الحركة الإسلامية في تونس

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الحركة الإسلامية في تونس من الثعالبي وإلى الغنوشي

بقلم الكاتب الصحفي/ يحي أبو زكريا


مدخل

خضعت تونس كما الجزائر للهيمنة الإستعمارية الفرنسية , وتعرضّت هويتها العربية إلى كثير من المسخ الأمر الذي جعل الحركة الوطنية تركّز على تحقيق الإستقلال الثقافي والسياسي على حدّ سواء , وقد لعب جامع الزيتونة العريق في تونس دورا كبيرا في صقل الشخصية الوطنية وخاض صراعا مريرا ضدّ الإستعمار الفرنسي , و مثلما لعب الأزهر الشريف في مصر دورا تاريخيا ضدّ الإنجليز فكذلك الأمر بالنسبة لجامع الزيتونة .

وكان العديد من رجال العلم والإصلاح في الجزائر يتوجهّون إلى تونس لإكمال دراساتهم العليا في الدراسات الشرعية والأدبية , كما أنّ تونس تحولّت إلى قاعدة خلفيّة للثورة الجزائرية , حيث كان قادة الثورة الجزائرية يتنقلّون إلى تونس إذا أرادوا التوجّه إلى عاصمة عربية أو غربية , كما أنّ الأسلحة التي كانت تصل إلى الثوّار الجزائريين كانت تعبر الأراضي التونسية ومنه إلى الجبال حيث يقيم الثوّار في الجزائر و لوضع حدّ لتهريب الأسلحة إلى الثورة الجزائرية أقامت السلطات الاستعمارية الفرنسية سياجّا حديديّا شائكا على امتداد الحدود الجزائرية – التونسية, إلاّ أنّه لم يؤد إلى قطع جسور التواصل بين الثورة الجزائرية والحركة الوطنية التونسية .

وكانت الحركة الوطنية التونسية في ذلك الوقت تضمّ عناصر تكونّت في الزيتونة وتشبعّت بالثقافة العربية والإسلامية وتفاعلت مع الحركات الإصلاحية في المشرق العربي , ولم يكن لهذه العناصر أدنى نصيب في دوائر الحكم غداة الاستقلال , وكان الزعيم الوطني الأوحد هو الحبيب بورقيبة أحد الشخصيات التونسيةالمعروفة .

دورا كبيرا في تاريخ تونس المعاصرة لجهة اضطلاعه بصناعة القرار التونسي ولأزيد من ثلاثة عقود من الزمن , وقد أكمل بورقيبة تعليمه في جامعة السوربون في فرنسا والتي تخرجّ منها بشهادة البكالوريوس في الحقوق . وتجدر الإشارة إلى أنّ تونس لم تحصل على استقلالها عبر ثورة شعبية كما هو شأن الجزائر , بل إنّ فرنسا وافقت على منح الإستقلال الذاتي لتونس , وهذا لا يعني أنّ الحركة الوطنية التونسية لم يكن لها دور في محاربة الاستعمار الفرنسي , بل الأمر يعود إلى رغبة فرنسا في تخفيف العبئ الإستعماري عنها والتفرغ لمجابهة الثورة الجزائرية التي أقضّت مضاجعها .

و بعد إستقلال تونس وجد الحبيب بورقيبة نفسه على رأس الدولة التونسية الفتية والتي راح يصيغ ثوبها الفكري والسياسي والإيديولوجي صياغة لا تمت بصلة إلى الموروث العربي والإسلامي لتونس ولذلك كان الحبيب بورقيبة عرضة لكثير من الاتهامات من معارضيه من قبيل أنّه صنيعة فرنسية , وأنّ باريس لعبت دورا كبيرا في تعيينه على رأس الدولة التونسية, وكان لجوءه إلى سنّ مجموعة كبيرة من القوانين العلمانية يزيد في اتساع حجم هذه الاتهامات .

وقبل وصول الحبيب بورقيبة إلى سدّة الحكم في تونس عاشت الحركة الوطنية التونسية سلسلة من الانشقاقات والتصدعات أدّت إلى انسحاب العديد من الشخصيات من الحزب الدستوري الاشتراكي الذي تحولّ إلى حزب حاكم بعد الإستقلال وكان الوحيد في الساحة السياسية , لأنّ التعددية كانت ممنوعة في تونس و تمّت تصفية العديد من معارضي بورقيبة بعد الاستقلال ,وفرّ بعضهم إلى الجزائر والبعض الأخر توجهّ إلى بعض العواصم الأوروبية كباريس وجنيف وغيرهما .

وإذا كان خصوم الحبيب بورقيبة من الوطنيين و الإسلاميين يتهمونّه بجرّ تونس إلى حظيرة العلمانية المتوحشة فانّ بعض الثوّار الجزائريين كانوا يتهمون بورقيبة بأنّه كان يعمل على تطويق الثورة الجزائرية ويسرد عمار قليل وهو من المشاركين في الثورة الجزائرية في كتابه ملحمة الثورة الجزائرية هذه القصة التي مفادها أنّ البيت الأبيض في واشنطن استدعى في أواخر تشرين الثاني – نوفمبر1956 رئيس الحكومة التونسيةالحبيب بورقيبة لزيارة واشنطن والذي لبىّ الدعوة حيث قابل في واشنطن الرئيس الأمريكي ايزنهاور , وحول مائدة ايزنهاور دارت مفاوضات ومساومات حول القضيّة الجزائرية , وتمّ الاتفاق في نهايتها على أن تدفع حكومة واشنطن مساعدة اقتصادية لتونس مقابل أن يقوم الحبيب بورقيبة بدور فعّال لإقناع قادة الثورة الجزائرية بالكفّ عن القتال وإعادة الهدوء والحياة الطبيعية إلى الجزائر في ظلّ فرنسا , و قد تعهدّ الحبيب بورقيبة بأن يقوم بوساطته لدى قادة الثورة الجزائرية في محاولة لإقناعهم بوقف القتال , كما فعل في تونس عندما قبل الإستقلال الذاتي , وكان أول تصريح له وهو على أدراج سلّم البيت الأبيض : نحن مع الغرب وسنظّل معه لا بحكم موقعنا الجغرافي فقط بل بحكم ثقافتنا وتقاليدنا , وحين عاد إلى تونس صرحّ قائلا : لقد إتفقت مع الرئيس الأمريكي ايزنهاور على أن نتوسطّ لحلّ القضية الجزائرية , وكان الرئيس التونسي على الدوام إلى جانب المشاريع السياسية المتعلقة بكيفية حلّ الأزمة الجزائرية التي كان يطرحها الجنرال شارل ديغول رئيس فرنسا في ذلك الوقت .


ورد في كتاب الملحمة الجزائرية للأستاذ عمار قليل أنّ بورقيبة عندما عاد من واشنطن إلى تونس بدأ يجري اتصالات مع السياسيين في كل من مراكش والجزائر وليبيا وتونس , وأوضح لهم بورقيبة أنّ هناك مشروعا لإقامة حلف جديد يجمع أقاليم الشمال الإفريقي بالإضافة إلى فرنسا و إسبانيا وايطاليا , وترعاه أمريكا وبريطانيا ويكون مكملاّ للحلف الأطلسي .وقد حاول بورقيبة إقناع المسؤولين في شمال إفريقيا بقبول المساهمة في الحلف الجديد الذي كان يحمل اسم حلف غربي البحر الأبيض المتوسط , وكاد هذا الحلف الجديد أن يتحولّ إلى واقع سياسي لكنّ الثورة الجزائرية نسفت فكرة هذا الحلف من أساسه . لقد أقترح الحبيب بورقيبة على قادة الثورة الجزائرية أن يوقفوا إطلاق النار , ويقبلوا بتشكيل حكومة في نطاق الاتحاد الفرنسي , ومن بعد ذلك تدخل الجزائر في حلف مع فرنسا بالاشتراك مع دول الشمال الإفريقي .

وكان بورقيبة يؤكّد لقادة جبهة التحرير الوطني على ضرورة القبول بهذه الفكرة كما كان ينوّه بمزايا الحلف . و ظلّ بورقيبة على امتداد ثلاثة أسابيع يحاول إقناع قادة الثورة الجزائرية بالفكرة , ولم تجد محاولاته على الإطلاق فتلاشى المشروع الأمريكي كما تلاشت محاولات بورقيبة .


في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات بدأت تتأسّس في تونس النواة الأولى للحركة الإسلامية التونسية, وقد تأثرّ مجموعة من المثقفين في ذلك الوقت بفكر المفكر الجزائري مالك بن نبي صاحب التصانيف الكثيرة من قبيل الصراع الفكري في البلاد المستعمرة , وشروط النهضة , وغيرها من التصانيف .

كما تأثرت هذه النخبة التونسية بفكر سيد قطب أحد أبرز منظرّي تنظيم الإخوان المسلمين في مصر , والمفكر الباكستاني أبو الأعلى المودودي , وأبرز قطب في هذه النخبة راشد الغنوشي وصالح كركر وعبد الفتّاح مورو وغيرهم .

وشكلّ هؤلاء جمعية إسلامية هي أقرب إلى خلية منظمة ومهيكلة والتي أصبحت فيما بعد تعرف باسم حركة الإتجاه الإسلامي , وقد ركزّ الاتجاه الإسلامي عمله في الجامعات والثانويات والمعاهد التربوية والمساجد , وتمكنّ من استقطاب العديد من الأنصار , وكان أهداف هذه الجماعة :

1- إعادة إحياء القيّم والمبادئ ومفردات الثقافة الإسلامية .

2- مقاومة الغزو الفكري وإفرازات التأثر بالعلمانية الغربية , وذلك من خلال وسائل دعوية لا علاقة لها بالعنف إطلاقا .

وكان الإتجاه الإسلامي بزعامة راشد الغنوشي يتحاشى الدخول في صراع مع السلطة القائمة والتي كان يريدها الحبيب بورقيبة علمانية على الطراز الغربي الخالص , إلى درجة أنّ بورقيبة كان يقول : يا ليت تونس تقع جغرافيّا قرب السويد أو الدانمارك لتخرج نهائيا من هذا المحيط العربي والإسلامي .

و يعتبر زعيم حركة الاتجاه الإسلامي راشد الغنوشي من الإنتليجانسيا الإسلامية في تونس , درس الفلسفة في جامعة دمشق في سوريا وكان في بداياته الفكرية متأثرا بالفكر القومي العربي وبالخط الناصري ثمّ عدل عن هذا الفكر عندما توالت الانتكاسات على العالم العربي بعد النكسات المتتالية مع الكيان الصهيوني .وعندما شرع في قراءة الكتب الإسلامية أخذ يتأثر بالأدبيات الإسلامية إلى أن تحولّ كلية إلى تبني الفكر الإسلامي و أعتبر أنّ البديل الإسلامي هو الأصلح للعالم العربي والإسلامي .

ولأنّه تحاشى الاصطدام بالسلطة الإسلامية فقد أستطاع أن يبنيّ لتنظيمه الذي كان يعرف بالاتجاه الإسلامي , والذي تحولّ مع مرور الأيام إلى ظاهرة أثارت مخاوف المشرفين على الوضع العام في تونس , كما أثارت مخاوف الحبيب بورقيبة الذي لاحق الأعضاء البارزين في جماعة الاتجاه الإسلامي . وقد تعرضّ راشد الغنوشي للاعتقال وربما هذا الذي أدىّ إلى تكريسه كزعيم إسلامي تونسي , وبدأ رصيده يرتفع كأهمّ خصم لنظام الحبيب بورقيبة العلماني .

ويحظر الدستور التونسيتأسيس أحزاب على أساس ديني إسلامي , و كانت الساحة السياسية في تونس حكرا على حزب السلطة والأحزاب القريبة من دوائر السلطة .

وعندما بدأت الحركة الإسلامية الجزائرية تبرز بقوة في بداية الثمانينيات بدأت حركة الاتجاه الإسلامي تعرض قوتها , فراحت تدعو إلى تظاهرات طلابيّة في الثانويات والجامعات , ودخلت في جدال واسع مع السلطة التونسيةخصوصا عندما أقرّت الحكومة التونسية ميثاق الأسرة والذي رأت فيه حركة الاتجاه الإسلامي خروجا صريحا عن الإسلام وتقليدا أعمى للمواثيق والدساتير الغربيّة .


في الثمانينات شهدت تونس مجموعة من التطورات الاجتماعية أفرزت ما يعرف بثورة الخبز في تونس , وكان الشارع التونسي عندها يغلي , وكانت الدوائر التونسية تخشى أن تستغل حركة الإتجاه الإسلامي هذا الوضع المزري وتخلط الأوراق خصوصا في ظلّ تتابع هواجس الثورة الإسلامية الإيرانية .

و كانت حركة الإتجاه الإسلامي تؤكد على حقها في الوجود ضمن الخارطة السياسية التونسية, وكانت تطالب فقط بتقويم الاعوجاج والتخلي عن سياسة التغريب و العملنة .

ولم يكن لحركة الاتجاه الإسلامي مشروع سياسي متكامل بل كانت تحرص على تفعيل المشروع الثقافي والاجتماعي بالدرجة الأولى , فبورقيبة كان حريصا على جعل تونس قطعة من الغرب , وكان يرفض حتى الانتماء العربي والإسلامي لتونس , وحتى جامع الزيتونة الذي لعب أكبر الأدوار في تاريخ تونس حولّه الحبيب بورقيبة إلى مجرّد متحف وأفرغه من دوره الحضاري . ولو أنّ بورقيبة انفتح إلى حدّ ما على القيم الإسلامية لما تمكنّت حركة الاتجاه الإسلامي من تهديد الوضع العام في يوم من الأيّام .

وما كان الحبيب بورقيبة الذي مارس سياسة الاستئصال مع حركة الاتجاه الإسلامي ليستمرّ في الحكم إذ أطاح به أقرب الناس إليه الجنرال زين العابدين بن علي أحد الضبّاط التونسيين الذين أنهوا تكوينهم العسكري في الولايات المتحدة الأمريكية .

ولم يستوعب بعض المراقبين ما جرى في تونس , إذ أنّ الانقلاب الأبيض الذي أطاح بالحبيب بورقيبة تمّ بشكل سريع وكأنّه كان محضرّا له و قد فهم من هذا الانقلاب بأنّه انقلاب أمريكي على فرنسا في تونس , ولطالما كان الحبيب بورقيبة خريج جامعة السوربون صديقا حميما لفرنسا .

وقد اتسمّت بداية عهد زين العابدين بن علي في عام 1987 بالانفتاح على القوى السياسية والتأكيد على مبدأ الديموقراطية والتعددية السياسية , وبدورها حركة الاتجاه الإسلامي وتماشيّا مع المعطيات السياسية الجديدة غيرّت عنوانها لتحمل عنوانا جديدا هو حركة النهضة , لتؤكدّ أنّها لا تقوم على أساس ديني بل هي حزب كبقية الأحزاب التونسية. وفي المرحلة الأولى من حكم الرئيس زين العابدين بن علي شاركت حركة النهضة في الانتخابات البلديّة حيث فازت في بعض المناطق التونسية.

ويعتبر الرئيس زين العابدين بن علي من أكثر التونسيين معرفة بملّف التيارات الإسلامية في تونس حيث شغل منصب وزير الداخلية , وتولى العديد من المناصب الأمنيّة قبل إطاحته بالرئيس الحبيب بورقيبة . وغداة استيلائه على السلطة أختار أن يكون خطابه السياسي منفتحا على الجميع , الأمر الذي دعا زعيم حركة النهضة إلى الترحيب بالعهد الجديد في تونس بزعامة زين العابدين بن علي .

لكنّ هذا الودّ المتبادل بين حركة النهضة والنظام الجديد بقيادة زين العابدين بن علي لم يستمر كثيرا , واللغم الذي فجرّ العلاقة بين الطرفين كان إعلان الجهات الرسمية في تونس عن اعتقالها لعناصر قياديّة من حركة النهضة والمتهمة بمحاولة اغتيال الرئيس زين العابدين بن علي بصواريخ ستنغر الأمريكية . وحسب رواية الجهات الرسمية فانّ مجموعة مسلحة قطنت في شقّة على مقربة من قصر قرطاج الرئاسي الذي يقطنه زين العابدين بن علي , وكانت تستعد لإطلاق صاروخ على القصر الرئاسي حيث ستنتهي المسألة باغتيال الرئيس التونسي, وبسبب هذا السيناريو الذي أوردته السلطة التونسيةوكأنّه سيناريو فيلم أمريكي , راحت وزارة الداخليّة تعتقل مئات العناصر النهضوية , وفرّت قيادات النهضة إلى الخارج فيما توجّه راشد الغنوشي إلى الجزائر , وكانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في ذلك الوقت في أوج تألقها السياسي .

وعندما أصدرت المحكمة العليا التونسية حكما يقضي بإعدام راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة , أوفدت الحكومة التونسية إلى الجزائر من يطالب برأس الغنوشي بشكل رسمي , وقد كشفت مجلة البديل الجزائرية الناطقة بلسان الحركة من أجل الديموقراطية التي كان يترأسها الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة أنّ تونس أوفدت إلى الجزائر فرقة أمنية يطلق عليها اسم فرقة النمور السود وذلك لتنفيذ حكم الإعدام في حقّ راشد الغنوشي لكنّها لم تفلح في هذه المهمة .

وأضطّر الغنوشي عندها إلى مغادرة الجزائر وتوجّه إلى السودان , حيث منحته الخرطوم جواز سفر ديبلوماسي كان يستخدمه الغنوشي في تنقلاته هنا وهناك إلى أن توجّه إلى العاصمة البريطانيّة لندن وهناك طلب اللجوء السياسي .

وكانت الحكومة التونسيةتتهم الغنوشي بأنّه كان يتلقى أموالا من الحكومة الإيرانيّة , و أنّه يريد تنفيذ مشروع إسلامي في تونس مماثل للمشروع الإيراني .

وفي منفاه البريطاني يواصل راشد الغنوشي الإشراف على حركة النهضة التونسية بعد أن نجحت السلطة التونسيةفي استئصالها من الواقع السياسي التونسي, ولجأت من أجل تحقيق ذلك إلى أفظع الأساليب الأمنية باعتراف منظمات حقوقيّة دولية .

تونس : نبذة تاريخية

تعدّ تونس من أصغر بلدان المغرب العربي مساحة وهي عبارة عن جيب جغرافي بين الجزائر وليبيا , وتبلغ مساحة تونس 163610 كلم مربع , ومعظم أراضيها منخفضة يحدّها البحر الأبيض المتوسط من الشمال والشرق .

تمتاز تونس بسهولة الوصول إليها برا وبحرا ممّا جعلها عبر تاريخها عرضة لتأثيرات خارجية لعبت دورها في تكوين خصائص مجتمعها , ويبلغ عدد سكان تونس 07 ملايين نسمة يتكلمّون اللغة العربية وللغة الفرنسية انتشار واسع للغاية , والديانة السائدة في تونس هي الإسلام الذي هو دين الغالبية من السكان .

والعاصمة التونسيةهي تونس وأهم المدن فيها هي سوسة وصفاقس وبنزرت والقيروان وهي العاصمة العربية القديمة .

يبدأ تاريخ تونس مع إقامة المستعمرات الفينيقية ونشوء أمبراطورية قرطاجة على شواطئها وقد أحرزت قرطاجة التفوّق البحري والتجاري في البحر الأبيض المتوسط في منتصف القرن السادس قبل الميلاد , ومدّت مستعمراتها التجارية حتى جنوب البرتغال وحكمت قسما من جزيرة صقلية وبلغت الأمبراطورية أوجها في القرن الرابع قبل الميلاد إلى أن أصطدمت بالدولة الرومانية الصاعدة بسبب السيطرة على المتوسط و أشتبكت الدولتان في الحروب البونيّة الثلاث التي برز في ثانيها غزو هنيبعل لايطاليا والتي انتهت بتدمير قرطاجة وإلحاقها بأمبراطورية روما .

ظلّت قرطاجة مهجورة طوال قرن ونصف إلى أن أعاد بناءها الأمبراطور أغسطس في بداية القرن الأول الميلادي , وخلال القرنين الأولين بعد الميلاد أصبحت مقاطعة إفريقيا -- وهو الاسم الذي أطلقه الرومان على تونس – مزدهرة جدا وغدت قرطاجة المدينة الثانية بعد روما .

وبعد انحسار الأمبراطورية الرومانية غزاها الوندال عام 439 وبقيت تحت سيطرتهم إلى أن أستعادتها الأمبراطورية البيزنطية بين عامي 533-534 . وطوال القرنين والنصف التاليين شكلّت تونس جزءا من شمال إفريقيا البيزنطية التي امتاز حكامها المحليون بنزوع واضح للاستقلال عن القسطنطينية , كما أمروا باعتناق المذاهب المسيحية غير الأرثوذكسيّة وهو المذهب المسيحي الذي كانت عليه القسطنطينية .

وقد بدأ الفتح العربي الإسلامي لشمال إفريقيا في 647 وأستتبّ عام 698 مع فتح قرطاجة وتأسيس مدينة تونس , وانتشر الإسلام بسرعة بين سكان تونس وخاصة البربر منهم . غير أنّ النزعات الاستقلالية عن مركز الخلافة ظلّت تبرز من وقت لأخر طوال القرن الثامن في شكل مذاهب خارجية – نسبة إلى الخوارج - , وبدأت تونس تتمرّد على السلطة المركزية , وفي أواخر الحكم الأموي وبداية الحكم العبّاسي خرجت تونس من الخلافة الأموية , ولكنّ العباسيين استعادوها ثمّ أخرجوا منها في عام 767 ميلادية إلى أن أخضعوها مجددا في سنة 800 بقيادة إبراهيم بن أغلب والذي عينّه هارون الرشيد حاكما لإفريقيا أي مقاطعة إفريقيا الرومانية سابقا .

