الإصلاح السياسي عند البنا (مطالب الإخوان بتطبيق الشريعة- الحلقة الثانية)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الإصلاح السياسي عند البنا (مطالب الإخوان بتطبيق الشريعة- الحلقة الثانية)

نستكمل الحديث عن مجهودات الإخوان لتطبيق الشريعة، ونعرض لنص مذكرة الإخوان المسلمين لمعالي وزير الحقانية حول وجوب العمل بالشريعة الإسلامية، وموقفهم من المناقشات التي دارت في مجلس النواب، وكذا موقفهم من توحيد القضاء، وموقف الإخوان من مذكرة القُضاة الشرعيين فيما يتعلق بتشكيل هيئة المجالس الحسبية وموافقتهم عليها؛ مما يؤكد ويدعم تأييد الإخوان لمطالب القضاة.


في وجوب العمل بالشريعة الإسلامية(1)

الإمام الشهيد حسن البنا

مذكرة الإخوان المسلمين لمعالي وزير الحقانية


حضرة صاحب المعالي أحمد خشبة باشا وزير الحقانية..

أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تمسَّك بشريعته إلى يوم الدين، وأرفع إليك تحية الإخوان المسلمين؛ فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


يا سيدي الباشا.. لست في حاجة إلى أن أتحدث عن إسلامكم وحسن استعدادكم لمناصرة الفكرة الإسلامية المنقذة، بل التي لا منقذ للعالم كله سواها الآن، ولست في حاجة إلى أن أتقدَّم إليكم بالبراهين الكثيرة والحجج المتضافرة على أن دواء هذه الأمة في رجوعها إلى هدي الإسلام في كل الشئون، وأول هذه الشئون القانون؛ فأنت بحمد الله- فيما أعتقد- مقتنعٌ بهذه الفكرة، سمعتك تتحدث بها، وتدلِّل عليها وتعمل لها وأنت خارج الحكم وأنت عضو مجلس إدارة الشبان المسلمين، وأنت أمين صندوق اللجنة العامة للدفاع عن فلسطين، وأنت رئيس جماعة إحياء مجد الإسلام.


والآن يا معالي الباشا وقد جاء دور العمل، وواجهْنا الحقائق ودخلْنا بوتقة التجارب، وأصبحت وأنت شيخ القضاة ورأس المشرِّعين في مركز تستطيع منه أن تحقق ما يرجوه المسلمين جميعًا، ويتمنَّونه ويريدون الحصول عليه مهما كلَّفهم ذلك من أثمان، وما كنت أنت نفسك تتمناه وترجوه وتؤمن بصلاحيته وتعتقده، من وجوب تعديل القوانين، وتوحيد المحكمة المصرية حول شريعة الإسلام.. الآن وقد صرت راعيًا مسئولاً عن الرعية في ناحيتك ماذا أنت فاعل؟!


يا سيدي الباشا.. إن صدور الأمة محرَجة أشدَّ الحرج؛ لشعورها بأنها تُحكَم بغير كتاب الله وقانونه وشرعته، وإن الشعوب إن تعوَّدت الصبر حينًا، فإن الانفجار نتيجة طبيعية لهذا الصبر في كثير من الأحيان، وليس يُحرج النفسَ شيءٌ أكثر من الاصطدام بالعقيدة الراسخة الثابتة، وإن قوانيننا الحالية تنافي الإسلام، وتصدمه وتحطمه في نفوس المؤمنين به، وهم كل هذا الشعب، وقد تفتَّحت أذهان الأمة وأدركت بُعدَ ما بينها وبين دينها في هذه الناحية، فشعرت بالحرَج الشديد إن بقيت الحال على ما هي عليه، فلا تُلجئوا الناس إلى عصيان القوانين، واحتقار الشرائع والتبرُّم بالقضاة وبالأحكام.


يا باشا.. لنقف معًا بين يدي الله ولنسمع معًا، ألم يقل الله تبارك وتعالى:

(1) ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65).


(2) ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ*أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة: 49-50)، في بيان طويل مستفتح بالآيات الكريمة، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون.


(3) ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ (النساء: 105).


هذا في الناحية الكلية، وفي الناحية الجزئية قد بيَّن القرآن كثيرًا من الأحكام في كثير من الشئون المدنية والجنائية والدولية والتجارية وما إليها، وأكدت الأحاديث الصحيحة كل ذلك وأيَّدته، وما أنزلها الله وقرَّرها إلا ليعمل بها المسلمون، وينتهوا إلى حكمه فيها، ويستمدوا منها ويطبقوا عليها، فإذا كانت قوانينا وشرائعنا والدستور نفسه مستمدةً من مَعين غير هذا المَعين، مستقاةً من مصادر أوروبية بحتة بلجيكية وفرنسية ورومانية، وهي في كثير من كلياتها وجزئياتها تتناقض تناقضًا صارخًا مع التعاليم الإسلامية الصريحة، فكيف يكون موقف المسلم الذي يؤمن بالله وكتابه فيما إذا عرضت له قضية حُكم فيها بغير ما أنزل الله وكان الحكم مناقضًا لدين الله؟ وكيف يستحل القاضي هذه المخالفة؟ وكيف يستسيغها المتقاضي؟ وكيف يتحمل تبعتها شيخ القضاة ووزير العدالة والتشريع بين يدي أحكم الحاكمين؟!


أنقذونا- يا باشا- من هذا الحرج، وأخرجونا من هذه الورطة، ولا تجعلوا أعمالنا تصطدم بعقائدنا، وأنا أعرف كثيرًا من الناس يفضل ضياع حقوقه: مدنية أو جنائية أو تجارية، على أن يقف بين يدى قاضٍ يحكم بغير ما أنزل الله. إن التبعة يا باشا كبيرة، ولئن كان هذا الحساب شديدًا فإن حساب الله أشدُّ، ومهمتنا التذكير، ولا يغني أن تتعلل بالمعاذير، فإن الله لا ينظر إلا إلى القلوب والأعمال هذا من الوجهة الروحية البحتة.


