على رأس سنة هجرية:ماذا بقى من الهجرة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
على رأس سنة هجرية:ماذا بقى من الهجرة


راشد-الغنوشى-مسئول-النهضة-التونسية.png

الشيخ راشد الغنوشي

تمر هذه الايام الذكرى الثانية والثلاثين بعد الاربعمائة وألف للهجرة ،أعظم حدث في تاريخ الاسلام وأمته بل في تاريخ البشرية، فقد نقلت الهجرة المباركة من مكة الى المدينة الاسلام من كونه دعوة مستضعفة وجماعة مطاردة مهددة بالاستئصال الى كونه دعوة عزيزة تعضّدها دولة ذات سيادة هي مجلى لشرائعه وقيمه ومقاصده وأداة للذب عن حماه وحمى أمته،

دولة لم يؤسسها عنف ولا انقلاب وإنما تعاقد حر بين رسول الاسلام صلى الله عليه وسلم ، صاحب الدعوة وقائد الجماعة ، وبين زعماء قبائل يثرب الذين أقدموا ليس فحسب على اعتناق الاسلام في بيعة العقبة الاولى بل رفدوها في سنة لاحقة ببيعة أخرى كانت تعاقدا على إقامة دولة للاسلام بإيواء الدعوة والدعاة والتصدي لكل متربص بهما، بما أكد أصالة ومكانة الدولة في بنية الاسلام ، وجعل الاحتفاء بالهجرة هو في جوهره إحياء وتذكير بموقع السياسة المتقدم في هذا الدين .

لقد كانت دولة المدينة على حداثة سنها وضآلة مواردها المادية والبشرية نواة غاية في الثراء، بما اختزنته من مشروع حضاري الهي انساني، هو النسخة النهائية لمبعوثي العناية الإلهية عليهم السلام ، المستهدف ليس فحسب القضاء على الوثنية العربية وما انبنى عليها من تشتت وأوضاع تخلف، وكذا نقل العرب من هامش التاريخ الى مركزه ، وإنما أساسا إصلاح جملة الاوضاع الدينية المتحللة و نقل البشرية بكاملها من الوثنية الى التوحيد ومن جور الأديان الى عدل الاسلام ومن ضيق الدنيا الى سعة الدنيا والآخرة. لقد غيرت الهجرة بإقامتها لدولة في خدمة الدعوة والامة ، خرائط العالم القديم السياسية والعقدية والحضارية.

ورغم ما تعرضت له أمة الاسلام على مر التاريخ من انحرافات الحكام المتألهة ومن اجتياحات دولية فقد ظلت تلك النواة الصلبة بالغة الثراء تفصح في كل عصر عن إمكانات هائلة للتجدد وإنتاج مشاريع مقاومة وإصلاح وثورات ودول منجذبة الى النموذج النبوي ثائرة على الانظمة الكسروية رافضة ثقافات تأليه الملوك السائدة عاملة على استيعاب كل كسب حضاري والامتداد بأشعتها مخترقة كل حدود، متأبّية على الاستسلام إلا للحق والعدل، بما جعل الثورات تتناسل ضد محاولات تأله الملوك، وحركات التجديد تتوارث ضد الجمود والانغلاق والتشدد.

ومع أن ذكرى الهجرة تحل على أمة الاسلام وهي مغلوبة على أمرها ،تكابد الاحتلال في عدد من أقطارها وبخاصة في فلسطين، وقدسها تستصفى على ملإ من الناس ، وثرواتها تنهب، وذلك في غياب دولة وريثة دولة الهجرة ، الدولة المعبرة عن جماعة المسلمين، الملتزمة بشرائع الاسلام الذابة عن دعوته ، فمعظم حكامها ليسوا منها، لأنهم يحكمونها بالقهر والتزوير حتى المفضوح ، وشرائع الاسلام معطلة وبخاصة شريعة الشورى والعدالة والوحدة .. ومع ذلك فالثابت أن دعوة الاسلام ومقاوماته على اختلاف الوسائل في حال صعود كمّا ونوعا ، وتنتزع انتصارات هنا وهناك فارضة التراجع والانسحاب حتى الذليل على أعدائها ، داخل الامة وخارجها ، وذلك ترجمة لموعودات الله سبحانه في انهزام الطغيان والظلم مهما عتا في مواجهة المستضعفين المستقوين بالحق سبحانه وبعدالة قضيتهم.

وما حصل ويحصل من صمود ونصر في غزة و جنوب لبنان و العراق و افغانستان وامتداد دعوة الاسلام داخل الامة وخصوصا في تركيا العظيمة وعلى امتداد العالم رغم الحملات المسعورة عليها ، وكذا التراجع المتسارع لامبراطوريات الهيمنة والظلم.. ليس إلا امتدادا متواصلا مع حدث وروح الهجرة ، مع بدر والاحزاب والفتح والسقيفة وحطين وعين جالوت ومع عشرات الانسحابات الذليلة للجيوش الغازية من أرض الاسلام تحت ضربات الايدي المتوضئة.

