كله فرح ومرح مع الإخوة ن والوقت الطيب مع الأقارب في الزيارات .

والمجتمع الصغير الذي ذكرته ، مع أنه مجتمع حبيس مغلق إلا أنه مع ذلاك يشعر من عاش فيه بالسعادة والطمأنينة والرضي والاستقرار وتم في هذه الفترة زراعة حديقة بالورود والأزهار أمام العنابر بإشراف الإخوة المهندسين الزراعيين والمزارعين المساعدين لهم ، فكانت تعطي المكان بهجة وسرورًا ومنظرًا جميلاً بألوانها الزاهية المختلفة . كذلك تم عمل مزرعة صغيرة خلف العنابر ، تم زراعة بعض الخضروات فيها مثل الملوخية ، الباذنجان ، الفلفل ، الجرجير ، وغيرها ، وكانت خاصة بالإخوان أو تقديم هدايا للغير منها من نزلاء بيت العائلة .

واستمر الحال علي هذا المنوال لا يعكر صفوه شيء حتى بدأت الإفراجات في أكتوبر عام 1974 ، وتم الإفراج عن جميع قضية 1954 ، وعلي دفعات ، وكذا قضية 1965 ، حيث أفرج عن مجموعة ومنهم " علي عشماوي " رغم ما بذله وقدمه لهم في السجن الحربي أو السجون المدنية وكان ذلك قبل الإفراج عن آخر دفعة بثلاثة أشهر ، وإنها لعبرة لمن يتولي الظالمين ولا يسلم قياده لله رب العالمين . أما باقي الأحكام المؤبد فقد أفرج عنهم جميعًا يوم 23 مارس عام 1975 بقرار جمهوري نشر بجريدة الأهرام صباحًا ، أي بعد تولي السادات الحكم بأكثر من أربع سنوات في عهد الحريات وسيادة القانون ... كما يزعمون .

الحياة في السجون

المعروف في دول العالم التي تحترم نفسها ، أن المسجون السياسي يعامل معاملة خاصة سواء عند الاعتقال أو المحاكمة أو عند قضايا العقوبة ، حتى في حالة الاغتيال السياسي ، له نظام خاص كذلك من حيث توقيع العقوبة ولا يعامل كنظيره المجرم ، ويعاملون السياسي – بناء علي ذلك – علي أنه صاحب فكر أو عقيدة وليس مجرمًا يستحق العقاب والتقويم . أما في مصر ، فإن العكس هو الصحيح أي أن المعتقل أو المسجون السياسي بدءًا من اعتقاله حتى الإفراج عنه ، يعامل معاملة مغايرة تمامًا لنظرائه من مرتكبي جرائم القتل ، الرشوة ، السرقة ، المخدرات ، التجسس أو غيرها .

فالمعتقل السياسي خاصة إذا كان من ذوى الاتجاهات الإسلامية يعتقل بدون أمر نيابة أو إذن تفتيش عكس المتهمين الآخرين ويعذب عذابًا رهيبًا ولا يتم مع غيره ذلك ، وإذا وقع ففي أضيق الحدود ، ويتم مع المجرم العادي التحقيق أمام النيابة بحضور محامي عنه إذا رغب دون ضغط مادي أو معنوي خلافًا لما يحدث مع المتهم السياسي حيث يكون التحقيق بواسطة المباحث أولاً مع التعذيب للاعتراف بما وقع منه وبما لم يقع نفسه من جحيم التعذيب وبعدها يحول للنيابة جاهزًا – كما سبق القول – وهي إما أن تكون نيابة عسكرية أو نيابة أمن دولة خلافًا للمتهمين في القضايا الأخرى فيكون التحقيق معهم أمام النيابة العامة وفي مبني النيابة ، لا في السجن أو المعتقل كما يحدث مع المعتقل السياسي . ويودع المتهم العادي في السجون المدنية وبضمانات معينة بإشراف النيابة العامة أو يفرج عنه بكفالة ، أما في القضايا السياسية والإسلامية فيكون الإيداع بالسجن الحربي كما حدث مع الإخوان عام 1954 ، 1965 أو في مبني المخابرات العامة مع غيرهم أيام صلاح نصر حتى يقدم للنيابة ، كما حدث مع مصطفى أمين مصطفى .

وكذلك المحاكمات بالنسبة للسياسيين والإسلاميين تتم أمام محاكم عسكرية أو محاكم أمن دولة عليا ، كما حدث عام 1954 ، 1965 ومحاكمة مصطفى أمين ، حسين توفيق ، و مصطفى أغا وغيرها كثير ، وهي محاكمات مسرحية هزلية تتم لاستكمال شكل الديكور أو المسرحية لا وفقًا للضمانات (القانونية) التي يدرسونها للآلاف من طلبة كليات الحقوق كل عام ، ومن العجيب أن يمثل دور النيابة والمحكمة من هم في قمة السلطة التنفيذية مثل ما حدث في قضية ضباط المدفعية عام 1953 حيث مثل دور النيابة زكريا محي الدين ، والقاضي جمال عبد الناصر ، وهما عضوان في مجلس الثورة . ومثل محكمة الإخوان عام 1954 حيث كانت المحكمة من أعضاء مجلس الثورة (الحاكم) كذلك وهم جمال سالم ، أنور السادات ، و حسين الشافعي .

ولا تخضع هذه المحاكم لنظام استئناف الأحكام أمام محاكم الاستئناف أو النقض أمام محكمة النقض مثل السجناء في الجرائم الأخرى . والحكم نهائي بمجرد التصديق عليه من رئيس الجمهورية فهو الخصم والحكم في القضايا السياسية . وفي أثناء تنفيذ العقوبة قد يقضي منها مدة في السجن الحربي كما حدث في قضية 1954 ، 1965 أو يطيق عليه نظام مغاير للائحة السجون حيث اللائحة تشترط مثلاً قضاء العقوبة في سجن تابع لمحافظته ، ولا ينقل إلا استثناء كنوع من العقوبة ، أما الإخوان فقد تنقلوا جملة من الحربي إلي طره ثم إلي الواحات فقنًا وأخيرًا القاهرة بمزرعة طره ومنهم من تنقل بين سجن بني سويف ، أسيوط ، سجن القناطر ، وكذا إخوان 1965 في سجون مختلفة بعد السجن الحربي ثم قنا فالقاهرة في معتقل مزرعة طره .

عبرة لأولي الألباب

المؤمن يتطلع دائمًا للآخرة ، حيث الثواب الأوفى والجنان العلي للمتقين وحيث العقاب للمجرمين علي اختلاف دركاتهم ، وجهنم وبئس المصير ، والمولي سبحانه ، برحمته وعدله ، يسوق للمؤمنين في الدنيا ، ويرطب قلوبهم ويشفي صدورهم ليزدادوا ثقة ويقينًا في الله ، لتكون عبرة لهم ، أما المجرمون فلا يعتبرون ، وصدق الله العظيم : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)) . ونسوق هنا أمثلة لما أصاب الطواغيت الكبار والصغار بعد 1965 :

1 – جمال عبد الناصر : أصيب بمرض السكر عام 1954 وبدأ يزداد ويفرض نفسه بقسوة في نهاية 1958 وفي عام 1961 انطلق السكر في جسمه متجاوزًا حدود الأمام وارتفع لدرجة الخطر عام 1964 ، وبدأ انقلابه وانطلاقه بسرعة جنونية حتى مد أنيابه للجهاز الهضمي . وبعد فترة من توحش السكر في جسمه ، أضعف السكر شرايين الكعبين ، وأصيب بتصلب الشرايين في الساقين ، وبالدوالي في الشعب بإحدى الرئتين ، والتهابات في القناة التنفسية ، والأعصاب الطرفية ، وبدأ في تناول المهدئات لينام . وكانت الآلام في ساقه اليمني لا تطاق كأنها أسياخ من اللهب حلت محل العروق والأعصاب ، وأصبحت الآلام مثل ظله لا تفارقه ن وكانت له بالمرصاد ، إذا قام ن أو جلس أو تحرك أو نام أو أشار ، أو صمت وكان كل ذلك عام 1967 ثم انفجرت قنابل اللهب من ساقيه .

يقول أنور السادات : " ........ أصيب (لا) رحمه الله في ديسمبر 1967 علي هيئة بثور في بعض أجزاء من جسمه ، وكان أي احتكاك للملابس بها يسبب له آلاماً رهيبة فأرسلنا في استدعاء الأطباء من أنحاء العالم ....... ...... وأوصي طبيب انجليزي له بالعلاج الذي كان يسبب له أزمات عصبية شديدة مدة شهرين كاملين إلي أن شفي من المرض فتلقفه مرض آخر ، إذ بدأ يحسه في ساقيه بآلام عنيفة أخذ عنقها يزداد يومًا بعد يوم إلي أن وصلت إلي درجة لا يمكن احتمالها أو وصفها .... .... إذا خلا إلي نفسه أغلق حجرة النوم عليه وعليّ – فقد كنت ألازمه – وراح يصرخ بأعلى صوته كالأسد الجريح الذي لا يملك من أمر نفسه شيئًا ... ظل علي هذه الحال شهورًا متوالية إلي أن سافر للعلاج بالمياه المعدنية في (سخلطوبو) في روسيا . وفي سبتمبر 1969 أصيب بنوبة قلبية أخفيناها وأعلنا أنها أنفلونزا " واستمر صراعه مع الأمراض حتى أخذه الله في 28/9/1970 وأراح منه البلاد والعباد .

2 – عبد الحكيم عامر : قتله عبد الناصر بالسم بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عليه عام 1967 .

3 – صلاح نصر النجومي : مدير المخابرات العامة : اعتقل وحوكم في قضية مؤامرة المشير عبد الحكيم عامر وانحراف جهاز المخابرات ، وصدر الحكم ضده يوم 29/8/1967 : -

أ – في القضية الأولي : الأشغال الشاقة المؤبدة 25 سنة ورد مبلغ 10400 جنيه للخزانة .

ب – في القضية الثانية : الأشغال الشاقة 15 عامًا وغرامة 2500 جنيه .

أفرج عنه السادات بعد قضاء سبع سنوات بالسجن وحوكم مرة أخري في قضية تعذيب الصحفي مصطفى أمين وصدر الحكم في 22/6/1967 بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات .

وأثناء قضاء العقوبة للمرة الثانية أصيب بعدة أمراض وظل يعاني آلام الأمراض كجلطات القلب ، والذبحة الصدرية حتى أصيب بالشلل التام والعمى ، وأخذه الله أخذ عزيز مقتدر لينضم إلي طابور الجبابرة العتاة وكان ذلك يوم 5 مارس 1982 .

4 – حمزة البسيوني : مدير السجن الحربي والمشرف علي التعذيب من 1954 حتى عام 1967 : مات في حادث سيارة بطريق الإسكندرية الزراعي ، وقطع جسده إربًا علي الطريق .

5 – محمد شمس الدين بدران : مايسترو التعذيب عام 1965 ، اعتقل وحوكم بالسجن المؤبد بعد هزيمة يونيه 1967 ، وهُرب للخارج بعد الإفراج عنه ويعيش طريدًا في لندن ولا يستطيع العودة لمصر لكثرة أحكام التعذيب الصادرة ضده .

6 – سعد زغلول عبد الكريم : مدير الشرطة والمباحث العسكرية ، وأحد جبابرة التعذيب عام 1965 ، مات بالسكتة القلبية وهو مدير سلاح الحدود .

7 – حسن خليل : قائد المباحث العسكرية عام 1965 ، فر بجلده وهرب للخارج ، عقب تقديم بلاغات التعذيب ضده ، في أوائل عهد السادات ويعيش ذليلاً طريدًا خارج البلاد .

أما من حوكموا وأدخلوا المعتقلات والسجون من عتاة التعذيب نسوق منهم :

هذا قليل من كثير ن وهو قليل جدًا مع عذاب الله يوم توضع الموازين القسط ليوم القيامة ، وتجزي كل نفس بما كسبت ويكون : (لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36))

الشهداء الثلاثة

لقد سبق قبل الاعتقال ، أن قرأت كثيرًا قول الله تبارك وتعالي : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)) . ولم أكن أدرك وقتها كنه الآية الكريمة بأغوارها العميقة خاصة : (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) حتى علمت في السجن الحربي باستشهاد من أعرفهم ، وعاشرتهم وخالطتهم عن قرب وأن الله سبحانه اختارهم وهو العليم الخبير لأنهم – والله أعلم – أهل للشهادة ، حيث إن كل واحد منهم نموذج فريد بشصه وعن غيره من الناس .

وكم كان لفراقهم أثر عميق في نفسي ، وجرح غائر في أعماق قلبي ، لولا ثقتي بالله ويقيني بما ينتظرهم من الجزاء الأوفى عند المليك المقتدر ، وكان هذا هو عزائي الوحيد لرحيلهم عن عالم الدنيا . مثال ذلك الشهيد إسماعيل الفيومي – الحارس لرئاسة الجمهورية – بإيمانه الفطري وتسليمه ورضاه لله ، مع بساطته وأدبه . كان – رحمه الله – قليل الكلام عظيم الإيمان ، ولا نزكي علي الله أحدًا ، كنت أحب أن أجلس إليه لأتتلمذ عليه وأغترف مما عنده من رصيد الإيمان الفطري . وكم كان دائم الطلب للشهادة ، حريصًا علي نيلها . ويري أن أقرب طريق لنيلها هو اغتيال جمال عبد الناصر ليخلص الإخوان والبلاد منه ومن عهده ، وكان كلما رفض طلبه يعاود الرجاء في تلبية طلبه يقول : " لماذا تحرموني من نيل الشهادة ، وأنا أستطيع تأدية ذلك بسهولة ، حيث يكون أمامي عبد الناصر علي بعد أقدام وداخل القصر ، ولن أبوح بشيء أبدًا إن شاء الله " . وكنا نمنعه من ذلك .

وقد حقق الله سبحانه وتعالي أمله في الشهادة ، وتحقق كلامه في أنه لم يتكلم بشيء ورآه بعض الإخوان أثناء تعذيبه ملقي علي الأرض وكل مكان في جسمه ينزف دمًا ، ويحرك رأسه يمينًا ويسارًا إشارة لعدم الكلام ، حتى اختاره الله شهيدًا بأيدي الجبابرة الطغاة ، في نفس الليلة ، فهنيئًا له ، ورحمة الله عليه ، وويل لهم مما اقترفت أيديهم الآثمة . ثم كان الشهيد محمد عواد ، المدرس الشاعر ، المتدفق النشاط والحيوية ، الذي يحرص أشد الحرص علي عمل أي شيء يرضي به .

تراه هنا وهناك ، مبتسم الوجه دائمًا مع الجد ، يستقبل الدنيا ببساطة وسهولة ويسر ، حريص علي خدمة إخوانه ، وتلبية طلباتهم ، سعيد بتأدية أي مهمة توكل إليه ، ويؤديها بسرعة ودقة وأمانة . كان أول شهيد بالسجن الحربي في الأيام الأولي من الاعتقالات في أواخر شهر أغسطس 1965 ، وذلك بتهشيم رأسه في جدار النافورة ، كما رآه بعض الإخوان ، أثناء ممارسة التعذيب معه أمام مكتب شمس بدران وبيد صفوت الروبي ، سفاح السجن الحربي . ثم قيل كما كان يتبع مع كل شهيد بالسجن الحربي – إنا هارب من السجن – ويتم اعتقال أقاربه بناء علي ذلك الإدعاء الباطل كرهينة علي هروبه ، مع علمهم بكذب ذلك ودفنه بأيديهم في صحراء مدينة نصر .

هذا قليل مما أعرفه عن الأخوين الشهيدين (الفيوميعواد) ولقد سقط شهداء غيرهم بالسجن الحربي ، مثل الأخ رفعت بكر نجل شقيقة الشهيد سيد قطب وشقيق الدكتور عزمي بكر يرحمه الله ، الذي كان معتقلاً وقتها ضمن أقارب الشهيد سيد . واستشهد بالسجن الحربي كذلك الأخ محمد منيب أمين مكتبة كلية العلوم بأسيوط رأيته أثناء تعذيبه بإشراف الرائد حسن كفافي ، يدور أمامه في دائرة عاريًا إلا من سروال يستر عورته ، وحول الدائرة مخبر المباحث العسكرية ، يلهبون جسده العاري بالسياط ، كلما مر أمام أحدهم ، وإذا سقط انهالوا عليه جميعًا ، علمًا بأن جسده كان نحيلاً ، ضعيف البنية ، وعلمت بعدها أنه استشهد في نفس الليلة .

هذا خلاف شهداء السجون الأخرى بالقلعة وأبي زعبل بأيدي المباحث العامة منهم : زكريا المشتولي ، بدر القصبي ، و أحمد شعلان وغيرهم ، وهؤلاء جميعًا استشهدوا تحت وطأة التعذيب حتى فاضت أرواحهم لبارئها تشكو إليه الظلم وتلعن الظالمين . أما الشهداء الثلاثة الذين سنتكلم عنهم فهم الذين استشهدوا علي أعواد المشانق بأيدي طغاة آخرين . والله سبحانه وتعالي ينتقي ويختار من يرتقي للمنزلة الرفيعة ، منزلة الشهادة في سبيل الله ، نماذج معينة . فهنيئًا لهم ، وللشهداء جميعًَا : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) ) .