ولنأت من الوجهة القانونية.. ألم يعترف كبار رجال القانون، من مصريين وأجانب، بأن الشريعة الإسلامية من أخصب منابع التشريع وأزكاها وأدقها وأشملها؟! ولم ننسَ بعْدُ تصريح المسيو بيولا كازللي بوجوب تصحيح القواعد الفاسدة في القانون الفرنسي المعمول به في مصر طبقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، ولم ننسَ كذلك محاضرات المسيو لامبير، وتصريحاته الخطيرة الواضحة في هذا الشأن، ولم ننسَ بعدُ تقارير مؤتمر لاهاي في الإشادة بالشريعة الإسلامية، وامتداح نظرياتها القانونية، وغناها بالبحوث القيمة، وكفايتها في التشريع التامّ، وفي مصر كثير من أعلام رجال القانون يؤمنون بذلك، ويصرِّحون به، ويودون أن يضطلعوا بهذا العبء، وعجيب أن يكون بينهم المستشارون في المحاكم المختلطة بل المحاكم الأهلية، ومن هؤلاء محمد بك صادق فهمي رئيس محكمة المنصورة المختلطة، والأستاذ عبد الرازق بك السنهوري عميد كلية الحقوق السابق، كما أشار إلى ذلك حضرة كامل بك مرسي، وعبد الفتاح بك السيد، والأستاذ علي بدوي من أساتذة القانون في المحاكم وفي كلية الحقوق.


والبحث العلمي أعدل شاهد على صحة هذه النظريات، وما قال هؤلاء ما قالوا إلا بعد دراسات طويلة وبحوث عميقة، خلَّدوا بعضها بكتاباتهم، وبقي بعضها مستقرًّا في نفوسهم إلى الوقت المناسب، وليس المقصود من هذا الخطاب هذه الموازنات فذلك له موضع آخر.


ولنأتِ إلى الأمر من وجهته العملية؛ لقد عاشرتنا هذه القوانين خمسين عامًا ونيِّفًا، فماذا أفادت منها الأمة إلا كثرة الجرائم، وتزايدها عامًا بعد عام، ويومًا عن يوم، وانتشار الموبقات، وارتكاب الجنايات، ذلك أنها لا تتفق مع طبيعتنا، ولا تصلح في بيئتنا، ولا تجدي في علاج أدوائنا، ولا دليل أصدق من الواقع المشاهد، وذلك في الوقت الذي نرى فيه البلاد الإسلامية التي أخذت بتشريع الإسلام قد استتبَّ فيها الأمن، وتوطَّدت السلطة وعمَّت السكينة، وساد احترام القانون واطمأن الناس على الدماء والأموال والأعراض، فهلا تريد مصر أن تصل إلى هذه النتيجة المرضية برجوعها إلى تعاليم الإسلام وشرائع الإسلام.


يا سيدي الباشا.. الأمر واضح لا يحتاج إلى بيان، وبقيت بعض شبهات يتعلق بها الذين يقفون في طريق الإصلاح بحسن قصد أو سوء قصد، نحب أن نناقشها في إيجاز، وأنا معتقدٌ أن معاليكم أعرف الناس بأن هذه الشبهات أوهى من أن تقف في سبيل الإصلاح.


يقول هؤلاء المرتابون

(1) إن في مصر عناصر غير إسلامية، إن حُكمت بأحكام الإسلام كان ذلك متنافيًا مع حرية الدين التي كفلها الدستور للمواطنين، وإن حُكمت بغير أحكام الإسلام كان ذلك نوعًا من الامتياز البغيض الذي حمدنا الله على التخلُّص منه، وإزاحة كابوسه عن الصدور.. هذه الشبهة مردودة بجزئيها؛ فإنهم إن عوملوا بتعاليم الإسلام لم يكن في ذلك اصطدامٌ بحرية الدين، فإن الحرية المكفولة هي حرية العقيدة وحرية العبادة والشعائر وحرية الأحوال الشخصية، أما الشئون الاجتماعية فهي حق الأمة ومظهر سيادتها، فهم فيها تبعٌ للأكثرية، فإذا ارتضت أكثرية الأمة قانونًا في هذه الشئون الاجتماعية- بصرف النظر عن مصدره- فهو قانون للجميع؛ إذ إن محاربة الجريمة من حق الدولة، بدليل أن الأمم الأوروبية، وهي التي تفخر باحترامها للحرية، والحقوق الشخصية، وتزهو بأنها أقرَّت الديمقراطية، ونادت بحقوق الإنسان مع هذا هي تعامل كل نزلائها وأقلياتها بحكم القوانين الموضوعة المرضية عندها، بصرف النظر عن أديانهم وعقائدهم، فالإنسان في فرنسا أو إنجلترا أو في ألمانيا أو نحوها- سواءٌ أكان نزيلاً يتمتع بجنسيته الخاصة أو مواطنًا يخالف الأكثرية في الدين- يحاكَم بمقتضى قانون البلاد الموضوع، دون نظر إلى قانون بلده أو تشريع دينه، وبغير ذلك لا تتحقق سيادة الأمة، ولا يتحقق استقلالها الداخلي، هذا إن عوملوا بأحكام الإسلام وشريعته.


وإن عوملوا بحسب شرائعهم مع الاحتفاظ بحقوق الدولة كاملةً معهم، فليس في ذلك امتياز يُخيف، فإن المساواة في الأحوال الشخصية بين المسلم وغير المسلم مفقودة إلا إذا رضي غيرُه بذلك، ولا يقال إن إقرارَنا لهؤلاء المخالفين على أحكام دينهم في أحوالهم الشخصية امتيازٌ ممنوحٌ لهم، يفضلون به غيرهم، بل هو خلاف خاص بهم، وأما الامتياز المؤلِم فهو أن تضيع حقوق أبناء الوطن في سبيل الأجانب وغير المسلمين بحكم الضعف والاستكانة والذلة والمهانة.


والإسلام الفسيح المرن لا يحتِّم علينا أيَّ الطريقين، فنحن نختار والأولى إلينا أحب وبحالنا أوجب ولأمر ما قال الله تبارك وتعالى في صدر آيات الحكم بتنزيله ﴿فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ (المائدة: من الآية 44).


على أننا نعرف كثيرًا من أفاضل رجال القانون من مواطنينا المسيحيين جهَروا كثيرًا بأنهم يودُّون لو عوملوا بأحكام الشريعة الإسلامية في كل شيء.