أمنّت دولة الأغالبة الاستقرار والازدهار لتونس وشرعت في غزو صقليّة في ايطاليا عام 827 وبنت مساجد كبرى في المدن وشبكة متقنة من السدود والخزّانات لتأمين المياه لعاصمتها القيروان , غير أنّ حكم الأغالبة بدأ بالانهيار في أواخر القرن التاسع رغم استكماله لغزو صقلية عام 878 , وقد أطاحت به ثورة دينية اندلعت في المناطق الواقعة غربي تونس في مطلع القرن العاشر .

وقد خضعت تونس للحكم الفاطمي الشيعي حيث أقام الفاطميّون على الساحل التونسيعاصمتهم التي حملت اسم المهديّة , وقضى الفاطميّون على ثورة " خطرة " التي قام بها البربر بين عامي 943-947 وسيطروا على مصر وسوريا في 969- 970 , وبعد ثلاث سنوات نقلوا عاصمتهم إلى مدينة القاهرة التي شيدوها وتركوا حكم تونس لأمراء البربر المعروفين باسم الزيريين حيث تمتعّت تونس في عهدهم بالازدهار والتقدم .

وأنتعشت في تونس الفنون والعلوم والتجارة والصناعة , وفي عام 1050 ميلادي أعلن الزيريون عن ولائهم للخليفة في بغداد , فردّ الفاطميون على ذلك بإرسال مئات الألوف من البدو العرب الهلاليين الذين قضوا على سلطة الزيريين فيها ومزقّوا وحدة تونس السياسية .

وفي عام 1087 إحتلت قوات إيطالية من مدينتي بيزا وجنوا في ايطاليا العاصمة المهديّة , ثمّ أحتلها النورمانديون في سنة 1148 و طردوا الزيريين منها . و في سنة 1160 أصبحت تونس جزءا من دولة الموحدين في مراكش , ومن تمّ استعادها العباسيون لفترة وجيزة في مطلع القرن الثالث عشر ونصبّوا لإمرتها الحفصيين وهم من أسرة البربر والذين ظلّوا أهمّ قوة فيها إلى بداية السيطرة العثمانية . وطوال معظم القرن 13 سيطر الحفصيون على شمال إفريقيا من طرابلس إلى وسط الجزائر, وأقاموا علاقات تجارية ودبلوماسية مع دول الساحل الشمالي للمتوسط ومدنه .

وقد اصطدم الحفصيون بمحاولات الدول الأوروبيّة للتوسع وقاموا بعمليات هجومية ضد مالطا إلى أن تورطوا في النزاع بين الملكة الإسبانية والسلطنة العثمانية , هذا النزاع الذي كان حاسما في مستقبل تونس .

الحكم العثماني في تونس

بدأ الحكم العثماني في تونس في 1516 وأستتبّ في 1574 أقام فيها العثمانيون إدارة إقليمية دامت 17 سنة , إلى أن قامت ثورة عسكرية في عام 1591 حدّت من سلطة الباشا العثماني ونقلت السلطة الفعلية إلى الداي وهو لقب كان يحمله حوالي أربعين ضابطا كبيرا في الجيش العثماني , وفي سنة 1600 أصبحت السلطة في تونس حكرا على الدايات الذين أقاموا علاقات ديبلوماسية مع فرنسا دون علم السلطة العثمانية .

كان وضع تونس في النصف الأول من القرن 17 مزدهرا حيث انتعشت التجارة والمبادلات الاقتصادية مع مارسيليا وليفورنو وأقيمت علاقات تجارية مع أنجلترا وهولندا , وبعد عام 1650 انحسرت سلطة الدايات وحلّ محلهم البايات الذين كانوا أدنى منهم رتبة في الأصل , وقد أسسّ الباي حمودة في عام 1659 سلطة المراديين و أستمرت هذه السلطة تحكم تونس كلها إلى عام 1702 وبعد عام 1705 حكمت تونس سلالة جديدة من البايات عرفت البلاد عندها استقرارا نسبيّا رغم توتر العلاقات مع الجزائر وبداية ظهور الأساطيل الأوروبية في البحر الأبيض المتوسط .

وبعد الحروب النابوليونية أحسّت تونس بوطأة أوروبا الاستعمارية عليها بشكل حاسم , ففي مؤتمري فيينا وأيكن 18151817 فرضت الدول الأوروبية على الباي محمود وضع حدّ لنشاطات القراصنة الذين كانوا يؤمنّون لتونس قسطا من مداخيل الدولة , وفي عام 1830 احتلّ الفرنسيون الجزائر , وقد شهدت الخمسون سنة التالية بعد هذا التاريخ محاولات تونسية لتجنّب نفسها المصير نفسه . وفي سنة 1881 حسمت فرنسا موضوع احتلالها لتونس بحجة وقوع حوادث على الحدود مع الجزائر وفرضت معاهدة قصر سعيد والتي صار الباي التونسي بموجبها حاكما اسميا لتونس .

وفي عام 1883 أجبر الباي علي الرابع على التوقيع على اتفاقية مرسى التي كرسّت الحماية الفرنسية لتونس , ونقلت السلطة إلى المقيم العام الفرنسي , وقد شجعّ الفرنسيون مجيئ مستوطنين أوروبين إلى تونس حيث منحتهم السلطات الاستعمارية في تونس الأراضي الخصبة بعد أن سرقتها وأغتصبتها من الفلاحين التونسيين الذين لم يكونوا يملكون غيرها لإعالة أنفسهم ووسط هذا المناخ الاستعماري الغاشم بدأت الحركة الوطنية التونسيةتتشكّل وتتأسس مستلهمة الموروث الحضاري لتونس , وسوف تلعب بعد حين أكبر الأدوار في تاريخ تونس المعاصرة .


في شهر أيّار – مايو 1881 احتلّت الجيوش الفرنسية تونس ودخلتها عن طريق البر والبحر وقد أحتلّ الفرنسيون مدينة بنزرت وتوجهوا إلى تونس العاصمة لمقابلة الباي وقدموا له نسختين من معاهدة فرنسية معدّة سلفا , وقد أرغم الباي على التوقيع على المعاهدة الفرنسية التي عرفت باسم معاهدة باردو والتي أخضعت تونس رسميا للسيطرة الفرنسية .

ونصّت هذه المعاهدة على أنّ الاحتلال مؤقت وأنّ القوات الفرنسية سوف تحتل فقط جهات على الحدود والشواطئ تراها لازمة لتوطيد الأمن , وأنّ هذه القوات سترحل عندما تكون الإدارة التونسية قادرة على حفظ الاستقرار والأمن والنظام وأنّ فرنسا ملتزمة حماية الباي وأسرته وأنّه لا يحق له بأن يعقد أي عقد مع أي أجنبي بغير علم فرنسا والتفاهم معها مسبقا , وأنّه سينوب عن فرنسا وزير فرنسي مقيم يراقب تنفيذ ما تضمنته المعاهدة , وأنّ على حكومة الباي أن تتعهدّ بمنع إدخال الأسلحة إلى البلاد . وفي فترة احتلالها لتونس سيطرت فرنسا على التعليم فأخضعته لنظم فرنسيّة حتى أصبح الطالب التونسييتقن اللغة الفرنسية ويفقه أسرارها ويتذوق أدبها , ونفس المشروع التغريبي الذي نفذته فرنسا في الجزائر قامت باستنساخه في تونس , حيث قضت على المعاهد الأصلية التي كانت تخرّج علماء اللغة والشريعة وأبقت على الجزء اليسير منها , وفي محاولة لإخضاع تونس للثقافة الفرانكفونية الاستعمارية قامت فرنسا بمحاربة كل مظاهر التديّن لدى الشعب التونسي وعملت على القضاء على اللغة العربيّة وشيدّت مدارس ومعاهد فرنسية . وباعتبار أنّ مساحة تونس صغيرة جدا إذا ما قورنت بمساحة الجزائر أو المغرب فقد تمكنّت السلطات الفرنسية من بسط نفوذها بسرعة على كل الأراضي التونسية وهو ما شكلّ خرقا صريحا للمعاهدة الفرنسية التي أجبر الباي على توقيعها .

وتجدر الإشارة إلى أن يهود تونس لعبوا دورا كبيرا في التمكين للغازي الفرنسي , حيث كان اليهود التونسيون والذين يكثر وجودهم في معظم المناطق التونسيةوتحديدا في منطقة جزيرة جربة حيث مقام الغريبة اليهودية التي يحج إليها اليهود سنويا وبعشرات الآلاف , وقد كافأتهم السلطات التونسيةبمنحهم الجنسيّة الفرنسية .

وقد نجحت السلطة الاستعمارية الفرنسية في تكريس مشروعها الثقافي كما السياسي في تونس , ومازالت الآثار الثقافية الفرنسية قائمة إلى يومنا هذا , وبالإضافة إلى هذا فقد نجحت السلطات الفرنسية في شقّ الحركة الوطنية التونسيةالتي كان فيها جناحان , جناح يؤمن بالثورة على الطريقة الجزائرية لدحر المستعمر الفرنسي , وجناح لا يعترض على الوجود الاستعماري الفرنسي لكن يطالب بإصلاحات سياسية وتكريس حقوق الإنسان التونسي.

والحبيب بورقيبة الذي كان على رأس الحركة الوطنية التونسية تخرجّ من جامعة السوربون في فرنسا , ومعروف أن فرنسا كانت حريصة على تعليم بعض الشخصيات التونسية اللامعة في جامعاتها تمهيدا لاستيعابها ومن تمّ توظيفها , كما حدث مع العديد من الزعماء المغاربة والأفارقة الذين درسوا في المعاهد الفرنسية وعادوا رؤساء إلى بلادهم .

وبالتوازي مع بسط مشروعها الثقافي عملت السلطات الفرنسية على إقامة سيّاج أمني على امتداد الحدود الجزائرية –التونسية, وكان هذا الخط الفاصل بين الجزائر وتونس مكهربا ويحمل اسم خط موريس , وهذا الخط الحديدي المكهرب لم يحل دون تهريب الأسلحة إلى الثورة الجزائرية . ومع مرور الوقت تأكدّ للسلطات الفرنسية أنّها لا يمكن أن تتفرغّ للثورة الجزائرية دون أن ترفع يدها عن تونس والمغرب , فجاء الاستقلال التونسيعلى شكل صفقة سياسية بين أطراف في الحركة الوطنية التونسية وعلى رأسها الحبيب بورقيبة و السلطات الإستعمارية الفرنسية .

الحركة الوطنية التونسيةفي عهد الاستعمار الفرنسي

تفجرّت المقاومة الشعبية في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي , وتنادى الناس إلى الجهاد ودارت معارك المقاومة الشعبية ضدّ عدوين اثنين في أن واحد , ضدّ الباي وجنوده وضدّ المحتل الفرنسي , وفي كل مكان من البلاد هبّ الشعب التونسييدافع ويقاوم وبرز زعماء شعبيون في كل منطقة , ولم يؤد إستسلام الباي التونسيالكامل للسلطات الفرنسية إلى تركيع الشعب التونسي الذي تبنىّ النضال الوطني ضد المستعمر الفرنسي .

وبرز اتجاهان في الحركة الوطنيّة , الاتجاه الأول كان يدعو إلى المفاوضات والتصالح مع الإستعمار الفرنسي , وكان على رأس هذا الاتجاه المثقفون التونسيون الذين غلبت عليهم الثقافة الفرانكفونية , وكانت كل مطالبهم محصورة في تحسين حالة التونسيين ورفع الضيم عنهم وإلغاء الفوارق بينهم وبين الفرنسيين , ومثلّ هذا الاتجاه الحزب الدستوري الجديد .

و أول من بادر إلى مقاومة السلطات الفرنسية في تونس هو الشيخ محمد السنوسي الذي قاد الحركة الوطنية وشكلّ وفودا شعبية ذهبت تطالب الباي بوقف الفرنسيين عند حدهّم, فما كان من السلطات الفرنسية إلاّ أن نفت الشيخ محمد السنوسي خارج تونس , وتولىّ قيادة الحركة الوطنية بعده الشيخ المكي بن عزوز أحد شيوخ جامع الزيتونة الثوريين , وكونّ مجموعة من الشباب التونسيين الثوريين وعبأّهم ضدّ القوات الاستعمارية الفرنسية , وتمّ نفي الشيخ مكي بن عزوز خارج تونس حيث أدركته المنيّة في المشرق العربي .

وقد حمل أفكاره الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي كان الى جانبه الشيخ علي كاهية والشيخ زروق والهادي السبعي .

ولم تنتظم الحركة الوطنيّة في تنظيم ذي محتوى سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي إلاّ بعد تجارب مريرة في خضمّ النضال الوطني ضدّ الاستعمار الفرنسي . وفي سنة 1907 تأسسّت أول حركة وطنية سياسية ومنظمة بقيادة علي باش حانبه والشيخ عبد العزيز الثعالبي , وكان عنوان هذه المنظمة هو تونس الفتاة حيث تأثرّ مؤسسوها بحزب تركيا الفتاة التركي الذي كان وراء العديد من المتغيرات التي حصلت في تركيا في بداية القرن العشرين . وفي سنة 1911 وعندما غزت ايطاليا ليبيا , تحركت منظمة تونس الفتاة من منطلق دعم النضال الليبي , وأخذت تمدّ المجاهدين الليبيين بالأموال والمتطوعين , والى جانب هذا أصدرت الحركة الوطنيّة جريدة تحمل اسم : الاتحاد الإسلامي وأسندت رئاسة تحريرها إلى الشيخ عبد العزيز الثعالبي . والى جانب مشاركة القبائل التونسية في الجهاد وحمل السلاح ضدّ الفرنسيين , فقد اندلعت معارك طاحنة بين التونسيين والإيطاليين , وكانت أخر معركة بين الطرفين عرفت باسم معركة الجلاّز , وتحركت السلطات الفرنسية عندما رأت أن زمام الأمور ستفلت من يدها بعد المعارك التي نشبت عقب معركة الجلاّز , فصبّت فرنسا جام غضبها على الحركة الوطنية التي حملتها فرنسا مسؤولية الانتفاضات وتمّ اعتقال الشيخ علي باش حانبه و عبد العزيز الثعالبي والشاذلي درغوت ومحمد العروي ومحمد نعمان والمختار كاهية وقد هاجر علي باش حانبه إلى تركيا فيما هاجر عبد العزيز الثعالبي إلى الجزائر ومنها إلى مصر .

وكانت السلطات الفرنسية تتوقع أن تنتهي المقاومة الشعبية بعد نفي زعماء الحركة الوطنية الى الخارج , الاّ أنّ ثورة مسلحة اندلعت سنة 1915 وأستمرّت الى سنة 1918 بقيادة الحاج سعيد بن عبد اللطيف , وفي عام 1919 وأثناء انعقاد مؤتمر الصلح بباريس اتصلّ الشيخ عبد العزيز الثعالبي بالمؤتمر وقدمّ إليه مذكرة تتعلق باستقلال تونس وطالب بتطبيق مبادئ ويلسون الأربعة عشر ونشر في باريس كتابا بعنوان : تونس الشهيدة , فضح فيه دسائس الاستعمار الفرنسي وجرائمه في حق شعب تونس , وقد تلقفّ المثقفون في المغرب العربي هذا الكتاب , وبسبب هذا الكتاب ألقت فرنسا القبض على عبد العزيز الثعالبي وأرجعته إلى تونس وألقته في أحد سجونها , والثعالبي الذي ساهم إلى أبعد الحدود في النهوض بالوعي السياسي للتونسيين لم يذهب جهده سدى , إذ أنّ الشعب التونسي لجأ إلى التظاهرات والإضرابات وطالب بضرورة إخلاء سبيل الشيخ عبد العزيز الثعالبي وأجبر فرنسا على ضرورة إطلاق سراحه , وبعد خروجه من السجن تمّ تعيينه رئيسا للحزب الحر الدستوري التونسي, كما جرى تعيين المحامي أحمد الصافي أمينا عاما للحزب . وشرع هذا الحزب في فتح الفروع والمكاتب في مختلف البلاد التونسية ووضع برنامجا ثقافيا وفكريا يقضي بغرس الوطنية في نفوس التونسيين تمهيدا لإشراكهم في الكفاح المسلح ضدّ الاستعمار الفرنسي .

وقد قام الحزب الدستوري التونسيسنة 1920 على مبادئ تطالب بنظام دستوري لتونس وتأليف حكومة وطنية مسؤولة أمام الشعب باعتبار أنّ تونس أول بلد عربي أعلن دستورا في سنة 1865 يمنح نواب الشعب حق المشاركة في الحكم وحتى حق خلع الباي.


من هو عبد العزيز الثعالبي ؟!

يعتبر عبد العزيز الثعالبي أحد روّاد الإصلاح في تونس ويشبه إلى حدّ كبير في تفكيره رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ عبد الحميد بن باديس , فالثعالبي كان يرى أنّ مصدر التشريع في البلاد العربية والإسلامية يجب أن يكون الثقافة الإسلامية , ورغم كونه أحد أعلام جامع الزيتونة إلاّ أنّه كان ضالعا في القضايا السياسيّة ولم يكن يرى فرقا بين الدين والسياسة , وكان يرى أنّ الدين جاء لإصلاح شؤون الناس وإدارة حياتهم , ولم يكن الثعالبي مجرد زعيم سياسي بل كان مصلحا اجتماعيّا ودينيّا , وكان متأثرا بفكر محمد عبده و رشيد رضا وقد تسنىّ له الإطلاع على فكرهما عندما أقام في مصر غداة نفيه من قبل السلطات الفرنسية من تونس .

وتمكن من ملامسة الهمّ العربي والإسلامي من خلال تنقله بين مصر وبغداد وفلسطين , وقد أكسبه هذا التجوال المزيد من التجارب خصوصا فيما يتعلق بزعماء الإصلاح وروّاد التنوير في المشرق العربي .


وقد أثار الجمود الذي أصاب الحزب الدستوري التونسي بعد نفي زعيمه الثعالبي نفرا من الشبّان التونسيين المنضوين تحت لواء الحزب الدستوري فقاموا بتأسيس جريدة صوت التونسي في سنة 1928 وتولى إدارتها الشاذلي خير الله , وفي سنة 1929 أصبحت هذه الجريدة تحمل اسم العمل التونسي وكلتاهما كانتا تصدران باللغة الفرنسية , لأنّ الصحف العربية كانت ممنوعة .

وفي سنة 1932 عقد الحزب الحر الدستوري التونسي مؤتمرا استثنائيّا وأنتخب أسرة تحرير العمل التونسي في اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري وهم الدكتور محمود الماطري , والمحامي الطاهر صفر والمحامي البحري قيقة والمحامي محمد بورقيبة و شقيقه الأصغر الحبيب بورقيبة .

ويتجلى من خلال التطورات التي حصلت داخل الحزب الدستوري التونسي أنّ قيادته الأولى كانت من علماء الدين وخريجي جامع الزيتونة العريق في تونس , وكان الرعيل الأول مشبعا بالثقافة الإسلامية والعربية , وبعد نفي الشيخ الثعالبي تولى قيادة هذا الحزب مجموعة من الشباب التونسي المتأثر بالثقافة الفرانكفونية وكثير من شخصيات الرعيل الثاني أتمّت تعليمها في الجامعات والمعاهد الفرنسية .

ويمكن القول أنّ النضال التونسي الذي بدأه علماء جامع الزيتونة قد صودر بوصول نخبة مثقفة بالثقافة الفرنسية وعلمانية إلى مواقع التأثير في أهم حزب في تونس . وإذا كان عبد العزيز الثعالبي قد بنى الحزب الدستوري التونسي على أسس فكرية تمتد جذورها الى الفكر السلفي الإصلاحي الذي بلوره جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده , وربط الحركة النضالية التونسية بحركات التحرر في المغرب والمشرق العربيين . فان الذين جاؤوا بعده لم يكونوا على منواله .

وفي الضفة الأخرى يقف الشباب الذين أنشقوا في وقت لاحق عن الحزب الدستوري الأم وأسسوا الحزب الدستوري الجديد وكانوا قد درسوا في أوروبا وتربّوا على الفكر التنظيمي الغربي , والخلاف بين الثقافتين أدّى إلى اختلاف في منهج العمل وأسلوب التحرك السياسي .وقد تمكنّ التيار السياسي الجديد وهو الحزب الدستوري الجديد من فرض نفسه في الساحة السياسية التونسية, ودعا هذا الحزب إلى سلسلة من الإضرابات والتظاهرات ثمّ دعا إلى العصيان المدني وبسبب هذا العصيان وقعت صدامات دموية بين المواطنين التونسيين والجيش الفرنسي .

وفي عام 1954 عرضت حكومة منديس فرانس الفرنسية على التونسيين مشروع منح تونس الحكم الذاتي مع احتفاظ فرنسا بمسؤوليّة الدفاع والشؤون الخارجية , ولقيت هذه المقترحات القبول من جانب الحبيب بورقيبة , وبموجبه تشكلّت حكومة فرنسية برئاسة طاهر بن عمّار وضمّت هذه الحكومة عناصر معتدلة و ثلاثة أعضاء من الحزب الدستوري الجديد , وبدأت المفاوضات مع الفرنسيين لتسفر عن اتفاق نهائي في 02 حزيران – جوان سنة 1955 .