الشهيد سيد قطب إبراهيم

لن أتكلم هنا عن سيرته وحياته ، ولا عن قلمه وطريقته في الكتابة ، فقد تعرض لها الكثير ممن كتبوا عنه ، ولن أتعرض لكتبه وأفكاره ، فكتبه يعرفها الجميع ومن أراد معرفتها أو زيادة المعرفة بها فليرجع للمكتبات وليطلع بنفسه علي ما أفاض به قلمه في مناسبات كثيرة في حياته ، خاصة الفترة التي عايش فيها الإسلام والاهتمام بقضاياه .

ولكني سوف أسرد هنا بعض ما لمسته في جوانب من شخصيته فترة القرب منه والتي بلغت حوالي العام . فسيد قطب هو ذلك الكاتب والداعية الإسلامي الكبير ، الذي بلغت شهرته الآفاق وخاصة بعد استشهاده . هو ذلك الإنسان المتواضع ، الذي لا يشعر بالفارق العلمي والفكري بينه وبين الجالس معه ، بل يأخذه بتواضعه وأدبه الجم ، ويحلق به في آفاق بعيدة بحيث يشعر أنه شخص آخر ، في عالم آخر مع أندر إنسان رأيت . فإذا تكلم .. فكلامه مرتب ، متسلسل منتظم ، بحيث تستوعب كل جملة بل كل كلمة منه ، كأنك أمام أستاذ متخصص في فصل دراسي ، متمكن من مادته ، واثق من نفسه ، حضًَّر الموضوع وقرأ له المراجع والمؤلفات .. ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء .

فالجمل في حديثه منتظمة سلسة بأسلوب شيق جذاب ، والعبارات واضحة ، والكلمات بل والحروف بارزة ، بحيث يسترعي انتباهك كل ما يقول وتخشي أن تفوتك عبارة ، بل كلمة واحدة ، حتى إذا خرجت من عنده تشعر بأنك قد حفظت الموضوع ، وما ورد في الجلسة عن ظهر قلب ، وذلك من سلامة اللفظ ، وجمال العبارة وحلاوة الحديث . وإذا تكلم فإنه يتكلم وهو هادئ مطمئن القلب ، متمكن من الموضوع ، يسير علي وتيرة واحدة في كل الحديث ، لا يرفع صوته بحيث يضايق سامعه ، ولا يخفضه بحيث يبذل جهدًا لسماعه ، أو تفوته كلمة أو جملة من الحديث . فأنت لا تحتاج لهذا العناء ، وكأنك ضبطت جهاز استقبال علي تردد معين ، بدرجة محددة للصوت . وإذا كنت في جلسة مع الشهيد ، تراه يوزع النظرات والاهتمامات علي الجميع حتى يظن كل واحد منهم أنه موضوع الاهتمام والتقدير . وإذا سألت أو ناقشت يستمع إليك حتى تنتهي من كلامك تمامًا ، فلا يقاطعك ، ولا يعرّض برأيك ولو خالفته الرأي ، ولا يرفع صوته حتى ولو رفعت صوتك ولا ينفعل حتى لو انفعلت .

إذا تعرفت عليه وجلست معه ، يسعده أن يعرف أخبارك وأحوالك وعملك وحياتك الاجتماعية وخطك في الدعوة إلي غير ذلك من الموضوعات الخاصة الشخصية كل ذلك بأسلوب لبق مهذب محبب للنفس . فإذا قابلك مرة أخري سأل عن أخبارك التي عرفها منك ، وهمومك ومشاكلك ويشاركك الاهتمام والحل لها كأنه صاحب المشكلة من شدة الاهتمام بها ، بحيث تشعر عند لقائك به أنك موضع تقدير واهتمام منه ، ويشملك بعطفه وحنانه ، ويربت عليك ، ويأخذ بيدك في أمورك الخاصة وأمور الدعوة . لم يكن مجرد كاتب ومفكر ، بل هو مع ذلك مرب فاضل ، وأب حنون ، فتح الله عليه بمعرفة النفس الإنسانية والغور من أعماقها ، وضع يده علي الداء ، ووصف الدواء . كان رحمه الله رحيمًا لا يغضب إلا للحق ، وما رأيته مرة واحدة غاضبًا ، عف اللسان ، حتى عند ذكر أسماء أعداء الله ، لطيف المجلس ، حلو المعشر لا تفارقه الابتسامة الوقور ، ذو دعابة مؤدبة في مناسبتها ، رقيق المشاعر ، مرهف الحس ولا يسرح في الخيال ، بل يغوص في أعماق الأمور نظرة عمق ، وملاحظة دراسة ، بمهجر العين والعقل والقلب . ولعل سفره لأمريكا واستفادته من التجربة خير شاهد علي ذلك ، ولم يكن كغيره من آلاف المسافرين إلي هناك مجرد نزهة ومتعة وانبهار بالغرب بل كانت رحلة دراسة ، ونقد وعبرة وعظة ، بل وتحول رئيسي في اتجاهه ، هو الاتجاه إلي الخط الإسلامي في كتابته وحركته بعد رؤية الناس هناك ، وفرحهم واهتمامهم بمقتل الإمام الشهيد حسن البنا عام 1949 .

ومع هذا فهو في الحق ، صلب المواقف ، رابط الجأش لا يتزعزع ولا يتلعثم ، ولا يخاف في الله لومة لائم . ينظر إلي أعداء الله كأنهم حشرات صغيرة ، لا حول لها ولا قوة حتى مع أجهزتهم وأنظمتهم وجبروتهم . ورغم أنه كان ينتظر ما سيفعلونه به ، إلا أن انشغاله واهتمامه حتى آخر لحظة من عمره بالحق وتأدية دوره بأية وسيلة ، دفعه للتصرف للحصول علي قلم وهو من المحظورات الشديدة ، ثم التصرف في الورق والكتابة علي ظهر الإدعاء المسلم به . وكان ذلك استكمالاً للقسم الأخير من كتاب "مقومات التصور الإسلامي" وقدر الله تعالي لهذه الصفحات أن تخرج من السجن الحربي العتيد ، وهذا من توفيق الله وقدره وقد صدر هذا الكتاب في طبعته الأولي عام 1406هـ - 1986م . كان ذو طمأنينة بالله ، وذو رضا وتسليم دائم لله وفي يقين جازم بقدر الله ووعده ونصره ، ولعل موقفه بعد سماع الحكم – كما سبق القول – خير شاهد علي ذلك ، وكذلك عند عرض الأمر عليه لتخفيف الحكم عليه .

هذا هو الشهيد سيد قطب ، وهذا بعض ما لمسته في شخصيته ، وما استطعت أن أعبر عنه حتى تعلقت به تعلقًا شديدًا وأحببته حبًا لم أحبه لأحد من خلق الله ممن رأيتهم في حياتي مثل ما أحببته لا قبله ولا بعده . وليس هذا مجرد عاطفة ، بل لأني لم أشهد في حياتي أحدًا بهذه الدرجة من الخلق والعلم والاهتمام والانشغال بأمر هذا الدين مثل هذا الرجل . وكما أحببته هذا الحب الجارف الفياض في الله ، كذلك لم أحزن علي أحد ولم أشعر بلوعة الفراق ، وكأنما قلبي يتفطر ونفسي تتحطم مثل ما حزنت علي فراق هذا النموذج الفذ الفريد في القرن العشرين الميلادي .

ولولا ثقتي برحمة الله تعالي ، وما ينتظره من الجزاء الأوفى عند ربه ، لولا ذلك ما خف حزني ، وما جفت دموعي . أسأل الله أن يتقبله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا ، وإنها لشهادة بالمعايشة أحببت أن أسجلها عسي أن يرعوى بمعرفتها بعض المغالين ، ويستفيد من حقائقها بعض الجاحدين ، وينتفع بها رجال الدعوة المخلصين .


الشهيد محمد يوسف هواش

ذلكم هو الشهيد الثاني – حسب ترتيب القضية – وكم سمعنا عنه كثيرًا من زميله في المحنة السابقة من عام 1954 إلي عام 1964 الأستاذ سيد قطب . لقد عاش الرجلان (سيد و هواش) معًا في درب الجهاد مع الصبر الطويل ، خلف الجدران سويًا في مستشفي ليمان طره ، نظرًا لحالتهما الصحية السيئة وذلك بعد ترحيلهما من السجن الحربي إلي هناك . كان يتكلم عنه الشهيد سيد كثيرًا ، وفهمنا منه أنه كشخصه وأنه بمكانته في حالة غيابه ولكنا لم نره حتى بداية محنة 1965 .

عاش وعايش الشهيد سيد 10 سنوات ولم تكن زمالة سجن أو معيشة فقط ، بل زمالة الإخوة والدراسة العميقة للإسلام والمسلمين والحركات الإسلامية المعاصرة علي الساحة . لقد استفاد الشهيد سيد من الشهيد هواش في خطه الحركي ، وسيرة أحوال جماعة الإخوان المسلمين والدروس المستفادة منها ، حيث كانت فترة ملازمة الأستاذ سيد للإخوان قبل 1954 قصيرة ، إلي جانب أنه لم يشهد فترة الإمام الشهيد حسن البنا . واستفاد الشهيد هواش من أخيه سيد من فكره وعلمه ورحلته في عالم البحث والإطلاع والمعرفة والتجارب ، خاصة مع الجاهلية ، فاختلطت التجربتان وظهرت آثارهما في كتابات الشهيد سيد ، حتى إنه قال لي مرة – الأخ محمد هواش – في السجن الحربي أثناء الطوابير : " إن كل باب وكل عبارة في كتب الأستاذ سيد أعرف متى كتبت ، ومناسبتها ومناقشتها حتى وصلت بصورتها التي ظهرت بها " .

كما كانا زميلين في معيشة السجن ، كانا كذلك زميلين في الاتصال بالتنظيم قبل الإفراج عنهما وبعده ، ثم كانا زميلين في المحنة الثانية عام 1965 . وكانا معًا في الذهاب للمحكمة (في قيد حديدي واحد) وفي المحكمة جنبًا إلي جنب ، وكذلك في الحكم الصادر عليهما وتنفيذه علي يد الطغاة . وأخيرًا كانا سويًا في الشهادة وفي لقاء ربهما ، أرجو الله أن يجمعهما سويًا في الجنة . رأيته أول مرة في السجن 3 بالسجن الحربي ، وهو أحد السجون الصغيرة ، كان يسكن به معظم المحبوسين انفراديًا ، وكان ذلك بعد منتصف الليل ، من ليالي شهر سبتمبر عام 1965 ، حيث كان البرد قارس ، والتعذيب اللافح ، والسكون المخيم إلا من آهات وصرخات المعذبين وأصوات السياط علي الأجساد ونباح الكلاب .

وعرفته عندما سمعت الجندي الحارس يناديه باسمه بعد عودته من المكاتب ليتناول طعام العشاء ، فنظرت إليه نظرة خاطفة سريعة ، حيث الكلام مع الآخرين ممنوع حتى النظرات ، واستطعت أن أحدد ملامحه ، نحيل الجسم ، ضعيف البنية ، أميل إلي القصر ثم مرت الأيام ، وبدأت الطوابير ، فبدأت كغيري الاتصال به والتعرف عليه والسير معه والتحدث إليه . أدركت أن وراء هذا الجسم النحيل الضعيف إنسانًا آخر ، شامخًا كالطود معتزًا بدينه وإيمانه ، صلب العزم ، ذا طاقة إيمانية عالية متدفقة ، رقيق المشاعر .

وهو كذلك ثاقب النظر ، ينظر إلي كل شيء حوله بعين العبرة والتدبر ن سأله أحد الإخوة مرة عن أحب فصول السنة إليه فقال : " الخريف لأن تساقط أوراق الشجر يذكرني بنهاية الأجل " . وكان ذا شفافية رقراقة ، أخبرني مرة أثناء الحديث عن عالم الرؤى – أنه رأي رسول الله – صلي الله عليه وسلم – عدة مرات ، وأنه رأى سيدنا يوسف عليه السلام في ليمان طره وكان الأستاذ سيد يشرع في كتابة تفسير سورة يوسف بالظلال وقال له : أخبر سيدًا أن السورة فيها ما تبحث عنه وهو الحاكمية . وكذلك رأى سيدنا عيسي عليه السلام .

وفي إحدى الليالي أتوا بنا من سجن 3 إلي سجن 1 (السجن الكبير) وأثناء وقوفنا صفوفًا بسجن واحد ، وكنت واقفًا علي يمينه قال لي : " والله يا أخ أحمد رأيت رؤيا ، لا أدري إن كان هذا تفسيرها أم أن لها تفسير آخر ، رأيت غفوة سريعة أثناء سجودي ليلاً أننا تفتح لنا الزنازين ونخرج منها ، وهؤلاء الناس (يقصد رجال المباحث) يدخلون الزنازين بدلاً منا " وقد كان ....... فبعد حرب 1967 بأيام وتصاعد الأزمة بين عبد الناصر والمشير عامر بدأ باعتقال أنصار عبد الحكيم عامر في الجيش والمباحث العسكرية وغيرها ، وبدأت تتوالي الأفواج حتى ضاق السجن بنا وبهم ، وتم ترحيلنا للسجون المدنية ليتسع المكان لهم ، ورأي بعض الإخوة فعلاً رجال المباحث ممن كانوا يباشرون التعذيب في نفس السجن يدخلون الزنازين رهن الاعتقال بدلاً منا ، وتم حبس من اتهم بالتعذيب بعدها من الضباط وضباط الصف والجنود أثناء تحقيقات النيابة معهم والمحاكمة ، حتى صدرت ضدهم الأحكام ، وتم ترحيلهم للسجون المدنية بعد ذلك . وعلمنا بعدها أن حمزة البسيوني اعتقل بسجن القلعة ، و شمس بدران اعتقل بالسجن الحربي بعد رحيل الإخوان منه .

أما الرؤيا الأخرى التي قصها علي وتحققت فعلاً نهايتها ، فقد قال : " إنه رأي نفسه يسير في طابور يتقدمه رسول الله وبعده الخلفاء الراشدون الأربعة ويليهم جمع آخر من الصحابة حوالي ستة أذكر منهم عبد الرحمن أبو عوف ، وهو في آخر الطابور حتى وصلوا إلي شاطئ البحر ، وهناك كان أبو جهل الذي طعنه سيفه في بطنه " ، ولعل أبا جهل هو جمال عبد الناصر . أما الرؤيا الرائعة الحاسمة ، وهي أنه رأي نفسه في جمع من الصحابة يبايعون رسول الله صلي الله عليه وسلم ولما جاء دوره للبيعة قال : يا رسول الله هل غيَّرنا من بعدك ؟ هل بدلنا من بعدك ؟ فأجابه صلي الله عليه وسلم : لا بل أمناء ، أمناء ، أمناء .

كان رحمه الله لا يكف عن الحديث مع إخوانه في الطوابير وما بينها ، ويربت عليهم ويقدم النصح والمشورة لهم ، وإذا تركه الإخوان لا يكف لسانه عن ذكر الله في الطوابير ، ومن دعائه الكثير أثناء السير في الطوابير : " اللهم اجعله خالصًا لوجهك ، اللهم لا تجعل فيه رياء ولا سمعة " . وكان يتميز بقلة الكلام إلا في دعوته ، ولكنه قدوة طيبة وإسلام متحرك يسير علي الأرض . عشت معه في زنزانة واحدة مع الأخ مجدي عبد العزيز متولي ، والأخ عبد المجيد يوسف الشاذلي تسعة عشر يومًا ، كنت أراقبه ن وأحاول أن أتعلم منه وأقتدي به . فكان إذا تكلم فكلامه عذب رقيق ، مرتب جذاب ، تمامًا كطريقة الشهيد سيد . وإذا تحرك فحركته بسيطة متأنية محسوبة ، يشعرك دائمًا بالحنان والعطف الأبوي والأخوي الذي لا حدود له ، كأنه لا يعرف في الدنيا غيرك .

كنا ننام من كثرة الجهد اليومي ، وطول العناء بالنهار من الطوابير وغيرها ولا نكاد ننتهي من صلاة العشاء حتى ننام كالأموات تمامًا إلا قليل من الليل . كان يحب الأستاذ سيد حبًا جارفًا ، ويتكلم معه بأدب جم في السيارة أثناء المحاكمة . قال لي أحد إخوان العشرات : " إن من رحمة الله بالرجلين أن اختارهما معًا للشهادة ، وإلا ما كان أحدهما لصبر علي فراق الآخر " .

