النص الكامل للحوار الذى أجرى مع الشيخ راشد الغنوشى لصحيفة الشروق الجزائرية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
النص الكامل للحوار الذى أجرى مع الشيخ راشد الغنوشى لصحيفة الشروق الجزائرية


الماء.jpg

1-كيف تقومون الأوضاع التونسية بعد 23 عاما من حكم الرئيس زين العابدين بن علي، وواحد وعشرين عاما من خروجكم من تونس؟

ج:أحييكم وأهلنا في الجزائر الحبية بتحية الإسلام فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مجيبا عما تفضلتم به من سيل من الأسئلة الدقيقة المهمة الشاملة محاولا الإختصار ما استطعت وبالله التوفيق. وأحيي عبركم أبناء النهضة وأنصارها في الذكرى التاسعة والعشرين لولادتها (6-6-1981) وأخص بالذكر الشيخ الدكتور صادق شورو رئيسها السايق القابض على الجمر وراء القضبان صابرا محتسبا منذ عقدين، وأحيي أسرته الكريمة المجاهدة وأسر كل شهداء الحركة وأحيي مناضليها الصامدين قي كل مواقعهم من البلاء والعطاء،وكل أنصار الحركة وأصدقائها وشباب تونس الصاعد وشعبها الابيّ، مبشرا لهم بقرب تحقق موعودات الله سبحانه للمومنين بالنصر المبين

البلاد في أزمة تتفاقم، أمام إمعان السلطة في اعتماد شرعيتها على عصا البوليس والإعتقالات العشوائية والمحاكمات المصطنعة، فضلا عن تفاقم نهب الأرزاق من قبل عدد من العوائل المتنفذة المتسلطة على رقاب الخلق ،وتفاقم البطالة، واستمرار الأسئلة الكبرى الحارقة معلقة بلا جواب والتي كان التعامل معها الخاطئ مصدر الأزمة، وأهمها:

أ- يعلم كل متابع للشأن التونسي أن أهم العوامل التي فتحت أبواب التفاؤل على مصارعها جاءت من اطلاق ابن علي صبيحة انتصابه عدة آلاف من مساجين النهضة هذه العقبة التي اصطدم بها العجوز الهالك وأودت بنظامه، ودخوله في حوار مع قادتها لتسوية هذا الملف الخطير، وأعطت مشاركتهم في انتخابات افريل 1989 زخما كبيرا لها غير مسبوق، بما كان يعمر الراي العام من تفاؤل وأمل في المستقبل، إلاّ أن تورّط نظام 7/11في مستنقع التزييف الواسع عودا بحليمة الحزب الحاكم الى عادتها القديمة، وبروز برلمان بلون واحد أطاح بكل تلك الآمال، وأحلّ محلّها خيبة آمال مريرة،

سارعت السلطة الى الحلّ السهل القاتل، باعتماد خطة استئصال شامل للمعارض الأساسي في البلاد،النهضة، بما أجهز على السياسة وعلى بيان 7/11، بمزيج من القمع البوليس والقضائي والتشويه الإعلامي و الإصرار على رمي المنافس السياسي بالإرهاب والأصولية وتهديد مكاسب الحداثة!!، وهي اتهامات لم يعد يصدقها أحد، لا داخل تونس ولا خارجها. والدليل على ذلك

اندراج النهضة ضمن هيأة 18 أكتوبر التي تنضوي تحتها أهم أحزاب المعارضة وهيآت من المجتمع المدني وشخصيات وطنية، لا يمكن لأحد التشكيك في ديمقراطيتها وحداثتها.

أما في الخارج فقد قبل مهاجروا النهضة لاجئين في كل دول الإتحاد الأروبي وكندا واستراليا ونيوزيلاندا، حيث تعتبر شهادة الإنتماء المسلّمة للنهضوي طالب اللجوء موقعة من رئيس النهضة وثيقة أساسية في قبول مطلبه، كما فشلت كل دعاوى السلطة أمام محاكم أروبية في تجريم النهضة بالإرهاب، بل برّأت رئيس النهضة من التهمة وأجبرت المحاكم وسائل الإعلام التي تورطت في ذلك على الإعتذار ودفع الغرامات العالية لرئيس النهضة.

الثابت أن النهضة اليوم معطى من المعطيات الكبرى للساحة الثقافية والاجتماعية والسياسية لا يمكن للإمعان في إنكاره والحرب عليه إلا أن يفاقم في أزمة البلاد المتصاعدة.

ب-الملف الثاني الذي ظلّ معلقا رغم تفاقمه، ملف الفساد، فرغم تداول المعلومات حول وقائع الفساد على كل لسان، بما في ذلك وسائل الإعلام الخارجية، وفي منتديات التونسيين، فلم يحصل أن أقدمت السلطة على محاكمة كارتل من كارتلات الفساد الكبرى التي يردد الناس أسماءها صباح مساء.

وأنى لها أن تقدم على ذلك؟

ج- الملف الثالث ملف الخلافة، فرغم أنها الدورة الرئاسية الأخيرة للرئيس بحسب الدستور وبحسب السن الذي يكون قد استشرف الثمانين حين انتهاء دورته، ورغم إلاشاعات عن صحته التي تطفو على السطح مدة ثم تخبو لتعاود الظهور، والرئيس بشر ليس مبرأ من عوارض البشر،

فلم تتردد السلطة في الشروع في إعداد المسرح لعرض مسرحية التمديد مرة أخرى ، بما يمهد لرئاسة مؤبدة بدأ "العهد الجديد"بالتشنيع على سلفه بسببها لتسويغ الانقلاب عليه، وهو ما يضيف عاملا آخر قويا الى القلق العام حول مستقبل البلاد. فما ظنك بحال بلاد تجتمع عليها مشكلات من هذا الوزن الثقيل؟ لا جرم أن تفرز الأمراض المزمنة تقيحاتها، ومن ذلك ظهور بؤر انتفاضات شعبية تنقلت بين أكثر من جهة من جهات البلاد،

بدأت بالأطراف في منطقة الحوض المنجمي بجهة قفصة، وانتقلت الى قرى ومدن أخرى احتجاجا على البطالة وعلى المحسوبية، كما تفاقمت الإضرابات وتتالت محاكمات شباب الصحوة الإسلامية الجديدة التي تفجرت على امتداد البلاد مخترقة كل الطبقات، بما يشبه الإنتفاضة الدينية الصامتة، التي لم تجد معها السلطة غير توخي مزيج من السياسة والقمع، من طريق الإفراج عن إذاعة للقرآن الكريم وبعض الإجراءات الأخرى،

وفي الوقت ذاته القيام بحملات شملت آلاف الشباب، وإخضاعهم لضروب وحشية من التعذيب، وإصدار أقسى العقوبات عليهم بتهمة الإرهاب، والتفكير في الإلتحاق بالمقاومة العراقية. أما الإضرابات العمالية، فرغم تواطئ الرسمية النقابية، فقد اتسعت دائرة الإحتجاج على تدني القدرة الشرائية وطرد العمال وقفل أبواب المؤسسات نتيجة لسياسات رأسمالية فرضت على البلاد.