وكانت بعض الشخصيات الوطنية تعتبر هذا الحكم الذاتي استمرارا للاستعمار وتنازلا صريحا عن تونس ومنحها على طبق من ذهب للفرنسيين . وقد تزعمّ معارضة ها الاتفاق صالح بن يوسف الذي تمكنّ من تحريك مئات التونسيين الذين دخلوا في مواجهات مع الجيش الفرنسي والقوات الحكومية التونسيةوالتي ألقت القبض على كل مؤيدي صالح بن يوسف الذي تمكنّ من الفرار إلى طرابلس .

وفي تلك الظروف التي كانت تشبه ظروف الحرب الأهلية توجهّ وفد تونسي برئاسة الحبيب بورقيبة إلى باريس لإجراء مفاوضات جديدة مع الفرنسيين , وفي 20 آذار – مارس 1956 وقعّ الطرفان بروتوكولا أقرّت فيه فرنسا رسميا باستقلال تونس وحقها في تولّي الشؤون الخارجية والدفاع والأمن الداخلي وتشكيل جيش وطني وتضمنّ الاتفاق أن القوات الفرنسية تبقى في فرنسا في فترة انتقالية تنسحب بعدها من تونس . وقد أدّت الانتخابات العامة التي وقعت في تونس بعد الاتفاق مع فرنسا إلى فوز الحزب الدستوري الحاكم , وأصبح الحبيب بورقيبة رئيسا للدولة التونسية, وأصبح الحزب الدستوري بقيادة بورقيبة حزبا حاكما , وتمّ إبعاد كل أنصار صالح بن يوسف أو اليوسفيين من الحكم وخصوصا بعد ن قاطعوا الإنتخابات العامة .

التطورات السياسية في تونس

في 01 حزيران – جوان 1959 تمّ وضع دستور جديد في تونس كرسّ بشكل مطلق النظام الرئاسي حيث بات الرئيس الحبيب بورقيبة يتمتع بصلاحيات واسعة بدون منازع , ونصّ الدستور الجديد على انتخاب الرئيس كل خمس سنوات مع إمكانية انتخابه ثلاث مرات متتالية , ونصّ الدستور التونسي الأول الذي وضع في حزيران –جوان في سنة 1959 على أنّ الرئيس التونسيله كل الصلاحيات في رسم سياسة الدولة الداخليّة والخارجية واختيار أعضاء الحكومة وتولّي القيادة العليا للجيش والقيام بالتعيينات لجميع المراكز المدنيّة والعسكرية , كما نصّ الدستور على انتخاب جمعية وطنية – برلمان – مرة كل خمس سنوات .

وفي 08 تشرين الثاني –نوفمبر 1959 أعيد انتخاب الحبيب بورقيبة رئيسا للدولة بدون منافسة وفي هذه الأثناء شهدت العلاقات التونسية–الفرنسية تحسنا كبيرا , ووقعّ البلدان على إتقاقيّات في مجال التجارة والتعرفة الجمركيّة . وفي سنة 1961 قام الحبيب بورقيبة بزيارة إلى العاصمة الفرنسية باريس , والتقى آنذاك بالرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول. وبعد استقلال الجزائر في 05 تموز 1962 تدهورت العلاقات الجزائرية –التونسية بسبب خلاف الإيديولوجيات , حيث كان الحبيب بورقيبة مغرقا في إعجابه بالعلمانية الغربية , فيما كان أحمد بن بلة الرئيس الجزائري يميل إلى الخط الناصري الثوري , وكان أحمد بن بلة دائم الخلاف مع الحبيب بورقيبة , وكان بن بلة يعتقد أن بورقيبة لطالما تحركّ ضدّ الثورة الجزائرية , وكانت الجزائر في ذلك الوقت تدعم صالح بن يوسف أحد أبرز خصوم الحبيب بورقيبة . وفي كانون الثاني – يناير 1963 استدعت تونس سفيرها في الجزائر بحجة تواطؤ الجزائر مع عناصر عسكرية تابعة لبن يوسف حاولت اغتيال الحبيب بورقيبة في تونس .

وفي أيّار – مايو 1968 وبعد اتهام بورقيبة بمعارضة الكفاح الفلسطيني من أجل فلسطين طلبت تونس من القائم بأعمال سوريا في تونس مغادرة تونس بعد أن أتهمته بتحريض المواطنين التونسيين للقيام بأعمال تخريبية ضد الحكومة التونسية.

وفي أيلول – سبتمبر سنة 1968 رفضت الجامعة العربية الاستماع لوجهة نظر تونس التي تضمنّت انتقاد المواقف العربية والمصرية تجاه فلسطين , وردّت تونس بإعلان مقاطعتها لاجتماعات الجامعة العربية , وأكدّت في الوقت نفسه تأييدها لحركة المقاومة الفلسطينية .

وعادت العلاقات الجزائرية – التونسيةإلى التدهور مجددا بسبب موقف تونس من الصراع العربي – الإسرائيلي . وقد منحت تونس بسبب هذه السياسة الجزائرية المناوئة لها حق اللجوء السياسي للعقيد الطاهر الزبيري رئيس هيئة الأركان في الجيش الجزائري والذي قاد محاولة انقلاب ضدّ حكم الرئيس هواري بومدين الذي كان قد أطاح بدوره بنظام أحمد بن بلة في حزيران –جوان 1965 .

ويتضح من خلال ما ذكر أنّ علاقات تونس بمحيطها العربي كانت مضطربة بسبب تسرّع الحبيب بورقيبة في الميل نحو رغبات المعسكر الغربي الذي كان يكّن له كل الإعجاب .

وعلى صعيد داخل تونس فانّ الحبيب بورقيبة لم يكرّس مبدأ التداول على السلطة , ولم يفسح المجال للأحزاب السياسية التونسية بالعمل السياسي وعمل على تدجين الصحافة , كما كان يلاحق كل من كان يشمّ فيه رائحة عدم الولاء . فأحمد بن صالح وزير المالية والتخطيط والذي كان أحد أبرز أعضاء الحزب الدستوري , وأحد المرشحين لخلافة الحبيب بورقيبة نقل سنة 1969 إلى وزارة التربية ثمّ جرّد من كل مناصبه , وبعدها تمّ اعتقاله وحوكم بتهم متعددة , وفي 10 أيّار – مايو 1970 حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات مع الأشغال الشاقة , غير أنّه فرّ من السجن في سنة 1973 ولجأ إلى أوروبا وقاد هناك المعارضة ضدّ نظام الحبيب بورقيبة .

وقد كان أحمد بن صالح الأول بين عدة وزراء أقيلوا بصورة مفاجئة , ففي سنة 1969 أقيل الباهي الأدغم من رئاسة الحكومة بعد أن رشحته التوقعات لخلافة بورقيبة وخصوصا بعد أن تولّى الحكم الفعلي لمدة ست أشهر أثناء غياب بورقيبة لأسباب صحية , إلى جانب رئاسة الباهي الأدغم للجنة اتفاقية القاهرة المعقودة بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية والتي أكسبته شهرة واسعة في الوطن العربي .

وفي تشرين الأول –أكتوبر سنة 1970 عينّ الهادي نويرة رئيسا للحكومة , وأعلن الرئيس بورقيبة أنّ الهادي نويرة سيكون خليفته في الحكم , وكان باهي الأدغم قد استقال من جميع مناصبه السياسية وتبعه أحمد المستيري الذي كان وزيرا للداخلية بين 19701971 . وفي أيلول – سبتمبر 1974 انتخب المؤتمر التاسع للحزب الدستوري الحبيب بورقيبة رئيسا للحزب مدى الحياة , وعين الهادي نويرة كأمين عام للحزب , وعينّ الحبيب بورقيبة مكتبا سياسيا من عشرين عضوا . وفي تشرين الثاني – نوفمبر 1974 أعيد انتخاب الحبيب بورقيبة رئيسا للدولة التونسية بدون منافس , وبعد ذلك بسنة واحدة أقرت إصلاحات دستورية واسعة عززّت ديكتاتورية الحبيب بورقيبة . أماّ المعارضة التونسية فقد عاشت أسوأ أيّامها في هذه المرحلة من تاريخ تونس , ففي 1974 صدرت أحكام بالسجن ضد 175 شخصا أغلبهم طلاّب بعثيون وماركسيون وإسلاميون لإنتمائهم إلى فصائل سياسية غير معترف بها .

و في مطلع كانون الأول –ديسمبر 1975 وقع إضراب عام في الجامعة التونسية ووقعت أثناءها إشتباكات عنيفة بين قوات الأمن والطلاب التونسيين , وتجددّت الإشتباكات العنيفة بين قوات الأمن والطلاب سنة 1977 , وقادت النقابات العمالية المعارضة ضدّ نظام الحبيب بورقيبة , وشهدت سنة 1976 إضرابات مالية مكثفة في تونس , وبين 19771978 تمّ اعتقال 28 شخصا بتهمة الانتماء إلى حركة الوحدة الشعبية المرتبطة بأحمد بن صالح .

و في سنة 1977 انتعشت المعارضة الليبيرالية التي تعتبر أحمد المستيري أبرز أعضائها وفي نفس السنة وفي شهر نيسان – أبريل شكلّ الليبيراليون لجنة الدفاع عن حقوق الانسان . و أبرز حدث داخلي شهدته تونس منذ استقلالها كان الانفجار السياسي الذي شاركت فيه النقابات العمالية حول قضايا سياسية واجتماعية متعددة , وقد بلغ هذا الانفجار ذروته يوم الخميس الأسود في 26 كانون الثاني – يناير 1978 حينما خرج الجيش التونسي من ثكناته الى الشوارع وأدت المواجهات بينه وبين المتظاهرين الى مقتل العشرات .

وتمّ اعتقال قادة الحركة النقابية ومحاكمتهم وعلى رأسهم الحبيب عاشور , وقد سبقت هذه المواجهات والإضرابات سلسلة استقالات في صفوف الوزراء والذين عبروا عن تفسخ النظام من الداخل . وفي 12 كانون الثاني – يناير 1974 وقع تطور مفاجئ في تونس كاد يغيّر الأوضاع السياسية رأسا على عقب , وتمثلّ هذا التطور أنّه في أعقاب اجتماع بين الحبيب بورقيبة والعقيد الليبي معمّر القذافي رئيس ليبيا أعلن عن وحدة سياسية بين تونس وليبيا , على أن يكون بورقيبة رئيسا للدولة الموحدة و القذافي نائبا له .

ولم يبصر هذا المشروع النور بسبب معارضة بورقيبة الدائم له , والواقع أنّ الذي كان متحمسا للمشروع هو وزير خارجية تونس محمد المصمودي الذي عمل منذ تعيينه على رأس الخارجية التونسيةسنة 1970 على ترميم العلاقات العربية – التونسية, وقد نجح في مهمته إلى أبعد الحدود , وتمكن بحنكته من بعث الروح في العلاقات التونسيةمع كل من مصر وسوريا ودول المحور الاشتراكي في ذلك الوقت .

الصراع بين الأصالة والتغريب في تونس

لجأت النخبة الحاكمة في تونس بعد الاستقلال الى تطبيق الأنماط الغربية في تسيير شؤون الدولة والمجتمع , وكان الرئيس التونسيالحبيب بورقيبة يتفاخر بالعلمانية الغربية التي كان يطبقّها في تونس , وكان بورقيبة يتمنى لو كان موقع تونس الجغرافي على مقربة من الدول الإسكندينافية . وفي حديثه لصحيفة الأمان اللبنانية قال زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي أنّ الحركة الإسلامية في تونس واجهت المصاب الجلل بآلاف المساجين والتعذيب الرهيب والذي أفضى إلى استشهاد العشرات من الأخوة وتجويع العائلات ومنع كل عون عنهم من أجل إضعاف صمود المساجين ودفع الزوجة إلى طلب الطلاق وما إلى ذلك من الأساليب الهمجية ( 1 ) .

فالحبيب بورقيبة الذي كان مشبعا بالثقافة الفرنسية و أحد أبرز المعجبين بالطرح العلماني حاول بناء دولة تونسية علمانية على غرار ما فعله مصطفى كمال أتاتورك في تركيا , ولجأ في بداية حكمه إلى تجميد دور جامع الزيتونة الذي لعب أكبر الأدوار في تاريخ تونس المعاصر وأحتضن روّاد حركات التحرير من كل دول المغرب العربي , حيث كان دعاة الثورة على فرنسا من أقطار المغرب العربي يزاولون تعليمهم في جامع الزيتونة .

و لم يقم بورقيبة بأي خطوة في سبيل استرجاع الاستقلال الثقافي بل ظلّت تونس خاضعة ثقافيّا للغرب , والأكثر من ذلك فقد أقصى الرئيس التونسيالحبيب بورقيبة كل المحسوبين على التيار الوطني والعروبي ووضع الكثير منهم في المعتقلات ( 2 ) .

////////////////////////////////////////////////////////


(1) حوار أجرته صحيفة الأمان البيروتية مع زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في العدد 229 بتاريخ 01 تشرين الثاني – نوفمبر 1991 .

(2) راجع كتاب يحدث في تونس للصحفي قصي صالح الدرويش .

////////////////////////////////////////////////////////

و كان الحبيب بورقيبة يوصف بأنّه الصديق الحميم لفرنسا ووطدّ علاقات تونس بالمحور الغربي وهو ما جلب له السخط من قبل بعض جيرانه ومن قبل العديد من الدول العربية .

ولم يكتف الرئيس الحبيب بورقيبة بتكريس العلمانية بشكلها الغربي والمتوحش بل ألغى كل قوانين الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية , كقانون تعدد الزوجات والإرث والطلاق وحتى فريضة الصوم أراد إلغاءها بحجّة أنّ الصوم يضعف الإنتاج .

وفي عهد الحبيب بورقيبة ازدهر دور الجاليّة اليهودية في تونس وخصوصا بعد أن أصبح بعض اليهود التونسيين وزراء في أول حكومة تونسية ومنهم ألبير بسيسي وتجدر الإشارة إلى أن أندري باروش مؤسس الحزب الشيوعي التونسيهو من اليهود التونسيين .

وهذا الاتجاه السياسي الذي تبنّاه الحبيب بورقيبة ساهم إلى أبعد الحدود في انبلاج التيار الإسلامي الذي حمل على عاتقه لواء المحافظة على الهويّة المصادرة و القيّم الضائعة وقاوم بكل ما أوتيّ من إمكانات الغزو الفكري والمسخ الثقافي لتونس .

وفي سنة 1970 وفي جامع سيدي يوسف بالعاصمة التونسيةالتقى راشد الغنوشي و عبد الفتّاح مورو لتقديم مفاهيم عن البديل الإسلامي في مواجهة البديل التغريبي (1).

ويذهب بعض الباحثين ومنهم الدكتور إبراهيم حيدر علي إلى القول بأنّ التغريب في تونس ليس وليد البورقيبية , بل أنّ احتكاك تونس بالحضارة الغربية تمّ في مرحلة متقدمة من العهد البورقيبي , وتعتبر تونس ومصر من أقدم الدول العربية في احتكاكها بالحضارة الغربية ومحاولة تبنيّ عناصرها العملية والمفيدة فيما يخص المؤسسات والوسائل المادية (2) .

والصراع بين القديم والجديد , وبين الأصالة والمعاصرة , وبين الأسلمة والتغريب ظاهرة لا تقتصر على تونس وحدها بل هي ظاهرة عمّت البلاد العربية والإسلامية نظرا للغزو الاستعماري الغربي لهذه البلدان .

///////////////////////////////////////////////////////

(1) أنظر كتاب الإسلام الاحتجاجي في تونس لمحمد عبد الباقي الهرماسي .

(2) أنظر كتاب التيارات الإسلامية وقضية الديموقراطية لإبراهيم حيدر علي .

///////////////////////////////////////////////////////

وكانت الجيوش الاستعمارية تحمل معها قبل الذخائر الحربية المشروع الثقافي والفكري والإيديولوجي الذي كانت تعدّه سلفا وزارات الخارجية والاستعمارية الغربية في ضوء ما لديها من معلومات عن الخصوصيات العربية والإسلامية والتي أستطاعت أن تحيط بها من خلال حركة الجواسيس والبعثات الاستكشافية الغربية المكثفّة إلى بلادنا .

وكان استراتيجيو الحركات الاستعمارية يتصورون أنّه عندما يسود الفكر الذي يحملونه معهم إلى البلاد المحتلة فانّ هذا من شأنه أن يسهلّ عملية الغزو ويجعل الناس ترضخ للإرادة الاستعمارية .

وفي المغرب العربي فانّ السلطات الاستعمارية الفرنسية كانت تقوم بتشييد المعاهد التعليمية لا حبّا في تثقيف الناس والقضاء على الأمية , بل إنّ هذه المعاهد كانت تضطلع في تكوين النخب المثقفة التي تؤمن بفكر المستعمر .{ وفي تونس على وجه التحديد كان هناك تنافس كبير بين المدرسة الصادقيّة التي أنشئت عام 1875 وجامع الزيتونة , وهو صراع بين رمز المشروع التحديثي كما جسدته المدرسة الصادقيّة والتي كانت تنتج كوادر الدولة المتخصصة لإدارة الدولة والمجتمع في مواجهة جامع الزيتونة الذي يحاول الإبقاء على الأمر الواقع أو العودة إلى الماضي الذهبي } (1) .

وهذا الصراع انعكس سلبا على الحركة الوطنية التونسيةالتي أنقسمت على نفسها بين شخصيات تؤمن بالثقافة العربية والإسلامية وجدواها في الحياة السياسية وتسيير شؤون الدولة وحملة الثقافة الفرنسية الذين أبدوا انبهارهم بالمشروع الثقافي الغربي ومع هؤلاء تفاوضت الحكومة الفرنسية عندما أرادت أن ترفع يدها عن تونس لتتفرغّ للثورة الجزائرية.

وعن هذه المرحلة يقول الهاشمي الحامدي : أنّ الانشقاق الذي حدث في الحركة الوطنية أدّى الى قيام الحزب الحر الدستوري الجديد الذي أصبح الحبيب بورقيبة سكرتيره العام في آذار – مارس 1934 , وضم ّ الحزب القديم خريجي الزيتونة والشخصيات ذات الميول العربية والإسلامية , بينما جمع الحزب الجديد المثقفين الجدد من المدرسة الصادقية والمعاهد الثانوية الخاصة وجامعات باريس (2).

/////////////////////////////////////////////////////

(1)الدولة والمسألة الثقافية في تونس للمنصف ونّاس . (2) أنظر أشواق الحرية : قصة الحركة الإسلامية في تونس للهاشمي الحامدي .

/////////////////////////////////////////////////////

وبعد إستقلال تونس ووصول بورقيبة إلى الحكم أو بالأحرى تسهيل وصوله إلى الحكم من قبل الفرنسيين انتقلت المعركة إلى أرض الواقع وذلك عندما شرع الحبيب بورقيبة ومعه عناصر النخبة الحاكمة ذات الميول الفرانكفونية في تنفيذ المشروع التغريبي في بناء الدولة الوطنية الحديثة { ولذلك أصدرت السلطة الجديدة سلسلة من القوانين والإجراءات الجديدة مثل إلغاء دور المجالس الشرعية والمحاكم الدينية , وإعلان مجلة الأحوال الشخصية التي أثارت جدلا بسبب تناقض بعض بنودها مع أحكام الشريعة الإسلامية وإلغاء مؤسسة الأوقاف وحلّ الحبوس و ألحقت معاهد الزيتونة بوزارة التربية وأصبحت الجامعة التونسيةالبديل القومي للجامعة الزيتونية للتعليم العالي }. (1) وعلى الرغم من أنّ النخبة الحاكمة في تونس كانت متحمسّة لمشروع التغريب والتحديث ونفذتّه بالحرف , وفرضت هذا المشروع على المجتمع التونسي فرضا إلاّ أنّ هذا المشروع أخفق ولم يؤت ثماره المرجوة , وسرعان ما تعرضّ حكم الحبيب بورقيبة إلى هزات وأصابه الفشل الذريع في ميادين الاقتصاد والمجالات السياسية والثقافية .

وقد ساهمت هزيمة حزيران – يونيو 1967 في بداية بروز المعارضة التونسيةالتي كانت تحمل مشروعا مغايرا لمشروع الحبيب بورقيبة التغريبي , فكانت الحركة الإسلامية التونسية والتي كانت وليدة الأزمة التي وصل إليها نظام بورقيبة . وكانت هذه الحركة الصاعدة هي المشروع المغاير لمشروع بورقيبة كما قال المنصف وناس في بحثه عن الدين والدولة في تونس بين 19561987 تحمل فكرا مغايرا . وقبل الحركة الإسلامية كانت هناك الحركة اليوسفية التي كانت تعارض نظام الحبيب بورقيبة , وبرزت إلى الوجود قبل الاستقلال بقليل عندما عارض صالح بن يوسف التنازلات الخطيرة التي قدمها الحبيب بورقيبة للسلطات الفرنسية , غير أنّ نظام بورقيبة تمكنّ من القضاء بقوة على اليوسفيين. وخطأ بورقيبة كما يقول خصومه السياسيون أنّه أراد أن يفرض علمانية متوحشة على مجتمع مسلم متمسّك بالعادات والتقاليد ولم يتحرر من معتقداته بتاتا .

///////////////////////////////////////////////////

(1)أنظر الدولة والمسألة الثقافية للمنصف ونّاس و الإسلام الاحتجاجي في تونس لمحمد عبد الباقي الهرماسي .