(2) ويقولون كذلك إن نصوص المعاهدة تحتِّم علينا أن نسير في تشريعنا على أحدث النظريات، وذلك يمنعنا من العودة إلى تشريع الإسلام، وإلا كنا خارجين على أحكام هذه النصوص، وتلك شبهة مردودة كذلك بجزئيها أيضًا، فإن تعديل المعاهدة لا يُعَد تملُّصًا وخروجًا في كل حال، فإذا اتفق الطرفان على التعديل فهو تتميمٌ لهذه المعاهدة واستكمالٌ لنقصها لا نقضٌ لها، وليست هذه المعاهدة تنزيلاً من حكيم حميد، فهي عرضة للتعديل والتحوير في كل وقت حسب ما يطرأ للطرفين من عوامل وظروف، وإلا فلماذا يحق للطرف الآخر أن يحوِّر ويعدل في كل وقت كما هو مشاهَد ملموس.


هذا من جهة، ومن جهة أخرى فعلماء القانون من المسلمين- أزهريين وغير أزهريين- على استعداد لأن يثبتوا لكل مخالف أن تشريع الإسلام الحنيف أفضل من كل تشريع حديث يعرفونه، بالدليل القاطع، والبرهان الناصع، فلا حجة لمخالف، ولا يصح أن نقف عن إصلاح شئوننا إرضاءً للمكابرين الذين لا يرضون منا إلا بأن نسير وراءهم، وأن نقيِّد خطانا بشهواتهم ورغباتهم.


(3) ويقولون كذلك إن كثيرًا من هذه التشريعات لا يمكن تطبيقه عمليًّا، ولنأخذ مثلاً (الربا) فهل نستطيع إبطاله من محاكمنا وقانوننا ونحن مرتبطون بالنظام الاقتصادي الدولي العام؟! والشبهة مردودة كذلك بما نشاهد من أحوال الدول القوية العزائم، التي وضعت لنفسها نظمًا اقتصاديةً خاصة، وفرضتها على أممها وأجبرت العالم على احترامها، وكان العامل الأكبر في ذلك صدق عزيمة حكومتها، وحسن استعداد شعوبها، فلا عقبةَ أمامنا في مثل هذا إلا الوهن وتجسيم الأمور والخوف الذي لا مبرر له، ونحن والحمد لله أمةٌ غنيةٌ بصادراتها، وكل المواد الحيوية والضرورية موفورة لدينا، ونستطيع الاستغناء إلى حدٍّ كبيرٍ عن غيرنا مع حفظ كياننا الاقتصادي لو صحَّت عزائمنا.


ماذا فعلت إيطاليا حين وقفت أمامها بالمرصاد اثنتان وخمسون دولة، فيها الدول العظمى، وفرضت عليها العقوبات وحصرتها داخل ديارها؟ ألم تُرغم هذه الدول على احترام مشيئتها وتقدير عزيمتها، وأنفذت قرارها بدون سيف أو نار، ولكن بغيرة الشعب وعزيمة الحاكمين؟! وماذا فعلت الدول لهتلر حينما أصدر أمره بعدم خروج النقد من ألمانيا بتاتًا؟ هل وقف دولاب التجارة في ألمانيا أم احترمت الشعوب الأخرى هذه الإرادة وعاملت ألمانيا على أساس المبادلة التجارية؟


لا يقال إن هاتين الدولتين قويتان ونحن ضعفاء، فليس الكلام في حشد الجيوش وتجهيز المعدَّات، ولكن نتكلم في البيع والشراء والأخذ والعطاء، وكل شعب مهما ضعُف حرٌّ في ذلك كله إن حُدِّدت وجهته، واستبانت غايتُه، وقويت عزيمتُه.


إن الشعوب الأخرى يهمُّها أن نكون معها شرفاء في المعاملة، ونحن نلاحظ أن كثيرًا من المصارف والدائنين يرضون بالتسويات، وفيها نزول عن شيء من الحق الأساسي في سبيل الحصول على هذا الحق، فإذا منع القانون التعامل بالربا وتشدَّد في استيفاء الحقوق، كان في ذلك الضمان الكافي للمموِّلين الآخرين، ورضوا به واطمأنوا إليه وعاملونا على غير أساس الفوائد والربا المحرم شرعًا في كل كتاب.


ولماذا لا تكون مصر السابقة بإنقاذ العالم (من نظام الفائدة البغيض)؟ ولماذا لا تبشر حكومة مصر بهذا المبدأ السامي الإنساني الرحيم؟ ولماذا لا ترفع راية الدعوة إلى تحرير الإنسانية من رقِّ الربا وإقناع الشعوب بوجاهة هذه الفكرة كما رفعت بعض الدول الأوروبية الدعوة إلى تحرير الإنسان من رقِّ العبودية، وأقنعت الشعوب بوجاهة نظرتها وكسبت فخر هذا الدفاع؟!


ولِمَ الخوف؟ وفيم اليأس؟ هل نعجز عن أن نقدم للإنسانية خدمةً جليلة ونحن الذين أنقذناها في كثير من المواقف، وأشعلنا بين كثير من أممها شعلةَ العرفان والنور؟ ليس هذا من الشعر ولا من الخيال يا باشا، ولكنها حقائق سيتنبه لها العالَم، ونريد أن يكون لنا شرف السبق بهذا التنبيه.


ولماذا لا تكون هذه الخطوة- يا باشا- سبيلاً إلى الحرية الاقتصادية، وطريقنا إلى تعويد هذا الشعب الذي طال به عهد الاعتماد على الغير أن يعتمد على نفسه وعلى موارده، وأن يستغني في كثير من شئونه عن الناس؟ وهل هناك فرصة أثمن من هذه؟ وهل هناك عامل يُساق به هذا الشعب المتمسك بدينه أقوى من الدين؟ وهل هناك إنقاذ لهذا الشعب الفقير أعظم من إنقاذه من اللصوص السرقة القساة من المرابين؟


هذا مثلٌ أحببت أن أتقدَّم به لدحض هذه الشبه، شبهة صعوبة تطبيق الشريعة الإسلامية، وأخَّرت لذلك أعْقَد المسائل وألصقَها وأمسَّها بحياة الناس حتى لا يكون هناك قول للقائل ولا حجة لمعتذر.