ومع حرص السلطة على الإستجابة لمطالب النظام الدولي في كل الميادين الإقتصادية و السياسية و القضائية و الأمنية، وجوزيت على ذلك بقبولها أول شريك لأروبا في الجنوب المتوسطي، إلا أن طلبها في الحصول على رتبة الشريك الممتاز التي حصلت عليها المغرب والاردن رغم تأخرهما عن تونس في دخول نادي الشراكة، تم تأجيل النظر فيه ،بما حزّ كثيرا في نفوس أهل السلطة، وعبّر عن مدى الإستياء الأروبي من إحجام السلطة عن معالجة ملفات أساسية ولو بالحد الأدنى المعقول، مثل ملف الفساد والديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الإعلام.

كل ذلك يضع البلاد على طريق المجهول، وتفاقم التأزم واتساع دائرة الإحتجاج الشعبي، والإنتفاض وصولا الى حالة التفجرالعام، بما يعيد للأذهان انتفاضات 78و84 من القرن الماضي.

2- نجحت تونس في ضمان أقدار عالية من النجاح الاقتصادي، والاستقرار الاجتماعي، رغم تواضع ثروات تونس.. فلا غاز عندها ولا بترول.. فلم لا تدرجون أنفسكم ضمن هذا المشروع الناجح في خدمة تونس وشعبها؟

ج:هذا التوصيف الوردي للحالة التونسية يعيد للأذهان ما ردده حماة النظام في التسعينيات، إذ ردد الرئيس الفرنسي خلال زيارته لتونس في التسعينيات وهي تتلظى بأفدح درجات القمع ، قصة المعجزة التونسية، ولما سأله أحد الصحفيين عن حقوق الإنسان أجاب وهل للإنسان من حقوق غير تلبية حاجته للأكل ؟

كفى ترديدا لهذه الأوهام و الإهانات لشعب يصبح ويمسي على الرعب من قمع البوليس المنفلت، وعلى أخبار نهب الأرزاق والطرد من الشغل واشتعال الأسعار.

3- تتحدثون كثيرا عن انتهاك حقوق الإنسان والاعتداء على الصحافة.. لكن هذا أمر يمكن التجاوز عليه بالنظر للنجاح الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي.. أليس كذلك؟

ج:كفى ترديدا للخطاب الخشبي الستاليني. فقد أشبع الشعوب إهانة، وأشبعته رفضا واحتجاجا.

4- منذ العام 1991 وحركة النهضة بين سجين ومهجر.. متى يتوقع أن تغيروا توجهكم السياسي، حتى تخرجوا بلادكم وحركتكم من أتون الصراعات والمواجهة مع سلطة ناجحة ومدعومة داخليا وخارجيا؟

ج:ذلك قدر حركات التغيير إن كانت صادقة وجادة في دعواها أنها جاءت لتغير واقع المهانة والاستبداد والفاسد الذي تتلظى فيه شعوبها.

قال تعالى موجها خطابه لنبيه عليه السلام يهيّئه لما يستقبله وصحبه وحملة دعوته من قتل وسجن وتشريد "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك" ثم طمأنه أن ذلك مكرهم والله محبطه "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" والسؤال لا يوجه الينا الى متى ستستمرون في المعارضة، وإنما الى الطرف الآخر إذا شئت :الى متى يستمر في العناد وتحدي إرادة الشعب في التغيير ابتغاء قيام نظام عادل؟

السؤال الحقيقي ليس الى متى نستمر في المعارضة، وإنما هو هل تحقق الهدف من هذه المعارضة ؟

الثابت أنه لم يتحقق، بل قد ازدادت الحالة سوء، فنظام بورقيبة كان أقل وطأة على الشعب من نظام خلفه. فهل استمرار الدكتاتورية مدة أطول يكسبها شرعية ويدعو معارضيها الى الإلتحاق بركبها، وإسباغ المشروعية عليها رغبة في الظفر ببعض الفتات؟

أم أن ذلك داعيا آخر للصمود والبحث عن سبل لتصعيد النضال، وتحسين الأداء وتعبئة وتحشيد الصفوف.

لماذا حدثنا القرآن الكريم عن نبي ظل يدعو قومه الف سنة إلا خمسين عاما، وعن فتية اعتزلوا قومهم مئات السنين حتى أعيد لهم الإعتبار، وعن أصحاب الأخدود الذين فنوا جميعا دون عقيدتهم؟، أولم تقض شعوب اروبا مئات السنين وهي تصارع ملوكها المتألهين حتى قطعت رؤوس بعضهم وأدبت بعضا آخر وفرضت سلطانها المطلق على حكامها؟

وهل سقط نظام التمييز العنصري قبل عشرات السنين بل مئات السنين من النضال؟

فلم يراد لشعوبنا وحدها أن تحصل في تحد لسنن الله في التغيير عن بركات العدل دون مجاهدات ناصبة دؤوب، لا سيما وهي تعمل ضمن ميزان قوة دولي مختل لصالح أعدائها، بما يفرض عليها المزيد من الصبر والمصابرة وموالاة التضحيات ؟

السؤال الحقيقي ليس متى ستغير النهضة توجهها السياسي حتى تخرج من أتون الصراعات والمواجهة ؟

وإنما متى ستنجح في تحقيق أهدافها في التغيير التي سقط في طريقها المئات بل الآلاف من خيرة ابناء تونس بين شهيد وجريح ومعوق؟ يومها فقط وعساه يكون قريبا تضع الحرب ضد الاستبداد والفساد والتجزئة والظلم أوزارها.