///////////////////////////////////////////////////

{ ولذلك جاءت حداثة بورقيبة منقوصة وعلمانية فوقية وتنمية تابعة وغير عادلة فدخلت تونس في مأزق الاقتصاد ومأزق التغريب } .

وكانت نتيجة علمانية بورقيبة أن أنتهت تونس إلى أزمة اقتصادية خانقة أدّت إلى إضرابات عماليّة واسعة وثورة الخبز والعديد من الإضطرابات , وأزداد الاقتصاد التونسيتبعيّة للشركات الغربية التي راحت تستبيح تونس باسم حرية الاستثمار , وفي المسألة الثقافية كانت الجامعات التونسية عرضة للصراعات الحادة بين المحسوبين على الثقافة العربية و الثقافة الفرنسية وعاشت الجامعات إضطرابات موسعة كانت تستدعي دخول رجال الشرطة والجيش إلى الحرم الجامعي .

و في هذه الظروف بدأت حركة النهضة التونسية تطرح مشروعها الذي تمثلّ في :

-بعث الشخصية الإسلامية لتونس حتى تستعيد مهمتها كقاعدة كبرى للحضارة الإسلامية في إفريقيا ووضع حدّ لحالة التبعية والتغريب والضلال .

-تجديد الفكر الإسلامي على ضوء أصول الإسلام الثابتة ومقتضيات الحياة المتطورة وتنقيته من رواسب عصور الانحطاط وأثار التغريب .

-أن تستعيد الجماهير حقها المشروع في تقرير مصيرها بعيدا عن كل وصاية داخلية أو هيمنة خارجية .

-إعادة بناء الحياة الاقتصادية على أسس إنسانية وتوزيع الثروة في البلاد توزيعا عادلا في ضوء المبادئ الإسلامية .

-المساهمة في بعث الكيان السياسي والحضاري للإسلام على المستوى المحلي و المغاربي والعربي والعالمي حتى يتم إنقاذ شعوبنا والبشرية جمعاء مما تردّت فيه من ضياع نفسي وحيف اجتماعي وتسلطّ دولي .

و إذا كان نظام بورقيبة قد مثلّ ذروة التيار العلماني فانّ حركة النهضة كانت تمثل التيار الإسلامي البديل الذي ساهمت عوامل تاريخية وفكرية وسياسية في بروزه . وإذا كان الحبيب بورقيبة قد التحق بالرفيق الأعلى فانّ خطّه السياسي مازال قائما حتى في مرحلة العهد الجديد التي قادها زين العابدين بن علي .

الحركة الحزبيّة والسياسية في تونس

ينصّ الدستور التونسي على أنّ تونس جمهورية حرة مستقلة و ذات سيادة , وتناط السلطة التشريعية فيها بالجمعية الوطنية التي تنتخب بالاقتراع المباشر مرة كل خمس سنوات , ورئيس الدولة هو رأس السلطة التنفيذية وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة ويتولى جميع التعيينات العسكرية والمدنية , وتستطيع الجمعية الوطنية حجب الثقة عن الحكومة ممّا يحتم استقالة الحكومة أو إجراء انتخابات جديدة , وفضلا عن ذلك فانّ الدستور الجديد ينصّ على صلاحيات مجلس الدولة والمجلس الاقتصادي والمجلس الاجتماعي .

وعلى صعيد أخر يؤكد الدستور على أنّ الحزب الدستوري وهو الحزب الحاكم هو الحزب الشرعي الوحيد , ورغم هذا الإقرار الدستوري إلاّ أنّ الخارطة السياسية التونسية ثريّة بالحركات السياسية المختلفة في مشاربها الفكرية . ومن هذه التيارات الجبهة الوطنية التقدميّة وتضمّ مجموعة الأحزاب والتي على رأسها الاتحاد الاشتراكي العربي التونسي

-الناصريون – وحزب البعث العربي الاشتراكي واليوسوفيون أصحاب صالح بن يوسف.

وحركة الوحدة الشعبية وكان يقودها المعارض التونسي أحمد بن صالح من الخارج , والحزب الديموقراطي الاجتماعي الذي كان يقوده أحمد المستيري والذي كان يطالب بالتعددية السياسية والحزبية وبالليبيرالية في مجال الاقتصاد , و هناك العديد من التنظيمات السياسية اليسارية والشيوعية والتي كان لها نفوذ كبير في النقابات العمالية .

وكانت الحركات اليسارية من أنشط الحركات في تونس في فترة السبعينيات , وقد شكلّت الحركة النقابية مصدر خطر على السلطة التونسية, ويصف أحد الإسلاميين تلك الفترة من تاريخ تونس بأنّها فترة تحديّات اليسار { في سنة 1977 تحديدا , ثمّ انتفاضة كانون الثاني – يناير 1978 أظهرت خطر استيلاء اليسار على السلطة في تونس , وهو خطر وقوع الدولة في أيدي اليسار , وكنّا نعتقد أن الإسلام في تونس في خطر وأنّ اليسار سيستولي على السلطة , لم نكن نعارض الحكومة لذاتها , كنّا نعارضها فيما يخص بعض النقاط , ولكننّا كنا نعتقد أنّ اليسار يمثّل خطرا أكبر من خطر الحكومة .} (1)

وكانت الأحزاب اليسارية تشنّ الإضرابات وتدعو إلى التظاهر ضدّ الحكومة لتنفيذ مطالب العمّال وصيانة حقوقهم , وفي الواقع كانت الحركة الشيوعية تختفي وراء النقابات العمالية والمطالب العمالية المحقة . و مثلما كانت الخارطة السياسية التونسية تضم مختلف التيارات الحزبية والسياسية من أقصى اليمين والى أقصى اليسار , فقد عرفت الخارطة السياسية تنوعا أيضا في الحركات الإسلامية التونسية ومن هذه الحركات حركة النهضة التي تأسست عام 1970 وذلك عندما أسسّ راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو ما عرف في تونس بالجماعة الإسلامية والتي كانت عبارة عن حركة تربوية واجتماعية (2)

وقد مرّت هذه الحركة بثلاث مراحل سياسية , مرحلة التأسيس , ومرحلة التبليغ ومرحلة المنفى والمواجهة .ومن رحم هذه الحركة تأسسّ ما يعرف بالإسلاميين التقدميين الذين أنشقّوا عن حركة النهضة الإسلامية وهم أحميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي و زيّاد كريشان وأسسّوا تيارا ثقافيّا وعقلانيّا , كما أسسوا مجلة ( 15 – 21 ) نسبة إلى القرن الخامس عشر الهجري والواحد والعشرين الميلادي .ويقدمّ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية تقييما لتيار الإسلاميين التقدميين ويوضّح أهم أفكارهم وما طرأ على هذه الأفكار من تطوّر وتغيير أو إلغاء أحيانا من خلال تفاعلها مع واقع متغيّر وفكر أخر , ويرى الغنوشي أنّ هذا التيار الذي وصفه بالتدين العقلاني قد بدأ يحدّ من غلوائه ويخفف من تطرفه وهذا التيار { لم يعد يطرح قضية التخلي عن الحدود ,أتخذ تناوله لرجال الحركة الإسلامية وأقطاب السلفية المعاصرين والقدامى طابعا أكثر جديّة كما تخلى عن مقولة اليسار الإسلامي وأستعاض عنها باسم أقلّ إثارة للحساسة السلفية . لكنّ تنظيم الإسلاميين التقدميين ظلّ يحتفظ برؤية صياغة جديدة , العلاقة الجدلية بين النص والعقل} (3)

//////////////////////////////////////////////////////

(1) أنظر الإسلام السياسي : صوت الجنوب لأحميدة النيفر.(2) أنظر دراسات في الإسلام السياسي لفايزة سارة . (3) أنظر تحليل العناصر الكونة للظاهرة الإسلامية في تونس – حركة الاتجاه الإسلامي –لراشد الغنوشي .

///////////////////////////////////////////////////////

وبالإضافة إلى الإسلاميين التقدميين , برز حزب التحرير الإسلامي نتيجة نشاط العديد من الحلقات الدينية المنتشرة في البلاد , وكان حزب التحرير الإسلامي المتأثر بحزب التحرير الذي عرف في نطاق واسع في المشرق العربي يهدف إلى قلب نظام الحكم في تونس عن طريق القوة وإقامة الدولة الإسلامية ثمّ إعادة تأسيس الخلافة الإسلامية .

وقد اتهمت السلطات التونسية هذا الحزب عدة مرات بمحاولة القيام بانقلابات عسكربة فاشلة , ومن أهمها ما حدث بين 19731976 .

ومن التنظيمات الإسلامية العسكرية طلائع الفداء وهي مجموعة إسلامية مسلحة كان يتزعمها محمد الحبيب الأسود , وقد جربّ الكشف عنها في العام 1987 عندما أتهمتها السلطات التونسية بالتخطيط لقلب نظام الحكم وإقامة دولة إسلامية .

ورغم هذا التنوّع الذي كان سائدا في الساحة السياسية التونسية فانّ الأحزاب في مجملها لم تتمكن من خلط الأوراق والوصول إلى الحكم , والسبب كما يراه الناشطون السياسيون في تونس يعود إلى السلطة التونسيةبدءا بالحبيب بورقيبة ووصولا إلى زين العابدين بن علي التي كانت تقمع كل معارضة وتزجّ بكل أركانها وأتباعها في السجون , ولم تفرّق السلطة التونسية بين المعارضة الإسلامية واليسارية حيث كان مصير كل معارض في السجن أو المنفى .

ورغم القمع السلطوي فانّ المعارضة التونسية لم تتحالف فيما بينها للقضاء على خصمها الحبيب بورقيبة والذي جاء بعده أو أقلا الحد من حالة الأحادية السياسية , ويذهب بعض الباحثين إلى القول أنّ السلطة التونسية تسامحت في فترة من الفترات مع الإسلاميين لضرب الشيوعيين , تماما كما تساهل الرئيس المصري أنور السادات في بداية عهده مع الإخوان المسلمين لضرب الناصريين , أو كما تساهل الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد مع الإسلاميين لضرب البومدينيين .


ويذهب بعض الباحثين ومنهم مصطفى التواني الى نفي ذلك جملة وتفصيلا معتبرا أنّ التيار العلماني بشكل عام كان يحظى ببعض الدعم المباشر وغير المباشر .(1)

ويمكن القول أنّ الخارطة السياسية والحزبية في تونس كانت مصنفة في ثلاث خانات :

- خانة التيار اليساري والشيوعي .

- خانة التيار الإسلامي بكل تشعباته .

- خانة التيار الليبيرالي .

وهذه التيارات الثلاث الكبرى كانت لها مواقفها ومشاريعها وبرامجها , ولم يتمكن أيّ منها من الوصول إلى دوائر القرار , وقد نجحت السلطة التونسية في استقطاب شخصيات من هذه التيارات , وخصوصا مع التيار الإسلامي حيث نجحت السلطة التونسية في استمالة العديد من الشخصيات الإسلامية التي كانت محسوبة على حركة النهضة التونسية.

وكل التنظيمات التي كانت تنضوى تحت مظلة الخانات التي جئنا على ذكرها كانت تغيّر طروحاتها أو تعدّل بعضا من فكرها تكيفّا مع الأوضاع الجديدة في تونس .

وحتى التنظيمات الإسلامية لم تحد عن هذه القاعدة , فالحركة الإسلامية التونسية خرجت عن الإطار التقليدي لأفكار المؤسسين والقادة الأوائل وطبقا لما أشار إليه زعيم حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي كان المطلوب إعادة قراءة أولئك المفكرين وبينهم سيد قطب و الذي شكلّت كتبه بداية تشكل الحركات الإسلامية في أكثر من إقليم عربي وإسلامي وكانت كتبه الأساس الذي قامت وتقوم عليه الدعوات لممارسة العنف .(2)

ويطالب راشد الغنوشي بإعادة قراءة سيد قطب قراءة جديدة تبرز أهم مناحي فكره بغية التوصل إلى ما في ذلك الفكر من أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية .

وحتى في الجوانب التنظيمية وقعت تغيّرات كثيرة للغاية , حيث اختفت شخصيات كانت في يوم من الأيام تسطع في سماء السياسة التونسية, وبرزت شخصيات جديدة .

/////////////////////////////////////////////////////

(1)أنظر الحركة الإسلامية في تونس – قضايا فكرية عدد – أكتوبر 1989 صفحة 203 لمصطفى التواني .

(2)الحركات الإسلامية في المغرب العربي . لفايز سارة . وقد حاولت التيارات اليسارية أيضا التكيّف مع الوضع الجديد وخصوصا بعد انهيار الإتحاد السوفياتي السابق .

/////////////////////////////////////////////////////

وحتى الحزب الدستوري الحاكم عرف تغيّرات على صعيد تغيير عنوانه من الحزب الدستوري الاشتراكي الذي تحولّ مع مرور الوقت إلى الحزب الدستوري الديموقراطي .

وحركة النهضة الإسلامية كانت ترى أنّ الديموقراطية مجرّد منهج سياسي وحركتنا لا تؤمن بالديموقراطية كما قال عبد الفتّاح مورو الذي كان يعتبر الرجل الثاني بعد راشد الغنوشي .

لكنّ الغنوشي أصبح يعتبر الديموقراطية خيارا استراتيجيا وخصوصا بعد التحولات الكبرى التي عرفها العالم , هذه التحولات التي غيرّت معها الطروحات والمسلكيات والقناعات والرؤى .

انّه نوع من البيرسترويكا والنزوع إلى الجديد والتجديد باستمرار , تجديد المنهج والديناميكية, والإشكال الوارد هاهنا أنّ التيارات الحزبية في تونس ورغم تجديدها لنفسها مازالت تراوح مكانها , ومازال صوت السلطة عاليّا لا يعلو عليه صوت !!!

عهد الجنرال زين العابدين بن علي

وصل الجنرال زين العابدين بن علي الى الحكم في تونس في خضمّ ظروف محليّة وإقليمية ودولية اتسمّت بكثير من الإضطراب والتعقيدات , وجاء استيلاء زين العابدين بن علي على الحكم في تونس كردّة فعل على الإفلاس الذي منيّت به سياسة الحبيب بورقيبة والذي أوصل تونس إلى ذروة السقوط السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي .

فالتبعيّة للشركات الغربية ازداد حدّة في العهد البورقيبي , ومافتئ الحبيب بورقيبة يعلن عن ولائه المطلق للغرب . وفي عهده اندلعت التظاهرات والمواجهات والإضرابات العامة في كافة المرافق الاقتصادية , وفي عهده جرى اعتقال المئات من الناشطين السياسيين من مختلف الانتماءات الحزبية والسياسية وزجّ بهم في غياهب السجن .

وكانت قوات الجيش والأمن تمارس أبشع عمليات القمع , وحتى ثورات الرغيف والخبز تمّ قمعها وكأنّه لا يحق للناس التعبير عن جوعها إطلاقا .

وكان بورقيبة ومعه النخبة الحاكمة يتصوّر أنّ العلمانية التغريبية ستجلب لتونس الكثير من الرخاء والتقدم والازدهار والرقيّ , والذي حدث أنّ هذا المنهج البورقيبي قاد تونس إلى الهاويّة . وقد تبع الانهيار الاقتصادي انهيارات أخرى على الصعيد الثقافي والاجتماعي والسياسي حتى باتت السلطة محل انتقاد من كل التيارات السياسية التونسية بمختلف مشاربها وانتماءاتها الإيديولوجية . وكان التغيير من خارج السلطة أشبه بالمستحيل بسبب قوة النظام الأمنية من جهة وتشتّت المعارضة من جهة أخرى .

وعندما كان نجم الحبيب بورقيبة آخذا في الأفول , كان نجم أخر يسطع في سماء السياسة التونسية وهو نجم زين العابدين بن علي .

والجنرال زين العابدين بن علي الذي لم يكن معروفا سوى في الكواليس الأمنية التونسية تمكنّ من التدرّج وبشكل سريع في المنظومة الأمنية التونسية حتى أصبح أحد أقرب المقربين إلى الحبيب بورقيبة الذي عينّه في أكثر المناصب حساسة وخطورة .

والنقلة الكبيرة التي حققّها زين العابدين بن علي كانت غداة عودته من الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان يواصل تكوينه الأمني وتخرجّ كضابط من إحدى الكليات الأمنية والإستخباراتية الأمريكية , وفور رجوعه إلى تونس تمّ تعيينه وزيرا للداخلية وأوكلت إليه معظم الملفات الثقيلة ومن جملتها ملف حركة النهضة الإسلامية في تونس التي كان يتزعمها راشد الغنوشي .

وتولّى الجنرال زين العابدين بن علي مناصب أخرى خولّته الإطلاع بدقة على تفاصيل الحكم في تونس , وكان بين الحين والأخر يبادر إلى اتخاذ القرارات وخصوصا عندما أشتدّ مرض الحبيب بورقيبة , الذي بدأت يداه ترتعشان , وبدأ يقدم على تصرفات مخلة بالحياء أحيانا و كانت زوجته وسيلة بن عمّار تحاول أن تلعب دور المتنفذ الأول وحسب بعض المعلومات الدقيقة فإنّها لعبت دورا ما في إقصاء محمد مزالي من رئاسة الحكومة التونسية, وقد أعترف هو بالدور الخطير الذي كانت تضطلع به وسيلة بن عمّار زوجة الرجل الأول في تونس .

وبسبب مرض الحبيب بورقيبة دخلت تونس في مهبّ العاصفة حيث بدأت تفقد شيئا فشيئا مركزية القرار الذي توزعّ بين مجموعة أجنحة لا يجمعها إلاّ المصالح والمنافع الكثيرة.

وهذا الضعف الذي ألمّ بالسلطة التونسية وبداية بروز مراكز القوة ساهم في تسهيل مهمة زين العابدين بن علي في الإمساك بزمام الأمور والاستحواذ على الحكم .

وكان واضحا منذ بداية بروز زين العابدين بن علي على الساحة السياسية الرسمية أنّ هذا الرجل سيلعب دورا مهما في تاريخ تونس المعاصر .


ولد الرئيس زين العابدين بن علي في 13 أيلول – سبتمبر 1936 في بلدة حمام سوسة التي لا تبعد عن مدينة المونستير مسقط رأس بورقيبة سوى 24 كلم , وقد تلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط في مدارس البلدة وتابع دراسته الثانوية في معهد سوسة التقني , وبعد المرحلة الثانوية درس بن علي في الجامعة الهندسية الالكترونية ثمّ التحق بالكلية العسكرية في تونس , وقد تابع دورات متخصصة في مدرسة سان سيير العسكرية , وفي مدرسة المدفعية في شالون سيرمان وكلا المدرستين تقع في فرنسا . وقد انضمّ إلى المدرسة العليا للمخابرات والأمن في الولايات المتحدة الأمريكية وتخرجّ منها بامتياز . وقد تسلمّ زين العابدين بن علي الأمن العسكري في تونس من سنة 1958 والى سنة 1974 , وعينّ ملحقا عسكريا في السفارة التونسية في المغرب من عام 1974 والى سنة 1978 , وفي سنة 1978 أستدعيّ من موقعه كملحق عسكري ليتولىّ موقع مدير عام الأمن الوطني في تونس إلى غاية سنة 1980 .

و في هذه الفترة كان عمليا يقوم بمهمات وزير الداخلية , لأنّ ضاوي حنّا بلية الذي كان يشغل هذا المنصب لم يكن قادرا في الواقع على حمل أعباء هذه الوزارة .

وقد جرى تعيين زين العابدين بن علي سفيرا لتونس في بولندا من سنة 1980 والى سنة 1984 ورافق عن كثب أحداث وارسو التي كان وراءها النقابيون وعلى رأسهم ليش فاليسا . وعلى اثر ثورة الخبز في تونس سنة 1984 أستدعيّ بن علي من وارسو ليشغل ثانية منصب مدير عام الأمن الوطني وفي نفس السنة بتاريخ 29 تشرين الأول – أكتوبر

تمّ تعيين زين العابدين بن علي كاتب دولة وكيل وزارة للأمن الوطني . و سنة 1985 جرى تعيينه وزير دولة للأمن في مكتب رئيس الوزراء محمد مزالي , وفي سنة 1986 عيّن وزيرا للداخلية وظلّ في منصبه هذا حتى تولىّ رئاسة الوزارة في مطلع تشرين الأول – أكتوبر 1986 فجمع بين منصب الوزير الأول ووزير الحكومة فضلا عن تولّيه الأمانة العامة للحزب الاشتراكي الدستوري الحزب الحاكم .

وفي 07 تشرين الثاني – نوفمبر 1987 استولى زين العابدين بن علي على الحكم في تونس وأصبح يعرف برجل النظام القوي الذي أطاح بالمجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة .

وزين العابدين بن علي رجل عسكري محترف اصطفاه بورقيبة منذ سنوات ليكون قبضته الحديدية في مواجهة خصومه والأزمات التي حلّت بنظام الحبيب بورقيبة , وكانت النتيجة أن أزيح بورقيبة نفسه عن الحكم . و قد وصفته صحيفة فرنسية بقولها :

أنيق المظهر , حليق الذقن دائما , في الواحد والخمسين من عمره عندما أستولى على الحكم , يجلس برصانة ويتحدث الإنجليزية والفرنسية إضافة إلى العربية ومحسوب على الغرب قلبا وقالبا .