(4) يقولون: إننا حين نطبِّق هذه الشرائع الإسلامية في قطع يد السارق، ورجم الزاني وما إلى ذلك، نرجع بالأمة إلى عهد الهمجية، ونفوِّت عليها فرصة الانتفاع بما بلغت من رُقيٍّ ومدنية، ونسلكها في نظام الأمم المتأخرة المتبربرة، وهذا كلام لا يساوي سماعه، ولا يستحق أن يردَّ عليه، وإنما أملاه على هؤلاء الناس تحلُّلهم من عقدة النظم الاجتماعية، وعكوفهم على الإباحية في كل شيء، واعتداؤهم على ما ليس لهم من أعراض وأموال، وتخوُّفهم من أن يكونوا الضحايا الأُوَل لتطبيق هذه النظم الحازمة، وما كانت الجريمة في يوم من الأيام مظهر المدنية ولا الرقي، ولا كان القانون الذي يستأصل الجريمة ويقضي عليها مهما كان من شدته قاسيًا ولا رجعيًّا، ولكنه عينُ التقدم ومظهرُ الارتقاء الصحيح، وهي إحن قديمة وأفكار بالية عتيقة آنَ لها أن تنقرض وآن للمصلحين ألا يعيروها شيئًا من الاهتمام، بعد أن رأينا أن الفكرة العامة في التشريع أصبحت متجهةً إلى أخذ المجرمين بالحزم، واستبدال السبُل الرادعة والأحكام الزاجرة بمظاهر الرخاوة القانونية التي ساعدت على انتشار الجرائم في الأمم، وجعلت القوانين تكاد تكون عديمةَ الفائدة في تهذيب الناس، وأضاعت على الشعوب كثيرًا من الأموال والجهود في المحاكم والسجون والشرط والموظفين القضائيين بغير طائل، نحن نريد النتائج العملية، ولا عبرة بزخرف القول وتزويق العبارات.


ويقولون: إن ذلك غير ممكن عملاً؛ فإن رجال الشريعة الإسلامية لا يحسنون التنسيق القانوني الواجب، ورجال القانون لا يلمُّون بالشريعة الإسلامية الإلمام الكامل، ومتى كان الأمر كذلك فمن يتولى إخراج القانون الإسلامي الجديد للناس في صورة منسقة وصياغة قانونية تامة؟ وتلك شبهة واهية كذلك، والتعليق على هذه الصعوبة من أهون المسائل، والدعوى غير صحيحة على إطلاقها؛ فإن من رجال الشريعة الإسلامية من يحسن التنسيق القانوني إلى حدٍّ كبيرٍ، ومن هؤلاء الأستاذ الشيخ أحمد إبراهيم بك وكيل كلية الحقوق، وإن من رجال القانون من درس كثيرًا من مسائل الشريعة دراسةً تامةً عميقةً، ومن هؤلاء الأستاذ السنهوري، ونسوق ذلك على سبيل المثال، وإلا ففي رجالنا والحمد لله خيرٌ كثيرٌ، وقد اضطلع الأستاذ السنهوري وحده بكثير من هذا العبء يوم دُعي لتنسيق القانون في العراق فأحسن وأجاد.


(6) وأخيرًا يرجف هؤلاء القائلون بفكرة مادية بحتة تدور حول المصالح الشخصية، فيقولون: إنكم بهذا تعطِّلون هذا الجيش من رجال المحاكم الأهلية، من قضاة ومحامين ومستشارين محترمين، وتتعصَّبون لرجال المحكمة الشرعية على اختلاف أعمالهم، فتعطون قومًا أكثر مما يستطيعون أن يقوموا به، وتحرمون الآخرين من كل شيء، ذلك إلى أنكم ترون أن المحاكم الأهلية أدقُّ نظامًا، وأعظم في الإجراءات إحكامًا من سابقتها، فكيف تريدون أن تحملوا المنظَّم الدقيق على ما هو أقل منه في ذلك؟ وهذه مغالطةٌ مكشوفةٌ، فليس العلم وقفًا على قوم دون آخرين، وفي وُسع القاضي الأهلي والمحامي الأهلي أن يدرس أحكام الشرع الإسلامي في بضعة شهور، والنظام في المحاكم لا يتقيَّد بنصوص مواد القانون، وإنما يرجع إلى أسباب أخرى كلها تزول إذا صحت العزائم، على أننا لا نريد بهذا الإصلاح تعصبًا لناحية، بل نريد أن يزول هذا التفريق كله، ونقضي على هذا الانقسام في حياة أمة تسير إلى الوحدة، ولا قوةَ لها إلا بالوحدة، فلا محاكم أهلية، ولا محاكم شرعية، ولكن محكمة واحدة إسلامية مصرية على أدقِّ النظم وأحكم الإجراءات، عماد قانونها شريعة الله وحكم الإسلام.


هذه هي بعض الشبهات التي تقال، وقد رأيت- معاليكم- أنها مردودةٌ بالحجة مدفوعةٌ بالبرهان، وذلك شأن كل شبهة يمليها الهوى ويراد بها الصدُّ عن الحقائق، لم يبق بعد ذلك عذرٌ يا باشا، ولهذا يتوجَّه الإخوان المسلمون إليكم بالرجاء، معتقدين أنهم في ذلك إنما يمثلون الأمة الإسلامية جميعًا بهذين الطلبين:

(أولاً) أن تسلِّموا معهم بمبدأ (وجوب العودة إلى التشريع الإسلامي وتوحيد المحكمة المصرية على أساسه الآن).


(ثانيًا) أن تأمروا بإعادة تشكيل لجنة تعديل القوانين الحالية- التي يرأسها الأستاذ كامل بك صدقي- تشكيلاً جديدًا يحقق هذه الغاية بأن تسند رياستها إلى معاليكم رأسًا، أو إلى فضيلة شيخ الأزهر أو المفتي الأكبر، وأن تضمَّ بين أعضائها أكبر عدد ممكن من رجالنا البارزين في الشريعة الإسلامية، من رجال القضاء الشرعي والأزهر الشريف، وفي القانون الوضعي بفروعه المختلفة، ولا بأس بأن يكون من بينهم الأستاذ كامل صدقي بك.