كان دائمًا يريد أن يتحمل عن إخوانه الصعاب مهما كانت ن وأذكر أنه لما تحدد موعد المحاكمة ، عرض عليه بعض الذين معه في القضية الكلام في المحكمة وإعلان كلمة الحق مهما حدث ، ومهما كانت النتيجة ، إلا أنه نصحهم برفق بأن ذلك سوف يجر المتاعب علي الجميع بما فيهم العجزة والمرضي وكبار السن الذين لا تتحمل صحتهم ما سوف يلقونه ، وقال إنه سوف يتشاور مع الأستاذ (يعني سيد قطب) في ذلك ، وتفاهم معه في السيارة قبل بدء المحاكمة ، ووقف في اليوم الأول يعلن رفضه التحاكم إلي محكمة تتحاكم إلي غير شرع الله ، وأنها محكمة غير شرعية ، وقال : " إنني كمسلم ومن وحي عقيدتي أرفض أن أتحاكم أو أحاكم إلي محكمة لا تحكم بما أنزل الله"

وفي ساعة متأخرة من الليل استدعاه حمزة البسيوني – مدير السجن الحربي – لمحاسبته علي ما قال ، وتحذيره من تكرار ذلك . التففنا حوله يوم 21/8/1966 عند الذهاب لسماع الأحكام نتبادل معه الحديث وبعض التوقعات عن الأحكام فقال : وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْء ( نحن وهم في قبضة الله كالذر ، إن كان يرانا أهلاً للشهادة سوف يختارنا لها ، وإن كان غير ذلك فسوف يجري فينا وفيهم قدر الله . وكان رحمه الله علي وعي واضح لأدق الفواصل بين الإسلام والجاهلية ، ومن كلامه " إننا نستظل بمظلة الجاهلية ويوجد تحتها كافة الاتجاهات " . هذه لمحات سردتها ، وومضات سريعة لما رأيته وسمعته من الشهيد المجاهد الصبور الذي ذهب شهيدًا للقاء ربه يوم 25 أغسطس 1966 شهيدًا في سبيل الله وشهيدًا علي قومه وعلي الجبابرة بما قدمت أيديهم : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) .


الشهيد عبد الفتاح إسماعيل

أما شهيدنا الذي نتكلم عنه ، ولم نستطع أن نوفيه حقه ، فهو نموذج آخر من نوع نادر وفريد . فكل جانب من شخصيته يصلح نموذجًا يحتذي به ، ونبراسًا يقتدي به لأصحاب الدعوة الماضين في طريق الله . ذلك الرجل الريفي البسيط ، الذي إذا تكلم في الزراعة فكلام الخبير المتخصص وإذا تحدث في التجارة فهو النطاسي الماهر . أما إذا تكلم في الإسلام فهو ذلك المتحدث اللبق ، الطليق اللسان المتدفق الحماس ، والحيوية كأنه يقف علي منبر الخطابة يلقي خطبة عصماء يساعده في ذلك طلاقة لسانه ، ودراسته للإسلام ، وغيرته عليه وحفظه الجيد للقرآن الكريم ، علاوة علي نشاطه وحماسه وتقواه لله .

لا يتلعثم في حديثه ، قوي الحجة ، حاضر البديهة سريع الرد والاستشهاد خاصة بآيات القرآن الكريم وفي موضعها المناسب تمامًا من كلامه كالقناص البارع الذي يصيب هدفه في مكمنه من أول طلقة . وكان رحمه الله ، مع حسن هندامه ن ونظافة ثيابه وجمال طلعته متجردًا ، لا يلبس إلا الثياب الرخيصة ولا يقتني إلا حذاء وجوربًا واحدًا ، لا يستبدلهما إلا إذا بليًا . وكان مقررًا لأسرته ستة جنيهات في الشهر لمعيشتهم أما باقي دخله من التجارة أو الزراعة فينفقه جميعًا في سبيل الدعوة عن رضي وطيب خاطر .

أما عن جهده وطاقته وقوة تحمله فقد كانت عجيبة حقًا ، رزقه الله إياها ، فكان يسافر من بلدته كفر البطيخ بدمياط ، ويمر في طريقه علي أكثر من محافظة في وسط الدلتا ، ثم يحضر للقاهرة ، للاجتماع بالشهيد سيد ضمن المجموعة ، وبعد الجلسة حوالي منتصف الليل ، نذهب لمنزلنا والمسافة حوالي أربعين كيلو مترًا من حلوان للعباسية بالقاهرة ثم تكمل حديثنا إلي حوالي الساعة الثانية صباحًا لننام ، إذا به يوقظني قبل الفجر بما لا يقل عن ساعة لقيام الليل حتى صلاة الفجر ، وبعد صلاة الفجر مباشرة يستأذن لمواصلة السفر بدءًا من البيت حتى باب الحديد سيرًا علي الأقدام حيث لم تكن المواصلات قد بدأت بعد ، والمسافة حوالي أربعة كيلومترات ، ويبدأ يوم جديد بنفس الطريقة السابقة في السفر والمقابلات والاجتماعات وغيرها ، وغالبًا ما يقضي راحته ونومه في المواصلات . وفي السجن الحربي ، مع الجهد المضني المتواصل من الطوابير والأعمال اليدوية يوميًا يواظب علي قيام الليل وبالساعات حتى الفجر ، وطلب منه الإخوة في سجن 3 أن يرفع صوته ليصلوا خلفه ، وذلك لقلة حفظهم وقتها ، ثم لجمال تلاوته وترتيله .

لقد كان له – رحمه الله – الفضل في جمع شتات الإخوان في كل مكان في مصر في هذا التنظيم ، بل ودعوة تربية كثير من الشباب من طلبة وخريجي الجامعات الذين لم يكن لهم سابق معرفة بالإخوان ولا تسمح أعمارهم بذلك ، حتى كان يطلق عليه زبانية السجن (دينامو التنظيم) . واستمر الشهيد عبد الفتاح بالسجن الحربي بنشاطه وحيويته وبشاشته المعهودة مع الجميع طوال فترة وجوده بالحربي قبل استشهاده ولم يترك الدنيا إلا وقد تلطخت أيدي الطغاة الكبار والصغار بما اقترفوا ، وانضموا إلي صفوف حزب الشيطان مع من سبقهم من الطغاة والجبابرة ، وماذا فعل هؤلاء حتى يفعلوا بهم ما فعلوه .

هل قدموا لهذه الأمة إلا الرسالة الخاتمة الناصعة التي نزلت علي رسول الله صلي الله عليه وسلم يحاولون إخراجهم مما هم فيه من الظلمات والوحل الذي يعيشون فيه . ولكن هي سنة الله في أهل الحق مع أهل الباطل ، تتكرر دائمًا علي مدار التاريخ ، وصدق الله العظيم : وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)) .

لقد شهد بالحق هؤلاء الثلاثة الأعلام ( سيد ، هواش ، عبد الفتاح ) مع من شهد في وقت قل فيه من يشهد للحق ، وينصره بماله وقلمه ونفسه فاعتدي عليهم الطغاة يسجنونهم ، ويعذبونهم ، حتى قتلوهم ، وسيظلون قدوة يقتدي بهم في عالم الصبر والثبات والشهادة للحق ، تذكر بما مضي من المجاهدين في سبيل الله وقد أكرمهم ربهم سبحانه – بالشهادة التي هي أعظم منال يفوز به المؤمن ليهنأ بها في جنات النعيم .

الطاغوت

الطاغوت هو كل من طغي وتجاوز الحد ، ولسنا نقصد هنا أي طاغوت ، وندخل في تعريفها اللغوي والشرعي . إنما الطاغوت الذي نقصده هنا هو : " جمال عبد الناصر حسين " الذي تجاوز الحدود التي وضعها الله لعباده ن وانطلق من كل قيد يحكمه شرع الله بل من كل قيد تحكمه القوانين الوضعية والأعراف الأرضية ، بل القوانين والقرارات التي وضعها هو بنفسه . وإذا كان هذا الطاغوت السفاح قد أخذه الله أخذ عزيز مقتدر وانتهت الفترة الحالكة من حكمه ، فيقتضي الأمر هنا الحديث عنه لارتباطه بهذا البحث ، باعتباره كان في قمة السلطة في مصر قبل وبعد تصعيد الأحداث مع درايته وإدارته لها بواسطة أجهزته وأعوانه .

وثانيًا وهو الأهم من واقع عقيدتنا معه ومع غيره أن نبين سبيل المجرمين ووضع العناوين والسمات المميزة لهم ، وكشف هويتهم وفضح أعمالهم ، الدور الرئيسي الذي قام به هو وأمثاله لضرب الإسلام وقمع الحركات الإسلامية التي تقوم بدورها الريادي في هذه البلاد وليكون عبرة لنا ولغيرنا . وإذا كان الأمر يستلزم الحديث عن عبد الناصر فمن أي زاوية يتم الكلام عنه ، هل عن شخصيته وطبيعته ، وافتقاده لأي معايير أو مقاييس أخلاقية ، بدءًا من تخلصه من زملائه الذين كان لهم دور رئيسي ليلة الانقلاب ولولاهم ما نجحت الثورة بالتقدير البشري مثل عبد المنعم عبد الرءوف ، معروف الحضري ، و يوسف صديق وغيرهم .

حتى كان آخر أقرب المخلصين والأصدقاء له وهو المشير عبد الحكيم عامر الذي قتله بالسم كما تقول كثير من الروايات ، حتى شمس بدران ، و حمزة البسيوني اللذان كان لهما الدور الرئيسي في التعذيب وتنفيذ سياسته ، هما الاثنان عام 1965 والبسيوني عام 1954 لم يسلما من بطشه وسجنهما عام 1967 . " وكان لجمال عبد الناصر خاصية انتهاز الفرص وتدبير المكايد للوصول إلي المقاصد من أي طريق فكان لا يهمه في سبيل الوصول إلي غرضه شرف الوسيلة ، فأساء إلي من أحسنوا إليه وتآمر ضد من غمروه بفضلهم وتنكر لمن قدموا له المعروف ، وظلت هذه النزعة رائدة في مغامراته السياسية وعلاقاته الإنسانية من قيام الثورة في 23 يوليو 1953 إلي أن مات ............." وتخلص جمال عبد الناصر من كل التجمعات والتكتلات السياسية مثل حل الأحزاب وفي 14 يناير عام 1954 تم حل جماعة الإخوان المسلمين : " ولابد للثورة من أن تقوم بإلغاء بعض أو كل المؤسسات السياسية المنتشرة في البلاد التي ثبت عدم قدرتها علي حل المشاكل السياسية والاجتماعية المسلحة التي اقتضت قيام الثورة وهذا أنسب الأوقات وأصلحها لإحداث تطورات سريعة ، تفقد بموجبها بعض الفئات والطبقات قوتها كمؤسسات سياسية ، وتوضع في موضع حرج تضطر معه للدفاع عن نفسها " .

يقول جمال للأستاذ حسن العشماوي رحمه الله يوم 15 مايو 1953 " أتعلم يا حسن أني جاد في حربي للإخوان ...." ويقول له كذلك : " .... إني أعرض عليك شخصيًا أن تعمل معي لمصلحة بلدنا ، وأن تترك الإخوان ... فإني سأقضي عليهم بأية وسيلة ... فهمت ؟! " . ثم كان تأميم الصحافة ليكون جميع العاملين بها تابعين للدولة وربط أرزاقهم بها ، ولتكون هذه المؤسسات الصحفية بوقًا له ، ولسياسته ، ومن يخالف ذلك يكون مصيره الفصل أو النقل إلي جهات غير صحفية . فهل هذا راجع إلي أن شخصية عبد الناصر بطبيعتها شخصية استبدادية دكتاتورية كما يقول عنه زملاؤه في الثورة :

يقول عبد اللطيف البغدادي : " كان دائمًا (جمال عبد الناصر) يفاجئنا بتصرفات يقوم بها بمفرده حتى قبل قيام الثورة ..." ويقول زميله في الثورة حسين حمودة : " ... ولكي يصل البطل لأهدافه لابد له من أن ينفرد بالمجد ولكي ينفرد بالمجد لابد له من الانفراد بالسلطة فتتبع من توهم مزاحمته له في ذلك المطلب بالاعتقال والتعذيب الوحشي والمحاكمة الظالمة والسجن لمدد طويلة أو الإعدام أو القتل غيلة حتى قلم الأظافر الخادشة واستبد بحكم مصر " . ويقول أنور السادات للأستاذ عبد القادر حلمي : " اسمع يا عبد القادر ، سأقول لك رأيًا في هذا الموضوع .. رأيًا قررت أن أنتفع به ، وأنصحكم أنتم أيضًا بذلك : لا تعادوا جمال ، فإنه سيأكل الجميع .. لن يبقي إلا من (يلبد) بين أسنانه ، إنه أسد الموقف وكان ذلك في يوم 29 ديسمبر 1952 " .

ويقول حسن التهامي زميله في الفالوجا بفلسطين ، وفي فترة حكمه ومن أكثر الناس خبرة بعبد الناصر : " .. لأن عبد الناصر هو الحكم ، وكانت تصرفاته في معظمها نابعة من فكره الشخصي ورغباته في تشكيل السلوك السياسي ، ونابعة من نظرته الاستغلالية ، وحسب علمي لم يراجع العديد من تصرفاته مع مجلس قيادة الثورة ، ولم يتصرف حسب قرار أو خط مرسوم للدولة فكان رأيه الشخصي هو القرار وهو السلوك وعليه تبني النتائج " .

وعلي لسان الإخوان يقول فضيلة المرشد حسن الهضيبي رحمه الله كما يروي الأستاذ صالح أبو رقيق ، بعد أن أري الشر والخداع وحب الاستئثار بالسلطة منه : " الراجل ده ما مفيهش خير ، ويجب الاحتراس منه " ويقول الأستاذ فريد عبد الخالق – عضو مكتب الإرشاد سابقًا إن جمال عبد الناصر قال له : " اسمع يا فريد ... أقول لك اللي في نفسي وأخلص .. أنا عندي فكرة مستولية عليّ ولا أعرف إذا كانت غلط ولاّ صح .. إنما أنا عايز في خلال سنتين ثلاثة أوصل إلي أني أضغط علي زر البلد تتحرك زي ما أنا عايز .. وأضغط علي زر البلد تقف " ويقول الأستاذ صلاح شادي يرحمه الله وهو من أكثر الإخوان خبرة بشخصية عبد الناصر : " ... هذا الجبار الذي استحوذ علي الناس بالقهر تارة وبالحيلة والخداع تارة أخري " . ويقول الأستاذ علي صديق إنه اجتمع في أوائل 1953 مع مجموعة من الإخوان لتكشف رأيه فيما يثار من خلافات بينه وبين الإخوان : " ... ويقول عبد الناصر أثناء الاجتماع : إنني أصدرت قرارًا بحل الأحزاب وقانونًا للجمعيات الدينية ، وأبقيت جماعة الإخوان المسلمين داخل نطاق قانون الجمعيات بصفة استثنائية ، ولكن وجدت أن الإخوان يقفون في طريقي .. وأنني أريد البلد كلها في قبضة يدي ، حتى إذا ضغطت علي أحد الأزرار صحت البلد وإذا ضغطت علي الثاني قامت الدولة ، فلا أريد أن أضغط علي الزر الثاني وأجد أناسًا يقظين وهم الإخوان وأنني سأدعو الشعب إلي التربية بالحسنى فإن لم يستجب الشعب فلا أجد إلا طريق السيف والقوة ، وأنني سوف أتغذي بالإخوان قبل أن يتعشوا بي " .

ويقول عنه أصدقاؤه أو أسياده علي لسان رجل المخابرات الأمريكي – بالقاهرة : " فعندما عاد روزفلت إلي واشنطن لم يفصح أمام ( لجنة الكونجرس الأمريكي للمتابعة ) عن كل خفايا نشاطه في مصر ، فغدا تقريره مريحًا غير مخيفً يذكر فيه حقيقة الجهود الذي بذلها مع غيره من المسئولين الأمريكيين حتى أمكنهم العثور علي زعيم متعطش للسلطة بونابرتي النزعة ..." يعني عبد الناصر . قال كوبلاند إنه سئل مرة إذا خير عبد الناصر بين التنازل عن السلطة أو دمار مصر فماذا يختار ؟ ! " فقلت بلا تردد سيختار البقاء في السلطة " أم أنه تأثر بأخلاقيات اليهود بحكم نشأته وإقامته فترة طفولته ومراهقته بحارة اليهود بالقاهرة ، فتعلم منهم الخسة والخيانة والغدر ، وإهدار كل القيم والأخلاقيات في سبيل الوصول لغرضه ، لذا فقد قرأ كتاب " الأمير " لميكافيلي عدة مرات . أم أنه كان يقوم بدور معين مرسوم له قبل جهات أخري واستغلوا فيه هذه الخصائص الاستبدادية في شخصه وتعطشه اللا محدود للسلطة سواء كان ذلك للروس من مظاهر الدعم المختلف في شتى المجالات كما يقول البعض ، أو الولايات المتحدة الأمريكية ، أو غيرها .....؟ .

وإذا كان عبد الناصر ظلم ن وعذب ن وسجن ، واتسم عهده بسمة محاربة الإسلاميين في أبدانهم وأرزاقهم ، وأهليهم ، وفي دينهم فيكون ذلك إضافة إلي رصيده الأصلي في تألهه واستثاره بأمر التشريع والحكم ، ومولاته لأعداء الله ، مما استوجب معه أن يتصف بصفة الطاغوت بكل ما تحمل هذه الكلمة من معني . وهذا الذي نتكلم عنه ، أمر عقيدة لابد من تجليتها اقتداء بالعلماء المحققين الذين اعتمدوا الأدلة الشرعية من نصوص الكتاب والسنة الخاصة بمثل هذه الحالات ، والعبرة بالعلم والتربية عليه ، ومتابعة الجيل الفريد والقدوة ، ومن جاء بعدهم من أمثال هؤلاء العلماء المحققين .

وحينئذ ندرك أهمية تصحيح العقيدة ، وتجلية التوحيد مما أصابه من الشبه مع الاستبانة المبصرة لما يخططه أعداء هذا الدين وأتباعهم وصنائعهم . وحتى لا يكون هناك غبش في التصور ، وتعثر في الحركة ، يؤديان للتعثر والتخبط نسوق هنا خلاصة التجربة لعلها تكون مرشدًا للاستفادة من صوابها وتجنب أخطائها بتوفيق من الله تعالي .