وقال أحد الوزراء التونسيين عن زين العابدين بن علي أنّ هذا الأخير سيضع حدّا لتنافر الألوان و الأصوات لا يتكلم إلاّ عندما يكون لديه شيئ يقوله , انّه يعي إيجاد حلول لها , استتباب الاستقرار والأمن العام وأمن المواطنين وحماية أرزاقهم ومقدراتهم و انّه يعي دروس الحياة ولديه طموح ويعرف ما يجب عمله , وإذا ما ساء الحظ وغاب الرئيس فليس هناك خوف من المستقبل . (1)

وغداة توليّه الرئاسة قال زين العابدين أنّ برنامجه يكمن في بناء مجتمع مزدهر ومنفتح ومتسامح ويسوده السلام .

وقد أدهش هذا الانقلاب الأبيض العديد من العواصم الغربية والعربية إلى درجة أنّ بعض العواصم المعنية بتونس اعتبرت أنّ ما حدث هو انقلاب لصالح المخابرات الأمريكية في المغرب العربي خصوصا وأنّ بن علي أكمل تكوينه الأمني والمخابراتي في الولايات المتحدة الأمريكية وعاد بعدها الى تونس ليتولىّ فيها مناصب حساسة وخطيرة .

والهدف من هذا الانقلاب كما فهمته بعض العواصم المعنية بالملف التونسيهو القضاء على الوجود الفرنسي في المغرب العربي . وقد أثبت زين العابدين بن علي انضباطا كبيرا في خدمة النظام التونسي وتميزّ بطول الباع في المرحلة البورقيبية , وفي بيانه الأول وعد بأن ينقذ تونس من الانهيار الاقتصادي والسياسي ووعد بوضع برنامج متماسك يسمح لتونس بأن تصبح دولة ديموقراطية حقا دولة , الحريات الأساسية والنقابية وحرية التعبير والرأي والصحافة . (2)

////////////////////////////////////////////////////////

(1) مجلة جون أفريك التي تصدر في باريس بتاريخ تشرين الأول – أكتوبر 1987 . (2) جريدة السفير البيروتية في 08تشرين الثاني – نوفمبر 1987 .

////////////////////////////////////////////////////////

وقد لاقى هذا الطرح ترحيبا من قبل المعارضة بشكل عام , وحتى المعارضة الإسلامية بزعامة راشد الغنوشي أبدت ترحيبها بالتغيير المبارك في تونس . وبالفعل بدأ زين العابدين بن علي حكمه بكثير من الانفتاح على المعارضة وأطلق سراح العديد من سجناء الرأي والسجناء السياسيين من مختلف التنظيمات والانتماءات الإيديولوجية .

وحتى الإسلاميون الذين حملوا السلاح ضدّ نظام الحبيب بورقيبة من عناصر طلائع الفداء الإسلامي أطلق سراحهم وصدرت في حقهم قرارات العفو , وتمّ العفو عن عناصر حزب التحرير وغيرهم .

لكنّ هذا الانفتاح لم يدم طويلا وشهر العسل لم يستمر طويلا مع المعارضة اذ سرعان ما تبينّ أن العهد الجديد مناور وليس صاحب ثوابت وهو الأمر الذي جعل الطبقة السياسية في تونس والمعارضة منها على وجه التحديد ترى أنّ الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي هما في الواقع وجهان لعملة واحدة , فالتغيير الحاصل لم يطاول النهج السياسي بل طاول الأشخاص والوجوه لا أكثر ولا أقلّ , والديموقراطية التي وعد بها زين العابدين بن علي كانت حكرا على الحزب الدستوري الحاكم ومن يدور في فلكه . وإزاحة الحبيب بورقيبة عن الحكم وكما وصفها بعض الخبراء التونسيين كانت تندرج في سياق الخطوات الضرورية للحفاظ على النظام , فتمّت التضحية بشخص أنهكه المرض ليبقى النظام سليما بعيدا عن مخاطر الانهيار . وبناءا عليه فالتغيير الذي حصل هو تغيير شكلي وليس مركزيّا و لأجل ذلك بقيت الأزمة السياسية تراوح مكانها في تونس وحتى في العهد العابديني الجديد ..

الحركة الاسلامية في تونس – البدايات -

يذهب بعض الباحثين والكتّاب إلى القول بأنّ الحركة الإسلامية التونسيةعريقة عراقة جامع الزيتونة في تونس , ومعروف أنّ هذا الجامع لعب دورا كبيرا في تاريخ تونس كما ساهم في الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية لتونس ووقف سدّا منيعا في وجه الاستعمار الفرنسي الذي كان يعمل على فرنسة تونس وجرّها إلى دائرة التغريب والفرنسة .

وقد خرجّ جامع الزيتونة عشرات الشخصيّات المغاربية التي قادت العمل الوطني والنضالي في أقطار المغرب العربي , وكان مناهضو الاستعمار يلجأون إلى الزيتونة لإكمال دراستهم والتزوّد من معين الوطنية والإسلام , وعلى سبيل المثال لا الحصر فانّ رئيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس قد درس في جامع الزيتونة , والرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين درس في جامع الزيتونة هو الأخر ,كذلك شيخ الحركة الإصلاحية في تونس الشيخ الثعالبي وغيرهم .

ويرتبط ظهور الحركات الإسلامية في تونس بتحركات بدأت في جامع الزيتونة في أواخر الستينيات حيث شرعت شخصيّات إسلامية منها الشيخ عبد القادر سلامة ومحمد صالح النيفر والشيخ بن ميلاد في إلقاء محاضرات ومواعظ ودروس دينية وبعض هذه المحاضرات كانت تنتقد الحالة السياسية والثقافية والاقتصادية في تونس .

وكان من بين الذين درسوا في الزيتونة في هذه الفترة بالذات عبد الفتّاح مورو أحد أهمّ المشاركين في تأسيس الحركة الإسلامية المعاصرة في تونس , وبدأ مهمته تلك في عقد صلات وثيقة بشخصيات وأوساط تونسية .

ويقول الدكتور حيدر إبراهيم علي صاحب كتاب التيارات الإسلامية وقضية الديموقراطية أن تاريخ الحركة الإسلامية التونسيةهو التاريخ الموازي والمضاد للبورقيبية وفي إطار أوسع للغرب , فقد كان الحبيب بورقيبة من أكثر الزعماء صراحة في إعجابه بالثقافة الغربية , وكان أحيانا يعبّر عن استيائه للثقافة العربية التي تشتمل ضمنا بعض العقائد الإسلامية والدينية ..

ويقول الباحث هشام جعيّط عن الحبيب بورقيبة : بقيّ بورقيبة بالفعل مبهورا بأوروبا ولا سيمّا بفرنسا , وهو يشمئزّ في قرارة نفسه من الفكرة العربية والمشرق ويعتبره عالما مغايرا تماما لعالمه وله الشعور أنّ العروبة صيغة رجعية مغرقة في التقاليد واللاعقلانيّة وأنّ القومية العربية فكرة ديماغوجيّة . لقد شكلّت علمانية بورقيبة خطرا على الأمن الثقافي التونسي حيث أصبحت الهويّة العربية والاسلامية مهددّة في تونس , كما أصبحت القيّم الإسلامية مطموسة بسبب المناهج التعليمية والخطط الإعلامية المستوحاة من توجيهات بورقيبة العلمانية , وهذا ما جعل الحركة الإسلامية التونسية تركّز على الجانب الفكري والتربوي والثقافي والتأكيد على أنّ الإسلام حضاريّ في بعده , وأنّ الحضارة الغربية بإفرازاتها المادية خطرة على المجتمع التونسي وهي تهددّ الكيّان التونسي بالانهيار الكامل .

وفي بداية السبعينيات التقى عبد الفتّاح مورو براشد الغنوشي الذي كان في وقت سابق معجبا بالفكر القومي الناصري ثمّ تبنىّ الفكر الإسلامي , ونشأت صداقة بينهما انعكست على نشاطهما السياسي فيما بعد .

ولد راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة في حامة قابس ودرس المرحلة الابتدائية في بلدته حامة قابس , والمرحلة الثانوية في المدرسة الثانوية التابعة لجامعة الزيتونة ثمّ انتقل إلى بلدة مثيلبة حيث نال الشهادة الأهلية – المتوسطة – ومن تمّ درس في المدرسة الخلدونية في العاصمة التونسيةوبعد ثلاث سنوات حصل على الثانوية العامة .عمل في بداية حياته العملية معلماّ في مدينة قفصة حتى سنة 1964 , وبعدها سافر إلى دمشق ليدرس الفلسفة حيث حصل على إجازة في الفلسفة سنة 1968 .وفي دمشق تسنىّ له أن يقرأ النتاجات الفكرية للإخوان المسلمين وتحديدا ما كتبه سيد قطب وأبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان . وبعد إتمام دراسته في دمشق عاد راشد الغنوشي إلى تونس سنة 1969 , وباشر التدريس في ثانويات تونس العاصمة و حمّام الأنف والقيروان . وفي سنة 1979 ترك التدريس وتفرغّ لاستكمال دراساته العليا في الشريعة الإسلامية .(1)

/////////////////////////////////////////////////////////

(1) مستقبل الأصولية في العالم العربي إصدار المركز العربي للمعلومات في بيروت .

/////////////////////////////////////////////////////////

وفي سنة 1970 قررّ مع عبد الفتّاح مورو الشروع في إعطاء دروس وإقامة حلقات دينية تعليمية في المساجد , وكانت جلّ هذه الدروس تتمحور حول حضارية الإسلام وخطورة الثقافة الغربية المادية . وأنضما كلاهما إلى جمعية المحافظة على القرآن الكريم سنة 1971 وأخذا يمارسان نشاطهما. ومن جامع سيدي يوسف في العاصمة التونسية بدأت الفكرة الإسلامية تسطع وبدأت الفكرة الإسلامية تخرج من دائرة المسجد إلى دائرة الجامعة .

وقد عمل راشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو على إقناع أكبر عدد ممكن من النخب المثقفة في المساجد والمعاهد التعليمية بأنّ الإسلام هو البديل الحضاري الحيّ , وشرع راشد الغنوشي في كتابة مقالات في جريدة الصباح اليومية والتي أتاحت له نقل أفكاره إلى أكبر شريحة ممكنة من المثقفين , كما كان يكتب في مجلة جوهر الإسلام لصاحبها الشيخ المستاوي . ومع بروز مجلة المعرفة التي كانت المنبر الفعلي للحركة الإسلامية في تونس كثفّ راشد الغنوشي من كتابة المقالات التي تتناول الحضارة الغربية وإفرازاتها الماديّة وانعكاساتها الخطيرة على مجمل الأوضاع في البلاد الإسلامية , وكان راشد الغنوشي في هذه المرحلة معجبا بفكر سيد قطب ومالك بن نبي وأبو الأعلى المودودي و محمد الغزالي.

وكانت مجلة المعرفة والتي كان راشد الغنوشي أحد كتّابها تركّز على مواجهة الفكر اليساري والعلماني وموضوع المرأة في الإسلام .وأثناءها تأسسّت مجلة المجتمع حيث بدأ معها الخطاب الإسلامي يتبلور شيئا فشيئا .

ولم تكن هذه التحركات لراشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو بمنأى عن رصد السلطة التونسيةالتي كانت تراقب عن كثب هذه التطورات وخصوصا بعد أن أصبحت الظاهرة الإسلامية بارزة في الجامعات والثانويات والمعاهد التعليمية والمساجد .

وبعد سنوات من النشاط المتواصل انعقد اجتماع سرّي عام 1979 بضاحية منوبة في تونس قررّ إثرها راشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو تأسيس تنظيم إسلامي على غرار تنظيم الإخوان المسلمين, أطلقوا عليه اسم : الجماعة الإسلامية .


وكان بعض الحضور يرفض فكرة التنظيم وطالب بإبقاء الحركة الإسلامية في تونس بعيدة عن متاهات التحزّب و السياسة , والاسترسال في العمل الثقافي والتعليمي والتربوي والاجتماعي . ومن الذين عارضوا فكرة التنظيم أحميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي وزيّاد كريشان الذين فضلّوا تأسيس جماعة أطلقوا عليها اسم الإسلاميون التقدميون , وكانوا يتحركون في الخطّ الثقافي العام .

واثر إعلان الحزب الدستوري الحاكم في تونس عن مشروع التعددية السياسية سنة 1981 , بادر أعضاء الجماعة الإسلامية التي كان يتزعمها راشد الغنوشي إلى عقد مؤتمر عام أعلنوا في ختامه عن حلّ الجماعة الإسلامية وتأسيس حركة جديدة باسم حركة الاتجاه الإسلامي , وأنتخب راشد الغنوشي رئيسا لها وعبد الفتّاح مورو أمينا عاما لحركة الاتجاه الإسلامي , وتمّ الإعلان رسميا عن هذه الحركة في 06-06-1981 , وتقدمّت هذه الحركة الجديدة بطلب إلى وزارة الداخلية للحصول على اعتماد رسمي , ولم تتلق هذه الحركة أيّ جواب من وزارة الداخليّة .

وفي تموز – يوليو 1981 ألقيّ القبض على راشد وأحيل إلى المحاكمة في تشرين الأول سنة 1981 مع مجموعة من قيادة حركة الاتجاه الإسلامي بتهمة الانتماء إلى جمعية غير مشروعة وحكم عليه بالسجن لمدّة 10 سنوات وبعد ثلاثة سنوات من الاعتقال جرى إطلاق سراحه في 02-08-1984 بعفو رئاسي بعد وساطة من رئيس الحكومة آنذاك محمّد المزالي .

وعندما كان راشد الغنوشي معتقلا تولىّ قيادة حركة الاتجاه الإسلامي كل من الفاضل البلدي وحمّادي الجبالي . وفي شهر كانون الأول – ديسمبر 1984 عقدت حركة الاتجاه الإسلامي مؤتمرا سريّا انتهى إلى تثبيت راشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو على رأس الحركة .

وفي 06- 06 – 1985 عقدت حركة الاتجاه الإسلامي مؤتمرا صحفيّا كشفت فيه علانيّة في الذكرى الرابعة لتأسيها عن وثائق مؤتمرها السرّي وأسماء أعضاء المكتب السياسي والذين كان من بينهم راشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو وصالح كركر وصادق شورو وحمّادي الجبالي وعلي العريض وفاضل البلدي , وكان هؤلاء يتولون مسؤوليّات مركزية في حركة الاتجاه الإسلامي .

و أعيد اعتقال راشد الغنوشي في شهر آب – أغسطس 1987 وحوكم مع مجموعة من رفاقه بتهمة قيّام عناصر من حركة الاتجاه الإسلامي بتفجير أربعة فنادق سياحية في تونس العاصمة في شهر آب – أغسطس 1987 . وقد أنكر راشد الغنوشي هذه التهمة ونددّ بأعمال العنف التي شهدتها تونس غير أنّ محكمة أمن الدولة حكمت عليه بالسجن المؤبّد بتهمة تهديد أمن الدولة والاتصال بدولة أجنبيّة هي إيران , كما حكم بالإعدام على سبعة من رفاقه و نفذّ الحكم في اثنين منهما.

وبعد ذلك أصدر الرئيس زين العابدين بن علي عفوا عن راشد الغنوشي بمناسبة عيد الفطر في 15 – 05 – 1988 حيث غادر بعدها تونس .

الجماعة الاسلاميّة التونسيةبين 1971- 1981

بين سنتي 1971 و 1981 أي فترة عشر سنوات كانت الجماعة الإسلامية التي تزعمها راشد الغنوشي تقصر عملها على النشاط الثقافي والتربوي والفكري , وكانت الحلقات الداخليّة التي تعقد بين كوادر الجماعة الإسلامية تساهم في بلورة العديد من الطروحات والأفكار بين أعضاء الجماعة الإسلامية . ويقول بعض الكتّاب أنّ الحركة الإسلامية التونسيةاستفادت من تسامح السلطة مع انحسار التأييد لها نتيجة تفاقم المشكلة الاقتصادية بالإضافة إلى محاولة السلطة لتحسين علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية خلافا لموقفها الصدامي السابق .

ويتوافق كثير من الباحثين على أنّ البورقيبية كنهج فكري وسياسي ساهمت إلى أبعد الحدود في إفراز التيار الإسلامي , ذلك أنّ التطرفّ في تبنيّ الطروحات الغربية أدىّ إلى ردة فعل للنخب التي لا تؤمن بالبديل الغربي في تونس .

ولاشكّ في أنّ مؤسسي الجماعة الإسلامية قد تأثروا الى أبعد حدّ بكتابات المفكرين الإسلاميين من أمثال سيد قطب وأبو الأعلى المودودي ومالك بن نبي وحسن البنا وغيرهم. وقد ركزّ هؤلاء المفكرون في كثير مما كتبوه على إبراز الجوانب الحضارية للإسلام وضرورة أن يصبح الإسلام هو البديل الحقيقي لأزمة الحضارة الإنسانيّة .

وعندما تأسست الجماعة الإسلامية التونسية كانت مجرّد جماعة ثقافية وفكرية تتحرك من منطلق بعث الشخصية الإسلامية ووضع حدّ للإنسلاب الثقافي والتبعية للغرب وتجديد الفكر الإسلامي , وكانت المنطلقات الثقافية والفكرية تحول دون دعوة هذه الجماعة إلى العنف لأنّها كانت تعتبر معركتها ثقافية بالدرجة الأولى في صراعها مع التيارات العلمانية التي كانت تجرّ تونس إلى دائرة التغريب .

وقد أنعكس تاريخ تونس الخاص على فكر الحركة الإسلامية في تونس من قبيل رفض العنف كأداة للتغيير وتركيز الصراع على أسس شوروية تكون هي أسلوب الحسم في مجالات الفكر والثقافة والسياسة .(1)

وفي مكان أخر يقول الهاشمي الحامدي : ربمّا على العكس ما كان يشتهي البعض لم يدخل الإسلام السياسي الساحة مطالبا بتطبيق الشريعة الإسلامية وتنفيذ الحدود وتعديل قانون الأحوال الشخصية حتى تنهال عليه سهام الدعاية العلمانية التقليدية الممجوجة وإنّما حددّ قادة الحركة الإسلامية ( في تونس ) معركتهم منذ البداية , إنّها معركة الحرية . (2)

ويعترف راشد الغنوشي أنّ الظاهرة الإسلامية في تونس وغداة انطلاقها كانت تخضع لتجاذبات عناصر قد تكون متناقضة وهي التي أدّت إلى توزّع الفكرة الإسلامية على ثلاثة أجنحة . فالعنصر الأول ويتمثل في التديّن التقليدي التونسي ويتكوّن من التقليد المذهبي المالكي والعقائد الأشعرية والتربية الصوفية أو كما صاغها ابن عاشر في عقد الأشعري وفي فقه مالك وفي طريقة جنيد السالك .

والعنصر الثاني ويتمثل في التديّن السلفي الإخواني الوارد من المشرق والذي يتكوّن بدوره من المنهجية السلفية أو الأصولية أي العودة إلى الكتاب والسنة المطهرة أو الرجوع إلى سلطة النص الديني بالاضافة الى الفكر السياسي والاجتماعي و الاخواني القائم على شمولية الإسلام ومبدأ حاكميّة الله وتكفير الأنظمة القائمة ثمّ منهج تربوي ومنهج فكري يميّز كل الأمور بحسب العقيدة وينتهي إلى تصنيف الناس إلى كفّار ومؤمنين حتى في الصراع السياسي . والعنصر الثالث يتمثل في التديّن العقلاني ويتألف من التراث العقلاني الإسلامي وذلك من خلال ردّ الاعتبار إلى المنهج الاعتزالي والمعارضة السياسية في التاريخ الإسلامي كالخوارج والشيعة والزنج والتيارات المناوئة للسلفية وأهل السنة عموما , والنقد الجذري للإخوان المسلمين وإعادة الاعتبار للمدرسة الإصلاحية التي مثلّها محمد عبده و الكواكبي والأفغاني والطهطاوي وقاسم أمين وخير الدين التونسي والطاهر حدّاد .

///////////////////////////////////////////////////////

(1) الحريات العامة في الدولة الإسلامية لراشد الغنوشي. (2) أشواق الحرية الإسلامية : قصة الحركة الإسلامية في تونس للهاشمي الحامدي .

///////////////////////////////////////////////////////

ويرى هذا التيار اعتماد الفهم المقاصدي للإسلام بدل الفهم النصي , كما يرى هذا التيار وجوب ردّ الاعتبار إلى الغرب والاستفادة من اليسار في تنظيماته وثقافته وعلومه الإنسانية وفي مقابل اعتماد التديّن الإخواني المقياس العقيدي في تقسيم الناس إلى كافر ومسلم أعتبر التدينّ العقلاني ذلك تهميشا للصراع الحقيقي , إذ ينبغي أن يقوم التقسيم على أسس سياسية واجتماعية , وطني وخائن, ثوري ورجعي .

وهذه الأجنحة الثلاث التي جاء على ذكرها راشد الغنوشي كانت موجودة داخل الجماعة الإسلامية التي عرفت كل هذه الأفكار والطروحات . فالجماعة الإسلامية التونسية كانت تضمّ عناصر من مختلف المشارب الإسلامية ومختلف الرؤى السائدة في الدائرة الإسلامية .

وكانت الجماعة الإسلامية التونسية تركّز على :

-الدروس الوعظية والحلقات الدراسية في المساجد .

- تكثيف المحاضرات في المعاهد الثانوية والجامعات .

-إقامة معارض للكتاب الإسلامي وما يتخلل ذلك من عقد ندوات وحلقات دراسية .

-المشاركة في مؤتمرات إسلامية داخلية وخارجية كملتقى الفكر الإسلامي الذي كان يعقد سنويّا في الجزائر .