يا معالي الباشا.. إننا أمة مسلمة وقد وطّدنا بالعزم على ألا نُحكَم بغير قانون الله، وشريعة القرآن الكريم، وتعاليم محمد عليه الصلاة والسلام، مهما كلفَنا ذلك من ثمن، ومهما بذلْنا من تضحيات، وذلك أبسط حقوقنا كأمة لا تعدل باستقلالها في كل مظاهره السياسية والاجتماعية شيئًا، فأعينونا على الوصول إلى هذا الحق، وارفعوا عنا هذا الحرج، ولا تُلجئوا الأمة إلى سلوك سبيل المضطَّرِّين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


الشريعة الإسلامية وتوحيد القضاء في مجلس النواب(5)

مجلس النواب المصرى

في مناقشة ميزانية وزارة العدل تكلَّم النائب المحترم الشيخ عبد الوهاب سليم طالبًا إلى الحكومة ضمَّ عنصر أزهري إلى لجنة تعديل القانون، ومراعاة الاقتباس من الشريعة الإسلامية، كلما جرى تعديل في القوانين بما أن شريعتنا- والحمد لله- بشهادة من ليسوا من أهلها قبل أهلها غنيةُ الموارد، فياضةٌ بالمبادئ القانونية الصالحة المنتجة الخصيبة.


وتكلَّم النائب المحترم أحمد مرسي بك طالبًا توحيد القضاء، وأن تكون الخطوة الأولى في ذلك جعْل محكمة النقض والإبرام مرجعًا لكل مناحي القضاء الشرعي والأهلي والمختلط ثم توحيد القوانين.


وردَّ وزير العدل على المطلب الأول بأن لجنة تعديل القوانين الحالية تؤلّف من المسيو لامبير والأستاذ السنهوري، وكلاهما ضليع في بحوثه الإسلامية، وفي القانون المقارن، ومن الذين قالوا في أوروبا إن الشريعة الإسلامية تصلح مصدرًا للتشريع الحديث، على أن اللجنة قد ضمَّ إليها أحد علماء الأزهر من رجال الفقه الشرعي؛ ليكون مرجعًا وعونًا لها في تبيان ما قد يغلق عليهما من نصوص الشريعة.


وذلك ملخص ما دار في مجلس النواب عن هذه القضية المهمة التي هي أمنية كل مسلم لا في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي كله، فليس أعزّ علينا معشر المسلمين في مصر وغيرها، ولا أحبّ إلى نفوسنا من أن نرى التشريع الإسلامي يكون مصدرًا للقانون في بلاد الإسلام.


والفقه الإسلامي- والحمد لله- خصيب كل الخصوبة: أصوله وفروعه، ومبادئه وتطبيقاته، وجميل جدًّا أن يدور الكلام حول هذا البحث في مجلس نوابنا، وأن نجد من معالي وزير العدل هذا الرد الذي يدل على الاقتناع بالفكرة والاتجاه الطيب نحو الأخذ بها.


ونحب أن نلفت نظر الحكومة ومجلس النواب إلى الحقائق التالية :

أن النائب المحترم الذي يطالب بأن يكون التشريع الإسلامي مصدر القوانين في مصر إنما يتكلم بلسان كل مصري، ويُعرب عن رجاء كل مصري، وأن غير المسلم ليشارك المسلم في هذه الأمنية ثقة بعدالة الإسلام، واطمئنانًا إلى إنصاف أحكامه، فليس هذا الصوت الذي دوَّى بالأمس، وليست الأصوات التي تدوي بهذا المطلب اليوم وغدًا أصوات أفراد تتلاشى مع موجات الهواء التي حملتها، ولكنها آمال أمة بأسرها وقد وطنت العزم على أن تصل إليها طال الزمن أم قصر، وإن الهدف القريب إن شاء الله، ولا يضيع حق وراءه من يطالب به.


فعلى الذين يستغربون هذه المطالب أو يهزؤون بها في خفايا جوانحهم أن يستتروا وألا يتعرضوا لسخط شعب لا يعدل بتشريع الإسلام أيَّ تشريع آخر، وعلى الذين يحملون لواء هذه الفكرة أن يثبتوا؛ فإن الشعب معهم، والله ناصرهم ومؤيدهم، وسيفوزون في القريب إن شاء الله.


وإن الذين يطالبون بتوحيد القضاء في مصر سيجدون منا معشر الإخوان المسلمين- ونعتقد أننا في ذلك إنما نعبر عن مشاعر الأمة كلها- كلَّ ترحيب بفكرتهم، فنحن نعمل لتوحيد هذا البلد في كل شيء، في ثقافته وفي قضائه، وفي مشاعره وأهدافه، فليس عجيبًا أن نفرح بتوحيد القضاء، وأن نرحِّب (بالمحكمة المصرية) التي ينشدها الأستاذ السنهوري، ويتحدث عنها كثيرًا، ولكن ما القانون الذي تحكم به المحكمة المصرية في درجاتها المختلفة؟!


لا نرضى أن يكون غير القانون المستمدّ من تشريع السماء، من كتاب الله تبارك وتعالى من القرآن الكريم، من المبادئ الإسلامية الكفيلة بالعدالة والإنصاف.


إن الإسلام لا يمنع من اقتباس الصالح من كل شيء، ولكن يشترط ألا يتناقض معه فلتتوحَّد المحكمة المصرية على أساس القانون الإسلامي، مدعمًا بما يعضده ويؤيده ويتفق مع مبادئه وتعاليمه من كل تشريع حديث أو قديم.


لقد كان كثيرٌ من المصريين والمسلمين منهم أيضًا ومن رجال القانون يُخطئون خطأً كبيرًا في تصور التشريع الإسلامي، ويخاصمونه، ويعادونه، ويصفونه بالضيق والجمود، ويعترضون الدعوة إلى تطبيقه أشدَّ الاعتراض، ومن حسن الحظ أن هذا الصنف من الناس قد أخذ يتناقص؛ بل أخذت الأصوات ترتفع من كثير من رجال القانون بوجوب اتخاذ التشريع الإسلامي مصدرًا للتقنين في مصر، وهذه في الواقع خطوة كبيرة إلى الأمام، وانتصارٌ عظيمٌ للدعوة إلى هذا التشريع الكريم، ولم يبق أمام المزدرين(6) إلا حجةٌ واحدةٌ يظنونها عقبة العقبات تلك هي الأجانب، فكلما تحدث إليهم متحدث عن تشريع الإسلام قالوا في ذعر ووجل: وماذا نصنع بالأجانب؟ وهل نسيتم أن الأجانب لا زالوا في هذا البلد ولا زالت لهم الكلمة وبأيديهم الثروة ومعهم السلطان وتؤيدهم دولهم القوية ومعاهدة مونترو؟! ماذا تفعلون بها وقد اشترطنا على أنفسنا فيها التشريع الحديث والتزام مبادئه؟ إننا معكم في أحقية مطلبكم، ولكن أليست هذه عقباتٍ قويةً لا نستطيع لها دفعًا؟ هذه هي عقبة العقبات في نظر القوم، ونرى- نحن معشر الإخوان المسلمين- أن الأمر أهون من كل هذا.