خلاصة التجربة

التجارب مع حدوثها تؤدي إلي أفضل النتائج بقدر تجنب الأخطاء و الاستفادة من الصواب بتوفيق من الله تعالي . والتجارب قد تكون علي المستوي الفردي أو الأسري أو الجماعي ، وهذه غالباً ما تكون تجارب الحياة اليومية ، ومعاملات الناس بعضها ببعض أو الاستفادة من تجارب الآخرين للوصول إلي صورة أفضل . وقد تكون التجارب علمية ، أو بحثية وهي ما يقوم بها العلماء والباحثون المتخصصون وهي ما يعود نفعها بالتالي علي المجتمع .

والمسلم يلاحظ ويتابع ويتعلم من تجارب الآخرين في الحياة سواء في الصورة الأولي أو الثانية ، حتى يعود عليه بالنفع إما بصورة فردية أو في صورة الجماعة التي ينتمي إليها إن كان منتميًا . والتجربة التي نحن بصددها قد وقعت أحداثها إما في صورة فردية خاصة في بدايتها أو في صورة فردية مع ارتباطها بالصورة الجماعية ، أو حدث في صورة جماعية والأفراد بتفاعلهم داخل الإطار الجماعي ، إلا أن الصورة مجتمعة ظهرت بصورة جماعية متناسقة الخطي والألوان ، ويقتضي الأمر التحدث عن هذه التجربة لتجنب الأخطاء حاليًا ومستقبلاً بإذن الله ، مع الاستفادة من الصواب والسير عليه أو تعديله وفق المصلحة ومقتضيات الظروف سواء أكانت الظروف المكانية أو الزمانية أو غيرها . وذلك لمن يوفقه الله للعمل لإعلاء كلمة الله في الأرض ، مع مواصلة السير في طريق الإسلام الحنيف حتى يحق الله الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين .

1 – إمكانية العمل تحت أي ظروف :

إن المسلم المتحرك بإسلامه يري أن عليه دائمًا عبء الدعوة وإنقاذ الناس من عبادة العبادة إلي عبادة الله تعالي وحده ، سواء كان ذلك قبل قيام الدولة الإسلامية فيسعي جاهدًا بدعوة الناس إلي إقامتها والسعي إلي ذلك ما استطاع إلي ذلك سبيلاً بالجهد والنفس والمال ، وسواء تم في عمره المحدود بالقياس لعمر الدعوات ، أو بعد جيل أو جيلين أو أكثر لأن النتيجة ليست بيديه ولكن عليه بذل الوسيلة والطاقة حتى يحقق الله سبحانه ونتيجة علي الجيل الذي يختاره – سبحانه – ويراه أهلاً لذلك .

وإذا استشعر المؤمن ذلك ، وبدأ بعون الله في السير بصورة فردية أو داخل الكيان الذي ينتمي إليه ، مع وضع كافة الضوابط من الحذر والحيطة ودراسة ما حوله ما استطاع إلي ذلك سبيلاً " خذوا حذركم " أمكنه بتوفيق الله تعالي إذا أخلص النية وصدق العمل ، وتحرك الحركة البطيئة المسحوبة ، أمكنه العمل والتحرك مهما كانت المشاق والصعاب والعقبات .

ولعل من عاش فترة عبد الناصر يدرك مدي إمكانية وعدم وخطط الأجهزة الأمنية وامتدادها إلي كل المؤسسات وحتي البيوت ، ومع هذا كله أمكن – بتوفيق الله –السير بهذا التنظيم لسنوات عديدة ،لا تشعر به الأجهزة ، وحتي الأجهزة العالمية التي يقولون عنها أنها تسمع دبيب النمل .

أقول هذا من واقع التجربة العلمية ليكون في تقدير من يعيشون في ظل أنظمة تحكم بالقهر والإرهاب ، وتطارد أي صوت حر ، خاصة صوت الإسلاميين ، وليس معني هذا هو الاندفاع والتحرك دون دراسة وضوابط أو تقدير للموقف ، بل لابد من التأني والتريث مع الدراسة التي تتبعها الحركة الوئيدة المحسوبة ، لأن الاندفاع قد يسبب مخاطر ويؤدي إلي نتائج غير سليمة ، وقد يكون الكمون حكمة لالتقاط الأنفاس أي قد يكون في "عدم الحركة حركة" والأمر مع هذا كله موكول لرعاية الله وتوفيقه ولنا في قصة مؤمن آل فرعون عبرة وعظة .

2 – بناء العقيدة :

هي الأساس في الإسلام ، وهي رابطة التجمع التي يرتبط بعراها المسلمون .

والعقيدة عليها وبها يصلح العمل ، وبدونها لا يصلح ولا يقبل . لذا يجب البدء بها في الدعوة وفي أثناء التربية وربط كل أمر أو خلق أو تشريع بها ، دون إهمال الجوانب الأخري .

والقرآن الكريم حين يتكلم عن مسألة ولو جزئية يربطها بمصدرها ، بالله سبحانه وتعالي ، الصغيرة والكبيرة ، لأن ذلك مصدره المشرع سبحانه الذي لا مشرع معه أو من دونه مهما كان .

والقرآن الكريم وهو المصدر الأول في بناء العقيدة ، استمر عشرة سنة ، يربي الجيل الأول بها ، وعلي يد رسول الله صلي الله عليه وسلم باعتبارها القضية الأساسية ، حتي تحرر الناس من سلطان العبودية والشهوات ، وتطهرت النفوس والأخلاق وزكت النفوس والقلوب والأرواح علي أساس هذه العقيدة التي استقرت في أعماقهم .

ولما قام المجتمع المسلم في المدينة ونزلت التشريعات والتنظيمات كان يربطها بالأساس العقدي الذي ارتكز عليه في نفوسهم ويرجعها دائماً إلي هذا الأصل ويذكرهم به ،فمثلاً فالعقيدة يدعو إليها الدعاة ابتداء ، ومعها يقومون بالتربية ، وعليها يقوم البناء الفردي والأسري والجماعي ثم الدولة ، أي هي ملازمة لكل الفترات مع التركيز والاهتمام بها في المرحلة الأولي من التربية . فهي لا تذكر لفترة من الفترات ، أو مرحلة من المراحل ، ثن انتقل إلي غيرها إنما تذكر وتفهم وتعمق في النفوس ، ثم انتقل إلي ما بعدها معه ، ملازمة لأي وقت وأي موضوع وأي مرحلة من المراحل ، يذكر بها المؤمنون : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) يأيها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) .

ويدعي إليها أهل الكتاب ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) وكذلك المشركون .

ولا نوافق من اعتبر ذلك من الاتجاهات القاصرة علي من اقتصر عليها أو غالي فيها مع احترامنا وتقديرنا لشخصيهما ورأيهما ، والتركيز والاهتمام بها لا يعتبر اقتصارًا أو مغالاة ، وما أظن أن أحدًا – حسب علمي – اقتصر عليهما أو غالي فيها وفي المقابل لا تكون التربية مجرد وعظ وإرشاد ، أو إصلاح اجتماعي أو خلقي فقط ، ولا أهمية لذلك إن لم يكن الأساس العقدي منبثقًا منها هذه الأمور وغيرها .

وتنظيم 1965 كله مع ما حدث لأفراده من التعذيب والضغوط لم يسقط من أفراده أحد وما تعاون بعد اكتشافه سوي شخص واحد ، وقلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ضعفت نفوسهم إلي حد لا بأس به . فأصحاب العقائد لا تؤثر في إيمانهم الضغوط البدنية والنفسية التي تمارس عليهم حتى لو استجابوا بعض الوقت وتحت وطأة التعذيب للاعتراف مثلاً . إن إيمان أصحاب العقائد بالحق الذي هم عليه لا يتأثر بذلك ، والوسائل المختلفة لا تؤثر ولا تجدي مع هؤلاء أبدًا ، وهو ما اعترف به أحد المسئولين " الكبار " في أجهزة الأمن والذي مارس وسائل التعذيب بنفسه وتحت إشرافه ، فقد أشار إلي هذه الحقيقة – صلاح نصر – مدير المخابرات العامة – في الجزء الثاني من كتاب "الحرب النفسية " بعد استعراض الوسائل النفسية والقهر الجسدي ، مع أصحاب العقائد وعدم جدواها معهم .

ومن هنا وإتباعًا لخط السلف في التربية لابد من أن تكون التربية العقدية هي الأساس تأسيًا برسول الله صلي الله عليه وسلم واستفادة من هذه التجربة الحديثة ، وإتباعًا لمنهج أتباع العقائد علي مر القرون المفضلة .

3– التربية وإعداد الأفراد :

التربية الإسلامية تهدف إلي تكوين الشخص المسلم داخل المجتمع الإسلامي لتعيد صهر وصياغة شخصيته نحو الوصول لإقامة المجتمع الإسلامي الذي يظلله الإسلام بشرعه وسلطانه العادل ، وتقوم حياة الناس جميعها علي هذا المنهج الرباني سواء في ذلك الفرد ، أو الأسرة فالمجتمع حتى الدولة فالتربية تسعي لبناء الإنسان السوي المحب للفضيلة ومكارم الأخلاق ، ذي الشخصية المتوازنة علي أساس من العقيدة الصحيحة .

والتربية تحتاج إلي الصبر والأناة من المربَّي ، مع العناية والرعاية بالمربَّي ، وهي تحتاج إلي الجهد والبذل وعدم العجلة حتى تؤتي ثمارها بإذن الله ، لأن ما وصل إليه المسلمون من ذل وهوان ، وضعف وخذلان وفساد في كل شيء يحتاج إلي جهد ضخم والصبر مع طول الطريق . وكذا الأم رعايتها لوليدها من مولده وفي محضنه مع الاهتمام به ورعايته والحفاظ عليه وتوجيهه في كل مناسبة حتى يصير شابًا يافعًا أو فتاة ناضجة .

ولنا في رسول الله صلي الله عليه وسلم القدوة الحسنة حيث استمر ثلاثة عشر عامًا في مكة يربي عددًا لا يربو علي المائتين ، وكانوا هم حملة عبء الدولة بعد إنشائها ، وهم قادة الفتوحات في أرجاء العالم ، وكان الواحد منهم أمه لوحده . وإذا كانت التربية تحتاج إلي جهد وصبر ومتابعة في المجتمع الإسلامي ، والذي تهيئ فيه الدولة كل المناخ الذي يساعد علي ذلك فإنها تحتاج إلي جهد مضاعف بل وشاق بما تملك من السلطة والإمكانات لتقيم واقع الناس كله علي الإسلام ، في المجتمع الجاهلي ، حيث المجتمع كله يعج بالفساد ، ويعيق كل الجهد للتربية الإسلامية بل ويحاربها كذلك في كثير من الأحيان ، كثير مما تقع عليه العين ، أو تسمعه الأذن لا يساعد علي ذلك وعلي كافة المستويات ، وحيثما كنت فمكر الليل والنهار لا يترك أحدًا يفيق لحظة ، والحكومة الجاهلية لا تقوم علي خير بل تقوم علي ما تفيضه بما لديها من إمكانات وسلطان ، سواء في الإذاعة ، التلفاز ، الصحافة ، دور التعليم ومناهج التعليم مع إشاعة الرذيلة وتهيئة الجو لها وحمايتها وإعطائها الدعم والحماية لتقوم بدورها ، ولتفسد أو تهدم ما يقوم به الدعاة .

4 – القيادة والجماعة :

العمل الفردي قد يؤتي بعض الثمار ، ولكن العمل الجماعي حتى لو صرفنا النظر عن تكييفه الشرعي ، فقد يأتي بنتيجة أفضل بكثير من العمل الفردي ، وما مملكة النحل في تنظيمها وتعاونها ودقتها إلا صورة مثالية للعمل الجماعي الذي يباركه الله . والجماعة في الإسلام لها أهميتها ووضعيتها الكبيرة ، فهي العروة الوثقى التي ببقائها يحافظ علي الإسلام ، وبنقضها تنفرط عري الإسلام وتوقف أحكامه .

لذا فعلي المسلم الانضواء تحت لواء الجماعة القائمة علي منهج الله تسعي لإقامة شرع الله سبحانه وتعالي في الأرض ، فإذا لم تكن موجودة فعليه أن يسعي لإيجادها ، وفي الحديث " .... عليكم بالجماعة فإن الشيطان مع الواحد ، وهو مع الاثنين أبعد ، من أراد بحبحوحة الجنة فليلزم الجماعة " . وعليه أن يستوثق من انضباطها علي عقيدة منهج أهل السنة والجماعة ولا يغرنه شجاعة وحماس شبابها ، أو شهرتها أو كثرتها ، أو قدمها ، كل هذه الأمور وغيرها لا عبرة لها في الميزان الشرعي الدقيق .

والجماعة تتطلب قيادة واعية حكيمة متمرسة ، تدبر أمورها بحنكة ودراية بما حولها من الأصدقاء والأعداء ، تعرف موقع أقدامها ، وأين تخطو خطواتها . فتأخذ بأيدي أفرادها وتوجههم الوجهة السليمة وتضع كل جندي في مكانه الصحيح ، وتستفيد من الطاقات التي لديها . وعلي الأفراد السمع والطاعة في المعروف بغير مغالاة ، ويكون الأخ المنتمي لها علي دراية بأمر دينه ، فيعرف متى يسمع ويطيع ، ومتى ينصح ويسدد ، ومتى لا يسمع ولا يطيع إن كان في الأمر مخالفة شرعية ، ويقتضي ذلك المعرفة والدراية والفقه بحيث يكون عند الأخ الواعي الكافي لذلك ، حتى لا يسمع ويطيع كل أمر دون مراجعة ، مادام صادرًا من القيادة الشرعية فيفترض فيه الصواب ، وينبغي أن يكون علي فقه بما يمكن وقوع الخلاف فيه ، وفيما تتعدد فيه الاجتهادات وما لا يصح فيه ذلك .

فالقيادة بشر يخطئون ويصيبون ، وقد يراجعهم جندي ويكون علي صواب وهو في آخر الصف ، وفي المرأة التي راجعت سيدنا عمر بالمسجد ، فقبل منها وقال : " أصابت المرأة وأخطأ عمر " خير مثال لذلك . وعلي قادة الجماعة – في حالة وجودها – أن يكونوا في سعة صدرها بحيث يستمعون إلي كل نصيحة وتوضع موضع الاعتبار عندهم ، حتى يتجدد شباب الجماعة دائمًا ، بما يقدم لها من نصح ، ويسدد لها من رأي ، وحتى لا تكون جامدة علي أمور ارتأتها رغم مرور السنين ولا تغيرها مع تغير الظروف والأحوال الحركية والسياسية ، ما لم يكن وقوفها علي أمر شرعي فيه نص تصريح أو إجماع السلف عليه ، فحينئذ يجب الوقوف عنده والالتزام به .

والملاحظ أن كثيرًا من الشباب ، والذي نحسبه مخلصًا يقتصر في إسلامه علي عبادته وسلوكه الفردي ، والحفاظ علي مظهره الإسلامي ، وقد يكوم منعزلاً عن الآخرين ، أو متعرفًا علي بعض الإخوة ولا تتعدي صلتهم الصداقات واللقاءات في المسجد والأماكن العامة ، دون أن يحاول من جهته السعي مع الآخرين ، أو الانضواء مع آخرين والعمل في صورة جماعية لا في صورة فردية ، للأخذ بأيدي بعضهم البعض وتربية وتزكية نفوسهم لتكون متسقة مع صورة الإسلام المشرقة ، أو الانضواء تحت الجماعة إن وجدت .

هكذا " ومنذ اليوم الأول للدعوة قام مجتمع إسلامي – أو جماعة مسلمة – ذات قيادة مطاعة هي قيادة رسول الله صلي الله عليه وسلم وذات التزامات جماعية بين أفرادها ، وذات كيان يميزها عن سائر الجماعات حولها ، وذات آداب تتعلق بضمير الإنسان مراعي فيها – في الوقت ذاته – حياة هذه الجماعة ... وذلك كله قبل أن تقوم الدولة المسلمة في المدينة ، بل إن فيه تلك الجماعة كان هو وسيلة إقامة الدولة في المدينة .. " .

5 – رفض الحل العسكري :

أقصد بالحل العسكري استعمال القوة بكل أشكالها في مواجهة السلطة الجاهلية ، مع القلة والاستضعاف وقصور التربية لأن ذلك يحتاج إلي صبر ووقت طويلين قد يحتاج أجيالاً حتى تتكون القاعدة الصلبة التي يقوم بها النظام الإسلامي وتقوم علي حراسته والذود عنه وتحمل الصعاب في سبيله ، ولا يكون ذلك إلا بغرس العقيدة مع السلوك والخلق الإسلامي والتطلع للآخرة . والمنهج الإسلامي لا يعتمد علي السلطة أو التخلص منها والانقضاض عليها ، فذلك شأن الانقلابات العسكرية التي تحكم الناس بالقهر والحديد والنار .