أما قبل ذلك فهو الإستسلام والإنتحار.

ليس الأهم أن يحقق المناضل أهدافه في التغيير خلال عمره المحدود، فقد يفضي الى ربّه دون أن يرى شيئا من ثمار عمله مثل آل ياسر، قد يودع هذه الدنيا شريدا أو سجينا أو معلقا على المشنقة أو مجوّعا ممقوتا، بينما الطاغية المتكبر يرفل في ثياب العز الزائف.

بل المهم أن يلقى المناضل ربه وهو مستمسك بأهدافه عاضا عليها بالنواجذ.

نجحت أم لم تنجح، فالنتائج بيد الله وحسبك بذل الوسع وأن تلقى ربك وهو راض عنك.

وإن أحد تعب دون أن تتحقق أهدافه فله أن يستريح، ولكن من قبيل الإنتحار السياسي والقيمي ونقض الغزل بعد إبرامه، أن ينتهج سياسة يتنازل فيها عن مهمة تغيير الواقع الفاسد التي تأسست من أجلها الحركة، داعيا لاستبدالها بسياسة تطبيع معه وتغيير نفسه وتطويعها للقبول بالأمر الواقع، وتعديل نفسه وفق ميزان القوة، بينما يكون قد قضى خيرة ايام شبابه مناضلا من أجل تغيير ذلك الواقع وميزان القوة الذي يحكمه، في ذهول عن حقيقة أن مبرر وجود حركته أن تغير هذا الواقع وليس أن تتصالح وتطبّع معه، بينما الواقع اليوم أسوأ بكثير مما كان.

فإذا تعب، فليصارح نفسه ويتنحى جانبا تاركا المهمة لجيل جديد، وهو ما كان على محمود عباس وأمثاله أن يفعلوه .

5- ألا تخشون من أن يتكرر في التاريخ التونسي ما حصل للشيخ عبد العزيز الثعالبي مؤسس العمل السياسي التونسي ضد الاستعمار مع راشد الغنوشي وحركة النهضة، بحيث تطوى صفحة النهضة كما طويت صفحة حزب الدستور القديم وزعيمه بظهور قوى جديدة، هي اليوم في تونس التيار السلفي الجهادي؟

ج:أولا:

من كان عمله ابتغاء مرضاة الله – ونحن ظننا في الله سبحانه أن يدرجنا في سلكهم-لا تشغلهم مثل هذه الخواطر والهواجس. هم يحدثون أنفسهم أولا هل سيلقون ربهم وهو راض عنهم، قائلين مع زعيمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتهلا الى ربه يوم الطائف وهو مدفوع من السفهاء والطغاة والدماء تشخب من جسده الشريف ،"اللاهم إن لم يكن منك غضب علي فلا أبالي".

وثانيا :

هم مستيقنون أن رحمة الله بعباده وقدرته على الخلق وحفظه للدين تأبى أن يستتب الأمر نهائيا للطغاة على الدعاة، فتضيع أجور وأعمال ومجاهدات عباده لعشرات السنين سدى؟ "وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم".

فما بذلته النهضة واستثمرته في مجتمعها لن يضيع. وإذا كان قد بدا كذلك لبعض الوقت فإنما قد استكن تحت القهر متحينا أدنى فرصة للظهور مجددا، وذلك الذي كان عبر الصحوة الجديدة العارمة التي وإن بدت أنها لا تشبه آباءها وأنها من جنس آخر فذلك محض التوهم، لن تلبث حلقات الإصلاح أن تتواصل، ويتم التعارف بين الأجيال و الإنتساب، و إنما هي البدايات دائما حارة حادة حاسمة ثم تهدا وتأخذ مكانها في سياقات تطور البلاد، تماما كما حصل مع جيل النهضة، إذ انطلق ثائرا على كل شيء، بما في ذلك جيل الثعالبي وصحبه من الإسلاميين ، فبدت النهضة في ثورتها وكأن لا إسلام قبلها، وأنها من جديد تخط أول الصفحات في تاريخ الإسلام، غير أنه ما إن ذهبت الشرّة (بكسر الشين) وهدأت النفوس حتى تعرفت الى أسلافها، ووضعنا أنفسنا في المكان المناسب من شجرة النسب الإصلاحي منذ القرن التاسع عشر مع خير الدين وابن ابي الضياف وباش حامبة والثعالبي والقليبي، هكذا سيفعل ابناء الصحوة الجديدة، سيضعون أنفسهم ضمن هذه الشجرة المباركة التي تعد النهضة فيها سلفهم المباشر.

وثالثا:

ليس فيما آل له وضع الثعالبي ما يؤسى له، فقد تشرّف بتأسيس الحركة الوطنية على أسس العروبة و الإسلام، إلاّ أن موازين القوة وليس غير ذلك ما رجح كفّة الجناح التغريبي من الحركة الوطنية، وارثا للمستعمر، بعد أن اضطر هذا الأخير للرحيل.

ورغم ما بدا من أن الثعالبي وحركته الوطنية الإسلامية العروبية قد خسرت المعركة الى الأبد، إلاّ أنّ ما يسميه العلمانيون بمكر التاريخ وما نسميه نحن بقدر الله وعدله المطلق، اقتضى أن لا يمر على سيادة ايدولجية التغريب المنتصرة إلاّ أقلّ من عقد ونصف،

حتى دبت في البلاد روح الثعالبي مجددا بظهور الحركة الإسلامية في نهاية الستينيات من القرن العشرين، وخلال عشرية فقط، ملأت دعوة الاسلام السهل والوعر، حتى اهتز البناء العلماني الانسلاخي السائد الذي حسب أهله انهم قد حسموا المعركة نهائيا لصالحه، وما لبثوا أن شعروا بالخطر وعجز السياسة والمنطق عن مواجهة الخطاب الإسلامي العائد متسلحا بأدوات الحداثة، فسارعوا الى إطلاق العنان لأدوات الدولة القمعية تعمل في المشروع الإسلامي المستأنف تدميرا وقمعا.

وبسبب عمق المشروع الاسلامي التجديدي، وأنه يعبر عن توجه مجتمعي عميق واسع، فقد فشلت خلال زهاء ثلث قرن أي منذ1981 تاريخ أول مواجهة، في الإجهاز عليه.

وفي المثل العامي"ما مات من ترك خليفته"؟ فبأي منطق يعد الثعالبي قد خسر المعركة، أو خرجت بضاعته من ساحة التداول؟.