لقد كان منا- نحن المصريين- مَن هو أسوأ عقيدةً في التشريع الإسلامي من الأجانب، فلما نوقش وأفهم عدَل عن رأيه، وصار من أشدِّ أنصار التشريع الإسلامي حماسةً، ولقد حدثني كثير من علمائنا أن كبيرًا من زعماء الأجانب جاء إليه في ذعر يسأله: هل حقيقةً يا أستاذ في مصر حركةٌ قويةٌ ترمي إلى استعادة التشريع الإسلامي وتطبيقه والعمل به؟! فابتسم الشيخ الكبير وقال لهذا الأجنبي الكبير: نعم، في مصر حركة قوية ترمي إلى هذا، فقال الرجل: وهل ترضى أنت بها وتناصرها وأنت الرجل العصري المفكر المثقف المهذب؟! وهل ترضى أن تعود مصر القهقرى، وتفقد هذه الثمرات البالغة من مظاهر تقدمها القانوني بالعودة إلى رجعية بائدة؟


فأجاب الشيخ: أمَّا أني أرضَى عن هذه الحركة وأنصارها فنعم، وأما أنَّي أرضى أن تعود مصر القهقرى وتفقد ثمرات تقدمها القانوني فلا، ولكن- يا حضرة الخواجة-: من الذي قال لك إننا بعودتنا إلى التشريع الإسلامي نعود القهقرى؟! اسمع يا فلان: إنكم لا تعرفون شيئًا- معشر الأجانب- عن جمال التشريع الإسلامي، ودقته وروعته وانطباقه على أحدث التشريعات، بل إنه ليفضلها في كثير من الأمور فضلاً ظاهرًا واضحًا ولو عرفتموه لتبيَّنتم ذلك، وعرفتم أن هذا التشريع أفضل لكم من كل ما سواه، وأزيدك أننا لا نريد التشريع الإسلامي في مصر فقط؛ بل إننا سنبشركم به في أوروبا، وسنقنعكم بجماله ودقته بالعلم والمنطق، ونحن واثقون من أنكم ستأخذون عنَّا في ذلك.


ثم أخذ الشيخ يفصِّل للرجل أمثلةً تفصيليةً في هذا المعنى حتى أقنعه، فكان أن قال يا حضرة الشيخ: نحن ما كنا نعلم هذا عن التشريع الإسلامي، والحق أنني أتحدث إليك والأجانب في مصر الذين عرفوا أمر هذه الحركة مذعورون منها، ولكني أعتقد أنهم لو عرفوا هذا الذي تقول، وأدركوا هذه الدقة والفائدة في تشريع الإسلام لسبقوا المصريين إلى المطالبة به.


ليس الأجانب في مصر أحجارًا لا تعقل، ولكنهم ناس لهم عقول وإدراك، فنحن إذا صحَّت عزيمتنا على الأخذ بتشريعنا الإسلامي، واقتناعهم بفوائده وروعته كما فعل هذا الشيخ مع الخواجة، لاستطعنا أن نضمن منهم موافقة على ما نريد.


وهبهم لم يوافقوا فهل نعيش- معشر المصريين- في مصر للأجانب؟ لِمَ لا نريح ضمائرنا وننفي الحرج عن أنفسنا، وتريح الحكومة هذا الشعب المعذّب الذي يجد نفسه أمام تشريع مقدس سماوي، يحبه، وفيه علاجه وطبه، ثم هو محروم منه وبين تشريع وضعي فشل كل الفشل في محاربة الجريمة، ثم هو يجبر على قبول أحكامه، أم تريد الحكومة المصرية أن نقول لها: اعتبري المسلمين في هذا البلد أجانب، وراعي شعورهم، ودينهم، وعقائدهم، واشرعي لهم من دينهم وكتابهم قانونًا يتحاكمون به.


إننا نأمل كما قال ذلك الشيخ ألا يقتصر الأخذ بتعاليم الإسلام على مصر وحدها؛ بل سيعمُّ بقية بلدان العالم الإسلامي تبعًا لها، بل سنبشر به أوروبا، وننقل تعاليمه إليها فنسعدها بما فيه من روحانية وجمال.


إن هذا الموقف الذي نقفه من تشريعنا لم يعُد له مبرر بحال، وأولى بالحكومة أن تخطو خطوات أوسع في تحقيق هذه الآمال، وإن ضمَّ عضوًا أزهريًّا إلى لجنة تعديل القوانين جميل حقًّا، ولكن أجمل منه ألا يقتصر الأمر على عضو واحد، وأن نوصي اللجنة كلها وصيةً مشددةً بالتوسع في الاقتباس، وأن يكون ذلك كله وسيلةً إلى ما بعده من التطبيق الكامل.



حول اقتراح إقامة الحدود.. رد فضيلة الأستاذ المرشد العام(7)

الإمام الشهيد حسن البنا

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

قرأت خطاب الأخ المفضال الشاب المهندس محمد رمضان علي أفندي، الذي يقترح فيه أن يطالب الحكومة أن تصرِّح لنا بإقامة حدود الله فيما بيننا لمن شاء ذلك من الإخوان المسلمين، قرأت هذا الخطاب فأعجبت كلَّ الإعجاب بالروح(8) الذي أملاه، وبالشعور الذي أوحاه، وبالعاطفة الإسلامية الحيَّة التي دفعت الأخ إلى التفكير فيه، ولم ينكب المسلمون في مجتمعاتهم بشيء نكبتهم بتعطيل حدود الله تبارك وتعالى، ولن يتقربوا إلى الله بشيء تقربهم بالعودة إلى إقامة حدوده والرجوع إلى شريعته.