والطريق السليم ، هو ما سلكه رسول الله صلي الله عليه وسلم في التربية حتى علم الله وهو العليم الخبير أن هذه العصبة أهل للنصر ولتحمل العبء فأجري لها الأحداث ليحقق بهم ما يريد ، ولعل أحداث الهجرة وتوالي أحداث غزوة بدر خير شاهد علي ذلك . فتعجل الخطي وسرعة السير في حالة الاستثارة من الحوادث والظروف أو العجب بالكثرة ، فيعي أصحاب الحركة الإسلامية بقوة – أو حتى غيرها – لتسلم زمام السلطة لتقيم سلطان الله في الأرض ، كي تصلح الناس بما لديها من قوة وسلطان ، ويظنون أن ذلك أقصر الطرق بل هو أطول الطرق ، حيث يعرقل سير الدعوة ، ويعرض أفرادها للسجون والاضطهاد والتنكيل ، ويعطي فرصة للسلطة وحجة تتذرع بها لهذا البطش ، وما أمر ما حدث لجبهة الإنقاذ بالجزائر ببعيد رغم فوزها الكاسح في الانتخابات .

إن هذا – إذا ما حدث – أو سعي لذلك ، ليس هو الطريق ، والطريق السليم كما سبق القول هو بناء القاعدة ، لا البدء من القمة ، فالناس هم أجساد وأرواح ونوازع وشهوات ، وليسوا قوالب من الطوب أو قطيعًا يحرك العصي . والإسلام يقوم برجال ، والرجال لا يتحملون الأعباء الجسام التي تناط بهم غلا بعد تربيتهم وإعدادهم لهذا المضمار لتحقيق مرضاة الله ، ولا يتحقق ذلك إلا بالتزام منهجه والسير عليه وفق السنن في التدرج والنمو وسير الحياة عمومًا . والعصبة المؤمنة بقيادة رسول الله صلي الله عليه وسلم حين رجعت من هزيمة أحد ، وهم مثقلون بالجراح ومصابون بالشهداء وقيل لهم إن قريشًا تعاود الكرة عليهم لم يستكينوا ولم يستسلموا ويقعدوا ، بل استعدوا وخرجوا للقاء العدو : الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) .

ولنا أن نتساءل إذا ما رغب أو سعي أصحاب الحركة الإسلامية إلي الوصول للسلطة هل عمد السلطة وأعوانها ومن يساندونهم ، سيرضخون ، ويرفعون أيديهم بالاستسلام ؟ . وإن أي محاولة للحركة الإسلامية لاستعمال العنف هو تعويق لسيرها ، وإعطاء المادة الإعلامية والفرصة لضربها ، وما حدث في مصر وبعض البلدان الأخرى شاهد علي ذلك ، حتى استباحت إحدى هذه الحكومة ضرب بلدة بالمدافع والصواريخ وقتل عشرات الألوف من أهلها . ولازال بعض الشباب المتحمس المندفع يفرغ طاقته في أي شيء دون ضبطها والتحكم فيها طبقًا للمنهج الرباني ، فيقومون بأعمال فردية أو جماعية ، كتخريب بعض المحلات ، أو الاعتداء علي بعض رجال السلطة ، كأن هذه هي الحركة الفاصلة مع الجاهلية ويحتجون بان ذلك هو الجهاد يبدأ بكل الوسائل ومن أول مرحلة باعتبار أن الدين اكتمل ، وانقطعت السبل المرحلية ، وإذا كان الإسلام قد اكتمل فهذا صحيح ولكن الجهاد له ضوابط ومراحل ، وإعداد .

إن عجلة لا تؤتي الثمار ، وطريق الدعوة طويل وشاق ، ويزيد صعوبة الحرب المكثفة من القوى العالمية وصنائعهم التي تكيد للإسلام والمسلمين في كل مكان . وتطلع علينا الصحف من حين لآخر بهذه الأخبار مع تضخيمها والتشهير بفاعليها والصيد في الماء العكر ، وتكون النتيجة اعتقالات وتحقيقات ومحاكمات وإعدامات ثم تعويق للمسيرة الإسلامية دون إدراك الخطأ وخطورة القفز واعتساف الخطوات والمواجهة التي لا طائل من ورائها سوي ما ذكرت .

يقول الإمام حسن البنا في المؤتمر الخامس : " أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسين المتعجلين منكم : اسمعوها مني كلمة عالية مدوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع : إن طريقكم هذا مرسومة خطواته ، موضوعة حدوده ولست مخالفًا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول . أجل قد تكون طريقًا طويلة ولكن ليس هناك غيرها ، إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها ، أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات ومن صبر حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف ، فأجره في ذلك علي الله ، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين ، إما النصر والسيادة ، وإما الشهادة والسعادة " .

هذا ما تم علي أيدي رسول الله صلي الله عليه وسلم الذين تربوا في محضن النبوة في مكة ، حيث ثبتوا في الجهاد في الغزوات وفتحوا البلاد في شتى أنحاء الأرض وأقاموا فيها العدل وضربوا أروع الأمثلة .

6 – عدم الانشغال بالقضايا الفرعية :

تكلمنا فيما سبق أنه يجب التركيز والاهتمام بالدعوة والتربية وإعداد الجيل الصلب الذي يتحمل عبء قيام الإسلام في صورته التطبيقية المتكاملة ومع فترة الدعوة والتربية يجب عدم الانشغال أو الالتفات إلي القضايا الجزئية التي تشغل عن المهمة ، وتضيع الطاقة ، وتدخل أصحاب الدعوة في معارك جانبية ، وجهد مبعثر ، وفوق ذلك تنبه الأعداء إلي عدة أصحاب الحركة وقوتها وحركتها ، فيكيلون الضربة أضعاف قوتها الحقيقية .

فالانشغال بالقضايا الوطنية يترك لدعاة الوطنية ، ويترفع أصحاب الحركة الإسلامية من أن ينغمسوا في ذلك . فالمسلم له وطنه الكبير يربطه بإخوانه في الإسلام لا بقطعة الأرض التي يعيش فيها المسلمون وغيرهم من الديانات والوثنيات . فالأوطان التي لا تدين لله – ابتداء – ليست وطن المسلم ولكن وطنه حيث يوجد الإسلام والمسلمون وحيث رباط العقيدة الذي يربطهم به ، لا رباط الأرض والتراب .

وكذلك الانشغال بالقضايا القومية ، ونزعاتها العرقية ، فهذه القضايا تقسم أرض الإسلام إلي أجزاء وأشلاء تناطح بعضها بعضًا . فاليهود هم الذين كانوا وراء إثارة النزعات القومية في أوروبا والتي أثارها وساندها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في البلاد الإسلامية الانجليز والفرنسيون يشجعون ويقفون وراء دعاة القومية "

ورسول الله صلي الله عليه وسلم وهو القدوة الطيبة والأسوة الحسنة وجهه ربه – سبحانه – هذا التوجيه وسلك هذا الطريق مع ما فيه من جهد وعناء وتضحية وبذل وفداء . ولم يبدأ بالسلطان أو السعي له للوصول إلي غايته منه ، بل لما عرض عليه السلطان رفض ولم يرض بغير الدعوة والتربية علي أساس العقيدة بديلاً لما فوضت قريش عتبة بن ربيعة ، وكان سيدًا في قومه ، وعرض عليه ضمن ما عرض بصورة التلطف والرجاء " ... وإن كنت تريد شرفًا سودناك علينا حتى لا ينقطع أمرًا دونك ، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا ..."

والمسلم يسير بدعوته ويتبع : " الخطوات المنهجية التي تحرك بها النبي صلي الله عليه وسلم منذ بعثته حتى انتقل إلي الرفيق الأعلى . وهذا يقتضي منا متابعة المراحل خطوة خطوة لنكون علي بينة من أمرنا ، ونحن نتابع السير في حركتنا الإسلامية ، فنقتني خطى حركته عليه الصلاة والسلام انطلاقا من قول الله عز وجل : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) ولا شك أن متابعة هذه الخطوات والمراحل هو أمر تعبدي قبل كل شيء نصل به إن اقتدينا بهداه إلي مرضاة الله سبحانه وتعالي . وهو من جهة ثانية تبصرة للحركة الإسلامية في خطها السياسي للوصول إلي أهدافها في إقامة حكم الله في الأرض . ونعتقد أن هذا المنهج الحركي هو رباني التوجيه ، فالله تعالي يسدد نبيه في خطواته كلها ، وليس هو وليد رد الفعل من الظروف الطارئة التي تواجهه " .

7 – العمل السري والعلني :

والعمل السري هو ما لا يعرفه إلا أفراده ، كل في دائرة اختصاصه ، والعمل العلني هو ما يعرفه أفراده وأي شخص آخر يستطيع معرفته إذا رغب في ذلك . وكما أن العمل السري له محاسن وعيوب ، كذلك العمل العلني له عيوب ومحاسن . ولكن في مرحلة من المراحل تغلب المزايا علي العيوب في السرية وفي حالة أخري تغلب المزايا علي العيوب في العلنية . ففي مرحلة الإنشاء والتكوين تطغي المزايا علي العيوب ، حيث يتطلب الأمر التواري والانزواء عن رصد عيون الأعداء والتخفي بالدعوة والدعاة لتربية الصفوة التربية الهادئة دون الدخول في صراعات أو معارك أو مواجهة مع أهل الباطل ، وفي هذه الفترة يتعود الأفراد علي الصبر والأناة والتخفي ، وضبط النفس وإمساك اللسان وحفظ الأسرار ، وممارسة الحركة بدقة وبخطوات محسوبة .

والسر بالدعوة : " لم يكن خوفًا علي شخصه صلي الله عليه وسلم إنما كان حرصًا علي الدعوة وعلي القلة المؤمنة التي آمنت به . وقد ألهمه الله – سبحانه – وهو نوع من الوحي – أن بدأ بتنظيم الدعوة سرًا ليقتدي به الدعاة من بعده في أخذ الحيطة والحذر إذا كان الجهر أو القتال يئد الدعوة في مهدها " . وإن كان من عيوبها أن النفس البشرية تميل إلي ممارسة حياتها وأمورها في جوها الطبيعي ، والتحرك بحرية وانطلاق خاصة أن هناك بعض الأفراد لا تطيق طبيعتهم السرية ولا تصبر عليها ، وقد لا يصلح في هذه المرحلة ، أو يوكل إليه عمل محدد يتماشي مع طبيعته .

ومن المزايا العلنية العمل والانطلاق بالدعوة دون عوائق أو عقبات فتصبح الدعوة معلنة عن نفسها فيتعرف عليها العام والخاص وتنطق باسمها ويصبح أفرادها أمام الأعين يري الناس فيهم الخلق الإسلامي الذي يكون بمثابة دعوة عملية للغير لهذا الدين بعالميته ونصاعته وصفائه . ويعينها أنها تكون عرضة لأعين الأعداء ، ورصدهم للحركة ومعرفة نقط الضعف والقوة فيها وتوجيه الضربة لها في الوقت المناسب .

ومع الأخذ بالحيطة والحذر والسرية في الحركة ، ينبغي عدم المبالغة والمغالاة فيها ن بل يكون الأخذ بها بالتحوط والاعتدال ، دون إفراط حتى لا يكون ذلك معوقًا للحركة ، عند حساب كل أمر وكل خطوة بميزان حساس ، ورهبة ، وحذر شديد إلي جانب أن المغالاة في السرية ، قد تكشف الشخص أو الحركة مثل المغالاة في العلنية لأن حركة الإنسان المحاطة بالغموض والأسرار ن تلفت النظر إليه ، والانتباه إلي تصرفاته التي قد تؤدي إلي كشف أمره خاصة من يلاحقون الإسلاميين .

8 – دراسة الساحة :

هناك أمر أحسبه حيويًا ، لأن كثيرًا من العاملين في الحقل الإسلامي ، بل حتى من الجماعات الإسلامية لا يعطونه العناية اللازمة والاهتمام المطلوب ، هذا الموضوع هو الدراسة والمتابعة ، لأحوالنا وأحوال من حولنا من الأصدقاء والأعداء وذلك حتى نكون علي بينة دائمًا من موضع أقدامنا والطريق الذي يسير فيه ، ورسم السياسة اللازمة علي ضوء الواقع الذي نعيش فيه خطوة خطوة ومرحلة مرحلة . ويمكن القول أن هذه الدراسة تستدعي معرفة ما يأتي : -

أ – الجماعة نفسها :

تحتاج دائمًا لتقييم مواقفها ، ومتابعة خط سيرها ، وأن تكون علي دراية بأفرادها ، وقدراتهم ومستوياتهم المختلفة ومدي تقدم كل في خطواته وسيره الذي تخططه له الجماعة ، ومدي استيعابه لكل مرحلة ينتهي منها قبل الانتقال إلي المرحلة التالية ، مع الاستفادة من أفرادها كل حسب قدراته وطاقته ومقدرته .

ولابد أن يكون عندها برامج معدة جاهزة لاستقبال الجدد ، وتطويرها حسب الحاجة وأن تقف الجماعة عند كل فترة لعمل " تقدير موقف " . والجماعة لا تكون جامدة في مواقفها ، بل تكون حركتها متسمة بالمرونة مع الصلابة في الحق ، والدراسة المستمرة لمواقفها ومنهجها ولا تقف محلَّّك سر بل تشكل مواقفها وأحوالها حسب المتطلبات ، ولا تصر علي موقف معين ، بل وتقبل نصيحة ومشورة أفرادها وتضعها في الاعتبار .

ب- دراسة الاتجاهات الإسلامية الأخرى :

يقتضي ذلك من الأخ معرفة إخوانه الذين يرتبط معهم بأواصر العقيدة ، كي يعرف أحوالهم ، ومنهجهم ، وأوجه الاتفاق والخلاف بينه وبينهم ومدي التقارب معهم . وإذا لم يصل الأمر لمرحلة الاندماج ، فليكن هناك مرحلة التفاهم والتعاون والمشورة ، حتى يجمع الله القلوب علي العقيدة الصافية بلا غبش أو تخبط . وعند الخلاف – إن وجد – يسع الجميع الحب والود وخلق الإسلام بدلاً من المطاردة والمحاربة وتعقب كل للآخر ، وهو أمر يثير النفوس ويولد البغضاء والشحناء بين القلوب ، ويعرقل العمل ، وقد يستوجب غضب الله والعياذ بالله .

ج- دراسة الاتجاهات الأخرى :

ونقصد بالاتجاهات الأخرى ، الاتجاهات الجاهلية ، سواء الاتجاهات العلمانية ، أو الإلحادية كالشيوعية ، أو الصليبية ، والصهيونية ، علاوة علي الوثنيات المعاصرة وغيرها . والدراسة والمعرفة هنا تختلف عن سابقتها ، حيث إن الاتجاه السابق ، حتى لو حدث خلاف لا يصل أبدًا لدرجة هذه العداوات الجاهلية ، لأنهم تجمعهم آصرة العقيدة وخلق الإسلام . أما هنا فهذه الاتجاهات جميعًا تقف في صف معاد واحد للاتجاه الإسلامي سواء منفردة أو مجتمعة ، وتعلن عداءها صراحة للدين بكل الوسائل وكافة الإمكانات (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) والأمر هنا يستلزم الدراسة الواعية لمعرفة هؤلاء الأعداء وخططهم ، ورسم السياسة علي ضوء هذه الحرب الضروس ضد الإسلاميين من حين لآخر ، وتجنب إعطائهم الفرصة أو المادة لذلك .

مع الانتباه إلي الاتجاهات العلمانية والتي غالبًا ما ترفع راية الإسلام وتتستر وراءها في الوقت الذي تقوم فيه بعملية التخدير والذبح البطيء ، وعلي الدعاة العمل علي نوع اللافتات الخادعة التي تتستر وراءها هذه الأوضاع والاتجاهات ، وكشفها وفضحها بعد دراستها وتبيين حقيقتها والزيف الذي تعطي نفسها به ، وحتى لا تكون معوقًا لها خط سير الحركة الإسلامية ولتبيين حقيقتها للناس لعلهم يفيقون ويرجعون إلي الله .

د – دراسة المنطقة :

ونقصد بالمنطقة هنا ، هي المنطقة التي يعيش فيها بدءًا من بلدته فالدولة ، حتى المنطقة الكبيرة ، كالشرق العربي ، أو المغرب العربي . مع الاهتمام والعناية بالبلد التي يقيم فيها لأن ذلك حقل دعوته الأول ، ومجال نشاطه وحركته ، وتشابك ارتباطاته المختلفة بدوافع العمل ، والقرابة ، والدراسة وغيرها . والدراسة هنا متشعبة ، سواء دراسة البلد من النواحي السياسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، أو دراسة الأفراد بدوافعهم واتجاهاتهم ، لأن هؤلاء هم مجال الدعوة ، ومنهم يتم استخلاص العينات للسير في طريق الهدي والرشاد .

هـ- دراسة المخططات العالمية :

وهذه تحتاج لدراسة أوسع حيث إن هذه المخططات تنفذ علي المستوي العالمي والمناطق السابقة ما هي إلا حقل تجارب ومعامل تنفيذ مع التعديل المناسب إذا اقتضي الأمر . ودراسة هذه المخططات ليست من المتاع الذهني أو الثقافة العقلية ، بل هي لمعرفة ما حولنا وتحت أقدامنا ، وما يكاد لنا من خطط ماكرة وخبيثة تستخدم فيها كل وسائل الحرب السافرة والخفية ، بواسطة الأعداء مباشرة ، أو بواسطة عملائهم وأعوانهم وخاصة من يقومون بالانقلابات العسكرية ، وتصنع لهم البطولات الزائفة إيهامًا لدورهم في ضرب الإسلام وحركات البعث الإسلامي ومسخ الهوية الإسلامية تحت مظلة البطولة التي يرفعونها فوقهم .