لو حككت جلد أي نهضوي لوجدت تحتها جينات لزيتونيين وثعالبيين ويوسفيين، وهي الفئات التي بدت وكأنها خسرت المعركة لصالح تغريبة بورقيبة، ولكن ليس للأبد وإنّما الى حين. والأمر ذاته مؤكد مع كل فتى من فتيان الصحوة الجديدة، يمكن لك أن تظفر بيسر تحت جلد كل منهم بنسب لحركة النهضة مهما بدا الأمرعلى غير ذلك الى حين.

الثابت ياصاحبي أنه مع ما ترى، بل بسبب ما ترى من قمع ساحق تعرضت له النهضة أنها دون ريب من أهم حقائق واقع ومستقبل البلاد، بينما أعداؤها وإن يكونوا اليوم حاكمين أو مشاركين، مستقبلهم وراءهم.

النهضة مستقبلها أمامها، بل هو قاب قوسين أو أدنى منها، لاسيما وهي واقعة ضمن مسار إسلامي صاعد على المستوى العالمي، بينما أعداؤها واقعون ضمن أفق راسمالي تزداد يوما بعد يوم آفاقه قتامة في مراكزه الكبرى، فكيف هو حال الأتباع وأتباع الأتباع؟

6- تجري في المهجر خلافات واسعة بين أبناء النهضة على قاعدة العودة والبقاء في المنفى.. هل تخشون من هذه الجدالات الحادة على وحدة النهضة واستمراريتها؟

ج:لا ليست خلافات واسعة بل هي زوبعة في فنجان، لأنه لا آفاق سياسية لها، بل تم تضخيمها في الإعلام، بينما لم يصل عدد العائدين أصابع اليد، معظمهم تمت محاكمته فسجن، أو اكتفوا بإصدار حكم عليه مؤجل، سيفا يبقى مسلطا على رقبته وسبيلا لإبتزازه وفي الاقل فرض الصمت عليه وإخراجه من ميدان المعارضة .

ومع أن هذه العودة هي في الأصل حق من حقوق المواطن، إلاّ أنه بسبب أننا إزاء سلطة لا تعترف بسلطة القانون العادل، فقد نصحنا اخواننا بتأجيل هذه العودة حتى تتوفر شروط عودة آمنة كريمة هي غير متوفرة اليوم، لكننا لم نجعل من هذه العودة قضية كبرى، لعلمنا أن وضع البلاد طارد في جملته وليس جاذبا، ودليل ذلك قوارب الموت التي يحاول عشرات الآلاف من الشباب التونسي الفرار على أخشابها المهتزة من جنة نظام 7نوفمبرصوب أي اتجاه وبخاصة صوب الضفة الشمالية من المتوسط، بل إن قبائل تونسية في الأطراف دفعتها الخصاصة أكثر من مرّة لإجتياز الحدود في اتجاه الجزائر .

7- يبدو الداخل النهضوي أيضا منقسما بين تيارات مختلفة.. كيف تدير النهضة اختلافاتها؟

ج: النهضة حركة بشر، فلم يخل صفهم يوما من خلافات، لا تتعلق بثوابت الإسلام وإنما بمسائل اجتهادية معظمها يدور حول مسألة إدارة أزمة العلاقة مع السلطة، وهي أزمة راجعة في الأساس الى تصلب السلطة وإدمانها على الإستبداد والإنفراد ، بما لا يدع أمام كل جهد معارض غير الإستسلام والخضوع لإرادة السلطة، والإنضواء في خانة المعارضة الشكلية الديكورية، للظفر بالفتات الذي تجود به السلطة، شأن معظم المعارضة المعترف بها،

أو تجد نفسها في حالة مواجهة مع السلطة، وهو الحاصل مع النهضة ومع المعارضات الجادة. والنهضة باعتبارها حركة اسلامية حديثة وكبيرة تعتمل داخلها أفكار واتجاهات تتمحور كما سبق حول مسألة التغيير وخصوصا في علاقته بالسلطة، العقبة الأشد في طريق دمقرطة تونس، وكما يحصل عادة فإن أمر الإختلافات من هذا النوع تصب حصيلته في مؤسسات الحركة، حيث يكون للأغلبية الحق في حسم القضية المتنازع حولها لصالحها.

وما استمرت هذه الآلية في حكم المؤسسات فاعلة و الإلتزام بها من كل الأطراف قائما، فلا خوف على وحدة الحركة.

وإذا ضاقت الأقلية يوما ذرعا فلم تعد تتحمل وضعها كأقلية فانفردت برأيها عن الجماعة لتنتظم خارجها فلن يكون سعيدا بذلك غير خصوم الجماعة ، العاملين ليل نهار على تمزيقها من داخلها بعد أن عجزوا عن ذلك من خارجها خلال قرابة ثلث قرن عبر القمع. غير أن التجربة أثبتت عبر اربعين سنة من عمر الحركة، أنها قد خسرت عددا من الإخوة الكرام ، انسحبوا من صفوفها . ولكنهم لم ينشئوا كيانات بديلة عنها، بل ظل معظمهم على تواصل معها، فأخوة الإسلام العامة والأخوة الوطنية والإنسانية تشكل أسسا معتبرة للمحبة وللتعاون.

8ـ من خلال تجربتكم في العمل الإسلامي ، وبالنظر إلى إخفاقات الإسلاميين هل خرجتم بتصور جديد يخرج عن إطارات الشعارات الفارغة؟

ج:حركة الإسلاميين بالإسلام من أجل ترجمة عقائده ومقاصده وقيمه وشعائره وشرائعه في مسالك عملية ومنظومات مجتمعية وحضارية حركة بشرية، محكومة بقوانين الطبيعة وظروف الزمان والمكان، بما يجعلها عرضة للصواب والخطإ للفشل والنجاح، فهم في ذلك مثل غيرهم، يمتازون عنهم بما يزودهم به الإسلام العظيم من هدايات لعقولهم، وتوجيهات لأرواحهم وضروب تزكية لنفوسهم، وما يرجونه إن هم فعلوا ذلك فبذلوا الوسع في مجاهدة أنفسهم ومحيطهم في سبيل الله من تسديد الهي لهم وعون.