-إقامة صلات ومدّ جسور مع شخصيات إسلامية خارج تونس على قاعدة التواصل الثقافي والفكري .

-تركيز الدعوة في أوساط النساء لإقناعهنّ بارتداء الحجاب وتبنّي الفكر الإسلامي على أساس أنّ المرأة نصف المجتمع وعلى أساس أنّ النظام التونسي عمل المستحيل من أجل تغريب المرأة التونسية.

-نشر المقالات الهادفة والواعية في جرائد الصباح , المعرفة والجيب والفجر في وقت لاحق .

ومن خلال هذه المنابر الإعلامية كانت الجماعة الإسلامية وبعدها حركة الاتجاه الإسلامي تعبّر عن طروحاتها وتفاعلها مع القضايا العامة وموقف الإسلام منها .

وكانت الأدبيات الخاصة بالجماعة الإسلامية في هذه المرحلة ثقافية وفكرية بعيدة عن السجال السياسي . وكانت تحدث إسقاطات على الواقع المعيش , فالغنوشي مثلا وعندما كان يلقي محاضرات عن العلمانية وضررها على المجتمعات الإسلامية كان البعض وخصوصا في دوائر السلطة يفهمون ضمنا أنّه يقصد الحالة التونسية و النظام تحديدا لكنّ الغنوشي لم يكن يسمّي الأشياء بمسمياتها .

وكانت الحلقات الداخلية للجماعة الإسلامية التونسية تركّز على أساليب تفعيل الدعوة الإسلامية وتكثيف التبليغ الإسلامي في مؤسسات التربية والتعليم وإيصال التبليغ الإسلامي إلى القرى والأرياف .

وكان الغنوشي باستمرار يعلن أنّه ضدّ العنف والعنف المضاد وهذا ما جعل السلطة التونسية تغضّ الطرف عن تحركاته , لكنهّا كانت تحصي كل أنفاسه لمعرفة وجهة الغنوشي والى أين يريد أن يصل هذا الرجل .

ولم تكن للجماعة الإسلامية فروع في القرى والأرياف بل كانت هناك شخصيات تونسية إسلامية متعاطفة مع هذه الجماعة وكانت تستقبل الغنوشي بين الفينة والأخرى في بعض الأقاليم التونسية.وأستطاعت الجماعة الإسلامية أن تخرج من تونس العاصمة إلى العديد من المناطق التونسية. و كانت حلقات التشاور والبحث في مستقبل الدعوة الإسلامية في تونس وكيفية تفعيلها تتمّ في البيوت و بعض المساجد , ولأنّها لم تكن تنظيما كباقي التنظيمات فقد كانت الجماعة الإسلامية تعتمد على تبرعات من عناصرها وخصوصا عندما تقام معارض الكتاب الإسلامي , وكان أغلب المنتمين إلى هذه الجماعة يعملون في حقل التربية و التعليم .

وكانت الجماعة الإسلامية على علاقة ببعض الشخصيات والتيارات الإسلامية خارج تونس , وكانت بعض الحلقات الداخلية في هذه الجماعة تعالج التجارب الإسلامية في خط طنجة – جاكرتا . وتمكنّت الجماعة الإسلامية من استقطاب العديد من المثقفين والجامعيين والمعلمين حتى عرفت هذه الجماعة بجماعة النخبة , وربما هذا ما أدّى الى عدم تحوّل الجماعة الإسلامية إلى مدّ جماهيري كما هو شأن الجبهة الإسلامية للإنقاذ وبقية التيارات الإسلامية في الجزائر .

وعن حركة الإسلامية التونسية يقول أحد مؤسسيها راشد الغنوشي أنّ الحركة الإسلامية التونسية لم تظهر في مجتمع بدوي تسوده علاقات الفطرة بل ظهرت في مجتمع أرهقته الحضارة الغربية وفتّ عضده ونخر كيانه تقليد الغرب والجري وراء المظاهر الزائفة من حضارته , لقد خيّل لزعماء البلاد وكلهم إعجاب بالغرب أننّا لن ننضمّ إلى ركب المتحضرين الغربيين حتى نسير سيرتهم في مظاهر حياتهم .

وعلى الرغم من حدّة التغريب والتبعية المفرطة للغرب في تونس ثقافيا واقتصاديا وسياسيا, فقد تمكنت الجماعة الإسلامية من إعادة بعث الشخصية الإسلامية في تونس , وتمكنت هذه الجماعة من تجنيب نفسها معارك جانبية مع السلطة ومع القوى العلمانية الموجودة في الخارطة السياسية التونسية. ونجحت في تكريس القيم الإسلامية في وقت كان فيه لبورقيبة إجتهادات غريبة من قبيل إباحة الإفطار في شهر رمضان على اعتبار أنّ الإفطار يعززّ قوة الإنتاج الاقتصادي والصوم يضعف الإنتاج الاقتصادي , ومن قبيل أنّ الحج يشكّل استنزافا للعملة الصعبة وتونس في حاجة ماسة إلى هذه العملة الصعبة , ولنشر هذه المفاهيم الخاطئة عن الإسلام كانت السلطة التونسية تعيّن مباشرة أئمة المساجد وكانت خطب الجمعة تصاغ في وزارة الشؤون الدينية .

وكانت الجماعة الإسلامية تقوم بعمل موازي حيث كانت تقدم ما أصطلحت على تسميته بالصورة الناصعة للإسلام الحضاري وذلك عبر أسلوب ثقافي وتربوي لا يستفّز السلطة لكن يجعلها في حذر دائم ..

حركة الاتجاه الإسلامي التونسية( 19811989 )

اثر إعلان الحزب الدستوري الحاكم في تونس عن مشروع التعددية السياسية في سنة 1981 بادر أعضاء الجماعة الإسلامية إلى عقد مؤتمر أعلنوا في ختامه عن حلّ الجماعة الإسلامية وتأسيس حركة جديدة باسم حركة الاتجاه الإسلامي ,أنتخب راشد الغنوشي رئيسا للحركة والشيخ عبد الفتّاح مورو أمينا عاما للحركة , وتمّ الإعلان عن الحركة بشكل رسمي في 06-06-1981 وتقدمّت في اليوم نفسه بطلب إلى السلطات للحصول على اعتماد رسمي ولم تتلق الحركة أيّ ردّ من الجهات المعنية .

وفي شهر تموز – يوليو 1981 تمّ إلقاء القبض على راشد الغنوشي و أحيل إلى المحاكمة في العام نفسه مع مجموعة من قيادات حركة الاتجاه الإسلامي بتهمة الانتماء إلى جمعية غير شرعية وحكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات أمضى ثلاث سنوات منها في السجن , وأفرج عنه في 02-08-1984 بعفو رئاسي بعد وساطة من رئيس الحكومة في ذلك الوقت محمد مزالي , وأثناء اعتقاله خلف الغنوشي في قيادة الحركة الفاضل البلدي ثمّ حمادي الجبالي .

وقد عقدت حركة الاتجاه الإسلامي مؤتمرا سريّا في كانون الأول – ديسمبر 1984 جرى فيه تثبيت زعامة الغنوشي وعبد الفتّاح مورو . وفي 06- 06 – 1985 عقدت الحركة مؤتمرا صحفيا كشفت فيه علانية في الذكرى الرابعة لتأسيسها عن كل أوراقها وأسماء أعضاء المكتب السياسي المنتخب . وعندما اندلعت أعمال العنف في تونس ووضعت عدة عبوات ناسفة في فنادق سياحية أعيد اعتقال راشد الغنوشي في أغسطس – آب 1987 بتهمة أنّ له صلة بأحداث العنف والتفجيرات التي عرفتها تونس في ذلك الوقت . و حكمت عليه محكمة أمن الدولة بالسجن المؤبّد وذلك بتهمة تهديد أمن الدولة والتواطؤ مع دولة أجنبية هي إيران .

وفي 15- 05- 1988 أصدر الرئيس زين العابدين بن علي عفوا خاصا عن الغنوشي وذلك بعد وصوله إلى السلطة وانقلابه على الحبيب بورقيبة .

و فكرة تأسيس حركة الإتجاه الإسلامي ذات الطابع السياسي لم تكن محل إجماع بين كل عناصر الجماعة الإسلامية , و حول مستقبل الإتجاه الإسلامي برز اتجاهان الأول يمثله راشد الغنوشي و عبد الفتاح مورو وكان يريان ضرورة المضيّ بالحركة نحو بلورة تنظيم على غرار تنظيم الإخوان المسلمين, والاتجاه الثاني ومن رموزه صلاح الدين الجورشي وأحميدة النيفر وزيّاد كريشان الذين رفضوا النموذج الإخواني و أقترحوا إبقاء الحركة في بوتقتها الفكرية والثقافية , ومن رحم الاتجّاه الثاني تأسسّ ما عرف بالإسلاميين التقدميين.

وكانت هناك مبررات عديدة جعلت الجماعة الإسلامية تخرج من الدائرة الفكرية والى الدائرة السياسية , ومن هذه المبررات :

- نضج الخطاب الإسلامي وبداية اقتناع كوادر الفكرة الإسلامية بضرورة لعب دور في الواقع السياسي التونسي.

- إغراق السلطة التونسية في حالة التبعية وضرورة التصدّي لها من خلال المساهمة في التغيير السياسي .

- تحديّات التيارات والقوى العلمانية والتغريبية.

- التحديات التي عاشها العالم العربي والإسلامي مثل أحداث أفغانستان ولبنان وفلسطين وغيرها . - انتصار الثورة الإسلامية في إيران .

وكل هذه العوامل الداخلية والخارجية أملت على راشد الغنوشي ورفاقه ضرورة تكوين حزب سياسي . وفي حزيران – يونيو 1981 أعلن راشد الغنوشي عن تحويل الجماعة الإسلامية إلى حزب سياسي تحت اسم الاتجاه الإسلامي برئاسة راشد الغنوشي , و عضوية عبد الفتاح مورو الذي أصبح أمينا عاما لحركة الإتجاه الإسلامي , وبن عيسى الدمني مسؤولا عن الاتصالات وحبيب المكني مكلفا عن بالإعلام .

وقد رفضت وزارة الداخلية التونسيةجملة وتفصيلا الترخيص لحركة الاتجاه الإسلامي وللحؤول دون أن تكبر في الواقع السياسي التونسي بادرت إلى اعتقال كل قيادات حركة الاتجاه الإسلامي .

وفي بيانها التأسيسي ركزّت حركة الاتجاه الإسلامي على ضرورة تحصين الشخصية التونسية من الذوبان في إفرازات التغريب ووضع حدّ لحالة التبعية المطلقة للغرب , وإعادة بعث الإسلام الحضاري ليلعب دوره الكامل في الواقع التونسي المتجذّر في عمق الحضارة الإسلامية , والمساهمة في تأسيس كيان تونسي منسجم كل الانسجام مع حضاريّة الإسلام وإعادة توزيع الثروات توزيعا عادلا .

وكانت السلطات التونسية تنظر إلى هذا التنظيم السياسي الجديد بكثير من القلق والحذر خوفا من تكرر التجربة الإيرانية في تونس والتي كان راشد الغنوشي ورفاقه يمدحونها كثيرا ويبدون إعجابهم بها , وكانوا يعلنون جهارا تأييدهم لها , وخوفا أيضا من تكرار التجربة الجزائرية حيث خرجت التنظيمات الإسلامية في الجزائر من قمقمها إلى العمل العلني , وبروز الحركة الإسلامية المسلحة في الجزائر بقيادة مصطفى بويعلي .(1)

وما زاد في قلق السلطات التونسية هو وقوع إنفجارات في بعض الفنادق التونسية, ومعروف أنّ تونس تعتمد بالدرجة الأولى على صناعة السياحة , ولأجل كل ذلك قامت السلطة التونسية باعتقال راشد الغنوشي حيث حدث عندها أول صدام سياسي بين السلطة التونسية وحركة الاتجاه الإسلامي و خصوصا عندما تورطّ بعض الإسلاميين في أعمال عنف اتخذتها الحكومة التونسية ذريعة للقمع والعنف الرسمي , ويورد بورجا صاحب كتاب الإسلام السياسي , صوت الجنوب مشاهد عديدة لبدايات الصدام بين السلطة والإسلاميين في تونس منها ما حدث في الحرم الجامعي في شباط – فبراير 1981 حيث تمّ سجن عميد كلية جامعية وتهديده بالقتل عندما تدخلت الشرطة في الحرم الجامعي و أشتبكت مع الإسلاميين , وكذلك حاول الإسلاميون منع المفطرين في شهر رمضان وتصادموا مع الشرطة في حزيران – يونيو 1981 بعد حريق الباخرة الروسية


(1) أنظر كتاب الحركة الإسلامية المسلحة في الجزائر ليحي أبو زكريا , الصادر عن دار التعارف في بيروت .


التي كان يجري تصليحها في الميناء , وكان المتظاهرون يرفعون شعارات إسلامية , كما وقع تخريب لنوادي القمار في تونس ووقع تصادم بين الإسلاميين والشرطة التونسية في 17 تموز – يوليو 1981 و في اليوم التالي من هذا التاريخ جرى اعتقال راشد الغنوشي زعيم حركة الاتجاه الإسلامي وأمين الحركة العام عبد الفتّاح مورو وعدد من أعضاء المكتب السياسي باستثناء الحبيب المكني وعدد كبير من المتعاطفين مع حركة الاتجاه الإسلامي , وقد صدرت ضدّهم مجموعة من الأحكام تراوحت بين عامين إلى اثني عشر عاما .

وقد تمّ تعيين حمادي الجبالي مسؤولا للمكتب التنفيذي الجديد . وذهب الإسلاميون التقدميون إلى القول بأنّ الجماعة الإسلامية أو حركة الإتجاه الإسلامي لو بقيت على ما كانت عليه وأنصرفت إلى الدعوة الإسلامية بشكل هادئ ومتزن لما تعرضّت الحركة الإسلامية التونسية إلى هذه المحنة , وكانت عناصر من جماعة الإسلاميين التقدميين ترى أنّ المجتمع التونسي لم ينضج بعد لاستيعاب مفاهيم الإسلام السياسي خصوصا وأنّ نهج الحكم العلماني والتغريبي قد خلفّ في تونس أثارا لها أولّ وليس لها أخر على المجتمع التونسي أفضت إلى تشويه الشخصية التونسية.

والجدل الواسع بين الثقافي والسياسي داخل الحركة الإسلامية التونسية وعلى رأسها حركة الاتجاه الإسلامي استمرّ متواصلا إلى وقت لاحق حتى عندما أصبحت حركة الاتجاه الإسلامي تحمل عنوانا جديدا هو حزب النهضة .

وإذا كانت السلطة التونسية قد اتهمّت حركة الاتجاه الإسلامي بالوقوف وراء أعمال العنف , فانّ الحركة الإسلامية التونسية وعلى رأسها حركة الاتجاه الإسلامي كانت تدفع عنها تهمة العنف , ويته راشد الغنوشي السلطة التونسيةبأنها هي صانعة العنف ومهندسته الأسّاسية وفي هذا السيّاق يقول :

أبرز ما يسم علاقة الدولة التابعة بمجتمعها هو علاقة العنف , انّ التغريب في حدّ ذاته هو أبرز و أفدح ألوان العنف الذي تمارسه الدولة , انّه عملية سلخ مجتمع عن أصوله وضميره من أجل ما يسمى بالحداثة وهي في الحقيقة ديكتاتورية الغرب على شعوبنا من خلال وساطة جماعة التحديث والتغريب على النمط الغربي نقيضا كاملا للديموقراطية من كل وجه. (1)

ويكمل الغنوشي الصورة بقوله : فإذا أضفنا إلى هذا القمع الاجتماعي والسياسي الرسمي ما تمارسه بعض فصائل المعارضة بدافع الغيرة والحسد والخوف من تنامي الإتجاه الإسلامي وما تمارسه من دسّ و إيغار للصدور بل من عنف ضدّ كل منافسيها السياسيين الذين أستطاعت بأساليبها الإرهابية أن تصفيّهم تقريبا وتخرجهم من حلبة الصراع حتى إذا جربّت ذلك مع الإتجاه الإسلامي تصدّى لها دفاعا عن الحرية العامة .

ويجزم الغنوشي أنّ حركة الاتجاه الإسلامي كانت ترفض العنف وهذا ما يفسّر وقوف قواعد الاتجاه الاسلامي ضدّ أعمال التخريب التي كان يغذيها شعور الفتيان في المعاهد التعليمية بالحيرة والقلق وغموض المستقبل وديكتاتورية الإدارة كما تغذيها أطراف سياسية داخل النظام وخارجه تتبنىّ العنف منهاجا , وعلى رغم ما أجتهد بعض الحاقدين ممن لا خلاق لهم في إلباس الاتجاه الإسلامي لبوس العنف في الأحداث المدرسية الأخيرة فإنني أؤكد وسيكشف التاريخ ذلك أنّه لولا تصدّي الاتجاه الإسلامي في المدارس لأعمال التخريب لما بقيّ شيئ قابل للكسر أو الحرق لم يكسر ولم يحرق .

ويقول الباحثون الذين تتبعوا مسار الحركة الإسلامية التونسية أنّ الغنوشي كان يرفع شعار الديموقراطية وحقوق الإنسان ونبذ العنف في مرحلة كان يعمل فيها على تكريس حزبه الاتجاه الإسلامي في الواقع السياسي التونسي, ذلك أنّ قواعد اللعبة السياسية كانت تقتضي أن يناور الغنوشي إلى حدّ ما , لكن بعدما تبينّ له أنّ السلطة التونسية لا يمكن على الإطلاق أن تستوعب وجود حركة إسلامية سياسية تتبنىّ المشروع الإسلامي وتحارب التغريب . وبعد انقلاب السلطة الجزائرية على مشروع الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر , بدأ الغنوشي يطلق تصريحات ومواقف تدين كافة الأنظمة , وأخذ يدعو إلى الجهاد على


(1)الحريات العامة في الدولة الإسلامية لراشد الغنوشي , و حركة الاتجاه الإسلامي للغنوشي أيضا .


على المنظومات السياسية القائمة وفي تصريحه لصحيفة الإنقاذ الوطني السودانية قال الغنوشي : والجهاد ضدّ أنظمة الكفر والاستبداد والعشائرية والتجزئة والولاء للأجنبي - وتكاد أنظمة العالم الإسلامي لا تخرج من هذه الأوصاف – فانّ للأمة الإسلامية أن تنهض بمهام الصراع الحضاري والشهادة للمشروع الحضاري الإسلامي , فلا مناص من تركيز الجهد الجماهيري على مجاهدة هذه الأنظمة الخائنة لتعريتها وتوهينها و إرضاخها لسلطة الشعب والإطاحة بها .(1)

وهذا الكلام الذي كررّه راشد الغنوشي في أكثر من مكان وأدلى به لأكثر من منبر إعلامي أخذ يطلقه بعد مغادرته تونس حيث حكم عليه بالسجن المؤبّد .

ويمكن القول أنّ الغنوشي بات مقتنعا أنّ الديموقراطية هي حكر على طبقة سياسية معينة , وفي حال حققّ التيار الإسلامي لأيّ نجاح وعبر القواعد المعترف بها فانّ مصير هذا التيار وعاقبته ستكون على وتيرة ما حدث في الجزائر عندما ألغت الدبابة المشروع الديموقراطي, وعندما أسقطت الدبابة اختيار الشعب الجزائري.


\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\


(1)صحيفة الإنقاذ الوطني السودانية في تاريخ 25-04-1991 .

//////////////////////////////////////////////

المنطلقات الفكرية لحركة الاتجاه الاسلامي

تعتبر حركة الاتجاه الإسلامي جزء لا يتجزأ من الواقع السياسي التونسي وهي وان لم تتمكّن من التحول إلى الرقم الصعب في المعادلة السياسية التونسية, إلاّ أنّها أستطاعت أن تهزّ الواقع السياسي والذي كانت ترسم مساراته ومنحنياته القوى العلمانية والتغريبية .

وعندما تأسست حركة الاتجاه الإسلامي كان المناخ السائد في تونس مناخا تغريبيا تتجلى فيه الأنماط الغربية بكل صورها , وكان مشروع حركة الاتجاه الإسلامي مناقضا لمشروع الحكم والقوى السياسية التي كانت تسبح في فلك السلطة .

وكانت حركة الاتجاه الإسلامي ضدّ العلمانية مع الإسلام الحضاري , ضدّ الظلم مع الدولة العادلة ودولة الإنسان والعدالة , ضدّ الأحادية السياسية مع التعددية السياسية والإعلامية , ضدّ إغراق تونس في التبعية للغرب ومع عودة تونس إلى أصالتها وشخصيتها في نطاق المنطلقات الإسلامية , ضدّ مشروع بورقيبة الذي أغرق تونس في كمّ هائل ولا حدود له من المعضلات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والمعيشية , مع مشروع مغاير هو مشروع دولة الإسلام .

صحيح أنّ الغنوشي لم يكن يطرح هذا الطرح بشكل مباشر إلاّ أنّه وفي خطابات حركة الاتجاه الإسلامي كان يركّز على ضرورة المشروع الإسلامي وجاهزيته لقيادة الأمة .