وأقترح في هذا المجال الاستفادة من الدراسات السابقة في الكتب التالية :

- الإخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية ... إسحاق موسي الحسيني

- الإخوان المسلمون رؤية من الداخل ... محمود عبد الحليم

- المدخل لجماعة الإخوان المسلمين ... سعيد حوي

- رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ... حسن البنا

- سيد قطب : خلاصة حياته . منهجه في الحركة والنقد الموجه إليه ... محمد توفيق بركات

- سيد قطب بين معارضيه ومؤيديه ... أحمد عبد المجيد

- مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... جامعة الإمام محمد بن مسعود الرياض

- الجماعة الإسلامية في باكستان ... خليل الحامدى

- أبو الأعلى المودودي ... خليل الحامدى

- السنوسية دين ودولة ... د/ محمد فؤاد شكري

- المهدية في السودان ... ب.م. لولت

- يسئلونك عن المهدية ... الصادق المهدي

- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ... د. محمد البهي

- مذاهب فكرية معاصرة ... محمد قطب

- الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ... د/ محمد محمد حسين

- حصوتنا مهددة من الداخل ... د/ محمد محمد حسين

- في وكر الهدامين ... د/ محمد محمد حسين

- الروحية الحديثة ... د/ محمد محمد حسين

- الإسلام والحضارة الغربية ... د/ محمد محمد حسين

- بروتوكولات حكماء صهيون ... ترجمة محمد خليفة التونسي

- خطر الصهيونية العالمية علي الإسلام والمسيحية ... عبد الله التل

- الأفعى اليهودية ... عبد الله التل

- السيطرة الصهيونية علي وسائل الإعلام ... زياد أبو غنيمة

- أحجار علي رقعة الشطرنج ... وليام جاري كار

-لعبة الأمم ... مايلز كوبلاند

- الغارة علي العالم الإسلامي ... ترجمة محب الدين الخطيب

- العالم العربي اليوم ... مورو برجر

- الإسلام في العصر الحديث ... ولفرد كانتول سميث

-دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام مصطفى عبد العزيز غزال ... د. عبد النعيم حسنين

- واقعنا المعاصر ... محمد قطب

- اقتصاديات العالم المعاصر ... محمود شاكر

- العالم الإسلامي ... محمود شاكر

- رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر ... محمد قطب

- الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة .


9- البعد عن الخلافات :

الاتحاد والائتلاف ونبذ الخلافات مع الجماعة " المسلمة " القائمة بعبء الدعوة إلي الله يزيد من قوتها ومتانتها ويجعل وصول الأعداء لاقتحام صفوفها والنيل منها أمرًا صعبًا إن لم يكن مستحيلاً ، وهو يذلل العقبات – بإذن الله – ويقلل المسافات ومع هذا كله يبارك الله عملها ويزكيه . أما حين يكون هناك خلاف – والعياذ بالله – فإن ذلك يثير الشحناء ويبعثر الجهد ، ويعوق السير ويضيع الوقت والخلاف إذا كان في أصل الدين ويتمسك به صاحبه ويعض عليه بالنواجذ ، فيجب عليه الحرص عليه وعدم التخلي عنه أو الزحزحة عن جزء ولو يسير فيه تحت أي ظرف من الظروف سواء أكان تقليدًا أو متابعة لشيخه ، أو مسايرة لجماعته أو سار وراء انسياق عاطفي مع هذا أو ذاك ، مادام ذلك له سنده وأدلته مع تقواه الله في هذا الموقف بعيدًا عن الهوى .

وعلي الطرفين التعامل بالحسنى ، وسعة الصدر مع عرض القضية بهدوء وروية عند كل منهما والمراجعة والرجوع للأدلة الشرعية وكتب السلف ولا يقف كل منهما موقف الأستاذ الذي يري من مخالفه الانضواء للوائه والرضوخ لما يري أنه الحق ، تحت أي حجة من الحجج كأن يدعي أن جماعته أولي بالإتباع لكثرتها أو قدمها أو ماضيها وتاريخها أو شهرتها وكثرة تابعيها ، كل ذلك ليس له وزن ما لم يكن مدعمًا بالدليل ، وآراء السلف المعتمدة ، مع محاولة الأخذ بالعزيمة لا بالرخصة أو الترخص .

وما نسمعه كثيرًا علي الساحة بين الأفراد والجماعات الإسلامية يدمي القلوب ، ويحزن النفس ، وهي خلافات قد تكون يسيرة ، والتغاضي عنها إذا تخلص الأفراد من الذات والأنا ، ونظروا نظرة واقعية إلي المهام التي أمامهم والصعاب التي تواجههم مع أعدائهم ، والعقبات التي في طريقهم ، ولعل سبب هذه الخلافات أو زيادتها يرجع إلي الآتي :

1 – قلة الدراسة وخطأ التلقي :

فمعظم هؤلاء الشباب تلقي الإسلام من الكتب وحدها دون معلم أو موجه ، وما هكذا يؤخذ العلم ، خاصة في البداية فلابد من شيخ أو أستاذ أو مرب يرجع إليه ، ليشرح ويبين له ما يتلقاه أولاً برأيه ومؤثراته النفسية إن كان متشددًا فيأخذ بالآراء المتشددة التي تتفق مع طبيعته وإن كان متهاونًا يأخذ بالآراء السهلة أو كان سريع الغضب فيصدر الأحكام بسرعة بدون ترو وهكذا . وتكون النتيجة أ ، تصبح عندنا عشرات الآراء في قضية واحدة كل أخذ بمأخذه الذي ذكرت ، أو يكون تابعًا لجماعة من الجماعات ويتلقي منهجها وحركتها بل ربما عقيدتها ، دون أن يكلف نفسه عناء البحث في مدي ملاءمة ذلك لشرع الله ، ويفترض دائمًا أن الجماعة علي الحق الذي لا شك فيه وتتحول المسألة بعد ذلك إلي التعصب لها والتحزب لأفكارها وتسليم القيادة لها بلا بصيرة .

ويبقي عندنا حل مشكلة الرجوع لشيخ ، فإذا ما أراد شخص ذلك فأين هو الشيخ الداعية القدوة حتى يثق به الشاب ويتلقي منه ؟ . إنه نادر جدًَا إذا وجد ذلك بحيث يطمئن لعلمه وشخصه وألا يكون من مشايخ السلطة ، وإذا وجد وهو احتمال ضئيل جدًا فهل يجد متخصصًا في الحديث ، وثانيًا في الفقه وثالثاً في العقيدة ، والمسألة تحتاج إلي نظر وحسم حتى يجد الشباب بغيتهم في القدوة والعلم ، والذين يؤثرون الآخرة علي الدنيا . ولعل هذه المشكلة عولجت نسبيًا في تنظيم 1965 ، ولم يكتب لها التوفيق التام لقصر المدة والقصور بسبب السرية ، واستؤنف العلاج في فترة الاسترخاء بالسجون بصورة تتفق مع طبيعة المكان وما يدار حوله .

2 – صغر وتقارب العمر :

كان تنظيم 1965 فيه كثير من الشباب ، ولا يوجد لهم منافس أو مناظر علي الساحة إلا النادر ، ومن ثم كان عندهم الاستعداد الخلقي والنفسي للتلقي ممن هو أكثر منهم سنًا أو علمًا أو الاثنين معًا وكان ذلك بيسر الأمن للطرفين . أما في هذه الأيام ، أو بمعني أدق السنوات التي أعقبت عام 1967 وإقبال كثير من الشباب والفتيات علي الإسلام والدافع الأصلي عندهم الإخلاص لله مع قلة العلم والتجارب التي تؤهلهم للتصدي للمسئولية ومع تقارب الأعمار والتي معظمها دون الثلاثين . ومن عوامل الإخلاص عند هؤلاء كثرة القراءة وطلب العلم ، ولكن بالطريقة التي ذكرناها في البند السابق ، ونتج عن ذلك – عند الكثير – النظر لنفسه بأنه أهل للكفاءة والدراية ، وأنه أحق من غيره ممن يكافئه في العمر أو دونه ، وقد يدخل فيه – والعياذ بالله – الذات والأنا وحب النفس وشهوة السلطة والقيادة ، والتشبث بالرأي مما أدي بالتالي إلي كثرة الجماعات وتعددها واختلافها بدلاً من أن تكون جماعة واحدة ، أو جماعات قليلة متعاونة متفاهمة .

3 – عدم وجود القيادة ذات الكفاءة العالية :

إذا كان تنظيم 1965 يتبع قيادة واحدة تستمد شرعيتها من المرشد العام وكان في مصر قيادة واحدة للعمل الإسلامي تقريبًا متمثلة في الإخوان المسلمين ، فإن ذلك كله له مزايا كثيرة ، حتى لو كانت هناك بعض العيوب وقد أدي الخلاف الفكري إلي زعزعة الثقة عند الكثير ونشوء تيارات مناولة لجماعة الإخوان بالإضافة غلي الأسباب السابق ذكرها ، جعل كثيرًا من الشباب بل وربما الشيوخ كذلك يفتقدون القيادة الكفء ، والمؤهلة لهذا العبء والتي بنت فكرها وعقيدتها علي المصادر الأصلية ، وكذا حركتها القائمة علي الحنكة والعزيمة التي تعطيها الثقة الكاملة بحيث تستطيع جمع وقيادة هذه الشيع والأحزاب .

ولما لم يجد هؤلاء الشباب ، أو هكذا لم يرؤا المستوي القيادي المرموق في جماعة يسلم لها القياد ، عمل رد فعل عند الكثير ، ودفع كل مجموعة لعمل جماعة مستقلة عن الأخرى وتختار لها أميرًا ، وتعددت بذلك الجماعات وظهر بينها النزاع والشقاق ، كل منها يري الكفاءة والصلاحية في نفسه .

4 – قلة التربية الإسلامية :

ترتبط هذه النقطة بالنقطة السابقة ، فوجود القيادة يؤدي إلي أن تقوم بقيادة أفرادها ، وتوجههم ، وتهتم بتربيتهم وتعويدهم علي المعيشة في جماعة والرجوع إليها والطاعة والالتزام لأوامرها . أما إذا كانت القيادة غير موجودة – كما هو الغالب حاليًا – فإن كل شخص يتفلت ويتصرف التصرف الفردي ووفق ما يراه هو لا مع الجماعة ولا وفق مصلحتها ، وينتج عن ذلك أفراد غير مؤهلين تربويًا ، التربية الإسلامية التي تنشأ في محضن الجماعة ، فيتعود الروح الجماعية والسلوك الجماعي والمشورة والالتزام ن وتقوم الجماعة بتنمية هذا السلوك في تصرفاته أولاً بأول ، وتنمي فيه الخلق الإسلامي ، وتأخذ بيده في درجات التربية حتى يرتقي ويصبح لبنة متماسكة ذات لحمة قوية يقوي بعضها بعضًا .

ولقد كان الإخوان المسلمون أثناء وجودهم العلني ويباشرون نشاطاتهم في سعة ويسر قبل مجيء الثورة غير المباركة يقومون بدور كبير في هذا المضمار . وسار تنظيم 1965 علي ذلك إلي حد كبير ، بل ربما زاد علي ذلك في بعض الجوانب بحكم الوجود النادر لهم وقتها ، وزاد هذا التماسك يحذوه رباط الإخوة والحب العميق في السنوات الأولي من الاعتقال والسجن ، وقبل نشوء الخلافات السابق ذكرها الذي مرق كثيرًا من عرى هذه الإخوة . والتربية يجب ألا تقتصر علي الصورة الشكلية فقط كاللحية والحجاب وتقصير الثياب بل التجاوز إلي القلب والنفس ، وينعكس ذلك علي السلوك اليومي الفردي أو مع الناس ، كالصدق ن والوفاء ، والأمانة والصبر والحلم .... إلخ .

5 – الخلاف العقائدي :

نشأ عن وجود هذا الخلاف ، وجود عدة تيارات ، أحدها يترخص في معظم القضايا ويضع لها الحلول والأحكام الميسرة البسيطة ، وآخر يتشدد في معظم القضايا والأحكام والتصدي للآخرين ن وثالث في الوسط بين هؤلاء وهؤلاء لا يميل إلي الطرف الأول أو إلي الطرف الثاني ويتحري خطي أهل السنة والجماعة . وقد نشا هذا الصراع – كما سبق القول – بمزرعة طره وبدأ ينمو بعدها ويتطور حتى كان وقتها وبعدها كل فريق يتشبث برأيه ويري أنه علي الحق الذي لاحق غيره وأنه ما علي الآخرين وإلا رفع الراية البيضاء والتسليم له بما يراه ودون أدني مناقشة أو مراجعة ، وعليه أن يدخل طائعًا مختارًا ، مقتنعًا بما عليه ، ولا يتحرك أي حركة إلا بما يراه ذلك الاتجاه وإلا فلا يجهد نفسه العناء في القدوم لنا والدخول في جماعتنا تمامًا كالحزب السياسي الذي يضع برنامجًا له ، ومن يدخل فيه عليه أن يلتزم ببرنامج هذا الحزب حتى تكون له صلاحية العضوية .

وإذا لم يتم حتى الوصول إلي المشورة والتعاون في العمل فأقل ما يمكن أن يقال : أن يوقف كل فريق حملاته علي الآخرين والتي وصلت لصدور الكتب والبحوث وعلي صفحات الصحف للأسف مع المخالفين له ، والنظر إليهم علي أنهم هم المعوقين الذين يثيرون الفتن ويبتدعون في دين الله قبل الانشغال بأعدائه . ولعل المشتركين في هذا الخضم ، أو المؤيدين والمناصرين لفريق آخر لا يشمتون بهم الأعداء وليتقوا الله في هذا الأمر وغيره .

6 – تصعيد الأعداء للخلاف :

النقطة التي تساعد أو تقضي – بإذن الله – علي الخلافات بين فصائل العمل الإسلامي مع إدراك أن أعداء الحركة الإسلامية علي المستوي المحلي أو العالمي يستغلون هذا الخلاف ويصعدونه وأن الأجهزة المختصة عندهم برصد العمل الإسلامي تراقب وتتابع هذا الخلاف ، ويهمها وجوده وتصعيده وتغذيته وتقرب فريقًا علي آخر وتطارد هذا وتترك ذاك ، لأنها فرصة سانحة لهم في أن ينشغل أهل الجماعات والاتجاهات الإسلامية بأنفسهم ، فتبدد طاقتهم ، ويضيع وقتهم وجهدهم ويتفرق صفهم ، ولذا يسعون جاهدين لزعزعة وتقسيم هذه الصفوف ، وتشويه الصورة والمبالغة في الخلافات ، واستغلالها الاستغلال السئ ويتجاوز التشويه الأفراد إلي الإسلام نفسه .

إن هذا الدين لا يحمله إلا المخلصون له الواعون لأهدافه ، الفاهمون لروحه السمحة ، وإن هذه الحزبية الضيقة تدمي الفؤاد ن فليتق العاملون في حقل الدعوة الإسلامية ربهم ولا يشوهون مفهوم الأخوة عند من يربونهم من الشباب ، إن كانوا فعلاً يبغون رفعة الإسلام ويطمعون في ثواب الآخرة وإلا فالحساب عسير ( كل نفسٍ ذائقة الموت ) .


10- سيد قطب والعمل السياسي :

أرجأنا الحديث عن هذا الموضوع ليكون النقطة من هذا الفصل ، وذلك لتتضح الصورة عنه بعد الكلام عن صلة الشهيد سيد بالتنظيم في السجن وبعد الإفراج عنه ، وتكلمنا عن بعض ما دار معه في " مما دار مع الشهيد " وكذا باب الشهداء الثلاثة هذا إلي جانب الحديث عنه في ثنايا موضوعات أخري .

والحديث هنا يحتاج إلي شيء من التفصيل حتى يمكن إبراز ما لاقاه ، حيًا وميتًا بسبب آرائه وكتبه ، وحتى اليوم داخل مصر ، وامتداد ذلك خارج مصر في شتى أنحاء العالم ، ثم الرأي الذي تراه صوابًا ، في هذا المجال . وحتى تتضح الصورة ، لابد من التكلم – بإيجاز – عن المراحل التي مر بها منذ صلته بالإخوان المسلمين ، حتى لقي الله سبحانه وتعالي شهيدًا بسبب جهاده بدعوته ، ونذكر هنا مواقفه مع الحركة الإسلامية ، وموقف رجالات العمل الإسلامي منه بما يناسب موضوع هذه الدراسة المتواضعة ن وإن كان الأمر يتطلب دراسة مستقلة مع أفكاره تحت منظور السنة والجماعة لتتضح أكثر لمخالفيه ومؤيديه :

1 – بداية الخمسينات :

بدأت صلة الشهيد سيد بالإخوان المسلمين في أوائل الخمسينات بعد أن اتجهت وجهته وكتاباته للإسلام ، فتولي رئاسة تحرير "جريدة الإخوان المسلمين " عام 1954 وبدأ اسمه يبرز في محيط الإخوان المسلمين عن طريق أنشطة الإخوان ، وفي مقدمتها الجريدة ، ومحاضرات المركز العام وقسم نشر الدعوة . ولكن هذا البروز لم يأخذ الطابع الرسمي ن أو الشكلي من حيث تولي المسئوليات القيادية في الجماعة ، فلم يختر عضوًا في مكتب الإرشاد أو الهيئة التأسيسية أو غيرها من المسئوليات الإخوانية ، وإن كان له بعض الاعتبارات ككاتب وأديب ، يكتب في الصحافة ويؤلف الكتب وله شهرته . واستمر هذا الوضع حتى بداية الأحداث والصراع مع السلطة الغاشمة المتمثلة في شخص عبد الناصر عام 1954 .