ولو أنك ركّزت نظرك في متابعة مسيرة الحركة الإسلامية منذ خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم على ما سميته "إخفاقات الإسلاميين" لألفيت أمثلة كثير تشهد على ذلك، فقد ظلت السلطة وهي أكبر أدوات التأثير المعاصر، بيد خصوم الإسلاميين من حملة المشروع العلماني، استلموها عبر الإنقلابات، وأداروها بمستويات عالية من العنف والبطش بكل من عارضهم وخصوصا الإسلاميين، الذين دارت عليهم طاحونة القمع في صور رهيبة في معظم أقطار العرب، ربما كان من آخرها ما حصل ويحصل في مصر و تونس و الجزائر .

ولكن إذا أنت نظرت الى الكأس من جانبه الملآن وقست اليوم بمقياس موضوعي منزلة الإسلام في مجتمعاتنا رغم أنها محكومة غالبا بأنظمة علمانية قاهرة، ستجدها بلا شك أكثر أسلمة مما كانت عليه قبل خمسين أو ستين سنة، بل حتى قبل مئات السنين، فالمسلمون اليوم أحسن اسلاما، تصوراتهم العقدية قد تطهرت الى حد كبير من الخرافة والوهم، ومساجدهم أكثر عمارا، ومسالكهم أكثر انضباطا بقيم الإسلام. أما مراكز العلم كالجامعات فلم تكن يوما أكثر اسلمة منها في هذه المرحلة.

ولو أنك اتخذت القضية الفلسطينية وهي منذ ستين سنة القضية الأكبر في حياة العرب والمسلمين ، فقست شعبية كل تيار في الأمة بمدى حمله لها، لأمكن لك رسم سياق اتجاهات التطور الفكري في أمتنا.

فقد ظلت التيارات القومية العلمانية العربية هي الحاملة لها حتى حرب 1967 حيث كان إخفاقها مدويا ، فاسحة المجال أمام ظهور التيار الوطني الفلسطيني العلماني مدعوما من اليسار، حتى إذا انهار الإتحاد السوفياتي انهارت معه منظمة التحرير، واستسلمت لمتاهة المفاوضات والتسويات السلمية الذليلة، فتقدمت الأيدي المتوضئة لحمل راية القضية المقدسة مدعومة من شارع اسلامي واسع، وممن بقي صامدا من التيارات الأخرى.

ولو أنك نظرت الى قافلة الحرية التي حققت بالوسائل السلمية الميدانية بعيدا عن كل من سلاح ومن التفاوض لوقفت على جانب آخر من جوانب التطور الإسلامي الحاصل في أعماق مجتمعاتنا وفي المجتمع الإنساني المدني، حيث يتعالى دور الإسلام على كل الصعد. ل

م يكن عجبا أن يختار الصهاينة موعد صلاة الفجر للهجوم الحقير الوحشي على أسطول الحرية، لأن معظم أبطاله اسلاميون حريصون على أداء شعائر دينهم مقترنة بحملهم لهذه القضية المقدسة.

لا يرتاب دارس اليوم لاتجاهات الراي العام في أمتنا في الوقوف على هذه الحقيقة، أن الإسلاميين قد حسموا الى حد كبير معركة الراي العام لصالحهم ،

ولذلك لا يرتاب أحد في توقّع أنهم سيكونون الفائزين في أي منافسة انتخابية تتوفر على قدر من الصدق ، ولذلك إذا لم يكونوا هم الحاكمين الشرعيين فما ذاك إلا انعكاسا لموازين القوى الدولية التي لا تزال مائلة لصالح القوى الغربية، وهذه لا تزال تقدّر ضمان مصالحها في العالم الإسلامي في التعامل مع حكومات معزولة عن شعوبها، تطويعها يسير. وما تلاقيه من صعوبات اليوم في التعامل مع تركيا أردوجان لا تجد عشر معشاره مع أنظمة عربية دكتاتورية علمانية، تطويعها يسير.

فهل قليل أن رد الإسلام الى حضن الأمة مناصرين ل فلسطين قضيتها المركزية الأمة التركية و الأمة الفارسية و الامة المالاويةأندونيسيا و ماليزيا ، حتى لم يبق أعوج مكسورا غير الضلع العربي، وهو بسبيله الى الإستقامة، فتغلق الدائرة، بإنهاء لكل مشاريع الإحتلال، وفي مقدمتها السرطان الإسرائيلي، ووصمة التجزئة والتخلف.

هل تسمي كل هذه الإنجازات التي نقلت الإسلام من هامش التاريخ الى قلب المعارك المجتمعية والتاريخية إخفاقات!!

أوليست المقاومة الاسلامية هي التي قادت الى خيبة مريرة أعظم جيوش العالم فتكا، الجيوش الاطلسية والصهيونية في العراق و افغانستان وفي لبنان و فلسطين ..

بما هز من الاعماق البنيان الراسمالي وجعله يترنح مهددا بالسقوط؟هل ذلك قليل؟

9هل يمكن أن تفصّل في علاقة حركتكم مع الإسلاميين في الجزائر ؟

ج:هم جميعا اخواننا وأحبابنا ندعو لهم بالخير والسداد ووحدة الصف والتوفيق في أن يخرجوا بالجزائر الحبيبة والعظيمة من محنتها التي طالت وكثر ضحاياها واشتدت آلامها، وكانت لها أوخم الإنعكاسات على جملة التطورات التي حصلت خلال العقدين الآنفين على جملة التطورات في المنطقة وخصوصا على الجار التونسي.

نحن منحازون للإسلام ، للعروبة ، للحرية ، للجزائر

10- كيف تنظرون الى الجهد الدعوي للمرحوم الشيخ محفوظ نحناح؟

ج:المرحوم الشيخ محفوظ نحناح ركن أساسي من أركان دعوة الإسلام في المنطقة، وعلى صعيد جملة المشروع الإسلامي في الجزائر الشقيقة.

ربطتني به علاقة وطيدة منذ بداية السبعينيات داخل الجزائر وخارجها، وعلى امتداد ذلك الزمن وحتى عيادتي له في مرضه الأخير في مكة المكرمة، حيث اختار أن يودّع هذه الدنيا معتمرا.

وكانت من أهم زياراتي له قبل ذلك بكثير بمستشفى مدينة الأصنام بالسبعينيات وكان يومئذ سجينا، فتسللت ضمن أسرته لزيارته.