هذه قضايا مسلَّمة ولكني لا أريد أن نكون قومًا نظريين، وأحب من كل أخ مسلم أن يضع الناحية العملية في حسابه دائمًا ويجعلها أساس مقترحاته، إن تنفيذ اقتراح الأخ يتوقف على وجود أخ مسلم يرتكب جرمًا يستوجب حدًّا من حدود الله، فيتقدم هذا الأخ مختارًا إلى اللجنة المقترحة معترفًا بذنبه، مقرًّا بجرمه، طالبًا إقامة الحد عليه، وبغير وجود هذا الصنف لا يكون لهذه اللجان عمل، وتكون هيئة نظرية بحتة، فإذا وجد هذا الأخ فالذي أقترحه عليه أن يتقدَّم هو بنفسه إلى الحكومة القائمة، معترفًا بجرمه، طالبًا إليها أن تقيم الحدَّ عليه، فإذا أبَت ذلك فليتقدم إلى الإخوان بطلبه هذا، وحينئذٍ يستطيع الإخوان أن يتخذوا من ذلك وسيلةً إلى مؤاخذة الحكومة بجريمة الإهمال والتعطيل، وإلى أن يطلبوا إليها الترخيص لهم بهذه اللجان.


وبما أن ذلك بعيدُ الوقوع فليس أمام الإخوان المسلمين في الحقيقة إلا أن يواصلوا جهادهم؛ حتى يوقِظوا الشعبَ من سباته ويكتسبوا الرأي العام إلى صفهم، ولا زال في الشعب المصري- والحمد لله- يقين وإيمان، وبهذه الطريقة يكوِّنون الحكومة الإسلامية التي تعدل القوانين وفق الإسلام، أو ترغم الحكومات القائمة على سلوك هذا السبيل، وهي طريق طويلة تستلزم جهادًا متواصلاً، ولكنها على كل حال أفضلُ الطرق الموصِّلة إلى الغاية، فاعملوا أيها الإخوان والله معكم، وبتوفيق الله تصلون إن شاء الله رب العالمين.


توحيد القضاء(9)

تعرض النائب المحترم إسماعيل صدقي باشا في مناقشة ميزانية وزارة العدل لتوحيد القضاء المصري، وقال: إننا إذا كنا نعمل على توحيد القضاء الأهلي والمختلط، وقد أخذنا فعلاً فكرة توحيد القانون المدني والجنائي والتجاري... إلخ فلماذا يظل القضاء الشرعي بعيدًا عن الإدارة العامة للقضاء المصري؟


وعقب فضيلة النائب المحترم الأستاذ الشيخ محمد عبد اللطيف دراز على هذا كله بقوله: إننا نرحِّب بتوحيد القضاء إذا كان القانون سيكون مستمدًّا من الشريعة الإسلامية.


وإذا كانت هذه المعانى تمرُّ على كثير من الناس دون أن يهتموا بها كثيرًا فإننا-نحن الإخوان المسلمين- نرى أن هذه الناحية الحيوية من أهم نقاط منهاج الإخوان المسلمين، فلا يجب أن تمر دون أن نذكِّر أولي الرأي في هذا البلد بواجبهم، ودون أن نلفت أنظار الإخوان إلى واجبهم كذلك.


أما توحيد مظاهر الحياة المصرية من تعليم وعادات وقضاء... إلخ فنحن معشر الإخوان المسلمين نرحب به وننادي به ونعمل له، بل إننا نرى أن أساس نجاح نهضة الأمة هو التوحيد، وبدونه لا يتم هذا النجاح بحال، فنحن لسنا خصومًا لفكرة التجانس بين أبناء الأمة الواحدة؛ حتى يتم تعاونهم على الخير، بل نحن نحب هذا من أعماق قلوبنا ونعمل له ما وسعنا العمل.


ولكن ما قاعدة هذا التوحيد؟!

نحن أمة مسلمة تغلغل في أعماق قلوبها الإسلام بأصوله وفروعه، واحتلَّ منها كلَّ موضع، ولقد برهنَت مصر على أنها معقل الإسلام حقًّا في كل أدوار تاريخها الإسلامي، علمًا وعملاً، فمصر منذ آمنت بالإسلام قد أخلصت له، واطمأنت إليه، واصطبغت بتعليمه صبغةً لا زوال لها، ولا فكاكَ عنها، ولقد أقامت مصر للإسلام المعاهد العلمية التي لا تضارعها معاهد إسلامية أخرى في أية بلاد إسلامية، وحسبنا الأزهر القائم منذ ألف سنة، ولقد دافعت مصر عن الإسلام بدمها ومالها، وفدته بزهرة شبابها، وجردت في سبيله الجيوش المظفرة تحمل لواء الله، وترفع راية القرآن من نصر إلى نصر، وهذا الشعب المصري مهما قيل عن تحلله وضعفه فإن شيئًا واحدًا لا يزال حيًّا في نفسه، قويًّا كل القوة في وجدانه، ذلك هو حبه للإسلام، واعتزازه له، وتقديسه إياه.


وحينئذ فكل محاولة تصرِف هذا الشعب عن الأخذ بتعاليم الإسلام محاولةٌ طائشة فاشلة ضارَّة، لا تلقى إلا النفور والإعراض، وهي الآن بعد أن تنبَّهت الأفكار وعرف المسلمون واجبهم لدينهم لا تلقَى إلا المقاومة والحرب الشديدة العنيفة بكل صورها وألوانها.


ونحن قد اتصلنا بهذه العصبة من شعوب أوروبا وأممها، وعندهم علم ومعرفة وكشوف ومخترعات، وعندهم قوة وسلطان ووجاهة ونفوذ، وعندهم زخرف ومتعة ونساء وفتنة وأهواء وشهوات، فأصابنا من ذلك ما أصابنا، ولمسنا الخطر البالغ في كل نواحي حياتنا، من اندفاعنا في تقليد الغرب، والأخذ عن الغرب.


والمكابر في هذا إنما يكابر في الحقائق الملموسة والنتائج المحسوسة ولا يحتاج النهار إلى دليل.


ولكننا مهما قلنا وأعدْنا فإن التخلص من هذه الآثار الغربية في الحياة المصرية أمامه من العقبات ما يعرفه كل مفكر في شئون هذا البلد، وهذه الآثار ليست كلها ضارةً، ففيها نواحٍ كلها خيرٌ ونفعٌ، كما أن فيها جوانبَ كلها السوء والخسران والفساد، والإسلام الحنيف السمح لا يأبَى على أبنائه أن ينتفعوا بكل ما يلمسون فيه النفع لهم ما دام غير متعارض مع قواعده وأصوله، فإن نفعه في هذه الحالة يكون زائفًا لا حقيقة له.