2 – من عام 1954 حتى ظهور كتاباته الجديدة :

اتهم الشهيد سيد ضمن من اتهم من الإخوان عام 1954 من تهم زائفة وأحكام جائرة ، كان نصيبه منها الأشغال الشاقة 15 عامًا . وبعد ترحيل الإخوان من السجن الحربي إلي السجون المدنية ، استبقي بمستشفي ليمان طره – جنوب القاهرة – نظرًا لحالته الضحية السيئة وإصابته بعد أمراض وكان ضمن زملائه في هذا المكان الشهيد محمد هواش . ولقد صبر الرجل – رحمه الله – واحتسب ، لم يهزه الحكم ولا السجن ، ولم يزعزع من ثباته ؛ ورباطة جأشه ، بل زاده يقينًا واستمساكًا بالحق ، وانشغالاً بقضاياه .

فبدأ يوسع دراسته للظروف التي تحيط بالدعوة سواء المحلية أو العالمية ، ويحدد حجم العمل الإسلامي وقدراته ومنزله من حيث بنياته العقيدي والعلمي والظروف المحيطة به ، خاصة بعد أن رأي المؤامرات تحيط بجماعة الإخوان من كل جانب بعد انقلاب 1952 . وقد استفاد ممن حوله ممن لهم السبق ، وبني علي تجاربه التي ظهرت له من دراسته وسفره إلي الولايات المتحدة الأمريكية ، واستطاع أن يدرك أبعاد المخططات العالمية التي تواجه الدعوة ، ويدرك الانحراف الذي أصاب الأمة الإسلامية بصورة وأدق وأشمل ، ومن ثم وصف العلاج بدقة وشمول متخذًا العقيدة منطلقًا أساسيًا ، والتربية أداة فعالة وحيدة للوصول إلي تصحيح أوضاع هذه التجمعات ، وبدأ ظهور ذلك في كتاباته الجديدة مثل (الظلال – الطبعة – هذا الدين – المستقبل لهذا لدين – خصائص التصور الإسلامي ومقوماته – الإسلام ومشكلات الحضارة ومعالم في الطريق) إلي جانب مناقشته لكثير من إخوانه المقيمين معه أو القادمين من السجون الأخرى للعلاج .

3 – مواقفه داخل السجن واهتمامه بالدعوة :

سبق الحديث عن توقف العمل الجماعي بعد أن زج بالإخوان في السجون فظهرت فكرة إعداد العمل الجماعة للدعوة الإسلامية وكانت المهمة الكبرى هي إعادة خط الحركة الإسلامية . فبدأ الأستاذ سيد يهتم بهذا التنظيم لما سمع عنه وإن لم تكن عنده فكرة واضحة عنه ، ولم تكن هذه الصلة حركية أو تنظيمية ، ولكن كانت من باب حرصه علي دعوته ، وبذل الجهد في مجالاتها المختلفة ، يحاول إيجاد علاقة أخوية وصلة قد يستفاد منها مستقبلاً .

ومع ما لهذا الصلة من مخاطر شديدة لسجين يقضي فترة بالسجن وفي عهد عبد الناصر ، إلا أن الرجل خاطر هذه المخاطر باعتبار أنه لا يهتم بذاته علي حساب دعوته أو حساب الحق الذي يدين له ويستمسك به ، ويتحدى به الطواغيت بسلطانهم ، وحزب الشيطان جميعًا بكل صوره وأشكاله وراياته . واستمرت هذه الصلة حتى تم الإفراج عنه عام 1964 .

4 – الإشراف علي التنظيم عقب الإفراج :

" بعد استئذان المرشد العام "

تبدأ هذه الفترة بعد الإفراج عن الشهيد ، حيث كان يزوره عقب الإفراج عنه كثير من الإخوان للتهنئة ، وحيث كان ينظر إليه في هذه الفترة تقدير نظرة تقدير واحترام ، تفوق سابقتها نظرًا لوضعه الأدبي من ناحية ، ومؤلفاته من ناحية أخري ، ولثباته ومواقفه الصلبة رغم حداثة صلته بالإخوان من تاريخ ارتباطه بالجماعة حتى أحداث 1954 ، وهي حوالي أربع سنوات . وفي القليل كان كثير من الإخوان وحتى بعض كبار القيادات ، كانت لهم مواقف هزيلة في المحاكمات ، وفي محنة التأييد بالواحات وانخلاعهم وتفلتهم من الجماعة . ولكن الله سبحانه وتعالي ثبت من صدق العزم في هذه المحنة ، ولم يهزه تساقط المتساقطين ، وكان من هؤلاء الأستاذ سيد .

وبعد خروجه بفترة قصيرة تم الاتصال بقادة التنظيم – كما سبق القول – وكانت هذه الفترة شديدة العداوة للعاملين في حقل الدعوة الإسلامية خاصة ضد أولئك الذين تسول لهم أنفسهم محاولة إعادة بناء جماعة الأخوان مرة أخرى , واستمرار نشاطها . وفي ذلك دلالة واضحة علي اهتمامه – رحمه الله – وإدراكه لحاجة الدعوة للعمل الجاد المثمر واستمراره مهما كانت الظروف ولم يعوقه إلا فترة استئذان المرشد العام الذي أذن له وبارك سعيه وأصبح للمرة الثانية هناك إقرار لعمله التنظيمي إلي جانب الإقرار السابق لكتبه وآرائه من القيادة الشرعية للإخوان متمثلة في مرشدها العام . فكان ذلك عونا من الله له لكي يسير في هذا الطريق , فهو وإن لم يكن من قدامي الإخوان , إلا أن الله قد فتح عليه فجعل لكتبه قبولا في نفس الأستاذ المرشد فانتشرت بين الإخوان وجاء هذا الإذن يتوج هذا العمل بإشراف الشهيد سيد وتنميته والمحافظة عليه . وكان يتمني الكثير ولا زال من خلال التجربة العميقة لتحقيق المهمة التي أشرنا إليها , تجربة قد تهيأ لها منهج علمي دراسة تعتمده , وهو منهج أصيل , قد ذكرت ما تضمنه من كتب وما ظهر فيه من اعتدال , وقد استفاد من مرحلة الدعوة وبني علي تلك الدعوة التي قام بها المجدد المصلح الإمام حسن البنا – رحمه الله – والذي استشهد في سبيلها , ثم جاءت هذه المرحلة بتجاربها لتستكمل الطريق تحت إذن شرعي من الجماعة , وإقرار لتلك الايجابيات التي ظهرت فيها التجربة العلمية متمثلة في كتب الأستاذ سيد والتي من أهم معالمها : -

1- وجوب الاهتمام بالعقيدة مع زيادة التركيز عليها .

2- دراسة الواقع دراسة أعمق من ذي قبل , وإدراك خطر المخططات والأوضاع الجديدة بصورة أدق وأعمق والربط بين أعداء الإسلام في الخارج والداخل , سواء من المنتسبين للإسلام أو الملل الأخرى , ومواجهتهم من خندق عقائدي واحد دون تفريق بينهم .

3- العناية بالتربية علي هذا النحو , والمحافظة علي جهود الدعوة من أن تتبدد في إصلاحات جزئية , وقضايا فرعية , والتأكيد علي نقطة البدء التي تمثل في نتيجته أصحاب الدعوة أنفسهم بتصحيح العقيدة , إدراك قضية التوحيد بلا غبش , يتلاءم مع أهميتها , وتعليم الناس بعد ذلك ما تعلموه في اتزان واعتدال , دون تفريط أو إفراط . والتركيز علي الجانب العقدي كان من أهم مزايا المرحلة الجديدة ومستفادا من التجارب الطارئة علي ضوء عقيدة السلف . 4- عدم الاستجابة للمناورات والمحافظة علي خط الدعوة الحركي , تحفظه بإذن الله الضمانات السابقة مع الاستمرار في الاهتمام بالتصحيح والبناء علي عقيدة السلف , ومجانبة بدع الفرق الضالة , والمذاهب الفكرية المعاصرة , مع الحذر من تغيير المفاهيم , وعدم الاستعجال في خط الدعوة أو الاسترخاء , مع التركيز علي فهم وعمل الجيل الأول , فالخير كل الخير في ذلك الجيل , فيه القدوة والأسوة . وكان من المتوقع أن تكون لهذا الايجابيات , مع ذلك الواقع العملي الذي انبثق عنها أثر ضخم في بناء جماعة الإخوان , وما زال البناء إلي تلك اللحظة لا يتعدى إعادة بناء حاول الطغاة هدمه . فيتم حينئذ إعادة البنيان مع التأكيد علي ما يقويه في تلك الظروف العصيبة التي أحاطت بها أفكار الجاهلية المعاصرة , والفرق قديما . وكل ذلك كان مناسبا لواقع الجماعة ولا يزيدها إلا خيرا بإذن الله , فيكون بناء واحدا علي منهج واحد لا تزيده الأيام إلا قوة وترشيدا , وسلامة , مما قد يصيبه من ضعف الإنسان وخطئه وعجلته أو تفريطه . وما كان يتوقع من شباب 1965 ومن يسير في اتجاههم ممن تأثر بكتابات الشهيد , ما كان يتوقع غير ذلك باعتبارهم نبتات في هذه الجماعة, وتربوا في حضانتها , ويتحركون باسمها , وبشرعية من قيادتها , وبإشراف أحد دعاتها وكتابها المشهورين , وينظرون أن تستمر هذه الانطلاقة وتستثمر ها الجماعة, ليتمكن باقي الإخوان من السير مع إخوانهم في خطي ثابتة , ورؤية واضحة , ورصيد هائل من التجارب العلمية والعملية . ولو قدر الله أن تسير الأمور علي هذه النحو لتم تقوية البناء , وجمع الشمل , ولكان الخير العميم الذي يضاف إلي رصيد الجماعة الزاخر , وازداد عطاؤها , واجتذبت العناصر الشبابية من التيه والتشرذم لهم في إطار واحد وتحت راية واحد واضحة تمام الوضوح , بلا معوقات , أو التباسات . ولكن ما هي إلا فترة قصيرة , إلا ووقع التنظيم في قبضة الطواغيت , وازدادت الشدة علي أصحاب الدعوة في السجون والمعتقلات , كما أشرت من قبل , وظهرت بوادر جديدة لم تكن في الحسبان , وذهبت الأماني إلي حسرة وأسي , بعد أن رأوا الرفض والمطاردة لهذا الاتجاه وأهله , مع تجسيم الحوادث والمواقف في غير حقيقتها .

موقف جديد :

قد يعجب القارئ من هذا العنوان ، إذ كيف تتغير الصورة الجميلة الرائعة وماذا بعد أن تغيرت . إنها صورة جميلة حقًا ، اعتدال وتوازن في منهج الدعوة في الداخل والخارج ، وتعاون علي الحركة والبناء مع المشورة والبذل والعطاء . فما الذي حدث بعد ذلك ؟

لقد بذل الإمام الشهيد حسن البنا – رحمه الله – من الجهد والعطاء في البناء والحركة ، وإيقاظ الهمم ما يفوق الوصف والبيان ، وقد شعر في آخر زمانه أن للدعوة خصومًا معاندين في الداخل يتخذون من الإسلام ستارًا ، وأن خطرهم لا يقل إن لم يزد عن الأعداء الآخرين ، لأن هؤلاء يتسمون بأسماء المسلمين ويتترسون بالإسلام ، ومع خطرهم العظيم ، ودورهم الذي يقومون به لحرب الإسلام والمسلمين : رأي – رحمه الله – أن يحدد صفاتهم ، ويفضح أمرهم ، حتى لا ينخدع فيهم أحد ، وذلك من خلال صفات الحكومة الإسلامية ، ولم يسعفه العمر حتى يبين وضوح هذا الخط ، مما جعل الأتباع يسيرون بعدها علي الخط الأول السابق لهذا الكلام ، ولم يدركوا كنه كلامه في هذا المقام ، ولا كلامه في اشتراط النطق بالشهادتين والعمل بمقتضاهما .

ولا كلام من جاء بعد أمثال الشهيد سيد الذي يتابع الخط ويصله ، مع إبراز وإيضاح القضايا الأساسية التي تشغل رجالات الدعوة . يقول الإمام الشهيد حسن البنا تحت عنوان : " معركة المصحف – أين حكم الله ؟ ( ... الإسلام دين ودولة ما في ذلك شك ، ومعني هذا التعبير بالقول الواضح أن الإسلام شريعة ربانية جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية ، وكلت حمايتها ونشرها والإشراف علي تنفيذها بين المؤمنين بها ، وتبليغها للذين لم يؤمنوا بها إلي الدولة ، أي إلي الحاكم الذي يرأس جماعة المسلمين ويحكم أمتهم . وإذا قصر الحاكم في حماية هذه الأحكام لم يعد حاكمًا إسلاميًا . وإذا أهملت شرائع الدولة هذه المهمة لم تعد دولة إسلامية ، وإذا رضيت الجماعة أو الأمة الإسلامية بهذا الإهمال ووافقت عليه لم تعد دولة إسلامية . وإذا رضيت الجماعة أو الأمة الإسلامية بهذا الإهمال ووافقت عليه لم تعد هي الأخرى إسلامية مهما ادعت ذلك بلسانها . وإن من شرائط الحاكم المسلم أن يكون في نفسه متمسكًا بفرائض الإسلام بعيدًا عن محارم الله غير مرتكب للكبائر . وهذا وحده لا يكفي في اعتباره حاكمًا مسلمًا حتى يكون شرائط دولته إياه بحماية أحكام الإسلام بين المسلمين ، وتحديد موقف الدولة منهم بناء علي موقفهم هم من دعوة الإسلام .

هذا الكلام لا نقاش فيه ولا جدال ، وهو ما تعرضه هذه الآيات المحكمة من كتاب الله . ولقد كانت آيات سورة النور صريحة كل الصراحة واضحة كل الوضوح في الرد علي الذين يتهربون من الحكم بما أنزل الله إخراجهم من زمرة المؤمنين ، فالله تبارك وتعالي يقول فيهم : وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)) .

كما جاءت آيات سورة المائدة تصف المهملين لأحكام الله بالكفر والظلم والفسق فتقول : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)) ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)) . وهكذا نري الإمام الشهيد حسن البنا قد حدد ما يتعلق بالشهادتين في عبارة موجزة غاية في الدقة ، وحدد في المقال السابق ، مواصفات الحكومة المسلمة ، ورجالاتها وكذا المجتمع الذي يعيش في ظل الحكومة التي لا تقيم شرع الله وتحرسه وتحافظ عليه والتي تفي عنها وصف الإسلام . وأصبح المستفيد الأول من هذا الوضع المؤلم حقًا ، والذي يسعي إلي تصعيده وبقائه أعداء الإسلام ما في ذلك شك ، ولعل أهل العلم والرأي يستطيعون حسم هذه المسائل دون انتصار منهم لرأي علي آخر ، ويكون رائدهم مرضاة الله ، والانتصار للحق وحده بعيدًا عن العاطفة ، أو الهوى ، أو الانتصار للرأي

وثيقة إدانة

نشرت وثيقة خطيرة في عدد من الصحف العربية بعد أحداث 1965 ، ووردت في كثير من الكتب التي طبعت بعد ذلك . وإذا كانت أعمال عبد الناصر وعهده أو أي عمل وحده بدينه ، فإن هذه وثيقة شهادة إثبات وإدانة دامغة لما كان يخطط لسحق الحركة الإسلامية في مصر . وهذه الوثيقة هي نص المحضر الرسمي الذي انتهت به اجتماعات اللجنة العليا المشكلة بأمر [[[جمال عبد الناصر|عبد الناصر]] لبحث إحدى الوسائل في محاربة الحركة الإسلامية في مصر .

وهذه اللجنة تكونت من رئيس الوزراء ( وكان آنذاك زكريا محيي الدين ) ومدير مكتب المشير (شمس بدران) ومديري وقادة أجهزة المخابرات والمباحث . وفيما يلي نص المحضر المذكور الذي رفعته اللجنة لرئيس الجمهورية ، الذي وافق عليه : -

بناء علي أمر السيد رئيس الجمهورية بتشكيل لجنة عليا لدراسة واستعراض الوسائل التي استعملت والنتائج التي تم الوصول إليها بخصوص مكافحة جماعة الإخوان المسلمين المنحلة ولوضع برنامج لأفضل الطرق التي يجب استعمالها في قسمي مكافحة الإخوان بالمخابرات والمباحث العامة لبلوغ هدفين :

1 – غسل مخ الإخوان من أفكارهم .

2 – منع عدوي أفكارهم من الانتقال لغيرهم .

اجتمعت اللجنة المشكلة من :

1 – سيادة رئيس مجلس الوزراء (زكريا محيي الدين) .

2 – السيد مدير المخابرات العامة (صلاح نصر) .

3 – السيد قائد المباحث الجنائية العسكرية (اللواء سعد زغلول عبد الكريم) .