وزادت العلاقة توثقا خلال إقامتي بالجزائر، حيث كان جهده عظيما في توصيل علائقي مع جملة المنتظم السياسي الجزائري بمختلف اتجاهاته.

رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى. شخصية الشيخ شخصية قيادية من طراز عال، هادئ رصين وواقعي جدا وشديد الثقة في نفسه، ذو خلق رفيع، عفّ اللسان. ليس في حياته غير الإسلام والعروبة وخير الجزائر.

أما عن آرائه السياسية ومنهجه في التغيير فموضوع أخذ ورد في الوسط الإسلامي داخل الجزائر وخارجها، ما يمكن وصفه بالمنهج العملي الواقعي الذي تبناه ومضى فيه الشيخ الى النهاية، وكان من ثماره الوقوف الى جانب العسكر في انقلابهم على الديمقراطية بذريعة حماية الدولة من الخطر الأصولي.

كان الشيخ فيما يبدو شديد القناعة بدور الجيش في المحافظة على الدولة، وذلك مقابل ما يمكن وصفه بالمنهج الثوري أو المبدئي أو الديمقراطي الذي لم ير في تدخل الجيش غير كونه كارثة لا يمكن أن تسبغ عليها الشرعية بأي ثمن كان.

وذلك بصرف النظر عن الموقف من العنف والإرهاب، فكثير ممن وقفوا ضد الإنقلاب من هيآت ديمقراطية وحقوقية، مدافعين عما كان يدافع عنه الشيخ عبد الله جاب الله ويسميه " خيار الشعب "، كانوا رافضين لمنهج العنف.

وأعدّ نفسي في الجملة أقرب الى هذه الوجهة. فالخيار ليس حتميا بين خيار العنف وخيار الإنقلاب ، فبينهما خيارات أخرى، منها التعويل على الشعب، على المقاومة المدنية عبر الإحتجاج الشعبي المرشح أكثر بديلا عن الخيارين الكارثين، مخرجا لأزمة الجزائر ومعظم الأقطار العربية التي تعيش حالة تأزم وانسداد بسبب ما أدى إليه الخياران الكارثيان.

اختلاف وجوهات النظر في منهاج التغيير اختلاف قديم متجدد ومناط اجتهاد، فلا ينال من الود و الإحترام ومنزلة رجل بوزن الشيخ الراحل محفوظ نحناح وبلائه العظيم في خدمة الإسلام رحمه الله رحمة واسعة، ولقانا به في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

11-رغم التضييق عليكم في تونس وسجن كل إطاراتكم إلا أن حركة النهضة لم تبدي ميلا إلى العنف والتزمت المنهج الوسطي، ما السر وراء ذلك؟

ج:ذلك من فضل الله سبحانه علينا وعلى بلادنا، وإلا فما أيسر العنف والتخريب في بلد يؤمه ملايين السواح. ولذلك لم يتردد سياسيون مشهورون في تونس مثل الأستاذ محمد المصمودي الزعيم الوطني، ووزير الخارجية الأسبق في التصريح أنه إذا كانت تونس تتمتع بالأمن فليس ذلك راجعا لمجرد حزم الجهاز الأمني، و إنما الى تعقّل النهضة.

هذا التعقل ربما هو عائد الى الإتعاظ بتجارب الحركة الإسلامية، ولم يأت فيها العنف إلا بالكوارث على القائمين وعلى عامة الناس، وما استفاد منه غير الأنظمة الموجه اليها.

ربما ذلك عائد الى عمق الطبيعة المدينية للمجتمع التونسي، ثقافة العنف فيه ليس لها تاريخ عميق، بل إن سوابق احتجاجاته على الظلم الذي يحيق به من حكامه غلب عليها الطابع المدني، طابع الإنتفاض الشعبي الذي يضطر الحكام الى التراجع، كما حصل سنة 1984إذ اضطرت الإنتفاضة الشعبية حاكما قويا مثل بورقيبة الى التراجع عن قراره في الترفيع في ثمن الخبز.

وسوابق مثل ذلك كثير في تاريخ بلادنا وعامة المدن الإسلامية.

ربما بعض ذلك عائد الى تنوع المرجعية الثقافية التي تأسست عليها الحركة، مزيجا من الفكر الإصلاحي المشرقي و الفكر المغاربي فكر ابن خلدون ومالك بنبي، ومن الفكر الإسلامي والفكر الحداثي الديمقراطي...

ما أفشل بفضل الله خطة السلطة في استدراجنا الى حمأة العنف، لتيسير القضاء علينا واستئصالنا بذريعة الدفاع عن مكاسب الحداثة في مواجهة الخطر الأصولي، وهو ما لم يعد يصدقه أحد في الداخل أو الخارج، فإذا كان في البلاد من عنف وارهاب فليس له من مصدر ومشجع غير سياسات الإستبداد و الإنفراد التي أدمنتها دولة الإستقلال في التعامل مع معارضيها، بل مع عامة الشعب وخصوصا مع ازدياد تآكل شرعيتها.

12-لا زالت القطيعة مستمرة بين حركة النهضة والسلطة في تونس، ألا ترون أن خطابكم الحاد أدى إلى تخويف السلطة منكم؟

ج: بعضهم يقول ذلك، متوهما أن السياسة تصنعها أساليب الخطاب وليست موازين القوة والمصالح الضاغطة الحاملة لهذا الطرف على اللقاء والتفاهم مع ذاك بصرف النظر عن محبته له أو كرهه.