وإذا عرفنا هذه الحقائق ووعيناها فإن من واجبنا حينئذٍ أن نقول: إن القاعدة التي يجب أن تتوحَّد عليها مظاهر الحياة المصرية في كل نواحيها لا تكون شيئًا أبدًا غير هذه القاعدة.


"اعتماد كل هذه المظاهر للحياة العملية الفردية والاجتماعية والرسمية والأهلية على تعاليم الإسلام وأحكامه وشرائعه وما لا يتعارض منها من نتائج اليراع(10) والعقول والمظاهر النافعة في حياة الأمم أيًّا كانت".


على هذه القاعدة ندعو إلى :

توحيد القضاء، فلا يكون هناك إلا نوعٌ واحدٌ من المحاكم له درجاته المختلفة.


وتوحيد التعليم، فلا يكون هناك إلا مدرسة أولى ومعاهد متشابهة تصوغ الجيل الجديد صياغةً متشابهةً، ثم تتبعها بعد ذلك معاهد الاختصاص، وتوحيد الشعائر الاجتماعية والعادات، فتصطبغ البيوت المصرية بصبغة قومية متشابهة، وتتخلَّص من هذا الخليط الغريب من النظم والعادات التركية والبدوية والفرنسية والإيطالية والفارسية والإنجليزية إلى نظم إسلامية مصرية.


نحن ندعو إلى هذا ونعمل له ونحارب بكل قوة كل داعية يدعو إلى فرنجة هذا الشعب، أو صبغه بصبغة تتعارض مع روح الإسلام وأحكامه، والشعب المصري معنا لا يرضى إلا بالله ربًّا ومحمد رسولاً والقرآن منهاجًا والإسلام حكمًا والجهاد شعارًا ووسيلةً.


فإذا كان دولة صدقي باشا يقصد هذا، فنحن كما قال الأستاذ الشيخ دراز متفقان.


وإذا كان يريد توحيدًا فحسب على أي لون كان من الألوان فنحن نذكِّره بواجبه كرجل مسلم، وإذا أصرَّ الداعون إلى التقليد الأعمى على موقفهم فنحن لهم بالمرصاد وسننتصر بتأييد الله.. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُون*بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيم﴾ (الروم: 4-5).


مذكرة القضاة الشرعيين


إلى شيوخ الأمة ونوابها بمناسبة قانون المحاكم الحسبية(11)

أرسل فضيلة المرشد العام البرقية التالية تأييدًا لما جاء في مذكرة القضاة الشرعيين. صاحب المعالي.. رئيس مجلس الشيوخ..

يؤيد المركز العام للإخوان المسلمين وجهة النظر الواردة بمذكرة القضاة الشرعيين فيما يتعلق بتشكيل هيئة المجالس الحسبية، ويرجو أن يأخذ المجلس الموقَّر بها صيانةً للحقوق ووضعًا للأمور في نصابها.


الهوامش

(1)(جريدة النذير، العدد (7)، السنة الأولى، 13جماد أول 1357/11 يوليو 1938، ص(3-8) ووزير الحقانية هو "أحمد محمد خشبة باشا).

(2)هو إدوار لامبير من أكبر رجال القانون في فرنسا في بدايات القرن العشرين.

(3)وُلد بالإسكندرية في أغسطس سنة 1895 وتوفي في 20 يونيه سنة 1971، تلقى علومه في المدارس الثانوية بالإسكندرية وكان من معلميه محمود فهمي النقراشي باشا، ثم درس بمدرسة الحقوق التي حصل على إجازتها سنه 1917، وأوفد في بعثة إلى فرنسا؛ حيث حصل على دكتوراه في العلوم السياسية والاقتصادية ودبلوم معهد العلوم الدولي من جامعتي بون وباريس، اشتغل بالتدريس في مدرسة القضاء الشرعي ثم في كلية الحقوق في الجامعة المصرية وتدرَّج في مناصبها إلى أن عيِّن عميدًا لها في سنة 1936. اشتغل في القضاء المختلط من سنة 1936 إلى سنة 1939. عيِّن وكيلاً لوزارة المعارف سنة 1939 ثم اختارته وزارة العدل سنة 1941 لإعداد القانون المدني المصري، ثم عيِّن وكيلاً لوزارة العدل سنة 1944. انضمَّ إلى المجمع اللغوي عضوًا فيه سنة 1946. عيِّن وزيرًا للمعارف أربع مرات في يناير سنة 1945 وفي فبراير من نفس السنة نفسها وفي ديسمبر سنة 1946 وفي ديسمبر سنة 1948. عيِّن رئيسًا لمجلس الدولة من سنة 1949 إلى سنة 1954، وكان ثاني رئيس له بعد المستشار كمال مرسي أول رئيس لمجلس الدولة بعد إنشائه سنة 1946).


(4)(في الأصل: "الشعوب"، والمعنى معها لا يستقيم).

(5)(جريدة النذير، العدد (16)، السنة الثانية، 17ربيع الثاني 1358/6 يونيو 1939، ص3- 6).

(6)(الازْدِراء: الاحْتِقارُ والانْتِقاصُ والعَيْبُ. لسان العرب، مادة: زرى).

(7)(جريدة النذير، العدد (26)، السنة الثانية، 28 جماد ثان سنة 1358/15 أغسطس سنة 1939، ص10).

(8)(الروح: يذكر ويؤنث).

(9)(جريدة التعارف، العدد (11)، السنة الخامسة، 26 ربيع الأول سنة 1359 /4 مايو سنة 1940، ص1، 11).

(10)اليراع: القلم يتخذ من القصب، المعجم الوجيز، ص: 685.

(11)(جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (333)، السنة الثانية، 14 رجب 1366 هـ/ 3 يونيو 1947م، ص4).


للمزيد عن دور الإخوان في الإصلاح

كتب متعلقة

من رسائل الإمام حسن البنا

ملفات وأبحاث متعلقة

مقالات متعلقة

الإصلاح السياسي:

الإصلاح الإجتماعي ومحاربة الفساد:

تابع مقالات متعلقة

رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة

قضايا المرأة والأسرة:

الإخوان وإصلاح التعليم:

موقف الإخوان من الوطنية:

متفرقات:

أحداث في صور

.


للمزيد عن الإمام حسن البنا

Banna banner.jpg