وفي كتابه الحريات العامة في الدولة الإسلامية يقول راشد الغنوشي : أنّ السلطة وظيفة اجتماعية لحراسة الدين والدنيا والقيمّون على الدولة ليسوا إلاّ موظفين وخدّاما عند الأمة, والسلطة هي مدنيّة على كل وجه لا تختلف عن الديموقراطيات المعاصرة إلاّ من حيث علوية سيادة الشريعة الإسلامية أو التقنين الإلهي على كل سيادة أخرى في هذا النظام , أمّا ما تبقى فهو وسائل يؤخذ بها على قدر مساهمتها في تحسين أداء تلك الوظيفة ألا وهي في دحض الظلم وإقامة العدل على مقتضى الشرع الإلهي أي بحسب ما نصّ عليه أو تضمنّه أو بحسب ما لا يخالفه .

و يتضح من خلال هذا الكلام أنّ راشد الغنوشي كان يملك تصورا لما يجب أن تكون عليه الدولة أو السلطة , وهذا النموذج الذي كان يتحدث عنه مغاير كل المغايرة لما كان سائدا في المنظومة السياسية التونسية, وقد فهمت السلطة التونسية أنّ الغنوشي ومن خلال هذا الطرح إنمّا يعمل على قيادة انقلاب شامل على البورقيبية في أبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية , وأنّه يعمل وحركة الاتجاه الإسلامي من منطلق نسف المنطلقات الإيديولوجية الذي قام عليها نظام الحبيب بورقيبة في تونس , وكانت دوائر القرار في تونس تتخوّف أن يتحوّل هذا الجنين إلى غول خطير يأكل اليابس والأخضر في المستقبل القريب , ومثلما كان لحركة الاتجاه الإسلامي مشروعها في التعاطي مع النظام القائم والمجتمع , كان النظام القائم يملك استراتيجية تعتمد في الراهن على الاستئصال , وفي المستقبل على المجابهة الشاملة …

\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

الأداء السياسي لحركة الاتجاه الاسلامي في تونس

خلال عشر سنوات عملت الجماعة الإسلامية التونسية التي كان يتزعمّها راشد الغنوشي على إعادة بعث الشخصية التونسيةعلى قاعدة الإسلام الحضاري والردّ على المشروع التغريبي العلماني الذي فرضه الحبيب بورقيبة فرضا على المجتمع التونسي, ولم يتطاول بورقيبة على المساجد التي أغلق الكثير منها , وعلى جامع الزيتونة العريق الذي جردّه من كل صلاحياته فحسب , بل تطاول على رسول الإسلام (ص) بقوله : محمد بدوي وأنا " أفوكا " أي أنّ محمدا رسول الله كان بدويّا جاهلا وبورقيبة يحمل شهادة في المحاماة .

وكان الحبيب بورقيبة يلقي خطابات سياسية في شهر رمضان المعظّم ويتعمّد شرب الماء , وكانت المقاهي والمطاعم تعمل بصورة طبيعية في شهر رمضان , وكانت المطاعم التي تغلق أبوابها تتعرّض للملاحقة القضائيّة ,وكان أعضاء في الحزب الدستوري الحاكم بما فيهم الرئيس بورقيبة يقولون : إذا أقفلت المطاعم والمقاهي في شهر رمضان فأين يذهب السيّاح . وحتى مقابر المسلمين لم تسلم من عجرفات بورقيبة حيث أمر بهدم مقابر المسلمين التونسيين في العاصمة التونسيةالتي أصبحت في نظره تزاحم مدينة تونس السياحية , وأقام على المقابر حدائق واسعة . ويعترف بورقيبة أنّه كان متأثرا إلى أبعد الحدود بمصطفى كمال أتاتورك مؤسس الكمالية في تركيا .

وقد كان بورقيبة غريبا عن واقعه التونسي وكأنّه جاء لتوّه إلى تونس من باريس أو لندن ليتولىّ الرئاسة , وحتى العالم العربي والإسلامي لم يكن بورقيبة يعرفه , وكان يتقززّ من شيئ اسمه العالم العربي والإسلامي .

وكان يفترض بالحبيب بورقيبة أن يتعلمّ من الأيّام وأن يعتدل في طرحه العلماني إلاّ أنّه أستمرّ وبلا هوادة في محاربة المقدسات الإسلامية والعناوين الكبرى للعقيدة الإسلامية .

وقد أثبتت السنوات العشر التي قضّاها الغنوشي مع رفاقه في الجماعة الإسلامية

أنّ التغيير يجب أن يتمّ بطريقة أخرى وبديناميكيّة مغايرة مع الإبقاء على حيويّة العامل الثقافي لأنّ الصراع في وجهه الأخر في تونس هو صراع بين العلمانية والإسلام , بين المشروع التغريبي والمشروع الإسلامي , بين أبناء الاستعمار الفرنسي وأبناء تونس العربية والمسلمة .

وفي حلقات التشاور التي كانت تتّم بين الغنوشي ورفاقه كان يجري الحديث عن جدوى الدعوة الإسلامية التي رفعت لواءها الجماعة الإسلامية التونسية, فهذه الأخيرة كلما أقامت لبنة في صرح مشروعها الإسلامي هدمته السلطة من خلال وسائلها الكثيرة والمتنوعة . ومن خلال حلقات التقييم كان الغنوشي ورفاقه يرون أنّ الفكرة الإسلامية وجدت طريقها بشكل ايجابي إلى الجامعات والثانويات والمعاهد التعليمية , وبناء عليه لابدّ من تأطير المؤمنين بالفكر الإسلامي في إطار تنظيم إسلامي سياسي يشرع في تغيير النظام القائم بالطرق السياسية المشروعة , ومن هنا كانت فكرة تنظيم الاتجاه الإسلامي . وكان الغنوشي يريد أن يتخذ من المرحلية سبيلا لأجل تغيير الوضع القائم , ولذلك وأثناء الإعلان عن تشكيل حزب الاتجاه الإسلامي أخذ يبعث برسائل تطمينية إلى النظام التنوسي من قبيل أنّ حركة الاتجاه الإسلامي ضدّ العنف , و سوف تعمل على إثراء الساحة السياسية والثقافية أيضا من خلال مشروعها السياسي المنفتح على القوى السياسية بمختلف توجهاتها .

ولم يكن همّ حركة الاتجاه الإسلامي في البداية هماّ سياسيا بل كان همّا ثقافيّا , وحتى الشخصيات القيادية في حركة الاتجاه الإسلامي كانت شخصيات ثقافية تزاول التعليم والتدريس . ويصعب الحديث عن الأداء السياسي لحركة الاتجاه الإسلامي لأنّه وبمجرّد الإعلان عن تأسيس الحركة اندلعت أعمال عنف قد تكون مفتعلة والغرض منها التمهيد لقصّ جناح حركة الاتجاه الإسلامي , وهو ما جرى بالفعل حيث تمّ اعتقال الغنوشي ورفاقه . وقبل تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي انعقدت العديد من الاجتماعات بين قيادييها تمّ وضع هيكلية للتنظيم حيث تقررّ أن يكون هناك مكتب سياسي له صلاحية اتخاذ القرار بالشورى على قاعدة " وأمرهم شورى بينهم " , وتقررّ أن يتمّ تشكيل فروع في كافة المناطق التونسية, وإجراء انتخابات داخلية لانتخاب الرئيس والأمين العام ورؤساء المكاتب التنفيذية في مختلف المناطق التونسية. والأمر الذي أخاف السلطة التونسيةإلى أبعد الحدود هو إشادة الغنوشي بزعيم الثورة الإسلامية في إيران الإمام الخميني رحمه الله , حيث كثرت الإجتهادات السلطويّة حول وجود علاقة بين حركة الاتجاه الإسلامي والثورة الإسلامية في إيران خصوصا بعدما ترددّ أنّ بعض قادة الاتجاه الإسلامي التقوا بالإمام الخميني في منفاه الباريسي في ضاحية نوفيل لوشاتو الفرنسية .

وكانت محكمة أمن الدولة التونسية قد وجهّت اتهاما الى قادة حركة الاتجاه الإسلامي وهو تواطؤهم مع إيران . وبسبب اعتقال قادة هذه الحركة عاشت فراغا كبيرا , وصحيح أنّها لم تتمكن من الحصول على ترخيص رسمي والعمل بشكل علني إلاّ أنّها واصلت في السرّ تنظيم الخلايا وتشكيل مكاتب للشورى في المحافظات التونسية.

و قد حاول الفاضل الجبالي أن يصون حركة الاتجاه الإسلامي من الانحراف عن خطّها السياسي بعدما تولى قيادتها خلفا للغنوشي ورفاقه المعتقلين , ويشبه دوره كثيرا الدور الذي قام به المهندس عبد القادر حشاني رئيس المكتب التنفيذي المؤقت للجبهة الإسلامية للإنقاذ عقب اعتقال زعيم الجبهة الدكتور عباسي مدني . وقد تمكنّ الجبالي من صيانة هذا التنظيم من خروقات السلطة الى درجة أنّه وعندما تحولّت حركة الاتجاه الإسلامي إلى حزب النهضة في سنة 1988 كانت عملية الانتقال سهلة ووجد الغنوشي غداة خروجه من السجن البناء كما هو .

ويذهب بعض الباحثين الى القول أنّ تمحور الحركة الإسلامية التونسية حول شخصية راشد الغنوشي حال دون تقدمها ودون تحولها إلى حركة مؤسسات قوية , وهذا ما يفسّر السقوط السريع لكثير من الحركات الإسلامية المغاربية التي نشأت حول شخصيات محورية , على غرار تنظيم الإخوان المسلمين في مصر الذي كان محورهم حسن البنا , وفي نفس السيّاق راشد الغنوشي في حركة النهضة وعباسي مدني في الجبهة الإسلامية للإنقاذ وعبد السلام ياسين في جمعية العدل والإحسان , لكن وجهة النظر هذه صدرت من باحثين لا يفقهون كثيرا معنى أن يسخرّ الإنسان نفسه لخدمة المشروع الحضاري للأمة .

وفي الهيكلية التنظيمية كانت حركة الاتجاه الإسلامي متأثرة بصفة عامة بالهيكلية الإخوانية وأقامت بناها التنظيمية على وتيرة المسلكية التنظيمية للإخوان , وحتى التسميات من قبيل المكتب التنفيذي أو الوطني ومجلس الشورى والمكتب الولائي كلها كانت تسميات إخوانية خالصة .

" وارتباط التجارب الأولى للجماعات الإسلامية المغاربية بالإخوان المسلمين وتجربتهم في المشرق العربي كانت تتعدى التأثر الواضح بأفكار القادة الأساسيين للإخوان وخصوصا حسن البنا وسيد قطب وحسن الهضيبي لتمتد إلى التجربة التنظيمية وأساليب العمل وكذلك المظهر العام الذي أخذ يكرّس شكلا معروفا للمنتمين إلى الجماعات الإسلامية وكل ذلك كرسّ أقوالا ونصوصا وممارسات تحفظها الحركة الإسلامية المغاربية " .

وعلى نمط عمل حسن البنا زعيم تنظيم الإخوان المسلمين انطلق راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو في نشاطهما وأخذ على عاتقهما وهي بعث الشخصية التونسية وتجديد الفكر الإسلامي في ضوء أصول الإسلام الثابتة ومقتضيات الحياة المتطورة وتنقيته من الرواسب والانحطاط وأثار التغريب وإعادة بناء الحياة الاقتصادية على أسس إنسانيّة والمساهمة في بعث الكيان السياسي والحضاري للإسلام على المستوى المحلي والمغاربي والعربي والعالمي .

والسبب المركزي في تحوّل حركة الاتجاه الإسلامي من النشاط الفكري والى النشاط السياسي أي من الجماعة الإسلامية ذات الطابع الثقافي والى الاتجاه الإسلامي ذات الطابع السياسي هو انتصار الثورة الإيرانية .

ويعترف راشد الغنوشي أنّ الثورة الإسلامية في إيران قد أملت عليه أن يجري مراجعات جذرية في طريقة تفعيل عمله السياسي , بل إنّ الثورة الإسلامية جعلته يراجع بشكل واسع منطلقاته الفكرية وخططه وعن هذه الفترة قال راشد الغنوشي :

قامت الحركة الإسلامية في تونس بمراجعات في الفكر والمنهج أفضت إلى جملة من التوجهات تقوم على تأصيل الحرية والديموقراطية كمدخل لإصلاح المجتمع , مدخل يرسي أساس المواطنة في الدولة كأساس للقبول بهذا الأساس الديموقراطي , ومشروع الحركة السياسية هو مشروع مجتمع مدني يقوم على التعددية السياسية والثقافية والانتصار للفئات الضعيفة والمحرومة.

والحركة الإسلامية التونسيةالتي انطلقت بعنوان الجماعة الإسلامية فحركة الاتجاه الإسلامي فحركة النهضة قد مرّت بالعديد من التحولات الفكرية والتنظيمية .

فعلى صعيد الفكر حدثت قراءة لمجمل أفكار سيّد قطب وحسن البنا وأبو الأعلى المودودي ومالك بن نبي , ووقع انفتاح على كتابات منظرّي الثورة الإيرانية مرتضى مطهري وعلي شريعتي والمفكر و العالم العراقي محمد باقر الصدر .

كما أعاد راشد الغنوشي قراءته للمشروع الديموقراطي والعنف السائد في البلاد العربية والإسلامية . ومن وحي هذه القراءات تأسسّت حركة النهضة الجديدة التي باتت تعترف بالأخر وتقرّ بالتعددية السياسية والإعلاميّة وتقبل قواعد اللعبة الديموقراطية .وهذه التحولات الواضحة للحركة الاسلامية التونسية تحمل بصمات راشد الغنوشي الذي أمعن فيما مضى في قراءات متشعبة للفكر اليساري والناصري والقومي والبعثي قبل أن ينفتح على الفكر الإسلامي في كل أبعاده .

حركة الإتجاه الاسلامي والعنف

لم يكن في نيّة مؤسس حركة الاتجاه الإسلامي راشد الغنوشي أن تكون حركته حركة ثورية تغيّر الواقع العلماني في تونس عن طريق الحتميّة الثورية , وإعجاب الغنوشي بمشروع الثورة الإيرانية هو إعجاب بمشروع الثورة بشكل عام , وإذا الظروف سنحت لهذه الثورة أن تنتصر في أرض فارس , فقد لا تسنح الظروف لأن تنتصر ثورة مماثلة في حقول جغرافية أخرى .

وعندما أسسّ الغنوشي ورفاقه حركة الاتجاه الإسلامي كانوا حريصين على أن تطرح الحركة مشروعها برويّة وحنكة وذكاء خصوصا في خضمّ واقع سياسي وثقافي معقّد كالواقع التونسي.

وأعمال العنف التي واكبت تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي قام بها أفراد متعاطفون مع التيّار الإسلامي ولم تصدر إليهم أوامر من قيادة الاتجاه الإسلامي بالتحرك لتغيير الواقع بقوة .

والذين كتبوا عن حركة الاتجاه الإسلامي ومنهم الهاشمي الحامدي في كتابه أشواق الحرية : قصة الحركة الإسلامية في تونس يقول أنّ حركة الاتجاه الإسلامي تجاهلت طرح حتى الثوابت التي تؤمن بها من قبيل تطبيق الشريعة الإسلامية وتنفيذ الحدود وتعديل قانون الأحوال الشخصية , بل انطلقت في عملها السياسي بشكل هادئ ومتزّن . وبما أنّ الواقع الثقافي التونسيكان مشوهّا تابعا فانّ حركة الاتجاه الإسلامي قامت لتغيير هذا الواقع بالدرجة الأولى وتصحيح المفاهيم حول الإسلام الحضاري .

وفي نظر بعض الباحثين فانّ السلطة التونسية حاولت استدراج حركة الاتجاه الإسلامي إلى حلبة العنف لتتمكنّ من إعداد كافة الذرائع والتبريرات للشروع في استئصالها .

فالسلطة التونسية بعدم منحها الترخيص القانوني لحركة الاتجاه الإسلامي كانت تعمل على استفزازها علما أنّ السلطة هي التي أقرّت مشروع التعددية الحزبية .

وكانت كتابات راشد الغنوشي في مجلات حركته هادئة تناقش الواقع السياسي بكثير من الحكمة دون تصعيد للموقف , وحتى الإشادة بالثورة الإيرانية كانت موضوعية لا انفعال فيها ولا حماس . وكثيرا ما كان الغنوشي في كتاباته يسعي للتوفيق بين الإلهي والإنساني .

" ونستطيع أن نجازف بالقول أنّ الكتابات الإسلامية التونسية تبحث عن إنسانية إسلامية إن جاز القول بإمكانية بروز الإنسانية بالمعنى المتداول داخل أيّ نسق أو بناء ديني يقوم على مقولة مثل الحاكمية لله , وهذه هي المحاولة الأولى للتوفيق بيت الإلهي والإنساني , ويظهر التأثير المعتزلي في فهم الإرادة الإنسانية أو دور الإنسان ووظيفته في الوجود ونظرته إلى الكون ووسائله في الإدراك والمعرفة وهذا ما أنطلقت منه رسالة الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي التي أجازتها الحركة الإسلامية التونسية في مؤتمر عام .

وتكشف المنطلقات العقائدية التي انطلقت منها حركة الاتجاه الإسلامي أنّ هذه الحركة لا تؤمن بالعنف , لا على سبيل الحكم الواقعي ولا على سبيل الحكم الثانوي , فالتغيير عندها يجب أن يتمّ وفق أسس كونية واجتماعية تضمنتها سنن التاريخ وحركته , وهذا لا يعني أن فريضة الجهاد ساقطة , لا بل لها مصاديقها ومناخاتها وضروراتها أيضا .

والانفتاح على الأخر كانت من سمة حركة الاتجاه الإسلامي إلى درجة أنّ أدبيّات الحركة كانت غنيّة بموضوعات الديموقراطية والمرأة والعلاقة مع الغرب والتركيز على هذه المضامين كان الأبرز بالمقارنة مع مضامين من قبيل تطبيق الشريعة الإسلامية والقوانين الإسلامية وإسلامية المجتمع أو جاهليته .

وفي هذه السياق قال راشد الغنوشي : لقد كانت قضية الحريات العامة في الدولة الإسلامية الهمّ الأعظم الذي أستبدّ بي منذ بدايات الحركة الإسلامية في تونس من مرحلة الدعوة لمبادئ الإسلام في مواجهة الثقافة الوافدة المهيمنة إلى مرحلة التفاعل الواسع مع هموم المجتمع التونسي والعربي عامة أي منذ أكثر من عشر سنوات , وكان أهمها قضية الحرية ولا تزال , فقد كان تقديم إجابات واضحة عن التحديّات المطروحة على الفكر الإسلامي في بلد مثل تونس قد ضرب بسهم وافر في التغريب والثقافة ضرورة معرفية لا بديل عنها للحركة الإسلامية فيها .


وعندما تأسسّت حركة الاتجاه الإسلامي أعلن راشد الغنوشي أنّه يقبل بقواعد اللعبة الديموقراطية وهو يعتبر سلطة الشيوعيين شرعية إذا وصلوا إلى الحكم بالوسائل الديموقراطية و الشرعية , وحتى الكتّاب الغربيين ومنهم صاحب كتاب الإسلام السياسي الباحث الفرنس بورجا إعترف أنّ راشد الغنوشي هو أوّل مناضل أصولي يعترف بقبول اللعبة الديموقراطية حتى لو أدّت إلى فوز أشرس خصوم الغنوشي أي الشيوعيين .

ويعتبر الغنوشي أنّ الديموقراطية لها سند في النصوص الشرعية وهي الشورى بآليّة أخرى إلاّ أنّ الغنوشي لا يعطي مفهوما واضحا عن الشورى وهل هي عينها الديموقراطية الغربية.

والإقرار بقواعد اللعبة الديموقراطية لا تعني أنّ الغنوشي كان قد تخلّى عن مبدأ إقامة الدولة الإسلامية في تونس بل يعتبر ذلك فرضا على كل مسلم , والشرعية في النظام الإسلامي كما يقول الغنوشي هي في الالتزام الكامل بالحكم بما أنزل الله أو القبول الكامل بالاحتكام إلى شرع الله ..

وعلى رغم اهتمام الغنوشي بالمفاهيم والتعريفات على خلفيّة تكوينه الأكاديمي , إلاّ أنّه لم يقدم مفهوما واضحا عن الديموقراطية التي يقول عنها أنّها مفهوم إجمالي يتسّع لأشدّ الأنظمة تناقضا .

وبناءا عليه اتهمّت بعض القوى العلمانية والتغريبية في تونس راشد الغنوشي بأنّه مجرّد مناور ومداهن يريد استخدام الوسائل الديموقراطية لإقامة نظام أصولي على الطراز الإيراني , وأنّ الغنوشي برز بهذا الطرح الديموقراطي واحترام قواعد اللعبة ليتسنى له ممارسة العمل السياسي وإعداد العدّة للانقضاض على الحكم ,وهذا ما عملت محكمة أمن الدولة على تأكيده رغم أنّها لم تكن تملك أيّ أدلة ضدّ راشد الغنوشي ورفاقه الذين كان ذنبهم الوحيد هو تأسيس حركة تدعو إلى إسلامية وعروبة تونس . وهو ما أعتبرته دوائر تونسية بأنّه خروج عن القانون كما أعتبرت مؤسسي حركة الاتجاه الإسلامي هم مجرّد خارجين عن القانون وينتمون إلى جمعية ذات طابع سياسي غير قانونية, وكأنّ الديموقراطية خلقت فقط للعلمانيين والتغريبيين .