السياسة في زمننا ليس راسمالها اساليب الخطاب ولا مبادئ الحق والعدل والخير وإنما المصالح الكبرى والضغوط القاهرة. ولو أن ما دعوته بعلاقة القطيعة بين النهضة والسلطة على امتداد عقود ثلاثة في عهد بورقيبة وعهد سلفه، المسؤول عنها خطاب رئيس النهضة الحاد كما وصفته،

أولا:

لاختلف الامر بين الرئيس الحالي للنهضة وبين الرؤساء السابقين الذين تداولوا على الحركة: من المهندس حمادي الجبالي الى د.صالح كركر، الى د. الصادق شورو، الى الشيخ الحبيب اللوز..وهو لم يختلف،

وثانيا:

وعلى فرض أن هذه المواجهة صنعها خطاب حاد للنهضة تواطأ عليه الجميع، لما فهمنا حالة المواجهة التي طبعت علاقة الحكم بالمعارضة على امتداد دولة الإستقلال، بما فرض عليها ، على اختلاف اتجاهاتها أن تتداول المحاكمات والسجون والمنافي، وحتى لمّا فرضت الاوضاع المحلية والدولية على نظام الإستبداد أن يتنازل عن نظام الحزب الواحد ويعترف بالتعددية حرص كل الحرص على أن يكون تنازلا شكليا أفرغ النظام التعددي من كل محتوى ديمقراطي يعترف بحقوق المواطنة وبسلطة الشعب وبالتداول على أساس انتخابات تعددية حرة، وبحرية التعبير واستقلال القضاء وبالشفافية والمحاسبة، فليس شيء من ذلك قد تم الاعتراف به عمليا ، وبذلك ظلت الإنتخابات تتحكم فيها وزارة الداخلية وفق النسب التي يقررها الرئيس، فلم تغيّر يوما شيئا مما هو مقرر لها، ولم تكد النسبة التي يحصل عليها الرئيس تنزل عن التسعين بالمائة وكذلك حزبه. والقضاء والإعلام والإدارة والإقتصاد والثقافة وحتى الرياضة ربما..

كلها أجهزة تديرها وزارة الداخلية، فهي دولة بوليس بامتياز. وما تحصل عليه المعارضة المؤنّسة من مقاعد هو بالضبط وفق الكوتا، النسبة المقررة لها مجتمعة لا تتجاوزها، لكن الرئيس كرما منه يقرر بين دورة انتخابية وأخرى الترفيع في حصتها من 10% الى أن بلغت بعد ثلث قرن 25% بينما هي لا تحصل في الواقع على أكثر من 3%مجتمعة.

أما الأحزاب التي ثبت بالتجربة أنها تمثل منافسا حقيقيا، اسلاميين وغير اسلاميين، فيتم إقصاؤهم بالوسائل الكفيلة بذلك.

لقد اعترف للنهضة في الإنتخابات الوحيدة التي شاركت فيها في أول عهد ابن علي 1989 بحوالي 20% بما جعلها حتى بهذه النسبة (والحقيقة أكبر من ذلك بكثير)زعيمة المعارضة، وبدل أن يكون ذلك مبررا كافيا للإعتراف بها تعزيزا للديمقراطية وللسلم الإجتماعي ولسلطة القانون ،

اتخذ ذلك سببا كافيا لشن حملة استئصالية عليها، وحدث ذلك في فترة كان فيها خطاب النهضة محمولا على أجنحة الآمال في العهد الجديد، والثقة في الخطاب الذي أطلقه يوم 7 نوفمبر، فماذا كان ينتظر من حركة يسلب حقها عيانا بيانا، وتواجه بخطة استئصال شاملة، لم تستثن أمهات وزوجات وأطفالا روّعوا في ظلام الليل ولا أقارب ولا أصدقاء، فضرب الحصار على الجميع حتى فرض على أكثر من زوجة أن تطلق زوجها، وجرّمت كل محاولة مهما كانت بسيطة لمد يد العون لزوجة أو أم ، وجرّم كل مسلك اسلامي من صلاة وحمل مصحف، فضلا عن مطاردة الحجاب. ماذا ينتظر ممن سلخت جلودهم ؟

أن يقبلوا يد الجلادين؟ بينما صوت العدالة الإلهية يعلن"لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، أوليس السؤال المحير ليس عما سمي بخطاب النهضة الحاد وتحميله مسؤولية القطيعة؟

وإنما السؤال المشروع لماذا تصر السلطة على نهج القمع والإنفراد، وعلى مقابلة طرق النهضة المتكرر أبواب القانون للإعتراف بها وللتعامل السياسي معها وللتصالح ، إلا بالصد وبخطة أمنية استئصالية شاملة؟، ولو أن النهضة ردت على خطة الإستئصال التي ووجهت بها بالعنف لكان ذلك مفهوما .

ولو أن قواعدها انفلتت الى العنف لكان مفهوما، أفأن تنجح النهضة في التحامل على نفسها ولحس جراحاتها فلا ترد ّبشيء من ذلك، هل يستكثر عليها أن تشجب جلاديها ويصر خطابها على تسمية الأمور بمسمياتها؟ ومع ذلك لم يبلغ خطابها الشاجب للدكتاتورية حد العدمية، ومن ذلك أن السلطة لمّا أفرجت عن إذاعة للقرآن الكريم حمدنا ذلك ولم نبحث عن النوايا ولا التناقض بين أن تذيع القرآن الذي تدعو آياته البينات الى العدل والشورى وتقديس كرامة الانسان وبين ما يمارس من سياسات القمع والنهب ، أو التناقض إذاعة القرآن وبين مطاردة مؤمنة ألزمت نفسها بما فهمت من كتاب ربها من وجوب التأدب بأدبه. فلماذا يستمر حظر الحجاب ويستمر القمع والنهب؟ المشكل إذن ليس في الخطاب، شديدا أم خفيفا، وإنما يكمن المشكل في الواقع السياسي القائم، هل الخطاب التوصيفي له التوصيف له صادق أم كاذب ؟

والحقيقة أن خطاب النهضة ليس أشد الخطابات السياسية شجبا للدكتاتورية ولا أشدها تحريضا على السلطة، ولذلك يعيب عليها البعض مجاملتها للسلطة ودعوتها مرارا الى التصلح ،بينما خطابات أخرى تدعو صراحة صاحب السلطة الى الرحيل وتنفض اليد منه بعد كل هذه التجربة المريرة معه، ومع ما لذلك الخطاب من مشروعية فإن النهضة لم تبلغ هذا الشأو، ولم يخل خطابها من مطالبة السلطة بإصلاحات جادة رغم أن الأمل في ذلك يتضاءل يوما بعد يوم ليكون من باب طلب الشيء ليس من مأتاه بل من نقيضه، بما يجعل البلاد تستشرف طورا جديدا من الإنتفاضات بدأت بعض مؤشراتها فيما حدث السنة الماضية من انتفاضة في منطقة المناجم وبعض المناطق الأخرى من البلاد،

لا سيما أمام تفاقم البطالة وأخبار النهب الواسع الذي تقوم به عدد من العوائل محمية من السلطة، وأمام القمع المسلط على مناضلي حقوق الإنسان وعلى أصحاب الأقلام الحرة لا يستثنى منهم آلاف الشباب الواعد الذين التجئوا الى الفضاء الإفتراضي للتعبير في جسارة عن هموم وتطلعات شعب تونس المظلوم ، هروبا من الرقيب الذي لاحقهم بجهاز امني يستخدم آلاف المهندسين المختصين في الإعلام الالكتروني مزودين بأحدث الأجهزة لتدمير آلاف المواقع المعارضة والحرة.