والبقية في الطريق بإذن الله تحل ذكرى الهجرة على وطننا الصغير الحبيب تونس - وحاله من حال الامة-: سحابة داكنة من الظلم والاستبداد تمتد خيوطها السوداء على معظم أهله في مدنهم وقراهم وقد فقدوا الامن ..الامن من الجوع والخصاصة والبطالة وتسلط عصابات النهب صاحبة النفوذ المطلق على ارزاق الناس وأعراضهم ..كما فقدوا الامن على أنفسهم وذرياتهم من تسلط أجهزة القمع المنفلتة وما أدمنت عليه من تنكيل بالمواطنين وبخاصة أنصار الحرية وبالاخص بشباب الاسلام ورجال الدعوة ،

بما شحن السجون والمعتقلات السرية والعلنية بآلاف الاحراريسامون فيها سوء العذاب ، بل جعل البلاد كلها سجنا خانقا معظم أهله يحدثون أنفسهم بالهجيج ، ولو من طريق قذف أنفسهم في لجج البحر، ملتحقين بميئات الآلاف الذين سبقوهم ، وهو ما جعل وطن ابن خلدون لا يذكر إذا ذكر إلا في معرض الحديث عن انتهاكات حقوق الانسان والتعذيب ونهب الارزاق.

إنه لا يعزي أحرار الأمة والعالم أمام أوضاع الظلم التي تسود عالمنا وبخاصة ظلم الدول الكبرى الدول المستضعفة وظلم الحكام للشعوب والاثرياء للفقراء والحرب المستعرة نارها على الاسلام وأهله يؤججها أعداؤه وبخاصة الصهاينة والمتعصبين ،

وما يتعرض له الاحرار من آلام ، إلا اليقين في أن الله سبحانه الذي نصر محمدا عليه السلام وهو مطارد من عدو يقف على فوهة الغار الذي آوى اليه "إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة 40]" سينصر حملة دعوته أبدا وأن تضحياتهم في سبيل دينه لن تذهب هدرا" وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [ سورة البقرة: 143 ] .

" فضلا عما يحققه الاسلام ودعوته ومقاوماته كل يوم من تقدم مصداقا للوعد الالهي ."

إنّالننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .غافر51

إن الهجرة الواجبة من مكة الى المدينة التحاقا بجماعة المسلمين وتعزيزا للدولة حدث تاريخي انتهى بفتح مكة المكرمة وهو ما أعلنه النبي عليه السلام "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"/متفق عليه/ وتبقى الهجرة بابا مفتوحا أمام طلاب الحرية والعدل الثائرين على أوضاع الاستضعاف بكل ألوانها السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي أو الديني، .

قال تعالى -- سالبا العذر عن مستضعفين ركنوا الى الظلم، فلا هم قاوموه ولا هم هجروه حتى توفاهم الله وهم على ذلك ظالمي أنفسهم  :" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء:97.

-واعدا بالرعاية والنصر والتمكين ولو بعد حين من تمرد في سبيله على أوضاع الضعف أنه سيرزقه لا يضيعه ، وسيمكّنه من وسائل يراغم بها أنف عدوه" وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كثيرا وسعة "النساء98

- متوعدا بالهلاك من اقترف جريمة إخراج الانسان من بيته وأهله. قال تعالى" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْلَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14ابراهيم والهجرة أخيرا وصف دائم للمؤمن ينال ثوابها ما تخلق بأخلاقها، فالمهاجر الحق من هجر- حيثما كان- ما نهى الله عنه ابتغاء وجه الله: من ترك للواجبات كالصلاة والامانة والصدق وقول الحق وتورّط في المعاصي وبخاصة كبائر الذنوب كقول الزور والغش والنفاق وأكل أموال الناس بالباطل والركون الى الظّالمين..

تستقبل أمة الاسلام سنة جديدة ، تؤرخ لذكرى مبتدإ تاريخنا فيما يشبه الخرس الاعلامي وكأن شيئا لم يقع ربما وسائل إعلامها قد شغلها الإعداد للاحتفاء بذكرى السنة الميلادية .

نسال الرحمن الرحيم مغفرة الذنوب وكشف الكروب وإصلاح العيوب ، وأن يجعلها سنة مباركة على أمة الاسلام وعلى أحرار العالم، سنة أوبة الى الله سبحانه إيمانا وعدلا وحرية وأخوة وتصافحا وتغافرا وتضامنا ونصرة لأهل الحق والعدل حيثما كانوا وبخاصة في غزة المحاصرة وحيثما كان هناك احتلال ومقاومة وحيثما هناك استبداد وثائرون عليه.

كل عام بل كل يوم ونحن جميعا في توبة وإنابة  وفي نصرة للمقاومة وللمستضعفين وللمظلومين وللقائمين على الظلم ولأسرانا في سجون الاحتلال الداخلي والخارجي وفي السجون المفتوحة.

كل عام ونحن جميعا في هجرة متجددة لما نهى الله عنه ورسوله وعزم على طاعته والكفر بالطاغوت.

المصدر

للمزيد عن الشيخ راشد الغنوشي

مؤلفات وكتابات الشيخ راشد الغنوشي

.

أقرأ-أيضًا.png

مفات متعلقة

مقالات متعلقة

أخبار متعلقة

ألبوم صور الشيخ

وصلات فيديو

تابع وصلات فيديو

.

أقرأ-أيضًا.png
ملف الإخوان في تونس

.