4 – السيد مدير المباحث العامة (اللواء حسن طلعت)

5 – السيد مدير مكتب السيد المشير (العقيد شمس بدران)

وذلك في مبني المخابرات العامة بكوبري القبة ، وعقدت عشرة اجتماعات متتالية . وبعد دراسة كل التقارير والبيانات والإحصائيات السابقة أمكن تلخيص المعلومات المجتمعة في الآتي :

1 – تبين أن تدريس التاريخ الإسلامي في المدارس في المدارس للنشء بحالته القديمة يربط السياسة بالدين في لا شعور كثير من التلاميذ من الصغر ويسهل تتابع ظهور معتنقي الأفكار الإخوانية .

2 – صعوبة واستحالة التمييز بين أصحاب الميول والنزعات الدينية وبين معتنقي الأفكار الإخوانية وسهولة فجائية تحول الفئة الأولي الثانية بتطرف أكبر .

3 – غالبية أفراد الإخوان عاش علي وهم الطهارة ولم يمارس من الحياة الحديثة ويمكن اعتبارهم من هذه الناحية "خام" .

4 – غالبيتهم ذووا طاقة فكرية وقدرة تحمل ومثابرة كبيرة علي العمل وقد أدي ذلك إلي اضطراد دائم وملموس في تفوقهم في المجالات العلمية والعملية التي يعيشون فيها وفي مستواهم العلمي والفكري والاجتماعي بالنسبة لأندادهم رغم أن جزءًا غير بسيط من وقتهم موجه لنشاطهم الخاص بدعوتهم المشئومة .

5 – هناك انعكاسات إيجابية سريعة تظهر عند تحرك كل منهم للعمل في المحيط الذي يقتنع به .

6 – تداخلهم في بعض ودوام اتصالهم الفردي ببعض وتزاورهم والتعارف بين بعضهم البعض يؤدي إلي ثقة كل منهم في الآخر ثقة كبيرة .

7 – هناك توافق روحي وتقارب فكري وسلوكي يجمع بينهم في كل مكان حتى ولو لم تكن هناك صلة بينهم .

8 – رغم كل المحاولات التي بذلت سنة 1936 لإفهام العامة والخاصة بأنهم يتسترون خلف الدين لبلوغ أهداف سياسية إلا أن احتكاكهم الفردي بالشعب يؤدي إلي محو هذه الفكرة عنهم رغم أنها بقيت بالنسبة لبعض زعمائهم .

9 – تزعمهم حروب العصابات في فلسطين سنة 1948 والقنال 1951 رسب في أفكار الناس صورهم كأصحاب بطولات عملية وليست دعائية فقط بجوار أن الأطماع الإسرائيلية والاستعمارية والشيوعية في المنطقة لا تخفي أغراضها في القضاء عليهم .

10- نفورهم من كل من يعادي فكرتهم جعلهم لا يرتبطون بأي سياسة خارجية سواء عربية أو شيوعية أو استعمارية وهذا يوحي لمن ينظر إلي ماضيهم بأنهم ليسوا عملاء وبناء علي ذلك رأت اللجنة أن الأسلوب الجديد في المكافحة يجب أن يشمل أساسًا بندين متداخلين وهما : -

1 – محو فكرة ارتباط السياسة بالدين الإسلامي .

2 – إبادة تدريجة بطيئة مادية وفكرية للجيل القائم فعلاً والموجود من معتنقي الفكرة ، ويمكن تلخيص أسس الأسلوب الذي يجب استخدامه لبلوغ هذين الهدفين في الآتي : -

أولاً : سياسة وقائية عامة :

1 – تغيير مناهج تدريس التاريخ الإسلامي والدين في المدارس وربطها بالمعتقدات الاشتراكية كأوضاع اجتماعية واقتصادية وليست سياسة مع إبراز مفاسد الخلافة وخاصة ومن العثمانيين وتقدم الغرب السريع عقب هزيمة الكنيسة وإقصائها عن السياسة .

2 – التحري الدقيق عن وسائل وكتب ونشرات ومقالات الإخوان في كل مكان ثم مصادرتها وإعدامها .

3 – يحرم بتاتًا قبول ذوى الإخوان وأقربائهم حتى الدرجة الثالثة من القرابة من الانخراط في السلك العسكري أو البوليسي أو السياسي مع سرعة عزل الموجودين من هؤلاء الأقرباء من هذه الأماكن أو نقلهم إلي أماكن أخري في حالة ثبوت ولائهم .

4 – مضاعفة الجهود المبذولة في سياسة العمل الدائم علي فقدان الثقة بينهم وتحطيم وحدتهم بشتى الوسائل وخاصة عن طريق إكراه البعض علي كتابة تقارير عن زملائهم بخطهم ثم مواجهة الآخرين بها مع العمل علي منع من الطرفين من لقاء الآخر أطول فترة ممكنة لتزييد شقة - انعدام الثقة – بينهم .

5 – بعد دراسة عميقة لموضوع المتدينين من غير الإخوان وهم الذين يمثلون الاحتياطي لهم وجد أن هناك حتمية طبيعة عملية لالتقاء الصنفين في المدى الطويل .... ووجد أن الأفضل أن يبدأ بتوحيد معاملتهم بمعاملة الإخوان قبل أن يفاجئونا كالعادة باتحادهم معهم علينا .

ومع افتراض احتمال كبير لوجود أبرياء كثيرين منهم إلا أن التضحية بهم خير من التضحية بهم خير من التضحية بالثورة في يوم ما علي أيديهم ولصعوبة واستحالة التمييز بين الإخوان والمتدينين بوجه عام فلابد من وضع الجميع ضمن فئة واحدة ومراعاة ما يلي معهم :

أ – تضييق قرص الظهور والعمل أما المتدينين عمومًا في المجالات العلمية والعملية .

ب – محاسبتهم بشدة وباستمرار علي أي لقاء فردي أو زيارات أو اجتماعات تحدث بينهم .

ج- عزل المتدينين عمومًا عن أي تنظيم أو اتحاد شعبي أو حكومي أو اجتماعي أو طلابي أو عمالي أو إعلامي.

د- التوقف عن السياسة السابقة في السماح لأي متدين بالسفر للخارج للدراسة أو العمل حيث فشلت هذه السياسة في تطوير معتقداتهم وسلوكهم وعدد بسيط جدًا منهم هو الذي تجارب مع الحياة الأوروبية في البلاد التي سافروا إليها أما غالبيتهم فإن من هبط منهم في مكان بدأ ينظم فيه الاتصالات والصلوات الجماعية أو المحاضرات لنشر أفكارهم .

و- التوقف عن سياسة استعمال المتدنين في حرب الشيوعيين واستعمال الشيوعيين في حربهم بغرض القضاء علي الفئتين حيث ثبت تفوق الدينين في هذا المجال ولذلك يجب أن تعطي الفرصة للشيوعيين لحربهم وحرب أفكارهم ومعتقداتهم ع حرمان المتدينين من الأماكن الإعلامية .

6 – تشويش الفكرة الموجودة عن الإخوان في حرب فلسطين والقتال وتكرار النشر بالتلميح والتصريح عن اتصال الانجليز بالهضيبي وقيادي الإخوان حتى يمكن غرس فكرة أنهم عملاء للاستعمار في ذهن الجميع .

7 – الاستمرار في سياسة محاولة الإيقاع بين الإخوان المقيمين في الخارج وبين الحكومات العربية المختلفة وخاصة في الدول الرجعية الإسلامية المرتبطة بالغرب وذلك بأن يروج عنهم في تلك الدول أنهم عناصر مخربة ومعادية وبأنهم يضرون بمصالحها . وبهذا تسهل محاصرتهم في الخارج أيضًا .

ثانيًا : سياسة استئصال (السرطان) الموجود الآن : -

بالنسبة للإخوان الذين اعتقلوا أو سجنوا في أي عهد من العهود يعتبرون جميعًا قد تمكنت منهم كما يمكن السرطان من الجسم ولا يرجي شفاؤه ولذا تجري عملية استئصالهم كالآتي :

المرحلة الأولي :

إدخالهم في سلسلة متصلة متداخلة من المتاعب تبدأ بالاستيلاء أو وضع الحراسة علي أموالهم وممتلكاتهم ويتبع ذلكم اعتقالهم ، وأثناء الاعتقال يستعمل معهم أشد أنواع الإهانة والعنف والتعذيب علي مستوي فردي ودوري حتى يصيب الدور الجميع ثم يعاد التعذيب هكذا وفي نفس الوقت لا يتوقف التكدير علي المستوي الجماعي بل يكون ملازمًا للتأديب الفردي .

وهذه المرحلة إن نفذت بدقة ستؤدي إلي ما يأتي :

بالنسبة للمعتقلين : اهتزاز المثل والأفكار في عقولهم وانتشار الاضطرابات العصبية والنفسية والعاهات والأمراض فيهم .

بالنسبة لنسائهم : سواء كن زوجات أو أخوات أو بنات فسوف يتحررون ويتمردون بغياب عائلهن ، وحاجتهن المادية قد تؤدي إلي الانزلاق .

بالنسبة للأولاد : تضطر العائلات لغياب العائل وحاجتهم المادية إلي توقيف الأبناء عن الدراسة وتوجيههم للحرف والمهن وبذلك يخلو جيل الموجهين المتعلم القادم ممن في نفوسهم حقد أو ثأر أو أثار من أفكار آبائهم .

المرحلة الثانية :

إعدام كل من ينظر إليه بينهم كداعية ومن تظهر عليه الصلابة سواء داخل السجون والمعتقلات أو بالمحاكمات ثم الإفراج عن الباقي علي دفعات مع عمل الدعاية اللازمة لانتشار أنباء العفو عنهم حتى يكون ذلك سلاحًا يمكن استعماله ضدهم من جديد في حالة الرغبة في العودة إلي اعتقالهم حيث يتهمون بأي تدبير ويوصفون حين ذلك بالجحود المتكرر لفضل العفو عنهم .

انتهي ويعرض علي السيد الرئيس جمال عبد الناصر .

إمضاء – السيد رئيس مجلس الوزراء .

إمضاء – السيد مدير المخابرات العامة .

إمضاء – السيد قائد المباحث الجنائية العسكرية .

إمضاء – السيد مدير المباحث العامة .

إمضاء – السيد مدير مكتب السيد المشير .

كلمة أخيرة : المسلمون قادمون

ونقول في ختام هذا البحث – كلمة أخيرة – لمن يحاربون الإسلام وجنوده من دول وأجهزة وأشخاص وأعوان وأذناب علي اختلاف مراكزهم ، إن كيدهم وخططهم تحيق بهم ( ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله ) وهذا ليس بجديد ، فمنذ أن نزل الله سبحانه وتعالي الإسلام علي نبينا محمد صلي الله عليه وسلم لم تقف الحرب الضروس للإسلام ، ولأبنائه أبدًا . الحرب الطاغية بكل الأساليب ، وشتى الوسائل . ومع هذه الحروب ، وبعد كل معركة ، يقف الإسلام رغم هذا الكيد شامخًا ، لا يحدث فيه التغيير ولا التبديل ، كما حدث للديانات من قبله ، لأنه سبحانه تكفل بحفظه : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ) . ويقف أبناؤه في حرب الإبادة المستمرة علي مختلف العصور مستمسكين بدينهم معتزين بعقيدتهم .

ومع هذا لا ييأس أعداء الإسلام من المحاولات المستمرة لضرب الإسلام والمسلمين ولم لا ؟ ومادام يوجد شيطان دؤوب يفي بوعده حتى تقوم الساعة : رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) ) وفي كل مرة ، ومع كل حرب ، يخرج الإسلام منتصرًا ، ورغم هذا لا يتراجعون ولا ييأسون . ففي مكة وفي صدر الإسلام ، لاقي المسلمون صنوف الأذى والاضطهاد ، وانقلبت كل قبيلة علي أبنائها ومواليها تذيقهم صنوف العذاب لتصرفهم عن دينهم ، فجعل الله لهم مخرجًا بالهجرة إلي المدينة ، والمعيشة في أمن وأمان بعيدًا عن مطاردة الكفار ، واستقبلهم إخوانهم الأنصار استقبال الأخوة والإيثار . ومع هذا لم تهدأ قريش في حربها المستمرة للمسلمين بقيادة رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزواتها بالمدينة المنورة وما حولها ، حتى كتب الله لهم فتح مكة آمنين : لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ) وفي المدينة ومنذ أن وصل رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه بدأت معهم حرب الدس والوقيعة من اليهود والمنافقين إلي جانب حرب المشركين السافرة . ومع هذا نصر الله ورسوله علي بني قينقاع بعد غزوة بدر ، وعلي بني النضير بعد غزوة أحد ، وأسوأ النهايات كانت نهاية بني قريظة بعد غزوة الخندق .

فهل يئس اليهود بعد هزيمتهم وإجلائهم من المدينة ؟ ولازالت المعركة قائمة والحرب للإسلام مستمرة ، وعندنا وعد بالنصر عليهم حتى يخبرنا الحجر بهم كما ورد في الأحاديث الصحيحة . ومع درايتهم بذلك لا ييأسون ولا يستسلمون وتتابعت الحروب تلو الحروب ، حتى جاءت جيوش أوروبا المؤيدة من الكنيسة ، ودنست أراضي المسلمين حتى احتلت بيت المقدس

وقيض الله – صلاح الدين الأيوبي – لاستكمال الزحف بعد وفاة نور الدين في منتصف القرن السادس الهجري ، حتى دخل صلاح الدين القدس منتصرًا بتقدم جيوش المسلمين التي ترفع راية لا إله إلا الله ، وتجاهد باسمه وفي سبيله سبحانه . ومع هذا لم ييأس ولم يستسلم خلفاء الصليبيين ، وبدأت الحروب الاستعمارية بتقطيع أوصال ديار الإسلام وتقسيمها واحتلالها بواسطة انجلترا وفرنسا وهولندا وإيطاليا وغيرها ، حتى كانت فرحتهم الكبرى بسقوط الخلافة علي يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924 .

ومع هذا كان يتم في كل مرة – بقدر الله – أن يوفق الله الدعاة الملهمين أمثال الإمام الشهيد حسن البنا حتى قام بدعوته عام 1928 و جمعية العلماء بالجزائر عام 1931 والجماعة الإسلامية في باكستان عام 1941 علي يد مؤسسها أبي الأعلى المودودي – رحمه الله – وغيرها من الجماعات ورجالات الدعوة في تواريخ متقاربة . ولازال الغزو قائمًا بعد انسحاب تلك الجيوش من بلاد الشام ، والغزو هذه المرة والذي بدأ مع حملة نابليون بونابرت ، وانتعش في عهد محمد علي في مصر هو الغزو الفكري ، أي غزو العقول والقلوب لكل ما هو إسلامي ، أو ينتمي للإسلام من قريب أو بعيد .

وأصبح المعاونون والمنفذون والمستجيبون هم من أبناء المسلمين .

أما الأعداء الحقيقيون فإنهم يحركون الخيوط من وراء الستار وهي أشد أنواع الحرب الماكرة ، التي تضع أمام الدعاة العقبات والحواجز في النهوض بدعوتهم حيث إن رءوس القيادة والتوجيه ممن يتسمون بأسماء المسلمين ، ويحملون الألقاب والشعارات والبطولات الخادعة التي تبعد عنهم الشبهات .

ومع هذه الهزائم والمفاجآت المستمرة علي مدار التاريخ لأعداء الإسلام فهل يتراجعون ؟! وما أظنهم يتراجعون ، ويلقون أسلحتهم ، ويكفون عن ملاحقة فصائل العمل الإسلامي أينما كانت ، ومهما كان ، والله سبحانه وتعالي يخبرنا : وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً.) ونقول لهم ولغيرهم إن الإسلام بخير والمسلمون قادمون ... مهما حاولتم ، ومهما بذلتم ، مهما أنفقتم من الجهد والمال : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)

المسلمون قادمون ..

يريدون أن يستنقذوكم من المستنقع الآسن الذي تعيشون فيه .

فهل تمدون أيديكم إليهم ليخرجوكم إلي النور والسعادة .. إلي الإسلام من جديد ؟! .

المسلمون قادمون ..

ليقدموا لكم أعظم هدية .. الهداية الربانية ، التي فيها هدايتكم وهداية الناس جميعًا ، ومنهاجًا كاملاً للحياة فهل تلبون النداء ؟ .

المسلمون قادمون ..

ليقدموا لكم النعمة الكبرى ، الربانية التي فيها نجاتكم وخلاصكم :

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) .

المسلمون قادمون ..

ليخرج الله بهم من شاء من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده وليحرركم من الآلهة المتعددة إلي الإله الواحد الأحد

وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ) .

المسلمون قادمون ..

ليطهروكم من هذا الرجس الذي تعيشون فيه ، قادمون ليطيبوكم من هذا الخبث الذي أنتم عليه .

فأسرعوا ولبوا النداء ..

المسلمون قادمون ..

ليقدموا لكم الإسلام كاملاً : " في قوة وثقة ، وفي عطف كذلك ورحمة ...

ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق ، وأن ما عليه الناس هو الباطل .

وعطف الذي يري شقوة البشر وهو يعرف كيف يسعدهم ، ويري ضلال الناس وهو يعرف أين الهدي الذي ليس بعده هدي " .

  • (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8))
  • (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)) .


للمزيد عن تنظيم 1965م

وصلات داخلية

كتب متعلقة

مقالات متعلقة

ترجمة المتهمون في القضية

متعلقات أخري

تابع متعلقات أخري

وصلات خارجية

وصلات فيديو

.