فماذا أبقى هذا النظام لمعارضيه من فرص للتعبير؟، وماذا استبقى من وسيلة لملاحقتهم والتنكيل بهم وإعدامهم فكرا وروحا إن لم يعدم أجسادهم تعذيبا وتجويعا ؟ماذا استبقى من انسانيتهم حتى يؤاخذهم على زفرة حرّى تصعد من أفئدتهم المحترقة.

13-يشاع أن علاقتكم مع الرئيس بوتفليقة ممتازة، لماذا لا تستغل هذه العلاقة في تليين موقف السلطة في تونس منكم؟

ج: أعتز بعلاقة الاخوة والصداقة مع الاخ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة،ولا يخالجني شك في أن الرئيس حامل همّ تونس وما يعانيه اخوانه وأبناؤه في النهضة من قمع لا يرى له مسوغا بسبب ما يعلمه عن النهضة من اعتدال، ولو أنه قدّر لحظة أن تدخّله وسيط خير في هذا الشأن ما تردد لحظة.

14-أبديتم النية فيما سبق للتوسط بين فرقاء حركة حمس في الجزائر ، هل حدث ذلك؟

-الصلح بين المسلمين من أجلّ الأعمال وأعظم القربات، إلا أن أحدا لم يطلب مني ذلك. ولا يسعني إلا أن ابتهل الى من بيده قلوب الخلق أن يصلح ذات البين ويجمع الفريقين على الخير"والصلح خير"

15-ألا ترى أن فتنة " الكرسي " والسعي وراء المكاسب المادية هي الأسباب الرئيسي لما حدث في حمس؟

ج:شائع في الأدبيات السياسية أن السلطة مفسدة ، والإسلاميون ليسوا معصومين من فتنة لم ينج منها حتى البعض من "خير القرون"، ولا يبعد أن يكون ذلك وراء ما حدث لإسلاميي السودان وللمجاهدين الأفغان الذين انتصروا على أعظم جيوش العالم، لكنهم فشلوا أمام فتنة السلطة. أما أهل حمس فلم يكن لهم من السلطة غير النزر القليل، هل يكون ذلك وراء ما حدث لهم؟ لست أدري.

16-- هناك مفارقة كبيرة تتمثل في تحقيق مصالحة في الجزائر نتج عنها عودة المسلحين وبينهم أمراء وقادة إلى المجتمع ، بينما لم يحدث ذلك في تونس رغم أن الإسلاميين هناك لم يتورطوا في العمل الإرهابي. ما هي الأسباب في نظرك؟

ج: فعلا هي مفارقة ملفتة تبدو غريبة، وكأن لسان حال النظام في تونس يردد إذا أردتم أن نتصالح معكم فافعلوا مثل ما فعلت الجماعات المسلحة في الجزائر ،أثبتت قوتها وقاتلت الدولة فقبلت أن تفاوضها كفّا لشرّها.

أما أنتم فبأي مبرر نفاوضكم وعلى ماذا؟

ولها أن تقول أيضا: إن الجزائر نفسها إذ قبلت أن تفاوض المسلحين فقد ظلت باستمرار ترفض التصالح مع السياسيين ممثلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فلا يزال زعماؤها بين منفي (الشيخ عباس مدني مثلا) وبين من لا يزال الخيار المطروح عليه بعد مغادرته السجن :إما العودة اليه أو الخضوع للاءات العشر، أعني الشيخ علي بالحاج وإخوانه فرج الله كربهم .

ودلالة ذلك أن الأنظمة تفاوض المسلحين لا خوفا من سلاحهم، قدر منه قد يكون مفيدا لها في تسويغ حرمان الناس من حرياتهم بذريعة حمايتهم من الإرهاب، فهي تحتاج الى قدر منه، وأهله قد يعتبروا رفقاء سلاح .

أما أهل السياسة فهم خلافا لأهل السلاح يتكلمون لغة أخرى، يمكن أن تنفذ الى قلوب الناس وتؤلّبهم على السلطان.

وفي زمن فشت فيهم موضة الديمقراطية و الإحتكام لصناديق الإقتراع يمكن أن يمثلوا خطرا ماحقا على جوهر السلطة الذي لا ينبغي أن ينقسم أو يقبل الشراكة!!، وحتى الأحزاب المشاركة هي فقط مشاركة في الحكم لا في السلطة، بينما جماعة السلاح فلا خطر منهم لأن السلاح "الهاوي" نادرا جدا ما نجح في منافسة السلاح المحترف، بله الإنتصار عليه، وليس يعجز هذا الأخير عن اختراقه وتشويه صورته لدى الناس وعزله، حتى يأتي صاغرا أو يباد.

وهو ما يجعلنا لا نرتاب لحظة في أن المصدر الرئيسي لحنق السلطة في بلادنا علينا هو رفضنا على حد سواء أن نكون مجرد ديكور في المشهد السياسي البائس، أو الإنزلاق في المنحدر الذي عملت ما وسعها لدفعنا اليه، واستمساكنا بأدوات السياسة سبيلا لنا بديلا عن العنف،

في حين أنها تشكو عجزا فاضحا بل افلاسا في الحقل الذي نتفوق فيه حقل السياسة والفكر. نحن على يقين أننا رغم ما ابتلينا من بلاء لم تسلم منه أسرة تونسية، بل بسببه نحن الحقيقة الأعمق والاوسع في تونس، والمحدد الرئيسي لمستقبلها. مستقبل النهضة أمامها وليس ببعيد، بينما مستقبل خصومها وراءهم بالتأكيد.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون"

المصدر

للمزيد عن الشيخ راشد الغنوشي

مؤلفات وكتابات الشيخ راشد الغنوشي

.

أقرأ-أيضًا.png

مفات متعلقة

مقالات متعلقة

أخبار متعلقة

ألبوم صور الشيخ

وصلات فيديو

تابع وصلات فيديو

.

أقرأ-أيضًا.png
ملف الإخوان في تونس

.