ولم تكن هذه مسلكيّة نظام بورقيبة مع حركة الاتجاه الإسلامي ومؤسسيها فحسب بل انّ لعنة النظام لاحقت الغنوشي ورفاقه حتى بعد الإطاحة الهادئة بحكم الرئيس الحبيب بورقيبة, وعلى الرغم من أنّ راشد الغنوشي بارك حكم الرئيس زين العابدين بن علي وأعتبر نظامه تجديديّا وضروريا لنهضة تونس وبناء الديموقراطية إلاّ أنّه جرى اعتقاله مجددا في عهد زين العابدين بن علي , ورغم أنّ الغنوشي ولدى حلّه لحركة الاتجاه الإسلامي وتأسيسه لحركة النهضة فضلّ أن لا يكون الإسلام عنوانا لاسم حركته الجديدة إلاّ أنّ الدوائر التونسية أستمرّت تعتبره ذلك الرجعي الظلامي التوليتاري الخطر على الحداثة والتنوير والتغريب .

ورغم أن حركة النهضة التي تأسسّت سنة 1988 قامت بتكييف نفسها مع الواقع السياسي الجديد إلاّ أنّها لم تحصل على الترخيص أبدا , وأستمرّ الصدام بينها وبين السلطة. وقد أصدرت حركة النهضة في هذه المرحلة جريدة الفجر وحاولت أن تدحض عن نفسها كل الشبهات والاتهامات إلاّ أنّ السلطة التونسية كانت تصّر على أن حزب النهضة غير شرعي ويعمل على قلب نظام الحكم .

ولم يتحمّل قياديون في حركة النهضة هذه المحنة فغادر حركة النهضة عبد الفتّاح مورو عقب خلاف كبير مع راشد الغنوشي كما إستقال من الحركة كوادر قياديون منهم الهاشمي الحامدي و أستطاعت السلطة بوسائلها وإغراءاتها أن تستميل عناصر قيادية من حركة النهضة إليها , وفي أواخر الثمانينيات بدأت حركة النهضة تتعرض لهزات تنظيمية وسياسية وكان للسلطة يد طولى في ذلك , وبدأت هذه الحركة من جهتها تستعدّ للاستقرار في المنفى و تحاول إعادة بناء نفسها ..

حركة النهضة والحركات الاسلامية الأخرى

عندما غادر راشد الغنوشي السجن بعفو من الرئيس التونسي زين العابدين بن علي أشرف على إحداث تغيير جذري على حركة الاتجاه الإسلامي وتمثلّ هذا التغيير في تحويل هذه الحركة إلى حزب النهضة , وصدرت التعليمات إلى مختلف الولايات والمحافظات بأنّ حزب النهضة الجديد هو حزب سياسي يملك استراتيجية جديدة وتكتيكا مختلفا عما كانت عليه حركة الاتجاه الإسلامي , وأصدرت حركة النهضة جريدة الفجر لتكون الناطق الإعلامي والسياسي باسم حركة النهضة .

وفي سنة 1989 بعد سنة واحدة من إطلاق سراح راشد الغنوشي عصفت الخلافات الداخليّة بحركة النهضة و أضطرّ العديد من قيادييها إلى تقديم استقالتهم , وقد نجحت السلطة التونسية في استقطاب العديد من القياديين في حركة النهضة تماما كما نجحت السلطة الجزائرية في استقطاب عناصر قيادية في الجبهة الإسلامية للإنقاذ والذين أصبح بعضهم وزراء مثل سعيد قشي و أحمد مراني حيث أصبح سعيد قشي وزيرا للتشغيل وأحمد مراني وزيرا للشؤون الدينية في وقت كان فيه عباسي مدني وعلي بلحاج في سجن البليدة العسكري .

وبين 19891992 اندلعت في تونس أعمال عنف جرى إثرها اعتقال العديد من القياديين في حركة النهضة ومنهم حمّادي الجبالي رئيس تحرير جريدة الفجر الإسلامية وحكمت عليه المحكمة بالسجن لمدّة 15 سنة وكان الجبالي بالإضافة الى تولّيه رئاسة تحرير جريدة الفجر عضوا في المكتب السياسي لحركة النهضة . أمّا راشد الغنوشي فقد حكمت عليه محكمة أمن الدولة بالسجن المؤبّد في 28 –08-1992 . وبعد إطلاق سراحه بعفو رئاسي خاص غادر تونس وتوجّه إلى الجزائر حيث واكب تطورات الساحة السياسية في الجزائر منذ تأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أيلول – سبتمبر 1989 , وكانت الحكومة التونسية تطالب برأسه وأوفدت لهذا الغرض مسؤولين تونسيين رفيعي المستوى لاسترداده من الجزائر بحجّة أنّ هناك حكما قضائيّا صدر بحقّه في تونس ولم ينجح هؤلاء المسؤولون في إقناع نظرائهم الجزائريين بضرورة استرداده .

وعندما تمّ اعتقال قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في 30 حزيران – يونيو 1991 طلبت السلطات الجزائرية من راشد الغنوشي أن يغادر الجزائر فتوجّه إلى السودان ومنها إلى بريطانيا حيث حصل على اللجوء السياسي وبات يقيم في العاصمة البريطانية لندن .

وفي منفاه الجديد حاول أن يعيد ترتيب البيت النهضوي فنجح إلى حدّ ما في الحفاظ على الإطار السياسي للحركة الإسلامية التونسية – النهضة – وأخذ يصدر البيانات تباعا تعليقا على مستجدات الأحداث والتطورات السياسية في تونس .

و أستمرّت جريدة الفجر التابعة لحركة النهضة في الصدور من العاصمة القبرصيّة نيقوسيا ثمّ توقفّت لأسباب مادية فيما يبدو .

وفي بريطانيا عكف الغنوشي على إيصال صدى الحركة الإسلامية التونسية إلى مختلف المعنيين بهذا الشأن الإسلامي وشارك في العديد من المؤتمرات والندوات التي تعقد في بعض المناطق العربية والإسلامية . وبسبب انتقال حركة النهضة إلى المنفى فقد فقدت الكثير من فعّاليتها السياسية وبات عملها يقتصر على إصدار البيانات , وحتى هذه البيانات الورقية راحت تقلق السلطات التونسية التي طالبت مرارا و بشكل رسمي من السلطات البريطانية وضع حدّ لنشاطات الغنوشي , وكان ردّ الحكومة البريطانيّة أنّ الغنوشي لم يخرق القوانين المعمول بها في بريطانيا .

\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

ومن رحم حركة النهضة انبثقت تيارات إسلامية برؤى أخرى , كما أنّ خارطة الحركة الإسلامية التونسية كانت متعددة التوجهات , وأهم هذه الحركات هي :

الإسلاميون التقدميون

الإسلاميون التقدميون تيار إسلامي عقلاني الاتجاه , إشتغل في أوساط الجماعة الإسلامية منذ بداية السبعينيات في المساجد والجامعات والمعاهد التربوية , وعندما قررّ راشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو تحويل الجماعة الإسلامية إلى حركة الاتجاه الإسلامي في بداية الثمانينيات , عارض الإسلاميون التقدميون وعلى رأسهم أحميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي وزيّاد كريشان وأصرّوا على الاستمرار في خطهم الإسلامي ضمن رؤيتهم الثقافية والفكرية والعقلانية .

وكان هذا التيار يحمل في بدايته على ما يسمى بمذهب السلف الصالح وأقطاب السلفية القدامى والمعاصرين وأعتمد على مقولة اليسار الإسلامي , وكان هذا التيار يركّز على العقل أكثر من تركيزه على النص , وحمل الإسلاميون التقدميون على عاتقهم فكرة تجديد الإسلام وطرح كل الأشواب التي علقت به الفقهية والعقائدية والأصولية وغيرها , وذهبت هذه الجماعة إلى حدّ القول بجواز تعطيل الثوابت عندما تكون هناك ضرورة إلى ذلك .

وفي كتاب المقدمات النظرية للإسلاميين التقدميين : لماذا الإسلام , وكيف نفهمه ؟ نجد ما يلي : تبدو مجموعة الإسلاميين التقدميين أقرب إلى ما يسمى داخل الحركات الإسلامية عموما بالاتجاه التربوي أي القائلين بأسبقية تربية أفراد المجتمع الإسلامي على تجنيدهم وتجييشهم سياسيا , لهذا السبب ولخصوصيّة المسألة الثقافية في تونس كان طرح الإسلاميين التقدميين .

وكان الجورشي وهو من رموز هذا التيّار يطالب بثورة ثقافية لأنّها تمثّل عنصرا جوهريّا في إعادة بناء وعي المجتمع و أن تتمّ بعد ذلك عملية إعادة هيكلة المجتمع .

ويتساءل الجورشي عن أيّهما حدث في بداية الأمر : الدولة أو المجتمع ؟

وقد أتجّه الإسلاميون التقدميون نحو ثورتهم الثقافية من خلال فهم جديد للدين , وفي نظر أحد أقطاب هذا التيار أحميدة النيفر فانّ المسألة السياسية مسألة هامة ولكنّها لم تعد لها الأولويّة أصبحت مشكلة إعادة قراءة الفكر الديني هي التي تحتّل المركز الأول . ويحددّ الإسلاميون التقدميون منهجهم في التجديد الثقافي والإسلامي باعتماد العقل وسيلة في فهم النصوص المقدسّة من كتاب وسنّة دون الوقوع في الحرفيّة أو النصيّة , ويعتمدون على الاجتهاد كمنهج نحو تحقيق التجديد المنشود .

وكان الإسلاميون التقدميّون يتحركون في الوسط الجامعي ,كانوا يركزّون بالدرجة الأولى على النخبة لأنّ هذه النخبة بيدها تغيير مناحي الحياة .

حزب التحرير الاسلامي التونسي

ظهر حزب التحرير الإسلامي في تونس نتيجة نشاط العديد من المؤمنين بفكرة حزب التحرير المشرقي المولد والذين كانوا على مدار سنوات منخرطين في حزب التحرير الإسلامي , وقد عقد الاجتماع التأسيسي للحزب في كانون الثاني – يناير 1983 , وكان هذا الحزب يخططّ للاستيلاء على السلطة ومن تمّ إعادة تأسيس الخلافة الإسلامية وذلك من خلال وسائل وطرق تبنّاها الحزب في دستوره العام . و قد تمّ اعتقال وملاحقة معظم قياديي حزب التحرير وبينهم عدد من العسكريين في النصف الثاني سنة 1983 بتهمة تشكيل جمعية سياسي والانتساب إليها وحضور اجتماعاتها وتحريض عسكريين على الانتساب إلى هذه الجمعية وأصدرت المحكمة العسكرية أحكاما بالسجن على عدد من قادة الحزب وكادراته وبينهم محمد جربي زعيم حزب التحرير في تونس . وفي آذار – مارس 1990 تمّ تقديم مجموعة جديدة من أعضاء الحزب إلى المحاكمة بتهمة توزيع منشورات في المساجد .

وتولّت قيادة الحزب مجموعة مدنيّة – عسكرية بالتوافق فيما بينها ومن رموزها الطاهر العيادي ومحمد فاضل شطارة ومحمد جربي , وكان حزب التحرير الإسلامي يصدر نشرة سريّة بعنوان : الخلافة . وقد ربطت السلطات التونسية عدة مرات بين نشاطات الحزب ومحاولات انقلابيّة فاشلة لإسقاط السلطة في تونس وأهمها ما حدث عام 1983 وعام 1986 , وكانت السلطات التونسية تتوجّس خيفة من تغلغل هذا الحزب داخل المؤسسة العسكرية , وكانت استراتيجية حزب التحرير تنصّ على غرس أكبر قدر ممكن من العناصر داخل الجيش التونسي, لتتمكنّ في نهاية المطاف مجموعة من الضبّاط الإسلاميين من الانقضاض على السلطة من الداخل , وقد نجح الحزب في استقطاب عشرات العسكريين الذين كانوا يمدّون الحزب بالدخائر الحربية والأسلحة الخفيفة , وتمّت تصفية هذا الحزب في وقت مبكر من تاريخ الحركة الإسلامية التونسية.


طلائع الفداء

طلائع الفداء مجموعة إسلامية مسلحة يتزعمها محمد حبيب الأسود وقد جرى الكشف عنها في عام 1987 عندما اتهمّتها السلطات التونسية بالتخطيط لقلب نظام الحكم وإقامة دولة إسلامية , وبعد توليّ زين العابدين رئاسة الدولة التونسية صدرت قرارات بالعفو عن معتقلي المجموعة وتمّ إطلاق سراحهم .

مستقبل الحركات الاسلامية في المغرب العربي

هل للحركات الإسلامية مستقبل سياسي في المغرب العربي ؟ وهل ستتمكن هذه الحركات من تحقيق هدفها المركزي المتمثل في إقامة الدولة الإسلامية ؟

وهل ستستفيد من التجارب السياسية الراهنة والسابقة وتنخرط في اللعبة السياسية شأنها شأن كل القوى السياسية الأخرى ؟ وهل ستظل محظورة لا يسمح لها بالعمل السياسي لأنّ الدساتير المغاربية تحظر قيام أحزاب على أساس ديني ؟

هذه الأسئلة وغيرها تتردد في العديد من مراكز الدراسات الاستراتيجية ودوائر القرار . وقبل معرفة تفاصيل الأجوبة لابدّ من الإشارة إلى أنّ كل حركة إسلامية في المغرب العربي لها خصائصها ومناخاتها السياسية .

فالحركة الإسلامية الليبية تختلف عن الحركة الإسلامية الجزائرية وهذه الحركة تختلف عن الحركة الإسلامية التونسيةوهكذا دواليك . فلكل حركة إسلاميّة في كل أقليم مغاربي ظروفها الخاصة وخصائصها ومميزاتها الفكرية والإيديولوجية وحتى الخصائص المكانيّة تلعب دورا كبيرا في رسم مسار هذه الحركة وتلك .

صحيح أنّه يجمع بين الحركات الإسلامية المغاربية قاسم مشترك واحد وهو العمل على إقامة الدولة الإسلامية إلاّ أنّ الاختلاف ضارب أطنابه فيما بينها من الناحية المسلكية السياسية والطرق المتبّعة لتحقيق هذا الهدف , فبعض الحركات الإسلامية في المغرب العربي ترى وجوب تحقيق هذا الهدف راهنا وليس مستقبلا , فيما ترى أخرى ضرورة نهج المرحلية لتحقيق هذا الهدف . ولمزيد من التفاصيل لابدّ من تسليط الضوء على مسار كل حركة إسلامية على حدا وقد يساهم معرفة خطها السياسي في إستكناه مستقبلها !

فالجزائر على سبيل المثال تمكنّت الحركة الإسلامية فيها من تحقيق إنجازين مهمين في الانتخابات البلدية في 12 حزيران – يونيو 1990 , وفي الانتخابات الإشتراعية في 26 كانون الأول – 1991 وحققت هذين الإنجازين بدون عنف بل كانت منخرطة في اللعبة السياسية واستجابت لقواعد اللعبة , غير أنّ نصرها السياسي هذا سرعان ما صادرته المؤسسة العسكرية الجزائرية بدباباتها وألغى خيار الدبابة خيار الشعب .

وبعد إلغاء الانتخابات الإشتراعيّة تشكلّت فصائل مسلحة وأخذت تخوض حربا على السلطة الجزائرية ورفعت شعار الكفاح المسلّح حتى إسقاط النظام وإقامة الدولة الإسلامية.

ويمكن القول أنّ الأحداث الدموية الجزائرية أفرزت تيارين إسلاميين :

التيار الأول يؤمن بالإسلام السياسي والمشروع الإسلامي والدولة الإسلامية لكن يعمل على تحقيق هذه الأهداف من خلال المنافسة السياسية ومن خلال اللعبة الديموقراطية ودون إقصاء أيّ طرف .

والتيار الثاني يؤمن بالعمل المسلّح لإقامة الدولة الإسلامية ويرى هذا التيار أنّ السلطة الجزائرية هي التي بدأت بالعنف وصادرت النصر السياسي الذي حققّته الجبهة الإسلامية للإنقاذ .

والدولة الجزائرية في تعاملها مع هذين التيارين تقبل بالأول لاعتداله وتسمح له بالعمل السياسي في نطاق ضيّق , وتجابه التيّار الثاني باعتبار أنّه يعمل على تقويض الدولة الجزائرية ولم يتمكن التيّار المسلح من تحقيق ما كان يصبو إليه , كما أنّ السلطة الجزائرية لم تتمكن من استئصاله بالكامل .

ووصول التيار الإسلامي المسلح إلى طريق مسدود وعدم تمكنّه من قلب نظام الحكم لا يعني أنّ التيّار الإسلامي لا يتمتّع بالقوة السياسية في الشارع الجزائري, بل إنّ الإسلام السياسي المعتدل ما زال حاضرا بقوة في كل مجالات الحياة الجزائرية .

وسوف لن يكون في وسع هذا التيار تغيير الوضع رأسا على عقب في الجزائر ,لأنّ القوانين التي وضعتها السلطة الجزائرية والاستراتيجية الموضوعة ستجعل الإسلاميين الذين ينطلقون في عملهم السياسي من القوانين المصاغة لن يحققوا الأغلبية على الإطلاق .

أمّا في تونس فمنذ وصول الرئيس زين العابدين بن علي إلى السلطة وهو يتبّع سياسة الاستئصال مع الحركة الإسلامية التونسية ولم يسمح لها بالتنفّس , ولاحق عناصرها وراء كل حجر ومدر وسخرّ كل وسائل الإعلام للتهجّم على هذه الحركة .

والقانون التونسي صريح في حظره قيّام أحزاب على أساس ديني , والمحن التي لحقت بحركة النهضة جعلتها مهيضة الجناح وخصوصا عندما بدأ أقرب الناس إليها يتخلون عنها. ولن يكون بوسع التيار الإسلامي التونسي أن يعاود نشاطه السياسي في الواقع التونسي, وخصوصا في ظل التوافق الأمني والإستخباراتي بين الدول المغاربية حول ضرورة توحيد الجهود لمواجهة التيارات الإسلامية .

والتياّر الإسلامي التونسي الذي انتهى في الداخل بفعل القمع والتعذيب قد يعاود النهوض اذا أعاد رسم استراتيجية جديدة , وفي حال حققت التيارات الإسلامية أي انتصار في بقية الأقطار المغاربية . أمّا نشاطات الحركة الإسلامية في الخارج فهي محدودة وتقتصر على إصدار البيانات والكرّاسات المضادة للنظام التونسي.

والمفارقة بين الحركة الإسلامية الجزائرية والحركة الإسلامية التونسية أنّ الأولى تملك قاعدة جماهيرية وامتدادا شعبيّا فيما الثانية لا تملك نفس هذه القاعدة .

أمّا في المغرب فالحركة الإسلامية المغربية تملك هامشا للمناورة وبإمكانها تكييف نفسها مع أجواء التعددية السياسية السائدة في المغرب . وإذا تجنبّت هذه الحركة الخطاب الثوري وانفتحت على التيارات السياسية الأخرى فبإمكانها أن تجد مكانها الطبيعي في الخارطة السياسية المغربية .

ولجوء جمعية العدل والإحسان بقيادة عبد السلام ياسين إلى العمل الفكري والثقافي والحضاري وتجنبّها الدخول في صراعات جانبيّة مع القوى الأخرى قد يتيح لها تكريس نفسها في الواقع السياسي المغربي . أمّا في ليبيا فانّ التيار الإسلامي غير مسموح له بالعمل السياسي ولذلك لجأ رأسا إلى العمل العسكري في ظلّ أحاديّة الكتاب الأخضر , وتحاول الجماعة الإسلامية الليبية هيكلة نفسها ودخلت في مواجهات مع القوات الليبية . وفي موريتانيا فانّ الحركة الإسلامية الموريتانية تتحرّك في السرّ أكثر منه في العلن وسوف يكون من الصعب عليها إحداث خرق في الجدار السياسي الرسمي ذلك أنّ المؤسسة العسكرية في موريتانيا تمسك بكل مفاصل الدولة ويملك التيار الإسلامي الموريتاني تربة مناسبة لتفعيل مشروعه السياسي.

والحركات الإسلامية في المغرب العربي ليست مجرّد ظاهرة عابرة بل هي ظاهرة جذرية وهي في أحايين كثيرة كانت تشكل امتدادا للحركات الوطنية والإصلاحية التي ساهمت في تحرير المغرب العربي وساهمت في تحصين الهوية واللغة والانتماء للعالم العربي والإسلامي.

ولا شكّ أنّ الكثير من الحركات الإسلامية في المغرب العربي عندما إنطلقت في عملها السياسي كانت مراهقة وبدون خبرة حيث قفزت على الظروف المحلية والإقليمية والدوليّة, والأحداث التي شهدتها الأقطار المغاربيّة ساهمت في صقل وعي هذه الحركات وأقنعتها الأحداث أنّها ليست وحدها في المغرب العربي ولا في العالم.

ويجمع سكان المغرب العربي على أنّ الإسلام لعب دورا كبيرا في تاريخ المغرب العربي , وتحاول التيارات الإسلامية المغاربية أن تجددّ دوره وهي مازالت تدقّ جرس الإنذار بأنّ المغرب العربي يتعرّض لغزو جديد واستعمار جديد وهو الغزو الثقافي والسياسي والاقتصادي وهو أخطر من الاستعمار الفائت الذي تعرضت له منطقة المغرب العربي لقرون خلت !!!!

يحي أبوزكريا

للمزيد عن الإخوان في تونس

روابط داخلية

كتب متعلقة

ملفات متعلقة

.

مقالات متعلقة

.

تابع مقالات متعلقة

أخبار متعلقة

أهم أعلام الإخوان في تونس

وصلات فيديو

.

تابع وصلات فيديو